jeudi 31 décembre 2015

(( في البداية قوله في المعراج )))الجزء الثاني 2\2. التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب (2/185)


=======================================================
أحاديث المعراج :
قال عبد الكريم الخطيب في كتابه ( التفسير القرآني للقرآن ) عن أحاديث المعراج: وقد رويت عن الرسول صلوات الله وسلامه عليه أحاديث عن المعراج، تحدّث بها إلى بعض أصحابه، فى بعض ما رأى من آيات ربّه، ولم تكن هذه الأحاديث إلا إشارات أشار بها الرسول الكريم إلى بعض ما رأى من ملكوت الله، مما تنشرح به صدور المؤمنين، ويزداد به إيمانهم نورًا ويقينًا! وليس في هذه الأحاديث- إن صحت- ما يتصل بالعقيدة، أو يضاف إلى الشريعة.
ولكن الذي يقرأ القصص التي صورت فيها رحلة المعراج، يجد فيها كثيرًا من الدّسّ، والكذب، والتلفيق! ولليهود هنا، في هذه القصة، دور كبير في دسّ الأخبار، وتلفيق الأحاديث، حيث المجال فسيح، يتسع لكل قول يقال في هذا العالم العلوى، وفي المشاهد التي يمكن أن يشهدها من يصل إلى هذا العالم ويطوّف به.
وأبرز ما نراه من دسّ اليهود هنا، هو ما يروى في حديث المعراج، من اللقاء الذي كان بين النبي وبين موسى عليهما الصلاة والسلام، وأن موسى سأل النبيَّ صلوات الله وسلامه عليه عمَّا افترض الله على أمّته من الصلاة، فلما قال النبيُّ لموسى: إنها خمسون صلاة افترضها الله سبحانه وتعالى على المسلمين في اليوم والليلة، قال له موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك. ثم تقول الرواية: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجع إلى المولى سبحانه وتعالى، وسأله التخفيف، فاستجاب له ربّه، فجعلها أربعين، فلما عاد النبيُّّ إلى موسى وأخبره بما خفف الله سبحانه وتعالى من الخمسين إلى الأربعين، قال موسى: ارجع إلى ربّك فاسأله التخفيف، فإن أمتك لا تطيق ذلك. ثم تمضى الرواية فنقول: إن النبيَّ ما زال يراجع ربه، فيخفف عنه، ثم يعود إلى موسى، فيطلب منه أن يسأل زيادة في التخفيف. فكانت ثلاثين، ثم عشرين، ثم عشرة، ثم خمسة. وعندها قال النبيُّ صلوات الله وسلامه عليه لموسى:« لقد استحيت من ربى ». وبهذا أصبحت فريضة الصلاة خمسًا في العمل وخمسين في الأجر!
هذه الرواية تشير إلى أمور؛ منها:
أولا: أن تجعل لموسى عليه السلام، ما يشبه الوصاية على النبيّ صلوات الله وسلامه عليه، وهذا من شأنه أن يجعل لليهود منزلة على المسلمين أشبه بهذه المنزلة. هذا، إذا جعلنا في اعتبارنا أن هذا الخبر المدسوس، إنما يحدّث به المسلمون، دون أن يرى أحد أن لليهود شأنا فيه؛ إذ كانوا ينكرون نبوّة النبيّ أصلًا، فكيف يعترفون بعروجه إلى السماء! وهذا ما يجعل لهذا الحديث هذا الأثر الذي أشرنا إليه!
وثانيا: ما وجه الحكمة في أن يكون من تدبير الله سبحانه وتعالى أن تجيء فريضة الصلاة على هذا الأسلوب الذي يشبه أسلوب المناقصات، والذي يبدأ بخمسين صلاة، ثم ينتهى بخمس صلوات؟ وما الحكمة في أن يغدو النبيُّ الكريم، ويروح بين موسى وربّه كل هذه الغدوات والروحات؟ ألا غدوة وروحة واحدة تكفي، إن كان لا بد من هذا؟
إن ذكاء واضع هذه الرواية قد أبى عليه إلّا أن يجيب عن هذه التساؤلات، وأن يكشف عن وجه الحكمة فى هذا، فيجعل من تمام الرواية:« إنها خمس في العمل، وخمسون فى الأجر ».
وهذا الذي جعله واضع الرواية وجهًا داعيًا إلى قبولها، هو في الواقع الوجه الذي يكشف عن ردّها؛ إذ ليست الصلاة وحدها هي التي تختص بهذه المزية في اعتبار الصلاة بعشر صلوات؛ بل إن كل الأعمال الطيبة توزن عند الله سبحانه وتعالى بهذا الميزان، كما يقول سبحانه وتعالى:{ مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها }.
=======================================================


الجزء الثاني 2\2. التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب



و أهل الكتاب هؤلاء كانوا على الإيمان قبل أن يمتحنوا بالدعوة التي حملها إليهم رسول اللّه ، فلمّا زاغوا أزاغ اللّه قلوبهم ، واللّه لا يهدى القوم الفاسقين.
الآية : (83) [سورة آل عمران (3) : آية 83]
أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
التفسير : تكر هذه الآية على الكتاب الذين كفروا بمحمد ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 512
و جحدوا ما عندهم من حقّ فيه ـ تنكر عليهم هذا الموقف الذي لا ينبغى لعاقل أن يقفه ، لأنه يورد بذلك الموقف ، موارد الهلاك .. فأى دين غير دين اللّه يبغون؟ وماذا ينكرون من أمر محمد وقد جاءهم بالحقّ الذي كان معهم مثله من كتاب اللّه الذي فى أيديهم؟ وهل جاءهم محمد بغير ما جاء به الأنبياء من قبله من دعوة إلى توحيد اللّه ، والإيمان به إلها واحدا ، قيّوما ، له ملك السموات والأرض؟ إن ذلك هو الحق الذي قام عليه الوجود ، وهو الدين الذي دان به للّه كل مخلوق ، فى ملكوت السموات والأرض.
فكيف يفسق أهل الكتاب هؤلاء ، ويخرجون عن هذا الموكب الذي انتظم الوجود كلّه ، فى أرضه وسمائه ، وفى أحيائه وجماداته؟

(2/2)

و فى قوله تعالى : « وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً » الإسلام هنا الانقياد والخضوع .. وكل ما فى هذا الوجود منقاد للّه ، خاضع له ، إن لم يكن عن ولاء ورضى ، فهو عن قهر وسلطان! وما ذا تملك المخلوقات من أمرها؟ وهل غير الاستسلام والخضوع؟ إنها جميعا فى يد القدرة القادرة المنصرفة وحدها من غير معترض أو معقب! فمن لم ينقد اختيارا انقاد اضطرارا ، واللّه سبحانه وتعالى يقول « إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً » (93 : مريم) ويقول سبحانه : « يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ » (33 : الرحمن) .. فهل لهؤلاء المحادّين للّه ، الكافرين به ، ملجأ غير اللّه؟ وهل لهم أن يدفعوا عن أنفسهم ما يصبهم من ضرّ وأذى؟ « قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » (168 : آل عمران)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 513
(الآيتان : 84 ـ 85) [سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85]
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)

(2/3)

التفسير : بعد أن كشفت الآيات السابقة موقف أهل الكتاب من رسل اللّه ، وإيمانهم ببعض وكفرهم ببعض ، ونقضهم فى هذا ما عاهد اللّه عليه أنبياءهم من الإيمان بكل رسول ، ونصرته ـ بعد أن كشفت الآيات السابقة هذا ، أمر اللّه نبيّه بأن يجهر بالحقّ الذي فسق عنه أهل الكتاب ، وأن يقيم إيمانه على الدين الذي ارتضاه اللّه له ، وللمؤمنين جميعا .. وهو الإيمان باللّه ، وما أنزل عليه من كتاب ربه ، وما أنزل على الأنبياء قبله .. إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط ، وما تلقى موسى وعيسى من آيات ربهما وكتبه ، وما تلقى النبيون جميعا من ربهم ، لا تفرقة فى هذا بين أحد منهم ، فكلهم رسل كرام من رسل اللّه ، سفراء بررة ، بين اللّه وبين عباد اللّه! وفى قوله تعالى هنا : « قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا » وفى قوله سبحانه فى سورة البقرة : « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا » (136) تفرقة بين النبىّ وأتباع النبىّ فى التلقّى عن اللّه سبحانه وتعالى ، فالنبى هو الذي تلقى الكتاب عن اللّه ، وأتباعه هم الذين تلقوا الكتاب عن النبي ، ولهذا كان خطاب النبي : « قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا » وكان خطاب أتباعه :
«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا » . و«علينا » فيها الدنوّ والمباشرة ، بخلاف « إلينا » وما فيها من بعد ومجاوزة.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 514

(2/4)

و فى قوله تعالى : « وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ » وقوله : « وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ » ـ ما يسأل عنه .. وهو : لما ذا كان الوصف المصاحب لما تلقّاه النبيون : محمد وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، هو « النزول » ، على حين كان الوصف المصاحب لما تلقّاه موسى وعيسى هو « الإتيان » هكذا : « وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى » ؟
و الجواب على هذا ـ واللّه أعلم ـ هو أن ما تلقاه النبىّ عليه الصلاة والسلام ، وما تلقاه إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط عليهم السلام ـ كان وحيا من اللّه ، على لسان ملك من ملائكته ، هو جبريل عليه السّلام ، فكان وصف هذا التلقي « بالنزول » هو الوصف المناسب لتلك الحال ، أما ما تلقاه موسى وعيسى عليهما السلام ، فكان تلقيا مباشرا من اللّه سبحانه وتعالى .. وفى موسى يقول اللّه تعالى : « وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً » (164 : النساء) أما عيسى عليه السّلام ، فقد أيده للّه بروح القدس ، لذى هو نفخة من روح الحق ، فكان اتصاله باللّه اتصالا مباشرا بهذا الروح الذي يملأ كيانه! وفى عيسى يقول اللّه سبحانه : « وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ » (87 : البقرة) وروح القدس ، هو جبريل ، أو روح من عند اللّه .. تلازمه ، وتنطق بلسانه ..!
قوله تعالى : « وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ » .. الإسلام هو دين اللّه الذي شرعه لعباده ، والذي جاء به الأنبياء والمرسلون جميعا ، ودعوا الناس إليه ، فمن آمن منهم بما جاء به الرسل ـ من غير تحريف ولا تبديل ـ فهو مسلم من المسلمين ..
فإبراهيم عليه السلام .. يسأل اللّه أن يوفقه وأهله وذريته إلى دين الإسلام ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 515

(2/5)

فيقول كما ذكر القرآن ذلك على لسانه : « رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ » (128 البقرة) وفيه يقول اللّه تعالى : « إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » (131 : البقرة) .. وفيه يقول سبحانه : « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » (67 : آل عمران) وإبراهيم هو أبو الأنبياء ، وعلى دينه ـ وهو الإسلام ـ كان جميع الأنبياء من بعده! وعلى هذا ، فليس المراد « بالإسلام » هو الشريعة الإسلامية التي جاء بها محمد عليه الصلاة والسلام ، خاصة ، إذ ليست هذه الشريعة بدعا من الشرائع السماوية التي سبقتها ، بل هى وما قبلها من الشرائع ـ من يهودية ونصرانية وغيرهما ـ على سواء .. فجميعها شريعة اللّه ، وكلها « الإسلام » الذي هو الدين عند اللّه ، ولا دين غيره.
والخلاف الذي بين الإسلام ، وبين اليهودية والنصرانية ليس اختلافا ناشئا عن حقيقة هاتين الديانتين ، وإنما جاء الخلاف نتيجة لما حدث فيهما من تبديل وتحريف ، ولو أنهما سلما من هذا التحريف والتبديل لالتقيا مع الإسلام. ولكان أتباعهما من المسلمين ..
الآيات : (86 ـ 89) [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89]
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 516

(2/6)

التفسير : قوله تعالى : « كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ » .
الاستفهام هنا ليس على حقيقته ، وإنما هو استنكار واستبعاد لمن يطمع من هؤلاء الضالين أن يلبس ثوب المهتدين ، وأن يرجو العون والتوفيق من اللّه ، بعد أن أعطى اللّه ظهره ، وكفر به وبآياته المضيئة بين يديه! وهؤلاء الضالون هم الذين كفروا من أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ الذين كفروا بعد إيمانهم .. فقد كانوا قبل بعثة محمد يؤمنون بأن نبيا عربيا سيبعث كما قال اللّه تعالى : « الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ ، يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ » (157 : الأعراف) ..
ثم جاءهم النبي المنتظر ، ورأوا فيه وبين يديه دلائل الحق التي تشهد له أنه رسول اللّه ، ووافقت صفته عندهم ما تحدثت به كتب اللّه التي بين أيديهم عنه .. ومع هذا أبوا إلا عنادا وكفرا .. فأنكروا كلمات اللّه ، وجحدوا الحق الذي تحدثهم به ، وبهذا تحولوا من الإيمان إلى الكفر .. كما يقول اللّه تعالى : « كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ » .. وكما يقول سبحانه « فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ » (89 : البقرة).
والواو فى قوله تعالى : « وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ » وفى قوله :
«

(2/7)

وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ » يمكن أن تكون للعطف على قوله تعالى : « كَفَرُوا » وهذا يعنى أنهم جمعوا المتناقضات التي لا تستقيم على عقل عاقل .. إذ جمعوا الكفر مع ما شهدوا من الحق الذي يطالعهم من وجه الرسول ، ومع ما بين
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 517
يديه من آيات بينات .. وهذا أمر لا يكون إلا ممن سفه نفسه ، وركب رأسه ، وتعلق بأذيال شيطانه! كما يمكن أن تكون هذه الواو للحال ، بمعنى أنهم كفروا فى تلك الحال التي يشهدون فيها دلائل النبوة ، ويرون آياتها .. فهم والحال كذلك فى أمر مختلف .. الكفر عن علم وعمد! وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » ما يكشف عن حقيقة الاستفهام الإنكارى الذي بدأت به الآية ، وهو : « كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ » .. فهؤلاء القوم قد اتخذوا الظلم مركبا ، فاعتدوا اعتداء منكرا على الحقّ الذي بين أيديهم ، حتى لقد اجترءوا على إفساد الكتاب السماوي الذي يؤمنون به ، ويعيشون فيه .. « وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » فكيف يهدى اللّه هؤلاء القوم الظالمين ، الذين يشهدون الحق ، ويستيقنونه ، ثم يكفرون به؟ إنهم ليسوا أهلا لخير أبدا.
وكلمة « القوم » هنا تعنى أن هذا الظلم الذي ركبه هؤلاء السفهاء هو ظلم جماعى ، تواطأ عليه القوم جميعا ، ولم يقم فيهم رجل رشيد ينكر عليهم هذا المنكر ، فكان ظلما غليظا ، وداء قاتلا ، لا يرجى له شفاء أبدا .. إنه أشبه بالوباء الذي ينزل بجماعة من الجماعات ، فيأتى عليها بين يوم وليلة.
ولهذا كانت العقوبة الواردة على هؤلاء الظالمين عقوبة عامة قاصمة :
«

(2/8)

أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ » .. إنهم بمعزل من رحمة اللّه .. تحيط بهم لعنة اللّه ولعنة ملائكته ، ولعنة الناس أجمعين : المؤمنين منهم وغير المؤمنين .. أما المؤمنون فلأنهم من حزب اللّه ، يحاربون من حارب اللّه ، ويلعنون من يلعنه اللّه .. وأما غير المؤمنين فإنهم على خلاف مع هؤلاء القوم الظالمين .. لهم ظلم غير ظلمهم ، ودين غير دينهم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 518
فهم على عداوة ـ ظاهرة أو خفية ـ معهم .. ثم إنهم هم أنفسهم يتبرأ بعضهم من بعض ، ويكفر بعضهم ببعض ، ويلعن بعضهم بعضا ، وذلك حين تقع بهم الواقعة ، ويرون سوء المصير الذي هم صائرون إليه .. هكذا شأن جماعات الضالين والمفسدين ، يجمعهم الضلال والفساد إلى حين .. ثم يفرّق بينهم الضلال والفساد يوم يقوم الناس لرب العالمين .. وفى هذا يقول اللّه تعالى :
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ » (67 : الزخرف) ويقول سبحانه : « وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ » (25 : العنكبوت).
والضمير فى قوله تعالى : « خالِدِينَ فِيها » يعود إلى اللعنة ، أي هم خالدون فى هذه اللعنة الواقعة عليهم من اللّه والملائكة والناس ، لا تزايلهم أبدا ..
وقوله تعالى : « وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ » إشارة إلى أن هذه اللعنة واقعة عليهم فى هذه الدنيا ، كما هى واقعة عليهم يوم القيامة .. إنهم يلقون جزاء هذا الظلم الغليظ معجلا ومؤجلا معا.

(2/9)

و الاستثناء فى قوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » هو وارد على هذا الحكم الواقع على أولئك الظلمة وما رماهم اللّه به من لعنة عاجلة فى الدنيا وآجلة فى الآخرة .. بمعنى أن من تاب من هؤلاء الملعونين ، ورجع إلى اللّه من قريب ، وأصلح ما أفسد من دينه فإن مغفرة اللّه تسعه ، ورحمة اللّه تعالى تناله ، وترتفع عنه تلك اللعنة التي أحاطت به ، وينزل منازل المؤمنين ، الذين رضى اللّه عنهم ، وتقبّل عنهم أحسن ما عملوا ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 519
و فى هذا ما يفتح لهؤلاء المذنبين باب الرجاء فى رحمة اللّه ، وينصب لهم معالم النجاة ، إن هم أرادوا النجاة والخلاص.
الآية : (90) [سورة آل عمران (3) : آية 90]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
التفسير : هذه الآية مكملة لما قبلها ..
فبعد أن بيّن اللّه سبحانه وتعالى المصير المشئوم الذي سيقع على هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب .. الذين كفروا بعد إيمانهم ، وبعد أن شهدوا أن الرسول الذي ظهر فيهم هو رسول رب العالمين ، يحمل آيات الهدى والنور من ربه .. وبعد أن ألبسهم اللّه ثوب اللعنة ، ثم فتح باب الرحمة لمن نزع منهم عن غيّه وضلاله ، وفاء إلى الحق ، ورجع إلى اللّه تائبا ، مصلحا ما أفسد من دينه وفى دينه ـ بعد هذا بيّن اللّه موقف المتعنتين من هؤلاء الضالين الظالمين ، الذين دعاهم اللّه تعالى إلى جناب رحمته ومغفرته ، فأبوا أن يستجيبوا ، ولم يزدهم هذا الدعاء الكريم ، من رب كريم ، إلا إصرارا وعنادا ، وإغراقا فى الإثم ، واستغراقا فى الضلال ـ فهؤلاء لن تقبل توبتهم ، ولن يلقاهم اللّه برحمته ومغفرته .. « وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ » .
والسؤال هنا :

(2/10)

أهناك من يتوب ، ويمدّ يده إلى اللّه بالصفح والمغفرة .. ثم يردّ ، ولا صفح ولا مغفرة؟
و الجواب ، أن اللّه سبحانه وتعالى يدعو عباده إلى التوبة ، ويفتح لهم باب
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 520
القبول والصفح ، فيقول سبحانه : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ » (222 : البقرة) ويقول جل شأنه : « وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (31 : النور) ثم يقول سبحانه : « وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ » (75 : الشورى).
فكيف لا يقبل اللّه توبة من جاء إليه ملبيّا نداءه ، باسطا إليه يده بالتوبة والإنابة؟
و الآية هنا تقول « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ » فهؤلاء الذين كفروا هم الذين أشارت إليهم الآية السابقة فى قوله تعالى :
«كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ » إنهم ـ والأمر كذلك ـ ليسوا مجرد كافرين ، ولدوا فى الكفر ، ونشأوا على الكفر ، وإنما هم كفروا بعد إيمان ، وضلّوا بعد هدى .. وليس هذا وحسب ، بل إنهم تعمّدوا الخروج من الإيمان ، وأطفئوا بأيديهم وبأفواههم النور الذي كان معهم .. وإنهم ليعرفون أنهم على ضلال ، ولكن الحسد الذي يأكل قلوبهم جعلهم يلقون بأيديهم إلى التهلكة عن عمد وإصرار.

(2/11)

و إن إنسانا يستبدّ به العناد إلى هذا الحدّ ، ويتسلط عليه الهوى إلى هذا المدى الذي يشوّه به معالم وجوده بيده ـ إن إنسانا كهذا الإنسان لن يرجع إلى اللّه أبدا ، ولن تزيده الأيام إلا عمى وضلالا .. فقد استشرى به الداء ، وهيهات أن يكون له دواء : « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ » (10 : البقرة) ..
وفى قوله تعالى : « ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً » ما يكشف عن معدن هؤلاء
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 521
القوم ، وأنهم كلّما امتد الزمن بهم كلما ازدادوا عتوّا وكفرا .. ومن كان هذا شأنه فإنه لا يرجى له صلاح ولن تكون منه إلى اللّه رجعة.
وفى قوله تعالى : « لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ » تيئيس لهم من التوبة التي إن أعلنوها بألسنتهم فى حال ماء أنكروها بقلوبهم ، وشهد على إنكارهم سوء أعمالهم ..
وفى قوله تعالى : « لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ » وجه آخر ، هو أنهم ـ واللّه أعلم ـ قد لبسوا من الكفر غير ما يلبسه الكافرون .. إذا كانوا على الإيمان ، فجعلوه ، وارتدوا الكفر الذي لن يزايلهم أبدا ، فإذا تاب تائبهم .. وهو على تلك الحال ـ فلن تقبل توبته ، بمعنى أنه لن تمضى له هذه التوبة إلى آخر عمره ، بل إنه راجع لا محالة إلى ما كان عليه من الكفر الغليظ الذي تلبّس به ..
وبهذا تكون توبته تلك كلا توبة .. فقوله تعالى : « لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ » أي لن تقبل قبولا مثمرا ، ينتهى بصاحبه إلى الهدى والإيمان .. إذ كانت التوبة غير خالصة للّه وللحق! وقوله تعالى : « وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ » الإشارة هنا إلى هؤلاء القوم الذين كفروا بعد إيمانهم ، ثم ازدادوا كفرا ، ثم لم يكن اللّه ليقبل توبتهم ..
«وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ » أي الذين استغرقهم الضلال ، واشتمل عليهم ..
فلا مخرج لهم منه إلى هدى.
آية : (91) [سورة آل عمران (3) : آية 91]

(2/12)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 522
التفسير : هذا الحكم وإن كان عاما يلحق الكافرين الذين ماتوا وهم على كفرهم ، إلا أنّه يتجه اتجاها مباشرا إلى اليهود ، الذين أبعدهم الرحمن من رحمته ، وتركهم مع كفرهم وضلالهم ، وأغلق فى وجههم باب التوبة والقبول ، وذلك لأنهم كفروا بعد إيمان ، وضلّوا بعد علم ، ثم اجترءوا على اللّه ، فحرّفوا كلماته ، وبدّلوا آياته ..
وإنهم وقد أيأسهم اللّه من الرجوع إليه ، سيمضون على ما هم فيه من كفر ، وسيموتون كافرين ..
ومن كان على تلك الصفة ، فالويل له من عذاب يوم عظيم! وفى قوله تعالى : « فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً » أمور منها :
أولا : أن المال الذي هو دين اليهود ، والذي من أجله استرخصوا الدّين ، واستخفوا بآيات اللّه ، ليحتفظوا بمراكزهم الاجتماعية فى مجتمعهم الفاسد ـ هذا المال الذي هم تاركوه وراءهم لن يدفع عنهم شيئا من العذاب الذي ينتظرهم فى الآخرة ..
ثانيا : التعبير بالذهب عن المال ، سواء كان ذهبا أو فضة ، أو ضياعا أو دورا وقصورا ودوابّ ـ لأن الذهب هو المقياس الذي تعرف به قيمة كل مال ، وهو الذي به ينال كل مال مطلب.
ثالثا : فى قوله تعالى : « أَحَدِهِمْ » ما يشعر بالاستخفاف بهذا المال ، وبقلّة جدواه فى هذا الموقف ، وأنه لو كان لأحدهم مل ء الأرض ذهبا ما نفعه! فكيف وهو لا يملك من هذا المال ما يملأ حفرته من الذهب؟ فإن بلغ فى الغنى أقصى مدى فلن يملك مصرا من الأمصار! وأين هذا الذهب الذي يملأ هذا المصر الذي ملكه؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 523

(2/13)

رابعا : فى قوله تعالى : « وَ لَوِ افْتَدى بِهِ » ما يكشف عن بعض البلاء النازل بهذا الذي كفر باللّه ، فى هذا اليوم ، وأنه لو كان له مل ء الأرض ذهبا لسمحت به نفسه فى غير تردد أو مساومة ، ليدفع هذا البلاء ، ويخلص بجلده .. وانظر كيف يسمح يهودى بهذا الذهب كلّه ، ولا تنازعه نفسه إلى أن يحتجز بعضا ، ويترك بعضا؟ ولقد كان مستعدا فى حياته الدنيا أن يبيع نفسه ، لمن يشتريها ـ وقد باعها فعلا ـ لقاء حفنة من تراب هذا الذهب فكيف يلقى بهذا الذهب كله من يده؟ إنه العذاب الأليم الذي يجعله يذهل عن كل شى ء حتى المال ، وحتى الذهب.
الآية : (92) [سورة آل عمران (3) : آية 92]
لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
التفسير : فى الآية السابقة أهدرت قيمة الذهب ، فكان لا ثمن له فى يد من يملكه ، ولو كان مل ء الأرض! إذ ما ذا ينفع المال فى هذا اليوم ، الذي لا بيع فيه ولا شراء؟
و من هنا لم يكن لهذا المال الذي قدمه الكافر فدية له ، وهو مال كثير ، يملأ وجه الأرض كلها ـ لم يكن له أي أثر فى رفع شر أو جلب خير! .. إنه مال مزهود فيه ، لا تلتفت إليه عين ، ولا تمتد إليه يد ، فهو والتراب سواء! وفى هذه الآية يبين اللّه تعالى أن المال الذي يبذل ، وللأنظار مطمح فيه ، وللقلوب علقة به ، وللنفوس هوى إليه ـ هو المال الذي يدفع به الشر ، ويجلب به الخير.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 524

(2/14)

و إذ كان ذلك كذلك ، فإن المال المبذول فى سبيل اللّه لا يبلغ بصاحبه منزلة الأبرار المقبولين عند اللّه ، حتى يكون هذا المال أحبّ شى ء عنده وآثره. إذ هنا يكون صاحب المال قد جاهد نفسه ، وغلب هواه ، وقهر دواعى الأثرة عنده ، حتى نزل عن هذا الشي ء المحبوب عنده ، وأنفقه فى وجوه الخير ، طمعا فى مرضاة اللّه ، وابتغاء رضوانه .. وبهذا ينال ثواب المجاهدين ، ويعطى أجر العاملين .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ » (69 : العنكبوت)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 525
الآيتان : (93 ـ 95) [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95]
كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

(2/15)

التفسير : عبث اليهود بآيات اللّه ، وحرّفوا وبدّلوا فى كلماته ، وأداروا دينهم على الوجه الذي يغذّى نزعاتهم ، ويشبع أهواءهم ، فأحلّوا وحرّموا ، غير ما أحلّ اللّه ، وغير ما حرم ، وقد فضحهم القرآن الكريم فى أكثر من آية من آياته ، فقال تعالى : « مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ ، وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ ، وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ ، وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا » (46 : النساء) ولم يقف بهم الأمر فى تحريف كلمات اللّه وتبديلها عند حدّ ، فتقوّلوا على أنبيائهم ، ورموهم بالكبائر والمنكرات ، وجحدوا رسالة محمد وما حدّثت به التوراة عنه ، ثم تجاوزوا هذا إلى ما يتصل بشئونهم الخاصة التي رسمتها لهم شريعة موسى .. من القصاص فى القتلى ، وحدود المحرمات ، وما حرّم اللّه عليهم من طيبات كانت حلّا لهم من قبل أن تنزّل التوراة ، نكالا لهم ، جزاء كفرهم بآيات اللّه!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 526
و فى كل هذا كانت تنزل آيات القرآن الكريم فاضحة لهم ، ناشرة على الناس ضلالهم وافتراءهم على اللّه ، وعدوانهم على حدوده.

(2/16)

فحين نزل فيهم قوله تعالى : « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً » (160 : النساء) وقوله تعالى : « وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ » (146 ، 147 : الأنعام) ـ حين نزل فيهم هذا القرآن الذي يتهمهم بالبغي والعدوان ، وأنهم عوقبوا ببغيهم وعدوانهم هذا العقاب الذي حرّم اللّه به عليهم ما كان حلّا لأسلافهم من قبل أن تنزل التوراة ـ حين قال فيهم القرآن هذا جعلوا يبدون العجب والدّهش ، ويقول قائلهم : ما هذا القول الذي يحدّث به محمد عنّا؟ وكيف تبلغ به الجرأة على الحق أن يغيّر ويبدّل فى شريعتنا؟
و قد ردّ القرآن عليهم قبل أن ينطقوا بهذا الذي نطقوا به ، ورصد لهم الجواب الذي يفحمهم ويخزيهم ، قبل أن يتساءلوا ويعجبوا ، فى خبث صبيانى مفضوح ، فدعا اللّه تعالى نبيّه أن يلقاهم بهذا الردّ إن هم كذبوه فيما يتهمهم به القرآن من كذب على اللّه : « فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ » فمع سعة رحمة اللّه وشمولها ، فإنها لا تنال هؤلاء المجرمين الذين رماهم اللّه ببأسه ونقمته ، فحرم عليهم طيبات ما أحلّ .. وقد فضحهم اللّه فى قوله سبحانه : « وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 527

(2/17)

أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ .. هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ .. لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ. إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ »
(116 : النحل) وفى قوله تعالى : « كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ » إشارة إلى أن الأصل فى الطعام أن يكون مطلق الحلّ ، يتناول منه الإنسان ما ترضاه نفسه ، وتطيب به .. إن ذلك شأن من شئون الناس .. فما استساغته النفوس وقبلته ، فهو حلّ مباح لها ، وما عافته واستقذرته لم يكن لأحد أن يحملها على تناوله.
فهذه أنواع الحيوان ، وأجناس الطير .. لكل نوع طعام ، ولكل جنس ما يغتذى به ، ويقيم حياته عليه ، إذ يعيش بعضها على النبات ، وبعضها على الحبوب ، وبعضها على الثمار ، كما تعيش أصناف منها على اللحم ، وأصناف أخرى على العشب! فإذا عرض على الحيوان آكل العشب بعض قطع اللحم لم يمدّ فمه إليها ، والعكس بالعكس .. وهكذا كل صنف وكل نوع ، يسعى وراء الطعام الذي ساغته نفسه وقبلته طبيعته! والإنسان شأنه شأن الحيوان فى هذا .. له أن يأكل مما تنبت الأرض ، وما تحمل على ظهرها من حيوان ، ما دام المأكول مستساغا عنده ، مقبولا لديه! وطبيعى ألا يستسيغ الإنسان كل شى ء أو يقبل كل شي ء .. فقبل كثيرا ، ورفض كثيرا ، وهو حرّ فى القبول وفى الرفض.
ذلك شأن الإنسان ، وهكذا ينبغى أن يكون شأنه .. الأمر متروك له ، فيما يتخيّر من طعامه ، وشرابه! ولكنّ العناية الإلهية كانت ولا تزال دائما أبدا تمدّ الإنسان بنصحها ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 528

(2/18)

و إرشادها ، حتى يستقيم على الطريق القويم. فأرسل اللّه رسله يحملون إلى الناس الهدى والرشاد ، ويؤذّنون فيهم بكلمات اللّه ، وما فيها من وعد ووعيد ، إذ كان الإنسان أهلا لأن يخاطب من قبل اللّه ، وأن تحمل إليه كلمات اللّه ، وما فيها من نور وهدى! فكان الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وإباحة الحلال وحظر الحرام ، مما بينته للناس شريعة السماء ، وأمرت بالوقوف عند حدوده! وفى الطعام والشراب جاءت الشريعة السماوية بالإباحة المطلقة لكل ما هو طيب ، كما يقول اللّه تعالى « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ » (172 : البقرة) ويقول سبحانه : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا » (87 : المائدة).
وقد يكون من العجب أن تحرّم الشريعة السماوية على الناس بعض ما يشتهون ، أو بعض ما يجدون له مساغا بوجه من الوجوه! ويقوم هذا العجب حين ننظر إلى الإنسان نظرتنا إلى الحيوان ، ونقيسه عليه ، ونسوّى بينهما فى القياس ، وعندئذ يحوز لقائنا أن يقول : إذا كان الحيوان قد أطلق له الأمر فى اختيار طعامه وشرابه ، والاستدلال بغريزته على ما يصلح له وما لا يصلح ، أفلا يطلق للإنسان الأمر فى اختيار طعامه وشرابه ، والتمييز بعقله وخبرته بين النافع منها والضار؟ أ ليس من باب أولى أن يكون الإنسان سيد نفسه ، وصاحب أمره فى هذا الأمر فى هذا الأمر الذي يتهدّى إليه الحيوان بطبيعته؟
و لكن يردّ على هذا ، بأن الإنسان أكرم على اللّه من الحيوان ، بما حباه من عقل ، وما جعل له بهذا العقل من سلطان الخلافة على هذه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 529
الأرض .. ولهذا تولّى اللّه سبحانه هدايته ، وخاطبه ـ كما قلنا ـ على لسان رسله بكلماته وآياته ..

(2/19)

و قد جاءت آيات اللّه إلى الإنسان لتحرر إرادته من الهوى المتسلط عليه ، وتجلى عن عقله غيوم الجهل والضلال التي تخيم عليه بين الحين والحين ..
وكما جاءت آيات اللّه لتحرر إرادة الإنسان ، وتصحح وجدانه ، وتنير عقله ، جاءت أيضا إلى الجانب المادىّ منه ، لتغذّى جسمه بالغذاء الطيب ، ولتحول بينه وبين أن يطعم الخبيث ، حتى يسلم له كيانه كله ، جسدا ، وعقلا ، وقلبا ، وروحا! ومن هنا كان ما فرضته الشريعة السماوية من تحريم الخبيث من الأطعمة على المؤمنين ـ استعلاء بالإنسان ، واستكمالا للكمال المنشود له ، بل والمطلوب منه.
وهذا ما فعلته الشريعة الإسلامية مع أتباعها فيما حرمت عليهم من مطاعم ، فيقول اللّه تعالى : « حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ .. ذلِكُمْ فِسْقٌ ... » وهى جميعها مطاعم تأباها النّفوس الطيبة ، وتعافها الطبائع السليمة ، بل إن بعض الحيوانات آكلة اللحوم تأبى أن تأكل الميتة ، ولو هلكت جوعا .. كالأسد مثلا ، فإنه لا يقرب الميتة أبدا! فالميتة ، والدم ، ولحم الخنزير ، والحيوانات التي تموت غير ميتة طبيعية ، كالمنخنقة والموقوذة ، والمتردية ، والنطيحة ، وما أكل السبع منها .. كل هذه مطاعم لا تقبلها نفس طيبة ، ولا تسوغها طبائع سليمة.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 530
و هناك مطاعم حرّمها الإسلام لا لذاتها ، ولكن لما أحاط بها من جوّ كريه ، يفسدها ، ويفسد طعمها على آكليها ، كتلك التي تذبح قربانا للأوثان ، ومثلها جميع مطاعم الوثنيين .. حيث تفوح منها ريح الشرك باللّه ، والكفر به .. فهى والحال كذلك طعام ملوّث بالشرك باللّه ، فمن طعمها طعم الشرك معها.

(2/20)

و كالخمر التي حرمتها الشريعة الإسلامية ، إنها شراب مشوب بداء يغتال العقل ، وتذهب به حميّا خمارها وسكرها .. وعندئذ ينزل الإنسان عن إنسانيته التي يحرص الإسلام على أن يستبقيها فى كيان المخلوق الذي كرمه اللّه .. ومن أجل هذا كان تحريمها ..
فهذه المحرمات من المطعومات والمشروبات ، هى حماية للإنسان من أن ينزل عن إنسانيته ، واستعلاء به ، واستكمال للكمال المنشود له.
وكما يكون تحريم بعض الأطعمة والأشربة لطفا من ألطاف اللّه بالإنسان ، والاستعلاء به على الخبائث ـ يكون التحريم فى حال أخرى ، ضربا من الهوان والإذلال للإنسان ، وابتلاء وإعناتا له ، حين يدفع عن الطيب ، ويذاد عن الشهىّ ، نكالا له بما كسب من ظلم ، وما جنى من بغى .. فكان هذا العقاب له ، من واردات الظلم والبغي ، وإن لم يكن ظلما ولا بغيا ، ولكن هكذا يجزى الظالمون البغاة .. « ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ » (146 : الأنعام) فقد كانت المطاعم كلّها حلّا لبنى إسرائيل ، لم يحرّم عليهم شى ء منها إلا ما تعافه النفس ، وتزهد فيه .. ومع هذا فإنه كان إذا ورد واردهم على الميتة أو الدم أو لحم الخنزير ، أو الخمر ، فإنه لا إثم عليه فيه ، حيث لم يكن هناك حدّ شرعىّ ، يفرق بين طعام وطعام.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 531
و مع أن هذا الإطلاق يرفع الحرج عنهم فى أن يطعموا أي طعام يريدون ـ فإنه يحمل فى طياته الوقوف بهم عند مستوى من الإنسانية ، دون هذا المستوي الكريم ، الذي ندبت له الشريعة الإسلامية أتباعها ، فحرمت عليهم ما حرمت من مطاعم ، ولم تجعل ذلك إلى أتباعها ، يطعمون منها ما شاءوا متى شاءوا ، بل حرمت عليهم بعض الأطعمة تحريما قاطعا ، وأثمت من ينال منها إلا عند الاضطرار ، ودون مجاوزة حد الاضطرار.

(2/21)

لم تحرّم الشريعة على بنى إسرائيل شيئا مما يطعمون إلّا ما حرم إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ على نفسه من أطعمة استقذرها ، وعافتها نفسه ، فجعل ذلك حراما ملزما نفسه إياه! فلما جاء موسى عليه السّلام ، إلى بنى إسرائيل ، وطلع عليهم بآيات اللّه ، وملأ الحياة عليهم بالمعجزات .. ثم لم يكن منهم إلّا العناد ، والإغراق فى الضلال ، والمكر بآيات اللّه ـ فكان أن أخذهم اللّه بالبأساء والضراء ، وضرب عليهم التّيه فى الصحراء ، وابتلاهم بتحريم العمل فى يوم السبت ، فلم يطيقوا ، وعملوا فى هذا اليوم ، فرماهم اللّه باللعنة ، وجعل منهم القردة والخنازير! ثم ابتلاهم اللّه بما حرّم عليهم من طيبات الطعام ، التي ذكرها اللّه سبحانه فى القرآن الكريم ، والتي جاءهم بها موسى فى التوراة ، وبيّن اللّه فيها أنها نقمة وابتلاء ، وبلاء! كما يقول اللّه تعالى : « وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ » (146 : الأنعام).
ونقرأ الآية الكريمة ، التي تحدّث اليهود بما فى التوراة التي فى أيديهم ، عن تلك المطاعم التي حرمها اللّه عليهم ، نكالا وابتلاء ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 532
«كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ .. قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » .
ففى التوراة مثل ما فى القرآن من هذا الأمر .. ولكن القوم يكابرون ، وينكرون أن يكون فى التوراة شى ء من هذا الذي يحدثهم به القرآن.

(2/22)

و يمضى القرآن دون أن يلتفت إليهم .. إنه الصدق المطلق الذي يجدونه بين أيديهم ، وإن أنكروه بألسنتهم ، فهو يتحدث إليهم بصوت صارخ من التوراة : أن كذبتم وافتريتم .. فألجموا ألسنتكم ، ودعوا هذا الافتراء الذي أنتم فيه ..
«فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ »
!.
ولكن هيهات أن يكفّ القوم عن الكذب والافتراء .. وتلك بلية أخرى ، وداء يضاف إلى أدواء. ولا يقف القرآن ليسجل عليهم ما يثرثرون به ، من كذب وافتراء ، بعد كذب وافتراء ، بل يمضى فى طريقه ، يؤذّن بالحق ، ويدعو إليه من شاء أن يكون من أهله ..
«قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » ..
.. فإن ما ينطق به القرآن هو كلمات اللّه ، التي هى الصدق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وفى قوله تعالى : « فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » تعريض باليهود ، وبأنهم ليسوا على ملة إبراهيم التي يدّعون ـ زورا وبهتانا ـ أنهم عليها ، فإن إبراهيم كان حنيفا مسلما ، وهؤلاء ليسوا بالحنفاء ولا بالمسلمين ، ولكنهم كفروا وأشركوا ، وضلوا ضلالا بعيدا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 533
الآيتان : (96 ، 97) [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97]
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)
التفسير : فى هاتين الآيتين الكريمتين ما يكشف عن الأسس القويمة التي قام عليها دين اللّه ، بدءا وختاما ، فكان هو الإسلام فى مبدئه وختامه ..

