jeudi 27 août 2015

تاريخ الاسلام>العهد الراشدي>خلافة عثمان








عثمان وأبو ذر الغفاري


           


  
  
  
إنّ من الاُمور التي أصبحت معروفة أن نجد بعض كبار المؤرخين والباحثين قديماً وحديثاً يتناولون الصحابي أبا ذر الغفاري بشكل يدعو الى النفور منه، وإظهاره كشخصية غريبة الأطوار لا يستطيع صاحبها أن ينصهر في بوتقة المجتمع الجديد كما يفعل كل إنسان سوي، بل يصورونه كشخص شاذ غريب عن عرف الناس والمجتمع، فهو شخصية منغلقة متطرفة لا تفهم شيئاً من متغيرات الحياة ولا تستطيع هذه الشخصية الانعزالية التعايش السلمي مع المجتمع، وهي تريد من الناس - كل الناس- أن يتخلوا عن جميع ثرواتهم وممتلكاتهم، وأن يعيشوا مثله حياة ملؤها الزهد والتقشف، حتى لقد حاول بعض الباحثين المعاصرين الادعاء بأنه الاشتراكي أو الشيوعي الأول في الإسلام وقد ظن بعض المؤلفين أن الصورة التي يقدمونها لأبي ذر تحفظ له بعض ماء وجهه لصحبته وسابقته في الاسلام، ومن هؤلاء القاضي ابن العربي الذي ذكر قصة أبا ذر قائلا: وأما نفيه (عثمان) أبا ذر الى الربذة، فلم يفعل.
كان أبو ذر زاهداً، وكان يقرّع عمال عثمان، ويتلو عليهم (وَالذينَ يَكنزونَ الذَّهبَ والفضةَ ولا يُنفقونَها في سَبيلِ اللهِ فبشّرهم بِعذاب أليم)(1).
ويراهم يتّسعون في المراكب والملابس حيث وجدوا، فينكر ذلك عليهم، ويريد تفريق ذلك من بين أيديهم، وهو غير لازم. قال ابن عمر وغيره من الصحابة -وهو الحق-: إن ما أدّيت زكاته فليس بكنز.
فوقع بين أبي ذر ومعاوية كلام بالشام، فخرج الى المدينة، فاجتمع إليه الناس، فجعل يسلك تلك الطرق، فقال له عثمان: لو اعتزلت.
معناه: إنّك على مذهب لا يصلح لمخالطة الناس، فإن للخلطة شروطاً وللعزلة مثلها، ومن كان على طريقة أبي ذر، فحاله يقتضي أن ينفرد بنفسه، أو يخالط ويسلّم لكل أحد حاله مما ليس بحرام في الشريعة. فخرج الى الربذة زاهداً فاضلا، وترك جلّة فضلاء، وكل على خير وبركة وفضل، وحال أبي ذر أفضل، ولا تمكن لجميع الخلق، فلو كانوا عليه لهلكوا، فسبحان مرتّب المنازل.
ووقع بين أبي ذر ومعاوية كلام، وكان أبو ذر يطلق من الكلام ما لم يكن يقوله في زمن عمر، فأعلم معاوية بذلك عثمان، وخشي من العامة أن تثور منهم فتنة، فإن أبا ذر كان يحملهم على التزهد واُمور لا يحتملها الناس كلهم، وإنّما هي مخصوصة ببعضهم، فكتب اليه عثمان أن يقدم المدينة، فلما قدم اجتمع اليه الناس، فقال لعثمان: اُريد الربذة. فقال له: افعل، فاعتزل، ولم يكن يصلح له إلاّ ذلك لطريقته(1).
هذا هو أمثل ما ارتآه ابن العربي في قصة أبي ذر، ظناً منه أنه بذلك يوفّق بين الاتجاهات المتناقضة بما يحفظ كرامة كل من عثمان وأبي ذر، ولكنه نسي أن القصة كما يوردها تسيء الى أبي ذر أكثر مما تحسن اليه، فضلا أن روايته تحمل تناقضات عديدة.
فما هي الفتنة التي خافها معاوية من دعوة أبي ذر الناس الى الزهد، مع الأخذ بنظر الاعتبار أن أبا ذر لم يكن يملك السلطة التي تتيح له أن يفرض شيئاً على أحد، وغاية ما في الأمر أنه كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، والناس ليسوا ملزمين باتّباع طريقته في الزهد، فمن شاء فعل ومن شاء ترك، كما لا أعرف كيف يطلب أبو ذر أن ينفي نفسه بنفسه الى البادية مع نهي النبي (صلى الله عليه وآله) من التعرب بعد الهجرة، وكان باستطاعته أن يعتكف في بيته ويترك مخالطة الناس، فيما لو صح كلام ابن العربي وغيره ممن ينحو هذا المنحى.
وإذا كان ابن العربي قد حاول أن يخفف من لهجة الهجوم على أبي ذر، فإن هناك آخرين لم يرضوا إلاّ بالأخذ برواية الطبري عن سيف بن عمر، والتي جعلت من أبي ذر تابعاً ذليلا لعبد الله بن سبأ، ذلك اليهودي المنافق الذي يحمل كل أوزار الفتنة -كما تدعي تلك الرواية- فأصبح أبو ذر بالنتيجة شريكاً له في تلك المؤامرة.
ومن أعجب العجب، أن معظم المؤلفين الذين يوردون تلك القصة في مؤلفاتهم، هم أنفسهم الذين يحاولون تبرئة سيف بن عمر من تهمة الزندقة لدفاعه عن الصحابة -كما يزعمون- وهم التيار الذي يحمل لواء تنزيه الصحابة مما يشنّع عليهم!
إن من يطلع على مصدر الرواية -وهو تاريخ الطبري- يستطيع أن يلحظ بكل وضوح دور الرأي العام في تقييم الأحداث وصبغها بتلك الصبغة التي جعلت هذا الصحابي يدفع ثمن تمرده على السلطة، وذلك مما يمكن فهمه من قول الطبري الذي قدّم للقصة بقوله: فأما العاذرون لمعاوية في ذلك، فإنهم ذكروا في ذلك، كتب اليّ بها السري، يذكر أن شعيباً حدّثه عن سيف، عن عطية، عن يزيد الفقعسي، قال: لما ورد ابن السوداء الشام لقي أبا ذر فقال: يا أبا ذر، ألا تعجب الى معاوية، يقول: المال مال الله إلاّ أن كل شيء لله، كأنه يريد أن يحتجنه دون المسلمين، ويمحو اسم المسلمين.
فأتاه أبو ذر، فقال: ما يدعوك الى أن تسمي مال المسلمين مال الله؟
قال: يرحمك الله يا أبا ذر، ألسنا عباد الله، والمال ماله، والخلق خلقه، والأمر أمره؟ قال: فلا تفعله. قال: إني لا أقول إنه ليس لله، ولكن سأقول: مال المسلمين.
قال: وأتى ابن السوداء أبا الدرداء، فقال له: من أنت؟ أظنك والله يهودياً.
فأتى عبادة بن الصامت فتعلق به، فأتى به معاوية، فقال: هذا والله الذي بعث عليك أبا ذر.
وقام أبو ذر بالشام وجعل يقول: يا معشر الأغنياء، واسوا الفقراء، بشّر الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله بمكاو من نار تكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم.
فما زال حتى ولع الفقراء بمثل ذلك، وأوجبوه على الأغنياء، وحتى شكا الأغنياء ما يلقون من الناس.
فكتب معاوية الى عثمان: إن أبا ذر قد أعضل بي. وقد كان من أمره كيت وكيت. فكتب اليه عثمان: إن الفتنة قد أخرجت خطمها وعينها، فلم يبق إلاّ أن تشب، فلا تنكأ الجروح، وجهّز لي أبا ذر، وابعث معه دليلا وزوّده، وارفق به، وكفكف الناس ونفسك ما استطعت، فإنّما تمسك ما استمسكت.
فبعث بأبي ذر ومعه دليل، فلما قدم المدينة ورأى المجالس في أصل سلع، قال: بشّر أهل المدينة بغارة شعواء وحرب مذكار.
ودخل على عثمان فقال: يا أبا ذر، ما لأهل الشام يشكون ذربك؟
فأخبره أنه لا ينبغي أن يقال: مال الله، ولا ينبغي للأغنياء أن يقتنوا مالا.
فقال: يا أبا ذر، عليّ أن أقضي ما عليّ، وآخذ ما على الرعية، ولا أجبرهم
على الزهد، وأن أدعوهم الى الاجتهاد والاقتصاد.