(2/23)

فاولا : إبراهيم عليه السّلام ـ هو أبو الأنبياء ، ومن ذريته ، وعلى دينه ، داود ، وسليمان ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، وهرون ، وزكريا ، ويحيى ، وعيسى ، وإلياس ، وإسماعيل ، واليسع ، ويونس ، ولوطا ، ومحمد .. عليهم صلوات اللّه وسلامه ..
وثانيا : البيت الحرام الذي بمكة هو أول بيت وضع للناس ، فى هذه الأرض ، ليكون مصدر الخير والبركة ، ومعلم الهدى والنور للناس أجمعين.
ثالثا : هذا البيت الحرام ، كان مصلّى إبراهيم ومقامه ، ساقته العناية الإلهية إليه ، ليجدّد معالمه ، ويرفع قواعده ، ويعدّه لاستقبال الرسالة التي بدأها ، حين يتمّ تمامها ، وتبلغ غايتها على يد آخر المرسلين من أبنائه ، وهو محمد عليه الصلاة والسلام.
وهذا البيت الذي اتخذه إبراهيم مصلّى له ، هو بيت اللّه ، وهو أول بيت على هذه الأرض اتصل فيه الإنسان بربّه ، منذ طفولة الإنسانية الأولى ..
فلما اصطفى اللّه إبراهيم لرسالته ، دعاه إلى تجديد معالمه ، ورفع قواعده ، ولم يكن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 534
إبراهيم هو الذي أنشأه وأقامه .. فهو أقدم من إبراهيم بأزمان بعيدة ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ » (125 البقرة) ..
ففى قوله تعالى : « وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ » إشارة إلى أنه كان بيتا للّه قبل أن يعهد اللّه إلى إبراهيم وإسماعيل بتطهيره من الأوثان التي عبدها العابدون فيه .. ثم يقول اللّه تعالى : « وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ .. » (127 : البقرة).
وفى هذا إشارة أخرى إلى أن البيت كان قائما على قواعد ، وأنها كانت إلى عهد إبراهيم وإسماعيل قد تهدمت .. فكان عمل إبراهيم وإسماعيل فيها هو إقامتها على أصولها التي كانت عليها.

(2/24)

رابعا : فى اشتراك إسماعيل مع أبيه إبراهيم فى إقامة هذا البيت ، وتطهيره من الأوثان .. إعداد ـ كما قلنا ـ للرسالة المحمدية ، التي ستكون ميراثا خالصا له من أبويه الكريمين : إبراهيم وإسماعيل.
من هذا يبدو أن الرسالة الإسلامية المحمّدية كانت هى الفلك الذي تدور فيه رسالات الأنبياء والمرسلين ، وأنها الجامعة التي تجتمع إليها جميع الرسالات ، وتلتقى عندها ، كما أنها كانت هى المنبع الذي فاضت منه عيونها ، والكوكب الذي استمدت منه شعاعاتها .. فالرسالة الإسلامية المحمدية هى المبدأ والختام ، بدأت كما يبدو الهلال ، يكبر ليلة بعد ليلة ، حتى يتم تمامه ويصير بدرا ، ففى كل نبوّة ، وبين يدى كل نبى ، قبسة من أقباس الإسلام ، وضوءة من أضوائه ، حتى جاء صاحب الرسالة الإسلامية ، محمد ابن عبد اللّه ، فوضعها اللّه بين يديه ، على أتم تمامها ، وأكمل كمالها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 535
و قوله تعالى : « مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ » حالان لنائب الفاعل للفعل « وضع » أي وضع البيت مباركا وهدى للعالمين.
وقوله تعالى : « فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ » بيان للبركة التي شملت هذا البيت ، وللهدى الذي يفيض على الناس منه .. وتلك الآيات كثيرة .. منها أنه كان أقدم بنيّة للّه على هذه الأرض ، ومع ذلك ظل محتفظا بوجوده ، لم تذهب به الأحداث ، ولم يأت عليه الزمن كما أتى على آثار الأولين ، وعفّى على كل معلم من معالمها .. أما هذا البيت فهو أقدم معلم على هذه الأرض ، ومع ذلك فهو لا يزداد مع الأزمان إلا وضوحا ورسوخا .. حتى فى عهود الضلال والوثنية ..

(2/25)

كان له فى قلوب الوثنيين وفى عقولهم من الإجلال والتقديس ما له فى قلوب المؤمنين وعقولهم من إجلال وإكبار وتقديس! ومن الآيات القائمة فيه ، أنه كان ولا يزال أبدا حرما آمنا ، يجد عنده من يلوذ به من إنسان وحيوان وطير ، الأمن والسلامة ، فلا تمتد إليه يد بأذى ولا يناله أحد بمكروه ، توقيرا لهذا البيت ، وتكريما لمقامه الكريم .. حتى إن أشدّ الناس فتكا ، وأقساهم قلبا ، وأكثرهم إضرارا بالناس وأذى ، لا يجد فى نفسه القدرة على انتهاك حرمة هذا الحرم .. بل إنه سرعان ما يستولى عليه شعور الأمن والسلام ، وإذا هو أمن وسلام ، مع المؤمنين السالمين ، فى جوار الحرم الأمين.
ومن الآيات البينات فى هذا البيت أنه لا يزال أبدا مهوى الأفئدة ، ومجتمع الحجيج من مختلف الأمصار والأجناس والألسنة ، حتى إذا صارت إليه هذه الألوان المختلفة من الناس ، أحالها لونا واحدا ، وأوردها مشربا واحدا ، وجمعها على أمر واحد!.
وقوله تعالى : « وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ » هو خبر يراد به الأمر ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 536
أي أن اللّه سبحانه ، قد فرض على الناس أن يحجوا إلى هذا البيت ، وأن يذكروا اللّه فيه ، لينالوا حظهم المقسوم لهم من نفحاته ، وبركاته.
وكلمة « الناس » هنا تعنى النّاس جميعا ، لا تخصّ أمة من الأمم ، ولا تنحصر فى شعب من الشعوب ، إنها دعوة اللّه إلى كل النّاس ، أسودهم وأحمرهم ، وأبيضهم ، على السواء .. إنهم عباد اللّه ، والبيت بيت اللّه.

(2/26)

و فى قوله تعالى : « مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا » قيد وارد على الأمر العام المطلق بالحج ، فلا بد لنفاذ هذا الأمر ، من الاستطاعة ، فإذا فقد الإنسان الاستطاعة فلا حجّ عليه! والاستطاعة هنا استطاعة عامة ، تشمل القدرة المالية ، والقدرة الجسدية ، كما تشمل أمن الطريق ، وكما تشمل قبل ذلك كلّه ، الإيمان باللّه .. فغير المؤمن باللّه ، لا يتجه إلى بيته ، ولا يسعى إليه .. فهو فى حكم غير المستطيع ، إذ قام الكفر حجازا بينه وبين هذا البيت.
وفى قوله تعالى : « وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ » إشارة إلى أن الكافر صادّ عن بيت اللّه ، لا يستجيب لهذا الأمر الذي دعا اللّه فيه الناس جميعا ، أن يحجوا إلى بيته .. فكأنه جنس آخر غير جنس الناس المدعوين إلى بيت اللّه!
الآيتان : (98 ـ 99) [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 537
التفسير : دعا اللّه النّاس إلى أن يحجّوا إلى بيته ، ولكن الذين كفروا باللّه محجوزون بكفرهم عن إجابة هذا النداء .. فاللّه غنىّ عن العالمين! وأهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ من الذين كفروا بآيات اللّه ، فلم يدخلوا فى هذه الدعوة ، ولم يستجيبوا لها ، وقد أمر اللّه النبىّ الكريم أن يلقاهم بهذا السؤال الذي ينكر عليهم هذا الموقف الذي وقفوه من الدعوة الإسلامية وآياتها البينات ، خاصة وأنهم أهل الكتاب ، تلتقى دعوته مع دعوة الإسلام ، لو أنهم آمنوا بما فى كتابهم ، ولم يحرّفوا الكلم عن مواضعه ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ؟ » .

(2/27)

و فى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ » تهديد لهم ، ووعيد بسوء المصير ، جزاء أعمالهم المنكرة ، وكفرهم العنادىّ .. وذلك كلّه واقع فى علم اللّه ، الذي لا تخفى عليه خافية ..
ولو وقف أهل الكتاب بكفرهم عند حدّ ، وقصّروا هذا الكفر على ذات أنفسهم ، لكانت مصيبتهم مصيبة ، ولكنهم تجاوزوا هذا الموقف القاتل ، إلى إضلال غيرهم ، وإلى التشويش على المؤمنين ، وإفساد دينهم عليهم ، إذ يصدّون المؤمنين عن سبيل اللّه ، بما يلقون إليهم من أباطيل ، وما يسوقون إليهم من فتن .. إنهم لا يريدون لأحد أن يستقيم على سبيل اللّه ، لأنهم يعلمون أنهم على طريق الضلال ، وأنهم هالكون ، وإنه لعزيز عليهم أن يسلم الناس .. وإذن فليضلّ الناس كما ضلوا ، وليهلك الناس كما هلكوا .. وذلك شأن المفسدين ، إخوان الشياطين ، يغوون الناس ، ويزينون لهم سبل الفساد ، ليكون معهم من يصاب بما أصيبوا به ، وفى ذلك عزاء لهم ، وإنه لبلاء إلى بلاء! .. وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ » (69 : آل عمران)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 538
و يقول سبحانه : « وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً .. »
(89 : النساء)
الآيتان : (100 ـ 101) [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 101]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

(2/28)

التفسير : بعد أن كشف اللّه ـ سبحانه ـ أولئك الذين كفروا من أهل الكتاب ، وما يبيّتون للمؤمنين من مكايد وفتن ، ليفسدوا عليهم دينهم ـ دعا اللّه المؤمنين إلى أن يأخذوا حذرهم من هؤلاء الضالين المضلّين من أهل الكتاب : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ » .. والفريق المعنىّ هنا من أهل الكتاب ، هم العلماء منهم ، والذين يحسنون وسائل التضليل والخداع ، بما لهم من علم ، وفى قوله تعالى : « وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ » ، تنبيه للمؤمنين وتحذير لهم ، وتسفيه لمن تسوّل له نفسه منهم أن يستجيب لدعوة هؤلاء الضالّين ، ويعطيهم منه أذنا واعية ..
إذ كيف ينفذ هذا الضلال إلى قلب مؤمن ، وهو يستمع إلى آيات اللّه تتلى عليه ، ويرى بعينيه رسول اللّه قائما على رسالة السّماء ، يتلقى آياتها ، ويفيض على الناس منها؟ كيف ـ والأمر كذلك ـ يتحول عاقل من الناس من النور إلى الظلام ، ومن الهدى إلى الضلال؟ إن ذلك لن يكون إلا من أحمق ، أو سفيه ، أو مجنون!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 539
و في قوله تعالى : « وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » توجيه إلى الطريق الذي ينبغى أن يستقيم عليه العاقل ، ويلتزمه ، وهو الإيمان باللّه ، والاعتصام به من وسوسة الضالين ، وكيد المبطلين ، فذلك هو الذي يعصم المؤمن من الزلل ، ويحميه من الضلال ، وفى هذا نجاته وسلامته.
الآيتان : (102 ـ 103) [سورة آل عمران (3) : الآيات 102 الى 103]

(2/29)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
التفسير : بعد أن حذّر اللّه ـ سبحانه ـ المؤمنين ، فى الآيتين السابقتين (100 ، 101) من أن يأمنوا جانب تلك الجماعة المنحرفة من أهل الكتاب ، التي تدبّر لهم الشر ، وتحيك لهم الضلال ، لتفسد عليهم دينهم ، ولتفتنهم فيه ـ بعد هذا توجّه سبحانه بهذا النداء الكريم إلى المؤمنين فى خاصة أنفسهم ، ليحذرهم من العدو الخفي ، بعد أن حذّرهم من العدو الظاهر.
وهذا العدو الخفي ، هو النفس ، ونزعاتها ، وأهواؤها ، تلك الأهواء والنزعات التي إن تسلطت على الإنسان أفسدته وأهلكته ، وكانت أشدّ وبالا عليه من أعدى أعدائه الذين يراهم رأى العين! وفى هذا النداء الكريم ، يدعو اللّه المؤمنين أن يتقوه حق تقواه ، وأن يأتمروا بما أمرهم اللّه به ، وأن ينتهوا عما نهاهم عنه ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 540
و قد فسّر بعض المفسّرين تقوى اللّه حق تقاته ، بالتقوى التي تتناسب مع جلال اللّه ، وكماله ، وعظمته .. وهذا مقام لا يستطيعه بشر من البشر ، ولا خلق من خلق اللّه.

(2/30)

و لهذا رأى هؤلاء المفسرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » (16 : التغابن) والواقع أنه لا تعارض بين الآيتين ، وإذن فلا تناسخ بينهما! ذلك أن معنى قوله تعالى « اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ » الاجتهاد فى عبادته ، وفى طاعته ، على قدر ما تسع نفس الإنسان وتحتمل ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » (233 : البقرة). وهو ما تشير إليه الآية الكريمة : « فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ » .. فالتقوى على قدر الاستطاعة هى التقوى حقّ التقوى ، وهى المناسبة لقدر الإنسان ولحظّه من الكمال المقدور له .. وعلى هذا ، فالناس على منازلهم من تقوى اللّه ، كل حسب وثاقة إيمانه وقوة عزيمته ، لا على حسب ماللّه من كمال وجلال ، فذلك مالا يبلغه إنسان .. أما ما ينبغى للّه من قدر وكمال فلن يبلغ أحد ذرة منه! وحسب الإنسان لكى يكون من عباد اللّه ، أن يؤمن باللّه أولا ، وأن يجتهد فى عبادته وطاعته ما استطاع ، وإن فاته شى ء من التقوى والعبادة ـ وهذا ما لا بد أن يكون ـ فلن يفوته سلامة معتقده فى اللّه ، وإخلاصه فى الإيمان بوحدانيته ، ثم الموت على هذا المعتقد ـ فإن فاته ذلك فقد حبط عمله ، وضلّ سعيه ، وأورد نفسه موارد الهالكين.
وبعد أن ثبت اللّه قلوب المؤمنين على الإيمان ، دعاهم دعوة أخرى ، وهى أن يكونوا جبهة واحدة فى وجه الأعداء المتربصين بهم .. فقد عرف المسلمون آثار الفرقة فيما كانوا عليه هم وآباؤهم فى الجاهلية ، من عداوة وبغضاء ، ومن خلاف وشقاق ، الأمر الذي ملأ قلوبهم خوفا ، وغمر ديارهم فقرا وحزنا!.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 541
«

(2/31)

وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً ، وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها .. »
هكذا كان المؤمنون ، ثم هكذا أصبحوا .. كانوا أعداء فألّف اللّه بين قلوبهم ، فأصبحوا بنعمته إخوانا. وكانوا عبدة أوثان وأصنام ، وفى شرك وضلال يهويان بالمشركين الضالين إلى مهاوى السعير .. وكان هؤلاء الذين أدركهم الإسلام من مشركى الجاهلية على حافة الهاوية ، فأنقذهم اللّه ، إذ دخلوا فى الإسلام ، وكانوا من المسلمين! فليذكر المسلمون هذا الذي كانوا فيه .. فإن لم يذكروه فى أنفسهم ذكروه فى آبائهم وأجدادهم .. ثم ليذكروا هذه النعمة السابغة التي أضفاها اللّه عليهم بالإسلام ، ثم ليحفظوا هذه النعمة ، وليحرصوا عليها ، وليحرسوها من الآفات التي تطلع عليها من آفاق شتى .. وبهذا يسلم لهم دينهم ، وتسلم لهم أنفسهم.
الآيات : (104 ـ 107) [سورة آل عمران (3) : الآيات 104 الى 107]
وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 542

(2/32)

التفسير : علماء أهل الكتاب هم الذين أفسدوا على الناس دينهم ، فغيروا ، وبدلوا ، وحرفوا .. وهذه خيانة للّه ، وخيانة للعلم ، إذ كان العلماء هم ورثة الأنبياء ، وهم المؤتمنون على دعوة السماء ، بعد الرسل ، يعلّمون الجاهلين ، ويهدون الضالين ، ويقيمون المنحرفين ، فإذا تحول العلماء أنفسهم إلى أدوات هدم وتدمير فى المجتمع ، كانت المصيبة قاصمة مهلكة! من أجل هذا ، كانت دعوة اللّه سبحانه وتعالى إلى الأمة الإسلامية ، أن تندّب منها أمة ، أي جماعة ، يتولون قيادة الناس ، وهدايتهم إلى سبل الرشاد ..
فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر .. وبهذا يقومون فى المجتمع مقام الأطباء ، الذين يرصدن الآفات والأمراض التي تعرض للناس ، فيعملون على دفعها ، والقضاء عليها .. ويمكن أن يكون قوله تعالى : « وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » دعوة للأمة الإسلامية كلها أن تكون على تلك الصفة .. أمة تدعو إلى الخير ، وتأمر بالمعروف ، وتنهى عن المنكر. ويكون معنى « من » فى « منكم » للبيان لا للتبعيض ، وهذا ما يناسب قول اللّه تعالى بعد هذه الآية : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ. »
(110 : آل عمران) وسواء أ كان الأمر موجها إلى الأمة الإسلامية كلها ، أو إلى جماعة العلماء المتخيّرة فيها ، فإنّ معطيات هذا الأمر واحدة ، حيث تكون الأمة كلها منقادة للقيادة الرشيدة فيها ، وهى جماعة العلماء العاملين بعلمهم ، الداعين إلى الخير ، الآمرين بالمعروف ، والناهين عن المنكر ، وبهذا تصبح الأمة كلها على هذا الطريق المستقيم.
وإذ يأمر اللّه تعالى الجماعة الإسلامية بهذا ، فإنه يحذّرها من أن تذهب مذاهب
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 543

(2/33)

الجماعات المنحرفة من أهل الكتاب الذين تفرقوا واختلفوا ، ولم يقم من بينهم راشدون ، يقومون فى وجه تلك الانحرافات ، وهذه الاختلافات ، فكان أن ضلّوا جميعا ، وهلكوا جميعا!! وهكذا شأن الجماعات التي تفقد القيادة الرشيدة .. لا يستقيم لها طريق ، ولا تستقر لها حال .. إنها أشبه بالغنم ليس لها راع يوردها موارد العشب والماء ، ويدفع عنها عادية الذئاب والسباع ..
وقوله تعالى : « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ » الظرف هنا متعلق بقوله تعالى : « وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ .. » أي أنهم يعذبون عذابا أليما فى هذا اليوم ، يوم الحساب والجزاء .. يوم تبيضّ وجوه وتسودّ وجوه ..
وابيضاض الوجوه واسودادها ، كناية عن البهجة والنعيم الذي يعلو وجوه المؤمنين ، والخزي والسوء الذي يحيط بالكافرين ، فى ذلك اليوم العظيم.
وفى قوله تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ » بيان لما أجمل فى قوله تعالى : « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ » .
ولم يجى ء هذا التفصيل مرتبا على حسب ما جاء فى المجمل قبله ، إذ كان الترتيب يقضى بأن يبدأ بالذين ابيضت وجوههم ، حيث بدئ بهم أولا.
والذي جاء عليه النظم القرآنى ، هو البيان المبين ، الذي هو سمة الإعجاز من كلام ربّ العالمين ، فقدّم أولا الذين ابيضت وجوههم وهم المؤمنون ، لأن ذلك كان تعقيبا على ذكر الأمة الإسلامية ، وما ينبغى لها أن تصون نفسها عنه ، مما وقع فيه أهل الكتاب من فرقة وخلاف ، كان لعلمائهم فيه الدور الأول .. ثم ذكر إزاء هذه الصورة صورة أهل الكتاب ، وما يكون عليهم حالهم يوم القيامة : « يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ » المؤمنين « وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ » الكافرين من أهل الكتاب! .. وفى هذا ما فيه من تطمين للأمة الإسلامية ، وترسيخ لأقدامها على الإيمان ، والوحدة والألفة.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 544

(2/34)

فإذا جاء تفصيل هذا الإجمال ، ووقع تأويله ، وسيق الناس إلى الحساب والجزاء قدّم أولئك الكافرون ، ليقفوا موقف المذنبين للمحاكمة ، ولم يمهلوا ، وذلك إشعار لفظاعة جرمهم ، وشناعة ذنبهم ، الذي يقتضى تعجيل الجزاء السيّ ء الذي ينتظرهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ » (87 ، 88 : آل عمران).
وفى التعجيل بعرض هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب ما يدخل الطمأنينة على المؤمنين ، الذين ينتظرون دورهم فى ساحة الحكم .. فهذا الحكم الذي يقضى به على هؤلاء الكافرين فيه براءة ضمنية لغيرهم من المؤمنين ، ولكنها براءة مشوبة بالخوف ، محفوفة بالخشية .. فإذا جاء بعدها هذا الرضوان الذي يفتح لهم أبواب الجنات ، وما يلقون فيها من نعيم ـ زادهم ذلك نعيما إلى نعيم ، ورضوانا إلى رضوان ..
«فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » .
وانظر كيف كانت مساءلة الكافرين ، وكيف كان خزيهم وعيّهم عن ردّ الجواب « أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ » .. ثم انظر كيف كان الجواب على هذا السؤال : « فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » وفى قوله تعالى : « أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ » إشارة إلى أن هؤلاء الكافرين هم أهل الكتاب الذين تحولوا من الإيمان إلى الكفر ، وهم الذين أشار إليهم اللّه سبحانه وتعالى فى قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ » (91 : آل عمران)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 545

(2/35)

و فى قوله تعالى : « فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ » إشارة ثانية إلى هؤلاء الكافرين من أهل الكتاب الذين كذّبوا بمحمد ، وكفروا بآيات اللّه التي بين أيديهم ، فيما تحدّث به عنه.
والمعنى : فذوقوا العذاب بسبب هذا الذي كنتم تكفرون به ، وهو « محمد » وما تحدثكم به التوراة عنه.
ثم انظر بعد هذا ، وفى الجانب الآخر من الصورة ، تجد المؤمنين وقد انتقلوا من هذا الموقف ، موقف المحاكمة ، فى لحظة خاطفة ، دون أن يسألوا ..
فإذا هم فى رحمة اللّه هم فيها خالدون .. « وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » .
الآيتان : (108 ، 109) [سورة آل عمران (3) : الآيات 108 الى 109]
تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
التفسير : يبين اللّه سبحانه لنبيه الكريم فى هاتين الآيتين الكريمتين لطفه به وبعباده ، وأنه سبحانه يخاطبه بلسان الحق ، وينزّل عليه آياته بالحق ، ليهتدى بها الضالون ، ويعلم منها الجاهلون ، وبذلك لا يكون للنّاس على اللّه حجة بعد هذا البلاغ المبين ، ولا يكون لقائل منهم أن يقول ما حكاه اللّه عنهم فى قوله تعالى :
«رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » (47 : القصص) .. فإذا أخذ اللّه بعد ذلك مذنبا بذنبه كان ذلك هو الحكم الذي ينبغى أن يدين به العاقل نفسه .. « وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ » لأنه لو شاء سبحانه أن يعذب الناس جميعا ـ محسنهم ومسيئهم ـ لما كان لأحد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 546

(2/36)

أن يجاحّ اللّه فى هذا ، أو يدفع عن نفسه ما يريد اللّه به .. ولكنّ رحمة اللّه سبحانه بعباده ، اقتضت أن يرسل إليهم رسله ، يحملون إليهم آياته واضحة بيّنة ، تهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم « فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ، وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها » (104 : الأنعام) وقوله تعالى : « وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ » هو بيان لما للّه على النّاس من سلطان ، وأنه يحكم فيهم ولا معقّب لحكمه ، وأنه آخذ بنواصيهم جميعا ، فإليه مرجعهم ، وبين يديه حسابهم : « إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ » (25 ـ 26 : الغاشية).
[مبحث : الخير .. فى خير أمة أخرجت للناس ]
الآية : (110) [سورة آل عمران (3) : آية 110]
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)
التفسير : مما يكبت الضّالين من أهل الكتاب ـ وخاصّة اليهود ـ أن يروا نعمة من نعم اللّه تلبس أهل الإسلام ، وخاصة إذا كانت تلك النعمة بين أطواء آية من آيات اللّه ، المنزلة على رسول اللّه ، لأنهم يعلمون أن ذلك حق لا ريب فيه ، وأن تلك النعمة إن لم تكن قد أتت فهى آتية لا ريب فيها ، وهذا مما يضاعف حسرتهم ، ويملأ قلوبهم غيظا وكمدا ..
وإذ تلقّى المسلمون قوله تعالى : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » بالتهليل والتكبير ، وبالثناء المستطاب على اللّه أنّ منّ عليهم بهذا الفضل ، فرفع قدرهم بين الأمم ، وأعلى شأنهم فى العالمين ـ فإن أهل الكتاب ـ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 547

(2/37)

و خاصة اليهود ـ قد صعقوا لهذه الآية ، ودارت رءوسهم بها ، وزلزلت أقدامهم منها ، وأيقنوا أنهم لن يلحقوا بالمسلمين ، ولن يقوموا لهم أبد الدهر! وفى قوله تعالى : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » وفى التعبير بلفظ الماضي « كنتم » ما يشير إلى أن هذا الحكم الذي حكم به اللّه على هذه الأمة ، بأنها خير أمة أخرجت للناس ـ ليس محدودا بزمن من أزمانها ، ولا مخصوصا بحال من أحوالها .. وإنما هو حكم عام مطلق ، يشمل الأمة الإسلامية كلها ، فى كل أزمانها ، وفى جميع أحوالها ، من عهد النبوة إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها .. إنه حكم للأمة الإسلامية فى ماضيها وحاضرها ، ومستقبلها. وإن تلقته فى أول وجودها ، وفى ساعة مولدها .. « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ! هذا هو حكم اللّه فيما أحاط به علمه ، وفيما قدّره لكل أمة من أجل ، ومن رزق!.
وفى قوله تعالى : « أُخْرِجَتْ » تنويه آخر بشأن هذه الأمة ، وأنها هى المولود الكامل ، الذي تمخضت عنه الإنسانية كلها .. ولن تلد مثله أبد الدهر!.
وفى قوله سبحانه : « أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » تنويه ثالث بتلك الأمة ، فإنها لم تخرج من الناس ، ولكنها « أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » وكأنها بهذا من معدن غير معدن الناس ، ومن عالم غير عالم الناس ، جاءتهم هكذا من عالم الغيب ، وأخرجت لهم من حيث لا يتوقعون .. من صحراء مجدبة قفر ، ومن مجتمع أمّى غارق فى الجهالة! ، فقادت ركب الإنسانية ، وحررتها من قيود العبودية والظلم.
هذا هو مكاننا ـ أمة الإسلام ـ الذي ندبنا اللّه له ، وأحلّنا فيه ، وأقامنا عليه ..
وإنه لن يزحزحنا عن هذا المقام زمان ، ولن يحتله مكاننا أحد ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 548
و إننا ـ أمة الإسلام ـ على أي حال كنّا ، وفى أسوأ وجود لنا ـ خير أمة أخرجت للناس!.

(2/38)

و إن ميزاننا مهما خفّ فى هذه الحياة فهو أثقل من ميزان أية أمة ، وإن بدا فى ظاهرها أنها أقوى قوة ، أو أكثر مالا ، وأعزّ نفرا!.
ذلك ما ينبغى أن نؤمن به إيمانا راسخا كإيماننا باللّه .. وإلا كنا مكذبين بآياته ، منكرين ، أو منتكرين لكتابه! إننا ـ أمة الإسلام ـ أشبه بالذهب ، بين المعادن الأخرى .. قيمته دائما فيه ، حتى ولو علا بريقه التراب ، وغبّر وجهه دخان الزمن .. إنه الذهب على أي حال.
فليكن ذلك شعورنا بأنفسنا ، وإيماننا بمكانتنا فى هذه الحياة .. ثم ليكن منّا ما يقابل هذا الشعور ، وذلك الإيمان ، من جدّ ، ومن تحصيل لكل معانى الإنسانية الكريمة ، ومثلها الرفيعة ، فذلك هو الذي يحقق كل معانى الخيرية فينا ، ويعرض للناس وللحياة أكمل الكمال منّا ..
ومع هذا ، فإنه لن ينزع عنا هذا الفضل الذي فضل اللّه به على هذه الأمة ما يلمّ بنا من ضعف أو يعرض لنا من فتور ، أو يقع فى محيطنا من انحراف .. فتلك كلها عوارض لا تمسّ الصميم منا ، ولا تنقض حكم اللّه لنا .. فنحن ـ على أية حال نكون عليها ـ « خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » .
ولسنا بهذا ندعى ما يدّعيه اليهود لأنفسهم من أنهم « شعب اللّه المختار » .
فنحن شى ء ، واليهود شى ء.
نحن تلقّينا كرامة اللّه وفضله .. واليهود رموا بغضب اللّه ولعنته!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 549

(2/39)

ذلك أن اللّه سبحانه ، أفاض على اليهود من أفضاله ، ومنحهم من نعمه ما لم يمنحه أحدا من العالمين .. امتحانا وابتلاء. فلما مكروا بآيات اللّه ، وعصوا رسله ، وقتلوا من قتلوا من أنبيائه ، وأعنتوا من أعنتوا منهم ـ أخذهم اللّه بالبأساء والضرّاء ، وساق إليهم نقمه ، وشملهم بسخطه ، وصبّ عليهم لعنته ـ وفى هذا يقول اللّه تعالى فيهم : « فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ » (13 : المائدة).
أما نحن ـ أمة الإسلام ـ فقد فضل علينا بهذا الفضل ، وجعله حكما قائما فينا أبدا : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ولن ينقض أبدا هذا الحكم الذي حملته كلمات اللّه.
وقوله تعالى : « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » بيان للصفات التي استحق بها المسلمون أن يكونوا « خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » فمن رسالة هذه الأمة ألا تحتجز الخير لنفسها ، ولا تستأثر به حين يقع ليدها ، بل تجعل منه نصيبا تبرّ به الإنسانية كلها ، وتشرك الناس جميعا معها ، فيه.
ذلك شأنها فى كل خير تصيبه .. فإذا أصاب المسلم مالا ، جعل فيه للفقراء والمساكين نصيبا ، وآتى منه ذوى القربى واليتامى ، وأنفق منه فى سبيل اللّه ، وفى إعلاء كلمة الحقّ .. وإذا أصاب هدى من اللّه ، وعرف طريقا إلى الحق ، لم يجد لذلك مساغا إلا إذا وجّه الناس إليه ، ودلّهم عليه ، ولو احتمل فى سبيل ذلك الضرّ والأذى ، وعرض نفسه للتلف والهلاك ، شأن الطبيب
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 550

(2/40)

الذي يرى وباء يفتك بالناس ، ويذروهم كما تذرو الرياح الهشيم .. إنه ـ والحال كذلك ـ ينسى نفسه ، ويدخل فى معركة مع هذا الوباء ، غير حاسب حسابا لما قد يقع له من سوء ، ولو كان فى ذلك ذهاب نفسه! هكذا هو موقف الأمة الإسلامية من الخير الذي ساقه اللّه إليها ، على يد الرسول الكريم ، مما تلقّى من بركات السماء ، ورحماتها. « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » كما جاءكم رسول اللّه يأمركم بالمعروف وينهاكم عن المنكر .. وفى هذا يقول اللّه تعالى « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ » .
وفى قوله تعالى : « تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » قدّم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان باللّه ، الذي هو مقدّم على كل عمل طيب ، حيث لا يطيب العمل ، ولا يقبل ، إلا مع الإيمان ..
فكيف يؤخر الإيمان هنا ، عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؟
و الجواب عن هذا من وجهين :
أولا : أن اللّه سبحانه وتعالى إذ وصف هذه الأمة هذا الوصف الكريم ، وحكم لها هذا الحكم القاطع اللازم ، لم يصفها هذا الوصف ولم يعطها هذا الحكم إلا وهى على الإيمان ، مجتمعة هى عليه ومشتملا هو عليها .. فهى ليست مطلق أمة ، وإنما هى أمة مسلمة ، تلك الأمة التي كانت استجابة من اللّه لدعوة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، إذ يقولان كما حكاه القرآن عنهما :
«رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ » (138 : البقرة).
ثانيا : ذكر الإيمان باللّه هنا لم تكن داعيته وصف هذه الأمة بأنها مؤمنة باللّه ـ إذ كان إيمانها باللّه ، معروفا مقدرا من قبل ، وإنما داعية
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 551
ذكره فى القرآن أنه إيمان على صفة غير ما عليه إيمان المؤمنين من أهل الكتاب!.

(2/41)

و الإيمان باللّه الذي عليه الأمة الإسلامية ، هو إيمان برى ء من كل شائبة من شوائب الشرك ، وخلص من كل نزغة من نزغات الشك .. إنه إيمان مصفّى ، يرى فيه المؤمن وجه الحق واضحا مشرقا ، إذ لا يتكلف له المؤمن جهدا فى الوصول إليه ، ولا تنقطع أنفاسه فى الدوران حوله ، لأنه قريب ، قريب ، يراه العامة والفلاسفة على السواء .. إنه : « لا إله إلا اللّه وحده لا شريك له ، له الملك ، وله الحمد ، يحيى ويميت ، وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » ذلكم اللّه ربّ العالمين ، وهو ما يقوم به وعليه إيمان المسلمين .. بلا فلسفه ، ولا كهنة ، ولا أحبار ، ولا رهبان .. إيمان يطمئن إليه قلب الرّاعى بين غنمه ، والزارع وراء محراثه ، كما يطمئن إليه قلب العالم فى معمله ، والفيلسوف فى محراب فلسفته! إيمان بديهة .. لا تكدّ ذهنا ، ولا تشتت خاطرا ، ولا تزعج وجدانا.
وليس كذلك إيمان المؤمنين من أهل الكتاب .. إنه إيمان مرهق معقّد ، مركّب على قضايا من المقولات الفلسفية والمنطقية ، المبنية على معطيات مما وراء الطبيعة ، التي تدور بها رءوس العامة ، وتضطرب لها عقول العلماء .. فإذا آمن مؤمنهم باللّه كان بينه وبين اللّه حجب كثيفة من هذه المقولات ، التي لا يستطيع أن يرى اللّه من خلالها إلّا محاطا بضباب كثير من الشك والارتياب!! فإيمان المسلمين باللّه ، إيمان .. وإيمان أهل الكتاب باللّه إيمان .. وبين الإيمانين بعد بعيد ، وبون شاسع .. ومن هنا كان ذكر إيمان المسلمين فى هذا المقام تنويها بهذا الإيمان ، وعزلا له عن إيمان المؤمنين من أهل الكتاب ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 552
ذلك الإيمان المشوب غير الخالص من العلل والآفات ، ولهذا جاء قوله تعالى :
«وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ » جاء بعد « قوله تعالى :

(2/42)

وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » داعيا أهل الكتاب أن يؤمنوا إيمانا مصححا مجددا ، كإيمان المسلمين .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ » .
وقد كشف القرآن الكريم عن حقيقة الإيمان الذي عليه أهل الكتاب .. فقال تعالى : « وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ » (13 : البقرة) أي أنهم إذا دعوا إلى الإيمان باللّه إيمانا بعيدا عن المماحكات والسفسطات ، وعن الألغاز والطلاسم ، التي تعمّى على الناس السبيل إلى الطريق المستقيم ـ إذا دعوا أن آمنوا كما آمن الناس ، إيمانا سمحا سهلا واضحا ـ أبوا وقالوا أ نؤمن كما آمن السفهاء من الجهلة والعامّة؟
و قالوا فى أنفسهم : كيف يهتدى أحد إلى اللّه من هذا الطريق القريب؟
إنّ اللّه بعبد بعيد ، متستر فى حجب جلاله وبهائه ، فلا تناله الأبصار ، ولا تدركه العقول ، وإنه لا بد ـ والأمر كذلك ـ من دراسات وفلسفات ، وبحوث مضنية مرهقة ، حتى يمسك الدارسون ، والفلاسفة والباحثون بأذيال هذه الحقيقة الكبرى! هكذا زيّن لهم سوء عملهم فرأوه حسنا.
وقال تعالى أيضا مشيرا إلى أهل الكتاب وإلى إيمانهم : « وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ » (8 : البقرة) إنه إيمان مشوب بالشك ، ومختلط بالضلال .. فلا يعدّ ، ولا يحسب فى الإيمان الصحيح بحال أبدا.
وفى قوله تعالى : « مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ » إشارة إلى أن قلّة قليلة من هؤلاء المؤمنين من أهل الكتاب قام إيمانهم على التسليم ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 553

(2/43)

و لم يقم على الوساوس والهواجس ، والضرب فى متاهات لا يهتدى السالك فيها إلى سواء السبيل أبدا .. أما الكثرة الكثيرة من أهل الكتاب فهم كما قال اللّه : « وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ » أي هم مؤمنون ولكنهم فى الوقت نفسه « فاسقون » أي خارجون على الإيمان.
الآيتان : (111 ـ 112) [سورة آل عمران (3) : الآيات 111 الى 112]
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)
التفسير : إنهم هم اليهود .. وإنّ آيات اللّه لتكشف المستور من أمرهم ، وتفضح المتوقع من خزيهم فى خط مسيرتهم مع المسلمين فى الحياة.
إنهم يكيدون دائما للإسلام والمسلمين ، لأن داء الحسد الذي يغلى فى صدورهم لا يسكن أبدا.
وكيف يسكن وهم يعلمون عن يقين أن المسلمين قد ظفروا من الكتاب الذي فى أيديهم بخير الدنيا والآخرة .. وأن هذا الكتاب كان ينبغى أن يكون لهم ، كما كانت كتب اللّه من قبل كلها فيهم؟ وأما وقد سبقهم العرب إلى هذا الكتاب فليفسدوه عليهم ، وليعزلوا المسلمين عنه! وفى قوله تعالى مخاطبا المسلمين : « لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً » .
أولا : إلفات للمسلمين أن يأخذوا حذرهم من اليهود ، الذين لا يكفّون أبدا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 554
عن السعى فى تدبير الكيد للمسلمين ، وتوجيه الضّرّ إليهم ، ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

(2/44)

ثانيا : تطمين المسلمين ـ حالا ومستقبلا ـ مما يدبر اليهود لهم من كيد خبيث ، ومكر خسيس ، وأن غاية ما يبلغه اليهود من كل ما يكيدون وما يمكرون ، لا يتجاوز « الأذى » الذي مهما بلغ لا يبلغ حدّ الخطر والتلف .. وسيظل المسلمون ـ رغم كل شى ء ـ على الصحة والسلامة أبدا ، وإن أصابهم الضرّ ومسّهم الأذى ، فإن كيانهم سيظل سليما معافى ، لا ينال منه هذا الضرّ ، ولا يؤثر فيه هذا الأذى.
هذا فى معركة الكيد ، والدسّ ، التي هى الميدان الذي يحسن فيه اليهود العمل .. فإذا انتقل اليهود إلى ميدان آخر ، وهو ميدان القتال ، واشتبكوا مع المسلمين فى حرب ، فإنّهم لا يلقون إلا الخزي والخذلان .. « يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ » .. هذا حكم اللّه فيما يقع بينهم وبين المسلمين من قتال .. النصر دائما للمسلمين ، والهزيمة دائما لليهود .. وإنه لا بد من وقفة هنا ..
فإن وجه الأحداث المطل علينا فى هذه الآية ، قد يطالع منه بعض الناس شيئا آخر غير الذي تطالعنا الآية الكريمة به ، والذي نتأولها نحن عليه.
يشتبك المسلمون مع اليهود اليوم فى معركة (يونيه 1967 ـ محرم 1387) قد جمع لها اليهود كل كيدهم ومكرهم ، وجلبوا لها كل ما استطاعوا من عتاد ، وحشدوا فيها كل من على شاكلتهم فى العداوة للإسلام ، والكراهية للمسلمين ..
وقد أخذوا جيوش المسلمين على غرّة ، فكان لهم من هذا نصر معجّل ، تخلى فيه المسلمون عن مواقع كثيرة من أوطانهم ، فى سيناء ، وسوريا ، والأردن ..
وتوقف القتال .. استعدادا لمعركة قادمة فاصلة ..
ونكتب هذا ، ونحن فى شهر (أكتوبر 1967 ـ رجب 1387)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 555
و ما زال الموقف جامدا فى الظاهر .. ولكنه يتحرك فى خفاء لالتحام قريب! ولا ندرى متى يكون هذا اليوم الذي نلتحم فيه مع اليهود .. ولكن الذي نؤمن به ولا نشك فيه ، هو ما وعدنا اللّه به ، من النصر على اليهود دائما ..
«

(2/45)

وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ » .. فالنصر آت لا ريب فيه ، وإنه لنصر يلبس اليهود ثوبا جديدا من أثواب الذلة التي ضربهم اللّه بها! وقد يبدو لبعض الناظرين إلى هذا الحدث ، من خلال المدافع ، وبين دخانه وضبابه ـ أن يتأول الآية الكريمة ، وأن يرفع حكمها العام المطلق ، ويرتفع به إلى الماضي البعيد ، وإلى ما كان بين اليهود والنبىّ من قتال ، أخزى اللّه فيه اليهود ، وكبتهم ، وأنزلهم من صياصيهم ، وقذف فى قلوبهم الرعب ، فاستسلموا للهزيمة ، ونزلوا على حكم النبىّ فيهم ، فقتل من قتل ، وسبى من سبى ، وأجلى من أجلى .. حتى إذا كانت خلافة عمر بن الخطاب لم يكن اليهود إلا جماعات متفرقة فى الجزيرة العربية ، لا تملك غير الكيد والدس ، ولا تعيش إلا على الكذب والنفاق ، فأجلاهم عن الجزيرة العربية جميعا!! قد يبدو لبعض المتأولين أن يتأول الآية الكريمة على هذا الوجه ، ويقف بها عند حدود الزمن الذي نزلت فيه ، ويجعل أسباب نزولها مقيدا بهذا الوقت .. وذلك ليحمى كلام اللّه من المجازفات التي تنجم عن تعميم هذا الحكم الذي تحمله ، والذي قد لا تجى ء الأيام بتصديقه ، خاصة وأن محامل الآية الكريمة تقبل هذا الوجه من التأويل ولا تردّه! فمالنا إذن لا نقبل هذا التأويل؟ ولم نغامر تلك المغامرة الخطرة بآية من آيات اللّه ، ونحمّلها مالا تحتمل ، لنتخذ منها أملا يدفى ء صدورنا ، ويطمئن قلوبنا ، ويخفف آلام جراحنا التي نعانيها من هذا الحدث الذي نعيش فيه ، فى مرارة ، وألم ، وقلق؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 556
أو من أجل هذا تبلغ بنا الجرأة على كتاب اللّه ، فنبيعه بهذا الثمن البخس؟

(2/46)

و ما ذا تركنا لليهود إذن؟ وما ذا يحول بيننا وبين أن نتعرض لما تعرضوا له من سخط اللّه وقد اشتروا بآياته ثمنا قليلا؟. « فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ » (79 : البقرة).
وإنه ليس ثمة فرق بعد أن يفترى مفتر على اللّه ، آية .. فيقول : هذا من عند اللّه ، وبين أن يحمل آية من آيات اللّه على هواه ، فيغير وجهها ، ويحرّم حلالها ، ويحلّل حرامها! واللّه سبحانه وتعالى يقول متوعدا اليهود :
«وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ () مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » (116 ـ 117 : النحل).
أ فمن أحل هذا المتاع القليل الذي نجد فيه من ريح الآية الكريمة أنسا لوحشتنا ، وأملا فى محنتنا .. أ فمن أجل هذا ، نرد هذا المورد ، ونجازف تلك المجازفة المهلكة؟
و كلّا ، فإنا أحرص على أنفسنا من أن تلمّ بما يعرّضها لموقع من مواقع سخط اللّه ، خاصة ونحن نسعى بين يدى كتابه الكريم ، ابتغاء مرضاته ، وطلبا للمزيد من إحسانه وفضله! أ فنرجع إذن عن هذا الذي ذهبنا إليه ، فى حمل الآية الكريمة على عمومها ، من أن النصر الذي وعد اللّه به المسلمين على اليهود هو وعد دائم مستمر ، غير موقوت بوقت ، أو موقوف على واقعة بعينها ـ أ فنرجع إذن ونعود بالسلامة والعافية .. من قريب؟
و كلّا .. مرة أخرى ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 557
فإنا مطمئنون إلى فهمنا للآية الكريمة ، واثقون من معطياتها التي لا تتخلف أبدا ..