قال: فتأذن لي في الخروج، فإن المدينة ليست لي بدار؟
فقال: أو تستبدل بها إلاّ شراً منها قال: أمرني رسول الله (صلى الله عليه وآله) أن أخرج منها إذا بلغ البناء سلعاً.
قال: فانفذ لما أمرك به.
قال: فخرج حتى نزل الربذة، فخط بها مسجداً، وأقطعه عثمان صرمة من الابل وأعطاه، مملوكين، وأرسل اليه: أن تعاهد المدينة حتى لا ترتد أعرابياً، ففعل(2).
إلاّ أن الذين أخذوا بهذه الرواية - بسندها المعروف- لم يذكروا سبب سكوت معاوية عن اليهودي عبدالله بن سبأ بعد أن فضحه عبادة بن الصامت وأبو الدرداء وأخبرا معاوية بأنه الرجل الذي بعث أبا ذر عليه واكتفى معاوية بالكتابة الى عثمان في شأن أبي ذر وحده، فترك رأس الفتنة وأخذ ذيلها.
وقد فطن بعض الباحثين الى تهافت الرواية، فتصدوا لدحضها، فقد قال الدكتور طه حسين: ومن أغرب ما يروى من أمر عبدالله بن سبأ، أنه هو الذي لقّن أبا ذر نقد معاوية... ومن هذا التلقين الى أن يقال: إنه هو الذي لقّن أبا ذر مذهبه كله في نقد الاُمراء والأغنياء... وأبو ذر سبق الأنصار جميعاً وسبق كثيراً جداً من المهاجرين الى الاسلام، وهو قد صحب النبي فأطال صحبته، وحفظ القرآن فأحسن حفظه، وروى السنّة فأتقن روايتها، وشهد سيرة النبي وسيرة صاحبيه في الأموال والحقوق، وعرف من الحلال والحرام ما عرف غيره من أصحاب النبي الذين لزموه فأحسنوا لزومه.
فالذين يزعمون أن ابن سبأ قد اتصل بأبي ذر فألقى اليه بعض مقاله، يظلمون أنفسهم ويظلمون أبا ذر، ويرقون بابن السوداء هذا الى مكانة ما كان يطمع في أن يرقى إليها.
والرواة يقولون: إن أبا ذر قال ذات يوم لعثمان بعد رجوعه من الشام الى المدينة: لا ينبغي لمن أدى الزكاة أن يكتفي بذلك حتى يعطي السائل ويطعم الجائع وينفق من ماله في سبيل الله، وكان كعب الأحبار حاضراً هذا الحديث فقال: من أدى الفريضة فحسبه; فغضب أبو ذر وقال لكعب: يابن اليهودية ما أنت وهذا أتعلمنا ديننا ثم وجأه بمحجنه(3).
فأبو ذر ينكر على كعب الأحبار أن يعلمه دينه، بل أن يدخل في اُمور المسلمين حتى بإبداء الرأي، مع أن كعب الأحبار مسلماً أبعد عهداً بالاسلام من ابن سبأ، وكان مجاوراً في المدينة يصبح ويمسي بين أصحاب النبي، وكان معاشراً لعمر وعثمان، ثم لا يتحرج من أن يتلقى من عبدالله بن سبأ أصلا من اُصول الاسلام وحكماً من أحكام القرآن فأعجب لرجل من أصحاب النبي يُنكر على كعب أن يجادل في الدين، ثم يتلقى الدين نفسه من عبدالله بن سبأ(4).
أما ابن كثير - الذي بدا غير مقتنع هو الآخر برواية الطبري تلك- فيكتفي بذكر القصة باختصار حيث يقول عن أبي ذر: كان ينكر على من يقتني مالا من الأغنياء ويمنع أن يدخر فوق القوت، ويوجب أن يتصدق بالفضل، ويتأول قول الله سبحانه وتعالى: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في  رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيأذن له في ذلك، وإنما صار مكتبه بالشام، لأنه قال لعثمان حين رأى البناء قد بلغ سلعاً، فالهرب، فاذن لي آت الشام فاغزو هناك، فأذن له. وكان أبو ذر ينكر على معاوية أشياء يفعلها، وبعث اليه معاوية بثلاثمائة دينار فقال: إن كانت من عطائي الذي حرمتمونيه عامي هذا قبلتها، وإن كانت صلة فلا حاجة لي فيها، وبعث إليه حبيب بن مسلمة الفهري بمائتي دينار، فقال: أما وجدت أهون عليك مني حين تبعث إليّ بمال؟ وردّها.