(2/47)

بل وأكثر من هذا .. إننا ندعو إلى أن يفهمها المسلمون جميعا هذا الفهم الذي فهمناها عليه ، وأن ينتظروا تأويلها فى الأيام المقبلة كما ننتظره .. فإن أخلفهم من الآية هذا الوعد ، وإن وجدوا لهذا الإخلاف غمزة فى دينهم ، أو حرجا منه فى صدورهم ، أو خلخلة له فى قلوبهم ـ فالحكم اللّه بينى وبينهم! ولن يخزينا اللّه أبدا .. ولن يخلفنا وعده الذي وعد! وكيف؟
و اللّه سبحانه وتعالى يقول فى اليهود ، بعد هذه الآية الكريمة ، مؤكدا وعده الذي وعدنا ..
«ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ » .
فهذا الحكم عام شامل غير محصور بمكان ، أو مقيد بزمان! « ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ » والتعبير بضرب الذلة عليهم فيه إحكام لهذا الحكم الواقع بهم ، وأن الذلّة التي رماهم اللّه بها ، ذلة متمكنة ، مختلطة بوجوهم ، كما يختلط لون الجلد بالجلد .. لا يتغير ولا يتبدّل أبدا! وفى قوله تعالى : « أَيْنَما ثُقِفُوا » حكم قاطع بمصاحبة الذلة لهم ، أينما وجدوا ، وأينما كانوا ، فى كل موطن ، وفى كل زمن! هكذا هم فى ذلة وهوان ، أبد الدّهر .. ذلة فى أنفسهم ، وذلة بأيدى من يذلّونهم من عباد اللّه المسلطين عليهم. فإن نجوا من هذه الذلة التي يسوقها الناس إليهم ، لم يخرجوا من تلك الذلة المستولية على طبيعتهم! وقوله تعالى : « إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ » .. الحبل العهد والعقد .. والمعنى : ضربت عليهم الذلة أبدا ، إلّا أن يدخلوا مع المسلمين
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 558
فى عهد اللّه ، وذمة المسلمين ، فيكونوا بذلك من أهل الذمّة ، وتفرض عليهم الجزية ، فيعطونها عن يد وهم صاغرون .. وهنا يرفع عنهم المسلمون الأذى والذلة التي أخذوهم بها. ولكن مع هذا لا يتخلّى عنهم روح الذلة المتسلط عليهم من داخل أنفسهم ، لأن ذلك طبيعة فيهم ، ولعنة من لعنات اللّه صبّها عليهم ..

(2/48)

و قوله تعالى : « وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ » بيان للحال التي يكونون عليها ، بعد أن يدخلوا فى ذمة المسلمين بعهد اللّه وعهد المسلمين.
فهم وإن رفعت عنهم يد المسلمين بعد هذا العهد الذي دخلوا به فى ذمتهم ، وإن رجعوا وقد أمنوا بطش المسلمين بهم بعد هذا العقد ، فإنهم يرجعون ومعهم غضب اللّه الذي رماهم به ، ومعهم المسكنة التي فرضها عليهم وابتلاهم بها ..
وهكذا يعيش اليهود أبدا فى كل زمان ومكان فى ذلة وفى مسكنة ، ذلة ومسكنة تلبسهم ظاهرا وباطنا .. إن سلم لهم ظاهرهم فى حال ، فلن يسلم لهم باطنهم فى أي حال .. إنها لعنة اللّه « وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً » .
وفى قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ » تعليل لهذا العقاب الأليم الذي أخذهم اللّه به ، والذي أجراه فيهم مجرى الدم فى عروقهم ، فكان ميراثا خبيثا ، ينتقل فى الخلف بعد الخلف إلى أن يرث اللّه الأرض ومن عليها ، وهو خير الوارثين! من هذا كله نستطيع أن نقرر فى إيمان وثيق ، ثقتنا فى صدق الكتاب الذي فى أيدينا ، وفى صدق كل كلمة ، وكل حرف ، من كلمات رب العالمين ، وحروفها ـ أن ما بيننا وبين اليهود سينتهى بما حكم اللّه به عليهم ، وهو أنهم « لا يُنْصَرُونَ » وأن الذلة والمسكنة مضروبة عليهم إلى يوم الدين ، وأن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 559

(2/49)

هذه الصحوة التي تبدو على ظاهرهم فى هذه الأيام ليست إلا صحوة الموت ، يرتدون بعدها ثوبا جديدا من أثواب الذلة والمسكنة ، وذلك بلاء إلى بلاء ، وعذاب فوق عذاب .. فإنه ليس أشق على نفس المكروب من أن تهبّ عليه نسمة من نسمات العافية ، ثم تعصف به بعدها عاصفة عاتية ، وتلقى به بعيدا إلى أسوأ مما كان ، ثم يتنفس نفس الحياة .. ثم تضربه موجة عاتية من موجات البلاء .. وهكذا يتردد بين الحياة والموت .. فلا يجد الحياة ، ولا يستريح بالموت .. وذلك هو العذاب الذي يعذّب اللّه به أصحاب النار ..
«كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ » (56 : النساء).
فهذا الذي تعيش فيه إسرائيل اليوم هو فترة ما بين استبدال جلد بجلد ، وذلة بذلة .. ليذوقوا العذاب ، وليطعموه ألوانا فى الدنيا .. ولعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون! وبعد ، فإننا على موعد ، مع نصر اللّه ، ولن يخلف اللّه وعده ..
«وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ » ويومئذ يعلم الذين لا يعلمون ، أن دين اللّه حق ، وأن رسول اللّه حق ، وأن ما نزل على الرسول حق .. ويومها يتجلّى وجه الإسلام مشرقا ، وتطلع شمسه غير محجبة بضباب أو سحاب ، فتعمر بالإسلام القلوب ، وتشرق بنوره الآفاق « وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ » (8 : الصف) وهكذا يصنع اللّه للإسلام ، فيجعل له من الضيق فرجا ، ومن البلاء عافية ، ومن الشر خيرا ونعمة!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 560
الآيات : (113 ـ 115) [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115]

(2/50)

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
التفسير : ذكر القرآن الكريم « أَهْلِ الْكِتابِ » فى كثير من المواقف ، وأدانهم فى كثير منها ، وكشف موقفهم من رسالة الإسلام ، ومن رسول الإسلام ، هذا الموقف العنادىّ القائم على الكيد ، والتربص! وإذ كان أهل الكتاب ، هم اليهود والنصارى ، فقد فرق القرآن بين الفريقين ، إذ كان موقفهم من الإسلام والمسلمين مختلفا ..
كان اليهود فى وجه عداوة ظاهرة وخفيّة لدعوة الإسلام ولرسول الإسلام ، كما كانوا على كلمة سواء فى الكيد لها والمكر بها .. على حين كان النصارى على درجات متفاوتة فى موقفهم من تلك الدعوة .. تلقّاها بعضهم فآمن بها ، ودخل فيها ، وصار من أهلها .. وتلقاها بعض آخر متوقفا مترفقا ، ومباعدا مقاربا .. أما أكثرهم عنادا وأشدهم مجافاة ، فقد أنكر الدعوة ، ونأى بنفسه عنها .. لا ينالها بسوء ، ولا تناله هى بخير! ولهذا جاء قوله تعالى : « لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ » (82 ـ 83 المائدة) ..

(2/51)

جاء قول اللّه هنا محددا موقف كلّ من الفريقين من الإسلام.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 561
فاليهود أشد الناس عداوة للذين آمنوا ، وهم والمشركون على سواء فى هذه العداوة ، مع أنهم أهل كتاب ، يلتقى كتابهم ونبيهم مع كتاب الإسلام ونبىّ المسلمين ، بنسب قريب ، قريب.
والنصارى ـ لأنهم أهل كتاب ـ هم أقرب الناس مودة للذين آمنوا ، إذ خلت نفوسهم من الحقد والحسد للناس ، ولأنهم لا يرون احتجاز الخير السماوي عليهم وحدهم ، حيث سمحت النصرانية لأن يدخل فيها الناس جميعا من جميع الأجناس والشعوب ، على حين احتجزت اليهودية ما نزل من خير سماوى على اليهود .. لا يسمحون لأحد من غير اليهود أن يدين بدينهم أو أن يصبح فى المؤمنين به.
وفى قوله تعالى : « لَيْسُوا سَواءً » .. تفرقة بين هاتين الفرقتين من أهل الكتاب .. اليهود والنصارى ، وأنهم ليسوا على وضع واحد فى موقفهم من الإسلام والمسلمين.
وإذا كانت الآية الكريمة قد فرقت بين الفرقتين ، فإنها لم تحدد أي الفرقتين من أهل الكتاب هو المتّجه إليه الحكم فى قوله تعالى « مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ » .
وفى إطلاق الحكم هكذا بحيث يدخل فيه الفريقان معا ، حكمة ، نتبين منها :
أولا : أنّ فى كلا الفريقين من أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ جماعات قائمة على الحق ، مؤمنة باللّه وباليوم الآخر ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 562

(2/52)

ثانيا : كثرة كثيرة من النصارى يتجه إليهم هذا الحكم .. وقلة قليلة جدا من اليهود يدخلون فى هذا الحكم أيضا .. كما يعلم ذلك من حال الفريقين الذي كشفه القرآن فى الموقف الذي أشارت إليه الآيات التي ذكرناها من سورة المائدة.
ثالثا : من صدق القرآن ، ودقة أحكامه ، أنه لم يجعل الحكم مطلقا فى النصارى ، ولم يخرج منه اليهود جميعا بلا استثناء .. إذ لا تخلو فرقة من الفرقتين من أخيار وأشرار ، وإن غلب الأخيار فى النصارى ، وغلب الأشرار فى اليهود .. بمعنى أنه ليس كل النصارى على إطلاقهم يقفون من الإسلام هذا الموقف المترفّق المسالم ، وليس كل اليهود ـ بلا استثناء فرد أو عدة أفراد ـ يكيدون للإسلام هذا الكيد ، ويمكرون به هذا المكر الذي يعيش فيه اليهود مع الدعوة الإسلامية.
وفى قوله تعالى : « وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ » وصف كاشف للنصارى ، إذ كان دينهم يدعوهم إلى التبشير به وإذاعته فى الناس ، وليس كذلك اليهود ، وما يفهمون من دينهم ـ كما أشرنا إلى ذلك فى أكثر من موضع.
وقوله تعالى : « وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ » تتمّة لهذا الحكم الذي حكم به اللّه لهم ، وهو أنهم إذ عدّوا فى المؤمنين باللّه فإن كل عمل خير يعملونه يتقبله اللّه ، ويجزيهم عليه ، وليس كذلك أعمال المشركين .. إن الشرك أحبطها ، وحرم أهلها ثمرة قبولها عند اللّه .. « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (27 : المائدة) وملاك التقوى ، الإيمان باللّه وباليوم الآخر.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 563
الآيتان : (116 ـ 117) [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117]

(2/53)

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
التفسير : الحكم الواقع على الذين كفروا هنا عام ، يشمل الكافرين جميعا ، وإن كان يتجه أول ما يتجه إلى الكافرين من أهل الكتاب ، الذين تحدثت عنهم الآيات السابقة ، لأنهم كفروا مع ما فى أيديهم من هدى ، وطرحوا ما معهم من إيمان : بخلاف الكافرين أصلا .. وإن كان الكفر هو الكفر ، إلا أن بعضه أشدّ من بعض سوءا ، وأبغض وجها.
فهؤلاء الكافرون من أهل الكتاب ، ومن غير أهل الكتاب ، سيلقون جزاء كفرهم يوم القيامة ، حيث يلقون فى نار جهنم خالدين فيها أبدا ، وحيث لا يدفع عنهم هذا العذاب ما كان لهم فى الدنيا من مال وولد ، وإن ملأ وجه الأرض كثرة وعددا! أما هذه الأعمال التي عملوها فى هذه الدنيا ، واحتسبوها فيما هو للخير ، فلن يجدوا لها أثرا يوم القيامة .. إن كفرهم باللّه قد أحبطها ، وأبطل آثارها ..
فهى أشبه بزرع تعب فيه زارعوه ، وبذلوا له ما بذلوا من جهد ، وفيما هم فى انتظار جنى ثمره ، جاءته ريح عاصف فأتت عليه ، وأصارته هشيما ، لا ينتفع بشى ء منه.
وقوله تعالى : ِيحٍ فِيها صِرٌّ »
أي ريح تحمل فى كيانها قوى التدمير
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 564
و الإتلاف .. والصّرّ هو البرد الشديد الذي يبلغ من شدته أن يحرق الزرع كما تحرق النار.
وفى قوله تعالى : َصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ »
،

(2/54)

إشارة إلى أن الظلم يحيط بأهله فى الدنيا وفى الآخرة جميعا .. وأن للظالمين عند اللّه عقابا معجلا ، وآخر مؤجلا ، ليكون فى ذلك عبرة ماثلة للناس ، يرون فيها نقم اللّه لمن حادّ اللّه وحاربه!
الآيات : (118 ـ 120) [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
التفسير : فى هذه الآيات يحذّر اللّه المؤمنين أن يأمنوا جانب هؤلاء الذين يكيدون لهم ولدينهم ، ويبيّتون السوء للرسالة الإسلامية ، ويصدون الناس عنها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 565
و البطانة هم الذين يدنيهم الإنسان منه ، ويتخذهم موضع سرّه ، فيطلعهم على ما يخفيه ويبطنه عن غيرهم.
وقوله تعالى : « لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ » أي لا تركنوا إلى أحد من غير دينكم ، ولا تقاربوه هذه المقاربة التي يمكن أن يطلع منها على مواطن الضعف فيكم ، فيكيد لكم.

(2/55)

و فى قوله تعالى : « لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا » إشارة إلى السبب الداعي إلى الحذر من مخالطة هؤلاء الذين يعادون الإسلام ويكيدون له .. إنهم يجهدون كل جهدهم فى النيل من المسلمين .. لا يقصّرون فى أمر فيه نكاية بالمسلمين ، وخبال لهم ، وإضعاف لشأنهم.
وفى قوله تعالى : « وَدُّوا ما عَنِتُّمْ » إشارة ثانية إلى ما فى قلوب هؤلاء القوم من كراهية للمسلمين .. يتمنون لهم ما يعنتهم ويثقل كاهلهم من هموم وآلام.
وفى قوله تعالى : « قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ » بيان شارح لتلك الأسباب التي تجعل المسلمين على حذر من هؤلاء القوم ، وأمارة دالة على حقيقة تلك الأسباب .. فعلى ألسنة القوم ومن أفواههم تتساقط الكلمات المسمومة ، التي يصوبونها فى خبث ودهاء إلى الإسلام والمسلمين ، وليس هذا الذي يتساقط من أفواههم إلا شيئا قليلا مما تنطوى عليه قلوبهم من حسد وغيظ ، وما تفيض به مشاعرهم من عداوة وبغضاء.
وفى قوله تعالى : « ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ » يضبط اللّه سبحانه وتعالى أولئك المسلمين الذين ظلوا على ولائهم وصداقتهم لهؤلاء الأعداء ، ويقدمهم للمسلمين متلبسين بفعلتهم تلك المنكرة ، ويريهم بأعينهم مدى الغبن الذي
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 566
أصابهم من تلك الصحبة .. إنهم يحبون من لا يحبهم ، بل ومن يبيّت لهم الشر ، ويدبر العدوان! وقوله تعالى : « وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ » إشارة ثانية إلى تلك الصحبة غير المتكافئة ، فالمسلمون الذين يوادّون هؤلاء القوم ، يؤمنون بالكتاب كله ، أي بكتب اللّه المنزلة على رسله ، وهى فى مجموعها كتاب واحد ، هو كتاب اللّه ـ وهؤلاء القوم لا يوادّون المؤمنين ، ولا يؤمنون إلا بالكتاب الذي فى أيديهم ، ويكفرون بجميع الكتب السماوية ، ومنها القرآن.

(2/56)

و قوله : « وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ » سبب ثالث للمباعدة التي ينبغى أن تكون بين المسلمين وبين هذه الجماعة .. إنها تعيش مع المسلمين على نفاق .. يعطونهم بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم .. يظهرون لهم أنهم على دينهم ، وأنهم على وفاق معهم .. فإذا خلا بعضهم إلى بعض لبسوا الثوب الذي أخفوه فى طيات نفاقهم وملّقهم ، وأخذوا يدبّرون المكايد والمعاثر للإسلام وللمسلمين.
وفى قوله تعالى : « قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ » ما يملأ قلوب هذه الجماعة المنافقة اللئيمة كمدا وحسرة .. إنها لن تنال من الإسلام والمسلمين منالا ، كما أن فى هذا تطمينا للمؤمنين ، بهذه البشرى السماوية التي كتب اللّه بها النصر للإسلام وأهله ، والخزي والسوء على أعدائه ومناوئيه.
وفى قوله تعالى : « إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً » إرهاص بما سيصيب المسلمين فى جهادهم فى سبيل اللّه ، من نصر وهزيمة .. وأنهم فى حال انتصارهم على أعدائهم تفيض نفوس هذه الجماعة المنافقة حسرة وألما ، وفى حال هزيمتهم تطير قلوبهم فرحا وطربا ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 567

(2/57)

و فى التعبير عن الإصابة بالخير بلفظ المسّ ، والتعبير عن الإصابة بالشر بلفظ الإصابة ، ما يكشف عن مدى السقوط والتدلّى من مشارف الإنسانية العالية إلى الحضيض والوحل! فالمسّ بالخير ، مجرّد المسّ ، وهو الشي ء القليل يصيب المسلمين ، يفزع له اليهود ويضطربون ، وتغلى مراجل نفوسهم غيظا وكمدا .. فكيف لو أصاب المسلمون من الخير شيئا كثيرا مما وعدهم اللّه به؟ إن ذلك مما يذهب بنفوس القوم مذاهب التّلف! وإصابة المسلمين بالشر ، ينزل بهم ، ويعمّهم بالبأساء والضراء .. ينظر إليه هؤلاء القوم نظرا يملأ نفوسهم بهجة ، ويغمر قلوبهم رضى .. ولو كانوا على شى ء من الإنسانية والمروءة لخفّوا لنجدة المكروبين ، وبادروا إلى إغاثة المصابين ، فإن لم يكن هذا ولا ذاك فلا أقل من نظرة عطف وإشفاق ، أو حسرة وألم ، فإن لم يكن هذا ولا هذا أيضا فليكن موقف جمود وخمود .. أما أن يجد الإنسان فى هذا الموقف مشاعر تتحرك فرحا وبهجة ، وتتناغى شماتة وغبطة ، فذلك هو الذي لا يعرف فى إنسان غير إنسان اليهود! الخير القليل .. القليل جدا ، يمسّ المسلمين مسّا ، يحسدونهم عليه ، وتختنق صدورهم به ، حتى لتقتلهم الحسرة ويميتهم الكمد! والشر يصيب المسلمين إصابات قاتلة ، ويرميهم بالمهلكات .. يجد فيه هؤلاء القوم سعادة ورضى ، ولذة وسرورا.
ألا ما أخسّ الإنسان وأحقره ، حين يتعرّى من مشاعر الإنسانية ، وتشتمل عليه طباع حيّة خبيثة ، أو نفس شيطان رجيم! بل ما أخسّ الإنسان وأحقره ، حين يعيش فى مسلاخ إنسان من هؤلاء الناس!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 568
و الموقف الحكيم الذي ينبغى أن يقفه المسلمون إزاء هذه الجماعة ، هو ألا يشغلوا أنفسهم بها ، ففى ذلك تعويق لهم ، وتفويت لخير كثير كان يمكن أن يحصلوا عليه بهذا الجهد الذي يبذلونه فى شغل أنفسهم بها ..

(2/58)

و خير من هذا وأكثر عائدة على المسلمين هو أن ينظروا إلى أنفسهم ، وأن يقيموها على ما أمرهم اللّه ، فذلك هو الذي يحصل لهم الصبر والتقوى ، وهى القوة التي لا تغلب أبدا .. من ظفر بهما فقد ظفر بنصر اللّه وتأييده ..
أما هؤلاء المنافقون فأمرهم إلى اللّه .. « إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ » .
هذا ، ولم تشر الآيات إلى تلك الجماعة التي كشفت عن مساوئها وحذرت المسلمين أن يوادّوهم ويأمنوا جانبهم .. ذلك أن هذه الصفات هى علامات مميزة ، وسمات معينة لجماعة معروفة من الناس ، هم اليهود ، لا يشاركهم غيرهم فى هذه الصفات .. ومن هنا كان فى ذكرها غنى عن ذكرهم ، كما فيه تشهير بهم ، وتشنيع عليهم ، بوضعهم هذا الموضع ، الذي إذا ذكرت فيه سيئة علقت بهم ، وأشارت إليهم.
الآيتان : (121 ، 122) [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 122]
وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
التفسير : القتال الذي تشير إليه الآية هو القتال الذي حدث فى معركة أحد ، وقد أصيب فيها المؤمنون بعدد غير قليل من الشهداء والجرحى ، كما ستشير الآيات التالية إلى هذا الحدث ، وما وقع فيه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 569
و مناسبة هذه الآية لما قبلها ، هى أن اليهود الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به ، قد وجدوا فيما أصاب المسلمين يوم « أحد » مقالا يقولونه فيهم وفى أمداد السماء التي أمدهم اللّه بها يوم بدر ، والتي عدّها اليهود مزاعم وأباطيل .. فلما كان ما أصيب به المسلمون فى يوم أحد ، أظهر اليهود الشماتة ، وأخذوا يلقون إلى أسماع المنافقين ومن فى قلوبهم مرض بالشكوك والريب فى أمر محمد ودعوته ..
وهذا ما حدّث القرآن الكريم عنه فى الآية (120) قبل هذه الآية :
«

(2/59)

إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها .. » ..
وقوله تعالى : « وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ » تذكير للنبىّ والمسلمين بغزوة أحد ، وما كان فيها من أحداث ، حيث أصيب المسلمون ، وابتلوا فى أنفسهم ، وكان فى هذا ما أشمت اليهود والمنافقين ، وأطلق ألسنتهم بقالة السوء فى الإسلام ، ونبى الإسلام ، وهو ما حدّث عنه قوله تعالى :
«وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها » .
وفى غزوة أحد خرج النبي من أهله غدوة ، أي مبكرا ، ليلقى قريشا وجموعها التي أقبلت حتى أشرفت على المدينة ، عند جبل « أحد » .. وهناك بوّأ النبيّ المؤمنين مقاعد للقتال ، ووضع كل جماعة فى مكانها من المعركة.
وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » تذكير للمسلمين ، وتحذير لغيرهم من المشركين والمنافقين ، من قدرة اللّه على كشف ما فى الصدور ، حتى لتصير الخواطر كأنها أصوات تسمع ، أو كأنها مسطورات ترى وتقرأ .. فلا تخفى على اللّه خافية ، مما يدور فى الصدور من خير أو شر.
وقوله تعالى : « إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا » هو من أنباء ما فى الصدور التي كشف عنها علم اللّه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 570
ففى جيش المسلمين وقع فى بعض النفوس شى ء من التردد والخوف ، وكاد ذلك يكون واقعا يدفع صاحبه إلى الفرار من المعركة قبل وقوعها.
وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما » بيان لرحمة اللّه ولطفه بهاتين الطائفتين من المؤمنين ، إذ ربط على قلوبهم ، وجلى عنهم خواطر الشك والريب ، وثبّت أقدامهم على طريق الجهاد ، فسلم لهم دينهم ، وكان للمسلمين منهم قوة وعونا فى مواجهة العدو.
والهمّ بالشي ء تحديث النفس به ، ومراودة صاحبها عليه ، دون أن يتخذ مظهرا عمليّا.

(2/60)

و لم يذكر القرآن الكريم اسم هاتين الجماعتين اللتين همّتا هذا الهمّ السي ء. لأن رحمة اللّه تداركتهما ، فلم يقع منهما ما يسوء ، وكان من تمام رحمة اللّه ولطفه بهما أن ستر عليهما هذا الهمّ الذي همّتا به! ثم انظر فى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما » وكيف ترى أن ولاية اللّه لهما قد ألقت عليهما سترا من بهاء وجلال ، فكانا من أولياء اللّه وأنصار اللّه.
«اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ » (257 : البقرة) فهل مع لطف اللطيف ورحمة الرحيم يبقى على الإنسان ذنب أوحوب؟ وكلا ، ثم كلا! وكعادة المفسّرين ، فى مثل هذه الأمور التي يذكر فيها القرآن الأحداث مطلقة ، من غير تحديد أزمانها أو أمكنتها ، أو أشخاصها ، حيث لا تؤثر الأزمان ولا الأمكنة ولا الأشخاص فى العبر والعظات المستخلصة من الحدث ـ نراهم يجهدون الجهد كله فى البحث عن متعلقات الحدث ، من زمان ومكان وأشخاص ، يجلبونها من كل واد ، ويلتقطونها من كل فم ، ثم يلقونها بين يدى الحدث جثثا هامدة ، مستجدية مستخزية!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 571
و هنا ذكر المفسرون مقولات كثيرة فى هاتين الطائفتين ، ولو أخذ بتلك المقولات جميعها لشملت المسلمين كلهم ، من مهاجرين وأنصار! ونحن نحترم صمت القرآن هنا ، ولا نقول من هما هاتان الطائفتان ـ لأنا لا ندرى على وجه اليقين من هما ، ولو درينا لم نر داعية للقول ـ وحسبنا أن نعلم من هذا الحدث أمورا .. منها.
أولا : أن المؤمن لا يخلو فى حال من أن تطرقه وساوس سوء ، أو تدور فى نفسه نزعات شر.

(2/61)

و ثانيا : أن صدق الإيمان ، وإخلاص النية يصلان الإنسان بربه ، فيجد من أمداد لطفه ورحمته ، ما يأخذ بيده إذا عثر ، ويشد من عزمه إذا ضعف ، وفى هذا يقول اللّه فى يوسف ـ عليه السّلام ـ وقد جاءته أمداد السماء ، فصرفت عنه السوء الذي كاد يلمّ به : « وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ » (24 : يوسف).
ثالثا : أن ما يهمّ به المؤمن من سوء ، وما تحدثه به نفسه من وساوس الشر ، لا يؤاخذ عليه ، حتى يتحول هذا الهمّ وتلك الوساوس إلى عمل ، يؤثّر أثره فى الناس ، وفى الحياة.
على أن الاستسلام لهواجس الشر ، والاستماع الطويل لوساوس السوء ، قد يمكّن لها فى كيان الإنسان ، ويعطى لها سلطانا عليه ، بحيث تصبح يوما فإذا هى مالكة زمام الإنسان ، موجهة له ..
وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يخلى نفسه من تلك الوساوس ، فإنه يستطيع أن يصرفها عنه كلما طرقته ، وألا يعطيها شيئا من قلبه أو غقله ، بل يشغلهما بما هو أجدى وأولى.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 572
الآيات : (123 ـ 126) [سورة آل عمران (3) : الآيات 123 الى 126]
وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

(2/62)

التفسير : بعد أن استحضرت الآيتان (121 ، 122) المقدمات الأولى لمعركة أحد ، إذ غدا النبىّ خارجا منزله إلى حيث يلقى العدو ، الذي وقف عند مشارف المدينة ، يفكر فى دخولها ولقاء المسلمين فيها ، أو محاصرتهم داخلها إلى أن يخرجوا للقائه .. ولكن رأى النبي وأصحابه كان قد انتهى ـ بعد مشاورات كثيرة كادت تؤدى إلى فرقة وانقسام فى صفوف المسلمين ـ انتهى إلى لقاء العدو ـ خارج المدينة عند « أحد » .
نقول ـ بعد أن استحضرت الآيتان السابقتان ، هذه المقدمات الأولى للمعركة ، جاءت آيات القرآن الكريم بعد هذا مباشرة ، تحدّث المسلمين بمعركة بدر التي كانوا قد خاضوها منذ عام ، مع هذا العدو الذي جاء إليهم بعدد عديد ، وعتاد كثير ، على حين كانوا هم فى أعداد قليلة ، وعدة هزيلة ، ولكن اللّه أيدهم بنصره ، وكيب الهزيمة والخزي والخذلان على عدوهم.
وفى إثارة هذه الأحداث من معركة بدر فى خواطر المسلمين ، وهم على
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 573
مشارف معركة جديدة توشك أن تبدأ بينهم وبين هذا العدو ، الذي عرفوه ، وذاقوا طعم النصر عليه ، ورأوا رأى العين أمداد السماء لهم يومئذ ـ فى إثارة هذه الأحداث ، فى هذه اللحظة الحاسمة ، ما يطمئن الخواطر المضطربة ، وما يقطع على المسلمين هذا الجدل المحتدم بينهم ـ فى لقاء العدو ، داخل المدينة أو خارجها.
ذلك ليعرفوا أن مكان لقاء العدو ليس هو العامل الأول فى المعركة ، وليس العدد ولا العتاد هو كل شى ء فى كسب النصر ، وإنما السلاح العامل أولا وقبل كلّ شى ء فى بلوغ النصر ، هو الإيمان باللّه ، وتوجيه القلوب إليه ، وإخلاص النية فى الجهاد فى سبيله ، فذلك هو الذي يجعل ميزان المؤمن يرجح عشرة من غير المؤمنين فى ميدان الحرب.

(2/63)

و ليس ذلك بالذي يعفى المؤمنين من النظر فى إعداد العدة للقاء العدو ، واتخاذ الحيطة والحذر منه ، وسدّ المنافذ والثغرات التي ينفذ منها إليهم ، فهذا كلّه وكثير غيره ، هو من عدد النصر وأسلحته ، التي يجد منها المؤمن قوة ، إلى قوة إيمانه وتوكله على اللّه.
وقوله تعالى : « وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ » صورة قوية نابضة بالحياة ، تجمع فى كلماتها القليلة تلك ، كل مشاهد المعركة ، وتستحضر كل أشخاصها ، ومشخصاتها ، من بدئها إلى خاتمتها.
وأول ما يذكر المسلمون عن هذا اليوم ، وأهمّ ما يجدونه فى خواطرهم منه ، أنهم انتصروا نصرا حاسما ، من حيث كان لا يرجى لمثلهم نصر فى هذه الموقعة ، لقلة عددهم ، وضالة عدّتهم ، مع كثرة عدوّهم ، وقوة عدده! وهنا أمر لا يدع لأحد شكّا حتى عند من لا يؤمنون باللّه ، هو أن يدا قوية غير منظورة لأحد ، هى التي أدارت تلك المعركة ، وقلبت أوضاعها ، وبدّلت موازينها!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 574
و الذلّة التي وصف القرآن بها المسلمين هنا ليست ذلّة نفسيّة ، ولا ضعفا قلبيا ، وإنما هى ذلّة حاجة وعوز ، وقلة فى المال والرجال ، بحيث يخفّ ميزان أصحابها فى أعين الناس ، حين ينظرون إلى ظاهرهم هذا ..
فوصف المؤمنين بالذلّة هنا ، إنما هو وصف للحال الظاهر منهم للناس .. أما فى حقيقة أنفسهم ، فهم من إيمانهم باللّه ، وثقتهم فيه ، وتوكلهم عليهم واستعلائهم على حاجات الجسد ، ومتاع الحياة ـ هم فى عزّة عزيزة ، تستخف بكل قوى المادة وعتوّها.
وقوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » تعقيب على هذه النعمة التي أنعم اللّه بها على النبىّ وأصحابه ، يوم بدر ، فمكّن لهم من رقاب أعدائهم ، ومنحهم النصر عليهم ، ذلك النصر الذي لم يتوقعه أحد ..

(2/64)

فحقّ على المؤمنين أن يزداد إيمانهم باللّه ، وإقبالهم عليه ، حتى يبلغ بهم هذا الإيمان وذلك الإقبال منازل المتقين ، وعن هذه التقوى يكون الشكران للّه على ما أنعم عليهم .. بل إن هذه التقوى فى صميمها هى شكران للّه أعظم الشكران وأكمله ، فما شكر اللّه ، ولا حمده ، ولا عرف فضله وقدره من لم يتّقه حق تقواه ، فيأتى ما استطاع من أوامره ، ويجتنب ما استطاع من نواهيه.
فإنه بغير التقوى تكون العبادات والطاعات مجرّد مظاهر جوفاء ، لا ثمرة لها ، ولا جزاء عليها .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ » (27 : المائدة).
وقوله سبحانه : « إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ » هو عرض وتذكير لما كان فى يوم بدر من أمداد السماء للمسلمين ، حين بشرهم الرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بأن اللّه ممدّهم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين من عالمهم العلوىّ ، ليشاركوا فى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 575
معركة الحق ، ولينصروا أنصار اللّه ، المجاهدين فى سبيله.
وقوله تعالى : « بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ » هو تأكيد لهذا الوعد الكريم من اللّه تعالى الذي تحقق يوم بدر بهذا المدد السماوي ، والذي شهد المسلمون آياته يوم بدر .. ثم هو عرض لوعد آخر معلّق على ما يكون عند المؤمنين من صبر وتقوى ، فإن كان منهم هذا لم يكن المدد السماوي ثلاثة آلاف ملك وحسب ، بل إن اللّه سبحانه وتعالى سيمدهم بخمسة آلاف فى هذه المعركة التي توشك أن تنشب بينهم وبين المشركين ، فى أحد.
والملائكة المسوّمون : هم المعلّمون ، أي لهم شارات يعرفون بها.
وهنا سؤال :

(2/65)

ما هذا المدد السماوىّ؟ وما هى صورته؟ وكيف يكون عمله فى المعركة؟
و هل يكون على هيئة الرجال ، أو الفرسان .. أو بين الرجال والفرسان؟
أم ماذا؟
و الجواب على هذا من وجوه :
أولا : أنه يجب التصديق تصديقا مطلقا بما أخبر به القرآن ، وأن الملائكة قد كانوا بالأعداد التي ذكرها للّه ، وأنهم كانوا جندا مع جنود اللّه فى تلك المعركة.
ثانيا : أن هذا المدد السماوىّ كان روحا من عند اللّه ، لبست المؤمنين ، وأحاطت بهم ، فكانت قوة راسخة فى قلوبهم ، ودروعا حصينة على صدورهم ، وسيوفا قاطعة فى أيديهم! وما كان لهذه القوى أن تظهر عيانا للناس ، وإلا كانت فتنة لهم .. ولكن يجد المؤمنون أثرها فى أنفسهم ، كما يجد المشركون مسّها الرعب لقلوبهم!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 576
ثالثا : تجسيد هذه القوى السماوية للمسلمين فى الخبر الذي أخبروا به ، وتحديد أعدادها ، هو لتطمين قلوب المؤمنين ، وتثبيت أقدامهم.
رابعا : أن هذه القوى السماوية لو جسّدت لكانت رجالا وفرسانا ، ولو عدّت لكان حسابها فى الرجال والفرسان بثلاثة آلاف من المقاتلين.
خامسا : فى قوله تعالى : « وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ » إشارة إلى أن هذا التجسيد ، وتحديد العدد لتلك القوى السماوية التي تعمل معهم ، إنما هو لتطمين قلوبهم ، وليكون لهم من فرحة هذه البشرى قوة يرون منها خاتمة هذه المعركة قبل بدئها ، وأنهم هم المنتصرون.
سادسا : كانت أعداد المسلمين يوم بدر نحو ثلاثمئة ، وكان حساب المسلم فى قتاله للمشركين يومئذ بعشرة منهم كما يقول اللّه تعالى : « إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ » (65 : الأنفال) ..

(2/66)

فالمسلمون الذين قاتلوا يوم بدر وإن كانوا ثلاثمائة ، هم فى قوتهم ، وفى حسابهم فى المقاتلين ثلاثة آلاف ..!
و على هذا ، فإن لنا أن نفهم أن هذه الثلاثة آلاف التي كانت مددا من السماء يوم بدر ، قد كانت قوى سماوية ، وأرواحا علوية لبست المسلمين ، فإذا كل رجل منهم عشرة رجال! بل عشرة أرواح علوية سماوية ، بل عشرة ملائكة .. « وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَ ما هِيَ إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ » (31 : المدثر).
هذا ، وقد جاء فى سورة الأنفال فى غزوة بدر قوله تعالى : « إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 577
إِلَّا بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ »
(9 ـ 10 : الأنفال).
وهنا نجد المدد السماوىّ ألفا من الملائكة لا ثلاثة آلاف ، ولكن فى قوله تعالى : « بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » وفى وصف الملائكة بالمردفين ـ ما يشعر بأن وراءهم أمدادا أخرى ، تجى ء مرادفة لهم ، وفى أعقابهم ، ويؤيد هذا قراءة السّدّى : « أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ » .
كذلك يجي ء التعقيب على هذا المدد السماوي ، بأنه لم يكن إلا بشرى للمؤمنين وتطمينا لقلوبهم ، كما جاء ذلك فى آية آل عمران التي نحن بين يديها الآن! وقوله تعالى : « وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ » وقوله فى سورة الأنفال :
«

(2/67)

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى » بزيادة « لكم » هناك ، لاختلاف المقامين .. حيث أن الخطاب فى آية الأنفال كان والمسلمون يواجهون الحدث مواجهة واقعية ، ويتلقون بشريات السماء وهم مشتبكون مع العدو ، فلا حاجة إلى تعيينهم بقوله سبحانه « لكم » على خلاف ما جاء فى آية آل عمران ، إذ كان نزولها والمسلمون مقدمون على حرب المشركين ، فى أحد ، فجاءت هذه الآية مع أخواتها لتذكرهم بفضل اللّه عليهم فى يوم بدر ، فكان التعيين بقوله « لكم » هنا لازما. إذ كان كثير من المسلمين الذين يشهدون أحدا اليوم لم يشهدوا بدرا بالأمس! كذلك ما جاء فى قوله تعالى فى آل عمران : « وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ » وفى الأنفال : « وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ » فلاختلاف المقامين اختلف الأداء للمعنى المراد .. فالمسلمون الذين خوطبوا فى سورة الأنفال كانوا فى مواجهة المعركة فى بدر ، وقلوبهم مضطربة واجفة تنظر إلى ما يطلع عليها من فضل اللّه ورحمته ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 578
فقدم ما بشّروا به من أمداد السماء ، وهو المشار إليه بالضمير فى « به » على القلوب لأنه هو المطلوب لها .. أما فى آية آل عمران ، فهو تذكير بهذا الحدث ، فجاء ذكره على الأسلوب الذي يقتضيه النظم المعتاد فى لغة العرب .. الفعل ، فالفاعل ، فالمتعلقات : « وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ » .
ويشبه هذا ما جاء فى قوله تعالى هنا فى آل عمران : « وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » وما جاء فى سورة الأنفال : « وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » .
وأحسبك لا يخفى عليك الحال الداعي لاختلاف الأداء اللفظي فى الآيتين ..
ولكن لا بأس من أن نشير إليه ، كما أشرنا إلى سابقيه من قبل! ففى آية الأنفال تقرير وتوكيد لعزة اللّه وحكمته : « إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » ..

(2/68)

و هذا التقرير والتوكيد لازمان فى هذا الموقف ، الذي كان يقفه المسلمون فى قلّتهم ، وضالة شأنهم إزاء الجيش القوى الزاحف عليهم ، فإذا جاءتهم البشرى بنصر اللّه ، محمولة بما وعدهم على لسان نبيّه ، ثم أتبعت هذه البشرى بالتذكير بعزة اللّه وحكمته فى هذا الأسلوب المؤكد « أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » كان لذلك وقعه فى القلوب وأثره فى النفوس! أما فى آية آل عمران ، فالشأن مختلف .. إنها حديث عن أمر وقع ، رأى منه المسلمون رأى العين كيف كانت عزة اللّه وكيف كانت حكمته .. فيكفى هنا أن يذكر اللّه وعزته وحكمته .. « الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » دون توكيد ، إذ كان يعيش المسلمون مع الحدث الواقع ، الذي هو أثر من آثار عزة اللّه وحكمته.
وطبيعى أن مثل هذه الفروق الدقيقة فى الصور اللفظية التي تعرض لموضوع واحد ، فيقع فى النظم تقديم وتأخير ، أو زيادة وحذف ـ لا يلتفت إليها ، ولا يقام لها وزن فى معايير البلاغة ، إلا أن يكون ذلك فى نظم القرآن الكريم ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 579
حيث كل شى ء بحساب وتقدير ، ولكل حرف وزنه ، الذي يرجح موازين الدنيا جميعا .. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز القرآنى .. « تنزيل من عزيز حكيم » .. فسبحان من هذا كلامه.
الآيات : (127 ـ 129) [سورة آل عمران (3) : الآيات 127 الى 129]
لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

(2/69)

التفسير : قوله تعالى : « لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ » هو تعليل لما جاء فى ختام الآية السابقة على هذه الآية ، وهو قوله تعالى : « وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » حيث اقتضت عزّة اللّه وحكمته أن ينصر المؤمنين فى معركة بدر ، هذا النصر الذي كان منحة من اللّه كتبها بأيدى المؤمنين ، ولو لا فضل العزيز الحكيم لما نال المسلمون ما نالوا من أعدائهم .. ولكن قضى اللّه بذلك « لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا » أي ليقضى على جانب من الذين كفروا بالقتل ، وبذلك ينهدّ ركن من هذا البناء الأسود ، الذي يصدّ عباد اللّه عن دين اللّه ..
«أَوْ يَكْبِتَهُمْ » أي يملأ قلوبهم حسرة وألما ، وذلك حين ينقلب الأحياء من جيش البغي هذا ، بالهزيمة ، وبما خلّفوا وراءهم فى ميدان المعركة من جثث وأشلاء ، لأبطالهم ، وفلذات أكبادهم ..
فهذا الجيش الآثم الباغي : فريقان : فريق حصدته سيوف المسلمين فى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 580
المعركة ، وفريق فرّ مثخنا بالجراح ، محملا بخزي الهزيمة وعارها مثقلا بالحزن والألم ، لما فقد من أهل وأحباب.
وتغلى مراجل الضغينة والحقد فى رءوس المشركين ، وتتحول مكة كلها إلى ذئاب عاوية ، تتردد فى بيوتها ، وفى أنديتها ، وطرقاتها أصداء هذا العواء المسعور ، تسبّ وتتوعد ، « محمدا » ومن اجتمع إليه من مهاجرين وأنصار ..
ثم هاهى ذى تجى ء إليه محملة بحقدها ، مشحونة ببغضائها ، لتلقاه فى يوم كيوم بدر ، تراق فيه الدماء ، وتتناثر الأشلاء ، ويتقطع فيه ما بقي بينه وبين قومه من أواصر الرحم والقرابة .. فما أمرّ هذا وما أقساه!! ويأسى النبىّ الكريم لهذا ويحزن ، وكان يودّ ألا يبلغ الأمر بينه وبين أهله إلى هذا الحدّ ، وهو الذي جاءهم بالهدى والرحمة ، ودعاهم إلى البر والتقوى.

(2/70)

و لكن القوم أبوا إلّا إعناتا له ، وخلافا عليه ، وإمعانا فى توجيه الأذى والضرّ إليه وإلى من اتبعه ، حتى لقد حملوه على أن يهاجر من موطنه ، ليخلص بدينه ، وليجد له طريقا غير هذا الطريق المسدود! فكان قول اللّه تعالى : « لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ » عزاء للنبيّ ، وتخفيفا لما وجد فى نفسه من تلك الحال التي وقعت بينه وبين أهله وذوى قرابته .. كما كان فيه إلفات لهؤلاء المشركين إلى الجهة التي نالتهم بهذا السوء الذي حلّ بهم ، جزاء كفرهم وعنادهم ، وأنها جهة لا تنال .. إنها يد اللّه القوى العزيز ، لا يد محمد ، ولا أصحاب محمد ، وفى هذا تيئيس لهم من أن يأخذوا بثأرهم الذي احتسبوه على محمد وأصحاب محمد ، فما كان لمحمد وأصحابه من هذا الأمر شى ء! وقوله تعالى : « أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ » فتح لصفحة جديدة ، ولحساب جديد مع هؤلاء المشركين ، بعد وقعة بدر .. فهم بين أمرين : إما أن يرجع راجعهم إلى اللّه ويستجيب لدعوة الحق الذي يدعى إليه ، فيجد المغفرة والرحمة ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 581
و إما أن يزداد إثمه إثما ، فيمضى فى طريق العناد والكفر ، والمحادّة للّه ولرسوله ، فيلقى الجزاء الذي هو أهله ، ولا جزاء له غير العذاب الأليم ..
«فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ » .
فما محمد إلا رسول ، يبلّغ ما أنزل إليه من ربّه .. واللّه سبحانه هو الذي يرجع إليه الأمر كلّه ، له ما فى السموات والأرض ، لا يملك أحد معه شيئا ..
«يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » لا معقب لحكمه ولا ناقض لأمره! وفى قوله تعالى تعقيبا على هذا الحكم : « وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » ما يكشف فضل اللّه على عباده ، ورحمته بهم ، وأنها رحمة عامة شاملة ، تنال الخلق جميعا ، حتى أولئك العصاة المتمردين ، وحتى وهم يتقلبون فى العذاب الأليم! فهو عذاب فيه رحمة لهم ، وتطهير لما تلطغوا به من أدران الإثم والشرك!

(2/71)

الآيات : (130 ـ 136) [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)
وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 582
التفسير : هذه الآيات والآيتان اللتان بعدها ، تجى ء هكذا بين تلك الأحداث التي يعرضها القرآن عن الصراع الدائر بين المسلمين والمشركين ، فى معارك بدر وأحد ..
والحديث عن الربا هنا ، يبدو وكأنه شى ء غريب فى هذا الجوّ ، الذي لا نسمع فيه إلا قعقعة السلاح ، ولا يرى فيه إلا الدماء والأشلاء! فما شأن الرّبا هنا؟ وما داعيته فى هذا المقام؟
عرفنا فى وقوفنا بين يدى آيات الرّبا فى سورة البقرة ، أن الربا كبيرة الكبائر ، وأنه لفداحة جرمه لم يدخله الإسلام فى دائرة الجرائم التي يطهّر مقترفوها بإقامة الحدّ عليهم فيها ..

(2/72)

و لهذا فإن الذي يبدو لنا ـ واللّه أعلم ـ من وضع الرّبا هنا ، وسط المعارك الدائرة بين الإسلام والكفر ، أنه خطر كهذا الخطر الذي يتهدد المسلمين من الشرك والمشركين ، وأنه إذا كان المسلمون مشتبكين فى معركة ضارية مع المشركين ، ليقتلعوا بذور الشرك والضلال من المجتمع الإنسانى ، فإن ذلك ينبغى ألا يشغلهم عن معركة أخرى يجب أن يشتبكوا فيها مع عدوّ لا يقل خطرا فى إفساد الكيان الإنسانى ، وتدمير معالم الإنسانية فى الإنسان ـ عن الشرك .. ألا ، وهو الربا! وخطاب المؤمنين فى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً » يتضمن أمرين :
أولهما : نهى المسلمين مقارفة هذا الإثم ، والعمل على محاربته فى أنفسهم ، حتى يجلوه عنها ، كما أجلوا الشرك من قبل منها.
وثانيهما : محاربة هذا الإثم ، وجهاده حيث أطلّ برأسه فى أي مكان تناله
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 583
أيديهم ، وتصل إليه قوتهم ، كما يحاربون الشرك ويجاهدونه .. فإنه ـ أي الربا ـ ربيب الشرك ، وثمرته البكر فى شجرته الخبيثة! فحيث كان شرك ، كان ظلم ، والربا هو أشأم وجوه الظلم. وعلى هذا ، فإنه كما لا يجتمع إيمان وشرك فى قلب مؤمن ، كذلك لا يجتمع إيمان وربا فى حياة المؤمن! وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ... (278 ـ 279 :
البقرة) ..

(2/73)

فانظر إلى قوله تعالى : « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » وما فيها من تشكيك فى إيمان المؤمنين ، ونزع تلك الصفة عنهم ، والتي خوطبوا بها فى أول الآية ، فى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. » وذلك إذا لم ينزعوا عن الرّبا ، ويخلّصوا أنفسهم منه. ثم انظر بعد هذا فى قوله تعالى : « فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ » تجد أنها حرب معلنة من اللّه ورسوله .. فيا للهول ، ويا للبلاء!! وعلى من؟
على المؤمنين الذين آمنوا باللّه ولكن بقي معهم الربا! إنهم إذن والمشركون سواء! يحاربهم اللّه ورسوله .. ويجاهدهم المؤمنون كما يجاهدون المشركين.
فالمعركة مع الربا والمرابين معركة فى صميمها مع الشرك والمشركين! ولهذا فقد أضيف الربا هنا إلى الشرك ، ودخل فى حسابه .. وبهذا صارت معركته وجهاده جزءا من معركة الشرك ، وجهاد المشركين.
وفى قوله تعالى : « لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً » قد يبدو أن النهى فى تحريم الربا ، وفى درجه مع الشرك فى قرن واحد ـ إنما هو الربا الفاحش ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 584
الذي يتضاعف فيه رأس المال بمضاعفة المدة التي يبقى فيها المال فى يد المقترض بالربا ، ويكون ـ بمفهوم المخالفة ـ أن هذا النهى لا يرد على الربا إذا لم يكن على تلك الصورة الفاحشة! ولكن ـ مع قليل من النظر فى وجه الآية الكريمة ـ نجد أن قوله تعالى « أَضْعافاً مُضاعَفَةً » وإن يكن حالا من أحوال الربا ، مقيدا للربا فى عمومه وإطلاقه .. إلا أن هذا الحال يكاد يكون الحال الشامل لجميع أحوال الربا ، الذي كان معروفا شائعا فى هذا الوقت ، وهو ربا النسيئة ، الذي يتضاعف فيه رأس المال على امتداد الزمن ..

(2/74)

و إذن فهذا الوصف بالأضعاف المضاعفة للربا هو تقرير لحقيقة الربا ، وكشف لوجهه الكريه ، الذي يغتال أموال الناس على تلك الصورة البشعة التي لم تكن تتخلف أبدا عن المعاملات الربوية يومئذ! ويكون معنى الآية : نهى المؤمنين عن أكل الربا ، الذي يأكل بدوره أموال الناس ، حتى ينتفخ ويتورم ، ويصبح أضعاف ما كان عليه ، بتلك الأورام الخبيثة التي التصقت به .. فهو زاد تخمر وتعفن ، تصدّ عنه النفوس الطيبة ، ولو هلكت .. لأن فى تناوله الهلاك المحقق.
وقوله تعالى : « وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » تأكيد لاجتناب الربا ، وتحذير من أكله .. لأن آكله لا يفلح أبدا .. لأنه لم يكن على تقوى من اللّه ومن حرم التقوى والخشية من اللّه فقد حرم الفلاح ، وفى قوله تعالى : « وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ » ما يكشف عن جريمة الربا ، وأنها باب من أبواب الكفر ، ومدخل من مداخله ـ كما أشرنا إلى ذلك من قبل ـ فالنار
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 585
المعدّة للكافرين ، هى معدة أيضا لآكلى الربا .. فمن لم يتق اللّه وينتهى عما نهى اللّه عنه من أكل الربا فهو مع الكافرين فى نار جهنم ، يلقى ما يلقى الكافرون ، من عذاب ونكال .. وهذا يلتقى مع قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » (278 : البقرة) فمن لم يتق اللّه ، ويتجنب الربا فليس بالمؤمن ، ولا هو فى المؤمنين! وقوله تعالى : « وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » التفات إلى المؤمنين ، ودعوة لهم إلى الطاعة العامة للّه ورسوله ، بعد أن أطاعوه فى ترك الربا ..

(2/75)

و فى قوله تعالى « لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ » تذكير لهم بالرحمة التي يجب أن تملأ قلوبهم عطفا وبرّا بالنّاس ، فلا يغتالوا أموالهم بالرّبا ، ولا يأكلوها ظلما وعدوانا ، فإنهم إن رحموا الناس ، رحمهم ربّ الناس ، وفى الأثر : « الراحمون يرحمهم الرحمن » .
قوله تعالى : « وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » . إثارة وإغراء بالمبادرة إلى طلب المغفرة من اللّه ، باجتناب المحرمات ، وعلى رأسها الكفر والربا .. فمن بادر بالتوبة ، ورجع إلىّ اللّه من قريب ، مستغفرا ربه ، وجد ربّا غفورا رحيما يفتح له مع خزائن رحمته أبواب جنته وما فيها من نعيم مقيم.
وهذه الجنة التي وعد بها المتقون تسع النّاس ، وأضعاف أضعاف الناس ..
عرضها السموات والأرض .. يجد فيها المؤمنون والتائبون ـ مهما كثر عددهم ـ مكانا فسيحا ، لا حدّ له ، حيث يسرحون ويمرحون ما شاءوا ..
فليخرس إذن أولئك المتنطعون والمتزمّتون ، الذين يضيّقون من رحمة ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 586

(2/76)

أو يضيقون بها ، حتى لكأنهم يرون أن ما يبسطه اللّه من رحمة ورضوان لعباده إنما هو مقتطع مما يمنّون أنفسهم به عند اللّه .. وأنّه كلما كثرت أعداد المقبولين عند اللّه ، والداخلين فى رحمته ـ تحيّف ذلك من نصيبهم ، وأخذ الكثير من حظهم .. وهذا ـ لا شك ـ سوء ظن باللّه ، وعدوان على مشيئته ، شأنهم فى هذا شأن بنى إسرائيل ، الذين أكل الحسد قلوبهم أن ينال أحد من من اللّه خيرا غيرهم ، كما قال تعالى فيهم : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ » (54 : النساء) وكما قال فيهم أيضا : « قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ » (100 : الإسراء).
وقوله تعالى : « الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ » صفة من صفات المتقين ..
فمن شان التقوى أن تقيم فى كيان الإنسان عواطف الرحمة والإحسان ، فلا يمسك صاحبها خيرا لنفسه خاصة ، بل إن كل ما فى يده هو له وللناس .. فهو ينفق منه فى كل حال .. فى يسره وعسره ، فى سرّائه وضرّائه ، وفى سرّاء الناس وضرائهم ، لا يمنع فضله عن طالبه أبدا! وقوله تعالى : « وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » بيان للصفات المكملة للتقوى ، المجمّلة للمتقين ، فمن اتقى اللّه ، كان رحيما بالناس ، حدبا عليهم ، يلقى إساءتهم بالصفح والمغفرة ، فلا يصل إليهم منه أذى ، بيد أو لسان ..
والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس ، هم وإن كانوا فى المتقين المحسنين ، إلا أنهما درجتان فى الإحسان والتقوى .. فالكظم درجة ، والعفو درجة أعلى من تلك الدرجة .. فالذى تلقّى الإساءة وهو قادر على مقابلتها بمثلها ثم أمسك عن الردّ ، وكظم فى نفسه ما أثارته الإساءة فى مشاعره من غيظ ونقمة ، هو على درجة من التقوى والإحسان .. أما إذا ذهب إلى أكثر من
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 587

(2/77)

هذا ، فمسح ما بصدره من غيظ ونقمة. وأظهر العفو والمغفرة ، فهو على حظ أكبر من الإحسان والتقوى .. وأرفع من هذا درجة ، وأعلى مقاما فى التقوى والإحسان ، من دفع السيئة ، لا يكظم الغيظ المتولد منها ، ولا بالعفو عن المسي ء ، بل دفعها بالإحسان إليه .. وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ » (22 : الرعد).
ويقول سبحانه أيضا : « أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ » (54 : القصص).
ودفع السيئة بالحسنة إنما هو من باب الإنفاق ، ولكنه إنفاق من أطيب وأعزّ ما يملك الناس : إنه إنفاق من سعة صدر ، ومن كرم خلق ، مما لا يرزقه إلا أهل الصبر والتقوى .. وفى هذا يقول الحق جلّ وعلا : « وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ » .
(34 : 35 السجدة).

(2/78)

فيما يروى عن علىّ بن أبى طالب رضى اللّه عنه .. أن جارية له كانت تقوم على وضوئه وفى يدها إبريق ، فسقط الإبريق من يدها وانكسر .. ونظر إليها الإمام ـ كرم اللّه وجهه ـ فقالت : « وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ » فقال : كظمت غيظى .. ثم قالت : « وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ » فقال : « و لقد عفوت عنك » قالت : « و اللّه يحب المحسنين » فقال : « أنت حرة لوجه اللّه » !! قوله تعالى : « وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » .
الفاحشة : المنكر الغليظ من العمل والقول .. وأكثر ما تكون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 588
فى الأعمال السيئة .. وظلم النفس : يقع على كل مكروه ينالها من قبل صاحبها فيما يمسّ خاصة الإنسان من أذى ، أو يتجاوزه إلى غيره من الناس .. فالزنا ، فاحشة ، والكفر ظلم! وكلّ من الأمرين ظلم وفاحشة معا ..
فهذا الصنف من الناس إذا أصاب فاحشة أو ارتكب إثما ، ذكر اللّه ، وذكر عظمة اللّه وجلاله ، وعلمه به ، وفضله عليه ، وذكر لقاء ربّه ، ومحاسبته بين يديه .. فرجع إلى اللّه من قريب ، تائبا مستغفرا ـ هذا الصنف من الناس معدود فى المتقين من عباد اللّه ، إذ غسل الحوبة بالتوبة ، وبعد عن اللّه ثم عاد إليه ، واقترب منه.
وفى قوله تعالى : « وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ » إغراء للعصاة والمذنبين ، بالتوبة والقبول إذا هم مدّوا أيديهم إليه ، وطلبوا الصفح والمغفرة منه! وقوله تعالى : « وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » إشارة إلى ما تصحّ عليه توبة التائبين ، وهو أنّهم إذا فعلوا المعصية لم يصرّوا على معاودتها ، بل أخذتهم خشية اللّه ، واستولى عليهم الندم .. وأقبلوا على اللّه تائبين مستغفرين ..

(2/79)

و قوله تعالى : « وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » يفسح العذر للذين يأتون الفاحشة عن جهل ، أو خطأ ، كمن يشرب خمرا وهو يظنها غير الخمر.
وقوله تعالى « أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » الإشارة هنا إلى جميع من ذكروا فى قوله تعالى : « وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ .. إلى قوله سبحانه : « وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » فهؤلاء الذين جاء ذكرهم فى هذه الآيات الثلاث ، هم من المتقين ، وهم من الذين يتلقّون هذا الجزاء الحسن من اللّه ..
جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ..
وفى قوله تعالى : « وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » مدح وتمجيد لهذا الجزاء العظيم ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 589
الذي ناله هؤلاء الذين أنعم اللّه عليهم ، فاتقوه ، وأنفقوا فى السّرّاء والضراء ، وكظموا الغيظ وعفوا عن الناس .. ومثلهم أولئك الذين إذا فعلوا فاحشة ، أو واقعوا المعصية ذكروا جلال اللّه وعظمته ، فرجعوا إليه من قريب ، باسطين يد التوبة والمغفرة ..
فالجزاء الذي ناله هؤلاء المحسنون المتقون ، شى ء عظيم رائع .. وهل شى ء أعظم من الجنة وأروع؟ .. ثم إن هذا الجزاء ـ وإن يكن فضلا من اللّه وإحسانا ـ هو عن إحسان كان من هؤلاء العاملين ، وعن عمل من هؤلاء المحسنين : أجراه اللّه على أيديهم ، ووفقهم إليه ..
وفى هذا يقول الحق سبحانه : « إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ. أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ » (13 ـ 14 : الأحقاف).
الآيات : (137 ـ 138) [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 138]

(2/80)

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)
التفسير : كانت موقعة بدر ، ثم موقعة أحد بعدها ، تجربتين مثيرين فى مسيرة الدعوة الإسلامية ، وفى كشف معالم الطريق الذي يسير فيه المسلمون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 590
تجاه تلك القوى المتربصة بهم ، وبالدّين الذي آمنوا به.
بدأت دعوة الإسلام هامسة ، متخافتة. تمشى على خفوت وخشية بين ظلام الشرك ، ووسط معاقل المشركين .. فلما أخذ صوتها يعلو ويبلغ الأسماع.
أجلب عليها المشركون بجبروتهم وعتوّهم يلاحقون الجماعة القليلة المستضعفة ، حتى كادت تختنق الدعوة فى مهدها ، لو لا أن ثبت اللّه أقدام المؤمنين ، وربط على قلوبهم ، فصبروا على ما أوذوا ، وخرجوا عن أموالهم وديارهم وأهليهم ، فارّين بدينهم فى وجوه الأرض .. حتى كانت هجرة النبي الكريم إلى المدينة.
فتحدّد بذلك خط سير الدعوة ، كما تحدد الأفق الذي ستشرق منه شمسها ، وتنتشر أضواؤها.
وفى المدينة قامت الخمائر الأولى لدولة الإسلام .. فكان المهاجرون والأنصار الكتيبة الأولى التي أمسكت راية الحق لتلقى بها الشرك كلّه ، والكفر كلّه ، والنفاق كلّه.
وفى موقعة بدر كان أول صدام بين الإسلام ، والكفر .. الإسلام كله ، والشرك كلّه .. ولو أن هذه المعركة انتهت بالقضاء على هذه الجماعة القليلة المسلمة ، لما قامت للإسلام بعدها قائمة ، ولما كان إسلام ولا مسلمون بعدها ..
ولكن اللّه بالغ أمره.

(2/81)

فلقد قضت إرادته سبحانه أن تغلب تلك الفئة القليلة دولة الشرك ، وأن تنالها بيد قوية قاهرة ، فتقتل وتأسر ، كما تشاء! وتشهد الدنيا كلها من تلك المعركة « معجزة ، قاهرة متحدية ، وأن الإسلام ليس أمرا من أمور هذه الدنيا التي يقتتل الناس عليها ، وإنما هو نور من نور اللّه ، لا تطفئه الأفواه ، ولا تحجبه الأيدى ، وأنه بالغ الذي الذي
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 591
أراد اللّه أن يبلغه : « هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ » (9 : الصف) .. (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ » (32 : التوبة) وتفعل المعجزة فعلها فيمن شهد المعركة ، وفيمن سمع أخبارها من المسلمين ، والمشركين ، والكافرين .. فكثير من المشركين والكافرين ، الذين شهدوا المعركة ، أو سمعوا أخبارها ، قد دارت رءوسهم بها ، وأخذوا يراجعون حسابهم مع الإسلام ، ويحددون موقفهم من النبىّ ، وفى كل يوم يزداد العقلاء قربا من الإسلام ، على حين يزداد الحمقى والسفهاء ، حمقا وسفاهة وبعدا!! أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم طمأنينة بالدين الذي آمنوا به ، وبالنبيّ الذي استجابوا له ، واتبعوا سبيله .. ثم نظر ناظرهم إلى آفاق بعيدة ، فرأى يد الإسلام تنال ما تشاء .. وتبلغ ما تريد فى كل أفق تتجه إليه .. لا يمتنع عليها شى ء ، ولا يحول دونها حائل .. إنها تقاتل تحت راية اللّه ، وتضرب أعداءها بيد اللّه .. فمن يقف لها ، أو يردّ ضربتها؟ أ لم تشارك ملائكة السماء فى القتال مع المسلمين؟ وهل تهزم جبهة تقاتل معها الملائكة ، ولو كانت عدد أصابع اليد أو اليدين؟

(2/82)

لقد كان هذا الشعور مستوليا على المسلمين ، بعد أن فرغوا من معركة بدر ، وبعد أن عادوا وقد امتلأت أيديهم من الغنائم والأسرى ، وبعد أن ملئوا أرض المعركة من أعدائهم ، جثثا وأشلاء!! ولكن. ما هكذا تدبير اللّه وتقديره فيما بين الناس ، وفيما بين الحق والباطل!! إنه لا بد من بذل وتضحية ، ومن معاناة وابتلاء! وإلا فأين المحقّون وأين المبطلون؟ وأين إحسان المحسنين وإفساد المفسدين؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 592
و أين ما أعطى صاحب الحق من نفسه وماله ، للحق الذي فى يده؟ وكيف تكون إثابة المحسن وجزاء العامل ، إن لم يكن عمل وإحسان؟
إن العدل الإلهى يقضى بأن يجازى المحسن ، ويعاقب المسي ء ..!
و فى مجال الصراع بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، يمتاز المحقّون من البطلين ، وينعزل الأخيار عن الأشرار ..

(2/83)

و إذا كانت معركة بدر قد دارت على تلك الصورة الفريدة بين المعارك ، ليثبّت اللّه بها الراية التي ركزها للإسلام ، فإن ما يستقبل المسلمون بعد ذلك من معارك لن يكون على تلك الصورة التي شهدوها يوم بدر ، وأن عليهم أن يبلوا بلاءهم مع عدوّهم ، وأن يستعينوا عليه بالصبر والتقوى. فذلك هو السلاح الذي وضعه اللّه فى أيديهم ، والذي إن حاربوا به عدوّهم كتب اللّه لهم النصر ، وإن قلّ عددهم ، وتضاعفت أعداد قوى الشرّ المتصدية لهم!! هكذا ينبغى أن يعرف المسلمون ما يجب أن يكون عليهم أمرهم ، وهم مقدمون على لقاء العدو ، الذي جاءهم بكل غيظه وحنقه ، ليثأر للهزيمة التي نقيها فى معركة بدر!! وها هم أولاء المسلمون يتأهبون للقاء المشركين ، الذين جمعوا جموعهم ، يريدون أن يقتحموا بها المدينة ، ويدمروها على من فيها من المهاجرين والأنصار! ويستشير النبي أصحابه .. ويكثر القول ، ويختلف الرأى ، ثم يعلو الصوت القائل بلقاء العدو خارج المدينة ، ويرى النبي الكريم أن يستجيب للأغلبية ، وإن كان يرى خلاف ذلك ، فيلبس لباس الحرب ، ويضع لامته على رأسه ، ويؤذن أصحابه بأنه خارج معهم إلى لقاء المشركين ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 593
و هنا يستشعر المسلمون الندم ، ويرون أنّهم على أمر لم يكن يريده النبىّ ..
فأقبلوا عليه يسألونه أن يكون عند رأيه الذي رآه .. فأبى عليهم ذلك ، وقال :
«

(2/84)

ما ينبغى لنبىّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل » .. وذلك أنه أقام أمره على عزيمة ، وبهذه العزيمة لبس لبوس الحرب .. وما كان له أن يرجع بعد ما عزم .. فإن هذا الرجوع يعنى انحلال العزيمة ، إذ ليس ثمّة ما يمنع بعد هذا أن يعزم عزما آخر ، ويعود فليبس عدّة الحرب .. وهكذا تستولى عليه حال من التردد بين الإقدام والإحجام .. وليس بعد هذا اجتماع لعزيمة ، أو استقامة على رأى .. وفى هذا ما فيه من ضياع وخذلان ، لأى أمر ، وفى كل عمل ، يدخل عليه التردد من أي باب! ولهذا كان أمر اللّه لنبيّه الكريم : « وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ » (159 : آل عمران) قاطعا الطريق إلى التردد بعد العزيمة ، التي تجى ء عن مناصحة ومشاورة! نقول : خرج النبىّ بأصحابه للقاء العدوّ ، ومع المسلمين هذا الشعور الذي وقع فى نفوسهم من حملهم النبىّ على هذا الخروج ـ الشعور بالندم والحسرة ـ الأمر الذي لو صحبهم إلى المعركة لأفسد عليهم موقفهم من عدوهم ، ولاغتال الكثير من عزمهم وقوّتهم! وهنا يتلقّى الرسول الكريم من ربّه ، ما يذهب بمرارة هذا الأسى الذي وجده ، ووجده معه أصحابه ، فى مجلس الشورى ، وما انتهى إليه.
فجاء قوله تعالى : « وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ » ـ جاء قوله تعالى فى هذه الآيات. ليذكّر النبي والمسلمين بما كان للّه عليهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 594

(2/85)

من فضل ، فى هذا النّصر العظيم ، الذي امتلأت به أيديهم يوم بدر .. وفى هذه الصورة التي ترتفع للمسلمين من معركة بدر ، تهبّ عليهم ريح الطمأنينة ، وتدخل على قلوبهم السكينة والأمن ، فيلقون عدوّهم بعزم جميع ، وإرادة مصممة على النصر ، واثقة من عون اللّه وتأييده.
وفى تلك الحال التي تمتد فيها أبصار المسلمين إلى معركة بدر ، وتتعلق عيونهم بالمشاهد الواردة عليهم من ذكرياتها ـ تمتلى ء أسماعهم بما يتلو عليهم الرسول الكريم ، مما يتلقى من آيات ربه : « بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ » .. ويستشعر المسلمون من كلمات اللّه هذه أنهم من اللّه على حال غير الحال التي كانوا عليها يوم بدر .. إذ قد جاء وعد اللّه بإمدادهم بالملائكة يوم بدر غير مشروط بشرط ، بل هو وعد مطلق ، لا بد من تحقيقه .. وقد تحقق.
أمّا هذا الوعد الكريم الذي يتلقونه من اللّه فى هذا اليوم ـ يوم أحد ـ فهو مشروط بشرطين : أن يصبروا ، وأن يتقوا .. وتحقيق هذين الشرطين ، شرط لتحقيق ما وعدوا به من النصر.
إذن فهم مطالبون بشى ء جديد ، من الصبر والتقوى ، غير ما كانوا عليه يوم بدر ، وغير ما هم عليه اليوم ، من صبر وتقوى ..
وإنهم لو أعطوا المطلوب من الصبر والتقوى ، لوجدوا فى أنفسهم من روح اللّه ، قوة تعدل خمسة آلاف من تلك القوى التي ساندتهم ، وقاتلت معهم يوم بدر! ثم يستمع المسلمون بعد هذا إلى قوله تعالى : « وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ » فيستشعرون أن تلك الأمداد العلويّة ، لا تجى ء إليهم من بعيد ، وإنما هى شرارات
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 595

(2/86)

من الإيمان والصبر ، تنطلق من داخل أنفسهم ، فتشتعل بنور اللّه ، فإذا هى قوى يبلغ بها الإنسان فى ميدان القتال ، ما لا يبلغ خمسة من الرجال ، لا يملكون تلك القوى فى هذا الميدان! وهنا يلتفت المسلمون إلى أنفسهم التفاتا قويّا ، يفتشون عن مواطن القوة والضعف فى إيمانهم وصبرهم ، حتى يكونوا على الشرط الذي اشترطه اللّه عليهم ، ليمدّهم بالقوة ، وليمكّن لهم من عدوهم.
وتجى ء آيات القرآن الكريم ، لتلتقى مع هذا الشعور ، الذي يفتش فيه المسلمون عن أنفسهم ، ولتكون فى مجال البصر وهم يرتادون مواقع الخير الذي يدنيهم من التقوى ، ويمكن لهم من الصبر .. وإذا فى الآيات التي يتلوها الرسول عليهم بعد أن تلقاها من ربّه لساعته ـ إذا فى هذه الآيات الدواء والشفاء ، إذ يقول اللّه تعالى :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ » فعلى ضوء هذه الآيات الكريمة ، يعرض المسلم نفسه ، ويطّلع على ما تكون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 596

(2/87)

قد انطوت عليه مما نهى اللّه ، مما لم يكن يراه ، وهو فى زحمة الأحداث المتلاحقة ، التي كانت تمرّ بالمسلمين فى تلك الفترة الحرجة من حياة الإسلام ـ فيعمل على تنقيتها ، والخلاص منها .. وقد أشرنا من قبل إلى ما فى هذه الآيات الكريمة من معانى الإحسان ، وما تحمل من دواء عتيد لسقام النفوس ، ومرضى القلوب! ثم يجى ء قوله تعالى بعد ذلك :
«قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ » فيذكر المسلمون من الآية الكريمة أن للّه سبحانه وتعالى سننا فى خلقه ، لن تتخلف أبدا ، وأن من هذه السنن وتلك الأحكام والقوانين التي أخذ اللّه بها النّاس ، ما تضمّنه قوله سبحانه « وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى » (39 ـ 41 : النجم) ..
وما جاء به قوله سبحانه : « فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ » (7 ـ 8 الزلزلة).
وبهذا يرى المسلمون أنهم مطالبون بأن يعملوا وأن يحسنوا ما وسعهم العمل ، وما أمكنهم الإحسان ، وأن يلقوا عدوّهم بالصّبر وتوطين النفس على الجهاد والتضحية والبذل فى سبيل اللّه ، وأن يشروا أنفسهم ابتغاء مرضاة اللّه .. وهنا يأذن اللّه لهم بالنصر ، ويريهم فى عدوّهم ما يحبّون ، وإلّا فقد رضوا لأنفسهم بالهزيمة ، التي اكتسبوها بالقعود عن البذل والتضحية.
وينظر المسلمون فى سنن اللّه التي خلت فى عباده ، وما لهذه السنن من آثار فى تقدير مصائر الأمم والأفراد على السواء ، وإذا الّذين كذّبوا بآيات اللّه ، وآذوا رسل اللّه ، قد أخذهم اللّه أخذ عزيز مقتدر .. قوم نوح ، وعاد ، وثمود ، وقوم إبراهيم ، وقوم لوط ، وأصحاب مدين .. هؤلاء جميعا هم ممن كذبوا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 597

(2/88)

الرّسل ، فأخذهم اللّه بذنوبهم ، وأوردهم موارد الهلاك فى الدنيا ، ولهم فى الآخرة عذاب النار .. وفى هذا بقول اللّه تعالى : « فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » (40 : العنكبوت) .. فهذا هو مصير الذين كفروا بآيات اللّه وكذّبوا رسله ، وإلى مثل هذا المصير يصير أولئك الذين كذّبوا رسول اللّه وآذوه ، ووقفوا منه ومن دعوته هذا الموقف العنادىّ المغرق فى العناد والضلال ..

(2/89)

و فى هذا تطمين للمسلمين ، وتثبيت لأقدامهم ، وأنهم على طريق النصر ، إذا هم صبروا واتقوا ، وأن أعداءهم إلى البوار والهلاك إن أصرّوا على ما هم عليه من شرك وضلال .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » (51 : غافر) .. ويقول سبحانه : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » (31 : المجادلة) ثم تمتلى ء أسماع المسلمين وقلوبهم بعد هذا بقوله تعالى : « هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ » .. فيرجعون إلى هذا البيان الذي استقبلتهم به تلك الآيات ، وهم على مشارف المعركة والالتحام بعدوّهم ، ويرتلون هذا البيان مرة بعد مرة ، فيخلص إليهم منه فى كل مرة ما يزيد إيمانهم إيمانا ويقينهم يقينا ، وإذا هم يمضون إلى المعركة فى ثقة وطمأنينة ، وفى إصرار على كسب المعركة وبلوغ النصر! وتدور المعركة ، وتهبّ ريح النصر على المسلمين ، وفى لحظة خاطفة يرون أنهم كسبوا المعركة ، فألقى كثير منهم السلاح ، وأقبل على الغنائم ينتزعها من بين يدى العدو قبل أن يفرّ بها! ولكن سرعان ما تتبدل الأمور ، وتسكن ريح النصر ، ويقع المسلمون ليد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 598

(2/90)

أعدائهم ، فيقتلون منهم نحو سبعين قتيلا .. وينكشف الرسول ، إذ تتناثر الكتيبة التي حوله ، بين قتيل ، وجريح ، ومهزوم .. ويثبت الرسول الكريم مع فئة قليلة من أصحابه ، ويخلص إليه من سهام العدوّ أذى كثير ، حتى لتشجّ رأسه ، وتنكسر ثنيّته ، وينادى منادى المشركين : أن محمدا قتل!! وهنا يستبدّ الهول والفزع بالمسلمين ، وتكاد تنتهى المعركة بالهزيمة القاصمة ، لو لا أن نادى منادى الرسول : أن رسول اللّه هنا فى المعركة ، يقاتل المشركين .. فتثوب إلى المسلمين ألبابهم الشاردة ، ويجتمعون إلى رسول اللّه ، ويصمدون معه فى ردّ عدوان المعتدين ..
وتكتفى قريش بما نالت ، وتقف بالمعركة عند هذا الحدّ ، خوفا من أن تدور الدائرة عليها ، لو أنها مضت بالحرب إلى آخر الشوط! ويعود النبىّ وأصحابه من المعركة ، وقد أصيبوا فى أنفسهم ، وفى أصحابهم ..
وفى القلوب حزن وأسى ، وفى النفوس ضيق واختناق ، ويهبّ على المدينة إعصار محموم ، يلفّ الناس فى جوّ كئيب ، ملفف بالسواد ، لا يرى فيه الرائي موقع قدميه! وأين بدر ويومها؟ وأين الوجه الذي استقبلت به المدينة أصحاب بدر ، من هذا الوجه الذي تستقبل به أصحاب أحد؟
و تدور فى الرءوس ، وعلى الشفاه ، خواطر ، وهمسات ، وغمغمات ، تكاد لكثرتها أن تكون هديرا كهدير البحر الهائج ، أو عواء كعواء الريح العاصف! وتعلو أصوات المنافقين والكافرين ، فتقرع أسماع المسلمين ، بالتجديف على الإسلام ، والتكذيب لرسول اللّه ، والسخرية بالملائكة التي قيل إنها قاتلت مع المسلمين يوم بدر! فأين رب محمد؟ وأين الملائكة التي يقول إن ربّه يمدّه بها؟ لقد قتل أصحابه ، وكاد أن يقتل هو .. فما لربّه لا يدفع عنه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 599

(2/91)

و عن أصحابه ما أصابهم؟ وما للملائكة لا تخفّ لنجدته؟ أم ترى هل تفرّ الملائكة كما يفرّ الناس؟ وهل تهزم كما يهزم المحاربون؟ وكم من الملائكة من قتيل وجريح على أرض المعركة؟ .. إن ذلك ليس إلّا ضلالا فى ضلال ، وغرورا فى غرور .. لقد « غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ » (49 : الأنفال) فأوردهم موارد الهلاك وسوء المصير!! هكذا كان المشركون والمنافقون يرددون تلك المقولات المنكرة ، ويلقون بها ـ فى شماتة وسخرية ـ إلى أسماع المسلمين ، فتزيد من آلام جراحهم ، وتثقل من هموم أنفسهم! والمسلمون فى صمت ووحوم ، يمسكون أنفسهم على هموم ، ويطوون صدورهم على حسرات وغمرات .. لا يدرون ما يقولون ، ولا ما يفعلون!! تلك هى بعض المشاهد التي يمكن أن يرصدها الراصد لهذا اليوم ، فيما كان يجرى فى المدينة ، وما يدور فى محيط الجماعات التي تأوى إليها ، من مسلمين ، ومنافقين ، ومشركين .. إنها مشاهد أرضية ، تسبح صورها وخيالها فى غبار المعركة ودخانها ، الذي انعقد فوق المدينة ، وخيّم فى سمائها لأيام وأيام! ويتطلع الرسول والمؤمنون إلى السّماء ، يرقبون ماذا يجى ء من جهتها عن هذا الحدث العظيم .. وماذا كان حسابهم عند اللّه فيما كان منهم ، ولما أخذوا أو تركوا فى هذا اليوم؟
و تقول السماء كلماتها ، وتتنزل آيات اللّه بالحق ، يقشع ظلام الباطل ، ويفضح ضلال المبطلين ، وتتلى كلمات اللّه فتلتئم بها جراحات المؤمنين ، ، وتمتلى ء بها قلوبهم سكينة ورضى ، وإيمانا : ! وفى هذه الآيات المنزّلة ، عزاء ورحمة وشفاء :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 600
الآيات : (139 ـ 143) [سورة آل عمران (3) : الآيات 139 الى 143]

(2/92)

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
التفسير : ولا تحتاج هذه الآيات الكريمة إلى شرح أو بيان ، لمن يعيش هذه المعركة بمشاعره ، ويشارك فيها بوجدانه ، ويزن فيها الأحداث بالميزان الذي أقامه اللّه بين عباده ، وأجرى أمورهم عليه! فأولا : لقد اختلف أمر المسلمين فى هذه المعركة .. قبل أن يخرجوا إليها .. وهذا الخلاف ـ أيّا كان ـ هو عامل ضعف ، وداعية فتور ووهن ..
وكان من أولى وصايا الإسلام للمسلمين ، أن يحذروا هذا الداء ، وأن يجتنبوه فى كل ما يأخذون وما يدعون من أمور : « وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ » (46 : الأنفال).
وثانيا : لم يقم أمر المسلمين جميعا فى هذه المعركة على ما وصّاهم اللّه به ، ولفتهم إليه ، قبل أن يدخلوا المعركة ، وذلك فى قوله تعالى : « بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ » (125 : آل عمران). فثبتت قلة وصبرت .. وتواكلت كثرة منهم ، فانهزمت وولت
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 601

(2/93)

و ثالثا : أضاف كثير من المسلمين يومئذ معركة أحد إلى معركة بدر ، وحسبوها بحسابها .. فما أن رأوا ريح النصر تهبّ عليهم ، وتكاد تسلم أعداءهم لأيديهم ، حتّى أعفوا أنفسهم من مئونة القتال ، وتركوا المعركة للملائكة تتمها كما بدأتها!! وذلك تقدير فيه كثير من البعد عن الطريق الذي أقامهم اللّه عليه فى تلك المعركة ، وهو أن يكسبوها بأيديهم ، وبصبرهم وتقواهم.
وإنه لو جرت الأمور على هذا التقدير الذي قدّروه ، لما كان بلاء ولا اختبار .. ومن ثمّ فلا ثواب ولا جزاء .. إذ بم يثابون؟ وعلى أي شى ء يجزون؟ وما فضل المجاهدين على القاعدين؟ بل ما فضل المؤمنين على الكافرين؟ « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ » ؟
إن بلاء المؤمنين وجهادهم ، هو الذي يكشف عن إيمانهم ، ويعطى الدليل العملي لهم وللنّاس ، أنّهم مؤمنون حقّا ، وأنهم أدوا حقّ هذا الإيمان ، بلاء وجهادا.
وفى قوله تعالى : « وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ » لا يتعلق علم اللّه بجهادهم وصبرهم. فعلم اللّه واقع على ما كان منهم وما سيكون قبل أن يكون ، ولكن المراد بالعلم هنا ، علم المعلوم فى حال وقوعه ، أي علمه على الصفة التي وقع عليها .. وهذا وإن كان واقعا فى علم اللّه ، إلا أنه علم غيب لما سيقع ، والمراد بالعلم هنا علم الشهادة لما وقع.
والذي تضمنته هذه الآيات الكريمة ، تعقيبا على هذا الحدث ـ هو عزاء جميل من اللّه سبحانه وتعالى للنبىّ وللمؤمنين ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 602

(2/94)

ففى قوله تعالى : « وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ » نفحة من اللّه ، تنزل على النبىّ وعلى المؤمنين معه ، بما يهوّن عليهم كل مصاب ، ويجلو عن صدورهم كل همّ وحزن! وهل مع قول العزيز الرحيم : « وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا » يكون ما يوهن ويضعف ، أو يبقى ما يسوء ويحزن؟
و سبحانك ربى! ما أوسع رحمتك ، وما أعظم فضلك ، وما أكثر برّك بالمؤمنين ، ورعايتك للمجاهدين!! تبتليهم فى أموالهم وأنفسهم ، لتضاعف لهم الأجر ، وتعظم لهم المثوبة ، ثم تعود بفضلك ورحمتك فتعافيهم مما ابتليتهم به ، وتملأ قلوبهم سكينة ورضى ومسرة ، بما تسوق إليهم من رحمات وبشريات! وفى قوله تعالى : « وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ » حكم من لدن حكيم عليم ، حكم به للمؤمنين أن يكونوا دائما فى المنزلة العليا فى هذه الحياة .. لهم العزة والغلب على أعدائهم أبدا ، مصداقا لقوله تعالى : « وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا » (141 : النساء) وفى قوله تعالى : « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » تثبيت للمؤمنين على الإيمان ..
وأنهم إذا ثبتوا على إيمانهم ، وأعطوا هذا الإيمان حقّه من الصبر والتقوى ، فإنهم لن يهنوا ولن يحزنوا أبدا ، وأنهم الأعلون أبدا ..
وقوله تعالى : « إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » هو عزاء آخر للمؤمنين لما أصيبوا به فى أنفسهم ، ولما أصيبوا به فى أهليهم .. وأنهم إن يكونوا قد أصيبوا اليوم بما يؤلم ويوجع ، فقد أصابوا هم أعداءهم بما يؤلم ويوجع! ثم ليعلم المؤمنون من هذا أن طريقهم فى مسيرتهم مع الإسلام ليست كلها يوما واحدا كيوم بدر ، بل إنهم سيغلبون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 603

(2/95)

و يغلبون ، ويقتلون ويقتلون ، ويصيبون ويصابون .. وهكذا الدنيا .. وتلك سنّة الحياة فيها .. لا تدوم على وجه واحد ، بل هى وجوه متقلبة متغيرة! تقبل وتدبر ، وتضحك وتبكى ..
وذلك هو الذي يعطى الحياة حيوية ، وهو الذي يغرى الناس بالسعي والعمل ، لينتقلوا من حال إلى حال ، ومن وضع إلى وضع .. ولو أخذ الناس بوضع ثابت مستقر ـ ولو كان ذلك فى أحسن حال ، وأمكن وضع ـ لماتت فى أنفسهم نوازع التطلعات إلى المستقبل ، ولخمدت فيهم جذوة الحماس للكفاح والنضال.
وقوله تعالى : « وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » بيان لحكمة اللّه من هذا الابتلاء .. ففى هذا الابتلاء ، وتحت وطأة القتال ، ينكشف إيمان المؤمنين ، ويعرف ما عندهم من صدق وبلاء .. فيكتب لهم ما كان فى علم اللّه ، وما وقع منهم ، وهو أنهم مؤمنون مجاهدون! وفى قوله تعالى : « وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » إشارة إلى أن جماعة المؤمنين الذين كانوا مع النبىّ فى أحد ـ كانوا جميعا على درجة عالية من الإيمان ، وأنّ أنزلهم درجة فى هذا الإيمان كان مؤهلا لأن يكون فى عداد الشهداء ، ولهذا جاء قوله تعالى : « وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » خطابا لهم جميعا ، وكان نسق النظم أن يجى ء هكذا : « وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ » ، ولكنّ هذا يعزل بعض المجاهدين عن أن يكونوا فى المؤمنين ، الصالحين لأن يتخذ اللّه منهم شهداء ..
وفى قوله تعالى : « وَ يَتَّخِذَ » إشارة كريمة إلى هذا المقام الكريم الذي يرتفع إليه الشهداء ، وأنهم خيار المؤمنين ، والمصطفين منهم ، ولهذا اتخذهم اللّه شهداء .. إذ الاتخاذ أخذ عن اختبار واختيار ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 604

(2/96)

و فى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » تحريض للمسلمين على قتال المشركين ، واحتمال المكروه فى سبيل إضعافهم أو القضاء عليهم ، لأنهم ظالمون لأنفسهم ، بصرفها عن الهدى إلى الضلال ، وظالمون للإنسانية إذ هم قوى شريرة عاملة على طمس معالم الهدى وصدّ الناس عن الخير .. « وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » ومن لا يحبّه اللّه فهو عدو للّه ، يجب على أولياء اللّه أن يعادوه ، ويخلّصوه من الذي فى يديه ، يرمى به نفسه ، ويصيب به الناس.
وقوله تعالى : « وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ » أي من تمام حكمة هذا الابتلاء فيما بين المؤمنين والكافرين أن يمحّص اللّه المؤمنين بهذا الابتلاء ، وينقيهم من دخائل الضعف والوهن ، بملاقاة الشدائد والصبر عليها ، كما أن فى هذا الابتلاء إضعافا لشوكة الكافرين وتوهينا لقوى البغي والعدوان ، المتربصة بالإيمان وبالمؤمنين.
وقوله تعالى : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ » بيان آخر للحكمة من هذا الابتلاء الذي ابتلى اللّه به المؤمنين ، فى قتال الكافرين ، وهو أن هذا الابتلاء هو الذي يكشف عن إيمان المؤمنين ، وصبرهم على المكروه ، واحتمالهم الأذى فى سبيل اللّه ، وذلك هو الذي يميز الخبيث من الطيب ، ويجعل لكلّ مكانه عند اللّه .. فالجنة للمجاهدين الصابرين .. والنار للمشركين المعاندين.
وقوله تعالى : « وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ » .

(2/97)

هو عتاب رقيق للمؤمنين الذين شهدوا القتال فى أحد ، ثم تحوّل بعضهم عن موقف الموت ، إلى حيث السلامة وجمع الغنائم ، بعد أن لاحت بوارق النصر للمؤمنين : كما أن كثيرا منهم ترك القتال بعد أن بانت الهزيمة فى جانب المسلمين .. فسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 605
فلقد كان كثير من المسلمين الذين شهدوا أحدا ، ولم يكونوا قد شهدوا بدرا ـ كانوا يأسفون على أن فاتهم حظّهم من الجهاد فى معركة بدر ، وتعرضهم للاستشهاد فى سبيل اللّه .. فخرجوا إلى أحد على نية الاستشهاد .. فلما كان من هؤلاء وهؤلاء ، ما كان فى أحد ، من إقبال على الغنائم ، أو فرار من المعركة ـ كان هذا العتاب الرقيق من اللّه سبحانه وتعالى لهم ، ليذكّرهم بأنهم قالوا ولم يفعلوا ، وهذا موقف لا يرضاه اللّه لهم ، إذ يقول سبحانه : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ » (2 ـ 3 : الصف) وفى قوله تعالى : « فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »
تأسيف وتنديم ، لأولئك الذين فاتهم الاستشهاد فى « أحد » وأنهم قد ضنوا بأنفسهم عن هذا المقام الكريم ، حتى لقد اكتفوا بأن يروا الموت فى غيرهم وهم ينظرون إليه من بعيد!
الآيتان : (144 ـ 145) [سورة آل عمران (3) : الآيات 144 الى 145]
وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145)

(2/98)

التفسير : حين مال المشركون على المسلمين يوم أحد ، وأخذوهم بسيوفهم وسهامهم ، وسقط شهداؤهم الذين كانوا إلى جوار رسول اللّه ـ تنادى المشركون أن محمدا قتل!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 606
و كان لهذا الخبر الكاذب وقعه على المسلمين ، فاضطربت لذلك صفوفهم ، ووقع كثير منهم تحت وطأة الحزن والكمد ، فهام على وجهه يطلب الفرار من وجه هذا الهول الصاعق .. إذ كانوا ـ وهم يعلمون أن محمدا ميت وأنهم ميتون ـ غير مستعدّين ، نفسيا ، وهم فى معمعة المعركة ، ووجودهم كله مستغرق فيها ـ كانوا غير مستعدين أن يتلقوا هذه الصدمة المزلزلة ، وأن يصدقوها ، وإن كانت حقّا ، لا يمترون فيه ولا يشكّون! فكان عتاب اللّه لهم على ما كان منهم فى هذا الموقف ، عتابا رقيقا ، يحمل فى طياته الرحمة والمغفرة .. فما لقيهم اللّه بالعتاب إلا بعد أن ردّهم إلى الحق الذي عرفوه وآمنوا به ، وإن كان قد غاب عنهم ، أو ذهلوا عنه فى هذا الموقف الرهيب! « وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ » .. وما الرّسل إلا ناس من الناس ، وبشر من البشر .. يموتون كما يموت سائر الناس ، وقد مات الرسل جميعا ، ولا بد أن يموت محمّد.
«أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ » ..
فكيف إذا مات محمد أو قتل تتحولون عن مواقفكم ، وتنقلبون على أعقابكم تاركين ما دعاكم إليه ، وأقامكم عليه من الجهاد فى سبيل اللّه؟ إن ذلك غير مستقيم مع منطق أبدا!! « وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً » فهذا حكم اللّه .. إن من ينقلب على عقبيه فيكفر باللّه بعد إيمانه ، أو ينكص عن الجهاد بعد موت النبي ، فلن يضر اللّه شيئا .. إن اللّه غنى عن العالمين.

(2/99)

و العدول بالخطاب من الحضور إلى الغيبة ، وصرفه عن الماضي إلى المستقبل ـ فيه ما فيه من لطف اللّه ، ورحمته وإحسانه ، بل ورضاه عن المسلمين الذين شهدوا أحدا ، وشمولهم جميعا بهذا الصفح الجميل ، والرضوان العظيم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 607
و فى قوله تعالى : « وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ » لطف فوق هذا اللطف ، ورحمة فوق هذه الرحمة ، وإحسان فوق هذا الإحسان!! فالمسلمون الذين شهدوا أحدا ، قد تلقوا ألطاف اللّه هذه ، بالشكر العظيم ، وهم إذ يشكرون اللّه على رحمته بهم وفضله عليهم مجزئّون جزاء الشاكرين.
«فالشاكرون » هنا ـ وإن صح إطلاقها على كل شاكر ـ متجهة أولا وقبل كلّ شى ء إلى هؤلاء الذين انتظمهم جيش رسول اللّه ، فى معركة أحد! ثم كان قوله تعالى : « وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا » عزءا جميلا للمسلمين ، وتسرية عنهم لما أصيبوا به فى أحد.
فهؤلاء الذين استشهدوا فى سبيل اللّه قد ظفروا بالشهادة ، دون أن ينقص ذلك من أجلهم ساعة واحدة .. فما تموت نفس على أي وجه من وجوه الموت ، دون أن تستوفى أجلها المقدور لها « لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ » (38 : الرعد) ..
«

(2/100)

لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ » (49 : النحل) فمن أراد ثواب الدنيا واستيفاء حظه منها ، ففرّ بنفسه عن مواطن الابتلاء ، فله ما أراد ، دون أن يزيد ذلك من عمره شيئا .. ومن أراد ثواب الآخرة ، مجاهدا فى سبيل اللّه ، يستقبل الموت ولا يستدبره ، فله ما أراد ، ولن ينقص ذلك من أجله شيئا!! وفى قوله تعالى : « وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ » إشارة إلى المؤمنين الذين عرفوا هذه الحقيقة واستيقنوها ، فشكروا اللّه على ما أقامهم به على طريق الجهاد ، ونظمهم فى صفوف الشهداء ، ووفاهم أجرهم ، دون أن يستقضيهم ذلك ساعة واحدة من آجالهم التي حرص عليها غيرهم ، ممن نكص عن الجهاد ، وارتدّ على عقبه ، فرارا من الموت ، الذي هو طالبه حين يستوفى أجله.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 608
الآيات : (146 ـ 148) [سورة آل عمران (3) : الآيات 146 الى 148]
وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
التفسير : فى الآيات السابقة كان من اللّه ، هذا العتاب الرفيق ، الذي يحمل الإعتاب والرضا ، ويسوق الإحسان والرحمة ، ويبعث فى صدور المسلمين دف ء الأمل بالنصر للإسلام ، والإعزاز للمسلمين ، فيجدون فى هذا كلّه العزاء الجميل لما أصابهم من جراح ، فى أجسامهم ، ولما وقع فى نفوسهم من مرارة الهزيمة ، وعلوّ يد الكافرين عليهم فى هذه المعركة ، معركة أحد ..

(2/101)

و هنا ، فى قوله تعالى « وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ » صورة اخرى من صور العزاء والتّسرية عن المسلمين ، بما تحمل إليهم كلمات اللّه من مواقف الإيمان والصّبر ، للمؤمنين فى الأمم التي خلت ، ممن صدّق الرسل وجاهد فى سبيل اللّه.
والربّيون : جمع ربّىّ ، وهو من آمن باللّه ، وأضاف نفسه إلى ربّه ، متوكلا عليه ، مستقيما على صراطه.
فكثير من هؤلاء المؤمنين من أتباع الرسل ، كانوا مع الأنبياء مجاهدين فى سبيل اللّه ، لم يهنوا ولم يضعفوا ، مهما نزل بهم من شدائد أو وقع عليهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 609
من بلاء. وهؤلاء هم ممّن يحبّهم اللّه ويوسع لهم فى منازل رضوانه ورحمته :
«وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ » وفى قوله تعالى : « وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » إشارة إلى ما ينبغى أن يكون عليه موقف المجاهدين الصابرين ، حين يكربهم الكرب ، ويشتدّ بهم البلاء .. لا يذكرون غير اللّه ، ولا يلتفتون إلا إليه ، طالبين عفوه ومغفرته ، وتثبيت أقدامهم فى موطن الجهاد ، حتى لا تنزع بهم نفوسهم إلى أن يولوا الأدبار ، وأن يطلبوا السلامة والنجاة.

(2/102)

و فى طلبهم أن يغفر اللّه لهم ذنوبهم ، وإسرافهم فى أمرهم ـ أي خروجهم عن سواء السبيل فى بعض أحوالهم ـ فى طلبهم هذا ، وفى جعله مفتتح دعائهم ، اعتراف ضمنىّ بأن شيئا ما دخل على إيمانهم ، فأدخل الوهن والضعف عليهم ـ وإن لم يهنوا ولم يضعفوا ـ وباعد بينهم وبين النصر المرجوّ على عدوهم .. فهم فى هذا الدعاء يضرعون إلى اللّه أن يغفر لهم ذنوبهم ، وأن يتجاوز عن سيئاتهم ، فإذا استجاب اللّه لهم ذلك ، طهرت نفوسهم ، واستقامت طريقهم إلى اللّه ، واشتد قربهم منه ، وكان لهم أن يطلبوا إلى اللّه أن يثبت أقدامهم ، وأن يمسك بهم على هذا الطريق الذي استقاموا عليه ..
وهذه الحال التي تنكشف عن موقف المؤمنين من أتباع الرسل تلقى على المؤمنين الذين شهدوا أحدا ظلالا من الاتهام ، واللّوم ، والعتاب ، لما وقع فى نفوس بعضهم ، وما جرى على ألسنة بعض آخر .. من وساوس الشك والريبة ..
فقال قائل : « أَنَّى هذا؟ » (165 : آل عمران) وقال آخرون : « لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا » (154 : آل عمران) .. لقد نظر هؤلاء وأولئك إلى غير ما كان ينبغى أن ينظروا إليه .. لقد نظروا إلى غيرهم ، وألقوا باللائمة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 610
عليه .. ولم ينظروا إلى أنفسهم ليبحثوا عما وقع فيها من خلل ، كما كان يفعل المؤمنين قبلهم من أتباع الرسل ، حين تنزل بهم الشدائد ، وتتوالى عليهم المحن.
وفى قوله تعالى : « فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ » مشهد كريم ، يعرض على أنظار المسلمين ، لمن آمن باللّه واستقام على طريقة ، حتى إذا استشعر أن يد اللّه قد تراخت عنه ، اتّهم نفسه ، وأيقن أن خللا وقع فى صلته باللّه ، فبادر فأصلحه ، وصالح اللّه ، فوجد العفو والمغفرة ، ثم أصاب النصر والظفر ..

(2/103)

و هؤلاء المؤمنون الذين جاهدوا مع رسل اللّه ، وكان شأنهم عند اشتداد المحن ، وقسوة البلاء ، العودة إلى اللّه بإصلاح أنفسهم ـ هؤلاء قد أعزّهم اللّه فى الدنيا ، فكتب لهم النصر على عدوهم ، وأجزل لهم المثوبة والرضوان فى الآخرة ، لما كان منهم من صبر على البلاء ، وثبات فى وجه الموت.
الآيات : (149 ـ 150 ـ 151) [سورة آل عمران (3) : الآيات 149 الى 151]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151)
التفسير : وفى هذه الآيات يرى للّه المؤمنين موقفهم من الكافرين ، فيحذّرهم من أن يستمعوا إلى ما يتخرّصون به ، وما يلقون إلى أسماع الناس من تعليقات خبيثة على معركة أحد ، وما أصاب المسلمين فيها .. فإن الاستماع إلى هذه المقولات ، والاطمئنان إلى قائليها يوهن إيمان المؤمنين ، ويفسد عليهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 611
أمرهم ، فلا يلقون إلا الخذلان والخسران! ثم إذا استجاب المسلمون إلى ما دعاهم اللّه إليه من تجنب الكافرين والحذر منهم .. لفثهم اللّه سبحانه إليه ، ودعاهم إلى الاعتصام به ، والاعتزاز بالاعتماد عليه والثقة فى نصره : « بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ » .
وفى قوله تعالى : « بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ » دعوة من اللّه إلى المؤمنين أن يلوذوا به ، فإنه سبحانه لم يؤاخذهم بما كسبوا ، ولم يبعدهم عن حظيرة محبّته ورضوانه ، فهو مولاهم ، وهو الذي يثبّت أقدامهم ، ويمنحهم النصر على عدوهم « وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ » .

(2/104)

أما هؤلاء المشركون ، الذين خيل إليهم أنهم كسبوا المعركة ، وفرغوا من أمر الإسلام والمسلمين ـ فإن لهم يوما تتنكس فيه راية الشرك إلى الأبد ، فيذلّ المشركون فى هذه الدنيا ، والنار مثوى لهم يوم يقوم الناس لرب العالمين ..
فهؤلاء المشركون ، سيملأ اللّه قلوبهم رعبا ، بما حملوا من شرك ، وبما عبدوا من ضلالات .. إذ أن الشرك بقتل فى صاحبه كل معانى الإنسانية ، ويقيمه فى هذه الدنيا مقاما قلقا مضطربا ، لا يجد ما يستند إليه عند الشدائد والمحن.
وما ظنّك بإنسان ـ إذا كربه الكرب ، ونزلت به النوازل ـ فزع الى حجر يعبده؟ أو إلى حيوان يسجد بين يديه؟
و أين هذا ممن يمدّ يده إلى مالك الملك ، ويفزع إلى من بيده ملكوت السموات والأرض؟
و شتّان بين هذا وذاك .. فالمشرك يدعو من لا يملك ضرّا ولا نفعا ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 612
و يهتف بمن لا يستجيب له إلى يوم القيامة .. أما المؤمن فيدعو ربّ الأرباب ، ومدبّر الأكوان ، والآخذ بناصية كل كائن ، والقائم على كل موجود.
الآية : (152) [سورة آل عمران (3) : آية 152]
وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

(2/105)

التفسير : فى أولى الآيات التي استفتح اللّه بها ذكر تلك المعركة ـ معركة أحد ـ جاء قوله تعالى : « بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ » .. وكان هذا وعدا من اللّه المؤمنين بالمدد العلوىّ ، الذي يحمل معه النصر لهم. وقد جاء هذا الوعد مشروطا وأنه لن يحققه اللّه لهم إلا إذا وفوا بهذا الشرط ، وهو أن يصبروا ويتقوا ..
وقد صبر المسلمون فى أول القتال ، وأعطوا أنفسهم كلها للمعركة ..
فصدقهم اللّه وعده ، وأراهم بشائر النصر .. فإنه منذ الساعات الأولى من القتال استولى المسلمون على زمام المعركة ، وبدأت طلائع بدر تطل عليهم ، فقتلوا مقتلة عظيمة فى المشركين ، وأدخلوا فى صفوفهم الخلل والاضطراب ، حتى همّوا بالهزيمة والفرار ، وأخلوا أيديهم مما معهم من متاع .. وإذ ذاك امتدت أبصار كثير من المسلمين إلى هذا المتاع الذي تخلّى عنه أهله ، وكان الأولى بهم أن يلتفتوا إلى رءوس المشركين أولا ، فيزيلوها عن مكانها ، فهذا هو الأمر الذي ندبهم اللّه له ، وانتظموا فى سبيل المجاهدين من أجله!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 613
و إذن فقد تخلّى المسلمون عن الشرط الذي اشترطه اللّه عليهم ليمنحهم نصره .. فكان أن تخلّى عنهم النصر ، واستقبلتهم الهزيمة ..!!
و فى قوله تعالى : « إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ » إشارة إلى ما فعل المسلمون بالمشركين أول الأمر ، وأنهم حصدوهم حصدا .. فالحسّ معناه : القتل الذّريع الكثير ..

(2/106)

و قوله تعالى : « حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ » يشير إلى ما كان من جماعة الرّماة التي جعلها الرسول الكريم من وراء جيش المسلمين ، تحمى ظهورهم من أن يأخذهم كمين من العدو على غرّة ، وقد وصّى النبىّ هؤلاء الرماة أن يلزموا أماكنهم ، وألا يتحولوا عنها بحال أبدا ، سواء انتصر المسلمون أو انهزموا.
ولكن الذي كان من الرماة غير هذا .. فإنهم ما كادوا يرون الهزيمة فى المشركين ، ويرون الأسلاب والغنائم وقد تخلّى عنها أصحابها ، حتى قال قائل منهم : ما موقفنا هنا ، وقد ولّى المشركون وانهزموا؟ وقال آخرون : إن الرسول لم يلزمنا أن نكون حيث نحن إلا لنحمى ظهر المسلمين من العدو .. فأين هذا العدوّ؟ وقال رئيس الجماعة ، وهو عبد اللّه بن جبير : « يا قوم .. الزموا أماكنكم كما أمرنا رسول اللّه ، ولا تتحولوا عنها .. » فأبى عليه كثيرون ، وتركوه فى نفر من أصحابه .. وما هى إلا لحظات حتى رأى خالد بن الوليد ، ـ وكان على فرسان المشركين ـ رأى موقف الرماة يكاد يكون خلوا فاستدار إليهم بمن معه من فرسان ، فاستقبله عبد اللّه بن جبير ، ومن معه ، مقاتلين ، حتى استشهدوا جميعا ، رحمهم اللّه.
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 614

(2/107)

و فى قوله تعالى : « ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ » إشارة إلى أن تحوّل المعركة من جانب المسلمين إلى المشركين كان عن حكمة أرادها اللّه ، وهى أن يبتلى المؤمنين بهذا البلاء ، وأن يضعهم أمام تجربة يواجهون فيها الشدائد والمحن ، ليروا ما عندهم من صبر واحتمال ، وليسدّوا الخلل الذي يجدونه فى أنفسهم ، استعدادا للمعارك المقبلة بينهم وبين المشركين.
وفى قوله تعالى : « وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ » إشارة أخرى إلى أن ما كان من المسلمين من تحول عن القتال ، وانصراف إلى الغنائم ، وإن كان مما كسبته أيديهم ـ قد عفا اللّه عنه ، وتجاوز عن مقترفيه ، لأنهم كانوا مقهورين تحت إرادة غالبة للّه ، فى هذا الذي كان منهم ، ليكون لهم فيه درس نافع فى لقاء المشركين بعد هذا .. وفى توكيد فعل العفو باللام الموطئة للقسم ، وبحرف التحقيق قد ـ « و لقد » ـ إظهار لسعة رحمة اللّه ، وتمام فضله على عباده ، المجاهدين فى سبيله « وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ » يغفر لهم ، ويتجاوز عن سيئاتهم ، ويعيدهم إليه إذا بعدت الطريق بهم عنه.
الآيتان : (153 ـ 154) [سورة آل عمران (3) : الآيات 153 الى 154]

(2/108)

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 615

(2/109)

التفسير : فى قوله تعالى : « إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ » تذكير للمسلمين بما كان منهم فى هذه المعركة ـ معركة أحد ـ وغمزة عتاب لهم على أن فرّوا صاعدين الجبل ، لا يلوون على أحد ، أي غير ملتفتين إلى من وراءهم .. وإن وراءهم إخوانا لهم صمدوا للمشركين ، واستقبلوا الموت راضين .. بل وراءهم ، نبيّهم يواجه العدوّ وحده فى بضعة رجال من أصحابه .. فكيف يفرّون؟ ثم إذا كانت منهم فرّة أفلا كانت منهم لفتة إلى النبىّ وقد أحاط العدوّ به؟ ثم ألا كانت منهم كرّة إلى العدوّ ، يدفعون يده الضاغطة على رسول اللّه ومن معه؟ وهل شى ء أحبّ إلى المسلم وأعزّ عنده من النبىّ .. ولو كانت نفسه التي بين جنبيه؟ إن ذلك خيانة للنفس ذاتها ، وتضييع لها ، بسلبها هذا الشرف العظيم ، شرف الدفاع عن رسول اللّه ، والموت فى موطن الدفاع عنه! وفى قوله تعالى : « وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ » مواجهة صريحة للمسلمين الذين فرّوا صاعدين فى الجبل ، وأنهم أمعنوا فى الفرار ، وبعدوا عن ميدان المعركة .. حتى لا يكاد صوت الرسول يبلغ مؤخرتهم وهو يهتف بهم :
إلىّ عباد اللّه!! وقوله تعالى : « فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ » .
الإثابة من الثواب ، وهو الجزاء على عمل الإحسان بالإحسان! وفى التعبير بالإثابة عن الغمّ بالغمّ ، إثارة لمشاعر الندم عند هؤلاء المسلمين
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 616
الذين فرّوا ، لما فاتهم من الثواب العظيم الذي كان لهم أن يحصلوا عليه فى هذا الموطن ، لو أنهم صبروا ، وثبتوا.
ونعم إنهم أثيبوا .. ولكن لا يكادون يمدون أيديهم إلى هذا الثواب حتى يجدوه غمّا!! فأى ثواب هذا؟ إن ذلك هو ما يمكن أن يجازوا عليه إن كان لهم أن يطلبوا مثوبة على ما كان منهم!! والغم الذي جوزوا عليه بغم .. هو ما كان فى فرارهم الذي رآه النبىّ فاغتمّ له ..

(2/110)

و أما الغم الذي كان جزاء لهم .. فهو ما وقع فى نفوسهم من حسرة وألم ، حين انكشف لهم موقفهم ، وعاينوا الآثار السيئة التي نجمت عن فعلتهم تلك ، والتي نفذ منها المشركون إلى المسلمين ، وأوقعوا الهزيمة بهم.
وهذه الحسرة التي ملأت قلوبهم ، وذلك الألم الذي استولى على كيانهم ، قد غطّيا على كلّ ما أصيبوا به فى هذا الموطن .. فلم يبالوا بعد هذا بالغنائم التي أفلتت من أيديهم ، ولم يهتمّوا لما أصيبوا به فى أنفسهم ، وفى إخوانهم ، بعد أن استجابوا الرسول ، وأقبلوا إليه ، يقاتلون معه ، ويتلقون عنه ، سهام المشركين ، وسيوفهم.
ولقد كان هذا الغمّ الّذى وجدوه فى أنفسهم حاجزا تتحطم عنده كل واردات الهمّ والحزن لما فاتهم ، ولما أصابهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :
«لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ » .. وفى هذا رحمة بهم ، وفضل من اللّه عليهم .. بل هو ثواب فى مقام العقاب ، وجزاء حسن فى معرض الحساب والمؤاخذة!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 617
و هكذا يلقى اللّه عباده وأولياءه فى كل موطن .. يلقاهم بالخير دائما ، وبالفضل والإحسان فى كل متّجه ، حتى ولو كانوا على غير ما يحبّ اللّه منهم ..
فإنه إذّاك يعاقبهم ، ولكنه عقاب كلّه رحمة ، وكلّه خير ، إذ يعالج هموما ، ويدفع آلاما.
وأكثر من هذا ..
فإن هذا الغمّ الذي « أثاب » اللّه به أولئك المؤمنين يومئذ ، لم يكن إلا دواء ، وفى الدواء مرارة .. شأن كل دواء ..
ومع هذا ، فإن رحمة اللّه بهم لم تدع هذه المرارة تسكن فى نفوسهم ، وتستقر فى كيانهم .. فما هى إلا أن يفعل الدواء فعله فى تسكين الداء ، وفى الذهاب به ، حتى تجى ء رحمة اللّه فتنتزع تلك المرارة وتذهب بها .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :
«

(2/111)

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ » فقد ألقى اللّه على المسلمين وهم فى ذروة المعركة خفقة من نعاس ، مرّت بهم مرور النسمة العليلة ، فملأت قلوبهم سكينة وأمنا ، ومسحت على أجسامهم بيد السلامة والعافية!! وعجب أن يطوف النعاس بجفن المحارب ، والرّماح تنوشه ، والسّهام والسيوف تتعاوره .. ولكنه القلب حين يستخفّ بالموت ، والإيمان حين يرتفع بالإنسان فوق هذا التراب الذي تدبّ فوقه قدماه ، فإذا هو محلّق فى السماء ، يعلو فوق كل خطر ، ويسمو فوق كل شدّة!! والطائفة التي تشير إليها الآية الكريمة ، والتي أفرغ اللّه فى قلوبها هذا الأمن ، وساق إليها تلك الخفقة من النعاس ، هى الطائفة التي ثبتت مع النبي ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 618
سواء من كان منها الذي ثبت طوال المعركة كلّها ، أو من انهزم أو فرّ ، ثم عاد إلى مكانه من القتال ..
وهناك طائفة أخرى ، ممن كانوا مع المسلمين أول الأمر ، وعلى رأسهم عبد اللّه بن أبىّ بن سلول ، فإنهم حين أوشك القتال أن يلتحم بين المسلمين وبين المشركين ، انحاز بهم صاحبهم جانبا ، متذرّعين بتلك الكلمة المنافقة ، التي حكاها القرآن الكريم عنهم. فى قوله تعالى : « لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ » (166 : آل عمران) وهم يعلمون يقينا أن القتال وشيك بين المسلمين وبين المشركين. ولكنهم لكى يجدوا لأنفسهم عذرا فى النكوص على أعقابهم قالوا تلك القولة الكاذبة التي حكاها القرآن عنهم ..
هذه الطائفة لم يكن لها من هذا الأمن الذي سكبه اللّه فى قلوب المؤمنين ، نصيب ، وهى التي أشار اللّه سبحانه وتعالى إليها بقوله :
«

(2/112)

وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا » .
فهذه الطائفة ، طائفة ابن سلول ، قد أهمتهم أنفسهم ، ولم يكن همّهم الإسلام ، ولا الدفاع عنه .. بل طلبوا السلامة لأنفسهم أولا ، فتجنبوا المعركة ، ووقفوا بعيدا ينتظرون من تدور الدائرة عليه ، من الفئتين المقاتلتين.
وفى قوله تعالى : « يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ » اتهام لهؤلاء الذين أهمّتهم أنفسهم ، ومواجهة لهم بالجرم الذي ارتكبوه .. إنهم يظنون باللّه ظنّ السّوء ، فيكذّبون بما وعدهم اللّه به ، وينظرون إلى اللّه تلك النظرة الباردة التي كانوا ينظرون بها إلى آلهتهم من الأصنام التي كانوا يعبدونها ، فيجعلون حساب اللّه عندهم كحساب هذه الأصنام ، حتى لكأن الإسلام لم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 619
يغيّر من حالهم فى جاهليتهم شيئا ..
وفى قوله تعالى : « يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ » كشف لبعض ظنونهم السيئة باللّه .. فهم يسألون فى استبعاد واتهام « هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ؟ » ..

(2/113)

و الأمر الذي يسألون أو يتساءلون عنه هو أمر النصر والغلب الذي وعد اللّه به النبىّ والمؤمنين .. وقد أمر اللّه الرسول أن يجيبهم بقوله تعالى : « قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ » .. فلو كانوا مؤمنين باللّه حقّا لما سألوا هذا السؤال ، ولعلموا أن كل شى ء بيد اللّه ، وليد اللّه .. ولكان عليهم أن يستقيموا على ما دعاهم اللّه إليه من الجهاد ، معتصمين بالصبر والتقوى .. ثم ليستقبلوا ما يكون بعد ذلك من نصر أو هزيمة ، فإن كان النصر ، حمدوا اللّه وشكروا له ، وإن كانت الهزيمة أسلموا أمرهم للّه ، وصبروا على ما أصابهم .. وقالوا قولة المؤمنين عند لقاء الأمور على وجوهها المختلفة : « كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » (78 : النساء) وقوله تعالى : « يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ » يكشف للنبىّ عن دخيلة هؤلاء الضعاف الإيمان ، وأنهم يقولون فى أنفسهم ، أي فيما بين المرء ونفسه ، أو فيما بين بعضهم وبعض ـ يقولون شيئا غير هذا الذي واجهوا به النبي والمسلمين فى قولهم : « هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ؟ » فهذا السؤال على ما فيه خبث ، وضعف إيمان ، يمكن أن يقبل منهم ، ويحمل على الجهل وسوء الظن باللّه ..
ولكن الذي يدور فى أنفسهم ، ويجرى فيما بينهم ، هو اتهام صريح للّه ، وتجديف عليه ، يكاد يكون ردّة عن الإسلام .. وهذا ما فضحه اللّه منهم وأعلنه على العالمين ، فى قوله سبحانه :
«يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا » .
إنهم ـ هنا ـ يقولونها صريحة ، بأن ما وعدهم اللّه لم يكن إلا غرورا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 620
و أنه لو كان هذا الوعد حقّا ، لما كانت هذه الدائرة التي دارت على المسلمين ، وذهبت بكثير من النفوس.

(2/114)

و فى قولهم : « ما قُتِلْنا هاهُنا » بإضافة القتل إليهم ، مع أنهم لم يقتلوا ، بل ولم يقاتلوا ـ فى هذا القول ما يكشف عن مدى إيمانهم بهذا القول المنكر ، وأنه هو القول الذي كان ينبغى أن يكون لسان حال المسلمين جميعا ، حسب تصويرهم وتقديرهم.
وقد ردّ اللّه عليهم بقوله : « قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ » أي أن هذا القتل الذي وقع فى المسلمين لم يكن يعصمهم منه عاصم ، فما هو إلا أجل قد انقضى ، وموت أنهى هذا الأجل عند انقضائه ، على الصورة التي قضى اللّه أن ينتهى به عليها ..
فهؤلاء الذين استشهدوا فى أحد ، قد كتب اللّه عليهم أن يقتلوا فى هذا الوقت ، وفى هذا المكان ، وأن يكرموا بالشهادة .. وليس فى الوجود قوة تمنع قضاء اللّه أن ينفذ على الوجه الذي أراده ، وقضى به ..
وقوله تعالى : « وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ » معطوف على مفهوم من قوله تعالى : « لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ » .. أي لو لزمتم بيوتكم ، وأصررتم على التزامها ، لدعا قضاء اللّه الذي قضاه على هؤلاء الذين قتلوا ، أن يخرجوا إلى حيث التقوا بالعدوّ ، وإلى حيث دارت المعركة ، وسقط القتلى ، فذلك أمر قضى اللّه به فيمن أراد قتله ، وليبتلى ما فى قلوبكم أيها المجدفون على اللّه ، من ضعف ، وليخرج ما فى صدوركم من نفاق .. فلو لا هذه المحنة وما كان فيها ، لما ظهر ضعف إيمانكم ، ولما استعان نفاقكم للمؤمنين .. وهذا بعض حكمة الابتلاء الذي يبتلى اللّه به المؤمنين ، فيما فرضه عليهم من جهاد الكافرين والمنافقين!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 621

(2/115)

و فى قوله تعالى. « وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ » بيان لسعة علم اللّه ، ونفوذه إلى كل خفىّ .. فعلم ـ سبحانه ـ لا يقف عند ظواهر الأشياء ، ولكنه ينفذ إلى كل ذرة من ذراتها ، وإلى كل دقيقة من دقائقها.
وذات الشي ء : حقيقته. وكنهه ، وما اشتمل عليه من أسرار وخفايا ، وذات الصدور ، حقيقتها ، وما تلبّس بها من خفايا وأسرار .. فالصدور وما تكنّ ، والضمائر وما تجنّ ، يعلم منها اللّه ما لا يعلم صاحبها .. فسبحانه ، سبحانه ، وسع كل شى ء علما!!
الآيات : (155 ـ 158) [سورة آل عمران (3) : الآيات 155 الى 158]
إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
التفسير : هنا يلتفت اللّه سبحانه إلى المؤمنين ، بعد أن كشف لهم عن موقف المنافقين ، الذين يعيشون معهم بهذا الثوب الرقيق الذي يلبسونه من نسيج الإسلام! وفى هذه اللفتة يرى اللّه المسلمين جماعة منهم ضعفوا عند لقاء العدو ، فتحول بعضهم عن مكانه إلى حيث السّلب والغنائم ، وانهزم بعضهم وفرّ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 622

(2/116)

مصعّدا فى الجبل .. فهؤلاء جميعا كانوا موضع لوم وعتب بين جماعة المسلمين الذين ثبتوا للعدو ، وصمدوا لضرباته .. وقد كثر القول فيهم ، وتضاربت الآراء فى إيمانهم! وتلك حال جدير بها أن تمزّق وحدة المسلمين ، وأن تفتّ فى عضدهم ، بل وأن تذهب ببعض نفوسهم همّا وكمدا.
وتجى ء رحمة اللّه ، فتهب هؤلاء الملومين عفوا ومغفرة. وتنقلهم من هذه العزلة الباردة القاتلة ، إلى حيث دف ء الطمأنينة ، وروح السلامة والعافية ..
وهذا ما يشير إليه قوله سبحانه : « إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ » .
فهؤلاء الذين تولوا يوم القتال ، إنما كان ذلك منهم لما مكّنوا للشيطان من أنفسهم ، ببعض ما كسبوا من سيئات! وهذا يعنى أن المؤمن الحريص على إيمانه ، الحارس له من نزعات الهوى ، هو فى حصن حصين من أن ينفذ الشيطان إليه ، ويوسوس له ، ويستولى على زمام أمره .. ، إن المعاصي التي يرتكبها المؤمن ، هى قذائف مدمرة ، تدك حصون إيمانه ، فيجد الشيطان طريقه إليه ، ثم يرميه الرمية القاتلة.
وفى قوله تعالى : « وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ » إعلان كريم ، من رب كريم ، بالصلح الجميل ، والمغفرة الواسعة ، التي تصحح إيمان المؤمن ، وتعيد بناءه أقوى قوة ، وأشدّ صلاية! وفى قوله سبحانه : « إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ » إعلان آخر عن سعة رحمة اللّه ومغفرته ، وأنها تسع العصاة كما تسع الطائعين .. فحلمه يستدعى مغفرته أن تغفر للمذنبين ، ولا تأخذهم بما اقترفوا ، حتى يعذروا بهذا الصفح وتلك المغفرة ، مرة ، ومرات ..
ونجد فيما كان من رحمة اللّه ومغفرته لهؤلاء الذين استزلّهم الشيطان ـ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 623

(2/117)

نجد فى هذا ، كيف كان علم اللّه بما فى الإنسان من ضعف ، وأنه فى معرض الخطأ والزلل ، وذلك مما يقيم له عذره عند اللّه ، فيمنحه عفوه ومغفرته ، فإن هفا هفوة ، أو زلّ زلة ، أقال اللّه عثرته ، وأنهضه من كبوته ، وأعاده إلى حظيرة الإسلام ، ولو تركه لشرد وضلّ ، وهلك ..
وقوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا » .
دعوة للمؤمنين أن يتجنبوا وساوس الكافرين الذين لا يؤمنون بقضاء اللّه ، ولا يستسلمون لقدره .. فإذا مات لهم ميت أو قتل لهم قتيل ، وهو يجاهد فى سبيل اللّه ـ قالوا هذا القول المنكر ، الذي حكاه القرآن عنهم :
«لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا » .. وهذا ضلال فى الرأى ، وكفر باللّه ، ودفع لقضائه .. فقد مات من مات وقتل من قتل ، حين استوفى كل أجله ..
وهذا الضلال فى الرأى ، إنما هو ـ فوق أنه كفر باللّه ـ هو مبعث حسرة وندم ، تمتلى ء بهما قلوب الكافرين كمدا وألما أن ذهب إخوانهم فى هذا الوجه ، فكان ذلك سبب موتهم أو قتلهم ، ولو أقاموا معهم ما ماتوا وما قتلوا :
«لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ » ولو أنهم عقلوا وآمنوا ، لعلموا أن الموت والحياة بيد اللّه ، ليس لأحد شأن أو تدبير فيهما : « وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ » قد أحاط علمه بكل شى ء ، ونفذ حكمه فى كل شى ء! وهذا من شأنه أن يدعو الإنسان إلى التسليم والرضا بالشر والخير ، والضرّ والنفع.
والسؤال هنا : كيف يكون منهم قول لأولئك الذين قتلوا أو ماتوا؟
و كيف يسمّون بإخوانهم ، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 624

(2/118)

و للإجابة عن الشقّ الثاني من السؤال يتكلف النحاة القول بأن اللام فى « لإخوانهم » بمعنى « عن » والتقدير على هذا : أنهم قالوا عن إخوانهم الذين قتلوا أو ماتوا هذا القول : « لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا » وبهذا التخريج أخذ المفسرون.
ونحن لا نقبل أن تخضع كلمات اللّه لمثل هذا التمحّك الذي يمكن أن يحمل عليه كل كلام ..
وننظر فنجد القرآن الكريم يعيد هذا القول مرة أخرى ، على لسان هؤلاء القوم .. فيقول تعالى : « الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا » (68 : آل عمران) فالتزام القرآن للام التعدية بعد القول فى الموضعين ، فيه دلالة على إجراء القول على حقيقته ، وهو أن يتعدى إلى مفعوله باللام ، تقول : قلت له ، وقال لى.
وعلى هذا تكون « اللام » فى قوله تعالى : « الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ » ـ فى الموضعين ـ هى لام التعدية ، وأنهم فعلا قالوا لإخوانهم وتحدّثوا إليهم!! ولكن كيف هذا؟ وهؤلاء أحياء وأولئك أموات؟
و الجواب ـ واللّه أعلم ـ أن هؤلاء المنافقين أو الكافرين ، حين لم يؤمنوا باللّه ، ولم يستسلموا لحكمه ، ويرضوا بقضائه ـ قد تلقوا مصرع من مات منهم فى ميدان القتال ، أو فى طريقه إليه ، قد تلقوه جزعين مذهولين ، كأنهم يستقبلون أمرا لم يكن فى حسابهم أن يقع ، لأنهم ينكرون الموت الذي يكون فى غير البيت ، أو على غير فراش المرض ، ويعدّون مثل هذا الموت خيانة لهم ممن مات منهم به ، فتشتد حسرتهم ، ويتضاعف ألمهم ، ويخرج بهم ذلك إلى شى ء من الهلوسة والخبل ، فيندبون موتاهم هؤلاء ، وينادونهم من
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 625
قريب نداءآت منكرة محمومة : ألم أقل لك يا فلان لا تذهب إلى القتال؟ إنك لو أطعتنى لما أصابك سوء .. أ لم أحذرك يا فلان عاقبة الأمر الذي انطلقت إليه؟ إنك لو استمعت إلى نصحى لما قطعت حبل حياتك وأنت فى ريعان الصّبا ، وفتاء الشباب؟؟

(2/119)

و هكذا يظلون أياما وليالى ينادون ، ويناجون ، ويندبون موتاهم ، ويستحضرونهم فى تصوراتهم المريضة ، ويرونهم فى مصارعهم تنهشهم السباع وتتخطفهم الطير ، فيزداد حزنهم ، وتشتد حسرتهم : « لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ » ! أما الجواب عن الشق الثاني من السؤال ، وهو : كيف يسمّون إخوانهم ، وهؤلاء كافرون وأولئك مؤمنون ـ فنقول ـ واللّه أعلم :
أولا : أن هؤلاء الكافرين كانوا فى جماعة المؤمنين أولا ، فلما كانت وقعة أحد ، ورأوا ما رأوا مما أصاب المسلمين ، ساء ظنّهم باللّه الذي آمنوا به ، ثم بلغ بهم سوء الظن إلى الارتداد عن الإسلام ـ فتسميتهم إخوانا لهؤلاء المؤمنين تذكير لهم بالدين الذي كانوا عليه ، ودعوة مجدّدة من اللّه إليهم ليدخلوا فيه ، بعد أن خرجوا منه.
وثانيا : فى هذه التسمية للكافرين بأنهم إخوان لأولئك المؤمنين الذين قتلوا فى سبيل اللّه ـ فضح لهم ، ومواجهة صريحة بالحكم الذي حكم اللّه به عليهم وهو أنهم كافرون ، وفى هذا ما يجعلهم يتعرفون إلى أنفسهم ، ويرون الهاوية التي سقطوا فيها ، وهم يقولون هذه المقولات المنكرة ـ وأنهم إذا كان عند أحدهم شك فى أن هذه المقولات التي يقولها لا تدخل به إلى مداخل الكفر ، فليعلم أنه يخدع نفسه ، ويضلّلها .. فما هو بعد هذا من المؤمنين ..
فإما أن يتوب ويرجع إلى اللّه ، وإما أن يمضى فى طريقه ، مع ضلاله وكفره ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 626
و انظر فى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا » .
تجد أن اللّه سبحانه ، قد حكم عليهم أولا بأنهم كافرون ، ثم أكّد كفرهم هذا بأنهم كانوا إخوانا لأولئك المؤمنين .. وأنهم منذ قالوا هذا القول ليسوا من الإيمان ولا المؤمنين فى شى ء.
وقوله تعالى :
«

(2/120)

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ » التفات إلى المؤمنين الذين سيقتلون أو سيموتون فى سبيل اللّه ، وأنهم سيلقون مغفرة من اللّه ورحمة ، وأن هذا الذي يلقونه من مغفرة ورحمة خير مما يجمع هؤلاء الكافرون من مال ومتاع ..
قوله تعالى :
«وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ » .. هو خطاب عام للناس جميعا .. مؤمنين وكافرين ـ من قتل منهم ومن مات بغير قتل ـ بأنهم سيحشرون إلى اللّه ، ويقفون بين يديه للحساب ، وسيوفّى كل منهم حسابه عند اللّه .. إن خيرا فخير ، وإن شرا فشرّ ..
الآية : (159) [سورة آل عمران (3) : آية 159]
فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 627
التفسير : هذه لتتة خاصة من اللّه سبحانه إلى رسوله الكريم ، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد أودع قلب نبيّه الرّحمة بالمؤمنين ، ليكون فيهم الأب الودود الرحيم ، يرعى أبناءه ، ويسدّد خطاهم ، ويتقبل من محسنهم ، ويعفو عن مسيئهم .. هكذا النبىّ فى مجتمع المسلمين .. إنه أب لهذه الأسرة الكبيرة ، يسعها قلبه الكبير ، بعطفه ، وحلمه ، ومودته ..
«لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ » .. على هذا الخلق الكريم صنعه اللّه وطبعه ، وبهذه الرحمة أرسله رحمة وهدى للعالمين.
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ » الباء هنا للسببية ، أي بسبب ما أودع اللّه فيك من رحمة ، كان منك هذا اللّين ، وذلك العطف على المؤمنين ..
«

(2/121)

وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ » وفى هذا كشف للطبيعة البشرية ، وأن الناس إنما يألفون من يتألفهم ، ويحسن إليهم ، ويلقاهم بالصفح الجميل .. وعلى غير هذا من كان حادّ الطبع ، شرس الخلق ، غليظ القلب ، لا يقيل عثرة ، ولا يغفر زلة .. إنه لن يجد من الناس إلّا المقت والنفور ..
وأنه إذا صح لإنسان ـ وهو غير صحيح ـ أن يسوّى حسابه مع الناس على هذا الوجه ، القائم على الغلظة والشدة ، والمنتهى به إلى القطيعة والعزلة ـ فإنه لا يصح أبدا ، ولا يستقيم بحال ، لمن كان بمكان الرياسة والقيادة لأية جماعة من الجماعات ، كثر عددهم أو قلّ .. فإن الخيط الذي يمسك به كيان الجماعة ويشدّها إليه ، هو ما يفيض عليها من قلبه ، من رحمة ، وحدب ، ولين ، ولطف ، وإلّا تقطعت بينه وبينها الأسباب ، ولو كانوا أبناءه وخاصة أهله!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 628
و فى قوله تعالى :
«فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » بيان لبعض الأسس التي يقوم عليها منهج التربية ، التي يأخذ بها النبىّ جماعة المؤمنين ..
وأول هذه الأسس : العفو عن المسي ء .. وفى هذا ما يفتح منافذ قلبه ويصفيه من دواعى الحسرة والألم ، وينزع منه وساوس السوء والشر ..
وثانى هذه الأسس : الاستغفار لهذا المسي ء ، وطلب الرحمة والمغفرة له من اللّه .. وهذا إحسان بعد إحسان .. يزيد قلبه صفاء ، ونفسه إشراقا ، وولاء.

(2/122)

فإذا استوت جماعة المسلمين على تلك الصورة الكريمة ، فلم يكن فيها مذموم أو مطرود ، ولم ينتظم فى عقدها النظيم معطوب أو مقهور ـ كانت جميعها قلبا واحدا ، ومشاعر واحدة ، تتحرّى خير الجماعة ، وتنشد أمنها وسلامتها ، وهنا يجى ء ثالث الأسس فى مكانه الصحيح : « وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » فتعطى المشورة ثمرتها الطيبة ، التي هى خلاصة ما فى القلوب من خير ، ومنخول ما فى العقول من رأى .. وهنا يتضح الأمر المنظور إليه ، ولم يبق إلا انعقاد العزم عليه ، وإمضائه على الوجه المرسوم .. وهذا ما أمر اللّه به فى قوله تعالى :
«فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » الذين يعتمدون عليه ، ويفوضون أمرهم إليه ، بعد أن يعطوا هذا الأمر كل ما عندهم من رأى وعزم.
الآية : (160) [سورة آل عمران (3) : آية 160]
إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 629
التفسير : هذا تعقيب على قوله تعالى فى الآية السابقة : « إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ » ، فالذين يفوّضون أمرهم إلى اللّه ، ويشدّون عزائمهم إليه ، ويعلّقون آمالهم به ، هم الذين يحبّهم اللّه ويتولاهم ، لأنهم أحبّوا اللّه وانتظموا فى مجتمع أوليائه .. وإنهم إذ يلوذون بحمى اللّه فإنما يستمسكون بالعروة الوثقى ، ويعتصمون بأقوى معتصم ، وهم بهذا فى ضمان النصر ، وعلى طريقه ، ولن يغلبهم أحد .. فإن تخلوا عن اللّه ، ووكلوا أمرهم إلى حولهم وحيلتهم ، فقد آذنوا اللّه أن يتخلّى عنهم ، وأن يدعهم إلى أنفسهم ، وهذا خذلان مبين ، ومن خذله اللّه فلا ناصر له ..

(2/123)

و فى قوله تعالى. « وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ » إشارة مشرقة يرى منها المؤمنون طريقهم فى كل أمورهم ، وهى طريق التوكل عليه. « وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ » (3 : الطلاق).
الآية : (161) [سورة آل عمران (3) : آية 161]
وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161)
التفسير : الغلّ : أخذ الشي ء خفية .. يقال : غلّ الشي ء إغلالا : إذا أخذه خلسة ، ويقال : أغلّ الجازر إذا سرق من اللحم شيئا مع الجلد ، والغلّ : الحقد الكامن فى الصدور ، والغلّ : الخيانة ، ومنه قوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « من بعثناه على عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه » .. وقوله صلّى اللّه عليه وسلّم : « هدايا الولاة غلول » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 630
و الذي عليه المفسرون فى هذه الآية أنها نزلت فى قطيفة حمراء اختفت من الغنائم يوم بدر ، فقال بعض المنافقين لعل النبىّ أخذها! وقيل إنها نزلت فى أحداث أحد ، حيث ترك جماعة الرماة مكانهم الذي أقامهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم فيه ، وذلك حين رأوا الهزيمة فى المشركين ، وقد امتدت أيدى بعض المسلمين إلى ما تركوا من متاع وسلاح ، فقال الرماة :
لعلّ رسول اللّه لا يقسم الغنائم بيننا كما فعل فى غنائم بدر ، ويقول كما قال يومها : « من أخذ شيئا فهو له » فيذهب إخواننا بالغنائم ، وليس لنا منها شى ء .. فتركوا مكانهم ، واندفعوا نحو الغنائم ، يأخذون نصيبهم منها ، فكان الذي كان! والرأى الأول بعيد .. إذا كان قد مضى عام على معركة بدر ، ولو كان لقولة المشركين يومئذ أثر لما تركت هذه الفرية تعيش فى الناس عاما دون أن ينزل قرآن فى تفنيدها ، وتكذيب مفتريها.

(2/124)

و الخبر الثاني ضعيف ، ووجه ضعفه أن المسلمين كانوا يعلمون فى أحد حكم اللّه فيما يقع لأيديهم من مغانم ، حيث كانت سورة الأنفال قد نزلت فى أعقاب بدر ، وفيها قوله تعالى : « وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ .. » (41 : الأنفال) ..
والرأى عندنا ـ واللّه أعلم ـ أن الغلّ هذا من الحقد ، واشتمال النفس على البغضاء للناس .. وهذا ما لا يكون من نبىّ أبدا ، إذ كانت مهمة الأنبياء نزع ما فى الصدور من عداوات وأحقاد ، وغسل ما فى النفوس مما تنطوى عليه بغضاء وضغينة .. إنهم أساة الإنسانية من هذا الداء ـ داء الحقد الدفين ـ الذي إن شاع فى جماعة أكلها كما تأكل النار الحطب ، أو فشا فى أمة قضى عليها ، وحصدها ، كما يحصد الوباء النفوس!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 631
و المناسبة هنا قريبة ، والموقف داع إلى إلفات النبىّ الكريم إلى هذا الداء ، وتحذيره منه.
ففى أحداث أحد ، وفى أعقابها ، فرغ النّاس من المعركة ، وشغلوا بالحديث عنها ، والتعليق على مواقف الناس منها ..!
و فى المسلمين من خالف رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، وتخلّف عن القتال فى معركة أحد.
وفى المسلمين من تحوّل عن موقفه الذي أمره الرسول بالوقوف عنده ، سواء كان للمسلمين النصر ، أو كانت عليهم الهزيمة! وفى المسلمين من قاتل ، وأبلى فى القتال .. ثم حين استشعر الهزيمة انهزم ، وأعطى العدوّ ظهره ..
وفى جوانب المعركة ، وعلى حواشيها .. كلام يدور ، تحرّكه أفواه المنافقين ، وتلتوى به ألسنتهم ، وتتغامز معه عيونهم ..
هذا ، والنبىّ الكريم يسمع ، ويرى كلّ هذا ، ويسوؤه أن يكون فى أصحابه هذا الذي يسمعه ويراه .. فيحزن لذلك ويأسى.
وقد صفح اللّه عن المؤمنين وعفا عنهم ، وشملهم جميعا برحمته وغفرانه ..

(2/125)

و كان على النبىّ أيضا أن يصفح ويغفر .. فجاء أمر اللّه سبحانه وتعالى ، يدعوه إلى الصفح ويغريه به ، بعد أن يرى النبىّ الصورة الكريمة التي له عنده اللّه ، والتي ينبغى أن يكون عليها ، وأن يحتفظ بها على هذا الوضع العلوىّ الوضي ء ..
«فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ » ...
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 632
و لقد عفا الرسول عنهم ، واستغفر لهم ، وشاورهم فى كل أمر ذى بال يعرض له.
ولكن النبىّ ـ وهو بشر ـ قد تطلع عليه صور من أحداث أحد ، فتحرك أشجانا ، وتثير أسى ..
فجاء قوله تعالى : « وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ » ـ ليشنّع على الحقد ، وليستبعد وقوعه من أي نبىّ من أنبياء اللّه ، وليجعله جرما من أغلظ الجرائم ، حتى ليلتزم صاحبه ، ويصحبه إلى يوم القيامة ، كما التزمه وصحبه فى صدره ، وبين جنبيه! وما أروع هذا العطف الإلهى الذي يفاض على النبىّ الكريم ، وهو فى مقام التأديب ، والتحذير من أن يحمل قلبه غلا ، وحقدا .. فلا يواجهه المولى سبحانه وتعالى بهذا الخطاب ، ولا يلقاه به وحده ـ لطفا وكرما ـ بل يتجه الأمر إلى الأنبياء جميعا .. « وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ » فما أعظم هذا المقام ، وما أكرم تلك المنزلة ، التي نزلها محمد من منازل الرضوان والإحسان عند ربّه.
الآية : (162) [سورة آل عمران (3) : آية 162]
أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162)

(2/126)

التفسير : هنا مقابلة بين من استجاب للّه ، وانقاد لما يرضيه ، فرجع مزوّدا برحمة اللّه ورضوانه ، وبين من مكر باللّه ، وكفر بآياته ، فانقلب موقرا بسخط اللّه وغضبه ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 633
و بين الطرفين المتقابلين بعد بعيد ، واختلاف شديد ..
فالطرف الأول يمثّله الرسول ومن كان معه من المؤمنين ..
والطرف الآخر يمثله عبد اللّه بن أبىّ بن سلول ومن اتبع سبيله من المنافقين ..
والطرف الأول من رضى اللّه ، فى رحمة ومغفرة فى الدنيا ، وإلى جنات ونعيم فى الآخرة.
والطرف الآخر ، من سخط اللّه وغضبه فى غيظ وكمد فى الدنيا ، وإلى جهنم وعذاب السعير فى الآخرة ..
وفى قوله تعالى : « أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ » إشارة إلى أن اللّه سبحانه وتعالى قد تقبل من النبىّ ما كان منه من استجابته لأمر ربّه ، وتلبيته ما دعاه إليه ، من الصفح الجميل عن أصحاب الهفوات من أصحابه ، وإخلاء نفسه من كل عوارض الغيظ أو الكظم مما كان منهم .. وفى هذا اتباع لما يرضى اللّه ، ويزيد فى مرضاته ، وهو ما عبرّ عنه هنا بالرضوان.
الآية : (163) [سورة آل عمران (3) : آية 163]
هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)
التفسير : إنه لا يستوى من اتبع رضوان اللّه ومن باء بسخطه .. فهم درجات ومنازل عند اللّه ..
فالذين اتبعوا رضوان اللّه فى رحمة ونعيم .. وهم فى تلك الرحمة ، وهذا النعيم درجات ، بعضها فوق بعض.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 634
و الذين مكروا باللّه وباءوا بسخطه فى بلاء ، وهمّ وجحيم ، وهم فى هذا البلاء وذلك الجحيم ، درجات ، بعضها دون بعض.
الآية : (164) [سورة آل عمران (3) : آية 164]

(2/127)

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)
التفسير : فى هذه الآية الكريمة ما يزكّى الرأى الذي ذهبنا إليه فى تفسير قوله تعالى : « وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ » وهو أن الغلّ من الحقد ، لا من الغلول بمعنى الخيانة ..
ففى هذه الآية :
أولا : تذكير النبىّ الكريم بأنه رحمة أرسلها اللّه للناس ، ومنّة منّ اللّه بها عليهم ، بما يتلو عليهم من آيات اللّه ، وبما يفتح لهم من طاقات النور ، وبما يفيض عليهم من مواطر الهدى ، فيطهرهم من أرجاس الكفر والضلال ، ويعلمهم الكتاب والحكمة ، ويفتح قلوبهم المظلمة إلى حيث مطالع الهدى والنور ، ويوقظ عقولهم النائمة الغافية لتتصل بهذا الكون وتطالع فى صفحات الوجود وعلى قسمات الموجودات ، بعض ما أبدعت قدرة الخالق العظيم ، وما وسع علمه.
وهنا يرى الرسول ـ مع عظم المسئولية التي يحملها ـ مدى الخير الذي يسوقه اللّه على يديه إلى الناس ، الذين هو منهم وهم منه ، فيحمله ذلك على أن يبالغ فى تحرّى الدقة البالغة فى ألا يشوب هذه النعمة العظيمة كدر ، أو يعلق
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 635
بها أذى ، حتى تصل إلى مكانها من الناس صافية ، مشرقة ، طيبة ..
وهذا ما يجعل الرسول الكريم مستعدا لتحمّل الأذى فى سبيل رسالته ، متجاوزا عن كل ما يعرض له فى طريقه ، من حماقات الحمقى وسفاهات السفهاء ، فإذا دعى من ربّه إلى أن يكظم غيظه ، ويعفو الناس ، ويلين لهم ، ويستغفر للمسيئين منهم ، وجدت تلك الدعوة الكريمة من قلب الرسول مكانا ، ووجد منها الرسول الكريم ما تهفو إليه نفسه ، ويناجيه به وجدانه ..

(2/128)

و ثانيا : فى الآية الكريمة أيضا ، يرى المؤمنون ما آتاهم اللّه من فضله ، وما أوسع لهم فى برّه وكرمه ، إذ بعث فيهم رسولا من أنفسهم ، يعرفون وجهه ، ويأنسون إليه ، ويتلقون من بين يديه ما يتلّقى هو من ربّه من نفحات ورحمات ، يسوقها إليهم ، فيعيدهم خلقا جديدا ، فإذاهم ناس غير الناس ، وقوم غير القوم .. قد أشرقت قلوبهم بنور الحق ، واستنارت عقولهم بأضواء المعرفة ..
«وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » .. وتلك نعم من اللّه سابغة ، وأفضال غامرة ، ينبغى أن يذكروها ، ويؤدوا شكرها ، إيمانا باللّه ، وجهادا فى سبيل اللّه ، وطاعة وولاء لرسول اللّه ، الذي حمل إليهم هذا الخير ، وغرسه فى مغارسه ، ورواه من خفقات قلبه ، ومسارب وجدانه.
الآيات : (165 ـ 168) [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168]
أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 636

(2/129)

التفسير : هذه مواجهة أخرى للمؤمنين الذين شهدوا أحدا ، ورأوا ما أصيبوا به فى أنفسهم وفى إخوانهم هناك ، ثم ما وقع فى نفوسهم من وساوس وظنون ، كلّما خبت جذوتها ، وبردت نارها ، نفخ فيها المنافقون ، والكافرون ، فازداد ضرامها ، وتسعّرت نارها ..
وفى هذه المواجهة يجد المؤمنون عتابا رقيقا من اللّه ، وعودا باللائمة عليهم فيما وقع لهم .. كما يجدون فيما بين العتاب واللوم عزاء وتسرية.
فإذا كان المسلمون قد أصيبوا يوم أحد ، فقد كان لهم فى عدوهم الذي رماهم بما أصيبوا به ، نكاية وجراحات فى يوم بدر ضعف ما أصابهم به فى يوم أحد .. « وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ » .
وإذن فلا يصح للمسلمين أن يقفوا بنظرهم عند ما أصيبوا به ، دون أن يمتد هذا النظر إلى ما كان لهم فى عدوّهم ، وهنا يستقيم النظر على الواقع كله ، فيرون أنهم أرجح كفّة ، وأربح صفقة .. وإذن فما ينبغى لهم أن يعجبوا ، وأن ينكروا هذا الذي حدث لهم ، ويقولوا : « أنّى هذا؟ » تلك القولة التي يكادون يهلكون بها أنفسهم وما اشتملت عليه من إيمان.
ثم إنه إذا صح للمسلمين أن يعجبوا ويستنكروا هذا الحدث ، فليكن ذلك مقصورا على ذات أنفسهم وحدها ، بمعزل عن الدّين الذي آمنوا به وأضيفوا إليه! فإنه إذا كان ثمة خلل فى جماعة المسلمين مكّن لعدوّهم أن ينال منهم ما نال ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 637
فذلك الخلل إنما هو فى ذات أنفسهم ، لا فى الدين الذي يجاهدون فى سبيله :
«قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ » أي بما أحدثتم فى هذا اليوم من أمور ، عزلت كثيرا منكم عن موقف الجهاد ، وباعدت بينهم وبين اللّه! لقد تغيّرتم أنتم أيها المسلمون ، وتغيّر ما بأنفسكم ، فغيّر اللّه مكانكم من النصر الذي كان دانيا لكم ، قريبا من أيديكم.

(2/130)

أمّا اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ فحاشا أن يتغيّر أو يتبدّل ، فترونه قويّا عزيزا يوم بدر ، ولا ترونه على تلك الصفة يوم أحد .. ذلك مما ينزّه اللّه عنه :
«إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » قدرة مطلقة دائمة ، لا تحول ولا تزول أبدا.
وقوله تعالى :
«وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ » .
هو عزاء ومواساة للمسلمين ، لما أصابهم فى تلك المعركة .. وأن يد المشركين ما كانت لتعلوهم إلا بإذن اللّه ، ولأمور قدّرها اللّه وأرادها.
وقوله سبحانه :
«وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ » هو كشف لبعض ما أراد اللّه من هذا المصاب الذي وقع فى المسلمين ..
فهو امتحان وبلاء لهم ، ليعرفوا ما فى أنفسهم من إيمان وصبر ، وليتعاملوا مع اللّه على قدر ما انكشف من إيمانهم وصبرهم ..
وقوله تعالى :
«وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ » .
هو وجه آخر من وجوه الحكمة التي تنكشف من وراء هذا الذي حدث فى أحد ، وهو أن تنكشف وجوه المنافقين للمؤمنين ، فيأخذوا حذرهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 638
منهم ، ويعزلوهم عنهم ، فإنهم ـ حيث كانوا ـ مرض خبيث ، يغتال قوى الجماعة التي يندس فيها ، ويختلط بها.
وقولة المنافقين هنا ، والتي حكاها القرآن الكريم عنهم فى قوله تعالى :
«لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ » قولة منافقة خبيثة ، تحمل وجوها من الكيد والتوهين لقوى المسلمين ، وهم فى مواجهة العدو.
فقد تحمل هذه القولة على أن هذه الجماعة المنافقة لا تعلم أن قتالا سيكون بين المسلمين والمشركين ، وأن قريشا ، إنما جاءت لتعرض قوّتها ، ولتلقى فى قلوب المسلمين الرعب منها ، حتى لا يعترضوا تجارتها فى طريقها إلى الشام ..
ثم تنصرف بلا قتال ..

(2/131)

و قد تحمل هذه القولة أيضا ـ وهو الوجه الواضح منها ـ على أن ما بين المسلمين وبين قريش لن يكون حربا بالمعنى المفهوم .. لأن الحرب بهذا المعنى تكون بين قوتين متكافئتين ، الأمر الذي لا يراه المنافقون بين المسلمين وبين قريش .. فالمسلمون ـ كما يرى المنافقون ـ فى عدد قليل وضعف ظاهر ، وقريش فى جموع كثيرة ، وأعداد وفيرة ، وسلاح وعتاد يملأ السهل والوعر ..
فكيف يكون بين هؤلاء وأولئك حرب؟ إنها ليست إلا ضربة واحدة بيد قريش حتى ينتهى كل شى ء. فكيف ندعى إلى حرب ولا حرب؟
إنها عملية انتحار أقرب منها إلى الحرب .. هكذا يقول المنافقون ..
وقوله تعالى :
«هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ » ..
إدانة لهم ، وحكم عليهم ، بهذه الكلمة المنافقة ، التي باعدت بينهم وبين الإيمان الذي ينسبون أنفسهم إليه ، والتي خطت بهم خطوات سريعة إلى الكفر ، فكادوا يكونون كفرا خالصا ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 639
و فى قوله تعالى :
«يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ » ما يفضح نفاقهم ، ويكشف حقيقة أمرهم .. إنهم لا يريدون أن يكونوا فى المجاهدين ، ولا يودّون للمسلمين نصرا ، ولا يرجون للدّين انتصارا .. وإنما هم يعذرون لأنفسهم بهذه الكلمات المنافقة ليعيشوا بها فى المؤمنين ولا ينقطعوا بها عن الكافرين والمشركين.
وقوله تعالى :
«

(2/132)

الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » هو عرض لمقولة أخرى من مقولاتهم المنكرة ، وقد ذكرها اللّه عنهم من قبل فى قوله سبحانه : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا » (156 : آل عمران) كما ذكرها القرآن فى قوله تعالى : « وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا » (154 : آل عمران).
وقد شرحنا ما أرانا اللّه فى هاتين الآيتين فى موضعيهما ..
الآيات : (169 ـ 170 ـ 171 ـ 172) [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175]
وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173)

(2/133)

فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 640
التفسير : قوله تعالى :
«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » .. هو تطمين للمؤمنين ، وكبت وحسرة للكافرين والمنافقين ..
فهؤلاء الذين قتلوا فى سبيل اللّه ، قد استوفوا آجالهم فى الدنيا ، ولم يذهب القتل بساعة من أعمارهم ، فما قتل منهم قتيل إلا بعد أن انتهى أجله المقدور له عند اللّه ..
ثم إن هؤلاء القتلى « شهداء » أي حضور ، لم يغيبوا ، ولم يصيروا إلى عالم الفناء والعدم ، وإنما هم أحياء حياة باقية خالدة ، لا يذوقون فيها الموت ..
وهذا هو الذي يصير إليه كل من يموت من الناس. من مؤمنين وكافرين ..
وهذا هو الذي يؤمن به المؤمنون باللّه ، فلا يرون فى الموت خاتمة الإنسان وانتهاء دوره فى الوجود ، وإنما يرون الموت رحلة من عالم إلى عالم ، ونقلة من
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 641
دار إلى دار .. من دار الفناء والزوال إلى دار البقاء والخلود ، ومن عالم التكليف والابتلاء ، إلى عالم الحساب والجزاء ..
ومن أجل هذا يستخفّ المؤمنون بالموت ، ولا يكبر عليهم خطبه ، لأنهم ينظرون إلى الحياة الخالدة بعده ، ويعملون لها ، ليسعدوا فيها ، ولينعموا بنعيمها المعدّ لعباده اللّه الصالحين.
أما غير المؤمنين باللّه ، فإنهم لا يؤمنون باليوم الآخر ، ولا يعتقدون أن وراء الحياة الدنيا حياة ، وأنهم إذا ماتوا صاروا إلى تراب وعدم ..

(2/134)

و لهذا يشتد حرصهم على الحياة ، ويعظم جزعهم من الموت ، إذ كان العدم ـ كما يتصورن ـ هو الذي ينتظرهم بعده .. فتتضاعف حسرتهم على من مات منهم ، ويشتد حزنهم عليه ، لأنهم ـ حسب معتقدهم ـ لا يلتقون به أبدا!! هذه هى الحقيقة .. الأموات جميعا ، ليسوا بأموات على الحقيقة ، وإنما هم أحياء فى العالم الآخر ..
ولكن القرآن الكريم لم يكشف هذه الحقيقة كلها ، ولم يظهر منها إلا ما يملأ قلوب الكافرين والمنافقين حسرة وألما ، وإلّا ما يبعث فى قلوب المؤمنين العزاء والرضا ، إذ ينظر هؤلاء وأولئك جميعا إلى قوله تعالى :
«وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً ، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ » فيجدون هؤلاء القتلى أحياء فى العالم العلوي ، يرزقون من نعيمه ، ويطعمون من طيباته : « فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ » .
فهؤلاء القتلى الذين ينظر إليهم المشركون والمنافقون نظر شماتة وتشفّ ، على حين ينظر إليهم إخوانهم وأحبابهم نظرة حزن وأسى لهذه الميتة التي ماتوا عليها ـ هؤلاء القتلى قد أشرفوا على الدنيا من عليائهم ، ينعمون بما أتاهم اللّه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 642
من فضله ـ وإنه لفضل عميم ، يملأ القلوب بهجة ومسرة .. فيحزن لذلك المشركون والمنافقون ، ويتعزّى به ، ويستبشر المؤمنون.
قوله تعالى :
«وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ » .
بيان لكمال هذا النعيم الذين ينعم به هؤلاء الشهداء ، وأنهم ليسوا مجرد أحياء حياة باهتة ، بل هم فى حياة قوية كاملة ، بحيث تشمل عالمهم العلوىّ الذي نقلوا إليه ، وعالمهم الأرضى الذي انتقلوا منه .. فهم فى هذا العالم العلوىّ.

(2/135)

إذ ينظرون إلى أنفسهم فيجدون أنهم فى فضل من اللّه ونعمة ، وأنهم إنما نالوا هذا الفضل وتلك النعمة بجهادهم فى سبيل اللّه ، وباستشهادهم فى هذه السبيل ـ يعودون فينظرون إلى إخوانهم المؤمنين الذين لم يلحقوا بهم بعد ، وأنهم على طريق الجهاد والاستشهاد ، فيستبشرون لذلك ، وتتضاعف فرحتهم إذ سيلقى إخوانهم هذا الجزاء الذي جوزوا هم به ، وينعمون بهذا النعيم الذي هم فيه ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :
«يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ » ..
فكما وفّى اللّه هؤلاء الذين استشهدوا فى سبيل اللّه ، سيوفّى الذين لم يستشهدوا بعد أجرهم ، فاللّه سبحانه وتعالى لا يضيع أجر المؤمنين ، ولا يبخس ثواب المجاهدين.
وقوله سبحانه :
«الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » .
المراد بهؤلاء الذين الذين استجابوا للّه ورسوله ، هم المسلمون الذين خرجوا مع النبىّ ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ بعد عودتهم من أحد ، وقد بلغ النبىّ أن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 643
قريشا بعد انصرافها من أحد ، ندمت على أنها أنهت القتال من قبل أن تستأصل المسلمين ، وقد أمكنتها الفرصة فيهم ، فبدا لها أن تعود فتدخل عليهم المدينة وتبيدهم جميعا .. وهنا أمر النبي أصحابه أن يخرجوا للقاء العدو ، دون أن يكون فيهم أحد ممن لم يشهد معهم القتال .. فخرج المسلمون الذين شهدوا أحد ، جميعا ، وهم مثخنون بالجراح ، لا يكاد أحدهم يمسك نفسه .. فلما علمت قريش أن النبىّ خرج فى أصحابه ظنوا أن النبىّ يطلبهم ، ليأخذ للمسلمين بقتلاهم فى أحد .. فرجعوا إلى مكة ، ورجع النبىّ وأصحابه إلى المدينة ، دون أن يقع قتال.

(2/136)

فهؤلاء الذين هم استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح. وقد عدّهم اللّه جميعا فى الشهداء ، من استشهد منهم فيما بعد من ولم يستشهد ، لأنهم كانوا فى مواجهة القتل المحقق ..
وقوله تعالى : « لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ » هو شرط لنيل درجة الاستشهاد ، إذ لا بد أن يستمسك هؤلاء المؤمنون بما هم عليه يومئذ من إحسان وتقوى ، أمّا من انحلّ عزمه ، وفتر إيمانه بعد ذلك ، فليس أهلا لأن ينال هذه الدرجة العليا ، وذلك الأجر العظيم.
وفى هذا تحذير للمسلمين الذين ذكرهم اللّه ، ومجّد عملهم ، وأعلى منزلتهم ـ من أن يستنيموا فى ظل هذا الوعد الكريم ، دون أن يعملوا ليكونوا أهلا له ، وليظلوا محتفظين بهذه المنزلة التي أنزلهم اللّه أياها ، فليتقوا وليحسنوا ، وليزدادوا إحسانا وتقوى ، فعند اللّه منازل كثيرة للمتقين المحسنين.
وقوله تعالى : « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 644
هو بيان لهؤلاء الذين استجابوا للّه والرسول من بعد ما أصابهم القرح ، ولموقفهم يومئذ من عدوهم .. فقد ترامت إليهم الأنباء التي أرجف بها المرجفون فيهم ، من المشركين والمنافقين ، ليزيدوا فى آلامهم ، وليدخلوا اليأس عليهم.
ولكن ما إن دعاهم الرسول إلى ملاقاة العدو ، حتى خفّوا مسرعين ، متحاملين على أنفسهم ، غير ملتفين إلى جراحهم التي تتفجر دما ..
وقيل إن المراد بالذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم ، هم المؤمنون الذين استجابوا للنبى ، وخرجوا معه للقاء قريش فى بدر الثانية.

(2/137)

و ذلك أن أبا سفيان كان قد أنذر النبىّ والمسلمين بعد معركة أحد بأنه سيلقاهم فى مثل هذا اليوم ، فى بدر .. ذلك أنه فى نشوة هذا النصر الذي ناله كان يرى أن أحدا لم تثأر الثأر الذي ينشده ، لما أصاب قريشا فى بدر ، فأراد أن يعيد معركة بدر من جديد ، ليطلع عليها فى قريش بصورة غير الصورة التي وجدتهم عليها يومئذ.
وكان أبو سفيان حين جاء الموعد الذي واعد النبىّ ، على غير استعداد لملاقاة النبي والمسلمين فى بدر ، إذ كان العام عام جدب .. فأظهر أنه يستعدّ للحرب ، ويجمع لها ، وبعث إلى النبىّ من يلقى إليه ـ كذبا ـ أن قريشا تجمع له أعدادا لا قبل له بها ..
أما النبىّ صلّى اللّه عليه وسلّم ، فقد دعا أصحابه إليه ، ونديهم للقاء القوم على الموعد الذي تواعدوا له .. فاستجاب له أصحابه ، وتقاعس المنافقون ، وأرجفوا بالناس ، وأذاعوا الفزع فى المسلمين ، وقالوا فيما قالوا لهم : إن قريشا قد فعلت بكم فى أحد ما فعلت وأنتم فى كنف دوركم وبين أهليكم ، فكيف يكون حالكم معها وأنتم تلقونها فى بدر؟ وأين المفرّ إذا انتصرت عليكم؟ ..
فنزل قوله تعالى : « إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 645
إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ »
فسكنت لذلك أفئدة المؤمنين واطمأنت ، وسار النبي بأصحابه حتى نزل بدرا .. وخرج أبو سفيان فيمن اجتمع له ، فلما علم أن النبىّ ينتظره بالمسلمين فى بدر ، قفل راجعا ..
وانتظر النبىّ هناك بالمسلمين أياما ، حتى انفضّت السوق التي كانت تقام هناك كل عام ، وباع المسلمون واشتروا ، وعادوا سالمين غانمين ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ » .

(2/138)

و فى قوله : « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » نجد فى التعبير عن المرجفين بهذا القول ، والمهوّلين له ، بكلمة « الناس » تحقيرا لهم ، وبألّا صفة لهم فى الناس إلا أنهم على صورة الآدميين ، وأنهم والمشركين من قريش على مستوى واحد من الكفر والشرك ، إذ عبّر عنهم القرآن بلفظ « الناس » أيضا .. « إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » ..
وفى قوله تعالى : « إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ » إشارة عامة تشمل هؤلاء الناس ، الذين أذاعوا هذا القول وأرجفوا به ، فقالوا : « إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » كما تشمل المشركين من قريش ، وهم : الناس الذين جمعوا لاستئصال المسلمين.
فهؤلاء وهؤلاء حزب واحد .. هو حزب الشيطان ، أو هم الشيطان ذاته ، فى إضلاله وإغوائه : « إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ » .
والضمير فى « أوليائه » يعود إلى الشيطان ، وأولياؤه هم المنافقون ، الذين يتولاهم الشيطان ، ويتخذ منهم أعوانا على الشر والفساد .. وهو الذي خوفهم الجهاد فى سبيل اللّه ، وأراهم الموت فى صورة بشعة مخيفة ، فانعزلوا عن المسلمين ، ونكصوا على أعقابهم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 646
و يجوز أن يكون المفعول به التخويف هم جماعة المؤمنين ، ويكون حينئذ لمفعول به الثاني محذوفا ، وتقديره : « إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ » ..

(2/139)

بمعنى أن هذه الأصوات المتنادية بأن الناس قد جمعوا لكم ، هى من فعل الشيطان على ألسنة المنافقين وغيرهم ، وهو يريد بهذا أن يخوّفكم أولياءه الكفار والمشركين ، ولهذا جاء قوله تعالى : « فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » ردّا على كيد الشيطان ، وإفسادا لتدبيره السي ء .. ولهذا لم يقع هذا القول من نفوس المسلمين موقعا ، بل تلقوه بالعزم والتصميم ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ » .
الآيات : (176 ، 178) [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 178]
وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)
التفسير : قوله تعالى :
«وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » عزاء ومواساة للنبى الكريم ، لما كان يجد فى نفسه من الحزن والألم ، حين يرى بعض من دخلوا فى الإيمان ، وحسبوا فى المؤمنين ، وظنّ بهم أن خرجوا من ظلام الكفر وضلال الجاهلية إلى نور الإيمان وهدى الإسلام ـ فإذا بهم وقد عادوا إلى المنحدر ، وأزلهم الشيطان عن هذا المقام الكريم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 647

(2/140)

و الرسول الكريم يعلم أن ليس عليه إلا البلاغ ، ولكنّ حرصه على هداية الناس ، ورغبته الشديدة فى استنقاذهم من الضلال فى الدنيا ، والنار فى فى الآخرة ، يجعله يفرض على نفسه أن يبالغ فى النصح لقومه ، وتعهدهم بتوجيهه وإرشاده ، كما يتعهد الأب صغاره .. ولهذا كان صلوات اللّه وسلامه عليه ، يأسى أشد الأسى ، إذ يرى هذا العناد الذي يملأ الرءوس من قومه ، ويمسكهم على شفير الهاوية ، التي تهوى بهم إلى عذاب السعير .. ولهذا أيضا كانت كلمات اللّه تتنزل عليه حينا بعد حين ، تدعوه إلى الرفق بنفسه ، وألا يحمله حبّه للخير الذي يريد غرسه فى قلوب الناس إلى ما هو فيه همّ وحسرة وقلق .. « إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » (56 : القصص) (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ » (8 : فاطر).
فهؤلاء الذين يسارعون فى الكفر هم الخاسرون ، قد ألقوا بأيديهم إلى التهلكة ، ولن يضرّوا اللّه شيئا.
وفى التعبير بالظرف « فى » فى قوله تعالى : « يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ » بدلا من « يسارعون إلى الكفر » ما يشير إلى أنهم قد دخلوا فى حوزة الكفر فعلا ، حتى لقد صار الكفر ظرفا يحتويهم ويشتمل عليهم ، وهم يتحركون فى داخله ، ليبلغوا الغاية فى الكفر والضلال.
وفى قوله تعالى : « إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً » تهوين لشأنهم وأنه لم يكن لينتفع بهم المسلمون لو كانوا معهم ، لما فى قلوبهم من مرض ، وما فى كيانهم من فساد ، كما أنهم وقد تحوّلوا إلى الجبهة المعادية للمسلمين فإنّهم لن يكون لهم أثر فى مسيرة الدعوة الإسلامية ، وفى انطلاقها إلى المدى الذي أراده اللّه لها ، والخسران فى هذه الصفقة واقع عليهم وحدهم .. « ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ » (33 : المائدة).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 648
و قوله تعالى :
«

(2/141)

يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » فى نسبة الإرادة إلى اللّه هنا إغاظة لهم ، بسلب إرادتهم ، وسوقهم سوقا إلى الكفر الذي هم أهل له وأنه لا مصير لهم إلا هذا المصير المشئوم ..
فتعطيل إرادتهم هنا يحرمهم هذا السلطان الذي يجده المرء فى نفسه ، ويعتزّ به ، حتى وهو يركب مراكب الهلاك .. إذ أنه هنا يجد كلمة « أنا حرّ » التي يجد فيها وجوده ، ويردّ بها على من ينصح أو يلوم ..
وهؤلاء الذين دخلوا فى الكفر ، دخلوه وكأنهم مكرهون ، بلا إرادة ، ولا حرية ، ولا اختيار .. إنهم ليسوا آدميين ، حتى تكون لهم إرادة ، وتكون لهم حرية واختيار.
وفى قوله تعالى : « يُرِيدُ اللَّهُ » وفى تعليق الفعل بالمستقبل ، وقد أراده اللّه ووقع فعلا ـ فى هذا ما يقيمهم أبدا بهذا الوضع الذي هم ، بلا إرادة ولا اختيار ، لأن إرادة فوق إرادتهم قائمة عليهم أبدا .. فليس لهم ـ والأمر كذلك ـ أن ينتظروا يوما تعود إليهم فيه حريتهم وإرادتهم ، أو أن يكونوا يوما فى وضع الإنسان الحر المريد! قوله تعالى :
«إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » تأكيد لضالة شأن هؤلاء الذين باعوا أنفسهم للشيطان ، واستحبّوا العمى على الهدى .. وقد توعّدهم اللّه ـ سبحانه ـ فى الآية السابقة بالعذاب العظيم ، وتوعدهم فى هذه الآية بالعذاب الأليم ، كما توعدهم فى الآية التالية بالعذاب المهين ، فجمع لهم أشنع صور العذاب .. العذاب العظيم .. الأليم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 649
المهين .. العظيم فى صورته ، الأليم فى آثاره الحسيّة ، المهين فى آلامه النفسية ..
وقوله تعالى :
«وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ » .

(2/142)

فيه تكدير لهؤلاء الكافرين ، وقطع لتلك اللذات التي يجدونها فيما بين أيديهم من مال وبنين. وأن هذا الذي هم فيه إنما هو أشبه بما يقدّم للحيوان من طعام ، كى يكبر ، ويكثر لحمه ، ثم يذبح! ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :
«وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ » (12 ، محمد).
فاللّه سبحانه إنما يملى لأعدائه من الكافرين ، والمشركين ، والمنافقين ، ويمدهم بنعمة وأفضاله ، ليقيم الحجة عليهم ، ولتحسب عليهم هذه النعم ، التي كان من حقها أن يشكروا للمنعم بها ، فاتخذوها أدوات لحرب اللّه ، وحرب أولياء اللّه ، فكانت عليهم بلاءا ووبالا .. « أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ؟ بَلْ لا يَشْعُرُونَ » (55 ـ 56 :
المؤمنون).
هذا ، والعرض الذي يعرض فيه الكافرون ، وتكشف فيه أحوالهم ، إنما يراد به أولا وقبل كل شى ء ، العبرة والعظة للمؤمنين ، وتنفيرهم من هذه الصورة المنكرة التي يرون الكافرين عليها .. وفى هذا ما يثبت إيمانهم ، ويقوّى صلتهم باللّه ، ويزيد فى حمدهم له ، أن هداهم إلى الإيمان ، وسلك بهم مسالك المؤمنين ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 650
أما الكافرون فقد يستمع مستمعهم إلى آيات اللّه تلك ، التي تعرض الكفر وأهله فى هذا العرض المخيف ، ويرى منه المصير الذي ينتظره ، فيرجع إلى نفسه ، ويعدل عن موقفه ، ويصالح ربّه بالإيمان به ، والموالاة لأوليائه ..
الآية : (179) [سورة آل عمران (3) : آية 179]

(2/143)

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)
التفسير : قضت حكمة اللّه أن يجعل هذه الدنيا دار ابتلاء واختبار للناس ، يذوق فيها بعضهم بأس بعض ، وفى هذا الاحتكاك الواقع بينهم ، تظهر أحوالهم وتنكشف أمورهم ، وتعرف معادنهم ، ولو لا ذلك لكانوا شيئا واحدا ..
لا مؤمن ولا كافر ، ولا طيب ولا خبيث ، ولا محسن ولا مسيى ء وقوله تعالى : « ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » هو من مقتضيات هذه الحكمة التي كان من آثارها هذا الاحتكاك الذي يدور بين المسلمين والكافرين ، والذي ابتلى فيه المؤمنون بما أصيبوا فى أنفسهم وأهليهم .. فليس الإسلام هو كلمة يقولها الإنسان ليكون مسلما ، وإنما هو كلمة وراءها عمل ، ووراء العمل تبعات كثيرة ، وأعباء ثقال ، ولو لا ذلك لكان مدخل الإيمان سهلا ، لا ثمن له ، يستوى فيه من يعمل ومن لا يعمل .. بل إنه لا يجد أحد ما يدفعه إلى العمل وبذل الجهد ، إذ كان الأمر على تلك الصفة.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 651
و فى قوله تعالى : « عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ » التفات للمؤمنين واستحضار لهم ، ليكونوا فى مواجهة هذا الحكم ، وليؤخذ إقرارهم به ، وما عليه المؤمنون هو العافية التي كانوا فيها قبل أن يبتلوا بلقاء الكافرين وجهادهم.

(2/144)

و قوله تعالى : « حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ » أي حتى يقع هذا الصدام بين المؤمنين والكافرين ، وحتى تنكشف أحوالهم ، ويعرف الصابرون وغير الصابرين ، ومن كان إيمانهم باللّه خالصا صادقا ، ومن كان إيمانهم على نفاق ودخل .. وعلم اللّه سبحانه ـ علم شامل ، محيط بما وقع وما لم يقع ، فى جميع صوره وأحواله .. وعلمه هنا ، الذي يميز به الخبيث من الطيب ليس علما مستحدثا ، وإنما هو علم قديم يندرج تحته هذا الحال الذي يكون عليه المؤمنون وهم فى هذا الامتحان الذي يؤدونه بين يدى اللّه ..
وعلى هذا ينبغى أن يفسّر ويفهم ما ورد فى القرآن من علم اللّه الذي يبدو وكأنه معلق بوقوع الأحداث .. مثل قوله تعالى : « وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا » (65 ـ 66 : آل عمران) ومثل قوله سبحانه : « أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ » (142 : آل عمران) .. ونحو هذا ..
فعلم اللّه محيط بكل شى ء. وكل ما هو فى علم واقع تحت هذا العلم ، فى جميع أحواله المتلبس بها .. فاللّه سبحانه يعلم أزلا أن هذا الإنسان ـ مثلا ـ سيولد من أبوين ، هما فلان وفلان .. فى بلد كذا ، فى زمن كذا .. وقبل أن يولد هذا الإنسان هو فى علم اللّه ، وبعد أن ولد هو فى علم اللّه .. ولكن علم اللّه به قبل أن تحمل به أمه ، وقبل أن يولد فى المكان والزمان الواقعين فى علم اللّه ـ يكون المعلوم فيه على صور خاصة وصفات خاصة ، فإذا ولد ، كان المعلوم فى علم اللّه على صورة غير الصورة السابقة ، وعلى صفات غير تلك الصفات التي
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 652

(2/145)

كان عليها قبل أن يولد! .. وهكذا تتغير ذوات المعلومات وصفاتها ، وعلم اللّه محيط بها فى جميع أشكالها وأحوالها ، فلا يتغيّر ولا يتبدّل.
قوله تعالى :
«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ » معطوف على قوله تعالى : « ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ » ..
والربط بين الحكمين لازم ، لأن عدم اطلاع المؤمنين على الغيب ، وما أراد اللّه لهم وكتب عليهم ، يقتضى أن يؤمروا وأن ينهوا وأن يدعوا إلى الامتحان والابتلاء والجهاد فى سبيل اللّه ..
ولو كان الغيب مكشوفا للناس لما كان ثمّة داعية إلى أمر أو نهى ، فكلّ يعرف مصيره الذي هو صائر إليه .. ولو عرف الناس مصائرهم مقدما ، وانكشف لهم مستقبلهم خطوة خطوة ، لما احتملت طبيعتهم البشرية هذا الموقف الذي يرى فيه الإنسان وجوده كله من مبدئه إلى نهايته ، ولكانت فتنة فى الأرض وفساد كبير ..
ففى حجب المستقبل عنّا رحمة بنا ، وإحسان إلينا ، واستدعاء لوجودنا كلّه لمواجهة المجهول ، ومحاولة كشفه واستخراج ما فى أطوائه ، من خير وشر ، وحلو ومرّ .. فهو على أي حال ثمرة مجهود ، وحصاد معركة!! وانظر .. لو أن إنسانا ما عرف عن يقين من سجّل القدر أنه فى يوم كذا ، فى ساعة كذا ، ستصدمه سيارة تقضى عليه ، أو تشبّ فيه نار فتلتهمه ، أو أن أحد أبنائه سيحدث له حادث أليم .. ما ذا تكون حالة هذا الإنسان ، منذ أن يطلع على هذا الغيب إلى أن يقع؟ هل يهنؤه طعام ، أو يسوغ له شراب ، أو يهدأ له قلب أو يستريح له بال؟ إنه فى همّ دائم ، وكرب كارب ، وعذاب أليم؟!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 653

(2/146)

و أكثر من هذا .. لو أن هذا الإنسان اطلع الغيب فرأى ـ وهو الفقير المعدم ـ أنه بعد كذا من السنين سينال الغنى الواسع والثراء العريض ، وأنه سيشبع من جوع ، ويكتسى من عرى ، وينال ما يشتهى من متع الدنيا ، بعد هذا الحرمان الطويل .. ماذا تراه فى يومه هذا ، وهو ينتظر ذلك اليوم الموعود؟
إنه يعيش تلك السنين الفاصلة بينه وبين هذا اليوم ، فى عذاب ، دونه كل عذاب .. إنه يعدّ الأيام لحظة لحظة ، ويدفع مسيرة ، الزمن بكل ما فى كيانه من قوى ظاهرة وباطنه .. والزمن قائم فى وجهه ، جاثم على صدره ، كأنه جبال الدنيا كلها مجتمعة عليه .. إنه يودّ أن ينام نومة أهل الكهف فلا يستيقظ إلا على يومه الموعود .. ولكن أنّى له ذلك ، وهو مشدود إلى الحياة ، مقيد بقيود الزمن الثقيلة العاتية؟
من رحمة اللّه علينا إذن كان هذا الذي صنعه اللّه بنا ، فحجب عنّا ما أراده لنا ، وما قضاه علينا ، فنعمل بإرادة ، ونمضى بعزم ، ونعيش مع أمل ..
فقوله تعالى : « وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ » دعوة للمؤمنين إلى العمل حسب ما يأمرهم اللّه به ، وبين تلك الأوامر الجهاد فى سبيل اللّه ، والثبات فى وجه العدوّ ، والعمل على انتزاع النصر منه .. ذلك هو المطلوب من المؤمنين فى مثل هذا الموقف .. أما ما يؤول إليه الأمر ، وما يسفر عنه القتال ، فذلك علمه عند اللّه .. وعلى المؤمنين أن يرضوا بما يقع ، أيّا كان ، بعد أن امتثلوا أمر اللّه ، وأعطوه كل جهدهم.
يقول جعفر الصادق رضى اللّه عنه لزرارة : « يا زرارة .. أعطيك جملة فى القضاء والقدر؟ قال : نعم ، جعلت فداك ، قال : « إذا كان يوم القيامة وجمع اللّه الخلائق ، سألهم عما عهد إليهم ، ولم يسألهم عما قضى عليهم » ..
وهذه كلمة فيها مقطع القول فى القضاء والقدر ، وعلى من يحتجون بالقضاء والقدر .. إنهم مطالبون بما كلّفوا به ، وغير مطالبين بما قدّره اللّه عليهم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 654

(2/147)

و قوله تعالى :
«وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ » استدراك فيه معنى الاستثناء من الحكم الذي تضمنه قوله تعالى :
«وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ » .. إذ أن رسل اللّه الذين يصطفيهم اللّه لحمل رسالاته إلى عباده ، هم ممن أظهرهم اللّه على بعض ما فى الغيب ، وأطلعهم على لمحات منه ، ليروا على ضوئها طريقهم الذين يقودون فيه عباد اللّه إلى الهدى والخير .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً » (26 ـ 27 : الجن) ومن جهة أخرى .. فإن الرّسول ـ وإن لم يطلع على شى ء من الغيب.
فإنه أشبه بمن اطلع على الغيب فيما يتعلق بالدعوة التي يحملها ، والرسالة التي يقوم بتبليغها .. إنها دعوة خير ، ورسالة نور وهدى .. وإن السعادة فى الدنيا والآخرة لمن استجاب لدعوته وعمل بها ، وإن النّصر والتأييد من اللّه لمن آمن باللّه وجاهد فى سبيله .. هذه حقائق لا تقبل الشك ، ووعود محققة كأنها واقعة وإن لم تكن قد وقعت ، فهى فى مضمونها من أبناء الغيب ، يراها رسل اللّه والمؤمنون باللّه ، رأى العين ، ويستيقنونها يقين الواقع فى أيديهم ..
ففى قوله تعالى : « كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ » (21 : المجادلة) وفى قوله : َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ »
(47 : الروم) وفى قوله سبحانه : « إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ » (51 : غافر)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 655
و فى قوله سبحانه : (أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ » (124 : آل عمران).

(2/148)

و فى قوله جل شأنه : « قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ » (15 : التوبة) فى هذه الآيات وكثير غيرها يرى رسول اللّه ويرى المؤمنون معه واقع هذه الوعود ماثلا بين أيديهم ، وكأنهم قد اطلعوا الغيب وعاينوا ما سيكون قبل أن يكون! لما نزل قوله تعالى « سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ » (45 : القمر) استيقن المسلمون أن جمع الكافرين سيهزم بأيديهم وسيولّى الدبر .. هذا ما لم يكن يشكّ فيه مؤمن ، حتى لكأنه يراه رأى العين ، ولكن الرؤية لم تكن كاملة ، حيث لم ينكشف للمسلمين هذا اليوم الذي سيتحقق فيه هذا الوعد الذي وعدهم اللّه إياه .. فلما كان يوم بدر انكشف ما كان مستورا ، ورأى المسلمون الجمع المنهزم ، وفى هذا كان يقول عمر بن الخطاب : « ما كنت أدرى أي جمع هذا الذي سيهزم حتى رأيت جمع قريش يوم بدر ، وهم منهزمون يولّون الأدبار » .
وقوله تعالى : « فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ » دعوة يستجيب لها كل ذى عقل ووعى ، حيث كانت تلك الدعوة من عند اللّه ، وكان حاملوها رسلا من عند اللّه ، وكانت مضامينها حقّا مطلقا ، ووعودها واقعا محققا ، لأنها من أبناء الغيب وقد أطلع اللّه عليها رسله والمؤمنين به ، فيما حملت آياته إليهم من أمر ونهى ، ومن خبر او وعد!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 656
و ليس الإيمان وحده مجردا من العمل هو الذي يعطى الثمرة المرجوة من الإيمان .. إذ لا بد من أن يصحب الإيمان عمل يدعو إليه الإيمان ، ويرسم حدوده ، وثمرة هذا العمل هى التقوى ، التي يحقق بها المؤمن حقيقة الإيمان ..
وبهذا يدرج فى سلك المؤمنين ، ويحظى من اللّه بالجزاء الأوفى ، والأجر العظيم.
الآية : (180) [سورة آل عمران (3) : آية 180]

(2/149)

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
التفسير : الجهاد فى سبيل اللّه امتحان وابتلاء ، فيه تضحية وبذل .. تضحية بالنفس ، إذا دعت دواعيها ، وبذل للمال حين يطلب المال! وقد أعطى المجاهدون الصادقون ما يطلب الجهاد من نفس ومال ، على حين ضنّ أناس بأرواحهم ، أن يبيعوها للّه فى سبيل اللّه ، وبخلو بأموالهم أن يقرضوها اللّه فى سبيل اللّه .. ثم مع هذا منّتهم أنفسهم أن يكونوا فى المؤمنين ، ثم أطالوا حبل الأمانىّ فظنوا أنهم فى عداد المتقين المجاهدين .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ » (92 : آل عمران).
وفى هذه الآية يكشف اللّه سبحانه عن هذه الأمانىّ الخادعة ، التي يعيش فيها أولئك الذين يبخلون بما آتاهم اللّه من فضله ، من قوة أو مال ، فلا ينفقون منها فى وجوه الحقّ الداعية لها .. وإنّهم لهم الخاسرون فى هذا الموقف الذي اتخذوه حيال الحقوق الواجبة عليهم ، فى أموالهم وأنفسهم .. حياة قصيرة فى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 657
هذه الدنيا ، لأجل محدود ، ومتاع قليل بهذا المال الذي استبقوه لاستيفاء حظوظهم من الشهوات واللذات .. ثم ما هى إلا لمحة كلمح البصر ، وإذا هم فى موقف الحساب والجزاء .. وإذا هم وأنفسهم التي ضنّوا بها ، وأموالهم التي أمسكوا عن الإنفاق منها ، خصمان يقتتلان ، وإذا هذا المال يتحول إلى أداة عذاب ونكال ، يطوّق أعناقهم بأطواق ثقال ، ثقل ما جمعوا وكنزوا :
«سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ » .
الآيتان : (181 ـ 182) [سورة آل عمران (3) : الآيات 181 الى 182]

(2/150)

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)
التفسير : فى معرض البخل بالمال والحرص عليه ، يمثّل اليهود أسوأ صورة ، وأقبح مثل لما يبلغه إنسان فى هذا الباب ..
فالمال عند اليهود ـ كل يهودى ـ هو كل شى ء ، فاليهودى إذا سلم ماله فلا عليه إذا تلف كل شى ء ، وضاع منه أي شى ء .. من دين أو خلق.
لهذا ، جاءت الآية الكريمة ـ بعد أن كشفت الآية السابقة عن جريمة البخل ، والعقوبة التي أعدها اللّه لمرتكبيها ـ جاءت لتكشف عن درجة من البخل لم يعرفها الناس إلا فى هذا الصنف المحسوب من الناس .. إنهم لم يجمعوا المال من وجوه الحرام والسحت وحسب ، ولم يضنوا عن الإنفاق منه فى سبيل الحق والخير وحسب ، بل بلغ بهم السّفه والفجر إلى تحدّى اللّه به ، وإعلان الحرب الوقاح عليه ، فكانت قولتهم الآثمة تلك ، التي حكاها القرآن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 658
عنهم : « إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » ـ كانت تلك القولة المنكرة لسان حالهم ، فى كل مشهد يشهدونه للمسلمين وهم يدعون للبذل الإنفاق فى سبيل اللّه ، وينادون فى الناس بقول اللّه سبحانه : « مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » .
(245 : البقرة) .. ولا يقع إلى آذان اليهود من كلمات اللّه تلك إلا « القرض » الذي يعرفونه ، ويتعاملون به ربا فاحشا ، يغتال أموال الناس ، ويمتصّ ثمرة جهدهم .. والقرض لا يكون إلا من غنىّ إلى فقير ، وإذ كان اللّه يطلب قرضا فهو فقير ، وإذ كان اليهود هم أقدر الناس على الإقراض الربوىّ فهم أغنياء ..

(2/151)

هكذا منطق المال عند اليهود .. حتى مع اللّه.
وقوله تعالى : « لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » وعيد لليهود ، ونذير بالعذاب الشديد لهم .. إذ كان ما قالوه تجديفا على اللّه ، ومحاربة له .. واللّه سبحانه وتعالى قد سمع هذا القول المنكر منهم .. والمراد أنه سبحانه وتعالى قد علم ما قالوا .. والتعبير عن العلم بالسّمع أبلغ وأقوى فى حسابنا وتقديرنا نحن .. أما علم اللّه وسمع اللّه ، وما للّه من صفات ، فهى جميعا على الكمال المطلق الذي لا يقبل زيادة أو نقصا.
وقوله سبحانه : « سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ » . هو مبالغة فى تغليظ هذا الجرم وتهويله ، فقد كتبه اللّه عليهم ووثّقه ، كما يكتبون هم ما يستدينه الدائنون منهم ويوثّقونه ، فلا سبيل إلى الضياع أو الإنكار ..
ولم يسجّل سبحانه عليهم هذا القول الشنيع وحده ، بل قرنه إلى جرم آخر لا يقلّ عنه شناعة وإثما ، وهو قتلهم الأنبياء بغير حقّ ، وهنا تبدو قولتهم المنكرة تلك موازية لقتل الأنبياء بغير حق ، ومعادلة لها فى جرمها وإثمها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 659
و هنا سؤال :
إن هؤلاء اليهود الذين يخاطبهم القرآن الكريم لم يقتلوا الأنبياء ، ولكنّ القتلة هم آباؤهم .. فكيف يكتب القتل عليهم ، ويضاف إلى جرائمهم التي أجرموها؟.
والجواب على هذا ـ واللّه أعلم ـ أن اليهود طبيعة واحدة ، لا يختلف خلفهم عن سلفهم فى شى ء مما هم عليه من عناد ، وكفر بآيات اللّه ، ومكر بآلائه ونعمه .. فهؤلاء الأبناء الذين يخاطبهم القرآن الكريم ، هم اليهود الذين خاطبهم داود ، وأيوب ، ويوسف ، وموسى ، ويحيى ، وعيسى ، وغيرهم من أنبياء اللّه ورسله ، وفيهم كل ما فى آبائهم من عناد وكفر ، وأنه لو جاءهم نبىّ لهمّوا بقتله ، ولو أمكنتهم الفرصة فيه لقتلوه ..

(2/152)

فإضافة هذا الجرم إليهم ـ وهو قتل الأنبياء ـ هو إضافة لهم إلى آبائهم القتلة ، فما مات هؤلاء الآباء ، ولا انقطعت من الأرض جرثومة الشرّ التي كانت فيهم ، بموتهم ، بل هم أحياء فى هؤلاء الأبناء ، بكل ما عرف عنهم من سوء وفساد.
وقوله وتعالى : « وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ » هو الجزاء المقابل لقولهم « إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » . فهم قالوا « إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » ونحن ـ أي اللّه ـ « نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ » فهو قول يقابل قولا .. وشتان بين قول اللّه وقولهم .. هم قالوا زورا وبهتانا ، واللّه يقول حقّا وعدلا .. هم قالوا أصواتا ضائعة فى الهواء ، واللّه يقول نارا تلظّى ، وعذابا سعيرا ، يأخذهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم.
وقوله تعالى : « ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ » ردّ عليهم ، وردع لهم إن هم أنكروا هذا العذاب الذي يساق إليهم ، أو استفظعوه .. فهذا العذاب
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 660
قد صنعوه هم بأنفسهم لأنفسهم .. إنه صنعة أيديهم ، فكيف ينكرونه ، أو يردّونه؟.
وفى قوله تعالى : « وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ » يجى ء التعبير بظلام ، فى صيغة المبالغة هذه ، للتشنيع عليهم ، والتعريض بظلمهم الذي جاوز الحدود ، فى أكلهم أموال الناس بالباطل ، وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم إن اللّه فقير ونحن أغنياء ، فهم ـ والأمر كذلك ـ ليسوا ظلمة وحسب ، بل هم ظالمون لعباد اللّه ولأنفسهم ، ولو جازاهم اللّه حسب ما يعاملون به الناس من ظلم غليظ لضاعف عقابهم ، ولظلمهم كما يظلمون الناس ، فكال لهم الكيل بأضعافه ، ولكن اللّه لا يظلم الناس ، وإنما يحزبهم السيئة بالسيئة ، أو يعفو عنها إن شاء ، ويجزيهم الحسنة بعشرة أمثالها ، ويضاعف ذلك لمن يشاء!.
الآية : (183) [سورة آل عمران (3) : آية 183]

(2/153)

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183)
التفسير : الّذين قالوا إن اللّه عهد إلينا ألّا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار ، هم اليهود ، الذين تحدث القرآن عنهم فى الآيات السابقة ، وأنهم هم « الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » .
«فالذين » هنا ، هم « الذين » هم هناك. ، وقد سمع اللّه قولهم هذا ، وذاك ، وسجّله عليهم ليحاسبهم به ، ويجزيهم عليه.
وقولهم هنا ، هو افتراء من افتراءاتهم ، يدفعون به دعوة النبىّ لهم إلى الإيمان
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 661
به ، والتصديق برسالته ، على الصفة التي يجدونها فى التوراة عنه .. فهم ينكرون هذا الذي فى التوراة ، ويجيئون بمفتريات من عندهم ، ويلقون النبىّ الكريم بقولهم : « إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ » أي إن آية النبىّ التي يريدون أن يعرضها عليهم ـ كدليل على صدقه ـ هو أن يقدّم للّه قربانا ، كبقرة ، أو شاة ، أو نحوها ، ثم يدعوهم إلى أن يشهدوا آية للّه فى هذا القربان ، وأن نارا من السّماء ستنزل وتأكل هذا القربان ، وهم يشهدون .. فإذا جاءهم النبىّ على تلك الصفة آمنوا به ، وصدقوه.
وإذ كان ما جاء به « محمد » هو على غير تلك الصفة ، فهو ليس بنبىّ ، أو ليس ـ على الأقل ـ هو النبىّ وعدوا به ..

(2/154)

و قد جنّب اللّه النبىّ الكريم أن يلقى هؤلاء القوم بالمراء والجدل ، وأن يردّ فريتهم هذه التي افتروها على اللّه ، وأن يدخل معهم فى أخذ وردّ ، فذلك طريق يحبّ أن يسلكه اليهود مع النبىّ ، ويودّون أن يستجيب للسير معهم فيه ، حيث ينتهى الطريق ، ولا محصّل له إلّا ضياع الوقت فى المهاترات والسفسطات. الأمر الذي يريد اللّه أن يجنّبه النبىّ ، ليسلك بدعوته الطريق القويم إلى من يتقبّل الخير ، ويعطى أذنه وقلبه لدعوة الحق ، وكلمة الحق ..
لقد نأى اللّه بالنبيّ الكريم عن هذا الطريق ، ودعاء إلى أن يلقى اليهود بما يقطع حجتهم ويخرس ألسنتهم ..
فهم يريدون نبيّا يأتيهم بقربان تأكله النّار ، ليصدقوه ويؤمنوا به ..
وقد جاءهم أنبياء اللّه بالآيات البينات ، كإحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص ، وكفرق البحر بالعصا ، وتفجير الماء من الحجر الصّلد بها .. فهل آمنوا بهؤلاء الأنبياء واستجابوا لهم؟ وأكثر من هذا .. فقد جاءهم أنبياء بهذا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 662
المقترح الذي اقترحوه على النبىّ ، وتحدّوه به .. جاءهم من كان يقدّم للّه قربانا فتأكله النار .. فهل آمنوا به وصدّقوه؟
و كلّا ، فإنه لم يكن منهم إيمان وتصديق .. بل كان التكذيب والكفران ، بل والعدوان. فقتلوا من أنبياء اللّه من جاءوهم بالآيات التي اقترحوها على النبىّ ، وبأكثر منها قوة ووضوحا فى مجابهة الحسّ.
ولو جاءهم النبىّ بهذا الذي طلبوه .. فهل يصدقونه ويؤمنون به؟؟
ذلك ما لا يكون. فقد كذّبوا رسل اللّه ، وقد جاءوهم بهذه الآيات التي كانت مما اقترحوه على الرسل ، وتحدّوهم به .. ولكنه التعلل ، والتهرب من مواجهة الحق ، بهذا المراء الطفولىّ .. واللّه سبحانه وتعالى يقول فيهم :
«

(2/155)

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ » (96 ـ 97 : يونس) ويقول سبحانه : « وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها ، وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ » (146 : الأعراف)
الآية : (184) [سورة آل عمران (3) : آية 184]
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)
التفسير : فى هذه الآية الكريمة عزاء كريم من ربّ كريم ، لنبىّ كريم ..
فهذا شأن أصحاب الرسالات وحملة الهدى. مع السفهاء ، أصحاب الطبائع النكدة ، والضمائر الفاسدة .. لا يلقون منهم إلا التطاول الأحمق ، والسّفه اللئيم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 663
و خاصة هذا الصنف من الناس (اليهود) الذين انتظم تاريخهم الأسود ، سلسلة مترابطة الحلقات من مواقف الفساد والشر ، فى مواجهة كل خير! فإنه ليست أمة من الأمم بعث اللّه إليها مثل ما بعث فى نبى إسرائيل ، من أنبياء ومرسلين ، وليس رسول من الرسل حمل إلى قومه ما حمل رسل بنى إسرائيل إليهم من آيات تنطق البكم ، وتسمع الصمّ .. فلم ينتفعوا بتلك الآيات ، ولم يجدوا فيها شفاء لدائهم الخبيث.

(2/156)

و ليست كثرة هذه الرسل ، ولا توارد هؤلاء الأنبياء ، ولا إشراق هذه الآيات التي يحملونها بين أيديهم ، إلى هؤلاء القوم ـ ليست هذه كلها إلّا لأن الداء الذي يكمن فيهم ، والمرض المتمكن من عقولهم وقلوبهم ، قد استشرى حتى أصبح وباء ، فكانت نجدة السماء لهم بهؤلاء الأطباء الأساة ، يطلعون عليهم من كل أفق ، ويغادونهم ويراوحونهم فى كل وقت .. ولكن الداء لا يزداد على الزمن إلا استيلاء عليهم ، وفتكا بهم .. « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ » (10 : البقرة).
«و البيّنات » هى الآيات التي جاءهم بها عيسى عليه السّلام ، والتي يشير إليها اللّه سبحانه وتعالى بقوله : « وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ » (77 : البقرة) « و الزّبر » جمع زبور ، وهو القطعة من الشي ء .. و«الزّبور » هنا ما أعطى داود عليه السّلام من كلمات اللّه ، التي هى بعض من كتاب اللّه ، الذي نزل على الرّسل ، كلّ حسب حظه منه ، ثم جاء القرآن الكريم ، جامعا للكتاب كلّه ، وفى هذا يقول اللّه تعالى مخاطبا المؤمنين فى مواجهة الذين كفروا من أهل الكتاب : « ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ » (119 : آل عمران) وهو القرآن وما سبقه من كتب.
والكتاب المنير هنا. هو القرآن الكريم .. وفيه إشارة إلى موقف
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 664
اليهود منه ، وأنهم كذّبوا بالأنبياء الذين جاءوهم بالبينات ـ أي عيسى ـ وبالزبر ـ أي مجموعات الأنبياء الذين حمل كل منهم بعض كلمات اللّه إليهم ، وبالكتاب المنير ، وهو القرآن الذي جاء به « محمد » صلوات اللّه وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
الآية : (185) [سورة آل عمران (3) : آية 185]

(2/157)

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)
التفسير : وهذه الآية الكريمة تحمل أيضا عزاء كريما إلى النبىّ الكريم ، بما تهوّن عليه من أمر الدنيا ، وما يلقى فى تبليغ رسالة ربّه ، من عناد وعنت ، وما يعرض له نفسه وأصحابه المجاهدين معه من جهد وبلاء ، فى ملاقاة الموت ، والاستشهاد فى سبيل اللّه ..
فهذا كلّه هيّن فى لقاء الجزاء الحسن ، الذي أعدّه اللّه لرسوله وللمؤمنين ، من رضى ونعيم ..
أما أمر الموت ، فهو حكم واقع على كل حىّ ، ونازل بكل نفس ..
«كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ » وإذا كان ذلك هو الشأن ، فالحرص على الحياة ، والفرار من مواقف الحق والخير ، طلبا للأمن والسلامة ـ أمر لا يكتب الخلود لأحد ، فضلا عن أنه لا يمدّ له لحظة واحدة فى أجله المقدور له.
وأما الذي ينبغى الحرص عليه ، والبذل من أجله ، فهو الآخرة ، التي هى دار البقاء والخلود .. وإذا كان هذا شأنها وذلك وزنها وقدرها ، فإن العقل يقضى بطلب العمل لها ، والسلامة فيها .. « فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 665
الآية : (186) [سورة آل عمران (3) : آية 186]
لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

(2/158)

التفسير : وإذ كانت الحياة الدنيا إلى زوال ، وكان متاعها لعبا ولهوا وغرورا ، وإذ كان متّجه العقلاء فيها إلى دار خير منها ، وإلى متاع أكرم وأهنأ من متاعها ـ وهى الدار الآخرة ـ إذ كان ذلك كذلك ، فإن للدار الآخرة عملا ، وللجزاء الحسن فيها ثمنا .. إنها ليست أمانىّ يتمنّاها النّاس ، ولكنها جهد ، وبلاء ، ومعاناة ، فإذا أرادها المريدون وطلبها الطالبون ، فليعملوا لها ، وليؤدّوا الثمن المطلوب للحصول على نعيمها ، ورضوان اللّه فيها! وقد أرادها المؤمنون ، وطلبوا ما عند اللّه للمؤمنين فيها .. وإذن فليعملوا لها ، وليؤدّوا مطلوبها منهم! إنه ابتلاء فى الأموال والأنفس .. الأموال ، يبذلونها فى سبيل اللّه ، والأنفس ، يبيعونها ابتغاء مرضاة اللّه ..
وإنه تعرّض للأذى فى المشاعر والعواطف ، بسماع الكلمات المنافقة ، والأكاذيب الملفقة ، من الذين كفروا ونافقوا من أهل الكتاب ، ومن الذين أشركوا وضلوا من قريش وأحلافها ..
إنه أذى مادىّ فى الأموال وفى الأنفس ، وأذى روحىّ فى الشعور والوجدان .. أذى يشتمل على المؤمن كلّه ، فى مادياته ومعنوياته جميعا.
ونعم .. هو أذى بالغ ، وألم شديد ، وامتحان قاس مرير!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 666
و لكنّ الجزء الحسن أعظم وأشمل ، وإنه لأكثر قدرا ، وأثقل وزنا ..
فى جانب الإحسان والرضوان ..
والصبر والتقوى ، هما الزاد العتيد الذي يتزود به المؤمنون لاجتياز هذا الامتحان القاسي ، واحتمال آلامه وشدائده .. « وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ » .. فإن الأمر جدّ ليس بالهزل.
الآية : (187) [سورة آل عمران (3) : آية 187]
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

(2/159)

التفسير : الذين أوتوا الكتاب هنا ، هم اليهود ..
وهؤلاء اليهود كان جديرا بهم أن يكونوا فى عداد المؤمنين ، بما فى أيديهم من كلمات اللّه ، الداعية إلى الحق ، الهادية إلى صراط مستقيم ..
ولكنهم لم يصبروا ولم يتّقوا .. الأمر الذي لا يستمسك بدونه إيمان ، ولا يبقى بغيره المؤمن فى المؤمنين! لقد نقضوا الميثاق الذي واثقهم اللّه به ، بأن يبيّنوا للنّاس ما فى الكتاب الذي معهم من حق وخير ، وألا يكتموا من هذا الحقّ والخير شيئا ..
وليتهم إذ أمسكوا هذا الذي معهم من حق وخير ، ومنعوه النّاس ، وحجبوه عنهم ـ ليتهم وقفوا عند هذا ، فكان لهم فى أنفسهم منه خير.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 667
و لكنهم أفسدوا هذا الخير على أنفسهم وعلى الناس ، فغيّروا وبدلوا ، وقلبوا وجه الحق باطلا ، وأحالوا عذبه ملحا أجاجا ، فضلّوا وأضلوا ..
إنهم ـ والأمر كذلك ـ أشبه بمن كان فى صحراء ، لا شى ء فيها من ماء أو طعام ، وفى يديه شى ء من ماء وطعام ، ومعه رفقة مسافرة ، لا شى ء معها ، وكان فى هذا ما يبلغ به وبها الغاية إلى حيث الماء والطعام ، لو أنّه أظهره لها ، وأشاعه فيها .. ولكن كزازة طبعه ، وشحّ نفسه ، وخبث طويته ـ كل أولئك سوّل له أن يخفى هذا الزاد بل ، وأن يفسده ، حتى لا ينتفع به أحد ..
فهلك ، وأهلك الرفقة المسافرة معه! هكذا كان شأن اليهود مع كتاب اللّه الذي فى أيديهم .. كتموا الحق الذي فيه ، وأفسدوا الخير الذي ينطوى عليه ، وقالوا للكافرين والمشركين الكذب على رسول اللّه ، وعلى الكتاب الذي بين يديه ، لقاء عرض زائل يعيشون فيه ، ودنيا فانية يمسكون بها .. فهلكوا وأهلكوا ، وضلّوا وأضلّوا ..

(2/160)

و فيهم يقول اللّه تعالى : « أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً » (51 ـ 52 : النساء)
الآية : (188) [سورة آل عمران (3) : آية 188]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 668
التفسير : هذه الآية أيضا تعريض باليهود ، وفضح لمساويهم ، ووعيد بالخزي وسوء المصير لهم.
فقد ذكر فى الآيات السابقة قولهم : « إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ » وأنهم بهذا يمسكون المال ، ويحادّون اللّه به ..
وهنا ـ فى هذه الآية ـ يعرضون فى معرض الفرحين بما أتوا ، وهذا الذي أتوه ، ليس مما يحمد ويقبل ، حتى يفرحوا به .. ولكن الذي فعلوه هو المنكر كلّه ، وهو الشرّ كلّه .. إنهم إنما فعلوا الافتراء على اللّه ، ونقض الميثاق الذي واثقهم به ، أن يبينوا للناس ما معهم من كلمات اللّه ، وما فيها من هدى ونور ، ولم يقفوا عند هذا الحدّ من البخل والشح ، فبدّلوا فى كلمات اللّه وغيروا ، لتستجيب لمطالبهم الخسيسة ، ودواعيهم الخبيثة ..

(2/161)

هذا هو الذي فعلوه ، وفرحوا به ، وحسبوا أنهم بهذه المنكرات التي أفسدوا بها دينهم وأضلوا بها غيرهم ـ قد استطاعوا أن يفسدوا على « محمد » دعوته ، وأن يغروا المشركين به ، ويصرفوهم عنه! « وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ » (26 : الأنعام) ولم يقف أمرهم عند هذا المنكر ، من تحريفهم لكلمات اللّه ، بل لقد لبسوا النفاق ، وظهروا به فى الناس ، يظهرون لهم المودة والحب ، ويضمرون العداوة والبغضاء ، ويرجون لهم النصر بألسنتهم ، ويتمنون لهم الهزيمة من قلوبهم ..
إنهم يريدون أن ينالوا الحمد والثناء ، بما لم يفعلوا مما يستحق الحمد ، ويستوجب الثناء .. إنها مجرد كلمات معسولة خادعة ، إن انطوت على شى ء ، فإنما تنطوى على الشر والسوء والفساد ..
وقوله تعالى « فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ » هو بدل من قوله سبحانه :
«لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا ... » وإعادة الفعل « تحسبن » هنا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 669
لتوكيد الحكم الواقع عليهم وتقريره ، وإلصاقه بهم ، بعد أن طال الفصل بالمفعول الأول ومتعلقاته ، بين الفعل حسب ومفعوله الثاني ، حيث كان مقتضى النظم أن يجى ء هكذا : « و لا تحسبنّ الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا بمفازة من العذاب » . فالذين يفرحون هو المفعول الأول ، وبمفازة من العذاب هو المفعول الثاني ..
ولكن النظم القرآنى وحده هو الذي يحقّق المعنى الذي أشرنا إليه من قبل ، وهو توكيد الحكم الواقع على اليهود وتقريره وإلصاقه بهم ..
«فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ » الأمر الذي لا تجده متمكنا على تلك الصورة فى النظم الذي تمثلناه وطرحناه بين يدى النظم القرآنى.

(2/162)

و فى قوله تعالى : « وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » توكيد للحكم الذي أشار إليه قوله تعالى : « فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ » .. إذ أن الفعل حسب فيه معنى الظنّ ، الذي يقع من جهة من ينظر إلى اليهود ، فيرى أنهم أصحاب دين وأهل كتاب ، وأنهم فى الوقت نفسه منحرفون فى دينهم وكتابهم ، وهم من أجل هذا أقرب إلى العطب منهم إلى السلامة ، وأدنى إلى النار منهم إلى الجنة ..
هذا هو الحكم الذي يقع فى ظن من يراهم ويطلع على أحوالهم ، وهو ظنّ أقرب إلى اليقين .. ولكنّه مع هذا حكم غير قاطع ، إذ لا يملك هذا الحكم القاطع فى مصائر الناس إلا مالك الملك ، وصاحب الأمر .. اللّه ربّ العالمين .. وقد جاء حكم اللّه فيهم ، لتصدق ظنون الناس بهم .. « وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » وليس العذاب وحده هو المصير الذي يصيرون إليه ، ولكنه العذاب الأليم ..
الآيات : (189 ـ 195) [سورة آل عمران (3) : الآيات 189 الى 195]
وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193)

(2/163)

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 670
التفسير : فى الآيات السابقة التي بدأت بالحديث عن أحد ، والأحداث التي جرت فيها ، وما تكشّف فى تلك الأحداث من وجوه المنافقين ، وصبر المؤمنين ، وكيد الكافرين ـ فى هذه الآيات طال وقوف المسلمين فى دخان هذه المعركة .. وفى التطلع إلى جوه شهدائهم الذين مثّلت بهم قريش بعد قتلهم ، تشفّيا وانتقاما لقتلاهم فى « بدر » ، كما طال الوقوف أيضا فى مواجهة الكافرين والمشركين والمنافقين ، الذين عرضهم القرآن الكريم وفضحهم ..
وفى هذا الجوّ كانت تهبّ من اللّه نفحة رحمة وعزاء للمسلمين ، فتلقاهم بين الفينة والفينة ، وهم فى هذه المسيرة الطويلة مع أحد وأحداثها ـ فتهدأ أنفسهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 671
و تطيب خواطرهم ، وتتجه قلوبهم ، وتشخص أبصارهم إلى اللّه ، بالحمد والشكران ، لما منّ اللّه عليهم به من الإيمان ، وهداهم إليه ، ولكن سرعان ما تنقلهم الآيات القرآنية إلى المعركة وجوّها ، فتهتز مشاعرهم تلك المتجهة إلى اللّه ، ثم يعودون إليها بعد أن تلقاهم آية رحمة وعزاء .. وهكذا تظل أنظار المسلمين تتقلب بين الأرض والسماء .. بين معركة أحد وأرضها ، وبين رحمة اللّه ورضوانه ..

(2/164)

فكان من تمام رحمة اللّه بالمسلمين ، ورضوانه عليهم ، أن ختم هذا الموقف ، وأنهى تلك الأحداث ، بهذه الآيات التي تتيح للمسلمين لقاء خالصا مع اللّه ، فى آفاق سماوية عالية ، بعيدة عن تراب هذه الأرض ودخانها ..
ولقاء هنا مع اللّه ، والنفوس مهتاجة ، والقلوب مضطربة ، من شأنه أن يحدث أثرا مضاعفا فى الاتصال باللّه ، ومل ء القلب ، والنفس ، ولاء وخشية لجلاله وعظمته .. وبهذا يزداد المؤمنون إيمانا باللّه ، ويقينا بحكمته ، ورضى بحكمه ، وولاء لأمره ونهيه ..
وفى هذه الآيات الكريمة يتحقق هذا اللقاء ، الذي يخلص منه إلى نفوس المسلمين وقلوبهم ما أراد اللّه بهم من خير ، أشرنا إلى بعضه ، الذي هو قليل من كثير!!.
ففى قوله تعالى :
«وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً » مواجهة مشرقة بين المسلمين ، وبين ملكوت السموات والأرض .. هذا الملكوت الذي هو بعض ما خلق اللّه ، وإشارة إلى بعض مما أبدع وصور!.
وفى هذه المواجهة المطلقة ، تنطلق مشاعر المؤمنين ، وتتفتح قلوبهم وعقولهم ، لترتوى من موارد هذا الملكوت الرحيب ، وتنغب من رحيقه العذب الكريم!.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 672

(2/165)

و فى قوله تعالى : « إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ » ـ نداء رفيق ، ينبعث من الأفق الأعلى ، ليقود المؤمنين الذين شخصت قلوبهم وعقولهم إلى ما للّه فى السموات والأرض ، لترتاد مواقع الحق والخير ، فتجد فى هذا النداء الرفيق هاديا يهديها ، ورفيقا يؤنسها ، ويكشف لها معالم الطريق .. ففى خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ، آيات مبصرة لمن كان له قلب ، أو ألقى السمع وهو شهيد .. وإنه لكى يكون للعقل أثره وثمرته فى هذا المجال ، ينبغى أن ينصرف بكل وجوده إلى هذا الملكوت ، وأن يعيش فيه وله. فذلك هو الذي يفتح له مغالق الخير فيه ، ويطلعه على مطالع الحق منه .. وهذا ما يتفق لأولئك « الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ » حيث يكون ذكر اللّه ، واستحضار عظمته وجلاله. هو دأبهم ، وحيث يكون النظر فى ملكوت السموات والأرض ، ومطالعة آيات الخالق ، واستجلاء روائع حكمته ، هو شغلهم .. فى قيامهم وقعودهم ، وفى حركتهم وسكونهم ، وفى كل لمحة أو نظرة ، وفى كل غدوة أو روحة .. حيث هم أبدا فى ملك اللّه ، وحيثما كانوا أو اتجهوا فهم بين يدى ملكوت اللّه .. وعندئذ يطلع عليهم من آفاق الوجود هذا اللحن الموسيقى الشجىّ الذي يردّده كل موجود. « رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا .. » فيتناغمون معه ، بنبضات قلوبهم ، وزغردة أرواحهم « رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا ..

(2/166)

» « سبحانك » ما أعظم عظمتك ، وما أقدر قدرتك ، وما أحكم حكمتك ، وما أسعد من ينعم بنعيمك ، وما أهنأ من يحظى برضاك « فَقِنا عَذابَ النَّارِ » حتى لا تنزعج قلوبنا عن موارد ملكوتك ولا تطيش ألبابنا من النظر فى آيات قدرتك ، وروائع حكمتك!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 673
و إنه حين يشهد المؤمنون ما يشهدون من جلال ملك اللّه ، وكمال قدرته ، وسعة علمه ، وروعة حكمته ، يتمنّون على اللّه أن يقيمهم على هذا المورد ، لا يتحولون عنه أبدا ، فهذا هو النعيم الخالد ، الذي ينعم به المؤمنون فى الدنيا والآخرة.
ولجهنم أهلها ، الذين يحرمون هذا النعيم ، ويلقون بدله عذابا ونكالا وشقاء .. وهذا خاطر إذا خطر بقلوب المؤمنين أزعجهم وأكربهم ، وزحزح عنهم هذه اللحظات المسعدة التي يعيشون فيها مع اللّه ، ويهنئوون بالنظر فيها إلى ملكوته .. وهنا يتجسد لهم هذا المشهد الكئيب ، الذي ينتظم أهل النّار فى النار ، فيناجون اللّه ، ويطلبون غوثه : « رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ » فإنه ليس خزى بعد هذا الخزي ، ولا خذلان فوق هذا الخذلان .. حيث موارد النعيم دانية ، ومنازل الرضوان مفتّحة ، ثم هم يذادون عن هذا النعيم ، وذلك الرضوان ، ثم يساقون إلى جهنّم وعذاب السعير.

(2/167)

و فى قلوب واجفة ، وأنفاس مبهورة مختنقة ، يفرّ المؤمنون من هذه المواجهة لجهنم وأهلها ، إلى حيث يلقون اللّه برحمته ورضوانه : « رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا .. رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ » .. فهذا كل ما بين أيديهم أن يقدموه بين يدى رحمة اللّه ومغفرته ، لينالوا الخلاص من هذا الهول الذي يطبق على المنافقين والكافرين ، وليكونوا فى أصحاب الجنّة التي وعد المتقون .. إنهم حين سمعوا منادى اللّه ينادى بالإيمان ويدعوهم إليه ، استجابوا للّه ، وآمنوا به ، وبرسوله .. وهم بهذا الإيمان يطمعون فى رحمته ، ويرجون أن تغفر ذنوبهم ، وأن تكفّر عنهم سيئاتهم ، وأن يموتوا حين يموتون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 674
على البر والتقوى ، وأن يحشروا مع الأبرار والأتقياء .. فهم على وعد من اللّه ، وعدوا به على لسان رسله : « مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ » (97 : النحل) .. وهم يحيون أنفسهم وينعشونها بالحديث عن هذا الموعد الكريم : « رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ .. إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ » .. ومعاذ اللّه .. إن اللّه لا يخلف وعده ..
«

(2/168)

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ » وفى قوله تعالى : « بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » إشارة صريحة إلى أن المرأة والرجل على سواء عند اللّه ، فى الجزاء ، ثوابا أو عقابا ، وأنها ليست فى منزلة دون منزلة الرجل ، بل هما على درجة واحدة من الأهلية واحتمال التّبعة ، وحمل الأمانة .. وكيف لا يكون هذا وهما ـ المرأة والرجل ـ من خلق واحد ..
فالمرأة تلد الذكر والأنثى .. والرجل يولد له الذكر والأنثى .. والذكر ولد الأنثى ، والأنثى بنت الرجل .. فكيف يكون لأحدهما فضل على الآخر قائما على أصل الخلقة؟ فإن كان ثمة فضل فهو فيما يتفاضل فيه الناس ، بالعمل فى مجال الخير والإحسان.
وفى قوله تعالى : « ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ » إشارة إلى أن هذا الجزاء الذي يجزونه ، هو فضل عليهم من اللّه سبحانه وتعالى ، إذ هداهم إلى الإيمان ، ووفقهم للعمل الصالح ، الذي أنزلهم منازل الرضا والقبول عند اللّه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 675
الآيتان : (196 ـ 197) [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 197]
لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197)

(2/169)

التفسير : فى هذه المناجاة التي كانت تسبح فيها أرواح المؤمنين فى رحاب اللّه ، وترفّ بها على مشارف الملأ الأعلى ، يؤذّن فيهم بالعودة إلى عالمهم الذي يعيشون فيه ، العالم الأرضى ، إذ كان لا بدّ من العودة بعد هذه الرحلة المسعدة فى عالم الروح ، والحق ، والنور ، لأن الحياة تدعوهم إليها ، ليكونوا مع النّاس ، وليعيشوا فى الناس! ومع ما معهم من زاد طيب تزوّدوا به فى تلك الرحلة المسعدة ، فإن ما على الأرض من مفاسد وشرور ، وما فى النّاس من مفسدين وأشرار ، جدير به أن يغتال هذا الزاد الطيب ، وأن يحرم أصحابه منه إذا لم يحذروا.
ولهذا فقد تلقّاهم اللّه سبحانه وتعالى بتلك اللفتة الكريمة ـ تلقاهم وهم يهبطون إلى هذا العالم الأرضى ، ليأخذوا حذرهم من العدوّ الراصد لهم بما فى يديه من مفاتن ومفاسد ، وليظلوا هكذا محتفظين بما وقع لأيديهم من خير ، فى تطوافهم بالعالم العلوي ، وسبحهم فيه ..
وكان قوله تعالى مخاطبا نبيّه الكريم : « لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ » هو اليد القويّة الرّحيمة ، التي تمسك على المؤمنين إيمانهم ، وتثبت على طريق الحق والخير خطوهم ، فلا يغريهم ما يغدو فيه الكافرون وما يروحون ، من متاع الحياة وزخرفها ، وما يحصّلون فيها من مال ، وما يقع لأيديهم من جاه وسلطان ، فذلك كله « مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 676
و فى خطاب النبىّ الكريم بهذا النهى ومواجهته بالتحذير مما فيه ..

(2/170)

ما يلقى إلى المؤمنين أن يكونوا على حذر دائم ، وإشفاق متصل .. إذ كان النبىّ الكريم ، وهو ما هو فى صلته بربه وخشيته منه ، وفى رعاية اللّه له ، وعصمته من الزلل ـ يواجه بهذا التحذير ، ويلفت إلى مراقبة نفسه ، وحراستها ، فإن غير النبىّ من المؤمنين أولى بأن يحذر ويخشى العدوّ المتربص به ، إن أراد النجاة والسلامة.
الآية : (198) [سورة آل عمران (3) : آية 198]
لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)
التفسير : انظر إلى ألطاف اللّه ورحمته بالمؤمنين ..
فإن اللّه سبحانه وتعالى إذ يواجههم بهذا التحذير الذي لو انفرد بهم وحده لأقام نظرهم على طريق الخوف والمراقبة أبدا ، إن هم أرادوا الوفاء به ، أو كان فى استطاعتهم أن يفوا به! ـ إن اللّه سبحانه إذ يواجههم بهذا التحذير من جهة ، يلقاهم من جهة أخرى بما يشرح صدورهم ، ويدفى ء قلوبهم بالأمل والرجاء ، فى حياة طيبة ونعيم مقيم ..
وبهذا تتوازن النظرتان : نظرتهم إلى العدوّ المتربص بهم ، الذي يدعوهم إلى التفلت من طريق الحق ومجانبته ، إلى طريق الضلال والغواية ـ ثم نظرتهم إلى ربّهم ، وما يدعوهم إليه من رضوانه ، ونعيم جناته .. وهنا يكون لهم بين النظرتين موقف ، وإلى أي الطريقين منزع! « لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 677
فمن محصّل النظرتين ، يجد المؤمنون أن ما يدعوهم إليه ربهم هو الخير ، وأن ما أعد اللّه لهم هو الجدير بأن يحرص عليه ، ويعمل العاملون له ، وأن ما يسوس لهم به الشيطان ، هو الضلال المهلك ، والخسران المبين.
الآية : (199) [سورة آل عمران (3) : آية 199]

(2/171)

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)
التفسير : دعوة الحق والخير ، دعوة تقوم على الفلاح والرشد ، تستجيب لها النفوس الطيبة ، وتتفتح لها القلوب السليمة ، وتتقبلها العقول المتحررة من تلقيات الغواة والمفسدين. وإذ كان ذلك شأنها ، فإنها ميراث الإنسانية كلها ، وحظ مشاع فى الأمم والشعوب جميعا.
ودعوة الإسلام دعوة خالصة للحق والخير ، استقبلتها النفوس الطيبة ، وتداعت إليها القلوب السليمة ، وعلقت بها العقول المتحررة ، وسرعان ما كثر جند اللّه حولها ، وتزاحم عباد اللّه على مواردها ، ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا.
ولكن فى حسد قاتل ، وفى عداوة عمياء ، وقف اليهود من هذه الدعوة موقف الخصام والكيد .. فبهتوا رسول اللّه وكذّبوه ، وافتروا على اللّه ، فبدلوا وغيّروا فى آياته التي بين أيديهم من كتب اللّه ..
ومع هذا ، فإن قلّة قليلة منهم ، وكثير غيرهم من النصارى قد خرجوا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 678
عن موكب هذا الركب الضالّ ، فآمنوا باللّه ، وصدّقوا رسوله ، كما كانوا مؤمنين باللّه من قبل ، ومصدقين برسل اللّه الذين دعوهم إلى الإيمان.
وفى إيمان هؤلاء الذين آمنوا من أهل الكتاب ، ما يؤنس الذين آمنوا من المشركين ، ويجى ء إليهم بشاهد جديد على صحة دينهم وسلامته ، إن كان فيهم من يحتاج إلى هذه الشهادة أو يلتفّت إليها ، بعد أن شهد ما شهد من آيات الكتاب المبين ، ومعجزات كلماته.
ثم إن فى هذا الإيمان تسفيها لمن وقف من الإسلام هذا الموقف المعادى له من أهل الكتاب ، إذ كان فيهم تلك الطلائع الراشدة التي عرفت الحق فيه ، ووجدت الخير معه ، فآمنت واهتدت ، على حين ظلوا هم فى ضلالهم يعمهون.

(2/172)

و فى قوله تعالى : « وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ » إشارة إلى الصلة الوثيقة التي تجمع بين رسالات الرسل ودعوات الأنبياء ، وأنها كلها على طريق الحق ، والخير.
وفى قوله سبحانه : « لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا » تعريض بعلماء اليهود وأحبارهم ، وما افتروا على اللّه ، وغيروا وبدلوا فى آياته ، لقاء ثمن قليل ، ومتاع زهيد!
الآية : (200) [سورة آل عمران (3) : آية 200]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
التفسير : بهذه الآية الكريمة تختم سورة « آل عمران » التي كان أبرز ألوانها هذا اللون المصبوغ بدم المجاهدين فى سبيل اللّه ، فى أولى معارك الإسلام ، وعلى امتداد الطريق الذي ساروا فيه ، من أول يومهم معه ، إلى يوم أحد!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 679
فالمسلمون كانوا إلى يوم أحد فى مواجهة عواصف عاتية ، تهبّ عليهم من كل جهة ، وتطلع عليهم من كل أفق.
كانوا فى مكة قلّة مستضعفين ، أخذتهم قريش بالبأساء والضرّاء ، ففرّوا بدينهم وانخلعوا عن ديارهم وأهليهم فى غربة موحشة ، لا يؤنسهم فيها غير دينهم ، ولا يملأ عليهم حياتهم إلا آيات اللّه يرتلونها ، ويسعدون بما تفيض عليهم من رحمة ورضوان .. وكانوا فى المدينة أعدادا قليلة ، تتربص بهم قريش ، وتعدّ العدة للقضاء عليهم ، على حين يمكر بهم اليهود ويؤلّبون الناس على حربهم.
ثم إذا كان يوم بدر استروح المسلمون ريح النّصر ، وتنفسوا أنفاس الرضا .. فلما جاءت موقعة أحد ألقت على المسلمين هموما ثقالا ، وأطمعت فيهم أعداءهم ، فأظهروا لهم ما كانوا يخفون من عداوة ، وما كانوا يبيتون من عدوان ..
وقد رأينا كيف كانت رحمة اللّه بالمسلمين ومواساته لهم ، فيما نزل من آيات ، بعد أحداث أحد.
والصبر هو زاد المؤمنين وعتادهم فى مسيرتهم إلى اللّه ، وبلوغ مرضاته ..

(2/173)

و بغير الصبر ، وتوطين النفس على ما تكره ، لا يستقيم خطو الإنسان أبدا على طريق الحق والخير ، إذ كان ذلك الطريق دائما ، موحشا ، تعترض سالكه الحواجز والمزالق والعثرات! لهذا كانت تلك الآية الكريمة دعوة خالصة للصبر ، تغرى المسلمين به ، وتحرضهم عليه ، وتفتح لهم طريق النجاح والفلاح بيده! « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا .. اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 680
فالصبر ، والمصابرة ، والمرابطة ، وتقوى اللّه ، هنّ اللائي يمكّنّ للمؤمن من أن يضع قدميه على طريق النجاح والفلاح ، وأن يقطع هذا الطريق إلى غايته ، فيظفر برضا اللّه ، ويفوز برضوانه.
والصبر ، هو القوة التي يلقى بها المرء المكاره والشدائد ، فيحتملها فى إصرار وعزم ، وفى غير وهن أو ضعف .. فذلك هو الصبر الذي يدعو إليه الإسلام ، ويزكيّه ، كما تدعو إليه رسالات السماء ، وحكمة الحكماء .. وفى هذا يقول لقمان لابنه فيما يقول القرآن الكريم عنه : « وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ » . (17 : لقمان) والمصابرة ، هى التجربة الحيّة للصبر ، والمحكّ الذي يظهر به معدن الصبر عند الصابرين .. فليس الصبر درجة واحدة .. بل هو ـ شأنه شأن كل فضيله ـ درجات متفاوتة ، تختلف حظوظ الناس منه ، كلّ حسب وثاقة إيمانه ، وقوة عزيمته.

(2/174)

و فى المصابرة مغالبة ومصاولة ، بين الإنسان وبين الشدائد والمحن ، التي يريد قهرها والغلب عليها ، سواء كانت تلك الشدائد والمحن ممّا يعتمل فى نفسه من أهواء ونزعات ، أو مما تسوق إليه الحياة من بلاء وامتحان! والمرابطة هى الثمرة المباركة من ثمار الصبر والمصابرة .. فإذا صبر الإنسان على المكروه ، ثم صابر هذا المكروه على ثقله وامتداد الزمن به ، فلم يضعف ولم يضجر ، أسلمه ذلك إلى « المرابطة » التي يذلّ فيها المكروه ويصبح شيئا مألوفا .. وهكذا تتحول المكاره مع الصبر والمصابرة إلى أشياء أقرب إلى نفس الإنسان ، وأشكل بطبيعته ، وهكذا يصبح معتادا لها ، مرتبطا بها ..
وبهذا يحصل على الثمرة الكبرى ، وهى التقوى ، التي لا تكون إلا بقهر شهوات النفس وأهوائها ، وذلك هو الفلاح المبين والفوز العظيم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 681
4 ـ سورة النساء
نزولها : نزلت بالمدينة ، فهى مدنية ، بلا خلاف بين العلماء.
عدد آياتها : مائة وخمس وسبعون آية.
عدد كلماتها : ثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون عدد حروفها : ستة عشر ألف حرف وثلاثون حرفا أسماؤها : المشهور أنها سورة النساء ، وتسمى : سورة النساء الكبرى وتسمى سورة الطلاق : النساء الصغرى.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الآية الأولى [سورة النساء (4) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

(2/175)

التفسير : تحمل سورة النساء كثيرا من الأحكام التي تنظم العلاقات بين أفراد المجتمع الإنسانى .. بين الرجال والنساء ، وبين اليتامى والأوصياء ، وبين الورثة والمورّث ، كما تضمنت حدودا وأحكاما فى شأن الزواج ، والمهر ، وقوامة الرجل على المرأة ، والجهاد فى سبيل اللّه .. إلى كثير غير هذا ، مما ضمت عليه السورة الكريمة ..
والمجتمع الذي لا تتماسك فيه روابط الأخوة الإنسانية ، ولا تسرى فى كيانه مشاعر الرحمة والمودة التي تنتظم أفراده ، هو مجتمع هزيل العود ، متداعى البناء ، لا يثبت لأقلّ هزّة تمرّ به ، أو يقوم فى وجه أية عاصفة تهبّ عليه!.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 682
و لهذا كان هذا النداء الكريم الذي بدأت به السورة الكريمة دعوتها إلى الناس جميعا ـ جامعا تلك المشاعر التي تربط الإنسان بالإنسان ، وتضمه إليه ، وتؤاخى بينه وبينه ..
«يا أَيُّهَا النَّاسُ » النّاس جميعا من كلّ جنس ومن كلّ قوم.
«اتَّقُوا رَبَّكُمُ » فإن تقوى اللّه ، ومراقبته ، ومل ء القلب خشية له ، والولاء لجلاله وعظمته ـ هى ملاك الأمر كله ، فى إقامة الإنسان على طريق الحق والخير ، وفى الوصول به إلى درجات عالية ، فى منازل الكمال البشرى ، المتاح للإنسان أن يصل إليه عالم البشر.
«الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ » على تلك الصورة الكريمة التي تتجلّى فيها قدرة اللّه ، وحكمته ورحمته .. فالإنسانية كلها ما ظهر منها وما سيظهر ، هى ثمرة بذرة واحدة ، أنبتها اللّه بحكمته ، ونفخ فيها من روحه ، فأعطت هذا الثمر الكثير ، المختلف الألوان ، المتعدد الطعوم ، المبثوث فى كل أفق.
«وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها » أي وخلق من هذه النفس ، ومن مادتها وطبيعتها زوجا لهذه النفس ، مقابلا لها ، ومكمّلا لوجودها.
والقصّة التي تقول إن « حواء » خلقت من ضلع آدم ، هى من واردات الأساطير ، وقد أخذ بها معظم المفسّرين ، وفهموا هذه الآية الكريمة عليها.

(2/176)

و الآية الكريمة لا تعين على هذا الفهم ، ولا تسانده .. وإنا إذ ننظر فى قوله تعالى : « وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها » لنجد الضمير فى « منها » الذي يشير إلى النفس الواحدة ، لا يقصدها باعتبارها كائنا بشريا هو « آدم » وإنما يشير إليها باعتبارها مادّة مهيأة لخلق البشر ، ومن هذه المادة كان خلق آدم ، ومن هذه المادة أيضا كان خلق زوجه ، التي يكتمل بها وجوده ، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ـ فى آية أخرى ـ « وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً » (8 : النبأ) .. وليس هذا فى خلق الإنسان وحده ، بل هو التدبير الذي قدّره اللّه لخلق الكائنات الحية كلها ، من حيوان
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 683

(2/177)

و نبات .. ومن يدرى فربّما كان ذلك فى عالم الجماد أيضا ، وفى هذا يقول الحق جلّ وعلاء : « وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » (49 : الذاريات) ويقول سبحانه : « وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ » (7 : ق). فهل كان خلق هذه الموجودات على تلك الصورة التي خلق عليها آدم « و حواء » كما تحدّث الأساطير عنها؟ الذّكر أولا ، ثم كان من ضلع الذّكر خلق الأنثى؟ .. ذلك ما لا مفهوم له فى علم ، ولا معقول له فى عقل! إن آيات القرآن الكريم التي تتحدث عن الذكر والأنثى لا تفرق بينهما فى أصل الخلقة ، بل تجعلهما طبيعة واحدة ، كان منها الذكر والأنثى ، وهذا ما فهمنا عليه قوله تعالى : « فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ » (195 : آل عمران) وهذا ما نفهم عليه قوله تعالى : « أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى » (36 ـ 39 : القيامة) ففى قوله تعالى : « فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى » إشارة صريحة إلى أن الإنسان يحمل فى كيانه طبيعة الذكر والأنثى ، أي المادة المخلّق منها الذكر والأنثى ، ففى الذّكر ، ذكر وأنثى وفى الأنثى أنثى وذكر ..
وذلك ما يقرره العلم الحديث ، ويزكيّه القرآن العظيم.
ولو أردنا أن نأخذ بهذه الأسطورة ونقول فى خلق آدم وحواء بما تقول به الأساطير لكان علينا أن نرتفع بخلق آدم إلى بذرة الحياة الأولى للأحياء ..

(2/178)

فى « الإميبيا » حيث يقوم التوالد والتكاثر فيها على الانقسام فى الجرثومة الواحدة! فهل إلى هذه الجرثومة الإيميبية تمتد أنظار المفسّرين الذين قالوا ان حواء وآدم خلقا من جرثومة واحدة كانت آدم أولا ثم انقسمت على نفسها فكانت آدم وحواء ثانيا؟ إن يكن ذلك فلا بأس به عندنا ، وهو الذي
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 684
نقول به ، وهو أن آدم وليد دورة طويلة فى سلسلة التطور ، وأنّ أول سلسلة للحياة التي تطور منها كانت « الإيميبيا » التي تتوالد بالانقسام!.
«وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً » أي من هذين المخلوقين ، الزوجين :
الذكر والأنثى ، تكاثر الناس وانتشروا ، فكانوا هذه الأمم وتلك الشعوب بقدرة القادر العظيم ، وصنعة العليم الحكيم.
فهؤلاء هم الناس الذين دعاهم اللّه سبحانه وتعالى أن يتّقوه .. أن يتّقوا ربّهم ، الذي أنشأهم وربّاهم وصنعهم بقدرته ، فى أطوار درجت بهم من عالم التراب والنبات ، إلى عالم النطف .. ثم إلى الإنسان المسوّى فى أحسن تقويم.
وكلمة « ربّهم » هنا تفيد معنى الرعاية والتربية التي يكون الإنسان أحوج ما يكون إليها وهو فى دور الخلق والتكوين ..
«وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ » .. وهذا نداء آخر من قبل الحق ، يدعو به عباده إلى التّقوى ، بعد أن ناداهم بها « ربّهم » وهم عالم الخلق والتكوين .. إنهم هنا بشر سوىّ ، يعقل ويفهم ، ويدرك ..
يعقل أنه لم يولد هكذا إنسانا مكتمل الخلق مرة واحدة ، بل تنقّل فى أطوار عديدة ، تحت رعاية رحيمة ، وبيد حكيمة .. ويفهم أنّه لم يخلق نفسه ، كما أن أبويه لم يخلقا نفسيهما ، وأن هذا الخلق الخالق عظيم فوق عالم البشر ..
ويدرك بعد هذا وذاك أن هذا الخالق هو الذي تنتسب إلى صنعته المخلوقات جميعا ، وأنه الإله المستحق للألوهية المنفرد بها ، كما أنه الربّ المختصّ بالربوبية ، المحمود وحده عليها ..

(2/179)

و من أجل هذا كانت تقوى اللّه ، وخشيته ، والولاء له ، أمرا لازما ، منوطا فى عنق الإنسان ، لربّه وإلهه. وهذا نداء الحق جلّ وعلا يذكّره بهذا الواجب ، ويدعوه إليه ، فإن قصّر أو كفر بهذا الحق ، فقد خاب وخسر!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 685
و فى قوله : « الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ » إيقاظ لهذا الشعور الذي يسكن كيان « الإنسان » كلّ إنسان ، فيهيج فيه دواعى التطلع إلى اللّه والبحث عنه ، والمساءلة به ، فيما بينه وبين نفسه ، وفيما بينه وبين الناس ، ففى كل إنسان داع يدعوه إلى البحث عن اللّه ، والمساءلة عن ذاته وصفاته.
فالبحث عن اللّه ، والسؤال عنه ، والمساءلة به ، أمر شغل الإنسان ـ كل إنسان ـ منذ كانت الإنسانية ، ومنذ فتحت عينها على هذا الوجود ، وأدارت بصرها فيه ، وقلّبت وجهها بين السماء والأرض ، وفيما بين السماء والأرض.
فاللّه ـ سبحانه ـ يملأ على الإنسان وجوده كله ، ويطرق حواسّه كلّها ، ويخالط مشاعره ومدركاته جميعها ، فيما بثّ اللّه فى هذا الوجود ، من روائع صنعته ، وآيات خلقه ، الأمر الذي لا يكون معه إنسان من الناس قادرا على الذّهول عنه ، أو التفلّت منه ، وحبس الحواس ، والمشاعر ، والمدارك ، عن الاشتغال به ، فلينظر المرء أىّ إنسان هو؟ إن أراد أن يكون فى الناس ، أو أن يكون من الناس.
«وَ الْأَرْحامَ » .. قرى ء قوله تعالى : « وَ الْأَرْحامَ » بالنّصب عطفا على قوله تعالى « وَ اتَّقُوا اللَّهَ » بمعنى اتقوا اللّه والأرحام ..
وتقوى الأرحام هى من تقوى اللّه ، فكما أن للّه حقوقا ، ينبغى رعايتها والحرص عليها ، فكذلك الأرحام ـ وهم الأقارب ، ومنهم الأبوان ـ لهم حقوق يجب رعايتها والحرص عليها ، إذ كان لهما شأن فى تربية الإنسان ورعايته ..

(2/180)

فهذا الواجب الذي يؤديه الإنسان لذوى رحمه ، هو وفاء لحقوق لهم عليه ، وأداء لدين أقرضوه إياه ، وقد آن أوان استقضائه منه ، حين قدر وعجزوا ، وملك ولم يملكوا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 686
و فى الجمع بين اتقاء حقوق اللّه ، وحقوق ذوى الأرحام لفتات .. منها :
أولا : التنويه بشأن الصّلة التي تصل الإنسان بأصوله وفروعه ، وأنها صلة يجب أن تقوم على التوادّ والتراحم ، وأنّ فى رعايتها مرضاة للّه ، واستكمالا لتقواه.
ثانيا : الإلفات إلى حقوق اللّه ، وأنها حقوق عظيمة ، لا يستطيع الإنسان الوفاء ببعضها ، وأن الغفلة عنها ، أو التفريط فيها عدوان على اللّه ، وكفران به وبنعمه ، وأنه إذا كان فرضا لازما على الإنسان أن يبرّ أبويه ، ويرعى ذوى رحمه ، بدواعى الانتساب إليهم ، فإن حبّه للّه ، ورعايته لحقوقه ، بالتزام تقواه ـ أوجب وألزم ، إذ كان نسبه إلى خالقه وربّه وإلهه هو النسب الحق الأصيل ، وما سواه تبع وإضافىّ.

(2/181)

كذلك قرى ء قوله تعالى : « وَ الْأَرْحامَ » بالجرّ ، عطفا على الضمير فى « به » فى قوله تعالى : « وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ » بمعنى واتقوا اللّه الذي تساءلون به وبالأرحام ، أي الذي هو مل ء خواطركم وأفكاركم ، كما هو شأنكم مع أهليكم وذوى أرحامكم. فالإنسان أكثر ما يدور على لسانه ، ويجرى فى خاطره ، هم أهله وقرابته ، وربما شغل الإنسان بأهله عن اللّه ، وهذا ما نبّه اللّه سبحانه وتعالى إليه وحذّر منه فى قوله سبحانه : « قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ » (24 : التوبة) ويقول تعالى : « فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً » (200 : البقرة) .. ومع هذا فإن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 687
و القراءتان ـ بالنصب والجرّ ـ يكملان بعضهما ـ ويكشفان عن وجه من وجوه الإعجاز القرآنى ، ويأخذان على الناس السبيل إلى الانحراف عن سواء السبيل ، فى الجمع بين تقوى اللّه ، وبرّ ذوى الأرحام .. فمن الناس من يلتفت بوجوده كلّه إلى اللّه ، ويذهل عن حقّ أهله وذوى قرابته ، ومن الناس من تشغله أمور أهله وذوى قرابته فيجور على حقّ اللّه عنده. والطريق القويم هو أن يرعى الأمرين معا ، فلله حقوق يجب أن يؤديها ، وللأهل حقوق ينبغى أن يرعاها ، وهو ملوم إن قصّر فى حق على حساب الحق الآخر.
الآية : (2) [سورة النساء (4) : آية 2]

(2/182)

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)
التفسير : التطبيق العملي للتقوى بشقّيها ـ تقوى اللّه ، وتقوى ذوى الأرحام ـ يكون أكثر ما يكون ظهورا فى رعاية حقوق الضعفاء من ذى الأرحام ، وهم اليتامى ، حيث يكون اليتم غالبا فى كفالة أحد أقاربه.
ولهذا كان أول اختبار عملىّ للتقوى التي دعا اللّه إليها فى مطلع السورة هو الدعوة إلى رعاية حقوق اليتامى ، واتقاء اللّه فيهم ، وفى أموالهم التي هى أمانة فى أيدى الأوصياء ، كما أنهم هم أنفسهم أمانة فى ذمة هؤلاء الأوصياء ..
فلا تبرأ ذمة الوصىّ حتى يؤدّى تلك الأمانة على وجهها الذي أمر اللّه أن تؤدّى عليه ..
وقد خصّ الأمر الإلهى المال بالذكر ، لأن أكثر ما تطمح إليه نفوس الأوصياء وتطمع فيه ، هو المال ، وما سواه فهو تبع له ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 688
فلو أن الوصىّ عفّ عن مال اليتيم ، وراقب اللّه فيه ، وبذل له من الجهد والرأى ما يبذل لماله هو ـ لو أنه فعل ذلك لا استقام أمره كلّه مع اليتيم ، فبذل له من الحبّ والعطف ، ما ينعش نفسه ، ويطيّب خاطره ، ويعدّل سلوكه ..
والعكس صحيح ، فإنه حين تمتد عين الوصىّ إلى مال اليتيم بالخيانة والغدر ، فإنه لا يتحرج أبدا بعد هذا من أن يسوق البغض والكراهية لهذا اليتيم ، وأن يسومه الخسف والهوان ، وأن يرخى له الحبل فى طريق الضلال والفساد ، حتى يخلى له الطريق لأكل ماله الذي استباح أكله ، واستمرأه.
وفى قوله تعالى : « وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ » أمر قاطع بأداء أموال اليتامى إليهم سليمة كاملة ، سواء كان اليتيم لا يزال صغيرا تحت كفالة الوصىّ ، أو بلغ رشده واستحق أن يتولىّ أمر نفسه.

(2/183)

و على هذا ، فليذكر الوصىّ دائما أن مال اليتيم هو مال اليتيم ، وأنه أمانة فى يده ، مطالب بأن يحاسب نفسه عليها فى كل يوم ، وأن يدفعها إلى اليتيم عند أي طلب .. وهذا ما يجعله فى مراجعة ومحاسبة مع نفسه أبدا ، غير منتظر هذا اليوم البعيد ، الذي قد يمتد إلى سنين ، حين يبلغ اليتيم رشده ، ويحين وقت الحساب!.
«وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ » .
نهى بعد أمر .. وفى هذا النهى ، وبالامتثال له ، يتحقق الأمر ، ويجى ء الوفاء به على وجه مرضى سليم ..
والخبيث ، هو أكل مال اليتيم ، وتضييع حقوقه ، وإفساد مصالحه أو تفويتها ، إهمالا وتقصيرا .. عن عمد أو غير عمد.
والطيب ، هو رعاية مال اليتيم ، وحسن القيام عليه ، وتحرّى أعدل الوجوه لإنمائه وتثميره.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 689
و تبدّل الخبيث بالطيّب ، أن يسلك الوصىّ بمال اليتيم مسالك التضييع والإهمال ، والاغتيال .. فيكون بذلك قد ترك الطيب الذي أمره اللّه به ، وأخذ الخبيث الذي دعته نفسه إليه ، ومال به هواه نحوه.
«وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ » .
هو بيان لبعض المداخل التي يتبدل الأوصياء فيها الخبيث بالطيب ، فى شأن اليتامى الذين فى أيديهم ، وذلك بأن يضيفوا أموال اليتامى إلى أموالهم ، ويحسبوا أنها من بعض ما يملكون ، دون أن يكون فى تقديرهم أن مال اليتيم لليتيم وحده ، وأنهم أمناء عليه ، حرّاس له.
«إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً » .
الحوب الذنب والإثم .. والضمير فى « إنه » يعود إلى التصرف المعيب الذي يتصرفه الأوصياء فى أموال اليتامى ، وإضافتها إلى أموالهم .. وذلك جور غاشم ، وعدوان مبين.
الآية : (3) [سورة النساء (4) : آية 3]

(2/184)

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3)
التفسير : الذي ينظر فى الآية الكريمة نظرة مجرّدة ، تقطعها عن سابقها ولاحقها من الآيات ، لا ينكشف له وجهها ، ولا يستقيم له معناها .. ومن هنا كان اضطراب كثير من المفسّرين حيالها ، وتخبطهم فى التوفيق بين شرطها وجوابها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 690
فالشرط المشروط هنا وهو الخوف من ظلم اليتامى ، أو بمعنى آخر طلب العدل والتماس الإحسان فى اليتامى ـ هذا الشرط معلق تحقيقه بنكاح ما طاب للأوصياء من النساء ..
والأمر فى ظاهره ، على النقيض من هذا الحكم الذي يجمع بين الشرط والجزاء .. فالعدل فى اليتامى لا يقوم أبدا على نكاح ما طاب للأوصياء من النساء مثنى وثلاث ورباع ، ، إذا أخذ على إطلاقه ، بل إن ذلك ربما كان داعية إلى العدوان على اليتيم ، والجور على ماله ، وفاء لمطالب الزواج والأولاد الكثيرين ، الذين يثمرهم هذا الزواج المتعدد.
ولكن وصل الآية بما قبلها وما بعدها من آيات ، يجعلها بمكانها الصحيح من الصورة العامة التي ترسمها مجموعة الآيات الأولى ، من السورة ، تلك الصورة التي تدعو إلى تقوى اللّه فى محارمه ، وتقواه فى ذوى الأرحام عامة ، وفى الأيتام منهم خاصة ..
وقد دعت الآية السابقة على هذه الآية ـ دعت الأوصياء على اليتامى أن يؤتوهم أموالهم ، وأن يؤدوها إليهم كاملة ، لا تفريط فيها ، ولا عدوان عليها.
ثم يجى ء بعد هذا قوله تعالى :
«وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ » ـ يجى ء قول اللّه هذا ، تأسيسا على ما أمر به فى الآية السابقة ، وتقريرا له ..

(2/185)

فقوله تعالى : « وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا.. الآية » هو خطاب لمن استجاب لقوله سبحانه : « وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ » أو لمن ترجى منه الاستجابة لهذا الأمر ، أو هو خطاب للمؤمنين جميعا ، وإلزام لهم أن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 691
يستجيبوا له ، إن كانوا مؤمنين حقا ، لأنه أصل من أصول الإيمان ، ودعامة من دعائمه.
وإذا كان الأمر كذلك ، وإذا كان من شأن المؤمنين أن يستجيبوا لهذا الأمر وأن يحققوه ، فإن هناك أمرا آخر يلحق بهذا الأمر ، إذا هم فعلوه ، عظم أجرهم ، واستقام على التقوى طريقهم ، وهذا الأمر هو العدول عن زواج اليتيمات ، إلى زواج غيرهن من النساء .. فذلك أبعد للشّبه ، وأقطع لنوازع الطمع فى ما لهنّ.
وعلى هذا يكون المعنى هكذا ..
أما وقد خفتم أيها الأوصياء على اليتامى ، أن تأكلوا أموالهم بالباطل ، تريدون بهذا مرضاة اللّه ، وتبتغون رضوانه ـ فإن من تمام هذا الأمر أن تخافوا ظلم اليتيمات فى أنفسهن ، بعد أن خفتم ظلمهن فى مالهن .. فإن كنتم على خوف من ظلمهن وتريدون أن تجنبوا أنفسكم هذا الموقف ، فدعوهن لشأنهن ولا تتزوجوهنّ وهنّ فى أيديكم ، لا يملكون من أمرهن شيئا ، وإن لكم فى غيرهن من النساء ما تشاءون .. مثنى وثلاث ورباع ، ففى هذه التوسعة لكم فى زواج أكثر من واحدة نعمة من نعم اللّه عليكم ، ومن شكر هذه النعمة ألّا تطمح أعينكم إلى اليتيمات ، وما فى الزواج بهن من حرج.
وفى قوله تعالى : « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » ما يشير إلى أن اليتيمات المرغوب عن زواج الأوصياء منهن ، هن الصغيرات اللاتي لا يصلحن للزواج ، ولهذا كان الأمر الإرشادى بالزواج : من « ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » أي البالغات ، الصالحات للزواج ، اللائي تشتهين النفس.
وفى قوله تعالى : « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » دعوة إلى العدل بين
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 692

(2/186)

الزوجات ، والتسوية بينهن فى الحقوق والواجبات ، وفى هذا ضمان لسلامة الأسرة واستقرارها ، ورفع كثير من أسباب الخلاف بينها.
وإذا كانت التسوية بين الزوجات تسوية مطلقة ، والعدل بينهن عدلا كاملا ـ أمرا غير ممكن ، وإن أمكن فى حال فلن يمكن فى جميع الأحوال ـ إذا كان ذلك كذلك ، فقد أشار الإسلام إلى الدواء الناجع لسلامة الإنسان فى دينه ، فلا يظلم ، وسلامته فى نفسه ، فلا يقع بين مهاب العواصف من الشقاق والخلاف ـ هذا الدواء هو الاقتصار على زوجة واحدة والاكتفاء بها : « فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً » .
وفى قوله تعالى : « أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ » إشارة إلى دواء آخر يتداوى به من يرغب فى التزوج بأكثر من زوجة! فهناك « الإماء » وهن ما ملك المرء من الجواري ، فله أن يتمتع بما شاء منهن.
وفى قوله سبحانه : « ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا » بيان للحكمة من الاقتصار على زوجة واحدة ، أو التسرى بالإماء.
والعول : الميل ، يقال عال الميزان عولا ، أي مال.
والعول : الزيادة ، وتحمل الزيادة هنا على الزيادة فى الظلم ، أو الزيادة فى كثرة الأولاد والنفقات ..
وعلى هذا يمكن أن يحمل العول هنا على هذه المعاني كلها .. الزيادة فى الظلم ، والزيادة فى العيال والنفقة ، ثم الحاجة والفقر! وقد يسأل سائل : أليس فى التسرى بالإماء كثرة فى العيال ، وكثرة فى النفقة؟ فكيف تكون الدعوى إلى التسرى بهن ، ثم يكون التعليل لذلك ما علل به وهو عدم العول؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 693
و الجواب على هذا ، هو أن التسرّى بما ملكت اليمين ، لا يزيد فى أعباء الحياة على من تسرّى بما ملكت يمينه منهن ، إذ كنّ فى كفالته ، قبل التسرى وبعده ..
وقد أجيب عن كثرة العيال ، بأن الإنسان لا يحرص على طلب الولد من أمته ، ولا يتحرّج فى العزل عنها ، برضاها أو بغير رضاها.

(2



http://abu-dhar-al-ghifari3.blogspot.fr/2015/12/12-1500.html?spref=fb