وبنى معاوية الخضراء بدمشق فقال: يا معاوية إن كانت هذه الدار من مال الله فهي الخيانة، وإن كانت من مالك فهذا الاسراف، فسكت معاوية.
وكان أبو ذر يقول: والله لقد حدثت أعمال ما أعرفها، والله ما هي في كتاب الله ولا سنّة نبيه، والله إني لأرى حقاً يطفأ وباطلا يحيا وصادقاً يُكذب واثرة بغير تقى وصالحاً مستأثراً عليه.
فقال حبيب بن مسلمة لمعاوية: إن أبا ذر مفسد عليك الشام فتدارك أهله إن كانت لكم به حاجة.
فكتب معاوية الى عثمان فيه، فكتب عثمان الى معاوية:
أما بعد، فاحمل جندباً اليّ على أغلظ مركب وأوعره.
فوجّه معاوية من سار به الليل والنهار، فلما قدم أبو ذر المدينة جعل يقول: يستعمل الصبيان ويحمي الحمى ويقرّب أولاد الطلقاء.
فبعث اليه عثمان: إلحق بأي أرض شئت.
فقال: بمكة.
فقال: لا.
قال: فبيت المقدس
قال: لا.
قال: فبأحد المصرين.
قال: لا، ولكني مسيّرك الى الربذة، فسيره اليها فلم يزل بها حتى مات.
ورواية اليعقوبي قريبة من رواية البلاذري، وفيها نقاط ملفتة للنظر، قال: وبلغ عثمان أيضاً أن أبا ذر يقع فيه، ويذكر ما غيّر وبدّل من سنن رسول الله وسنن أبي بكر وعمر، فسيّره الى الشام الى معاوية، وكان يجلس في المسجد فيقول كما كان يقول: ويجتمع اليه الناس حتى كثر من يجتمع اليه ويسمع منه.
وكان يقف على باب دمشق إذا صلّى الصبح، فيقول: جاءت القطار تحمل النار. لعن الله الآمرين بالمعروف والتاركين له، ولعن الله الناهين عن المنكر والآتين له.
وكتب معاوية الى عثمان: إنك قد أفسدت على نفسك بأبي ذر، فكتب إليه: أن احمله على قتب بغير وطاء، فقدم به الى المدينة وقد ذهب لحم فخذيه، فلمّا دخل اليه وعنده جماعة قال:
بلغني أنك تقول: سمعت رسول الله يقول: (إذا كملت بنو اُمية ثلاثين رجلا اتخذوا بلاد الله دولا، وعباد الله خولا، ودين الله دغلا)(5).
فقال: نعم، سمعت رسول الله يقول ذلك(6).
فالملاحظ مما سبق تطابق أكثر الروايات التي جاءت عن المؤرخين، ومخالفتها لما جاء في الطبري بطريق سيف الذي تشذ رواياته عن روايات الجميع.
ولم تقتصر الجملة على أبي ذر بجعله تابعاً لابن سبأ، إذ أن أحد الباحثين المعاصرين قد تفتقت عبقريته بأبعد من ذلك، فجعله تابعاً لمزدك، عن طريق بعض الفرس الذين تأثر بهم أبو ذر - على حد زعمه- حيث يقول الدكتور أحمد أمين بعد ايراده رواية الطبري تلك:
فمن المحتمل القريب أن يكون قد تلقى هذه الفكرة من مزدكية العراق أو اليمن، واعتنقها أبو ذر حسن النية في اعتقادها، وصبغها بصبغة الزهد التي كانت تجنح إليها نفسه...(7).
وقد نسي الدكتور أمين أن موطن الفرس وتعاليم مزدك كانت في بلاد فارس وأجزاء من العراق.
وقد أنصف الدكتور عمارة إذ أشار الى هذا الخطأ بقوله: وليس من دليل يدعو الى أن نقبل ما ارتآه بعض الناس من أن أبا ذر(رضي الله عنه)اقتبس هذه الأفكار من الفرس الذي يتبعون رأي مزدك. أو أن الذي أوحى بها اليه هو عبدالله بن سبأ، فلا دليل على أنه كانت هناك أية صلة بينه وبين الفرس، أو أنه كان يعرف لغتهم، وربما لم يكن سمع بمزدك هذا أبداً.
وأما ابن سبأ - وإن كان هذا قد نقله المؤرخون عن الطبري- قد حمل أكثر مما يحتمل، ونسبت اليه أكثر الآراء التي لم يكن جمهور الاُمة راضياً عنها، وجُعل على حد تعبير حديث (كبش الفداء) في كل هذه الفتن التي وقع فيها من الحوادث ما يثير مشاعر المسلمين. وما الذي - بعد هذا كله- يمنع صحابياً من القراء أي من العلماء، عابداً زاهداً أن يكوّن رأياً كهذا من تلقاء نفسه، وهذا هو استشهاده بالآيات واستدلاله بروح الإسلام(8).
لقد أعطى الطبري وجهة نظر العاذرين لمعاوية -كما أسماهم- وهو مؤيدو السلطة بشكل عام- تبعاً لرواية سيف- ولاحظنا أن وجهة نظر هؤلاء تحاول الحط من مقام صحابي كبير وتظهره بمظهر التابع لمؤجج الفتن ابن سبأ، ولابد من تسجيل هذه الملاحظة على اولئك الذين يدّعون ان سيف بن عمر كان يدافع عن الصحابة، لذا حاولوا تبرأته من تهمة الزندقة، ولكن قصة أبي ذر سجّلت النقطة الاُولى على أولئك المؤيدين لمنهج سيف، وسوف تكشف الأحداث اللاحقة عن خطل رأي اولئك في سيف.
لقد كان جديراً بهؤلاء المؤرخين والباحثين أن ينظروا الى موقف أبي ذر من وجهة نظر الإسلام، لا من وجهة نظر الوضاعين أمثال سيف، وبين أيديهم كتب الحديث وفيها من الروايات الصحيحة في فضل أبي ذر والثناء عليه من الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله) ما لا يحصى، ومما يجعل الجميع يفهمون حقيقة موقف أبي ذر.
لكن المشكلة -كما قلنا- تتلخص في موقف (الرأي العام) الذي يسير في ركاب السلطة عادة، والقناعات التي تراكمت على مر السنين، وهذا ما سوف نتطرق إليه بشكل أكثر تفصيلا في مبحث خاص، بما يجلو الغموض عن سرّ ذلك الموقف. لقد كان التناقض بين موقف أبي ذر وموقف السلطة واضحاً، وبشكل كان يؤدي الى التصادم بينها، ولم يكن أبو ذر وحده في هذا الميدان، وإلاّ لما ألقت السلطة إليه بالا، ولكن (لم يكن في أهل المدينة إلاّ من كان راضياً بقوله، عاتباً بمثل عتبه، إلاّ أنهم كانوا بين مجاهر بما في نفسه مخف ما عنده، وما في أهل المدينة الاّ من رثى لأبي ذر مما حدث عليه ومن استفظعه، ومن رجع الى كتب السيرة عرف ما ذكرناه)(9).
لقد كان موقف أبي ذر - وكما في الروايات التي سقناها- يتلخص في الطلب من عثمان اتباع سنّة رسول الله (صلى الله عليه وآله) والشيخين أبي بكر وعمر، ولقد اعترف القاضي ابن العربي نفسه بأن أبا ذر لم يكن يقول ما يقول في زمن عمر، أفليس هذا دليلا على أن موقف أبي ذر كان موجهاً لحكومة عثمان وليس الى الناس جميعاً ودعوتهم الى ترك الدنيا، بل كان يدعوالى عدم الاساءة في التصرف بأموال المسلمين، وكان نقده موجهاً بالدرجة الاولى الى عثمان ومعاوية، حيث لم يذكر التاريخ أن مشادة وقعت بين أبي ذر وأحد من الناس لهذا السبب.
ولقد بذل أبو ذر النصح لعثمان، لكن عثمان كان يأبى الاستماع الى النصح، ويتخذ موقفاً متشدداً من أبي ذر، حتى يجابهه بقوله: (كذبت ولكنك تريد الفتنة وتحبها، وقد انغلْت الشام علينا. فيقابله أبو ذر بطلب بسيط: اتبع سنة صاحبيك، لا يكن لأحد عليك كلام)(10).
إن تكذيب عثمان لأبي ذر، هو في الحقيقة جرأة على النبي (صلى الله عليه وآله)، ولقد أشار أبو ذر إلى ذلك، فيما أخرج البلاذري عن قتادة، قال: تكلم أبو ذر بشيء كرهه عثمان، فكذبه، فقال: ما ظننت أن أحداً يكذبني بعد قول رسول الله (صلى الله عليه وآله): (ما أقلّت الغبراء، ولا أطبقت الخضراء على ذي لهجة أصدق من أبي ذر).
ثم سيّره الى الربذة، فكان أبو ذر يقول: ما ترك الحق لي صديقاً.
فلما سار الى الربذة، قال: ردّني عثمان بعد الهجرة اعرابياً(11).
وقد حاول ابن كثير أن يرجّح كفّة عثمان على أبي ذر، إذ ادعى ضعف هذا الحديث، مع أن الحاكم قد أورده في مستدركه، بقول النبي (صلى الله عليه وآله): (ما أظلّت الخضراء، ولا أقلّت الغبراء، على رجل أصدق لهجة من أبي ذر).
وفي رواية: (ما تقل الغبراء، ولا تظل الخضراء من ذي لهجة أصدق ولا أوفى من أبي ذر، شبيه عيسى بن مريم)، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، فنعرف ذلك له؟ قال: (نعم، فاعرفوه له)(12).
فيتبين من كل ذلك أن أبا ذر لم يكن مبتدعاً، ولا كان يريد حمل الناس على شريعة ومنهاج غريب عن روح الإسلام، -كما يحاول بعض المؤلفين الايحاء بذلك- ولا كانت دعوته بأن يتخلى الناس عن ثرواتهم كلّها ويعيشوا عيشة الزهد والتقشف التي الزم نفسه بها، فلقد (كان كثير من الصحابة كعبد الرحمان بن عوف وطلحة بن عبيدالله رضي الله عنهم يقتنون الأموال ويتصرفون فيها، وما عابهم أحد ممن أعرض عن القُنية لأن الاعراض اختيار الأفضل)(13).
ولم يذكر التاريخ أن مشادة وقعت بين أبي ذر وأحد من اولئك الصحابة بسبب اقتنائهم الأموال، بل كان الصراع متركزاً بين أبي ذر والسلطة المتمثلة بعثمان بن عفان وبعض ولاته كمعاوية.
هذه هي حقيقة موقف أبي ذر، وليس كما يصورها بعض المؤلفين كابن العربي وغيره، ممن يميلون الى مناصرة موقف السلطة، مقتفين أثر سيف بن عمر الذي يبدو واضحاً أنه يقلب الحقائق رأساً على عقب، فانتصاره للصحابة لا يشمل جميعهم، بل بعضهم كما نلاحظ.
لقد جاءت انتفاضة أبي ذر ضد طغيان الأقلية، أول مصادمة علنية بين الاتجاه الإسلامي، وبين الخلافة التي فقدت مع عثمان هالتها الكبيرة، بعد ما أصبحت مظلة لأصحاب الاتجاه القبلي(14).
________________________________
1- سورة التوبة: 34.
2- العواصم من القواصم: 85.
3- الطبري 4: 283.
4- البداية والنهاية 7: 155.
5- الحديث في مسند أحمد 3: 80 عن أبي سعيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): "إذا بلغ بنو أبي فلان ثلاثين رجلا اتخذوا مال الله دولا ودين الله دخلا وعباد الله خولا".
6- تاريخ اليعقوبي 2: 171.
7- فجر الاسلام: 111.
8- النظريات السياسية في الإسلام: 57.
9- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي 3: 58.
10- شرح نهج البلاغة 3: 56.
11- أنساب الأشراف 6: 186.
12- المستدرك على الصحيحين 3: 338 وصححه ولم يعترض الذهبي عليه. واُنظر سنن الترمذي 5:628 ح3801، 3802، سنن ابن ماجة 1: 55 ح156، مسند أحمد 2: 163، 175، 223، ح 1975، 6:442، مصنف ابن أبي شيبة 12:124، المعجم للطبراني 2: 149، مصابيح السنة 4: 220، الطبقات الكبرى 4: 228، الاستيعاب: ترجمة أبي ذر، الجامع الصغير 2: 485 ح7825، كنز العمال 11: 666 - 668 ح 33221 - 33229، 13: 316 ح 36888.
13- الكشاف للزمخشري 2: 267.
14- من دولة عمر إلى دولة عبدالملك، إبراهيم بيضون: 107.
  
   
  

Aucun commentaire: