jeudi 31 décembre 2015

الجزء الثاني 1\2. التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب(1/500)


تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة
الجزء الثاني 1\2. التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب

الكتاب : التفسير القرآني للقرآن
المؤلف : الدكتور / عبد الكريم الخطيب
دار النشر :
عدد الأجزاء / 16
[ الترقيم داخل الصفحات موافق للمطبوع ]
ثم إذا جاء الوقت المعلوم لأداء هذا الدّين وما زيد عليه من ربا ، وجد نفسه عاجزا عن الوفاء بالأداء ، فيضطر تحت الحاجة إلى المادّة فى الأجل ، ومضاعفة الدين ..
وهكذا تمضى الأيام ، ويد المدين عاجزة عن الوفاء ، والدين يتضاعف عاما بعد عام ، حتى يبدو وكأنه جبل يجثم على صدر المدين ، فلا يقدر على الحركة إلى أي اتجاه.
فهذه هى صورة المقترض بالرّبا ، يمشى فى الناس وكأنه يحمل ثقلا من الأحجار ينوء به كاهله ، وينحنى منه ظهره ، ويضطرب معه خطوه.
وفى هذا ما فيه من تبعيض فى الرّبا ، وتنفير من التعامل به.
والحق أنه لو امتنع المقترضون بالرّبا عن طرق أبواب المرابين لما وجد هؤلاء المرابون من يتعاملون معه ، ولما تمت هذه الجريمة المنكرة! وفى قوله تعالى : « لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ » تشبيه للمرابى بالشيطان ، إذ كان مصدر شر يتهدد حياة من يتعامل معه ، ويذهب بمقومات حياته ، ويغتال ثمرة جهده .. وكما أن الشيطان يزيّن للإنسان الشرّ ، ويغريه به ، حتى ليسيل لعابه إلى تلك المنكرات التي يوسوس له بها ، ويرفعها لعينيه فى صورة رائعة معجبة ـ كذلك يفعل المرابى ، بما فى يديه من مال أعدّه للمراباة ، ولوّح به لذوى الحاجات ، فجاءوا إليه ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 354
و وقعوا فى شباكه ، كما يقع الفراش فى النار ، وهو يرقص على ضوئها الذي خيل إليه أنه مطع فجر جديد.
فالمرابى شيطان يتسلط على المتعامل معه ، فيصاب منه بالخبل والاضطراب ، كما يصاب الممسوس من الشيطان بالتخالج والتخبط.
من هذا كله نرى أن ما ذهبنا إليه من أن « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا » هم الذين يقترضون بالرّبا من المرابين ، وليسوا هم المرابين ، كما ذهب إلى ذلك المفسرون.
(1/345)

و هذا المعنى الذي ذهبنا إليه يجعل الآية الكريمة غير منسوخة ، كما يقول ذلك المفسرون بإجماع ، وإنما هى لتقرير حكم خاص بطرف من أطراف العملية الربوية ، وهو الطرف المقترض ، لا المقرض .. أما المقرضون بالرّبا فسيجى ء بعد ذلك الحكم الخاص بهم ، فى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » .
وأما تقديم المقترضين بالربا على المقرضين به فى مجال التشنيع على الرّبا ، والتهديد للمتعاملين به ، فذلك لأن المقترض ـ كما قلنا ـ هو الذي بيده مفتاح هذه العملية ، وأنه هو الذي يطرق باب المرابى. وبتلك الطرقات يفتح الباب ، وتتم الجريمة .. ولو أمسك المقترضون عن التعامل بالرّبا لما وجد المرابون سوقا رائجة يتعاملون معها. فكان تقديم الحديث إليهم فى هذا الموقف هو من مقتضيات الحكمة والبلاغة معا.
قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا » القول هو قول آكلى الرّبا ، وهم المقترضون ، والإشارة ب « ذلك » إشارة إلى تلك الحال التي لبست آكلى الرّبا ، وما صار إليه أمرهم بعد أكله ، حتى أصبحوا كمن يتخبطه الشيطان من المسّ.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 355
و المعنى : أن هؤلاء الذين أكلوا الرّبا إنما صار حالهم إلى ما هو عليه من السوء والبلاء بسبب غفلتهم ، وسوء تقديرهم ، واغترارهم بظاهر الأمور ، حتى حيّل إليهم أن التعامل بالرّبا لا يعدوا أن يكون من باب البيع ، وأنه كما يشترى المشترى السلعة بالثمن الذي يتفق عليه بالتراضي مع البائع ، كذلك يشترى المقترض بالرّبا المال الذي اقترضه بالثمن الذي يتفق عليه بالتراضي مع المقرض.!!
هكذا يركب الإنسان طرق الشرّ ويأكل ما يلقاء فيها من خبيث الطعام ، وهو يحسبه الطيب الهني ء المري ء ، ثم لا يقف عند هذا ، بل يتكلّف له المبرّرات والمسوّغات.
(1/346)

و قولهم : « إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا » جاء على غير المألوف المتوقع ، وهو أن يقولوا : « إنما الرّبوا مثل البيع » إذ أنهم إنّما قبلوا الرّبا ، ورضوا بالتعامل به ، قياسا على أصل قاسوه عليه ، وهو البيع ، فكان عليهم أن يقولوا لأنفسهم ، أو لمن يسفّه عملهم هذا : إنما الربا الذي يلام عليه ، أو يحذّر عاقبته ، هو مثل البيع الذي لا ينكره أحد ، ولا يحذّر منه أحد » .
وقولهم هذا الذي حكاه القرآن عنهم يكشف عن مدى ما يفعل السوء بأهله حين يستبد بهم ، ويفسد عليهم أمرهم ، حتى لتنقلب عندهم أوضاع الأمور ، وتختل موازينها فى تفكيرهم ، فيبدو الشر حسنا ، والقبيح جميلا .. فهم هنا يرون الرّبا الذي يتعاملون به أصلا يقاس عليه البيع ، على حين أنهما من واديين مختلفين ، وإن يكن ثمة قياس ، فالبيع هو الأصل الذي تقاس عليه الصور المشابهة له! وقد ردّ اللّه عليهم هذا القول ، وأبطل هذا الادعاء الذي ادّعوه ، فقال تعالى : « وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا » فإنه إذا كان ثمة تقابل بين البيع والربا فى ظاهر الأمر ، فإنهما فى الحقيقة ضدان لا يلتقيان أبدا ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 356
هذا حلال ، وذاك حرام ، ويا بعد ما بين الحلال والحرام.
وليس يمنع من تشابه الشيئين فى الصورة أن يكونا على بعد بعيد من الخلاف حتى يبلغ حد التناقض والتضاد فى الحكم الواقع على كل منهما.
فالحيوان الذي أحلّ أكله .. إذا ذبح كان لحمه حلالا ، وإذا مات حتف أنفه مثلا .. كان لحمه حراما خبيثا ، وهو هو الحيوان فى حلّه وفى حرمته.
قوله تعالى :
«فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » .
الموعظة ما يوعظ به ، من توجيه إلى الخير ، وتحذير من الشر.
(1/347)

و إذا كانت الموعظة من اللّه فهى حكم ملزم ، لا اجتهاد لأحد فيه برأى أو تقدير .. بل هو هكذا .. يؤخذ به ، أو يترك .. فمن أخذ به رشد ونجا ، ومن تركه أثم ، وهلك ..
وهذه الموعظة التي حملتها الآية الكريمة فى التشنيع على الرّبا ، وتحريمه إنما هى لآكلى الربا وهم المقترضون خاصة.
وفى قوله تعالى : « فَلَهُ ما سَلَفَ » أي فقد تجاوز اللّه عما سلف أي ما أكله من الرّبا قبل أن يبيّن له هذا البيان ، ويجيئه هذا الحكم ، فى تلك الآية الكريمة.
وفى قوله تعالى « وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ » إشارة إلى رحمة اللّه ومغفرته التي تمحو سيئات المسيئين ، إذا هم تابوا إلى اللّه وأنابوا .. فمن كان أمره إلى اللّه فإنه فى ضمان من كل سوء.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 357
قوله تعالى : « وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ » أي ومن عاد إلى أكل الرّبا ، مستحلا له بعد أن حرّمه ، اللّه فقد تعرض لغضب اللّه وانتقامه ، ونعوذ باللّه من غضبه وانتقامه.
قوله سبحانه : « وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ » ، وصف اللّه سبحانه بالعزة هنا ، هو عرض لسلطان اللّه ، وقوته ، وأن حرماثه فى حمى عزيز ، ولكنه ـ سبحانه ـ لا يعجل بأخذ الذين يعتدون على حرماته ، كرما منه ورحمة ، بل يمهلهم حتى يراجعوا أنفسهم ، ويفيئوا إليه ، فإن فاءوا وجدوا المغفرة والرضوان ، وإن عادوا ولم يتوبوا فقد وقعوا تحت نقمة اللّه ، الذي يغار على حرماته أن تستباح بلا قيود ولا حدود .. فمع عزة اللّه ، وقوته ، وبسطة سلطانه ، تقوم نقمته تتعقب بالعقاب أولئك الذين استخفوا بعزة العزيز ، واستباحوا حرمات المنتقم .. بلا حساب! هذا ، ويؤيد ما ذهبنا إليه من أن المراد فى قوله تعالى « الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا » هم المقترضون ما جاء فى الحديث الشريف : « لعن الربا .. آكله ، ومؤكّله ، وشاهديه ، وكاتبه » .
الآية : (276) [سورة البقرة (2) : آية 276]
(1/348)

يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
التفسير : بعد أن حرّم اللّه أكل الرّبا فى الآية السابقة ، وكشف هذا الطرف من أطراف الربا ـ وهو طرف ـ المقترضين على تلك الصورة الكريهة ـ جاءت هذه الآية لتكشف وجها آخر من وجوهه ، وطرفا ثانيا من أطرافه ، وهو المال المتعامل به!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 358
فصاحب هذا المال ، وهو المرابى ، يوجه مآله إلى هذا الوجه ، يريد له النماء والكثرة ، ويبغى منه الثروة والغنى.
وقد أخبر اللّه سبحانه أنه لا يبارك هذا المال ، ولا يزكىّ الوجه الذي اتجه إليه .. « يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا » والمحق هو المحو والإزالة ، بحيث لا يبقى أثر لما يمحق.
والمراد هنا بمحق الرّبا ، أن هذا المال الذي يجمع من وجوه الرّبا مصيره الزوال ، وأنه إذا كان له مع صاحبه شأن فى هذه الدنيا ، فإنه لا يجد منه شيئا بين يديه فى الآخرة ، على حين أن المال المتصدّق به ، وإن كان قليلا ، فإنه ينمو النماء الحقيقي ، الذي لا يفنى بفناء صاحبه ، ولا يذهب بذهاب الدنيا كلها ، بل يظل هكذا فى ازدهار ونماء ، حتى يستقبل صاحبه يوم القيامة ، فيكون له زادا طيبا فى هذا اليوم العظيم ، كما قال تعالى :
«مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » وكما يقول الرسول الكريم :
«إنّ اللّه ليربّى لأحدكم التمرة كما يربّى أحدكم فلوّه وفصيله حتى يكون مثل أحد » . والفلوّ : ولد الفرس ، والفصيل : ولد الناقة.
(1/349)

قوله تعالى : « وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ » تعريض بالمرابين ، وهم الطرف الثالث فى عملية الربا ، وتمهيد لما سيأتى من حديث عنهم. فالمرابى كافر بنعمة اللّه ، إذ وسّع اللّه له فى الرزق ، حتى فضل المال عن حاجته ، وكان من شأن هذا الفضل أن يعود به على ذوى الحاجة ، صدقة أو قرضا حسنا ، فلم يفعل ، بل جعله سلاحا حادا مرهفا ، لا يسلط إلا على رقاب المحتاجين والبائسين خاصة ، فهو بفعله هذا قد حرم الفقراء وذوى الحاجة حقا لهم وضعه اللّه فى يده ، ثم لم يقف عند هذا ، بل صنع من هذا الحق شباكا يصطاد بها الفقراء وذوى الحاجة ثم يلقى بهم ليد الهلاك والضياع .. فهو كافر .. كافر بنعمة اللّه ، ثم هو آثم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 359
آثم ، بهذا الموقف اللئيم الذي يتخذ فيه من نعمة اللّه نقمة يسلطها على عبادة اللّه.
الآية : (277) [سورة البقرة (2) : آية 277]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
التفسير : بعد أن توعد اللّه سبحانه وتعالى المرابين بمحق أموالهم ، ووصمهم بالكفر الشديد لنعمه ، بما ارتكبوا من هذا الإثم الغليظ الذي يعرضهم لسخط اللّه وعذابه ـ وعد سبحانه ـ الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة بالأجر العظيم ، والرحمة والرضوان ، والأمن يوم الفزع الأكبر .. ذلك لأنهم استقاموا على الصراط المستقيم ، وجاءتهم الموعظة فاستمعوا إليها ، وامتثلوا لها ، وانتهوا عما نهوا عنه من منكرات كانوا يأتونها وهم جاهلون.
و« إيتاء الزكاة » هنا له آثاره فى التحريض على البذل والإنفاق على ذوى الحاجات ، حتى لا تضطرهم الحاجة إلى التعامل بالربا ..
الآية : (278) [سورة البقرة (2) : آية 278]
(1/350)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
التفسير : هنا تعرض الآية الكريمة الطرف الثالث من أطراف العملية الربوية ، وهم المقرضون بالرّبا ، بعد أن عرضت الآيات السابقة الطرفين الآخرين وهما : المقترضون ، والمال المقترض ..
وإذ وعد اللّه سبحانه الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والأجر
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 360
العظيم ، والجزاء الحسن فى الآخرة ، وإذ كان ذلك موقظا لأشواق النفس نحو هذا المقام الكريم ، حافزا الهمم والعزائم إلى بلوغ هذه الغاية المسعدة ـ فقد جاءت دعوة الذين آمنوا إلى ترك هذا المنكر ، فى وقتها المناسب ، لتتلقاها النفوس ، وهى فى نشوة أشواقها إلى رضوان اللّه ، وإلى الطمع فيما أعدّ للمتقين من جنات فيها نعيم مقيم.
فمن واجب الذين آمنوا ، وصافحت قلوبهم أضواء الهدى أن يتقوا اللّه ، وأن يقدروه حق قدره ، فلا ينتهكوا حرماته ، ولا يحوموا حول حماه .. وقد حرّم اللّه الرّبا ، ومن تقوى اللّه اجتناب هذا المحرم ، إن أراد المؤمن أن يكون فى المؤمنين حقا .. إذ لا يجتمع الإيمان باللّه ، والمحادّة للّه ، ومحاربته.
وقوله تعالى : « وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا » أي اتركوا ما تعاملتم به من ربا قبل أن يأتيكم اللّه حكم فيه بالتحريم ، فليس لكم بعد هذا إلا رءوس أموالكم ، لا تظلمون ولا تظلمون.
الآية : (279) [سورة البقرة (2) : آية 279]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279)
(1/351)

التفسير : أي فإن أنتم أيها المقرضون بالرّبا لم تنتهوا عما نهيتم عنه من أخذ الربا ، فأعدّوا أنفسكم لحرب معلنة عليكم من اللّه ورسوله .. فهل لكم على هذه الحرب صبر؟ وأين لكم القوة التي تقف لقوة اللّه ، وتحول بينكم وبين ما يرسل عليكم من صواعق سخطه ، ووابل عذابه؟
و فى قوله تعالى « فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ » ما يسأل عنه ، وهو : إذا كان لحرب اللّه للمصرّين على أخذ الربا .. مفهوم ، وهو وقوعهم تحت سلطان
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 361
سخطه ونقمته وعذابه .. فما مفهوم حرب رسول اللّه لهم؟
و الجواب على هذا من وجهين :
الوجه الأول : أن مخالفتهم لأمر اللّه وخروجهم عن طاعته هو مخالفة لأمر الرسول ، وخروج طاعته ، إذ كان الرسول ـ عليه السلام ـ هو حامل أمر اللّه ومبلغه. فعقاب اللّه الذي يأخذهم به هو عقاب من رسول اللّه أيضا ، وحرب اللّه لهم ، هى حرب لحساب رسول اللّه كذلك .. وذلك ما يدل عليه قوله تعالى :
«وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً » (23 : سورة الجن) الوجه الثاني : أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم منفّذ أمر اللّه فيهم ، بما مكّن اللّه من سلطان ، يقيم به حدود اللّه على الخارجين عليها .. وإذ لم يكن للرّبا حدّ مفروض يعاقب به المرابون ، كحدّ السرقة والزنا مثلا ، وذلك لشناعة الربا ، وغلظ جريمته التي لا حدّ لها إلا عذاب جهنم أو مغفرة اللّه ـ إذ كان ذلك كذلك ، فإن لرسول اللّه ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ إذا عرض عليه نزاع فى معاملة ربوية أن يسقط الربا ، وأن يجعل للمرابى رأس ماله دون ما أربى به .. كما فعل صلوات اللّه وسلامه عليه. فوضع ربا الجاهلية كلّه ، وذلك فى قوله فى خطبة الوداع : : « كلّ ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب » .
(1/352)

و هذا الذي لرسول اللّه من تسلط على الرّبا ، هو حق من بعده لولىّ الأمر ، إذا عرض له نزاع فى معاملة ربوية ، وضع الربا عن المقترض ، وجعل للمقرض رأس ماله.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 362
الآية : (280) [سورة البقرة (2) : آية 280]
وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
التفسير : وحين يستجيب المؤمن لأمر اللّه بترك الرّبا ، وأخذ ما أقرضه دون زيادة ، فإن عليه أن ينظر فى حال المدين ، فإن كان معسرا ـ وهو ما يكون غالبا ـ ترفّق به ، ومدّ له فى الأجل إلى أن يتدبر أمره ، ويتهيأ له الظرف المناسب لأداء ما عليه من دين .. فذلك ما تمليه عاطفة الرحمة والمودّة ، وما تقتضيه المروءة فى مثل هذه الحال .. ثم هو فوق ذلك عمل مبرور ، له ثوابه وجزاؤه عند اللّه .. وخير من هذا وأعظم ثوابا وأحسن جزاء عند اللّه ، هو أن يتصدق الدائن بدينه على المدين .. كله ، أو بعضه ، حسب ما يرى الدائن من حال المدين.
وفى الدعوة إلى التصدق بالدّين على المدين هنا ما يشير إلى أن هؤلاء الذين تضطرهم أحوالهم إلى الدين إنما هم ـ فى الغالب الأعم ـ الفقراء ، الذين لا يجدون من مالهم ما يستجيب لحاجتهم من ضرورات الحياة ، فيمدّون أيديهم إلى ذوى اليسار ممن يتوسمون فيهم المروءة ، ليعينوهم بشى ء من مالهم ، على أن يكون ذلك دينا يرد إليهم فى أجل معلوم! فإذا سخت نفس الإنسان أن يقدم هذا العون للمحتاج فى صورة دين ، فإنه لأجمل وأكمل أن يحتسبه صدقة عند اللّه ، على ألا يجرح بذلك مشاعر المدين ، وألّا يمنّ عليه ، ويفضحه ، بأن يقول له على سبيل المباهاة ، أو الإيذاء والانتقام : تصدقت عليك بما لى عليك من دين .. فذلك مما يذهب بصدقته ويمحقها ، والطريق الأمثل فى هذا ـ إن رأى أن يتصدق بدينه ـ أن يترك
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 363
(1/353)

المدين ، فلا يطالبه بالدين ، تصريحا أو تلميحا .. فإن أيسر المدين أدى إليه دينه ، وإن ظل على إعساره أمسك عنه ، ولم يطالبه.
و« كان » فى قوله تعالى : « وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ » تامة ، بمعنى وجد ، أي وإن وجد فى المدينين ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة ، إذ ليس كلّ المدينين على حال واحدة من الإعسار!
الآية : (281) [سورة البقرة (2) : آية 281]
وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)
التفسير : الخطاب هنا للمقرضين بالرّبا خاصة وللمؤمنين عامة ـ وهو دعوة إلى تقوى اللّه ، والإعداد ليوم يرجع فيه الناس إلى اللّه ، فيوفيهم حسابهم حسب أعمالهم ، وما كسبت أيديهم من خير أو شر ، ولا يظلم ربك أحدا.
مبحث فى الربا
أنواعه وأحكامه
معناه فى اللغة : النّماء والزيادة ، يقال : ربا الشي ء يربو رباوة وربا ، إذا نما وزاد ، ومنه الرّبوة ، وهى الأرض المرتفعة على ما حولها.
وفى لسان الشريعة ، وفى لغة المعاملات : هو عملية دين ، يؤدّى عنه مال زيادة على أصل الدين ، فى المدة التي يظل فيها الدين فى ذمة المدين.
ذلك هو أصل الرّبا الذي أدركه الإسلام عند عرب الجاهلية وشهد آثاره السيئة فى المجتمع العربي.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 364
الإسلام والربا
و كان طبيعيا أن يتدخل الإسلام فى هذا الضرب من المعاملات الجائرة ، التي تغتال الضعفاء ، وتمتص عصارة الحياة فيهم ، وتقطع أواصر الرحمة والأخوّة بين الناس والناس.
وقد جاء الإسلام بالحكم القاطع فى تحريم الربا فى قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ ، وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ » .
(1/354)

و الربا .. الذي جاء القرآن بتحريمه هو ربا النّسيئة ، وهو الذي أشرنا إليه من قبل ، والذي يقع بين الدائن والمدين بفرض زيادة على أصل الدين ، فى مقابل تأجيل دفع الدّين مدة معينة .. إذ النسيئة هى التأخير ، يقال نسأ اللّه فى أجل فلان : أي مدّه وأطاله.
ولا شك أن فى هذه العملية ظلما محققا وقع على المدين من الدائن .. وذلك أن الدائن ـ وهو صاحب المال الذي هو نعمة من نعم اللّه فى يده ، وفضل من أفضاله عليه ، لم يرع فيه حق اللّه ، وحق الفقراء فيه ، بالصدقة والإحسان ..
وهو إذ لم يفعل هذا ، كان من الواجب عليه ـ ديانة ومروءة ـ أن يمسكه فى يده ، ولا يجعل منه أداة يمتص بها البقية الباقية من حياة الفقراء! يقول ابن قيّم الجوزية : « إن اللّه لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء ، فإذا أربى الغنىّ مع الفقير فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى ـ أي زيادة على أصل الدين بالربا ـ والغريم ـ أي الفقير ـ محتاج إلى دينه ، الذي أوجبه اللّه له فى مال الغنى ـ وهذا من أشد أنواع الظلم ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 365
«فهذا هو أصل الرّبا المستكمل لجميع سيئاته .. ولهذا روى عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال : « إنما الرّبا فى النسيئة » « 1 » أي فى تأخير دفع الدّين نظير الزيادة عليه.
مداخل إلى الربا
و من تمام الحكمة فى الشريعة الإسلامية ، أنها لا تحفل كثيرا بالصور والأشكال ، وإنما تلتفت دائما إلى ماوراء الصور والأشكال من آثار .. وعلى هذه الآثار يكون حكمها على الشي ء .. من الحظر ، أو الإباحة ، أو الوجوب.
وغير هذا من الأحكام.
فالخمر ـ مثلا ـ مسكر .. فهو حرام لهذه العلة ، وهى الإسكار .. وقليل الخمر لا يسكر ، ومع هذا فقد تساوى القليل من الخمر مع الكثير ، فى التحريم ..
ونطق لسان الشرع الحكيم فيه : « ما أسكر كثيره فقليله حرام » .
(1/355)

و لو أخذنا بمنطق الصورة والشكل ، لكان قليل الخمر غير حرام ، مادام لم يبلغ بالإنسان مبلغ السكر.
وربما يكون هذا مقبولا فى عمليات المنطق ، ولكن هل يقبل الواقع هذا؟
و هل تصدقه التجربة؟
التجربة والواقع ينكران أن يقوم حجاز يفصل بين قليل الخمر وكثيره ، لتقع جريمة السكر أو لا تقع .. فقد يسكر بعض الناس بهذا القليل ، ولا يسكر آخرون بأضعافه .. ثم من ذا الذي يضمن نفسه إذا ألقى فى جوفه بقليل الخمر ، الذي لا يسكر به ، ألّا تمتد يده إلى غير هذا القليل حتى يسكر؟ وإذا استطاع هذا الإنسان أن يردّ نفسه مرة ومئة مرة عن أن يتجاوز حد الإسكار ، فهل من الممكن أن يطول به الوقوف عند هذا الحدّ إلى غير حدّ؟ وإذا
__________________________________________________
(1) القواعد النورانية .. لابن قيم الجوزية .. ص 117.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 366
استطاع إنسان أن يمر بهذه التجربة سالما ، فهل ذلك فى مقدور الناس جميعا؟
الواقع والتجربة ينقضان هذا ، ويؤكدان أن كثيرا من الناس شربوا قليل الخمر مداواة ، أو لعبا ، فتجاوزوا المداواة واللعب إلى الإدمان ، ثم الإغراق فى الإدمان! هذا صنيع الإسلام فى كل محرم .. إنه يحرّمه ويحرّم الذرائع المؤدية إليه.
وفى الربا .. حرم القرآن الكريم الرّبا ، على الصورة التي كانت معروفة له فى الجاهلية ، وهو ربا النسيئة ، ثم جاءت السنّة المطهرة ، فحرمت الذرائع المفضية إليه ، حتى لا يتخذ الناس من تلك الذرائع مطايا ـ تنقلهم بقصد أو غير قصد ـ إلى الربا الصريح!.
ومن الذرائع التي حرّمها الإسلام ، وعدّها من الرّبا ، إذ كانت بابا يؤدى إليه ـ هذه الصور من المعاملات :
1 ـ ربا الفضل
(1/356)

و هو بيع المتماثلين .. من ذهب أو فضة أو برّ أو تمر أو غير هذا .. بزيادة أحد المثلين على الآخر .. كمن يبيع درهما من الذهب بدرهم وبضعة قراريط من الذهب ، وكمن يبيع قدحا من التمر ، بقدح ونصف منه .. فهذا بيع متلبّس بالحرمة والإثم.
يقول ابن قيّم الجوزية : « ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حرّم أشياء ، مما يخفى فيها الفساد ، لإفضائها إلى الفساد ، كما حرم قليل الخمر ، لأنه يدعو إلى كثيرها ، ومثل ربا الفضل ، فإن الحكمة فيه ـ أي فى تحريمه ـ قد تخفى ..
إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات ، مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين ، أو الدرهم مصوغا ، أو من نقد نافق (أي رائج) ، ونحو ذلك .. ولهذا خفيت حكمته على ابن عباس ومعاوية ، حتى أخبرهما الصحابة الأكابر ، كعبادة بن الصامت وأبى سعيد الخدرىّ وغيرهما ـ بتحريم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 367
النبىّ ـ صلّى اللّه عليه وسلّم ـ لربا الفضل « 1 » » .
وقد ألحق الرسول الكريم هذا الضرب من المعاملات بالربا .. إلّا أن يكون مثلا بمثل ، ويدا بيد .. يقول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه : « لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض ، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز « 2 » وفى لفظ : « إلّا وزنا بوزن ، مثلا بمثل ، سواء بسواء « 3 » » .
وعن أبى سعيد الخدري ، رضى اللّه عنه قال : جاء بلال إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بتمر برنىّ « 4 » .
فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم : « من أين هذا؟ » قال بلال : كان عندنا تمر ردى ء ، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي ، فقال النبي عند ذلك : « أوه!! عين الرّبا .. لا تفعل ، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر ، ثم اشتر به « 5 » » .
(1/357)

و لا شك أن مثل هذه المعاملات لا يقصد منها الربا على الوجه المعروف ، المراد منه استغلال الفقير المحتاج ، وفرض إرادة صاحب المال ـ الدائن ـ عليه .. ولكن يمكن أن تجرّ هذه المعاملات إلى ما يجرّ إليه الربا من ضغينة وعداوة.
أما الضغينة والعداوة فتنشآن مما يتكشف عنه الحال بعد عملية بيع المتماثلين مع تفضيل أحدهما عن الآخر ، حين يرى أحد المتبايعين ـ بعد الرجوع إلى ذوى
__________________________________________________
(1) القواعد النورانية .. لابن القيم ص 117.
(2) الورق. الفضة ، والشف الزيادة أو النقصان ، والناجز : الحاضر
(3) صحيح مسلم جزء/ 4 ص 24.
(4) التمر البرني : من أحسن أنواع التمر عند العرب. [.....]
(5) صحيح مسلم : جزء/ 4 ص 48.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 368
الخبرة ـ أنه غبن ، ولا سبيل إلى الرجوع فى عملية البيع. فالمتماثلان ، لا يفضل أحدهما الآخر إلا فى أمور لا يتعرف عليها إلا أهل النظر والخبرة فى هذا الشأن ، ومن هنا يقع الغبن ، الذي تنتج عنه العداوة والبغضاء ، كما ينتج الظلم يأكل أموال الناس بالباطل ، عن طريق الربا المعروف ، وهو ربا النسيئة.
وقد يقال : إن هذا الذي يقع فى بيع المتماثلين مع زيادة أحدهما عن الآخر ـ يقع أيضا فى بيع المتماثلين مثلا بمثل .. إذ لا شك أن المتماثلين لا يتماثلان فى جميع الوجوه ، وإلا لما كان هناك داع يدعو إلى استبدال هذا بذاك.
(1/358)

و نعم. إنه لا بد من فروق بين المتماثلين ، حيث يرى كل من صاحبيهما الرغبة فيما فى يد الآخر .. ولكن الغالب فى المماثلة أن تكون الفروق طفيفة ، يمكن أن يحتملها الطرفان بالزيادة أو النقص ، ولكن لو فتح باب المفاضلة بين المتماثلين لا تسع مجال الغبن ، وتضاعفت مقاديره .. فكان فى إباحة بيع المتماثلين مثلا بمثل رفع للحرج على الناس فى تبادل المنافع ، التي لا غنى لهم عنها ، كما كان فى تقييد هذه الإباحة بألّا يفضل أحد المثلين الآخر ، وزنا أو كيلا ـ كان فى هذا ما يحرس هذه العملية من الغبن الفاحش ، لو فتح فيها باب التفاضل!.
2 ـ بيوع الغرر
و من الأمور المفضية إلى الربا ، بيع الغرر ، والغرر فى اللغة ، معناه التغرير والخداع .. يقال. غرّر فلان بفلان أي ساقه إلى سوء ، أو أوقعه فى مكروه عن طريق الحيلة والخديعة والغش.
ويقع الغرر أو التغرير فى بعض صور هذا البيع .. وذلك كبيع المعدوم ..
مثل حبل الحبلى ، وبيع السمك فى الماء ، وبيع المعجوز عن تسليمه ، كالحيوان الشارد عن صاحبه ، أو بيع المجهول المطلق .. مثل قولك : بعتك منزلا ، أو المجهول العين ، مثل قولك : بعتك ما فى جيبى.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 369
و لا شك أن مثل هذه المبايعات لا تنتهى ـ غالبا ـ إلا بخلاف بين المتابعين إن لم يكن متخذا صورة مادية ظاهرة ، اتخذ مشاعر محملة بالبغضة والعداوة ، لأن البيع الذي حدث على تلك الصورة هو فى الواقع ضرب من المقامرة والمخاطرة .. إذ لا يدرى أحد متى تحمل هذه الناقة أو النعجة ، التي وقع البيع على ما قد تحمل فى المستقبل ، ولا أحد يدرى ما سيكون عليه نتاجها .. أ هو سليم أو معطوب ، أو هو واحد أو اثنين أو ثلاثة .. ويقال مثل هذا فى بيع الحيوان الشارد ، أو المجهول جهالة مطلقة ، كالبيع الواقع على كلمة « منزل » أو ما فى « الجيب » .
(1/359)

روى عن أنس بن مالك رضى اللّه عنه أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ، نهى عن بيع الثمار حتى تزهى ، قبل : وما نزهى؟ قال : تحمرّ أو تصفر .. قال :
أ رأيت إذا منع اللّه الثمرة ، بم يستحلّ أحدكم مال أخيك؟.
وروى أحمد فى مسنده ، قال : قدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة ، ونحن نتبايع الثمار قبل أن يبدو صلاحها ، فسمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم خصومة ، فقال : ما هذا؟ فقيل : إن هؤلاء ابتاعوا الثمار .. يقولون : أصابها الدّمّان والقشام « 1 » ، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم : فلا تبايعوها حتى يبدو صلاحها » .
فالرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ لم ينه عن هذا البيع إلا بعد أن تكشفت آثاره السيئة ، وتكشفت عن مشاحنة وبغضاء .. ولو جرى هذا البيع دون أن يثير مثل هذه المشاحنات أو لو كان بين أيدى الناس من وسائل العلم ما يضبط الحال التي سيكون عليها الثمر وقت نضجه ، لما وقع حظر على هذا البيع ، وما ماثله.
__________________________________________________
(1) الدمان والقشام : من الآفات التي تعرض للثمر قبل أن ينضج ، فيعطب أو يفسد.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 370
حكم الربا
هل الربا كبيرة من الكبائر؟.
هذا سؤال يبدو غريبا ، بعد أن قالت الشريعة قولها فيه ، فى الكتاب الكريم ، وفى السّنّة المطهرة.
فالقرآن الكريم يصور .. آكل الربا فى صورة من أصابه مسّ من الشيطان ، فاختبل عقله ، واضطرب كيانه ، وبدا للناس فى أسوأ حال يبدو فيه إنسان :
«الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ » .
والقرآن الكريم يعلن الحرب من اللّه ورسول اللّه على مؤكّلى الرّبا إن لم يتوبوا ، ويرجعوا إلى اللّه .. « فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ » .
(1/360)

و الرسول الكريم يلعن جميع الأطراف المشتركة فى عملية الربا : آكله ، ومؤكلّه ، وشاهديه ، وكاتبه « 1 » .. ثم أفلا يكون الرّبا بعد هذا كبيرة؟.
وبلى ، إنه لكبيرة الكبائر عند اللّه!.
يقول الرسول الكريم : « الرّبا ثلاثة وسبعون بابا .. أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمّه ، وإنّ أربى الرّبا عرض الرجل المسلم « 2 » » .
وفى هذا ما فيه من تغليظ لجريمة الرّبا ، وتشنيع عليها ، وأنه لو صوّر الرّبا درجات بعضها فوق بعض ، لكان أهون درجاته ، وأقلها إثما ، مماثلا للإثم الواقع من نكاح الرجل أمّه!!.
فكيف الحال بما فوق ذلك من درجات فى الكيان الربوىّ؟ .. لقد وضع الرسول الكريم على قمة الرّبا .. إباحة عرض المسلم .. وهو الزنا!!.
__________________________________________________
(1) صحيح مسلم : جزء/ 5 ص 50.
(2) بلوغ المرام من أدلة الأحكام ص 142.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 371
و كل درجات الرّبا الثلاث والسبعين ـ من أدناها إلى أعلاها ـ سلسلة متشابكة الحلقات من الظلم والعدوان .. ظلم النفس ، وظلم الغير ، وعدوان على حرمة النفس ، وحرمة الغير.
والسؤال هنا هو : إذا كان هذا هو شأن الرّبا ، وتلك هى جنايته ، وآثاره السيئة فى الحياة ، فلما ذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية له ، كما وضع للجرائم الأخرى ، كالقتل والسرقة ، والزنا ، وشرب الخمر ، والقذف؟ فلكل جريمة من هذه الجرائم حدّ مقرر ، وعقوبة راصدة ، فرضها الإسلام ، وأوجب على المجتمع الإسلامى إقامتها على من وجبت عليه؟.
هذا سؤال ، لم أجد فى كتب الفقه التي وقعت ليدى من سأله من الفقهاء ..
وإذن فلا سبيل إلى جواب على هذا السؤال من كتب الفقه ..
ومع هذا ، فقد وقع فى نفسى أن أسأل هذا السؤال ، وأن أتولّى الإجابة عليه!!.
ولكن ..
(1/361)

لما ذا لم يسأل الفقهاء هذا السؤال؟ ولما ذا لم يكشفوا عن السبب فى عزل هذا المنكر عن الكبائر الأخرى ، فلم تفرض له عقوبة؟ ولقد سأل الفقهاء عن أمور فرضية أو وهمية ، قد لا تقع فى الحياة أصلا ، ووضعوا أجوبة لها ..
فكيف بهذا الأمر الواقع فى الحياة؟
و أكبر الظن عندى ، أنه ربما كان ذلك ، لأنهم عدّوا مسألة الرّبا من المسائل التعبديّة التي تخفى حكمتها ، ولا يسأل عنها ، كما خفيت حكمة ربا الفضل على ابن عباس ومعاوية ، وكما خفيت الحكمة فى ألوان أخرى من المعاملات.
التي دخلت مدخل الرّبا! ولهذا روى عن عمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ أنه كان يقول :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 372
«ثلاث وددت أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم عهد إلينا فيهن عهد ، ننتهى إليه : « الجدّ « 1 » ، والكلالة « 2 » ، وأبواب من الرّبا » .. وقول عمر :
«و أبواب من الرّبا » أي صور منه ، وهى كما قال الرسول الكريم : « الربا ثلاثة وسبعون بابا » .. أما الرّبا الذي قطع الإسلام بحرمته ـ وهو ربا النسيئة ـ فقد جاء البيان فيه واضحا قاطعا .. وبقيت الصور الأخرى ، وهي التي ليست فى حقيقتها ربا ، ولكنها مداخل إلى الربا ، فقد تركها الإسلام خاضعة للنظر والتقدير ، حسب الظروف والأحوال. فما قد يكون مدخلا منها إلى الربا اليوم ، لوقوعه تحت احتمالات شتى ـ قد يوجد فى المستقبل من العلم ما يرفع هذه الاحتمالات كلها ، ويقيمه على أمر واحد محقق ، فيصبح ـ والأمر كذلك ـ على حقيقة واحدة ، لا مجال فيها لمفاجأت الاحتمالات ، وتوقعاتها! وأما الحكمة فى تحريم الرّبا ـ بمعناه المعروف ـ فهى ظاهرة لمن طلبها ..
يقول النبىّ الكريم : « الربا ثلاثة وسبعون بابا ، أيسرها أن ينكح الرجل أمّه ، وإن أربى الرّبا عرض الرجل المسلم » .
وواضح أن الاعتداء على عرض الرجل المسلم ، ليس من الربا المعروف ، بل المراد بالربا هنا هو المعنى الملازم له ، وهو الظلم.
(1/362)

و إذن فنستطيع أن نفهم الحديث الشريف ، على هذا الوجه ، وهو أن المراد بالربا ، وأنه ثلاثة وسبعون بابا ـ أنه الظلم ، وأن أبواب الظلم ودرجاته هى هذه الثلاثة والسبعون بابا ..
ولما كان الرّبا ـ بمعناه المعروف ـ على رأس أبواب الظلم جميعها ، فقد جعله الرسول الكريم ، العنوان لجميع أنواع الظلم .. تشنيعا عليه ، وتنبيها إلى مكانه المشئوم بين الكبائر ..
__________________________________________________
(1) أي ميراث الجد.
(2) أي ومعنى الكلالة.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 373
و يقول النبي الكريم : « من شفع لأخيه شفاعة ، فأهدى له عليها هدية فقبلها ، فقد أتى بابا عظيما من أبواب الربا » « 1 » .
وهذا بيان صريح فى أن الرّبا يقابل الظلم مقابلة واضحة صريحة.
وعلى هذا ، فإنه مهما تعددت أنواع الرّبا واختلفت صوره ، فإن الأصل الذي تفرع عنه الربا واضح معروف ، والحكمة فى تحريه واضحة لا تخفى ..
وأن أكل أموال الناس بالباطل وظلمهم ، هو العلة فى تحريم الرّبا .. وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ » .
وليس بعد هذا بيان فى النصّ على تحريم الرّبا ، وفى الكشف عن الحكمة فى تحريمه ، والنهى عن التعامل به.
ونعود إلى سؤالنا :
لما ذا لم يضع الإسلام عقوبة مادية للربا ، مثل الجرائم التي فرض عليها عقوبة؟
و الجواب الذي يمكن أن نستلهمه من روح الشريعة .. هو :
أولا : أن الحدود التي فرضها الإسلام عقوبة للقتل والسرقة والزنا ..
(1/363)

و غيرها .. هى تطهير لمرتكبيها من آثار ما ارتكبوا .. فإذا أقيم الحد على مرتكب جريمة من هذه الجرائم طهر .. كما ورد فى الحديث عن عبادة بن الصامت ، قال : أخذ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم (أي العهد) كما أحد على النساء : « ألا نشرك باللّه شيئا ، ولا نسرق ، ولا نزنى ، ولا نقتل أولادنا ، ولا يعضه « 2 » بعضنا بعضا ، فمن وفى منكم فأجره على اللّه ، ومن أتى منكم حدّا فأقيم عليه ، فهو كفّارته .. الحديث » « 3 » .
__________________________________________________
(1) السياسة الشرعية لابن تيمية ص 21.
(2) يعضه : أي يقذف ، ويفضح.
(3) صحيح مسلم : جزء : 5 ص 119.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 374
ذلك شأن الذنوب التي يقام فيها الحدّ .. يتطهر منها مرتكبوها بإقامة حدود اللّه عليهم ..
أما « الربا » فهو باب وحده من أبواب الشر والفساد ، وخطيئته تحيط بصاحبه ، وتخالط كيانه الروحي والجسدى ، فلا ينجو منه إلا بالتوبة الخالصة ونقض يديه من هذا الوزر .. إلى غير رجعة .. وإلا فهو حصب جهنم ..
«وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » .
ثانيا : الربا محاربة سافرة للّه ولرسوله ، إذ كان بغيا على عباد اللّه الفقراء ، وتحكّما فى أرزاقهم ، وإفسادا لحياتهم ، وتضييعا لهم .. إنه قتل خفىّ جماعىّ للفقراء المستضعفين فى المجتمع ، ولهذا تولّى اللّه ـ سبحانه وتعالى ـ الدفاع عنهم ، والانتقام لهم ، ممن ظلموهم ، وأوردوهم هذا المورد المهلك .. « فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ » .. فاللّه سبحانه هو الذي أعلن هذه الحرب على المرابين ، وكفى بحرب يعلنها اللّه ، وكفى بجرم يعلن اللّه الحرب على مرتكبيه!! إن اللّه ـ سبحانه ـ لم يعلن الحرب على غير هذا الصنف من المفسدين ..
(1/364)

و هم المتعاملون بالرّبا! حتى أولئك الذين أعلنوا الحرب على اللّه وعلى رسوله ، لم يؤذنهم اللّه بحرب ، كما يقول سبحانه وتعالى : « إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ » . (33 : المائدة) فلم يعلن سبحانه وتعالى الحرب على هؤلاء العصاة المتمردين ، الذين سعوا فى الأرض فسادا ، وأعلنوا الحرب على اللّه وعلى رسوله .. ولكنه أعلنها
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 375
سافرة صريحة على المرابين : « فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ » وليس وراء هذه الحرب إلا خراب شامل ، وضياع وفساد لما جمعوا ، وعذاب شديد فى نار جهنم ، يوم يقوم الناس لرب العالمين.
هذا هو الحدّ الذي وضعه اللّه سبحانه ـ عقوبة للربا ، وتولّى ـ سبحانه ـ تنفيذه ، دون أن يعهد بذلك إلى أحد.
ثالثا : تتم عملية الربا بين آكل الربا ـ المقترض ، وبين صاحب المال ـ المقرض ـ والشاهدين ، والكاتب.
إنها عملية واحدة ، ولكل من هؤلاء دوره فيها.
فهل يكون الحد واحدا لجميع أطرافها ، إن وضع لهذه الجريمة حد؟
أم أن يكون لكل طرف من الأطراف الأربعة الحدّ الذي يناسب دوره فيها؟
إن قيل بأن تكون العقوبة واحدة لهؤلاء جميعا ، تكون قد سوّت بين الظالم والمظلوم ، وبين من أغواه الجشع وحب المال ، ومن دفعه الفقر وألجأته الحاجة ، حتى صار كالمضطر! ثم إن الشاهدين والكاتب لم يأكلوا الرّبا ولم يؤكّلوا ، فهل يسوّون يمن أكل أو أكّل؟ لا محل للمساواة إذن فى العقوبة هنا.
(1/365)

و إن قيل : تقع العقوبة على قدر الجرم الذي تلبس به كل من المشتركين فيه .. قيل إن فى هذا تهوينا من شناعة الجريمة ، لأنها جريمة أعلن اللّه فيها الحرب ، على أطرافها جميعا وإن أدنى عقوبة لمن اشتبك فى حرب مع اللّه ينبغى أن يكون أقصى عقوبة عرفت فى الحدود ، وهى القتل ، أو الرجم .. فبم يعاقب من هم أكثر التصاقا بهذه الجريمة ، وأشد وزرا فيها؟ وهل بعد القتل
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 376
أو الرجم عقوبة؟ إذن فلا سبيل إلى المساواة! وإذن فلا مكان لوضع عقوبة عادلة تأخذ هذه الأطراف .. كلّا بحسب ذنبه! رابعا : إذا قيل إن هذه الجريمة ، وقد بلغت ما بلغت من الشناعة والظلم ..
لم لا يكون القتل حدّا من حدودها .. ينال على الأقل صاحب المال ، وهو المرابى؟ ثم يكون التعزير لآكل الربا (المدين) ثم للشاهدين والكاتب.
إذا قيل هذا .. قيل : إن الجريمة أكبر من القتل ، وأكبر من أن ينال مقترفها شرف التطهير بإقامة حدّ من حدود اللّه عليه .. وليكن عذاب السعير هو العقاب الذي ينزل كل واحد من هؤلاء المشتركين فى هذه الجريمة ـ منزله من النار ، وفى النار منازل ، ودركات! خامسا : إن معركة المال بين الأغنياء والفقراء ، هى معركة الحياة الدائمة المتصلة .. وهذه المعركة لا ينفع فيها عقاب مادى ، ولا يخفف من طغيانها ..
لأن المال شهوة قائمة في النفس لا ينطفى ء سعارها إلا إذا بللتها قطرات من ينابيع العطف والرحمة والمحبة ، ينضح بها ضمير حىّ ، ووجدان سليم.
إن الضمير وحده هو الذي يمكن أن يفاء إليه فى تسكين هذه الشهوة الصارخة لحب المال .. ومن هذه الجهة يجى ء الأمل فى القضاء على جريمة الرّبا ، أو الحد من نشاطها.
(1/366)

و لهذا ترك الإسلام العقاب المادي لهذه الجريمة الغليظة ، واتجه إلى الضمير الإنسانى ، يخاطبه ، ويبعث فيه مشاعر الخير والرحمة والمودة .. فإذا لم يكن ثمة ضمير يندى به قلب الغنىّ عطفا ورحمة على الفقير ، فيقرضه قرضا حسنا ، أو ثمة ضمير يعفّ به الفقير عن هذا المورد الوبيل ـ إن لم يكن ثمة هذا الضمير أو ذاك ، فلا قيمة لوازع السلطان أمام سلطان المال وطغيانه ، وإزاء ضراوة الحاجة وقسوتها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 377
و لهذا ختم اللّه سبحانه وتعالى آية الربا ، بالحثّ على مراجعة النفس فيما هى مقدمة عليه بارتكاب هذا المنكر ، وما ينتظرها من حساب يوم القيامة ..
وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ » .
فهذه المراجعة إن صادفت قلبا سليما ، ونفسا مهيأة للخير ، عدلت بها عن هذا المورد الوبيل ، وساقتها إلى موارد البر والخير ، والتعفف والصبر « 1 » وإلّا فلا دواء لهذا الداء إلّا ما أعد اللّه لأهله من عذاب السعير.
مبحث فى الدّين توثيقه والإشهاد عليه
الآية : (282) [سورة البقرة (2) : آية 282]
(1/367)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)
حرّم اللّه سبحانه القرض بالرّبا ، ورغّب فى القرض الحسن ، المراد به وجه اللّه ، وفك ضائقة ذوى الحاجة ، فذلك عمل مبرور يجزى اللّه عليه الجزاء الحسن.
__________________________________________________
(1) انظر هذا البحث فى كتابنا : « السياسة المالية فى الإسلام » ص 24 وما بعدها تجد بحثا وافيا فى هذا الموضوع.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 378
(1/368)

و لأن عملية القرض عملية إنسانية ، تنبع من عاطفة كريمة رحيمة ، فقد حرص الإسلام على أن يثبّت دعائمها ، وأن يحرسها من الآفات التي نشوّه معالمها ، وتفسد الجوّ الذي تتنفس فيه.
ففى النفوس ضعف ، وفى القلوب مرض ، وفى الناس نكران للمعروف ، وجحود للإحسان .. وقد تتوارد هذه الآفات جميعها على عملية القرض ، فتجعله مصدر عداوة وبغضاء ، بعد أن كان باب تواصل وتراحم وتوادّ .. فقد يجحد المدين أصل الدّين ، أو يجحد بعضه ، أو يقع سهو أو نسيان فى أصل الدين .. عند كل من الدائن والمدين .. وكل هذا يوجد شقاقا ، ويوقع عداوة! لهذا أمر الإسلام على وجه الإرشاد والنصح أن يكتب الدّين ، وأن يشهد عليه .. فقال تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ » فكما تعرف قيمة الدين ، كذلك ينبغى أن يعرف الأجل الذي يؤدّى فيه إلى صاحبه ، إذ أن تجهيل الوقت الذي يردّ فيه الدين ، وتركه مفتوحا لتقدير المدين ـ يفتح بابا واسعا للماطلة والتسويف ، مما يدعو إلى المشاحنة والعداوة ، فى أمر ينبغى أن يصان عما يدعو إلى المشاحنة والعداوة ، وأن يخلص للبر والإحسان! وقوله تعالى : « وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ » أي ليقم بين الدائن والمدين من يكتب لهما الدين وأجله ، وليشهد عليه .. وذلك إذا لم يكن الدائن والمدين معا ممن يحسنون القراءة والكتابة ، فإذا كان أحدهما يحسنهما أو كانا معا لا يحسنانهما فليقم بينهما كاتب عدل ، يكون منهما بمنزلة الحكم.
وهو أمر موجه إلى من يحسنون الكتابة أن يقوموا بهذه المهمة إذا دعوا إليها .. والأمر لا يكون إلا حضوريا ، يخاطب به من يراد منه الأمر ، وقد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 379
(1/369)

وجّه الأمر هنا إلى غائب ، وذلك أنه لا غائب عن علم اللّه وقدرته ، فكل غائب هنا حاضر فى علم اللّه .. فكل كاتب موجود أو سيوجد ، ماثل بين يدى اللّه ، ومخاطب بهذا الأمر.
وقوله تعالى : « وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ » هو نهى لمن يعرف الكتابة أن يمتنع عن كتابة الدين إذا دعى إلى كتابته ، فقد أنعم اللّه عليه بأن علّمه ما لم يكن يعلم ، فلينفق من هذا الرزق الذي رزقه اللّه إياه ، فى سبيل الخير ، فذلك من زكاة هذه النعمة.
وكما أن الأمر لا يتجه إلى غائب ، كذلك النهى لا يكون لغير حاضر ..
وكما قلنا ، فإنه لا غائب فى علم اللّه ، فاللّه سبحانه وتعالى يأمر وينهى الحاضرين والغائبين .. فى نظرنا ، والجميع حاضر بين يدى اللّه ، واقع تحت علمه.
قوله تعالى : « فَلْيَكْتُبْ » أمر آخر ، بالكتابة ، يتوجه إلى من يحسنها ، ويؤكد الواجب المدعوّ إليه فى تلك الحال ، فإن تخلّى عنه كان ذلك منه عصيانا عن عمد ، وتحدّ صريح لأمر اللّه ، الذي بلّغه فى أبلغ بيان وآكده .. بالأمر به ، ثم بالنهى عن مخالفته ، ثم بالأمر به مرة أخرى ..
وقوله تعالى : « وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ » ، هذا بيان لحق المدين فى توثيق الدين .. فبعد أن دعا اللّه سبحانه وتعالى كلّا من الدائن والمدين أن يكتبوا الدين ، ثم دعا إليهما من يكتب لهما ـ أمر المدين أن يملل أي يملى على الكاتب المال الذي استدانه ، والأجل المتفق على أدائه فيه ، ليكون ذلك بإقراره ، الذي يتعلق بذمته ، وذلك بحضور الدائن ، ومصادقته على ما يمليه المدين ، أو يستمليه منه الكاتب.
وقوله تعالى : « وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً » هو أمر توجيهى للمدين
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 380
(1/370)

بأن يتقى اللّه ربّه فى هذا المال الذي صار وديعة فى يديه ، وأمانة فى ذمته ، إلى أن يؤديه ، كما أخذه ، محمولا إلى الدائن بيد الشكر وعرفان الجميل ، وألا يبخس من هذا المال شيئا ، إذ ليس ذلك من صنيع الكرام إلى من أكرمهم وأحسن إليهم ، وذكر الاسم الكريم « ربّه » بعد ذكر لفظ الجلالة « اللّه » تذكير للمدين بربوبية اللّه له بعد تذكيره بألوهيته ، فيستحضر بذلك عظمة اللّه وجلاله كما يذكر نعمه وآلاءه ، ويذكر مع هذا أن من نعم اللّه على المدين أن يسر له أمره العسر ، وفرج كربه على يد عبد من عباده ، هو الدائن ، وتلك نعمة من نعم اللّه ، يجب على المدين أن يرعاها ، وأن يحرص على شكرها ، بأدائها إلى أهلها ، فى سماحة ويسر وشكر.
قوله تعالى : « فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ » (282) أي فإن عرض للمدين ما يمنعه من أن يتولّى بنفسه إملاء الدين والإقرار به ، بأن كان سفيها محجورا عليه ، أو صغيرا ، أو أبكم أو أصم ، أو نحو هذا مما ينقص من أهليته وقدرته ، فليتولّ ذلك عنه وليّه ، أو وصيّه ، فيستدين له ، ويقرّ بالدين الذي استدانه ، متوخيا فى ذلك العدل ، فلا يقر بأكثر أو أقل مما استدانه.
قوله تعالى : « وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى » (282) أي فإذا كتب الدين بحضور المتداينين ، وأقر المدين أو وليه بما كتب الكاتب ، فليشهد على ذلك شاهدين عدلين من الرجال ، أو رجل وامرأتان.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 381
(1/371)

و فى قوله تعالى : « وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ » إشارة إلى تحيّر الشاهدين ، والتماس الصفات الطيبة فيهما ، فليس كل من حضر مجلس العقد كان صالحا للشهادة ، قادرا على تحملها ، بل يجب أن يكون ذلك بعد طلب ، وبحث ، فقوله تعالى : « وَ اسْتَشْهِدُوا » أي اطلبوا شاهدين ، وفى قوله تعالى : « مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ » أي ممن رأيتم فيهما ، الاستقامة والسلامة ، من بين أهل الاستقامة والسلامة.
وقوله تعالى : « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى » معدول به عن أن يقال : « أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى » حيث يبدو معناهما واحدا ، وهو أنه إذا ضلّت إحدى المرأتين عن الحقيقة التي شهدت عليها ، ذكرتها الأخرى بهذه الحقيقة ، وأعادتها إلى الصواب.
واللفظ القرآنى ـ فى ظاهره ـ فيه إطناب وتكرار ، ولا يكون ذلك إلا لمعنى زائد ، وإلا لغرض مراد ، لا يحققه غير هذا اللفظ القرآنى على صورته تلك .. فما ذا هناك؟
لم يعرض القرآن الكريم للرجلين ، إذا ضل أحدهما وأنكر ما شهد عليه ، كما لم يعرض للرجل مع المرأتين .. إذا ضل عما شهد عليه. وإنما عرض للمرأتين فقط ، وما قد يقع من إحداهما .. فما وجه هذا؟
نقول ـ واللّه أعلم ـ : إن الشهادة أمانة تحمّلها الشاهد ، وقبلها طائعا مختارا ، حسبة لوجه اللّه .. فإذا غيّر الشاهد وبدل فيما شهد عليه ، فليس لأحد عليه من سبيل ، وحسابه عند ربّه! سواء أ كان الشاهد رجلا أو امرأة.
ولكن لما كانت المرأة أقرب إلى السهو والنسيان من الرجل بسبب ما يعرض لها من أحوال جسدية ، من حمل وولادة ، ومن هزّات عاطفية ، فى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 382
قيامها على شئون صغارها وما يعرض لهم ـ لما كانت المرأة على تلك الصفة هنا فإن استشهادها لم يكن إلا لضرورة ، وذلك حين لم يكن ثمة أكثر من رجل واحد يصلح للشهادة! وهنا تقوم المرأتان مقام الرجل الآخر المطلوب للشهادة.
(1/372)

و لما كان الضلال عن طريق الحق فى جانب المرأتين ليس مقصورا على إحداهما دون الأخرى ، بل هو قدر مشترك بينهما ، فقد تذكر إحداهما بعض ما شهدت عليه وتنسى بعضا ، كأن تذكر أن الدين قدره كذا وتنسى الأجل المضروب له ، أو تذكر أين كان مجلس العقد وتنسى زمانه ، أو يختلط عليها الأمر فى من هو الدائن أو المدين .. على حين تذكر الأخرى ما نسيته الأولى ، وتنسى ما تذكره صاحبتها .. وهكذا تكمّل إحداهما الأخرى ، فيأتيان بالشهادة على وجهها الصحيح ، أو على ما هو أقرب إلى الصحيح! فالمراد بالضلال هنا الحيدة عن الواقع ، بسبب سهو أو نسيان ، كما يضلّ السائر طريقه إلى الغاية التي يقصدها.
وقوله تعالى : « وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا » (282) أمر موجه إلى الشهود بأداء الشهادة إذا ما دعوا إلى أدائها عند الحاجة إلى شهادتهم ، وبهذا يتحقق الغرض المقصود من توثيق الدين ، والإشهاد عليه.
وفى التعبير عن الشهود بلفظ « الشهداء » الدال على علو القدر وشرف المنزلة ـ احتفاء بالشهادة وتكريم عظيم للشاهد ، إذا كان أهلا لحمل الأمانة ، وموضع ثقة بين الناس ، حيث ائتمنوه ، ورضوا به حكم عدل بينهما ، ففى كلمته التي يشهد بها مقطع الحق.
وقوله تعالى : « وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا » (282).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 383
هو تحذير من التهاون فى توثيق الدين أيّا كان قدره ، فقد يستخف بعض الناس بشأن الدين ، حين يكون قليلا ، فلا يكتبه ، ولا يحدد له أجلا ، وهذا من شأنه أن يفتح بابا للخلاف ، ثم الشقاق والعداوة.
(1/373)

و كتابة الدين أيّا كان قدره هو العمل المبرور عند اللّه ، لأنه قائم على العدل والإحسان ، ولأنه هو الذي يضبط الشهادة ويقيمها على وجهها الصحيح ، إذا اختلف الشهداء فيها ، ولأنه من جهة ثالثة يبعد الريب والشبهات ، حيث يرجع المتداينين إلى ما كتب ، وضبط.
وقوله تعالى : « إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ » (282) استثناء من الحكم العام المأمور به فى كتابة الدين.
ففى عملية البيع والشراء ، حيث تكون البضاعة حاضرة ، والثمن حاضرا معجلا ، وحيث تسلّم البضاعة ويقبض الثمن فى مجلس البيع ـ فى هذه العملية لا تكون الكتابة ضرورية ، إذ لا غناء لها ، ولا معوّل عليها بعد أن يتم تسليم البضاعة وقبض الثمن.
وقوله تعالى : « تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ » إشارة إلى فورية التسليم والقبض ، وتبادل البضاعة وثمنها بين البائع والمشترى.
وقوله تعالى : « وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ » أمر توجيهى بأن يكون البيع والشراء بحضور شاهدين ، ذلك أنه إذا لم يكن للكتابة أثر فى عمليه البيع الحاضر ، فإن للشهود أثرهم فى حسم ما قد يقع بين البائع والمشترى من خلاف ، فى مجلس البيع. كأن يختلفا فى الشي ء المباع ، كمية ، أو عددا ، ونحو هذا ، أو أن يختلفا فى الثمن الذي تراضى به كل منهما ، فيكون للشاهدين الكلمة الحاسمة فى هذا الخلاف.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 384
و قوله تعالى : « وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ » (282) حماية للكاتب ، وللشاهدين من أن يلحقهما أذّى فى هذا العمل الذي أدّياه حسبة لوجه اللّه.
(1/374)

فالكاتب والشاهد فى العقود المبرمة بين المتعاقدين يؤديان عملا إنسانيا ، حسبة لوجه اللّه ، ومن الظلم أن يمسّهما سوء أو ينالهما أذى من أجل هذا العمل الذي يقومان به ، وإلّا زهد الناس فى هذا العمل المبرور ، إذا لم تيسر سبله ، ولم يمط عنه كل أذى.
لهذا جاء قول اللّه تعالى : « وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ » حماية للإحسان وللمحسنين من أن يكدر صفو الإحسان ، وأن يساء إلى أهله بأى لون من ألوان الأذى المادىّ أو الأدبىّ.
وقوله تعالى : « وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ » تحذير للدائنين والمدينين ، والبائعين والمشترين ، ولكل طرف من الطرفين المتعاقدين فى أية عملية يضبطها عقد ويشهد عليها شهود ـ تحذير لهؤلاء جميعا من أن ينال الكاتب أو الشاهد أذى منهم ، فإن فعلوا كان ذلك فسقا منهم ، وخروجا على سنة العدل والإحسان ، وتعديا على حدود اللّه.
وقوله تعالى : « وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » (282) هذا أمر عام بتقوى اللّه ، ومراقبته ، والوفاء بأوامره ونواهيه على الوجه الأتم الأكمل .. وتقوى اللّه مطلوبة هنا فيما بيّنه اللّه تعالى من أحكام ، وأوضحه من معالم ، ورسمه من حدود فى عملية الدين ، وفى البيع والشراء ، فإنه إذا كانت
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 385
تقوى اللّه بمحضر من قلوب المتعاملين هنا ، استقام أمرهم ، وسلم لهم دينهم ودنياهم جميعا.
الآية : (283) [سورة البقرة (2) : آية 283]
وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
(1/375)

التفسير : تبين هذه الآية حكما من أحكام الدين ، وذلك حين يكون المتداينين على سفر ، وليس هناك من كاتب يكتب لهما ، كما أمر اللّه فى الآية السابقة ، والحكم التعليمى هنا هو أن يقدّم المدين ليد الدائن رهنا يضمن دينه ، وبذلك لا يكون هناك سبيل للمدين أن يماطل أو ينكر ، فإن ماطل أو أنكر كان فى يد الدائن ما يفى بدينه ، وهو الرهن المقبوض.
قوله تعالى : « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ » وذلك حين لا يكون فى يد طالب الدين ما يقدمه لمن يطلب الاستدانة منه كرهينة لما يستدينه .. ففى هذه الحال يترك الأمر لتقدير الدائن ، فإن أمن المدين ، واطمأن إلى سلامة دينه ، واستشعر الوفاء بدينه ، داينه ، وجعل هذا الدين أمانة فى ذمته ، يؤديه إليه فى الأجل المحدد له ، على أن يشهد على هذا الدين.
وقوله تعالى : « فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ » أمر إلزامى للمدين الذي ائتمنه الدائن ، ولم يكتب دينه ، ولم يكن فى يده رهن مقبوض فى مقابله ـ أمر إلزامى له أن يؤدى ما ائتمن عليه ، فإن خيان الأمانة هنا جرم غليظ ، إذ حكم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 386
الدائن على نفسه ، أنه غير أهل للثقة ولا مستأهل للجميل ، الأمر الذي يجور على انسانيته ، ويذهب بمروءته.
وقوله تعالى : « وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ » تذكير للمدين أن يفى ء إلى تقوى اللّه إذا حدثته نفسه بجحد الدين أو المماطلة فيه ، فإن اللّه له بالمرصاد ، إن أحسن أحسن اللّه إليه ، وإن أساء أخذه بذنبه. « إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ » (102 : هود).
وقوله تعالى : « وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » تحذير للشهود ـ فى جميع الأحوال ـ أن يكتموا ما استشهدوا عليه ، فإن الشهادة أمانة ، وجحودها ، خيانة للأمانة.
(1/376)

و قوله تعالى : « فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ » إشارة إلى أن الإثم قد استولى على قلبه الذي كان مستودع الشهادة ، وإذ كتمها صاحبها فى قلبه ، وأبى أن يرسلها حين طلب إليه أداؤها إلى أهلها ، فقد علقت بقلبه ، ورانت عليه ، وتغير وجهها ، واصطبغ بصبغة الخيانة والإثم.
وقوله تعالى : « وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ » أي مطلع على ما ضمّت عليه القلوب ، وما أعلنته أو أخفته.
الآية : (284) [سورة البقرة (2) : آية 284]
لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)
في الآية استعراض لقدرة اللّه ، وبسطة سلطانه ، وعظمة قدرته ، وسعة علمه ..
وفى كل هذا يرى المؤمنون باللّه أنهم إنما يتحركون ويعملون فى مجال القدرة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 387
الإلهية ، وتحت سلطانها ، لا يخفى على اللّه منهم شى ء ...
وقوله تعالى : « وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ. » هو خطاب للشهود ، وتحذير لهم من أن يكتموا الشهادة ، فإن أبدوا ما فى أنفسهم مما استشهدوا عليه ، أو أخفوه وكتموه ، فإن اللّه بهم عليم ، وهو محاسبهم على خيانتهم الأمانة ، وكتمانهم الشهادة.
(1/377)

و قوله تعالى : « فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ » بسط من اللّه تعالى ليده ، التي تنال برحمتها ومغفرتها أولئك العصاة ، الذين كتموا الشهادة ، فيغفر اللّه لمن شاء منهم ، ويعذب من يشاء ، يغفر لمن يشاء كرما وفضلا ، ويعذب من يشاء حقا وعدلا .. وذلك ما يشهد له قوله تعالى : « نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ » (56 : يوسف) فرحمة اللّه عامة شاملة ، تنال المحسن والمسي ء ، والبرّ والفاجر .. كما يقول سبحانه : « رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ .. » (156 : الأعراف ..) أما إحسان المحسنين فهو فى ضمان اللّه ، لن يضيع أبدا!
الآية : (285) [سورة البقرة (2) : آية 285]
آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
التفسير : يخبر اللّه سبحانه وتعالى بإيمان الرسول بما أنزل إليه من ربّه ، أي بالقرآن الذي أنزل عليه ، وبما حمل هذا القرآن من أحكام وآداب ، كما
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 388
يخبر سبحانه بإيمان المؤمنين الذي اتبعوا النبي ، على نحو الإيمان الذي آمن به النبىّ.
وليس الإخبار بإيمان النبىّ والمؤمنين لمجرد الإعلام بمضمون هذا الخبر ، وإنما لما ينكشف وراء هذا الخبر من الصورة التي كان عليها إيمانهم ، فهذا الإيمان قائم على دعائم ، هى : الإيمان باللّه وملائكته وكتبه ورسله ، دون تفرقة بين أحد من رسله ، فهم جميعا حملة رسالة اللّه إلى عباده ، يعملون لغاية واحدة ، هى هداية الناس إلى اللّه ، وإقامتهم على صراط اللّه ، ودين اللّه .. والتفرقة بينهم تفرقة للحق الذي جاءوا به ، والحق وجه واحد ، وطريق واحد ، لا تختلف مناهجه ، ولا تتفرق سبله.
(1/378)

و من تمام هذا الإيمان أيضا ، السمع والطاعة للّه ولرسوله ، والإنابة إلى اللّه في العثرات والزلات.
وقوله تعالى : « لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ » هو مقول لقول محذوف يدل عليه القول فى قوله تعالى : « وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا » أي قائلين لا نفرق بين أحد من رسله ، وقالوا سمعنا وأطعنا. »
و فى هذا كله تعريض بأهل الكتاب ، وخاصة اليهود ، الذين فرّقوا دين اللّه ، فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعضه ، وعزلوا رسل اللّه بعضهم عن بعض كما عزلوا هم أنفسهم عن المجتمع الإنسانى كله.
الآية : (286) [سورة البقرة (2) : آية 286]
لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 389
التفسير : التكاليف التي حملها رسل اللّه إلى الناس ، إنما هى لإصلاح معاشهم ومعادهم ، وإقامتهم على طريق مستقيم ، تطيب لهم فيه الحياة ، حيث تجمعهم الأخوة والمودة ، ويؤلف بينهم العدل والإحسان.
وهذه التكاليف ليس فيها إعنات ولا تحدّ لقدرة الإنسان وقوة احتماله ، وإلا كانت ضربا من النكال ، ولونا من العقاب ، الأمر الذي جاءت رسالات السماء على خلافه .. فما هى إلا رحمة من رحمات اللّه ، وفضل من أفضاله على عباده ، تفتح لهم مغالق الخير ، والحق ، والهدى.
(1/379)

و قوله تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » هو البيان المبين لحقيقة الشرائع السماوية ، وأنها المنهج التربوى السليم ، لإصلاح أمر الفرد والمجتمع ، وهى الغذاء الروحي والنفسي والعقلي للإنسان .. وإذ كان هذا شأنها فإنها لم تجى ء إلا بما تتقبله النفوس السليمة ، وتستجيب له ، وتتفاعل معه ، وتسعد به.
وإذ كانت أحكام الشريعة عامة للناس كلهم ، عامتهم وخاصتهم على السواء ، وإذ كان الناس على درجات متفاوتة ، فى القوة والضعف ، وفى الصحة والمرض ـ فإن مما قضت به الحكمة فى ذلك أن جاءت الشرائع السماوية ـ وخاصة شريعة الإسلام ـ على مستوى الوسط للقدرة الإنسانية ، بمعنى أن من فوق هذا المستوي تتسع قدراتهم لأكثر من تكاليف الشريعة ، على حين أن من دون هذا المستوي لا تضيق نفوسهم به ، وإن وجدوا فيه شيئا من العناء والجهد.
هذا فى مجال الإنسانية كلها .. أما فى خاصة حياة الفرد من الناس ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 390
فإن الشريعة قد راعت الظروف الخاصة التي تعرض للإنسان ، والضرورات التي تتحدّى قدرته ، فوضعت لتلك الظروف وهذه الضرورات أحكاما خاصة ، موقوتة بوقتها ، ومقدورة بقدرها ، فأباحت المحظورات عند الضرورات ، ودفعت الحرج عن الضعفاء ، والمرضى ، والمسافرين ، فرفعت عنهم بعض الأحكام ، رفعا جزئيا أو كليا ، بصفة مؤقته أو دائمة ، وبهذه الأحكام الاستثنائية الواردة على الأحكام العامة ، يرفع الحرج عن المؤمنين باللّه ، الحريصين على الوفاء بأحكام شريعته .. وهذا من رحمة اللّه بالناس ، ولطفه بعباده :
«وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ » (220 : البقرة).
(1/380)

ثم إن فى قوله تعالى : « لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » . ما يجعل إلى الإنسان نفسه عند التطبيق العملىّ لأحكام الشريعة ، أن يردّها إلى قدرته واحتماله ، فما خرج منها عن قدرته ، وجاوز احتماله ، فقد تجاوز اللّه عنه ، ورفع عنه الحرج فيه ، شريطة أن يكون ذلك عن نية صادقة فى الامتثال لأمر اللّه ، ورغبة خالصة فى مرضاته ، بمعنى أن يحاول الإنسان أداء المطلوب صادقا مخلصا ، فإن عجز أو قصّر فرحمة اللّه لن تضيق به ، ولن تقيمه على الضر والأذى :
«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » .
وقوله تعالى : « لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ » الكسب هنا غير الاكتساب .. فالكسب للحسنات والأعمال الصّالحة ، والاكتساب للسيئات والأعمال السيئة .. وفى لفظ الكسب خفة ، ولطف ، واستقامة على اللسان ، على خلاف لفظ الاكتساب وما فيه من ثقل ، وقلق واضطراب ..
«كسبت » و«اكتسبت » ! ولفظ « لها ما كسبت » يفيد الملكية ، التي تقضى للمالك بالانتفاع بما ملك ، والتصرف فيه بما ينفعه ، وذلك واقع فيما يكسبه الإنسان من حسنات ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 391
و ما يعمله من صالحات .. إنها له ، وملك يمينه ، أما لفظ « عليها ما اكتسبت » فهو يدل على إلقاء أعمال وأعباء على كاهل المكتسب ، تنقض ظهره ، وتقيد خطوه ، فلا يبلغ غاية ، ولا يحقق أملا.
(1/381)

قوله تعالى : « رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » . من رحمة اللّه بنا وألطافه علينا ـ أتباع هذه الملة السمحاء ـ أن دعانا إلى أن ندعوه بهذا الدعاء ، الذي صاغه سبحانه من كلماته ، وجعله سبحا لملائكته ولعباده الصالحين ، يسبّحون له ، ويدعون لنا به .. بل إنه سبحانه وتعالى يأتمّنا بهذا الدّعاء ، ويصلى علينا به ، ونحن نقول بما يقول ، ونصلّى بما يصلّى .. فما أكثر رحمة اللّه بنا ، وما أوسع فضله علينا .. إذ تقبّل دعاءنا قبل أن ندعو ، واستجاب لنا قبل أن نكون! فقد رفع اللّه عنا الخطأ والنسيان ، كما أخبر الرسول الكريم فى قوله : « رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » كذلك عافانا مما ابتلى به أمما قبلنا .. كأمة اليهود ، الذين ابتلاهم اللّه بضروب شتى من البلوى ، وحمّلهم من التكاليف ما أعنتهم وأرهقهم ، عقابا لهم ، ونكالا ، جزاء كفرهم بآيات اللّه ، ومكرهم بنعمه ، وفى هذا يقول سبحانه : « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » (160 : النساء) ويقول سبحانه : « وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ » (146 : الأنعام) .. لقد عافانا اللّه من هذا الامتحان
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 392
(1/382)

القاسي ، فلم يأخذنا بذنوبنا ، ولم يحملنا من التكاليف ما لا نطيق ، وجعل لنا باب التوبة مدخلا نثوب به إليه ، ونقترب منه ، بعد أن بعدنا بذنوبنا عنه ، إذ نضرع إليه قائلين : « رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » .
وإنى لأحبّ أن أفهم قوله تعالى : « رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ » . على أنه ـ مع كونه دعاء مطلقا يدعو به المسلم فى كل وقت ـ هو تعويذة يلوذ بها المذنبون الذي تغلبهم أنفسهم ، وتقهرهم أهواؤهم فيقترفون ما اقترفوا وهم فى هذا الضعف النفسي المستولى عليهم ، فهم ـ والحال كذلك ـ قد وجدوا أمام أمر لا طاقة لهم به ، وهم لذلك فى استخزاء ، وفى حسرة وندم ، لا يجدون إلا وجه اللّه يبسطون أيديهم إليه أن يعينهم على أنفسهم ، فيقوّى من إيمانهم ، ويشد من عزائمهم ، فى هذا الصراع الدائر فى كيانهم ، بين الإقدام على المعصية والإحجام عن مواقعتها ، حتى ينتصروا على أنفسهم وينتهوا عمّا نهوا عنه ..
وفى ختم هذا الدعاء العظيم الشامل بقوله تعالى : « أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » إلفات للمسلمين بأن غايتهم من هذا التضرع إلى اللّه ، بإصلاح أمرهم واستقامة طريقهم ـ هو أن يكونوا آخر الأمر أهلا لهداية الناس إلى اللّه ، وأن يصبحوا جبهة عاملة لنصرة الحق ، وجندا مقاتلا فى سبيل اللّه ، وبهذا تقوى جبهة الإيمان ، وتضمر أو تزول دولة الكفر .. وإذ كان المؤمنون أولياء اللّه ، ونصراء كلمته ، فإن اللّه وليهم وناصرهم على عدوهم ..
«أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 393
(1/383)

3 ـ سورة آل عمران
اسمها : سورة آل عمران ، ومن أسمائها : « الزهراء » . وتسمى هى والبقرة : الزهراوين.
نزولها : نزلت بالمدينة .. بعد البقرة ، والأنفال.
عدد آياتها : مائتا آية.
عدد كلماتها : ثلاثة آلاف وأربعمائة وثمانون كلمة.
عدد حروفها : أربعة عشر ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرون حرفا.
بسم اللّه الرّحمن الرّحيم
الآية : (1) [سورة آل عمران (3) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
ذكرنا فى أول سورة البقرة ما يقال عن المراد من الحروف التي بدئت بها بعض السور فى القرآن الكريم
الآيات : (2 ـ 4) [سورة آل عمران (3) : الآيات 2 الى 4]
اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)
التفسير : جملة « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ » صفة للّه ، « و الْحَيُّ » صفة ثانية ، و«الْقَيُّومُ » صفة ثالثة.
فاللّه سبحانه وتعالى الموصوف بالتفرّد بالألوهية ، السرمدية الأبدية ، التي لم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 394
(1/384)

يسبقها ولا يلحقها عدم ، وبالقيومية المبسوط سلطانها على كل شى ء ، القائم أمرها على كل شى ء ـ هذا الإله هو الذي نزل الكتاب على محمد ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ فمن هذا المقام الكريم الذي لا يطاول ولا يسامى كان متزّل هذا الكتاب الكريم ، الذي يقول فيه المشركون والمنافقون ـ زورا وبهتانا ـ إنه من معطيات محمد ، تلقاه من أصحاب العلم من أهل الكتاب ، ولقنه من مدارسة الدارسين .. كما حكى القرآن الكريم ذلك عنهم فى قوله تعالى : « إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ » (103 : النحل) وقوله سبحانه : « وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلًا » (5 : الفرقان) وقد جاء هذا القرآن بالحقّ الذي لا مرية فيه ، لأنه من ربّ العالمين ، جاء مصدقا لما سبقه من الكتب السماوية ، لأنها جميعها من مصدر واحد ، جاءت من الحق بالحق كما يقول سبحانه : « وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ » (105 : الإسراء) واللّه سبحانه الذي أنزل القرآن بالحق ، هو الذي أنزل التوراة والإنجيل من قبل هدّى للناس ، وأنزل الفرقان أي القرآن كذلك هدى للناس.
فالذين يكفرون بآيات اللّه التي أنزلها اللّه على رسله ، وأودعها كتبه ، لهم عذاب شديد ، أعده اللّه لهم يوم القيامة ، ولن يعصمهم من اللّه عاصم ـ ولن تغنى عنهم أموالهم ولا أولادهم من اللّه شيئا ، « وَ اللَّهُ عَزِيزٌ » عزّ سلطانه ، وقد اعتز هؤلاء السفهاء بسفههم ، فتطاولوا على حماه ، وكفروا بآياته ، واستخفوا بها. « ذو انتقام » يأخذ بنقمته من استخف بعزته! وفى الآيتين الكريمتين مسائل ، منها :
أولا : قوله تعالى : « نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ » فيه إشارة إلى أن القرآن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 395
الكريم نزل منجما أي مفرقا ، يدل على هذا شاهد التاريخ ، كما يدل عليه هذا اللفظ « نزّل » الذي يفيد الحركة والتفرق ، بخلاف « أنزل » الذي يدل على الثبوت والوحدة.
(1/385)

ثانيا : قوله تعالى : « مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ » لم تذكر الكتب التي بين يدى القرآن ، وإن كان المراد بها التوراة والإنجيل ، وذلك الإطلاق إنما ليشمل جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء جميعا. ما بقي منها وما لم يبق ، وما ذكر وما لم يذكر ، لأنها جميعها من مورد الحق ، يصدّق بعضها بعضا.
وإذا نظرنا إلى الكتب المنزلة ، حسب واقعها التاريخىّ نجد أن القرآن الكريم هو الذي بين يدى الكتب السماوية ، وليست هى التي بين يديه ، لأنه جاء إلى هذا الوجود تاليا لها ، لا سابقا عليها.
ولكن الكتب السماوية ليست أحداثا حادثة ، وإنما هى وقائع فى علم اللّه ، موجودة من الأزل ، شأنها شأن جميع ما فى علم اللّه ، وظهورها وانكشافها لنا يجى ء موقوتا بإرادة اللّه مقدورا بحكمته .. ففى سير الأحداث من سجل الغيب وظهورها على مسرح حياتنا ، نجد أن الكتب السماوية جميعها تقدمت القرآن الكريم ، واحدا واحدا ، والسابق منها بين يدى اللاحق ، وبهذا التقدير تقع جميعها بين يدى القرآن! وليس الأمر كذلك فى حركة التاريخ ، حيث تطوى الأحداث التي تجدّ ، فكل حدث جديد فى هذه الحركة يمشى على آثار الحدث الذي مضى ، ويخلّفه وراءه ..
وحركة الزمن ليست على تلك الصورة ، إنها حركة واحدة ، أشبه بحركة القطار .. والأحداث محمولة على جزئيات هذا الامتداد الزمنى ، كما يحمل الأشخاص والأشياء فى عربات القطار ، والمتقدم منها يظل دائما متقدما بين يدى المتأخر!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 396
و ننظر إلى القرآن الكريم فى هذا الوضع فنجده وقد أخذ مكانه من الكتب السماوية ، كمصدر إشعاع لها ، ومركز انطلاق لكلمات اللّه منها ، يرسل كل حين شعاعات من نور اللّه ، إلى عباد ، اللّه على يد رسل اللّه ، ويقدمها بين يديه ، وكأنها تمهد له الطريق ، وتهيى ء له الأفق الذي يستقبله ، حين يطلع على الناس بشعلته المقدسة ، ويملأ الوجود بنوره القدسىّ ..
(1/386)

و على ضوء هذا التصوّر يمكن أن نفهم قول اللّه تعالى :
«وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ » (48 : المائدة).
فهذه الهيمنة إنما تكون لقوة هى مصدر لتلك القوى النابعة منها ، المستندة إليها ، فيكون لها بهذا الوضع مكان الرقابة عليها ، والضبط لخط سيرها ..
ثالثا : ومن الهيمنة التي للقرآن على الكتب السماوية التي بين يديه أنه هو المصدّق لها ، الشاهد الذي ترى فى أضوائه وفى أحكامه ، وأخباره وآدابه ـ آيات صدقها ، وأنها من مورد هذا الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، إذ ليس بعد شهادة القرآن شهادة ، ولا وراء الحق الذي يقوله حق ، وإنه سيظل قائما هكذا إلى يوم القيامة ، معجزة تنحدى الناس جميعا ، أن يأتوا بمثله ، أو بعشر سور مثله ، أو بسورة من مثله ، ..
«وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » (23 : البقرة) ومن كان هذا شأنه ، وذلك إعجازه فله أن يقول ، وعلى الناس أن يسمعوا ، وله أن يحكم ، وعلى الناس أن ينزلوا على حكمه ، طوعا أو كرها ..
رابعا : قوله تعالى : « وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ » بعد قوله تعالى : « نَزَّلَ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 397
عَلَيْكَ الْكِتابَ »
. وذلك لاختلاف المقامين ، فاللّه سبحانه هو الذي أنزل الفرقان ، ونسبة هذا الخبر إلى اللّه سبحانه وتعالى هنا هي نسبة مجردة ، لا يراد بها غير إثبات الحكم الذي تضمنه الخبر ، وهو أنه تعالى هو الذي أنزل القرآن .. أما الخبر فى قوله تعالى « نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ » فليس مرادا به مجرد النسبة إلى اللّه تعالى ، بل وبيان الصورة التي نزل عليها الكتاب الكريم ، وأنه نزل على النبي مفرقا ولم ينزل جملة واحدة.
(1/387)

الآيتان : (5 ، 6) [سورة آل عمران (3) : الآيات 5 الى 6]
إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
التفسير : هنا استعراض لقدرة اللّه ، وكشف لمظاهر هذه المقدرة ، فيما أبدعت وصورت ، من آيات مبثوثة فى ملكوت السموات والأرض! فهذه القدرة محيطة بكل شى ء ، عالمة بكل شى ء ، وهو سبحانه خالق كل شى ء ، فما من شى ء إلّا وهو من فيض صنعه وتدبيره ، فكيف لا يعلم ما خلق؟
«أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ » (14 : الملك) ومن شواهد قدرة اللّه ، وسلطان علمه ، تلك العملية التي تتخلق منها الكائنات الحية ، والتي من بعض كائناتها الجنس البشرى! فهذا الإنسان ، الذي يفور كيانه عظمة وكبرياء. حتى ليكاد يطاول الإله فى عظمته وكبريائه ـ هذا الإنسان نشأ على يد القدرة ، وتنقّل فى أطوار الخلق ، من عدم إلى وجود .. وفيما بين العدم والوجود قطع مراحل طويلة ، وتقلب فى صور شتى .. من نطفة ، إلى علقة ، إلى مضغة ، إلى عظام عارية ، إلى عظام يكسوها اللحم ، إلى كائن له سمع وبصر وشم وذوق .. كل هذا وهو فى عالم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 398
مطبق عليه .. « فى ظلمات ثلاث » فى بطن أمه ، فإذا خرج من هذا العالم إلى عالم الناس .. تنقل فى أطوار .. من الطفولة ، إلى الصبا ، إلى الشباب ، إلى الاكتهال ، والشيخوخة ..
فأين أول الإنسان من آخره؟ وأين النطفة من الطفل؟ وأين الطفل من الشاب؟ « « أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً » (67 : مريم).
(1/388)

و قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ » يشير إلى ماللّه سبحانه من شأن ، فى تقدير خلقنا ، وتحديد أرزاقنا ، وأوضاعنا فى الحياة ، حيث اختلفت صور الناس ، وتباينت حظوظهم ، حسب إرادة اللّه وتقديره .. فكل إنسان منا هو عالم مستقل بدأته ، دائر فى الفلك المقدور له.
الآية : (7) [سورة آل عمران (3) : آية 7]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)
التفسير : اختلف الأئمة المفسرون فى هذه الآية ، وتضاربت آراؤهم فى مواضع كثيرة منها .. فى الآيات المتشابهة .. ما هى؟ وما مدلول التشابه هذا؟
و من هم المقصودون بقوله تعالى : « الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ؟ وهل الوقف على
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 399
لفظ الجلالة فى قوله تعالى : « وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ » ؟ أم يعطف عليه قوله سبحانه « وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ » ؟ وهل الواو هنا للعطف أم للاستئناف؟
و فى الإجابة على أي سؤال من هذه الأسئلة ، عشرات من الأجوبة التي يذهب كل منها مذهبا غير مذهب صاحبه! وندع كل هذا ، وننظر فى الآية الكريمة نظرا مباشرا ، يصافح وجهها المشرق ، ويتملّى بيانها المبين ..
ونقف قليلا عند قوله تعالى : « وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ » ونطلب المعنى اللغوي لكلمة « التأويل » .
(1/389)

و إذ ننظر فى معاجم اللغة .. لا نجد فيها ما يشفى .. إذ لا تبعد كثيرا عن معنى التفسير ، أو التخريج ، وقد يراها بعضهم هى والتفسير سواء ، فلا فرق عندهم بين التفسير والتأويل.
والقرآن الكريم ـ وهو الحجة على اللغة ، وليست اللغة حجة عليه ـ يفرق بين التأويل والتفسير ، ويجعل لكل منهما مجالا لا يعمل فيه الآخر.
يستعمل القرآن الكريم « التأويل » للأمور الخفيّة الغامضة ، التي يخفى ظاهرها ما ضمّ عليه باطنها ، من أمور محجبة وراء هذا الظاهر .. وبين الظاهر غير المراد والباطن المراد بون شاسع ، وبعد بعيد ، لا يبلغه إلا بصر ذوى البصائر ، ممن رضى اللّه عنهم ، ورفعهم إلى هذا المقام الكريم ، الذي يطلعون منه على ماوراء الحجب من علم اللّه.
ذكر القرآن الكريم أن هذا المقام الكريم ـ مقام التأويل ـ كان ليوسف عليه السّلام ، فقال تعالى : « وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » (21 يوسف). وقال تعالى :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 400
«
(1/390)

وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » (6 : يوسف) وقال سبحانه على لسان يوسف : « رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ » (101 : يوسف) وقال سبحانه على لسانه أيضا : « يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ » (100 : يوسف) وقال تعالى على لسان صاحبى السجن « نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ » (36 : يوسف) وقال سبحانه على لسان يوسف : « لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي » (37 : يوسف) وقال تعالى على لسان أصحاب فرعون : « وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ » (44 : يوسف). وقال تعالى على لسان أحد صاحبى السجن ، وهو الذي نجا : « أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ » (45 :
يوسف).
وكما كان ليوسف هذا العلم الذي فضل اللّه عليه به ، فكشف بهذا العلم ما وراء تلك الحجب من الأزمنة والأمكنة .. كان ذلك العلم أيضا للعبد الصالح صاحب موسى عليهما السلام ـ والذي يقول للّه تعالى فيه : « فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً » (65 : الكهف).
وفى صحبة موسى للعبد الصالح ، رأى موسى العجب فى أمور كان يأتيها العبد الصالح بين يديه ، فتجرى فى وضع مقلوب ، كما يبدو ذلك فى مستوى النظر الطبيعي للناس ، بينما هى ـ فى حقيقة أمرها ـ تسير فى أعدل وجه وأحسنه! كما ظهر ذلك منها ، حين كشف العبد الصالح لموسى ، عما وراء هذا الظاهر غير المستقيم ، أو بمعنى أوضح ، حين كشف له عن حجاب الزمن ، وأراه مسيرتها ، والنهاية التي تنتهى إليها ، وما تؤول إليه عاقبة أمرها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 401
(1/391)

و فى هذا يقول العبد الصالح لموسى ـ بعد أن حجز موسى عن السير ممه فى هذا الطريق ـ فى هذا يقول ، كما قال القرآن على لسانه : « هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً » (78 : الكهف) هذا ما ورد فى القرآن الكريم من لفظ « التأويل » وهو فى جميع موارده لم يستعمل إلا فى الكشف عن أمور غامضة ، متخفية وراء ستر ، تحول بين الناظر إليها وبينها .. وهى ـ كما نرى فى سورة يوسف ـ أحلام .. هى رموز إلى أشياء وأحداث ، لم يستطع قراءتها وفك رموزها إلا يوسف عليه السلام .. أو هى كما نرى فى مسيرة العبد الصالح مع موسى ، أضغاث أحلام من أحلام اليقظة .. لا يكاد المرء يصحو ، حتى ينكرها ، وينفض أطيافها المحوّمة أمام عينيه.
فالتأويل على هذا هو فك طلاسم ورموز ، يقف الناس جميعا أمامها حائرين ، ويقول فيها كل إنسان يقول ، وينظر كل ناظر إليها بنظر .. وهيهات أن يلتقى قول بقول ، أو يقع نظر على نظر! فكل ما يقال فيها هو رجم بالغيب ، إلا من علّمه اللّه تأويل الأحاديث! وقد آن لنا بعد هذا أن ننظر فى الآية الكريمة :
فقوله تعالى : « هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ » .
يبيّن الأسلوب الذي جاءت عليه آيات القرآن .. فمنه الآيات المحكمة ، وهى التي تنطق بدلالتها نطقا واضحا محددا لا يقبل التخريج أو التأويل .. وهذه الآيات هى التي تحمل أحكام الشريعة .. من صلاة وصيام ، وزكاة ، وحج ، كقوله
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 402
(1/392)

تعالى : « وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ » وقوله سبحانه : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ » وقوله : « وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا » . وكذلك الآيات التي تتعلق بالإيمان باللّه وملائكته ، وكتبه ، ورسله ، واليوم الآخر ، والجنة والنار .. لأن هذه أمور إن حملها نص غير واضح الدلالة محدد المفهوم ـ أوقع الناس فى لبس وخلاف ، وذهب كلّ فيها مذهبا ، ففرقوا دين اللّه ، وتفرقوا فيه ، وهو الذي من شأنه أن يجمعهم عليه ، وأن يجتمعوا هم على كلمة سواء فيه.
فهذا المحكم من آيات الكتاب الكريم ، يعطى دلالته ، محددة واضحة ، لأول نظرة فيه.
وهناك آيات متشابهة ، تحتمل وجوها من التأويل والتخريج .. وسنعرض لها بعد قليل.
وبين الآيات المحكمة والآيات المتشابهة آيات ليست من هذه أو تلك ، ليست محدّدة الدلالة ، ولا مغلقة المفهوم .. بل يمكن ـ مع النظر السليم ـ أن ينكشف مدلولها ، ويتحدد مفهومها ، وذلك هو معظم القرآن ، فيما جاء فى الأخلاقيات وفى الأحكام الجزئية. ذلك أن القرآن الكريم لم يجى ء على الأسلوب العلمي ، الذي يصبّ قواعد العلم ومقرراته فى قوالب لفظية جامدة ، لا تنفتح إلا على حكم واحد لا شى ء بعده ، بل جاء القرآن على أسلوب أدبى رفيع ، استولى على قمة الفن الأدبى ، بلا منازع ، وهذا الأسلوب مهما كان من الدّقة والإحكام لا يمكن أن ينضبط على القالب العلمي ، ولا أن تحمل ألفاظه أحكاما صامتة ـ مغلقة ـ مثل ما تحمل ألفاظ الأسلوب العلمي ، بل تجى ء الأحكام فى هذا الأسلوب مغلّقة فى غلائف رقيقة مشعّة ، تومى ء إلى المعنى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 403
(1/393)

و لا تكشفه ، وتتخافت به ولا تجهر! وهذا ما يجعل للقرآن الكريم حياة متجددة فى العقول وفى القلوب ، لا يمل مرتله الترتيل أبدا ، إذ يجد لما يعاود ترتيله روحا فى كل مرّة ، ووجها جديدا في كل ترتيلة ..
ونعود إلى المتشابه .. ما هو؟ وأين هو فى القرآن؟ وما الحكمة منه؟
المتشابه ـ كما قلنا ـ هو المغلق ، الذي لا ينكشف للنظر ، بل يتراءى لمعطيات الحدس والرجم بالغيب ، أشبه بالأحلام وأضغاث الأحلام التي يتأولها المتأولون ، ويقول فيها القائلون! وليس يعلم قولة الحق فيها إلا علّام الغيوب .. ذلك هو المتشابه.
أما أين هو فى القرآن .. فإنا إذا نظرنا فى كتاب اللّه ، فيما بين أوله وآخره نجد أن قوله تعالى : « وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ » يلفتنا لفتا قويا إلى هذا المتشابه ، وهو تلك الأحرف المتقطعة التي تبدأ بها بعض سور القرآن الكريم ، مثل « الم ، الر ، المر ، كهيعص ، طس ، طسم ... » فهذه الأحرف هى التي يقف أمامها دارس القرآن حائرا ، لا يدرى لها مفهوما ، إلا أن يكون ذلك بضرب من الحدس والتخمين ، ولهذا كثرت فيها تأويلات المتأولين ، إلى أن جاوزت السبعين قولا فيها ، بل ويمكن أن نزاد هذه الأقوال إلى مئات ، بل وتتسع لألوف ، دون أن يكون قول أحق فيها من قول ، أو أولى بالقبول والتسليم .. إذ كل الأقوال هى اجتهاد شخصى ، كالحدس عن شى ء داخل صندوق مغلق ، ولهذا كان أعدل قول فيها وأصدقه هو القول : « اللّه أعلم بمراده » فما يعلم تأويلها إلا اللّه! وقد عرفنا معنى التأويل ، وأنه ـ كما جاء فى القرآن ـ لا يكون إلا فى مواجهة الأمور المغلقة ، كالأحلام وأضغاث الأحلام!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 404
قوله تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ » .
(1/394)

أي إن الذين فى قلوبهم مرض ، بما عشّش فيها من نفاق ، وضلال ..
هؤلاء لا ينظرون فى كتاب اللّه ، ولا يقفون عند محكم آياته ، لأنهم لا يؤمنون به ، بل يجعلون همهم كله فى صيد ما يمكن صيده من كتاب اللّه ، من هذا المتشابه من كلماته ، التي أشرنا إليها ، والتي يمكن ألا يقال فيها أىّ شى ء ، كما يمكن أن يقال فيها كل شى ء! لأنها ـ كما قلنا ـ كتاب مغلق .. إذا سئل الإنسان عما فيه ، فإن احترم عقله ، قال : « لا علم لى » ، وإن سفه وحمق ، قال ، وأكثر القول ، وتحدث وأطال الأحاديث بما هو أكثر مما فى الكتاب امتدادا وطولا ، وربما كان الكتاب فى علم الحساب ، على حين يحسبه المتخرصون كتابا فى الفقه ، أو الحديث ، أو الأدب ، أو الموسيقى مثلا!! وهؤلاء من مرضى القلوب ، إنما وقفوا عند هذه المتشابهات ، لأنها تفتح لهم أبوابا واسعة إلى أن يقولوا فيها ما يشاءون ، وأن يحمّلوها من المعاني ما يريدون من مقولات ، تفتن وتضلّ ، دون أن يقف لهم أحد ، أو يفنّد مقولاتهم مفنّد ، فإذا واجههم أحد ، أو حاجّهم محتاج سألوه رأيه فيها ، وقوله عنها ، وقد عرفنا أنها تتسع لكل رأى ، وتتقبل كل قول ، وليس فيها إلا قول واحد ، علمه عند علام الغيوب. « وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ » ! ..
ولو كان هؤلاء الزائغون المنافقون يؤمنون بالقرآن ، وبأنه من عند اللّه ، لكان لهم أن يقولوا فى المتشابه ما يقولون ، مما يؤدى إليه نظرهم واجتهادهم ، ولكان لهم من إيمانهم ما يعصمهم من أن يزلّوا ويضلّوا ، ولكنهم ـ كما عرفنا ـ لا يمسكون من القرآن إلا بتلك الكلمات المتشابهة ، التي رصدها اللّه ابتلاء وفتنة ، تزداد بها قلوب المنافقين مرضا إلى مرض ، ورجسا إلى رجس ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 405
(1/395)

أما المؤمنون فقد عافاهم اللّه من هذا البلاء ، وعصمهم من تلك الفتنة ، لأنهم يتقبلون هذا المتشابه كما يتقبلون المحكم وغير المتشابه من كتاب اللّه ، ويقولون فيها جميعا : « كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا » .
وقوله تعالى : « وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ » .
هو بيان لموقف المؤمنين من متشابه القرآن ، إزاء موقف المنافقين منه ، وهو أنهم ـ أي المؤمنون ـ يؤمنون بالمتشابه إيمانهم بالمحكم وبغير المتشابه ، إيمان تسليم وامتثال ، لأن كتاب اللّه ـ المتشابه ، وغير المتشابه والمحكم ـ كله من عند اللّه ، فليس فى المتشابه ـ والأمر كذلك ـ ما ليس فى كتاب اللّه ، لأنه بعض كتاب اللّه ، ولا يخرج البعض الكلّ ، وإلّا كان غريبا عنه! فإذا كان لقائل أن يقول فى هذا المتشابه فليقل ما يشاء ، شريطة أمر واحد ، وهو ألا يخرج فى قول من أقواله عمّا فى كتاب اللّه من أحكام ومقررات.
ولهذا لم يكن ثمة حرج عند علماء التفسير أن يقولوا فى هذه المتشابهات ما قالوه من مختلف الآراء. لأنهم يقولون ما يقولون ، وهم مؤمنون بكتاب اللّه ، كله ، محكمه ومتشابهه.
وفى قوله تعالى : « وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ » إشارة إلى أن الراسخين فى العلم ـ وهم ما هم فى العلم والحكمة والعقل ـ إذا كان موقفهم من هذا المتشابه موقف عجز وتسليم ، فلا ينطقون إزاء هذا المتشابه ـ إذا نطقوا ـ إلّا كان قولهم : « آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا » ـ إذا كان هذا هو موقف الراسخين فى العلم ، فإن من السفاهة والحمق والجهل جميعا أن يقول غيرهم مما لا رسوخ له فى العلم ـ غير هذا القول ، وألّا يؤمن إيمان عجز وتسليم ، كما آمن الراسخون فى العلم إيمان عجز وتسليم ، بهذا المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا اللّه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 406
(1/396)

و على هذا ، فإنا نرى أن الوقوف على لفظ الجلالة فى قوله تعالى :
«وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ » هو وقوف لازم ، حتى يكون العلم بتأويل هذا المتشابه مقصورا على اللّه وحده ، أما الراسخون فى العلم فهم والجاهلون سواء فى هذا المتشابه ، لا يملكون إزاءه إلا التسليم بالعجز ، وإلا أن يقولوا :
«آمنّا به » على ما هو عليه ، لأنه هو والمحكم على سواء .. « كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا » .
وهذا موقف يجب أن يتملّاه العقلاء ، وينتفع به أولو الألباب ، وذلك بقياس الغائب على الشاهد ، والبعيد على القريب ، وإحالة المتشابه على المحكم!
الآية : (8) [سورة آل عمران (3) : آية 8]
رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
التفسير : مما يقضى به العقل ، وينزل على حكمه العقلاء ، أن تكون الأحداث والمواقف دروسا نافعة ، وعبرا مثمرة ، يجتنى من ثمرها الخير ، ويدفع بها البلاء.
وقد كان فى الموقف الذي وقفه أهل الزيغ والضلال والنفاق ، من المكر بآيات اللّه ، ما أركسهم فى الفتنة ، وأغرقهم فى الضلال ، حيث طرحوا كتاب اللّه وراء ظهورهم ، وتعلقوا بالمتشابه من آياته ، ليفتنوا الناس ويضلوهم ، بما يتأولون لهم من مقولات عمياء .. فزادهم اللّه عمى إلى عمى ، وضلالا إلى ضلال.
وإذ يرى المؤمنون هذا الموقف الذي اتخذه الزائغون ، فتقطعت بهم الأسباب ، التي كانت تصلهم بالإيمان ، والتي كان جديرا بهم ـ لو عقلوا ـ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 407
(1/397)

أن يستعصموا بها ، وأن يحكموا فتلها ، بتوجيه قلوبهم إلى اللّه ، وإخلاص نياتهم للإيمان به ـ إذ رأى المؤمنون هذا فزعوا إلى اللّه وضرعوا بين يديه ، ألّا يصير أمرهم إلى ما صار إليه أمر هؤلاء السفهاء الحمقى ، الذين غلبت عليهم شقوتهم .. فضلوا سواء السبيل .. فبين يدى اللّه يضرع المؤمنون بهذا النداء الذي ساقه اللّه إليهم ، ليكون سفينة النجاة لهم « رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ » .
الآية : (9) [سورة آل عمران (3) : آية 9]
رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)
التفسير : ومن تمام الإيمان باللّه ، وجلاء القلوب من الشرك والزيغ ، الإيمان بالبعث والجزاء ، فبهذا الإيمان تقوى صلة المؤمن بربه ، وتشتدّ مراقبته له ، وحرصه على مرضاته ، لينجو من شر هذا اليوم « يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » ويفوز بمرضاته ورضوانه .. وإنه لو لم يكن هناك بعث ، ولا حساب ، ولا جزاء ، لكان الإيمان باللّه مجرد تصور عقلى ، لا يكاد يؤثر فى سلوك الإنسان ، أو يمسك زمام هواه! وإذ يذكر المؤمن هذا اليوم ـ يوم البعث والجزاء ـ ويستحضر أهواله ، وما يلقى فيه العصاة من عذاب ـ يخشع للّه ويخضع ، ويفكر أكثر من مرة ، قبل أن يركب منكرا ، أو يواقع معصية .. ولو استحضر المؤمن هذا اليوم ، وتمثله فى خاطره ، وأشهده كل موقف تراوده فيه نفسه على منكر ، ويؤامره فيه هواه على معصية ـ لكان له من ذلك قوة تعينه على الخلاص من دوافع شهواته ، ونزوات أهوائه ، ولهذا كان مما فضل اللّه به على المؤمنين ، أن جعل
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 408
(1/398)

ذكر هذا اليوم عبادة يتعبدون بها فيما يتلون من كلماته .. « رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ » .. وبهذا تظل أنظارهم شاخصة إلى هذا اليوم ، يرجون رحمة اللّه ، ويخشون عذابه.
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ، وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً » .
الآية : (10) [سورة آل عمران (3) : آية 10]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
التفسير : وهذا عرض لبعض ما يقع فى يوم البعث ، وما يلقى فيه الذين كفروا باللّه وباليوم الآخر من نكال وبلاء ، حيث يدعّون إلى نار جهنّم دعّا.
فلا يغنى عنهم فى ردّ هذا البلاء ما كان لهم من مال وبنين ، ومن أهل وصديق ، فلقد أفردوا من كل شى ء ، وصفرت أيديهم من كل شى ء ، ومنادى الحق يناديهمَ قَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً »
(48 : الكهف) .. وفى هذا ما يفتح أنظار الغافلين عن هذا اليوم ، إلى ما فيه من أهوال ونكال ، لأهل الزيغ والضلال ، فيحذرون هذا المصير المشئوم.
الآية : (11) [سورة آل عمران (3) : آية 11]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 409
التفسير : الدأب : السعى ، والعمل ، والحال الذي يبلغه المرء بسعيه وعمله.
(1/399)

و قد ضرب اللّه سبحانه وتعالى للكافرين مثلا بآل فرعون ـ وهم جماعة الفراعين ـ الذين استكثروا من الدنيا ، وبلغوا من السلطان والقوة ما بلغوا ، حيث استطالوا بما فى أيديهم من سلطان وقوة ، وقال قائلهم للناس ما حكاه القرآن عنه : « أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى » (24 ـ 25) : النازعات.
هكذا يغرى السلطان ويغوى ، إلّا من عصم اللّه ، وقد كان فرعون مثلا بارزا للكفران بنعمة اللّه ، والاغترار بما مكّن اللّه له فى الأرض. فقال تعالى :
«وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ « 1 » الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ » (10 ـ 14 : الفجر).
وقوله تعالى : « وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ » أي الذين سبقوا هؤلاء الفراعين فى الضلال والعتوّ ، إذ ليس هؤلاء الفراعين هم أول من حادّ اللّه وكفر به ، فالكفر قديم فى الناس ، لا يسلم منه جيل من أجيالهم « إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ » (34 : إبراهيم).
وهؤلاء الكفرة جميعا ـ قريبهم وبعيدهم ، سابقهم ولاحقهم ـ لن يفلتوا من قبضة اللّه ، ولن ينجوا من عذابه .. « فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ » إذ انقطع عملهم من الدنيا ، وصاروا إلى اللّه بما اقترفوا من
__________________________________________________
(1) المراد بالأوتاد هنا تلك الأهرامات التي رفعها فراعين مصر على وجه الأرض ، فكانت جبالا كالجبال ، التي هى أوتاد الأرض : « أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَ الْجِبالَ أَوْتاداً » (6 ، 7 : النبأ)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 410
(1/400)

أوزار ، يحملونها على كواهلهم إلى يوم الجزاء ، حيث ينزل بهم العذاب الأليم بما حملوا من كفر غليظ! وفى هذه المثل ، وتلك النذر ، عبرة لهؤلاء الكفار الذين أعنتوا رسول اللّه ، واستطالوا بقوتهم على ضعاف المسلمين بمكة ، وسلطوا عليهم ألوانا من العذاب والنّكال .. فلينظروا إلى ما نزل بمن كانوا أشدّ منهم قوة وأكثر بأسا ، وأوسع سلطانا .. كيف أخذهم اللّه ، فلم يغن عنهم ما كسبوا من اللّه شيئا.
الآية : (12) [سورة آل عمران (3) : آية 12]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12)
التفسير : فى سكرة السلطان ، يفقد كثير من الناس صوابهم ، ويضل عنهم رشدهم ، فتمرّ بهم العبر وهم عنها غافلون ..
وفيما ذكر اللّه سبحانه ـ مما أخذ به الطغاة والظلمة ، ما فيه عبرة ومزدجر للطغاة والظلمة ، من كفار مكة .. ولكنهم فى سكرتهم يعمهون.
وإنه لكى تنقطع أعذارهم ولا يكون لهم على اللّه حجة ، فقد أمر اللّه نبيّه عليه السّلام ، أن يلقاهم صراحة بهذا النذير ، وأن يقرع آذانهم بما ينتظرهم من مصير مشئوم ، إن هم ظلّوا على ما هم عليه من عمى وضلال .. « سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ » فلا حظّ لهم فى الدنيا ولا فى الآخرة ..
إذ لا يعصمهم سلطانهم ، ولا تمنعهم كثرتهم وقوتهم ، من أن يلقوا الهزيمة فى هذه الدنيا على يد هؤلاء الذين استضعفوهم واستبدّوا بهم ، وهذا من أنباء
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 411
الغيب التي حملها القرآن عزاء وبشرى للمؤمنين ، إذ تلقّوا هذا الوعد الصادق الذي لا يخلف أبدا ، فهوّن عليهم البلاء الذي هم فيه ، وربط على قلوبهم بالصبر ، انتظارا ليوم النصر ، وقد جاء تأويل هذا فى تلك الخاتمة التي ختمت بها حياة الكفر والكافرين ، يوم فتح مكة ، يوم جاء نصر اللّه والفتح ، ودخل الناس فى دين اللّه أفواجا.
(1/401)

هذا ما كان ينتظر الكافرين فى الدنيا ، التي ظنوا أنهم يمسكون منها بالسبب القوىّ الذي لا ينقطع .. أما فى الآخرة فالأمر أدهى وأمرّ .. حيث تنتظرهم جهنم بسعيرها المتسعر ، وعذابها الأليم .. « وَ بِئْسَ الْمِهادُ » .
الآية : (13) [سورة آل عمران (3) : آية 13]
قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)
التفسير : إن يكن ثمّه شكّ عند أحد فيما سيلحق هؤلاء الكافرين المغترّين بكثرتهم وقوتهم على أيدى هذه القلّة المستضعفة من المؤمنين ـ فالشاهد حاضر بين أيديهم ، والآثار ماثلة لهم فى أنفسهم.
فهذا يوم بدر ـ وما زال غبار المعركة منعقدا فى سمائه ، وجثث قتلى المشركين وأشلاؤهم متناثرة على أرضه ، وما زالت فلول الجيش المنهزم تحبو حبوا نحو مكة ، مثخنة الجراح ، متقطعة الأنفاس ، موقرة بالخزي والعار ـ هذا يوم بدر يمثل لهؤلاء المشركين ما ينتظرهم فى مستقبل الأيام ، من خزى وهزيمة على أيدى المسلمين ، وإن قلّ عددهم وعدتهم ، فليس الأمر أمر عدد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 412
و عدة ، وإنما هو أمر إيمان بالحق. وثبات عليه ، واستشهاد فى سبيله ، ولقد رأى المشركون ذلك بأعينهم ، إذ جاءوا بعددهم وعدّتهم ، والمسلمون بين أيديهم قلة فى العدد والعدة « يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ » .. فانتصرت الفئة القليلة على الفئة الكثيرة : « كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ » (249 : البقرة) فليستيقن المؤمنون ، ولينتظر المشركون ، فإن ما وعد اللّه به واقع لا شك فيه.
(1/402)

هذا والظاهر ـ واللّه أعلم ـ أن هذه الآية وما قبلها كان نزولها عقب موقعة بدر ، بل ربّما والمشركون فى طريقهم بعد الهزيمة ، لم يبلغوا مكة بعد ، وفى هذا ما يضاعف من حسرتهم ، ويملأ قلوبهم يأسا ، من كل أمل يتعزّون به فى مستقبل الأيام .. فأيامهم المقبلة أشد سوادا وأكثر شؤما من يومهم هذا الذي هم فيه.
الآية : (14) [سورة آل عمران (3) : آية 14]
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
التفسير : هذا جواب عن سؤال يعرض فى كل موقف يتصارع فيه الحق والباطل ، وهذا السؤال هو : لم هذا الضلال من الناس؟ ولم هذا الباطل الذي يمسكون به ويحرصون عليه؟
و فى الآية الكريمة الجواب على هذا ..
فالناس ـ كل الناس ـ مفطورون على حبّ الاقتناء ، والاستزادة مما
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 413
يقتنون ، من الأشياء التي تغذّى عواطفهم ، وتشبع حاجاتهم الجسدية ، والنفسية ، وتنزلهم فى الحياة منزلا عاليا رفيعا ، يبسط لهم سلطانا يستجيب لكلّ ما يدّعون وما يشتهون! هذه طبيعة فى الناس ، غير منكرة ، ولا متكرّهة ، لأنها قوة عاملة فى الحياة ، بها يخفّ الناس إلى السعى والجد ، والمغامرة والمخاطرة ، ، ولولاها لما خطت الإنسانية هذه الخطوات الواسعة ، إلى العمران والمدنية! وهذا فى ذاته خير للإنسانية وكسب للناس.
ولكن الشي ء إذا زاد عن حدّه انقلب إلى ضدّه ـ كما يقولون.
(1/403)

و هذا ما يحدث لغريزة حبّ الاقتناء ، إذا جاوزت حدّها ، وخرجت عن سنن القصد والاعتدال! إنها تتحول حينئذ إلى شره قاتل ، يصير به الإنسان حيوانا ضاريا ، يشتبك فى صراع دام مع كل من يلقاه! وقوله تعالى : « زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ » عرض لصور مما تشتهيه النفس ، وتحرص عليه ، وتستكثر منه .. النساء والبنين ، والذهب والفضة ، والخيل المعلّمة ، والأنعام ، والحرث والزرع .. ولم يتحدث القرآن عن الدّور والقصور والأناث والرياش ، ولا عن ألوان الطعام ، ولا عن الخدم والأتباع ، وكلها مما تشتهيه النفوس ، وترغب فيه .. لم يذكر القرآن الكريم هذا ، ولا كثيرا غيره من مطالب النفس ـ لأنه ذكر
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 414
الأصل الذي ترجع إليه كل هذه الأشياء ، وهو المال ، من الذهب والفضة والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة ، فبهذا المال ينال كل هذا وأكثر من هذا ، فحيث كان المال كان معه الجاه والسلطان ، وكل متع الحياة ، لمن أرادها من أصحاب المال.
وقد ذكر القرآن النساء والبنين والذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ، لأنها أصول قائمة فى النفوس ، لا تتغير بتغير الأزمان واختلاف الأمم! النساء رغيبة الرّجال من جميع الشعوب .. الأغنياء والفقراء.
والبنون قرة عين الوالدين ، فى كل زمان ومكان .. أغنياء وفقراء.
والذهب والفضة .. لهما حب مستقل لذاتهما ، حيث يجد الإنسان القوة والعزة ، بامتلاكهما ، ولو لم يسخرّهما لمأرب من مآربه ..
والخيل المسوّمة ، (أي المعلّمة) نموذج للمراكب الطيبة ، التي تجمع بين البهجة والمتعة.
والأنعام والحرث ، نموذج آخر لمتعة العين وبهجتها لهذا المال المتحرك فى الإنعام ، والمزدهر الثمر فى الزروع والجنات.
(1/404)

و قوله تعالى : « ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا » إشارة إلى أن هذا الذي يرغب فيه الناس ويشتهونه فى حياتهم ، إنما هو متاع وزاد للحياة الدنيا ، يزول بزوال هذه الحياة ، ويفنى بفناء الطاعمين له ..
وقوله تعالى : « وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ » إلفات إلى حياة أخرى غير هذه الحياة ، لا يزول نعيمها ، ولا تفنى لذاذاتها. تلك هى الحياة الآخرة ، التي أعدّ اللّه فيها لعباده المتقين ، ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 415
الآية : (15) [سورة آل عمران (3) : آية 15]
قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15)
التفسير : ذلك هو حسن المآب الذي أعده اللّه لعباده المتقين .. جاءت هذه الآية الكريمة شارحة له ، بهذا الإعلان لذى أمر اللّه نبيه الكريم أن يؤذّن به فى الناس ، وأن يلفت إليه أولئك الذين غلبتهم شهواتهم ، فأذهبوا طيباتهم فى حياتهم الدنيا ، ولم يستبقوا شيئا للآخرة.
وفى قوله سبحانه : « بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ » إشارة إلى أن تلك الشهوات التي زينت للناس من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوّمة والأنعام والحرث ـ ليست شرا فى ذاتها ، وإنما فيها خير لمن أخذ منها باعتدال وقصد ـ كما قلنا ـ ولكن مع هذا فهناك ما هو خير من هذا الخير ، وهو ما أعدّه اللّه للمتقين فى الدار الآخرة من جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وأزواج مطهرة .. وفوق هذا كله رضوان اللّه ، الذي يفيض الخير كله على أهل الرضا .. جعلنا اللّه سبحانه وتعالى منهم ، بفضله وكرمه ..
(1/405)

هذا ، والملاحظ أن اللّه سبحانه عوّض المتقين فى الآخرة عن متع الدنيا وشهواتها ، جنات تجرى من تحتها الأنهار ، وأزواجا مطهرة .. ولم يكن فيما عوضهم به الذهب والفضة ، ولا الخيل المسوّمة والأنعام ، ولا البنين ..
فكيف هذا؟
و الجواب : أنه لا حاجة إلى ذهب وفضة فى الدار الآخرة ، وفى جنات النعيم ، حيث كل شى ء حاضر عتيد لأهل الجنة « لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ »
. فلا بيع ولا شراء هناك.
وكذلك المراكب من الخيل المسومة والأنعام .. إن شاء الإنسان وجدها
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 416
و لكن هناك ما يشغله عن كل هذا ، الذي هو إلى جانب نعيم الآخرة هباء وهراء! والشأن كذلك فى البنين ، إذ يقوم حبهم فى النفس ، على غريزة حب البقاء ، حيث يرى الإنسان الفاني امتداد حياته فى بنيه الذين يخلفونه فيما ترك ، ويأخذون مكانه من بعده .. أما والإنسان قد وجد الخلود وضمنه فى الحياة الآخرة فإنه لا حاجة به إلى ذرية من بعده.
ثم إن رضوان اللّه الذي أفاضه على أهل الجنة ، هو الغنى كله ، وهو السعادة كلها .. فلا مطلب بعده ، ولا سعادة وراءه.
الآيتان : (16 ، 17) [سورة آل عمران (3) : الآيات 16 الى 17]
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)
التفسير : هاتان الآيتان الكريمتان تبينان المنهج الذي يستقيم عليه الإنسان ، ليكون فى عداد أولئك المتقين الذين وعدهم اللّه بجنات تجرى من تحتها الأنهار وأزواج مطهرة ورضوان من اللّه.
فالتقوى لا يكسبها الإنسان إلا بمجاهدة ، ولا يبلغها إلا بعد أن يقطع إليها طريقا شاقا من الجهد المتصل والعمل الدائب ، فى طاعة اللّه وابتغاء مرضاته.
(1/406)

و أول هذا الطريق. الإيمان باللّه ، الذي هو ملاك التقوى ، وبغيره لا يقبل عمل ، ولا يؤذن لإنسان بالدخول مع المتقين .. « الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ » .
ثم إن الإيمان بلا عمل زرع بلا ماء .. لا يزهر ولا يثمر.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 417
و الصّبر هو عدة المؤمنين ، وزادهم العتيد فى الطريق الشاق الذي يصحبون به الإيمان ، ليصل بهم إلى التقوى ، فبالصبر يغلب الإنسان شهواته ، ويقهر أهواءه ، ويحتمل تكاليف الشريعة ، ويؤديها على الوجه الأكمل لها ..
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ » (52 : البقرة) والصّبر ملاك أمره الصّدق .. الصدق فى القول والعمل .. والصدق مع النفس ، ومع الناس ، ومع اللّه ـ فإذا لم يكن ذلك كان الصّبر بلادة ، وموانا ، وموقفا سلبيا من الحياة. ولكن إذا واجه الإنسان الحياة ومعه الصبر وجد فى كل موقف شاق طريقين : طريق الكذب والهروب ، وطريق الصدق والثبات .. وهنا تظهر فضيلة الصبر ، ويتجلى أثره .. « وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) » .
والولاء للّه ، والإنفاق فى سبيله ، وقيام الليل واستقبال الأسحار بالتوبة والاستغفار .. كل هذه مواقف يمتحن فيها إيمان المؤمنين ، وصبرهم ، واستمساكهم بالحق الذي أمر اللّه به.
فبهذه المجاهدات ـ مع الإيمان ـ يبلغ الإنسان منازل المتقين ، وينال رضوان اللّه ، وينعم بجنات النعيم.
الآية : (18) [سورة آل عمران (3) : آية 18]
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 418
(1/407)

التفسير : الذين يؤمنون باللّه ، يجدون فى كل لمحة من لمحات الوجود آيات تشهد بوحدانيته المطلقة ، وتفرده بالوجود المطلق ، فإن لم يكن لهم نظر يؤدّيهم إلى التحقق من هذه الحقيقة ، فقد حملتها إليهم ثلاث شهادات قاطعة :
أولا : شهادة اللّه ، فقد شهد الحق لنفسه : أنه لا إله إلا هو .. وهى عند المؤمنين شهادة صدق مطلق ، لا تعلق بها شائبة أو تشوبها شبهة.
ثانيا : شهادة الملائكة ، وهم خلق جبله اللّه على الحق والصدق المطلقين ..
وقد يقول جهول : كيف يشهد اللّه لنفسه وكيف السبيل إلى سماع هذه الشهادة والتحقق منها؟
أما شهادة اللّه لنفسه ، فقد نطق بها هذا الوجود الذي هو صنعة يديه ، والذي يشهد كل موجود فيه ، بقدرته ، وعلمه ، وحكمته ووحدانيته ، وإن لم تشهد بها الموجودات لسانا ، فقد شهدت بها عيانا واعتبارا ، لمن نظر واعتبر ..
أمّا من لم يكن له نظر واعتبار ، فليأخذ بشهادة أهل النظر والاعتبار .. ليأخذ بشهادة الملائكة ، وهم بعض هذا الخلق الذي خلق اللّه ، وهم الذين لا يفترون عن عبادته ، ولا ينقطعون عن ذكره .. فإن لم يجد لشهادة الملائكة أذنا تسمع ، فليستمع إلى شهادة بشر مثله ، خلقوا من طينته ، ونطقوا بلسانه ، وهم :
ثالثا : أولو العلم ، الذين نظروا فى هذا الوجود ، فعرفوا اللّه ، وعاينوا آثار قدرته ، وعلمه ، وحكمته ، ووحدانيته. وهذه شهادة لا يردّها عاقل ، مهما كان حظه من العقل .. فإن الأعمى الذي لا يسلم يده للمبصر الذي يقيمه على الطريق ، هو لا محالة ملق بنفسه إلى التهلكة .. والمقعد الذي لا يستسلم لمن يحمله ، لا يزال هكذا ملتصقا بالأرض إلى أن يهلك ، غير مأسوف عليه.
أما شهادة اللّه وشهادة الملائكة ، فقد أخذ بهما أولو العلم فكانت مع
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 419
شهادتهم نورا إلى نور ويقينا إلى يقين .. « وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً » (166 : النساء).
(1/408)

و قوله تعالى : « قائِماً بِالْقِسْطِ » صفة للإله المتفرد بألوهيته ، كما شهد بذلك اللّه سبحانه ، والملائكة ، وأولو العلم .. والمعنى شهد اللّه والملائكة وأولو العلم أنه لا إله إلا هو قائما بالقسط ، أي إلها قائما على الوجود بالعدل المطلق ، فيما خلق وفيما نوّع وفرق من مخلوقات ، وفيما قدر لكل مخلوق من صورة ، ورزق ، وأجل .. إذ ليس فى الإمكان أبدع مما كان.
وقوله : « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » قد يكون توكيدا لما شهد اللّه به والملائكة وأولو العلم ، أو يكون إقرارا بلسان الوجود كله بعد أن سمع تلك الشهادة فصدّقها ، معترفا بوحدانية اللّه ، مقرا بقيامه على ملكه بالعدل ، مذعنا لعزته ، راضيا بحكمه ، فهو « لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » .
الآية : (19) [سورة آل عمران (3) : آية 19]
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)
التفسير : بعد أن بين اللّه صفته التي ينبغى أن يؤمن عليها المؤمنون ، وهو أنه لا إله إلا هو المتفرد بالألوهية ، القائم على ملكه بالعدل ، فإلى جانب سلطانه المطلق ، عدله المطلق ، وهو العزيز الذي تقوم إلى جانب عزته ، حكمته ، فلا يخاف أحد بغيا أو عدوانا من جهة العزيز الحكيم! ـ بعد أن بيّن اللّه صفته على هذا الوجه ، بيّن دينه الذي يدين عباده به ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 420
و يتعبدهم بشريعته ، ذلكم الدين هو « الإسلام » الذي حمله رسل اللّه ، إلى عباد اللّه ، من آدم إلى محمد ، عليهم جميعا الصلاة والسلام.
(1/409)

يقول اللّه سبحانه وتعالى لنبيه الكريم : « إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً » (163 : النساء).
فالذى أوحاه اللّه إلى رسله ، هو دينه الذي ارتضاه لعباده ، وهو الإسلام.
وفى هذا يقول سبحانه وتعالى : « شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ » (13 : الشورى) وفى قوله تعالى : « وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ » إشارة إلى ما وقع بين أصحاب الكتب السماوية من خلاف ، وأنه خلاف لم يقم على عقل ، ولم يستند إلى منطق ، لأن الكتب التي يختلفون فيها تجى ء من مصدر واحد ، وتتجه نحو غاية واحدة ، فيلتقى بعضها ببعض ، ويصدّق بعضها بعضا ، فكيف يقع بينها خلاف أو يدور عليها اختلاف؟ وكيف يؤمن الإنسان ببعض الشي ء ثم يكفر ببعضه الآخر؟ إن ذلك لم يكن إلا عن بغى وعدوان بين أصحاب هذه الكتب .. فاختلاف من اختلف من أهل الكتاب ، وزيغ من زاغ منهم ، إنما هو عن علم ، وذلك هو البغي على الحق ، والعدوان على العقل! وقوله تعالى : « وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ » تهديد لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، ونذير لهم إذا اختلفوا ، وكفّر
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 421
(1/410)

بعضهم بعضا ، ثم هو تحذير لهم من أن يكون شأنهم مع الكتاب الذي نزل على محمد كشأنهم فيما كان منهم مع الكتب التي نزلت على الأنبياء من قبله ، وخاصة النبيين الكريمين ، موسى وعيسى عليهما السّلام .. إن يفعلوا « فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ » .. لهم فى الدنيا خزى ولهم فى الآخرة عذاب عظيم.
الآية : (20) [سورة آل عمران (3) : آية 20]
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)
التفسير : ذلك هو الموقف الذي يتخذه النبي من أهل الكتاب ، ألا يدخل معهم فى جدل ومحاجّة .. وإنما يلقى لجاجهم ومحاجتهم بما أمره اللّه به ، إذ يكون قوله لهم : « أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ » أي إنى أسلمت وجهى للّه حنيفا ، لا أشرك به أحدا .. هذا هو دينى ، ودين من اتبعنى من المؤمنين.
وقوله تعالى : « وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ؟ » هو ما يعقّب به النبىّ فى ردّه على المجادلين من أهل الكتاب ومن مشركى مكة ، وهم الأميون .. فبعد أن يلقى جدلهم بقوله : أسلمت وجهى للّه .. يعقبّ على ذلك بدعوتهم إلى أن يسلموا وجوههم إلى اللّه كما أسلم هو وجهه إلى اللّه ، فلا يدعون مع اللّه أحدا ، وذلك هو الدّين الخالص .. دين اللّه .. دين الإسلام.
«فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ » . أي إن لم يستجيبوا لك ويؤمنوا كما آمنت ، فسيظل أمرهم هكذا فى شقاق واختلاف ، وليس عليك من أمرهم من شى ء ، إنما عليك البلاغ « وَ اللَّهُ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 422
بَصِيرٌ بِالْعِبادِ »
(1/411)

يهدى من يشاء ويضلّ من يشاء .. « مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » (39 : الأنعام).
الآيتان : (21 ، 22) [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)
التفسير : هاتان الآيتان لتقرير أمر واقع .. ففيهما كشف عن جرائم أهل الكتاب من اليهود ، الذين كفروا بآيات اللّه ، وقتلوا أنبياءه ، وأشياع أنبيائه ، ولهذا أحصت الآيتان الكريمتان ، تلك الجرائم الغليظة التي ارتكبوها ، وهى الكفر بآيات اللّه التي حملها إليهم رسل اللّه ، وهى آيات لا يكذّب بها إلا كل معتد أثيم .. كفلق البحر بالعصا ، وتفجير الماء من الصخر بها ، على يد موسى عليه السّلام .. فكفروا بتلك الآيات وعبدوا العجل من دون اللّه ، وكذلك فعلوا مع الآيات التي أجراها اللّه سبحانه على يد عيسى ـ عليه السّلام ـ من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص .. فكفروا بتلك الآيات ، ورموا عيسى بالبهت والشعوذة ، حتى دفعهم ذلك إلى السعى فى قتله ، وتقديمه للمحاكمة والصلب ، ولكن اللّه أبطل كيدهم ، وأفسد تدبيرهم ، وهم يحسبون أنهم صلبوه : « وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ » (157 : النساء).
فهؤلاء هم الذين كفروا بآيات اللّه ، وقتلوا أنبياءه ، ومنهم زكريا عليه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 423
السلام ، وقتلوا كثيرا من صلحائهم ودعاة الخير فيهم .. وقد توعدهم اللّه سبحانه وتعالى بالعذاب الأليم ..
(1/412)

على أن واحدة من هذه الجرائم المنكرة تكفى فى تجريم صاحبها ، وفى سوقه إلى العذاب الأليم ، فالكفر وحده ، يحبط كل عمل : « وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ » (104 : البقرة).
والقتل العمد وحده ، يوجب الخلود فى النار : « وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً » (93 : النساء) فكيف بقتل أنبياء اللّه ورسله؟.
ولكن ما ذكر من هذه الجرائم هو تسجيل للواقع الذي حدث ـ كما ذكرنا من قبل ـ وهو تشنيع على أولئك اليهود الذين وقفوا من الدعوة الإسلامية موقف المحادّة والخلاف ، كما وقف أسلافهم من قبل ، مع أنبياء اللّه فيهم ، ورسله إليهم. فما أشبه الأبناء بالآباء ، والخلف بالسّلف ، فى المكر بآيات اللّه والزيغ عن الهدى ، والإعنات للأنبياء .. وقد سجل القرآن الكريم عليهم هذا الموقف الذي يصل حاضرهم بماضيهم ، على طريق الكفر والضلال ، فقال تعالى : « وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » (91 : البقرة) ..
فهل يلتقى الإيمان وقتل المؤمنين؟ بل وقتل حملة الإيمان ودعاته ، من الأنبياء والرسل؟
و فى قوله تعالى : « وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ » هو تقرير لما حدث ، وإعلان لما تكشف من تلك الحرائم الشنعاء ، التي أريقت فيها دماء الأنبياء ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 424
(1/413)

إذ قد ثبت لهؤلاء اليهود أنفسهم أن آباءهم الذين ارتكبوا هذا الإثم العظيم إنما قتلوا أنبياء حقيقيين ، لم يكونوا من الأنبياء الكذبة كما ادّعوا عليهم ، وهذا ما كان فى قتل يحيى عليه السّلام ، قتله اليهود بأيديهم ، وآمن به اليهود وبعد ذلك ، نبيا صادقا ، ورسولا كريما فى كتابهم المقدس التوراة. فشهدوا بذلك على أنفسهم وبلسان أبنائهم أنهم قتلوا هذا النبىّ الكريم ظلما وعدوانا ..
بغير حق.
فقوله تعالى : « بِغَيْرِ حَقٍّ » هو من اعتراف القتلة أنفسهم ، بما شهد به عليهم بعضهم ، وهم أبناؤهم من بعدهم.
وقوله تعالى : « فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ » هو غاية فى التيئيس من كل أمل فى نفحة من خير ، أو عافية ، من هذا البلاء المطبق عليهم .. إذ كان ما تحمله البشرى إليهم هو العذاب الأليم ، فكيف بما يساق إليهم بين يدى النّذر والفواجع؟ ذلك شى ء لا يمكن تصوره من الأهوال والشدائد ، التي أخفها وأهونها ، هو العذاب الأليم!!
الآية : (23) [سورة آل عمران (3) : آية 23]
أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)
التفسير : الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، هم اليهود ، وعلماء اليهود خاصة ، والنصيب من الكتاب هو جزء وبعض منه ، وذلك أن الكتاب الذي فى أيديهم ، وهو التوراة ، ليس هو كل كتاب اللّه ، إذ حرّفوا فيه ، وبدّلوا وحذفوا ، وأضافوا ، فما بقي من كتاب اللّه فى أيديهم هو بعض من كلّ ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 425
(1/414)

و فى قوله تعالى : « يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ » تنويه بشأن القران الكريم ، وأنه كتاب اللّه ، الذي يستحق أن يضاف إلى اسمه الكريم ، حيث ظل ـ وسيظل أبدا ـ محتفظا بالصورة التي نزل عليها دون أن يمسه تبديل أو تحريف .. مصداقا لقوله تعالى : « إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ » .
وهؤلاء الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ، وحظا من العلم ، حين يدعون إلى القرآن الكريم ليقضى بينهم فيما اختلفوا فيه ، وليريهم الوجه الصحيح من الكتاب الذي بين أيديهم ، ـ يأبون أن يسمعوا ، « ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ » (127 : التوبة).
وفى قوله تعالى : « يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ » تصوير لحالهم التي استقبلوا بها دعوة داعيهم إلى كتاب اللّه ، وأنهم على خلاف مبيّت على الإعراض عن القرآن ، والاستماع إليه ، والنزول على حكمه ، فإذا سمعوا هذه الدعوة الكريمة الموجهة إليهم أعطوها ظهورهم ، منصرفين عنها ، حاملين معهم عقدة الإعراض والخلاف التي انعقدت عليها قلوبهم.
الآية : (24) [سورة آل عمران (3) : آية 24]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)
التفسير : هذا التمادي فى الضلال ، والإعراض عن آيات اللّه ، وعدم التوقف للتثبت من الحق ، هو مما دخل على القوم من غرور ، بسبب ما بدلوا وغيروا فى دين اللّه ، حتى أخذوا عن هذا الدين المحرّف أنهم شعب مختار ، لهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 426
(1/415)

عند اللّه فضل ومنزلة ، وأن من يدخل النار من عصاتهم لن تمسّه النار إلا أياما معدودة ، على حين يخلد غيره فى النار ممن ليس منهم! وبهذا اجترءوا على اللّه ، واستباحوا حرماته ، لأنهم كما صوّر لهم دينهم الذي لعبوا فيه بأهوائهم ـ لا ينالهم اللّه بعذابه! وأن العصاة الغارقين منهم فى العصيان لن يمسّهم عذاب اللّه إلا مسّا رفيقا ..
وكذبوا وافتروا .. وقد فضحهم اللّه تعالى فى قوله : « وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » (80 ـ 81 : البقرة) وفى قوله تعالى فى هذه الآية : « أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ » وفى آية البقرة « أَيَّاماً مَعْدُودَةً » هو حكاية لأقوالهم التي تختلف فى أسلوبها ، وإن لم تختلف فى مضمونها ، فكل واحد منهم له أسلوبه فى التعبير عن هذا المعنى الذي تتوارد عليه ضلالاتهم .. ففريق يقول « أَيَّاماً مَعْدُودَةً » ، وفريق آخر يقول « أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ » وذلك بلسانهم العبرىّ ، وتلك ترجمته الصادقة الأمينة.
الآية : (25) [سورة آل عمران (3) : آية 25]
فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)
التفسير : تنتقل هذه الآية بهؤلاء المفتونين فى دين اللّه ، والمتألّين على اللّه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 427
ألا تمسّهم النار إلا أياما معدودات ـ تنتقل بهم فى لمحة خاطفة إلى الدار الآخرة ، حيث الحساب والجزاء ، وحيث توفّى كل نفس ما كسبت من خير أو شر ..
(1/416)

و فى هذا المشهد يرون سوء المصير الذي ينتظرهم ، وأنهم قد مكروا بآيات اللّه ، وخانوا أنفسهم ، ووجدوا أعمالهم السيئة بين أيديهم ، توزن بميزان العدل المطلق ، حيث لا محاباة لأحد .. عندئذ يبدو لهم من اللّه ما لم يكونوا يحتسبون ، وعندئذ يمضغون الندم ، ويبتلعون الحسرة ، ثم يساقون إلى عذاب جهنم ، وبئس المصير!.
الآيتان : (26 ـ 27) [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27]
قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)
التفسير : الحسد هو الذي يفسد على كثير من الناس أمورهم ، فلا يرونها على وجهها الصحيح ، وإنما تبدو لهم على الوجه الذي تصوره أوهامهم وأهواؤهم.
وقد استشرى هذا الداء فى بنى إسرائيل ، فحسدوا أنبياءهم ، الذين اصطفاهم اللّه للسفارة بينه وبين عباده ، ورموهم بالكذب والبهتان ، وبلغ بهم الأمر فى كثير من الأحيان إلى قتلهم ، شفاء لما فى صدورهم من نار الحسد لهم.
وموقفهم من رسول اللّه ، وخلافهم عليه ، وبهتهم له ، لم يكن إلا عن حسد ، أعمى قلوبهم عن الحق الذي كانوا على علم به وانتظار له.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 428
و نسى هؤلاء القوم أن نعم اللّه ونقمه إنما هى بيد مالك الملك ، الحكم العدل ، وأن الحسد لنعمة يلبسها اللّه عبدا من عباده ، أو الشماتة فى نقمه ينزلها على عبد من عباده كذلك ـ هو اعتراض على اللّه ، ومشاركة له فى تدبيره وتقديره.
(1/417)

أما طريق المؤمنين فهو قائم على التسليم لحكم اللّه ، والرضا بقضاء اللّه « قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » وفى قوله تعالى « بِيَدِكَ الْخَيْرُ » إشارة إلى أن كل ما يأتى من عند اللّه هو خير ، وإن بدا لنا فى صورة الشر الخالص ..
«وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » (216 : البقرة) وفى قوله تعالى : « تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ » استعراض لقدرة اللّه ، وعجائب تصريفه فى ملكه ، إذ يؤلّف بين المتناقضات .. يولج الليل فى النهار ، ويولج النّهار فى الليل ، ويستخرج من الشي ء نقيضه ، فيخرج الحىّ من الميت ويخرج الميت من الحىّ .. وذلك من تمام القدرة ، التي لا تكون إلا للّه رب العالمين.
وفى الآية إشارة إلى ما فى الآية التي قبلها من قوله تعالى « بِيَدِكَ الْخَيْرُ » وأنه سبحانه قادر على أن يجعل من الخير شرا ، ومن الشر خيرا ..
«فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً » .
(19 : النساء)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 429
فالذى يخرج الحىّ من الميت ، ويخرج الميت من الحىّ ، قادر على أن يجعل من الخير شرا ، ومن الشر خيرا.
الآية : (28) [سورة آل عمران (3) : آية 28]
(1/418)

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
التفسير : الصلة التي ينبغى أن تقوم بين المؤمنين ، هى صلة أخوة ومودة ، دون نظر إلى لون أو جنس أو وطن .. فقد جمعهم الإسلام فى نسب يعلو على نسب الدّم والجنس والوطن ..
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » (10 : الحجرات) وإنه لمن قلب الأوضاع أن ينعزل المؤمن بشعوره هذا من المودة والأخوة عن إخوانه المؤمنين ، وينحاز إلى الكفار ، يعطيهم ولاءه ومودته وأخوته.
والإسلام الذي يدعو إلى الحبّ والسلام .. إذ يدعو أتباعه إلى التراحم والتواد والتآخى فيما بينهم ، لا يجعل ذلك على حساب الصلات الأخوية التي ينبغى أن تكون بين المسلم وبين سائر الناس .. وفى هذا يقول اللّه تعالى فى وصايته للمسلمين ، فى تحديد صلتهم بغير المسلمين :
«لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 430
دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ »
(8 ، 9 : الممتحنة) فما بين المسلم وغير المسلم هى صلات إنسانية ، فيها المودة والألفة والإحسان ، إلّا أن يقع بين المسلم وغير المسلم قتال فى سبيل الدين ، ومن أجل الدين .. عندئذ ينبغى ألا يعطى المسلم ولاءه لمن قاتله فى دينه ، فذلك خيانة لدينه ، فوق أنه خيانة لنفسه ولجماعة المسلمين معه.
(1/419)

و فى قوله تعالى : « لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ » نهى عن أن يكون ولاء المؤمن كلّه للكافرين فى الوقت الذي لا ولاء بينه وبين إخوانه المؤمنين ، فذلك يقطع صلته بأهل الإيمان والتقوى ، على حين يدعم صلته بأهل الإلحاد والكفر ، وليس يأمن مع هذا أن تنضح عليه آثار الإلحاد والكفر ، وأنه كلما مضى الزمن به كلما ازداد من الإيمان بعدا ، وازداد من الكفر قربا.
وقوله تعالى : « وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ » أي بعد عن اللّه ، وقطع صلته به ، إذ بعد عن المؤمنين وقطع صلته بهم ، وقرب من الكفر ووثق صلته بالكافرين.
وقوله تعالى : « إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً » استثناء وارد على النهى عن مولاة الكافرين ، وهو أنه لا بأس ـ فى ظروف خاصة قد يضطر فيها الإنسان إلى أن يوالى غير المؤمنين ـ لا بأس أن يفعل الإنسان ذلك ، ولكن شريطة أن يكون ذلك لدفع مكروه محقق ، عنه أو عن جماعة المسلمين ، على أن يكون ذلك موقوتا بوقته ، محكوما بظروفه ، ينتهى متى مضى الوقت ، وتغيرت الظروف ، فيعود إلى ولائه الكامل للمؤمنين.
فإذا قامت بينه وبين غير المؤمنين صلة ، فلتكن بحساب وحذر!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 431
الآيتان : (29 ـ 30) [سورة آل عمران (3) : الآيات 29 الى 30]
قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)
(1/420)

التفسير : بعد أن ذكر القرآن الكريم التحذير من موالاة الكافرين ، وأباح ذلك فى أحوال وظروف خاصة ـ أشار هنا إلى أن المعتبر فى هذا الموقف هو ما انعقد عليه قلب المؤمن من إيمان ، وهو فى تلك التجربة التي اضطرته الظروف فيها إلى مولاة الكافرين .. فقد أباح الإسلام « التقيّة » وهى أن يتقى المسلم أذى المشركين بكلمة أو فعل ، ليدفع عنه أذاهم ، دون أن يدخل من ذلك شى ء على قلبه وما انعقد عليه من إيمان ، وفى هذا يقول اللّه تعالى :
«مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » (106 : النحل) وقوله تعالى : « يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً .. »
الظرف هنا « يوم » منصوب بفعل محذوف تقديره : اذكروا ، واحذروا ..
فذكر هذا اليوم ، وما يلقى فيه الناس جزاء أعمالهم من خير أو شر ـ يخفف عن الإنسان كثيرا من ضواعط الحياة ومغرياتها ، التي تحمله على التضحية بشى ء من دينه فى مقابل كسب مادى عاجل ، أو قضاء شهوة عارضة زائلة ..
وفى قوله تعالى : « وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ » تنبيه لأولئك الذين يتألّون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 432
على اللّه ، ويمنّون أنفسهم الأمانىّ بالطمع فى رحمته وغفرانه ، وهم قائمون على عصيانه ، ومحاربته ، واستباحة حرماته ، والاستخفاف بأوامره .. فهذا من الضلال الذي يفسد على المرء دينه ودنياه جميعا .. إذ لا يتفق عصيان اللّه ، والتمرد على شريعته ، مع موالاته والطمع فى رضاه ..
(1/421)

و نعم .. إن رحمة اللّه واسعة ، ومغفرته شاملة ، ولكن لأهل طاعته ، والمتجهين إليه .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ » (156 : الأعراف) وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ » بعد قوله سبحانه « وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ » استصحاب لرحمة اللّه ولطفه بعباده الواقعين تحت بأسه وعذابه ، وذلك مما يطمع المذنبين فى عفو اللّه ومغفرته ، فيرجعون إليه ويمدون أيديهم بالتوبة له ، فيجدونه ربّا رحيما غفورا ، أما الطمع فى رحمة اللّه دون استصحاب العمل على مرضاته ، بالنزوع عن مقاربة المنكرات ـ فذلك مكر باللّه « وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » (54 : آل عمران)
الآيتان : (31 ـ 32) [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32]
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)
التفسير : ومما هو مكر باللّه ما يدّعيه المدّعون على اللّه من اليهود أنّهم أبناء اللّه وأحبّاؤه ، وهم فى الوقت نفسه يعادون أولياء اللّه ، ويشاقّون رسله ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 433
و يقتلون أنبياءه .. فكيف تصح لهم هذه الدعوى ، وآخرها ينقض أولها؟
فإن المحبّ الحقيقي يحبّ كل من أحبّ من يحبّ ، وإلّا فحبّه لمن أحبّ نزوة طارئة ، أو دعوى باطلة.
(1/422)

و العداوة التي يضمرها اليهود للنبىّ ، والتي تستعلن فى كيدهم له ومكرهم به ، لا تستقيم مع دعواهم بأنهم أحباء اللّه ، فإن كانوا أحباء اللّه حقّا فليتّبعوا رسوله ، وليستجيبوا لما يدعوهم إليه من كلمات ربّه .. إنهم لو فعلوا ذلك لصدقت دعواهم ، ولأحبّهم اللّه حقّا ، ولغفر لهم ذنوبهم ، وما قطعوا من عمر طويل مع الشقاق والنفاق « وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ » .. فإن أبوا إلا شقاقا ونفاقا ، فهم على دعوى باطلة .. إنهم ليسوا أحبابا للّه ، بل هم أعداء محاربون له ، كافرون بآياته وبرسله « فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ » وإنما حبّه للمؤمنين ، فمن لبس الإيمان ظاهرا وباطنا ، فهو من أولياء اللّه وأحبائه ، ومن استبطن الكفر والنّفاق فهو عدوّ للّه ، لا يكون محبّا ولا محبوبا.
الآيتان : (33 ، 34) [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 34]
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
التفسير : من تصريف اللّه فى ملكه أنه يؤتى الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعزّ من يشاء ، ويذل من يشاء! وقد اقتضت حكمته ـ سبحانه ـ أن يصطفى من يشاء من عباده لتلقى هباته
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 434
و عطاياه .. وإن من عباده الذين اصطفاهم لأفضاله ومنحه .. آدم ، ونوحا. وآل إبراهيم ، وآل عمران ..
فآدم ، هو أبو البشر .. وقد اصطفاه اللّه فجعله خليفته فى الأرض.
ونوح ، هو الأب الثاني للبشرية ، بعد أن هلك البشر بالطوفان.
وإبراهيم ، هو أبو الأنبياء .. وآله هم هؤلاء الأنبياء من ذريته.
وعمران ، هو الفرع الزاكي من شجرة إبراهيم ، ومن ذريته موسى وهرون وزكريا ويحيى وعيسى.
(1/423)

و فى قوله تعالى : « وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ » إشارة إلى امتداد الاصطفاء من الأصول إلى الفروع .. ولهذا قال تعالى : « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً » لا آل آدم ، ولا آل نوح .. لأن ذلك يشمل الإنسانية كلّها ، من حيث كان آدم ونوح أبوى البشرية كلها ، فلا يكون ـ والأمر كذلك ـ مكان للاصطفاء من بين الذرية المصطفاة كلها ..
وفى قوله تعالى : « ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ » أي أن هؤلاء المصطفين من آل إبراهيم وآل عمران ، هم وآباؤهم من معدن واحد ، خلص من شوائب الفساد والكدر ، فجاء الفرع مشابها للأصل ، طيبا وكرما ، وكمالا وحسنا ..
الآيتان : (35 ، 36) [سورة آل عمران (3) : الآيات 35 الى 36]
إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 435
التفسير : لقد سمع اللّه مريم إذ تناجى نفسها ، وعلم ـ سبحانه ـ ما أخفاه عنها من ألطافه ونعمه إذ ناجته بنذرها الذي نذرته ، وهو هذا الجنين الذي حملت به.
«إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً » .
(1/424)

فإنها ما كادت تتحقق من أن جنينا يتحرك فى أحشائها ، حتى أقبلت على اللّه بكيانها كله ، وإيمانها كلّه ، جاعلة هذا الذي وهبها اللّه إياه خادما للّه ، محرّرا من كل رباط يربطه بالحياة ، ليكون كلّه فى خدمة بيت اللّه : « إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً » وضرعت إلى اللّه تعالى أن يقبل هذا النذر ، وأن يرضاه لها ، تحية شكر له ، على ما أنعم عليها من ولد بعد يأس كاد يدخل عليها ، ويخرجها من الدنيا عقيما بين النساء : « فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ » وجاءها المخاض ، وولد المولود الذي كانت تنتظره ، فإذا هو أنثى!! ونظرت فى وجه مولودتها فحزنت أن جاءت على غير ما كانت تنتظر. إنها كانت ترجو أن يكون وليدها ذكرا ، فهو الذي ترى فيه الوفاء بنذرها ، حيث هو الذي يصلح للخدمة فى بيت اللّه ، أما الأنثى فمكانها هناك قلق حرج ، بين المنذورين الذين يخدمون فى بيت اللّه ، وكلهم من الذكور.
ومع هذا ، فقد نذرت ما فى بطنها محررا لخدمة اللّه ، وقد جاء ما فى بطنها أنثى ، فهى ـ والأمر كذلك ـ لا تملك غير هذه التي أعطاها اللّه ، فلتقدمها للّه وفاء بما نذرت : « فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى » !! وفى قوله تعالى : « فَلَمَّا وَضَعَتْها » إشارة إلى ما تقرر فى علم اللّه من أنها لا تضع إلا أنثى ، فالضمير المؤنث فى « وضعتها » يشير إلى معهود معلوم من قبل الوضع. وذلك ما كان فى علم اللّه وتقديره!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 436
و فى قوله تعالى على لسان امرأة عمران : « قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى » ما يكشف عن استحيائها وخجلها من أن تقدم للّه أنثى تخدم فى بيته ، وكأن اللّه ـ سبحانه ـ لم يجعلها أهلا لأن تجى ء بالذكر الذي هو أهل لتلك الخدمة.
(1/425)

و قول اللّه تعالى : « وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ » ردّ على هذا الشعور الحزين الآسف الذي كان يعتمل فى نفسها ، وعزاء لها من أن تتحسر أو تحزن أو تعتذر للّه ، فاللّه سبحانه « أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ » وهو الذي قدّر هذا ، وأراد الوليدة لأمر عظيم ، ستكشف عنه الأيام ، بعد قليل .. وهذا ما أشار إليه سبحانه بقوله :
«وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى » أي أن الذكر الذي كانت تتمناه امرأة عمران وترجوه ، لا يتحقق به هذا الأمر العظيم ، الذي جعل اللّه إظهاره على يد هذه الأنثى ، التي ستلد مولود البشريّة البكر : « عيسى عليه السّلام » ! فهل لو ولدت امرأة عمران ذكرا أ كان لهذا الذكر أن يلد « عيسى » على الأسلوب الذي ولد به؟
و لهذا جاء أسلوب التشبيه على وجه عجيب : « وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى » وهذا ما جعل المفسرين يتأولون مختلف التأويلات له ، مع أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من نظرة ، حتى تنحلّ عقدة هذا التشبيه ، فإذا هو فى أعلى درجات البيان والوضوح .. إنه ليس قائما على مطلق المفاضلة بين الذكر والأنثى ، ولكنه قائم على مفاضلة بين الذكر الذي كانت ترجوه امرأة عمران والأنثى التي وضعتها ..
فإذا كان ذلك كذلك فهل لأحد قول فى أن هذا الذكر ليس كهذه الأنثى؟
محال! ليس الذكر كالأنثى لتحقيق هذا الأمر العظيم الذي أراده اللّه ، واختص هذه الأنثى به. وهى أن تلد مولودا من غير أب ، هو المسيح.
«و عمران » هذا الذي تحدّث الآية بأنه أبو هذه الأنثى وزوج أمّها « امْرَأَتُ عِمْرانَ » ليس المراد به ـ واللّه أعلم ـ أنه زوجها ، وإنما هو رجل من آل « عمران » الذين اصطفاهم اللّه فيما اصطفى من عباده ، كما قال تعالى فى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 437
الآية السابقة « إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ » .
(1/426)

و قد وصفت أم مريم هنا بأنها امرأة عمران ، إشارة إلى اتصال نسبها بهذا النسب الكريم المصطفى ، وكذلك اتصال نسلها بهذا النسب الكريم المصطفى أيضا .. فهى امرأة عمران أي من نسل « عمران » وابنتها ابنة عمران أي أن ذريتها من نسل عمران كذلك ، فهى مصطفاة من مصطفين أخيار ، من جهة الأم والأب جميعا!
الآية : (37) [سورة آل عمران (3) : آية 37]
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)
التفسير : قوله تعالى : « وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا » أي أن اللّه سبحانه وتعالى جعل كفالة مريم ورعايتها وتنشئتها إلى يد كريمة طاهرة ، هى يد النبىّ الكريم ، زكريا عليه السّلام.
وقوله تعالى : « كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً » أي رزقا متجددا ، ما يراه اليوم غير ما رآه أمس ، وغير ما سيراه غدا ..
وهذا ما جعله يرى نفسه أمام ظاهرة غريبة ، تطالع عينه فيها نفحات اللّه وأفضاله فيجد بين يديها كل طيب كريم ، من الطعام ، لم يقدمه لها أحد .. ويسألها زكريا. فتجيب : « هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .. إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ » وليس من جواب غير هذا الجواب ، يحبس تساؤل المتسائلين ، ويذهب بما
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 438
ملأ صدورهم عجبا ودهشا ، من هذه الآيات التي تتنزل بين يدى مريم ، رزقا من السماء بلا انقطاع .. إنه من عند اللّه! وما كان من عند اللّه فلا مثار منه لعجب أو دهش!!
الآيتان : (38 ، 39) [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 39]
(1/427)

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
التفسير : « هنالك » أي هذا المقام الكريم ، الذي شهد فيه زكريا ما شهد من آيات ربّه المتنزلة على مريم بالنفحات والرحمات .. وفى هذا الموقف الذي اشتعل فيه كيان زكريا كلّه بأشواق التطلعات إلى السماء ، وأحاسيس التداني والقرب .. هنالك استشعر زكريا قربه من ربّه ، ودنوه من رحمته ، فضرع بين يديه داعيا يطلب الولد ، الذي حرمه حتى بلغ من الكبر عتيا ، وكانت امرأته ـ مع ذلك ـ عاقرا.
كان زكريا فيما شهد من أفضال اللّه على « مريم » أمام معجزات خارقات لمألوف الحياة ، وما يخضع له الناس من سننها ، فاهتبلها فرصة يأخذ فيها بنصيبه من هواطل غيوث رحمة اللّه ، فطلب هذا المطلب الجاري على غير المألوف! وقد استجاب اللّه لزكريا ما طلب ، فوهب له « يحيى » مصدقا بكلمة من اللّه ، وسيّدا ، وحصورا ، ونبيا ، من الصالحين.
ومن هذا نعلم أنه يقدر ما يكون فى كيان الإنسان من إيمان باللّه ، وثقة به ، وطمع فى رحمته ، بقدر ما يكون حظه من القبول والاستجابة لما يدعو به ربه ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 439
و من هنا كان للحال الذي يشتمل على الإنسان الأثر الأول فى قبوله واستجابة دعائه.
وإن الذي يدعو وهو منقطع الصلة باللّه ، أو هو خامد الشعور بقدرة اللّه ، أو متشكك فى سماع اللّه لما يدعو به ، وإجابته له ـ إن مثل هذا قلّ أن يستجاب له.
(1/428)

أما من يدعو وهو على يقين من أن اللّه قريب منه ، مطلع على سرّه ونجواه ، وأن بيده الخير كله ، وأنه على كل شى ء قدير ـ إن من يدعو وهو على تلك الحال ، فهو فى معرض القبول والإجابة لا محالة .. ولهذا يقول الرسول الكريم : « ادعوا اللّه وأنتم موقنون بالإجابة » قوله تعالى : « مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ » كلمة اللّه هنا هى المسيح عيسى ابن مريم ، وبهذه الكلمة بشّر اللّه مريم ، فقال تعالى : « يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » وذلك فى الآيات التالية بعد هذه الآية .. وقد كان يحيى ـ عليه السّلام ـ هو الذي عمّد عيسى ، وهو الذي بشّر به ، وصدّق برسالته ، كما تحدث بذلك الأناجيل.
قوله تعالى : « وَ سَيِّداً » أي سيّدا على نفسه ، متحكما فى شهواته غالبا لها ..
وقوله تعالى « وَ حَصُوراً » أي مجانبا الشهوات ، حتى لكأنه عاجز عن إتيانها لضعف أو مرض ، وما به ضعف أو مرض ، ولكن قوة روحه قهرت نداء شهواته ، ودعوة جسده.
وفى قوله تعالى : « وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ » ما يسأل عنه ، وهو : هل فى الأنبياء صالح وغير صالح ، أم أن الأنبياء جميعا من الصالحين؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 440
لا شك أن الأنبياء جميعا من الصالحين ، لأنهم صفوة خلق اللّه ، وقد اختارهم اللّه ، واصطفاهم للسفارة بينه وبين عباده ، وليس يختار لهذه المهمة الكريمة إلا أكرم الخلق ، وأفضل الناس فى كل أمة يبعث فيها رسول ..
فكلمة « نبىّ » تحمل معها كل معانى الحياة للصلاح والتقوى! فما الحكمة فى أن وصف النبىّ بالصلاح هنا؟
و نقول ـ واللّه أعلم ـ إن وصف النبوة الذي وصف به يحيى فيما وصف به من صفات ، هو وصف شرفىّ ، لشرف الوظيفة التي هى النبوة ، وهى مع هذا لا نستغنى عن الأوصاف الشخصية التي تكون للنبىّ ، قبل النبوة ، ومع النبوة ..
(1/429)

و الصّلاح على إطلاقه هو أكمل صفة وأتمها يمكن أن يظفر بها إنسان حتى الأنبياء .. فهى الكمال الإنسانىّ فى أعلى مراتبه وأشرف منازله ، ولهذا كان من دعوات الأنبياء عليهم السلام أن يكونوا من عباد اللّه الصالحين كما قال اللّه تعالى على لسان سليمان : « وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ » . (19 : النمل) وقال تعالى على لسان إبراهيم ، وهو يطلب الولد الصالح : « رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ » (100 : الصافات) وقال سبحانه فى وصف عيسى عليه السّلام : « وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ مِنَ الصَّالِحِينَ » (46 : آل عمران) ومعنى هذا أن الصلاح صفة ملازمة له ، قبل النبوة ومع النبوّة ، فلو لم يكن نبيّا من الأنبياء لكان صالحا من عباد اللّه الصالحين.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 441
الآيتان : (40 ، 41) [سورة آل عمران (3) : الآيات 40 الى 41]
قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41)
التفسير : أمام الخوارق المذهلة التي تخرج عن مألوف الحياة ، وتجى ء على غير حساب الناس وتقديرهم ـ يقف العقل مشدوها مضطربا ، إذ يفقد توازنه ، ويفلت من بين يديه كل حساب وتقدير ، ويضل عنه ما كان له من علم ومعرفة ..
(1/430)

لقد رأى موسى عليه السّلام ـ العصا يلقى بها من بين يديه فتتحوّل إلى حيّة تسعى ، فتأخذه الرهبة ، ويستولى عليه الفزع ، وينطلق مسرعا .. ولا يمسكه أنه بين يدى اللّه ، يناجيه ويسمعه كلماته! وهذا زكريا ـ عليه السّلام ـ يسمع الحق ـ جلّ وعلا ـ يستجيب دعاءه ، ويبشره بالولد الذي طلب ، فتعتريه حال كتلك الحال التي اعترت موسى حين انقلبت العصا إلى حية تسعى! فلا يملك أن يسأل ربّه : أنّى يكون لى غلام وقد بلغني الكبر وامرأتى عاقر؟ إنها صدمة المفاجاة بهذا الأمر الخارق العجيب ، ولو جاء هذا الأمر متلبسا بمقدمات تومى ء إليه ، وتكون إرهاصا به ـ لما كان من هذا النبي الكريم هذا الموقف المثير لعجبه ودهشته ، لأنه على يقين من قدرة اللّه التي لا حدود لها ، والتي لا يسأل أمام عجائبها ومبدعاتها .. بكيف؟ ولكنها ـ كما قلنا ـ صدمة المفاجأة ، ودهشة المستقبل
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 442
لأمر غير متوقع! وقد أجاب اللّه زكريا بما لا يخفى عليه ، ولا يعتقد فى اللّه غيره « قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » .. ويجوز أن يوقف على قوله تعالى « كذلك » فيكون اسم الإشارة والمحذوف الذي يكمله هو مقول القول ، والتقدير : كذلك قضى ربك ، أو نحو هذا ، ويكون قوله تعالى « اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » جملة تفسيرية لمقول القول .. وهذا هو الوجه الأظهر للآية الكريمة.
ويجوز أن يكون الوقف عند لفظ الجلالة : « قالَ كَذلِكَ اللَّهُ » ويكون المعنى كذلك هو اللّه سبحانه فى قدرته وحكمته ، ثم يجى ء بعدها قوله تعالى :
«يَفْعَلُ ما يَشاءُ » جملة مستأنفة ، شارحة موضحة.
وقوله تعالى : « قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً » ليس عن شكّ فى تصديق زكريا بما أخبره به ربّه ، وإنما هو استعجال لهذا الخير المنتظر ، وائتناس بالبشريات التي تحدّث به ، وتنتصب شاهدة عليه ..
(1/431)

فالآية التي تعرض لزكريا فى هذا الوقت الذي لا زال فيه الولد فى عالم الغيب ، لم تظهر له فى عالم الوجود إشارة أو علامة تنبى ء عنه ـ الآية التي يراها زكريا فى هذا الوقت ، هى فى الواقع شى ء مجسّد يجده زكريا ، ويجد ريح الولد فيه! وفى هذا ما فيه من تمام الفرحة وكمال المسرة! وكما استجاب اللّه لزكريا فيما طلب من ولد ، استجاب له كذلك فيما طلب من آية على هذا الولد ..
«قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً » هذه هى الآية التي تملأ قلب زكريا طمأنينة وأنسا بالولد المنتظر .. ألّا يكلّم النّاس ثلاثة أيام ، بمعنى أن يجد لسانه عاجزا عن الكلام ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 443
محبوسا عن النطق ، فلا يكون بينه وبين الناس تفاهم إلا بالإشارة بيده ، أو الإماءة برأسه ، أو ببعض الحركات بعضو أو بأكثر من عضو من جسده ..
وفى هذا صوم إجبارى عن الكلام ، وهو ضرب من ضروب العبادة العالية ، وقد أمر اللّه تعالى به مريم فى قوله سبحانه : « فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا » .
ويصحّ أن يكون قوله تعالى لزكريا : « قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً » يصح أن يكون هذا أمرا لزكريا بالصّوم عن الكلام ثلاثة أيام بلياليها ، كما قال تعالى لزكريا فى آية أخرى : « قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا » (10 : مريم) وعلى هذا المعنى يكون صوم زكريا عن الكلام صوما إراديّا ، استجابة لأمر اللّه.
والسؤال هنا : لم كانت الآية على هذا الوجه ، وهو أن يصمت زكريا عن الكلام ـ إجباريا أو اختياريّا ـ ثلاثة أيام؟
(1/432)

يجيب أكثر المفسرين على هذا بأن ذلك كان عقابا لزكريا فى موقفه هذا القلق ، الذي وقفه من الخبر الذي جاءه عن ربّه .. فقال أولا : « أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا؟ » ثم قال ثانيا : « رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً » ! والذي نراه ـ واللّه أعلم ـ ن هذا الصمت الذي فرضه اللّه تعالى على زكريا مدة ثلاثة أيام ، هو الدواء الذي تسكن به النفس المضطربة المهتاجة بهذا الخبر العجيب .. وهو طب بليغ ، لا يغنى غيره غناءه فى مثل تلك الحال ..
ذلك أنه ليس أحسن من الصمت علاجا لجمع النفس المشتتة ، وتسكين القلب المهتاج!.
ولو كان ذلك الصمت عقوبة لكان تكديرا لتلك النعمة التي كانت فى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 444
ذاتها آية من آيات اللّه .. وتعالت آيات اللّه أن تشاب بسوء ، وجلّت نعمه أن تختلط بكدر! فالصوم عن الكلام هنا هو من تمام تلك النعمة ، التي تستأهل عظيم الحمد ، وجزيل الثناء ، ولهذا جاء توجيه اللّه تعالى لزكريا بقوله : « وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ » بعد أن جعل الصوم عن الكلام آية له ، شكرا على تلك العطية العظيمة ، وعلى الآية المصاحبة لها.
(1/433)

هذا ، ويمكن أن يعطى النظر فى الآية الكريمة معنى آخر ، وهو أن قوله تعالى لزكريا : « آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً » هو إيحاء لزكريا بأنه ـ وهو مما خلق اللّه ـ يستطيع إذا تعطلت الأداة الطبيعية للتفاهم بينه وبين الناس ، وهى الكلام ، فإنه لا يعدم وسيلة أخرى يتفاهم بها ، ويجد منها ما يعوضه عن بعض ما فقد ، فيتخذ الرمز والإشارة عوضا عن الكلمة باللسان .. فإذا كان ذلك شأن الإنسان ، حيث يستطيع أن يخرج عن الأسباب المألوفة ، ويحقق بأسباب غيرها ما كان يحققه بها ، فإن قدرة اللّه ـ التي هى فوق نطاق الأسباب أبدا ـ أحق وأولى بألا تحتجزها الأسباب التي نراها مصاحبة للمسببات! وأنه إذا كان من مألوف الحياة الواقعة تحت حواسنا ألا تلد العقيم ، وألا يولد للشيخ الفاني ، فإن قدرة اللّه ـ إذا قضت حكمته ـ تجعل العقيم ولودا ، وتخلق من الشيخ الفاني بنين وبنات .. « وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 445
الآيتان : (42 ، 43) [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 43]
وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
التفسير : العطف هنا فى قوله تعالى : « وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ » هو عطف على قوله تعالى : « إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ » ، فهو عطف حدث على حدث.
(1/434)

و لقد أصبحت « مريم » خادمة بيت اللّه أهلا لأن تتصل بالسماء ، وأن تتلقى فيوض رحماتها وبركاتها ، فنادتها الملائكة مبشرة لها بما فضل اللّه به عليها : « يا مَرْيَمُ .. إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ » بأن جعلك فى عباده المصطفين ، القائمين على عبادته وطاعته .. « وَ طَهَّرَكِ » من الشّرك به ، أو التدنّس بالكبائر من الآثام .. « وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ » أي جعل منك الولد الذي لم يولد لإنسان من الناس على ، صورة مثل صورته ، وهو « المسيح » الذي سيولد من غير أب .. نفخة من روح اللّه ، وكلمة من كلماته! إنها صورة فريدة لا مثيل لها فيما تلد الأمهات .. فلقد اصطفى اللّه ـ سبحانه ـ هذه الأنثى المباركة ، لتكون معرضا من معارض قدرته ، ومجلى من مجالى صنعته فيما يصنع ، وشاهدا من شهود تلك القدرة التي إن أقامت هذا الوجود على سنن ، وربطت بين المسببات والأسباب ، فإنها فوق السنن ، وفوق الأسباب ، .. تخرج الحىّ من الميت ، وتخرج الميت من الحىّ .. وتخلق أصل الإنسانية كلها ابتداء من غير ذكر أو أنثى ـ هو آدم ـ وتخلق أنثى ـ هى حواء ـ من ذكر ، دون اتصال بأنثى ، وتخلق ذكرا ـ هو المسيح ـ من أنثى دون اتصال بذكر! فهذا هو الاصطفاء الذي اصطفى به اللّه سبحانه وتعالى « مريم » على نساء
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 446
العالمين ، إذ كانت منها هذه الآية العجيبة ، وتلك المعجزة الفريدة بين المعجزات! ومن حقّ هذا الاصطفاء الذي أضفاه اللّه على « مريم » أن تتلقاه بالشكران والحمد للّه ربّ العالمين ، فكان أن وجهها اللّه سبحانه ، إلى هذا بقوله :
«يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ » والقنوت هو الخضوع للّه ، والولاء المطلق لعزته وجلاله ، والسّكن إلى نعمه وأفضاله ..
والسجود والركوع عملان من عمل الجوارح لعبادة اللّه ، والولاء له.
(1/435)

فالقنوت عبادة صامتة مكانها القلب .. والسجود والركوع عبادة ظاهرة ، مظهرها الجوارح .. وبالقنوت ، والسجود ، والركوع ، يصبح باطن الإنسان وظاهره جميعا مشتغلا بعبادة اللّه ، متجها إليه ، قائما على الولاء له .. وهذا هو أكمل العبادة وأتمها.
الآية : (44) [سورة آل عمران (3) : آية 44]
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
التفسير : الإشارة هنا ، إلى ما ذكره اللّه سبحانه وتعالى من أخبار امرأة عمران ، وزكريا ، ومريم ابنة عمران .. وهى مما غاب أمره عن الرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ ولم يكن عنده من أخبارها شيئا .. فهى غيب بالنسبة الرسول ، وإن كان عند أهل الكتاب شى ء منها! وقوله تعالى : « وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ » تأكيد لما بين الرسول ، وبين هذه الأحداث من بعد ، ومن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 447
غياب أمرها عنه ، لأنه ـ أولا ـ لم يكن من أهل الكتاب ، ولا من القارئين الدارسين لما فى أيدى أهل الكتاب من علم ، ولأنه ـ ثانيا ـ لم يكن معاصرا لهذه الأحداث ، ومشاهدا لها ..
ومن جهة أخرى ، فإن من هذه الأنباء ما لم يكن عند أهل الكتاب ـ وخاصة معاصرى النبوة ـ شى ء منها ، مثل ما أخبر به القرآن من اختصام المختصمين فى كفالة مريم ، وأيّهم أحق بها ، ثم التجاؤهم فى هذا الخلاف إلى أن يقترعوا عليها ، وذلك بإلقاء أقلامهم فى الماء ، فأيهم ثبت قلمه كفلها ، وقد أصابت القرعة زكريا ، فكفلها زكريا ، كما أخبر القران الكريم بهذا .. فهذا كلّه لم يكن عند أهل الكتاب المعاصرين للنبيّ شى ء منه ، ولم يكن فيما بين أيديهم من كتب اللّه حديث عنه.
(1/436)

و فى هذه الأخبار التي يتلقاها محمد من السماء ، على غير سابق علم بها ، وفى مجيئها على تمامها وصحتها ، غير محرفة ، ولا مبتورة ، كما هو الحال فيما بقي بين أيدى أهل الكتاب منها ـ فى هذه الأخبار دلالة قاطعة على أن ما يتلقاه محمد من أخبار ، هو من مصدر عال ، لا يرجع فيه إلى بشر ، ولا يستند فيه إلى علم بشر ، وإلا كان لزاما عليه ألا يخرج عن محتوى ما يرد إليه من علم العالمين!
الآيتان : (45 ، 46) [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 46]
إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (46)
التفسير : متعلق الظرف « إذ » هو قوله تعالى : « وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 448
إِذْ يَخْتَصِمُونَ »
أي لم تكن يا محمد شاهدا لأمر مريم ، وما وقع فيه من خصام فى الولد الذي جاءت به من غير أب ، إذ جاء هذا الولد بنفخة من روح اللّه ، وبكلمة منه.
وقوله تعالى : « اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » هو الاسم الذي اختاره اللّه لهذا المولود « الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ » ! فالمسيح صفة هذا المولود ، وقد ورد كلمة مسيح فى كثير من المواضع فى التوراة ، وترجمها اليهود الذين كتبوا الترجمة اليونانية السبعينية للتوراة (حوالى (38 ق. م) باللفظ اليوناني الذي معناه الشخص الذي مسح بالزيت المقدس ، وهو زيت الزيتون .. وكلمة مسيح فى العبرية تنطق هكذا : (مسيح).
و« عيسى » هو اسمه.
و« ابن مريم » هو صفة تكشف عن نسبه إلى من ولده ، وهى أمّه ، على حين ينسب الأبناء إلى آبائهم ، وإذا كان ولا أب له ، فإن نسبته إلى أمّه أمر لازم ، لا بد منه.
(1/437)

و قوله تعالى : « وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ » الوجاهة هنا الرفعة وعلوّ الشأن .. أما فى الدنيا ، فيكاد المسيح ـ عليه السّلام ـ يكون واحدا من أفراد يعدّون على أصابع اليد ، ملأ الدنيا ذكرهم ، وعمرت قلوب الناس بحبّهم والولاء لهم ..
وأما الآخرة فعند اللّه وفاء هذا الوعد الكريم الذي وعده به. « وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ، وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ » .
قوله تعالى : « وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا »
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 449
كلام المسيح فى المهد
ذكر القرآن الكريم ، فى أكثر من موضع ، أن المسيح ـ عليه السلام ـ تكلم فى المهد ، وذلك ، ليكون آية على طهر أمه وعفافها ، وبراءة عرضها من أن يعلق به شى ء مما تلوكه الألسنة ، وتوسوس به الظنون ، فى حال كحال مولود يولد من غير زواج معترف به شرعا ، أو عرفا! ففى البشارة الأولى التي تلقتها مريم من السماء ، يكشف لها الوحى ، عن وجه هذا الغلام ، الذي ستلده العذراء هذا الميلاد العجيب ، الذي لم تعهده فى الناس ، ولم تعلمه فى واحدة من بنات جنسها ، وفى هذا يقول اللّه تعالى :
«إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ مِنَ الصَّالِحِينَ » (45 ـ 46 : آل عمران).
(1/438)

و الصفة البارزة التي لهذا الوليد هنا ، هى نطقه وهو فى المهد ، وحديثه إلى الناس حديثا واضحا مفهوما .. أما وجاهته فى الدنيا والآخرة ، فهو أمر معنوى ، لا ينكشف للناس انكشاف الكلام فى المهد ، ولا يقع منهم موقع هذا الكلام الذي يثير العجب والدهش ، ولا يدع لأحد سبيلا إلى الإنكار أو المكابرة ولكن هنا سؤال هو : ما وجه الإخبار عن كلام المسيح كهلا ، إلى جانب الإخبار عن كلامه فى المهد .. مع أن كلامه كهلا أمر مفروغ منه ، والإخبار به نافلة غير مطلوبة فى ظاهر الأمر؟
أكثر أقوال المفسرين لتعليل هذا ، أنه إخبار عن رجعة المسيح ـ فى آخر الزمان ـ وذلك أنه مات فى سنّ الكهولة ، وأنه سيعود إلى الدنيا مرة أخرى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 450
فى سنّ الكهولة .. وهذا تعليل ـ إن صح ـ فإنه يقوم على اعتبار أن رجعة المسيح أمر سيقع ، وأنه لا وجه لهذا التعليل إذا كانت تلك الرجعة مشكوكه فيها ، أو مقطوعا بعدم وقوعها.
وإذا كان من رأينا أن رجعة السيد المسيح من الأمور غير المحققة ، وأن الشك فى وقوعها ـ فى رأينا ـ يغلب أي احتمال ينبنى على روايات وآثار تقول بها ـ إذا كان هذا هو رأينا ، فإننا نرى لتعليل هذا الأمر ـ وهو كلام المسيح كهلا ـ وجها آخر.
(1/439)

فنقول ـ واللّه أعلم ـ : إنه لمّا كان النطق فى المهد أمرا واقعا على غير المألوف ، خارجا عن طبيعة البشر ، فقد يقع فى حساب الناس وتقديرهم أن هذا الوليد الذي تكلم فى المهد ، سيسلك فى الحياة مسلكا غير مسلكهم ، ويسير فى طريق غير طريقهم ، وأنه وقد بدأ حياته متكلما يوم مولده ، فغير مستبعد أن يكون كلاما بعد أن يكبر ويشب واقعا على صورة أخرى مفارقة لكلامه فى المهد .. فالطفل يبدأ الكلام بأصوات أشبه بأصوات الحيوان .. ثم تستبين تلك الأصوات شيئا شيئا ، حتى تصبح لغة واضحة ، ذات دلالة محدودة مفهومة .. وقياسا على هذا .. قد يقع فى التقدير أن كلام المسيح سيتدرج كما يتدرج كلام الطفل .. وأنه وقد بدأ بالكلام واضحا فصيحا من أول يوم ، فإنه فى تدرجه بعد هذا سينتهى إلى صورة أخرى من الكلام ، يكون الفرق بين أولها وآخرها ، كالفرق بين أصوات الطفل ، وبين كلامه فى الكهولة والشباب! هذه بعض المفاهيم التي يمكن أن تقع فى الأفهام وتدور فى الخواطر ، عن هذا الحدث العظيم .. وهذا ما يدفعه قوله تعالى : « وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا » .. حيث تقرّر الآية أن كلام عيسى فى المهد وكلامه فى الكهولة على
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 451
سواء ، لا اختلاف بينهما ، وأن صلة التفاهم لا تنقطع بينه وبين الناس فى مراحل حياته ، وأنه إذا كلّمهم فى مولده بلغة سليمة مفهومة ، فإنه سيكلمهم بهذه اللغة أيضا فى أدوار حياته .. وبهذا تعلم مريم من أول الأمر أن وليدها الذي سيتكلم فى المهد ، لا يخرج به ذلك عن طبيعة البشر ، ولا يجعل منه مولودا شاذا ، تشقى به أمه ، وتعانى من شذوذه هذا ، ما تعانى الأمهات من مواليدهن الذين يجيئون على غير مألوف الحياة.
وقد يكون لمعترض أن يلقانا بهذا السؤال : لم نصّ القرآن على دور الكهولة وحده ، دون أدوار الحياة الأخرى .. من صبا وشباب وشيخوخة؟.
(1/440)

و الجواب على هذا ، هو : أن دور الكهولة هو الدور الذي يبلغ فيه الإنسان تمام نضجه الجسدى والعقلي .. فإذا كان كلام المسيح فى المهد وفى الكهولة على حال واحدة ، كان ذلك هو المعيار الذي تنضبط عليه لغته ، وطريقة حديثه إلى الناس ، فى جميع أدوار حياته.
وندع هذا ، لنصل ما انقطع من حديثنا عن كلام المسيح فى المهد ـ فنقول :
إن مريم ـ عليها السلام ـ إذ تلقت هذه البشرى من رسول ربها ، قد لفتها منها أمران : أن يكون لها ولد من غير أن يمسسها بشر .. ثم أن يكون هذا المولود على صفات خاصة .. أهمها أنه يتكلم فى المهد ، كلاما سليما واضحا ، كما يتكلم الراشدون من الناس.
ولعلّ مريم لم تلتفت كثيرا إلى ما لهذا الوليد من صفات ، إذ كان شغلها الشاغل إذاك ، هو أن تلد مولودا من غير زوج يتصل بها.
ولهذا كان عجبها ودهشها ، فى هذا الاستفهام الإنكارى الذي ذكره القرآن على لسانها : « أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ » ؟ .. فهذه هى مشكلتها ، وهذا هو موضع عجبها ، ودهشها فى تلك الحال ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 452
ثم إنه حين تم لها ما أراد اللّه ، وجاءها المخاض ، ووجدت نفسها أمام الأمر الواقع ، وأنها فى وجه فضيحة لا دفع لها ـ كان عزاؤها الوحيد فى تلك الحال هو ما كان قد أبلغها إياه رسول ربّها ، بأن وليدها سيتكلم فى المهد ، وسينطق بالشهادة التي تدفع قالة السوء عنها .. وفى هذا يقول اللّه تعالى :
«
(1/441)

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا » (27 ـ 33 : مريم) ففى هذا الموقف المتأزّم جاءت المعجزة ، لتواجه القوم ، ولتخرس تلك الألسنة المتطاولة ، ولتأخذ على المتقوّلين فيه وفى أمّه كل سبيل .. فهذا الوليد الذي ولد لغير أب ، قد نطق فى المهد وتكلّم فى حال لا يتكلم فيها طفل غيره .. فمولده من غير أب ، وكلامه فى المهد ، على حدّ سواء ، فى الغرابة والاستنكار .. وأنه إذا كان لأحد أن ينكر هذه المعجزة القاهرة ، وهى معجزة كلام الوليد فى المهد ، فلينكر ميلاد هذا الوليد غير أب!!.
وكلام السيد المسيح هنا صريح واضح ، على شاكلة ما يتكلم به قومه ، وباللغة التي يتعاملون بها ، وقد فهموا عنه ما قال ، ولم يكن ما نطق به محتاجا إلى تأويل أو تخمين.
وقد ذكر القرآن الكريم مرة ثالثة كلام المسيح فى المهد ، فى معرض
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 453
الامتنان على المسيح نفسه ، بما كان من نعم اللّه عليه ، وألطافه به .. حيث يقول سبحانه وتعالى : « إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ » .
(
(1/442)

110 : المائدة) ويلاحظ هنا أيضا كلام المسيح فى المهد وكلامه كهلا ، وذلك ليذكر المسيح ـ وهو المخاطب بهذا من ربّ العالمين ـ أن كلامه فى المهد كان على صورة هذا الكلام الذي يتكلم به فى كهولته .. فيه العقل والمنطق والحكمة ، وليس أصواتا كأصوات الأطفال ، ولا لغوا كلغو الصبيان!.
والسؤال هنا .. هو : هل كان كلام المسيح فى المهد حدثا وقع فى موقف الدفاع عن التهمة التي رميت بها أمه من قومها .. ثم أمسك المسيح بعدها عن الكلام ، ليأخذ الحياة على مألوف المواليد من الناس ، وليدرج فى مدارج الطفولة خطوة خطوة .. أم أنه استمر متكلّما مبينا إلى آخر أيامه؟.
ونقول : إن كلام المسيح فى المهد هو معجزة متحدّية ، مثل معجزاته فى إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص.
والشأن فى تلك المعجزات المادية أن تظهر فى الحال الداعية لها ، ثم تختفى ، فلا يرى الناس لها وجها إلى آخر الأبد.
ومن الحكمة فى هذا ألا تعيش المعجزة المادية طويلا فى حياة الناس ، حتى لا يألفوها ، هذا الإلف الذي يذهب ببهائها وجلالها.
ثم إن المعجزة المادية القاهرة امتحان وابتلاء ، وما كان هذا شأنه فإن من الحكمة أن يلمّ بالناس إلماما ، وألا يقيم إقامة دائمة ، تلحّ على الناس فيه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 454
الآيات المنطلقة منه ، إلحاحا ملازما ، وبهذا يتمايز الناس ويتفاضلون فى الإفادة من الفرصة العابرة ، المتاحة لهم ..
والقرآن الكريم ـ وإن قطع بأن المسيح تكلم فى المهد ، فإنه لم يذكر شيئا عن صمته أو كلامه ، بعد هذه الواقعة التي دافع فيها عن شرف مولده ، وطهر أمه وعفافها .. لأن ذلك لا يقدّم ولا يؤخر فى هذا الموقف.
(1/443)

و لكنا ـ مع ذلك ، ومع احترامنا لصمت القرآن فى هذا الأمر ـ نستطيع أن نقول : إن المسيح لم يكن كلامه فى المهد ، إلا تلك الكلمات التي نطق بها ، فى مواجهة الاتهام المصوّب إلى أمه من قومها ، وأنه بهذه الكلمات الواضحة المحدودة ، قد أرى القوم معجزة منه ، تناظر المعجزة التي ولد بها ، والتي ينكرونها على أمه! ثم عاد بعد هذه الكلمات إلى الطفولة فى صمتها ، وفى نطقها .. كما سيتضح ذلك فى حديثنا عن الأناجيل وإغفالها لذكر هذا الحدث العظيم ، من حياة المسيح! الأناجيل وحديث المسيح فى مهده :
و الذي يدعو إلى العجب حقّا ، هو أن الأناجيل الأربعة التي يدين بها المسيحيون اليوم ، لم تشر أية إشارة من بعيد أو قريب إلى كلام المسيح فى المهد ، ولم تذكر دفاعه المفحم عن أمّه ، فى وجه تلك التهمة التي انعقد دخانها عليها ، يوم جاءت به تحمله إلى قومها ..
ونسأل أولا :
لما ذا ذكر القرآن هذا الحدث الذي لم يكن عند أهل الكتاب ـ من أتباع المسيح ـ المعاصرين للنبىّ علم به ، أو كان لهم به علم ولكن لم يجرءوا على ذكره؟ لما ذا يذكر القرآن هذا عن المسيح ، ويعطى أتباع المسيح معجزة المسيح ، هم ينكرونها؟
و نقول : إن القرآن الكريم إذ يقف هذا الموقف ، وإذ يجبه إجماع
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 455
أتباع المسيح على إنكار هذه الواقعة ـ ليعلم عن يقين أنه يواجه بهذه الحقيقة عالما متربّصا به ، متلهفا إلى اصطياد المعاثر والمزالق له ، فكان من المتوقع ـ والأمر كذلك ـ أنه إذا جاء يحدّث أهل الكتاب عن أمر هو فى أيديهم ، ومن خاصة أمورهم ـ كان حديثه معهم جاريا مع ما يعرفون منه ، وما يروون عنه ، فإن كان اختلاف فى شى ء ، ففى ترتيب الأحداث وتلوينها ، فإن زاد الخلاف شيئا ، ففى الأحداث العارضة ، التي لا تدخل فى الصميم من ذاتية هذا الأمر.
(1/444)

أمّا إذا كان الحديث عن أمر له شأنه وخطره فى بناء العقيدة ، ثم كان مما يقيم لأصحاب تلك العقيدة حجة دامغة ودليلا قاطعا لمقولاتهم التي ينكرها عليهم ـ فإن ذلك هو أعجب العجب .. حيث يجى ء القرآن إلى هذه الدعوى التي ينكرها على أتباع المسيح ، فى تأليههم له ـ يجى ء فيضع بين يدى أصحابها حجة أقوى من حجتهم لها ، ودليلا أوضح من دليلهم عليها .. إن ذلك لعجب عجيب!! ذلك أن أتباع المسيح يتخذون من معجزات المسيح الخارقة ـ كإحياء الموتى ، وإبراء ذوى العاهات والزّمنى ـ يتخذون من ذلك دليلا على ألوهيته.
ولو كانوا يرون سبيلا إلى القول بأنه تكلم فى المهد لحرصوا على إظهار تلك المعجزة ، وإضافتها إلى ماله من معجزات ، ليقوى هذا من قولتهم فيه ، وتأليههم له! .. فكيف يقدّم القرآن لخصومه فى تلك الدعوى التي يدّعونها ، والتي ينكرها عليهم ـ كيف يقدّم لهم مستندا جديدا ، يؤيد هذه الدعوى عندهم ، ويؤكد هذا الزعم لديهم؟
و نقول : إن القرآن الكريم لا يلتفت إلى شى ء من هذا ، ولا يجعل له شأنا فى حسابه مع ما يدعيه المدعون .. وإنما الذي يلتفت إليه ، ويحسب له
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 456
حسابا ، هو الحق ، والحق وحده .. سواء وافق هذا الحق واقع الناس ، وجرى مع معارفهم ومعتقداتهم ، أم جاء على طريق غير طريقهم ، وبعلم غير علمهم! وهذا شاهد من شهود القرآن الكريم ، بأنه ليس من عمل بشر ، ولا من تدبير إنسان ، وإلا كان عليه أن يتجنب هذا الصدام الصريح مع الواقع ، الذي لا يعلم ما وراءه إلا علام الغيوب .. وإلا كان عليه أيضا ـ لو أنه من عمل بشر ـ أن يخفى ما بين يديه من حجج يستند إليها خصومه ، ويتخذون منها سلاحا يحاربونه به ، فى المعركة الدائرة بينه وبينهم.
وما كان لغير الحق السماوي أن يقف هذا الموقف ، إزاء أمر يشتهيه أهله وهم به جاهلون ، ويتمنّونه وهم منه وجلون .. خوفا من البهت والتكذيب.
(1/445)

لهذا ، فإن القرآن الكريم ، إذ يقول ما يقول فى عيسى وأمه مما تنكره اليهود ، وتقول بخلافه فيهما ، وإذ يقول ما يقول فى عيسى ، وفى كلامه فى المهد مما ينكره النصارى ، ولا يجدون عليه شاهدا مما فى أيديهم من أناجيل ـ إن القرآن ، إذ يقول هذا ، وذاك ، إنما يقول الحق الذي غمّ على الناس أمره ، وعميّت عليهم سبله ، ثم لا عليه إذا هم صدقوه وآمنوا به ، أو كذبوه وأعرضوا عنه .. فإن الحق الذي نزل به ، سيظل هكذا قائما على الدهر ، يتحدى المكابرين والمعاندين ، ويواجه أبصار المتشككين والمنحرفين ، « فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها » (204 الأنعام) ..
«وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ » (29 : الكهف) والعاقبة دائما للحق ، فإنه وإن غامت عليه سحب الضلال ، وانعقدت فى سمائه ظلمات الجهل ـ فإنها أمور عارضة ، لا تلبث أن تزول ، وإن طال مقامها ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 457
لما ذا لم تذكر الأناجيل كلام المسيح فى المهد؟
(1/446)

و إذا تركنا جانبا ، النظر فيما وقع فى الأناجيل من تحريف وتبديل ، وقلنا إنها والقرآن على سواء فى صحتها وسلامتها ـ كان ظاهر الحال يشهد بأن كفّتها هى الراجحة فى هذه القضية ، وأن الكلمة كلمتها فيما تقول فيها ، وأن عدم ذكرها لكلام المسيح فى المهد يقطع بأن المسيح لم يتكلم فى المهد! إذ لو كان قد تكلم فى المهد لما كان هناك من سبب يدعو كتّاب الأناجيل إلى إغفال هذه الحادثة ، التي تعلى من شأن المسيح ، وترفع قدره ، وتكاد تخرج به عن حدود البشر ، وترفعه إلى مقام الملأ الأعلى ـ الأمر الذي يقوّى من دعوى أتباعه ، بأنه هو اللّه أو ابن اللّه! .. بل وأكثر من هذا ، فإن عدم ذكرها لهذا الأمر العظيم لدليل على أنها كانت تلتزم جانب الحق فى كل ما تقول فى المسيح ، وأنها لم تقل فيه قولا لم يكن له ، أو منه!! ولكن إذا أعدنا النظر فى هذه المسألة على ضوء الظروف والملابسات التي كتبت فيها الأناجيل ، والتي تبدو واضحة لأدنى نظرة ينظر بها إليها ـ إذ فعلنا ذلك ، رأينا أنه ليس ببعيد أن ينخرم من الأناجيل هذا الخبر ، وأن يسقطه الذين كتبوها ، من حسابهم ، لأمر قدروه ولحساب حسبوه! ويمكن أن يعلل لذلك يعلل كثيرة .. منها :
أولا : أن الأناجيل قد كتبت فى وقت كان اليهود يشنّعون فيه على المسيح ، ويلاحقون أتباعه ، ويأخذونهم بالبأساء والضراء حيث وجدوهم.
ثانيا : قدّر كتاب الأناجيل أن الجوّ الذي يحيط بهم مشحون بالأكاذيب التي يطلقها اليهود فى جنون ، حول المسيح وأمه. ويبهتون كل ما كان له من معجزات ، ويدخلونها فى باب الشعوذة والدجل .. فليس معقولا والأمر كذلك.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 458
(1/447)

أن يفتح كتاب الأناجيل جبهة جديدة للحرب بينهم وبين اليهود ، وأن يلقوا إلى النار المشبوبة وقودا جديدا ، يزيدها اشتعالا ، ويزيد اليهود سفاهة وتطاولا! ثالثا : لنا أن نجعل فى اعتبارنا أن كلام المسيح فى المهد ، لم يكن حدثا قائما يعيش فى الناس ، وإنما كان للحظة عابرة ـ كما قلنا من قبل ـ أريد به أن يطفى ء ثورة ثائرة على أمه .. وأنه إذا كانت تلك المعجزة قد أحدثت هزّة عميقة ، ودويا عاليا ـ فإن صمت المسيح بعدها إلى أن جاوز دور الطفولة ، قد أطفأ جذوتها ، وجعلها تتوه خلال تلك الأحداث المذهلة التي دارت حول المسيح ، فى كل خطوة كان يخطوها ، وسط صخب اليهود وجلبتهم.
رابعا : الذين شهدوا كلام المسيح فى المهد لم يكونوا يجاوزون بضعة من الناس ، هم القرابة القريبة من أمّه ، الذين استقبلوها وهى تحمل وليدها ، فأنكروها وأنكروا ما تحمل!! ومثل هذا العدد ، وإن وجدوا فى كلام المسيح ما يمسك ألسنتهم عن قول السوء فى العذراء البتول ـ لا يمكن أن يقف لهذه الأعداد الكثيرة التي تعيش خارج هذه الدائرة المحدودة ، وتخفت صوتها ، الذي إن بدأ خافتا ، متهامسا ، متقطعا ، فإنه سيعلو ويعلو ، ويصير صراخا ، وعواء يملأ أرجاء اليهودية ، حين يواجه المسيح اليهود بدعوته ، ويواجهونه هم بالإنكار والتكذيب ، ثم المطاردة ، والمحاكمة!! والصورة التي تبدو لنا من هذا الموقف .. هى هكذا :
عدّة من الناس .. قد يكونون عشرة ، أو ما دون العشرة أو أكثر ، هم رهط مريم الأقربون ، قد رأوا الوليد ، وسمعوه يتكلم ، ويدفع عن أمه العار الذي واجهوها به .. فلما صمتوا حين تكلّم ، صمت هو إلى أن فارق طور الطفولة ..
ثم هناك أعداد لا حصر لها من الناس ، ترامى إلى سمعها هذا الخبر العجيب ، فجاءت تطلب له الشاهد من فم هذا الطفل الذي نطق ، فلم تجد إلا صمتا ، ولم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 459
(1/448)

تشهد فيه إلا ملامح الطفولة ومخايلها .. فرجعوا بين مصدّق ومكذب ، وبين متشكك ومتهم!! ثم يمضى الزمن بهؤلاء وأولئك جميعا .. ويتقلب هؤلاء وهؤلاء ، بين الشك واليقين ، والتكذيب والاتهام.
أما أصحاب اليقين ، الذين عاينوا المعجزة ـ وهم قلة ـ فتذهب بهم الأيام واحدا واحدا ، حتى إذا بلغ المسيح أشدّه ، وطلع على الناس بمعجزاته ، لم يكن منهم فى الحياة إلا بضعة أفراد ، أو مادونهم.
وأما المتشكّكون والمترددون ، فقد أنساهم الزمن هذا الأمر ، وما علق بنفوسهم منه .. من شك أو تردد.
فلما أن كان وقت كتابة الأناجيل ، كانت تلك الحادثة ـ حادثة كلام المسيح فى المهد ، قد ضاعت فى طوفان الأحداث التي اتصلت بحياة المسيح ، والتي انتهت بهذا الحدث العظيم. فى قضية صلبه ، وقيامه من الأموات .. ثم فى مطاردة تلاميذه وأتباعه ، والتنكيل بهم. حيث وقعت عليهم عين ، أو وقعت عليهم يد! لقد كانت حادثة كلام المسيح فى المهد ، عند كتابة الأناجيل ، شيئا باهتا ، أشبه بأضغاث الأحلام ، لم يمسك الناس منها إلا بذكريات غامضة مضطربة ، فكان إعلانها وإذاعتها فى هذا الوقت مما يقوّى جبهة أولئك الذين يجدّفون على المسيح ، ويرمونه وأمّه بالمنكرات والأباطيل والمفتريات! هذا ، وليست حادثة كلام المسيح فى المهد ، هى وحدها التي أغفلت الأناجيل ذكرها ، من متعلقات المسيح وأخباره ، بل لقد أغفلت الأناجيل ـ عن تدبير وتقدير ـ كثيرا مما كان للسيد المسيح .. تقيّة وخوفا ، تحت ضغط الظروف القاسية التي كتبت فيها الأناجيل.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 460
فمثلا : « ميلاد المسيح من عذراء » .
(1/449)

هذا الحدث ، لا يقلّ شأنا وإثارة ، وتحديا عن كلام المسيح فى المهد! ومع هذا ، فإن إنجيلى « مرقس » و«يوحنا » لم يشيرا أيّة إشارة إلى هذا الميلاد .. والقديس « بولس » مؤسس المسيحية ، وداعيتها الأول ، لم يتحدث عن هذا الميلاد ، ولم يشر إليه فى رسائله ، ولم يتخذ منه آية يغزو بها القلوب ، لدعوته التي كان يدعو بها ، ويجمع لها كل القوى المادية والمعنوية ، لتأخذ طريقها إلى الناس! ثم إن إنجيلى « متى » و«لوقا » الذين تحدثا عن هذا الميلاد العذرى ، لم يذكرا ذلك إلا ذكرا عابرا ، وفى غير التفات إليه ، أو احتفاء به ، بل إنهما إذ يقولان بميلاد المسيح من عذراء ، يعودان فيرجعان نسب المسيح إلى داود عن طريق « يوسف » الأب المسمّى للمسيح ، وكأنما أرادا بذلك أن يسدّا هذه الفجوة ، بنسبة المسيح إلى يوسف ، زوج أمّه! فإذا وقع فى تقديرنا أنه كان من المكن إلغاء إنجيل « متى » و«لوقا » الذين ذكرا ميلاد المسيح من عذراء. كما ألغيت عشرات الأناجيل غيرهما ، ثم أصبح اعتماد المسيحية على إنجيلى « مرقس » و«يوحنا » ـ لو وقع هذا ـ وكان من الممكن أن يقع ـ لما كان فى المسيحية أية إشارة إلى هذا الميلاد ، ولذهب من تاريخ المسيح ، كما ذهب كثير غيره من أقواله ، وأعماله.
وحادثة مجى ء المسيح إلى مصر ، مع أمه ، وزوج أمّه ..
هذه الحادثة ، لا تقلّ خطرا ، عن كلام المسيح فى المهد ، وعن ميلاده من عذراء ، إذ كانت عن إرهاصات مزلزلة ، لما سيكون لهذا الوليد من شأن.
ومع هذا فإن إنجيلا واحدا من الأناجيل الأربعة المعتمدة هو الذي ذكرها ، ذلك هو إنجيل متى ، الذي يروى هذه الحادثة على هذا النحو :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 461
«
(1/450)

ملاك الربّ » ، ظهر ليوسف (زوج مريم) فى حلم ، قائلا : خذ الصبى وأمّه واهرب إلى مصر ، وكن هناك ، حتى أقول لك ، لأن « هيرودس » (ملك اليهوديّة) مزمع أن يطلب الصبىّ ليهلكه ، فقام وأخذ الصبىّ وأمه ليلا وانصرف إلى مصر ، وكان هناك إلى وفاة « هيرودس » (متى : 2 : 13 ـ 15) وهذا الخبر لم تذكره الأناجيل الثلاثة ، ولم تشر إليه أية إشارة! فكيف كان الحال ، لو ألغى إنجيل متى كما ألغيت عشرات الأناجيل ، وكتب عليها أن تختفى إلى الأبد؟
و ننتهى من هذا إلى القول بأن ما ذكره القرآن من كلام المسيح فى « المهد » هو الحق الذي لا شك فيه ، وأن خلوّ الأناجيل من ذكر هذا الحدث ، لا يجعل لها حجة على القرآن فى هذا المقام ، خاصة وقد أغفل معظمها أحداثا تتعلق بالمسيح ، ولا تقل شأنا عما ذكره القرآن عن كلامه فى المهد! إن القرآن قد أخبر بأن المسيح تكلم فى المهد ، وهذا الخبر ، هو معجزة متحدّية ، إذ ينكره من هم أشد الناس حرصا على وقوعه ، ليكون لهم منه حجة تقوّى معتقدهم فى ألوهيته المسيح ، وفى خروجه عن طبيعة البشر! إن ذلك عند المؤمنين بالقرآن معجزة متحدية ، وهو عند غير المؤمنين ، دعوى ينقصها الدليل والبرهان ، أو فرية يردّدها أصحاب الأهواء والبدع! فهذه منازل ثلاث ، فى القول بأن المسيح تكلم فى المهد.
والناس على منازلهم تلك .. إلى أن يأتى أمر اللّه ، فيكشف وجه الحق ، ويومئذ تبيضّ وجوه ، وتسودّ وجوه!! بقيت كلمة لا بد منها ..
وهى أنه قد يقع لفهم بعض الناس من قولنا إن فى الأناجيل اختلافا ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 462
و تعارضا ، وكتمانا لبعض الحقائق ـ قد يفهم من هذا أننا ننتقص من قدر الحواريين ، ونسى ء الظن بهم وبأمانتهم فيما نقلوا عن المسيح .. إذ أن الأناجيل الأربعة ، ينسب ثلاثة منها إلى : متى ، ومرقس ، ويوحنا ، وثلاثتهم من الحواريين ..
(1/451)

و معاذ اللّه أن نشكّ فى أمانة الحواريين ، عليهم السلام ، إنهم أجلّ من أن يكذبوا ، أو يخونوا الأمانة ، إذ كان اللّه سبحانه هو الذي اختارهم للمسيح أعوانا وأنصارا ، كما يصرح بذلك القرآن الكريم ، فى قوله تعالى :
«وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ » (111 : المائدة) والذي يمكن أن يقال فيما وقع فى الأناجيل من اختلاف ، وما جاء فيها من مقولات يقف العقل إزاءها موقف الشك أو الإنكار ـ هو أن الأناجيل إما أن تكون قد كتبت بأيدى هؤلاء الحواريين المعروفين ، ثم دخل عليها ما ليس منها ، مما هو موضع خلاف ، أو شك ، أو إنكار ، وذلك عن طريق الناقلين والمترجمين ..
وإما أن تكون قد كتبت بغير أيدى أصحابها ، ثم أضيفت إليهم ، وحسبت عليهم ، لتكتسب ثقة وذيوعا .. وهنا يتسع المجال لوقوع ذلك الاختلاف بين الأناجيل ، وما تحمل فى ثناياها من تلك المقولات المختلفة المتضاربة!
الآيات : (47 ـ 51) [سورة آل عمران (3) : الآيات 47 الى 51]
(1/452)

قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48) وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 463
التفسير : عجبت مريم لهذا الأمر العجيب ، الذي تحدثها الملائكة به من عند ربها .. أن تلدا مولودا من غير أن تتصل بزوج! وكيف؟ وما ذا تقول للناس؟ ومن يسمع لها أو يصدق قولها؟ وأنّى لها القوة التي نحتمل بها لذعات الألسنة ، وغمزات العيون ، وهمسات الشفاه؟ إنها تجربة فريدة فى عالمها ، لم تكن لامرأة قبلها ، فكيف لها باحتمالها ، واحتمال تبعاتها؟
و فى وداعة العابدة المتبتلة ، ولطف العذراء وحيائها .. نسأل ربها :
«رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ؟ » ويجيبها رسول ربها :
«
(1/453)

كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ » .. لا حدود لقدرته ، ولا ضوابط من نواميس الطبيعة التي نعلمها ، بالتي تحول بين قدرة اللّه وبين أن تأتى بما لا نحسب ولا نقدر! وفى قوله تعالى هنا « اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ » وقوله فى إجابة زكريا :
«اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » مراعاة تامة للمقام هنا وهناك.
ففى أمر مريم عملية خلق كاملة. فناسبها قوله تعالى : « اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ »
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 464
أما فى قصة زكريا فهى على خلاف هذا .. مولود من رجل وامرأة ، وإن كان كلّ من الرجل والمرأة غير أهل لأن يولد له فناسبه أن يعبر عنه بالفعل « اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ » والخلق والفعل وإن كانا من باب واحد ، فإن هناك فرقا دقيقا بينهما ، وهذا الفرق الدقيق له وزنه وله اعتباره فى بناء الأسلوب البلاغي الرفيع ، الذي لا يوجد على كماله وتمامه إلا فى القرآن الكريم.
فى قوله تعالى : « وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ » ما يسأل عنه وهو : الكتاب والحكمة .. ما هما؟ لقد منّ اللّه على عيسى بأن علمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل .. والتوراة والإنجيل معروف أمرهما ، إذ كانت التوراة كتاب موسى وشريعته ، وبالكتاب وبالشريعة دان عيسى ، ثم كان له كتابه وهو الإنجيل .. يبشر به وبكتاب موسى وشريعته .. فما الكتاب والحكمة اللذان تعلمها من اللّه قبل أن يتعلم التوراة والإنجيل؟
(1/454)

فى القرآن الكريم جاء ذكر الكتاب مقترنا بالحكمة فى كثير من المواضع ، مثل قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ » (164 : آل عمران) وقوله سبحانه : « رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ » (129 : البقرة) وقوله تعالى : « وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ » (81 : آل عمران) وقوله سبحانه : « فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً » (54 : النساء) وقوله تعالى : « وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ »
(112 : النساء)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 465
و قد جاءت كلمة الحكمة مفردة فى قوله تعالى : « يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً » (269 : البقرة) وفى قوله سبحانه عن داود عليه السّلام : « وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ » (20 : ص) والحكمة هى إصابة مواقع الحق فى القول والعمل ، فهى بهذا ضرب من الهداية والتوفيق ، يرزقهما اللّه من يشاء من عباده.
والكتاب المقترنة به الحكمة هنا يسبق الحكمة ، أي أن الحكمة ثمرة من ثمراته ، إذ كان طريق الوصول إلى الكتاب هو معرفة القراءة والكتابة ، حتى يمكن الإفادة مما كتب الكاتبون ودرس الدارسون .. وقد تعلّم المسيح القراءة والكتابة ، وقرأ ما كتب من كتب ، وفتح اللّه بصيرته وأنار قلبه بالعلم والحكمة ، قبل أن يقيمه قيّما على شريعة التوراة والإنجيل.
(1/455)

قوله تعالى : « وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ » أي ويجعله رسولا إلى بنى إسرائيل .. فالمسيح أحد الرسل الذين أرسلهم اللّه إلى بنى إسرائيل ، ورسالته خاصة بهم ، مكملة لرسالة موسى عليه السّلام فيهم ، كما جاء ذلك على لسان المسيح ، فيما روت الأناجيل عنه ..
ففى إنجيل « متى » : « ثم خرج يسوع من هناك وانصرف إلى نواحى صور وصيدا ، وإذا امرأة كنعانية خارجة من تلك التخوم صرخت إليه قائلة :
ارحمني يا سيد يا ابن داود ، ابنتي مجنونة جدا ، فلم يجبها بكلمة ، فتقدم تلاميذه وطلبوا إليه قائلين ، اصرفها ، لأنها تصيح وراءنا ، فأجاب وقال : لم أرسل إلّا إلى خراف بيت إسرائيل الضالة » (متى : الإصحاح الخامس عشر).
وفى متى أيضا يوصى المسيح تلاميذه ، وقد بعث بهم ليبشروا ، قائلا :
«إلى طريق أمم لا تمضوا ، ولا مدينة للسّامريين لا تدخلوا ، بل اذهبوا بالحرىّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالّة » (متى : الإصحاح العاشر).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 466
قوله تعالى : « وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » أي يتحدث إلى بنى إسرائيل ويخبرهم بما أرسله اللّه به إليهم » ويقول لهم : أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ ، تشهد لى بأنى رسول من عنده ، وتلك الآية هى ميلاده على الصورة الفريدة ، إذ ولد من عذراء لم يمسسها بشر. وإذ كان ميلاده وظهوره فى بنى إسرائيل آية ، فإن تلك الآية تتولد منها آيات ومعجزات. ومن تلك الآيات ما ذكره القرآن على لسانه :
«أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ » فمادة الطين التي منها تخلّقت الكائنات الحية من إنسان وحيوان ـ هى التي ينشى ء منها نماذج لكائنات حية من الطير ، ثم ينفخ فيها فإذا هى فى عالم الطير ترفّ بأجنحتها ، وتسبح فى السماء ، شأنها فى ذلك شأن بنات جنسها من هذا العالم.
(1/456)

و نسأل : لم لم تكن معجزته أن يصوّر من الطين إنسانا ، فينفخ فيه فيكون إنسانا من الناس ، فإن الذي يبعث الحياة فى الطين بنفخة منه ، لا يعجزه أن يكون الإنسان أحد مخلوقاته ، كما يفعل ذلك فى عالم الطير؟ وإنه لو فعل ذلك لكان أظهر لآيته ، وأبلغ فى معجزته وإعجازه؟
و لكن لو وقع هذا لكان فتنة للناس .. إذ كيف يعيش مثل هذا الإنسان فى الناس؟ وكيف تطيب له الحياة بينهم؟ وبأية صلة يتصل بهم ولا نسب له فيهم؟ ثم ما شأنه بعد أن تتحقق المعجزة فيه؟ أ يظل هكذا معجزة متحركة بين الناس يدورون معه حيث دار ، ويتحركون معه حيث يتحرك؟ إنها الفتنة الممسكة بالناس إذن؟
إن شأن المعجزات المادية أن تكون بنت ساعتها ، ثم تختفى فلا يرى الناس لها وجها بعد هذا .. إنها أشبه بإشارة ضوئية ، تلمع ثم تختفى ليكون للناس نظر فيها ، وتقدير لها ، وليخلف عليها نظرهم وتقديرهم ، وبهذا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 467
يكون البلاء والامتحان .. ولو أن تلك المعجزات المحسوسة ظلت هكذا قائمة تحت بصر الناس لما كان هناك مكان للابتلاء ، ولما كان لأحد فضل على أحد فى الإيمان بها ، أو الشك فيها ، أو الإنكار لها ، ولاستقام أمرهم فيها على طريق واحد .. هو طريق الإيمان والتسليم ، وعندها لا يكون للإنسان اختيار ، ولا يكون إيمانه محسوبا له ، إذ كان عن قهر ، تحت ضغط هذه المعجزة القاهرة ، التي تأخذ عليه كل سبيل إلى الفرار والزيغ! وانظر فى هذا الطائر ، الذي كان تحت أعين الناس صورة من الطين ، ثم أصبح بتلك النفخة طائرا ينطلق فى سبحات الجوّ .. ثم لا يلبث حتى يتوارى عن الأنظار ، كما يلمع البرق ثم يختفى! .. هنا معجزة ، ولكنها تحمل فى ثناياها امتحانا وابتلاء ، فيؤمن بها من يؤمن ، ويشك فيها من يشك ، وينكرها ويكفر بها من ينكر ويكفر ..
«
(1/457)

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً » (89 : يونس) فهكذا تكون المعجزات ، لمحة خاطفة ، وإشارة عابرة .. فيها نظر لناظر ، وعبرة لمعتبر.
ومن معجزات المسيح التي يلقى بها بنى إسرائيل ، ما عرضه عليهم فى قول اللّه سبحانه على لسانه : « وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ » .
والأكمه من ولد أعمى ، وهذا النوع من العمى ليس للطب قديما وحديثا بصر به ، ولا عمل فيه ، بل هو العجز المطلق حياله .. ومن هنا كان شفاؤه لا يتم إلا بمعجزة متحدية! والبرص مرض خبيث يصيب الجلد ، فيذهب بلونه ، ويأكل أديمه ، كما تأكل
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 468
الأرضة لحاء الشجر .. وشأنه شأن الكمه ، لا علاج له ، ولا شفاء منه ..
إلا بمعجزة متحدية! فكان من معجزات السيد المسيح إبراء الكمه والبرص ، وإحياء الموتى! وتلك معجزات قاهرة متحدّية ، تقف أمامها قوى البشر عاجزة مستخزية.
ومن معجزاته التي أجراها اللّه على يديه أنه يخبر عما غاب من شئون الناس ، فيخبرهم بما أكلوا فى يومهم أو أمسهم ، وما ادخروا فى بيوتهم من مال ومتاع.
ولكنها مع ذلك معجزات ، يمكن أن يكون فيها للسفهاء قول ، وللمتمارين والمجادلين مما حكات وتعليلات.
ولما جاء المسيح إلى بنى إسرائيل بتلك المعجزات ، ليفتح قلوبهم إلى اللّه ، وإلى ما يدعوهم إليه من هدى وإيمان ، جاءهم مصدقا بالتوراة ، وداعيا بما فيها.
وهذا أدعى إلى أن يستجيبوا له ، ويؤمنوا به ، إذ لم يأتهم بجديد ، وإنما الجديد فى رسالته ، أن يقيمهم على التوراة التي خرجوا عنها ، وتأولوا أحكامها تأويلا فاسدا : « وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ » .
(1/458)

و أكثر من هذا ، فإن المسيح جاء رحمة من رحمات اللّه بهم. جاء ليرفع عنهم بعض تلك الأحكام التأديبية التي أخذهم اللّه بها ، عقابا لهم ونكالا ، بما حرم عليهم من طيبات كانت أحلت لهم ، كما يقول تعالى : « فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ » (160 : النساء).
فكان من رسالة المسيح إليهم أن يخفف عنهم بعض هذه الأحكام :
«وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ » وقوله تعالى « وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » الآية هنا هى المعجزة التي
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 469
ولد بها عيسى ، وجاء إلى هذا العالم بها .. فميلاده على الأسلوب الذي ولد به هو آية من آيات اللّه ، يراها أهل زمانه قائمة بينهم ، فيضلّ بها كثيرون ، ويهتدى بها كثيرون .. فهو إنما جاء إلى بنى إسرائيل وولد فيهم بآية من آيات اللّه.
وقد ضلّ بها بنو إسرائيل إلا قليلا منهم .. فشنعوا على المسيح وأمّه ، ونسبوا البتول إلى الفاحشة ، ونسبوا المسيح إلى غير أمه ، وجعلوه ابنا غير شرعى ليوسف النجار! قوله تعالى : « فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ » أي اخشوا اللّه فيما تقولون من بهتان فىّ وفى والدتي ، وأطيعون فيما أدعوكم إليه من أمر اللّه.
قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ » هو التعقيب الجامع على ما جرى على يد المسيح من معجزات .. إنى لست إلا عبدا من عباد اللّه ، فأقرّوا للّه بالعبودية ، كما أقررت له بالعبودية ، واعبدوه كما أعبده .. « هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ » من لم يستقم عليه فقد ضل وهلك ، ومن استقام عليه اهتدى ونجا .. من كذب بتلك الآيات فهو فى الهالكين ، ومن صدّق بها ثم بالغ فيها ، فجعل من المسيح إلها فهو من الهالكين!
الآيتان : (52 ـ 53) [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 53]
(1/459)

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
التفسير : قوله تعالى : « فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ » . أي فلمّا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 470
استبان له من عنادهم ولجاجهم ، ومكرهم بآيات اللّه ومعجزاته ، أنهم لن ينتفعوا بتلك الآيات ، ولن يجدوا فيها طريقا يهديهم إلى الحق ـ لمّا تبين له ذلك من بنى إسرائيل ولمسه لمسا واقعيا ، نقض يده منهم ، واعتزلهم بمن آمن به ، وأخلص الإيمان فى سره وعلنه .. فنادى فى القوم « مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ » فى الانجاء إليه ، بنيّة صادقة وقلب سليم؟ فأجابه الحواريون ، وهم تلاميذ المسيح وخلصاؤه الأولون ، الذين سكنوا إليه ، وتركوا كل ما فى أيديهم من أهل ومال : « قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » وكانت عدتهم اثنى عشر حواريّا ، بعدد أسباط بنى إسرائيل الاثني عشر.
قوله تعالى : « رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ » هذا القول يمكن أن يكون لكل من يستمع آيات اللّه ، وما أنزل على رسوله من كلماته ، فيرى فيها نور الحق ، ويستروح منها روح اليقين ، فيؤمن باللّه وبرسوله بالغيب ، من غير أن يرى الرسول ، أو يستمع إليه ، ويقول مع المؤمنين : « رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ » أي اجعلنا فى عداد الذين شهدوا الرسول وآمنوا به ، وهذا هو الوجه الأقرب إلى منطق الآية الكريمة .. كما يمكن أن يكون تتمة لمقول القول الذي نطق به الحواريون ، إجابة لعيسى عليه السّلام.
(1/460)

الآيتان : (54 ـ 55) [سورة آل عمران (3) : الآيات 54 الى 55]
وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 471
التفسير : قوله تعالى : « وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ » المكر الذي مكره اليهود هو ما بينوه من أمر المسيح ، وتدبيرهم التّهم لمحاكمته ، وصلبه ، وإقامة شهود الزور عليه ، بأنه مشعوذ ، ومفتر على اللّه ، ومدّع أنه المبعوث ملكا على اليهود .. وقد انتهى أمره معهم إلى أن قدموه للمحاكمة ، وشهدوا عليه زورا أمام الحاكم الرومانى « بيلاطس » الذي كان حاكما عليهم ، فحكم عليه ـ حسب شريعتهم ـ بالصّلب.
والصلب لا يحكم به فى شريعة اليهود إلا على من جدّف على اللّه ، وكفر به ، وبهذا يستحق اللعنة والطرد من رحمة اللّه ، ومن الدخول فى ملكوته! والصلب هو العقاب الدنيوي المعجّل ـ عند اليهود ـ لمن كفر باللّه ، وهو رمز على تلك اللعنة التي حلّت بهذا الكافر باللّه .. وفى التوراة : « ملعون من علّق على خشبة » (تثنية : 21) أي صلب.
فالصلب فى حقيقته تجريم دينىّ لمن يحكم عليه به ، ولعنة تصحب المصلوب إلى العالم الأخروى ، وتأخذ عليه السبيل إلى ملكوت اللّه! ذلك هو مكر اليهود بالمسيح.
(1/461)

كانوا فى شك من أمره .. إذ يرون معجزاته القاهرة تملأ عليهم الزمان والمكان اللذين يحتويانهما .. ولكنهما كانوا ـ من جهة أخرى ـ ينتظرون مسيحا مخلصا لهم ـ حسب تأويلهم لشريعتهم ـ وكان مسيحهم الذي ينتظرونه على صورة ـ فى وجدانهم ـ غير صورة المسيح عيسى ، الذي جاءهم .. فمسيحهم الذي ينتظرونه هو ملك يخلصهم من الحكم الأجنبى ، ويعيد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 472
إليهم مملكة سليمان ومجده .. والمسيح عيسى بن مريم لم يجئهم إلّا بمملكة سماوية ، وهذه المملكة لا يدخلونها إلا إذا خرجوا مما فى أيديهم من هذه الدنيا ، من مال وأهل وولد! فما أبعد البون بين مسيحهم الذي يؤملون ، وهذا المسيح الذي يكذّبون!! من أجل هذا كانت صدمتهم قاسية حين التقوا بالمسيح ، وغلبت عليهم شقوتهم فأنكروه ، وأنكروا ما جاء به ، ورأوا فى المعجزات التي حملها بين يديه شعوذة وسحرا.
وأرادوا أن يقطعوا الشك باليقين فى موقفهم المتردد من المسيح.
فليدخلوا إذن فى تجربة مع المسيح.
فليصلبوه إذن ، وليكن هذا الصلب هو فيصل الحكم فيما بينهم وبينه.
إنه يدّعى أنه المسيح ، والمسيح الحقيقي لا يصلب ولا يقع تحت اللعنة! وتمضى الأيام بهم ، فيزداد عنادهم وإصرارهم كلما زاد شكهم وقوى حدسهم فى أنهم لم يصلبوا المسيح ، وإنما صلبوا شخصا يشبهه ..
(1/462)

و يظل هذا الخاطر يزعج اليهود ، ويبيتهم فى هم وقلق .. حتى يجى ء القرآن الكريم ، واليهود أعرف الناس به وبصدقه ، فيكشف لهم عن وجه الحق سافرا ويقطع الشك باليقين .. فيقول الحق جلّ وعلا : « وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً » (157 ، 158 : النساء).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 473
و هنا يتجلّى لليهود سوء ما مكروا : « وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » .
لقد دبّروا هذا التدبير السي ء ، فأبطل اللّه تدبيرهم ، وردّ كيدهم فى نحورهم ، وإذا هم وقد أرادوا أن يخرجوا المسيح من ملكوت اللّه ، قد أخرجهم اللّه من ملكوته ، وصبّ عليهم لعنته ، وحمّلهم دم نبىّ لم يقتلوه ، وقد خيل إليهم أنهم قتلوه! « 1 » وفى قوله تعالى : « إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا » يتعلق الظرف « إذ » بقوله تعالى فى الآية قبلها :
«وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ » أي مكر اللّه وتدبيره هو خير من مكرهم وتدبيرهم ثم علل لذلك وبينه بقوله :
«إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ... الآية » .
(1/463)

فقد أوحى اللّه سبحانه إلى عيسى عليه السّلام بما بيّت اللّه القوم ، ووعده سبحانه بأنهم لن ينالوا منه الذي أرادوا فيه ، إذ أنه سبحانه سيوفّيه أجله المقدور له ، غير منقوص منه شى ء ، وأن موته بيد اللّه لا بأيديهم ، وسيرفع اللّه منزلته عنده ، ويجعله من عباده المقربين إليه ، ويطهره من اليهود فلا يصلب ، ولا تمسه اللعنة ، التي أرادوا أن يلبسوه إياها بصلبه! وقوله تعالى : « وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ »
__________________________________________________
(1) سوف نعرض هذه القضية قضية صلب المسيح عند تفسير الآيتين 157 ، 158 من سورة النساء ـ ومن أراد دراسة هذه القضية من جميع جوانبها فلينظر فى كتابنا « المسيح فى القرآن »
.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 474
أي أن المؤمنين من أتباع المسيح هم فوق الكافرين إلى يوم القيامة ..
وهذا حكم عام فيما بين المؤمنين والكافرين .. فحيث كان مؤمنون وكافرون ، فالمؤمنون فوق الكافرين أبدا .. فلا يتساوى المؤمن والكافر فى المركز الاجتماعى فى الدنيا ، حيث لا يأكل المؤمن طعام الكافر ، ولا يتزوج منه ، ولا يزوّجه.
فالكافرون فى منزلة دون منزلة المؤمنين أبدا ، وإن تساووا فى الآدمية والإنسانية ، واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا » (141 : النساء).
وقوله سبحانه : « ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » .
بيان لحكم اللّه فى الآخرة بين المؤمنين والكافرين ، بعد أن بين اللّه هؤلاء وهؤلاء فيما اختلفوا فيه من الحق .. فالمؤمنون هم أهل الحق ، ولهم يحكم اللّه ، والكافرون أصحاب الباطل وعليهم يحكم اللّه ..
(1/464)

و فى الآية وعيد للكافرين ونذير بالعذاب الذي ينتظرهم ، وقد حملته الآية الكريمة تلميحا لا تصريحا ، ولكنه تلميح يشير بأكثر من إشارة إلى الآيات الكثيرة التي حملت إلى الكافرين أهوال العذاب الذي توعدهم اللّه به.
الآيتان : (56 ـ 57) [سورة آل عمران (3) : الآيات 56 الى 57]
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 475
التفسير : فى هاتين الآيتين بيان لما تضمنه قوله تعالى فى الآية السابقة عليهما :
«ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ » وفى هذا الفصل ينكشف الكافرون ، ويعرف المؤمنون ، ويفرّق بينهما فى الموقف .. كل جماعة فى جهة .. ثم يكون الجزاء لكل من الفريقين حسب عمله .. فأما الذين كفروا فلهم عذاب شديد ، ليس له من اللّه دافع ، وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفون أجرهم كاملا ، وتتلقاهم الملائكة تزفّهم إلى جنات النعيم.
وفى قوله تعالى : « فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ » ما يسأل عنه ، وهو : كيف يعذبون عذابا شديدا فى الدنيا ، وهم الآن فى الآخرة وفى موقف الحساب؟
و الجواب عن هذا ، هو أن هذا الوعيد من اللّه سبحانه وتعالى وعيد قديم ، ولكنه يتجدد بتجدد الأزمان والأحداث ، فيقع العلم به للمنذرين فى الوقت الذي ينذرون به ، لا يوم القيامة والحساب ..
وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » ما يسأل عنه أيضا .. إذ كيف يتناسب هذا ، بعد قوله تعالى : « فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ » ؟
(1/465)

و الجواب عن هذا ، هو أن المؤمنين قد بشّروا به فى قوله تعالى :
«فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ » وأنهم قد اطمأنوا إلى هذا الوعد الكريم ، ونعموا به ، وإن نعيمهم ليتضاعف حين ينظرون إلى أصحاب النّار وما يلاقون فيها من عذاب الهون ، فيسبّحون بحمد اللّه إذ نجاهم من هذا البلاء ، وغمرهم بفضله ونعمه ـ إن المؤمنين وهم فى تلك الحال ليسألون عن عذاب أهل العذاب ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 476
و ما الذي أوردهم هذا المورد الوبيل ، فيقال لهم : « وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » أي أن هؤلاء الذين يتقلبون فى النار ، إنما هم من الذين ظلموا أنفسهم ، بأن حجبوها عن الإيمان ، وسبحوا بها فى ظلمات الكفر والضلال ، فهم إذن ظالمون. « وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ » . ولن ينال رضا اللّه ، وينعم بنعيم جناته إلّا من رضى عنه وأحبّه! ومما يسأل عنه فى هاتين الآيتين : كيف جاء الوعيد للذين كفروا فى صيغة المتكلم فى قوله تعالى : « فَأُعَذِّبُهُمْ » على حين جاء الوعد للذين آمنوا فى صيغة الغائب فى قوله سبحانه : « فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ » .
(1/466)

و الجواب ، هو أن الذين كفروا لم يؤمنوا باللّه ، بل ولم يعترفوا بوجوده ، ومن هنا فإنهم لا يعرفونه ، ولا يتصورون له وجودا .. فكان من المناسب لتلك الحال أن يسمعهم اللّه صوته ، وأن يواجههم بالجريمة التي اقترفتها أيديهم ، ويلقاهم بالعذاب الذي هم أهل له .. وهذا أبلغ فى إلفات الكافرين إلى ما هم فيه من غفلة وضلال ، إذ يرون عذاب اللّه عيانا ، فى هذا النذير الذي ينذرهم اللّه مواجهة به ، « وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ » (47 : الزمر) أما المؤمنون فشأنهم مع اللّه على غير هذا .. إن اللّه معهم دائما يملأ قلوبهم ، ويعمر حياتهم ، ويرون قدرته وحكمته فى كل ما تتصل به حواسهم ، أو يتصوره خيالهم .. ومن ثم فإن ما بينهم وبين اللّه من معرفة لا يحتاج إلى إعلان .. إنهم آمنوا باللّه عن غيب ، وصدّقوا ما جاءهم به الرّسل من عند اللّه ، فكان من المناسب لحالهم تلك أن يخاطبوا من اللّه بصيغة الغيبة .. تلك الغيبة التي هى حضور جلىّ فى قلوبهم ، وظهور باد فى كل ما أبدع اللّه وصوّر!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 477
آية : (58) [سورة آل عمران (3) : آية 58]
ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
التفسير : قوله تعالى : « ذلِكَ » إشارة إلى ما تقدم مما ذكر اللّه سبحانه من أخبار المسيح ، وموقف اليهود منه ، ومكرهم ، ومكر اللّه بهم .. وما يلقى الكافرون باللّه وبرسله من عذاب ونكال ، وما يجزى به المؤمنون باللّه من رضى ورضوان ..
وقوله تعالى : « نَتْلُوهُ عَلَيْكَ » أي ذلك الذي ذكرناه لك هو متلوّ عليك من آيات اللّه ومن الذكر الحكيم ، أي القرآن الذي هو مجمع آيات اللّه المتلوّة عليك.
والمعنى أن ما يتلى عليك هو آيات من آيات اللّه المسطورة فى القرآن الكريم ، الذي ينزل عليك آية آية ، أو آيات آيات ، فيها عظة وذكرى ، وعبرة وحكمة.
آية : (59) [سورة آل عمران (3) : آية 59]
(1/467)

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
التفسير : كثر الخلاف فى المسيح عليه السلام ، لأن ميلاده كان على صورة فريدة ، لم يولد بها أحد من قبله .. وكان الناس فى هذا الميلاد شيعا وفرقا ، كل شيعه تقول فيه قولا ، وكل فرقة تذهب فيه مذهبا!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 478
أما اليهود ، فقد ارتضوا الجريمة مركبا ، فقتلوا أنفسهم ، وقتلوا الحق معهم .. وقالوا فى المسيح إنه ولد كما يولد الناس ، من ذكر وأنثى .. وإن كان ميلاده على فراش الإثم والفاحشة .. لأنه ابن زنا! وأما أتباع المسيح ، فقد قصرت مداركهم عن إدراك قدرة اللّه ، فلم تحتمل عقولهم تلك الحقيقة ، وهى أن اللّه قادر على كل شى ء ، يخلق ما يشاء ، مما يشاء ، وكيف يشاء! فقالوا : إن المسيح هو اللّه تجسد بشرا فى جسد عذراء .. وإذن فهو ميلاد صورىّ ، لأنه لم يولد إلا اللّه نفسه ، الذي كان موجودا بكماله الإلهى قبل هذا الميلاد! وإذن فلا مسيح ، وإنما هو اللّه تسمّى باسم بشرى ، كما لبس صورة بشرية .. وإذن فهى عملية أشبه بعملية الحلول التي آمن بها كثير من قدماء المصريين ، والبراهمة ، وغيرهم من الأمم .. فكما كان يحلّ اللّه فى ثور ، أو تمساح ، أو شجرة ، أو رجل .. حلّ فى جسد طفل ، وخرج وليدا من بطن امرأة.
وأما المسلمون ، فقد جاءهم القرآن بالخبر اليقين عن المسيح .. إنه خلق من خلق اللّه ، وإنه إنسان من الناس ، ولد بنفخة من روح اللّه ، كما ولد هذا الوجود كله بفيض من فيض اللّه! وأقرب مثل لهذا. آدم ـ عليه السّلام ـ إنه خلق من غير أب أو أم ..
خلق من تراب هامد ، لا أثر للحياة فيه .. وعيسى ـ عليه السّلام ـ خلق مولودا من كائن حىّ ، هى أمّه ، فأيهما أشدّ غرابة فى الخلق؟ الذي خلق من تراب هامد ، أم الذي تخلّق من جسد حىّ؟
و فى قوله تعالى : « ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » ما يسأل عنه .. وهو :
(1/468)

كيف يقول اللّه للشى ء كن ، ثم لا يكون واقعا فى الحال ، كما يدل على ذلك قوله تعالى : « فَيَكُونُ » التي تدل على المستقبل المتراخى ، ولو كان ما أمر اللّه به
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 479
واقعا فى الحال ، لكانت صياغة الآية على غير هذا ، ولكانت تلك الصياغة مثلا : « ثم قال له كن فكان » .. فكيف يكون هذا؟ وهل أمام قدرة القادر العظيم حواجز وحوائل ، تحول بين القدرة وبين إمضاء ما قدرت ، على الفور ، وفى الحال؟
و الجواب على هذا .. هو أنّ قول اللّه للشى ء « كن » لا يقتضى وقوع هذا الشي ء فى الحال ، إذ قد يكون الأمر موقوتا بوقت ، أو متعلقا بأسباب ، لا بد أن يقترن حدوثه بها ، وهذه الأسباب لا متعلّق لها بقدرة اللّه ، وإنما متعلّقها بالشي ء ذاته ، الذي دعته القدرة إلى الظهور ، والذي قضت حكمة اللّه ألا يظهر إلا بعد أن يستكمل أسبابه المقترنة به .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (82 : يس).
فمثلا مما سبق علم اللّه به ، واقتضته إرادته إيجاد ، شى ء ما ، وليكن هذا الإنسان أو ذاك ..
إن أمر اللّه قد صدر من قديم لهذا الإنسان أن يكون ، على صورة كذا ، وهيئة كذا ، وأن تحمل به أمه فى يوم كذا ، وأن يولد فى يوم كذا ..
وهكذا ..
بل وأكثر من هذا .. فإنه قبل ذلك بآلاف السنين ، بل وآلاف الآلاف منها .. تنقّل هذا الإنسان فى أصلاب الآباء وترائب الأمهات إلى أن التقى أبوه بأمه ، فى الزمن المحدد واليوم الموعود! .. وهكذا الشأن فى كل موجود .. إنه تنقل فى موجودات سبقته ، وتقلّب فى أحوال وأطوار حتى صار إلى ما صار إليه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 480
(1/469)

و فى خلق آدم ، وفى قول اللّه سبحانه وتعالى فيه : « خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » . ما يكشف عن وجه واضح من وجوه الإعجاز القرآنى ، وذلك الإعجاز الذي يطالع الناس فى كل آية من آياته ، الراصدة لأحداث الحياة ، وتطور العقل البشرى ، المتحدية للإنسانية فى كل جيل من أجيالها ، وفى كل وجه من وجوهها.
وانظر فى وجه هذه المعجزة ، على ضوء ما كشف العلم الحديث ، من علم الأحياء ، ونظرية النشوء والارتقاء ـ فإنك ترى عجبا من العجب. فى نظم القرآن الكريم ، وما يحمل هذا النظم من أسرار وغيوب.
إن آدم ـ ونعنى به الإنسان ـ لم يخلق من تراب خلقا مباشرا ، بمعنى أن اللّه سبحانه قبض قبضة من تراب ، فقال لها كونى آدم ـ أي إنسانا ـ فكانت .. ولو شاء اللّه سبحانه هذا لكان كما شاء وأراد .. ولكنه ـ سبحانه ـ خلق آدم خلقا متطورا ، كما يخلق الشجرة العظيمة ـ مثلا ـ من بذرة ، وكما يخلق الرجل المكتمل من نطفة! لقد تنقّل آدم ـ ونقول الإنسان ـ فى أطوار كثيرة لا حصر لها ، كما يقول سبحانه : « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً » (14 : نوح » وكما يقول سبحانه فى هذه السورة : « وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً » (17 : نوح).
فآدم الذي هو أول إنسان ظهر على هذه الأرض ـ قد كان ترابا ..
ثم تخلّق من هذا التراب أول جرثومة للحياة ، هى أدنى مراتب النبات ، فى عالم الطحالب .. ثم تدرجت الأحياء فى هذا العالم النباتي إلى مداها ، فكان منها النخل الذي هو قمة هذا العالم النباتي ، ثم بدأت جرثومة العالم الحيواني فى الإميبيا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 481
(1/470)

و المحّار ، والإسفنج .. وذلك فى أدنى مراتب هذا العالم الذي نما صعدا حتى بلغ مداه فى فضائل القردة ، التي بدأت تطل من وجهها صورة باهتة للإنسان « آدم » ثم أخذت هذه الصورة تتضح قليلا قليلا ، وتنضج فى بوتقة الزمن على مهل .. حتى كان اليوم الذي أطل منه وجه « آدم » ، ممثلا فى إنسان الغاب. وكان هذا الآدم هو باكورة ثمار هذه الشجرة التي امتدت جذورها فى أعماق الأرض! واقرأ الآية الكريمة مرة أخرى : « كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ .. ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ .. فَيَكُونُ » .
وقس أبعاد الزمن فى ذبذبات تلك الكلمة المعجزة .. « فيكون » .
فإنه لو انكشف لك من العلم هذا المقياس الذي تقاس به ذبذبات الكلمات ـ لاهتديت إلى ذلك الزمن الذي تم فيه خلق آدم ، وتنقله من طور إلى طور ..
من التراب .. إلى النبات .. إلى الحيوان .. إلى الإنسان ، ولوضعت يدك على العدد الصحيح من ملايين السنين التي قطعها « آدم » فى رحلته الطويلة عبر الزمن ، حتى كان هذا « الآدم » !! إن « آدم » ليس غريبا عن هذا العالم الأرضىّ الذي يعيش فيه ، والذي استولى عليه بسلطان العقل .. فهو ثمرة من ثمراته .. إنه من تراب هذه الأرض.
واقرأ مع هذا قول اللّه تعالى : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ » (4 : البلد) قوله سبحانه : « وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ .. يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » (45 : النور) وقف عند قوله
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 482
تعالى : « فَمِنْهُمْ .. وَ مِنْهُمْ .. وَ مِنْهُمْ » إنهم هم آدم ، وأبناء آدم ، ينتقلون فى أصلاب هذه الكائنات وأرحامها ، فى ملايين السنين.
الآية : (60) [سورة آل عمران (3) : آية 60]
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
(1/471)

التفسير : قوله تعالى : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ » أي هو الحقّ من ربّك ، ذلك الذي حدّثك به من أمر عيسى ـ عليه السّلام ـ وأنه خلق من خلق اللّه ، وعبد من عباده ، إنه كلمة اللّه ألقاها إلى مريم وروح منه .. فليس هو ابن زنا ـ كما يتخرص اليهود ـ وليس هو الإله ولا ابن الإله ـ كما يزعم النّصارى ، وإنما هو من حدّثك اللّه به ، في كلماته التي أنزلها عليك .. وهى الحق ، نزل من عالم الحق .. فلا مرية فيه ، ولا جدال معه.
والامتراء : هو الشك :
و فى هذه الآية تثبيت للنبيّ فى أمر المسيح ، وفى حقيقته .. حيث لا التفات إلى أية مقولة أخرى تقال فيه ، بعد قول الحق الذي قاله اللّه رب العالمين.
الآية : (61) [سورة آل عمران (3) : آية 61]
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61)
التفسير : لقد عاشت أجيال النصارى نحو سبعة قرون قبل مبعث النبي الكريم ، وهم على هذا المعتقد فى المسيح ـ عليه السّلام ـ وأنه هو اللّه ، تجسد فى بطن عذراء!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 483
و إنه لمن العسير أن يتخلّصوا من هذا المعتقد الذي دانوا به ، وأقاموا له بناء ضخما من المنطق العاطفى ، الذي امتزج بتفكيرهم ، واختلط بمشاعرهم ..
وهيهات ـ والأمر كذلك ـ أن يستمعوا إلى قول يخالف ما قالوا ، وأن يتصوّروا المسيح على غير الصورة التي انطبعت فى كيانهم.
وإذن ، فالحديث إليهم بمنطق العقل لا يجدى شيئا ، وإقامة البراهين والحجج بين أيديهم لتفنيد ما زعموا ، سيلقونها ببراهين وحجج ، وإنه لا محصّل لهذا إلّا المماحكة والجدل ، واتساع شقة الخلاف والخصام.
وإذ كان الأمر كذلك ، فلا جدال مع أتباع المسيح فيما يقولون فيه ..
(1/472)

فإن جاءوا إلى النبىّ الكريم يجادلونه ويحاجّونه ، فلا يلقاهم النبي بجدال وحجاج ، إذ خرج الأمر فيه عن العقل ومنطقه ، عند أتباعه ، وصار إلى الوجدان والعاطفة .. فليكن مقطع الحق فى هذا الموقف ، أن يصار فيه إلى الأسلوب العملىّ الملموس الذي يجابه الحواس ، ويؤثّر آثاره فيها ، بحيث يعلق الأثر بمن وقع عليه ، ويجد مذاقه .. الحلو أو المرّ ، فى نفسه.
وجاء وفد من نصارى نجران ، بعد أن أداروا الأمر فيما بينهم ، وأعدوا له العدة ـ جاءوا يحاجّون النبىّ فى « المسيح » بما عندهم من مقولات فيه ، وهم يريدون أن يسقطوا ما تلقّى النبىّ من كلمات اللّه فى المسيح وفى أمّه ، وبذلك تسقط دعوى النبىّ كلها بأنه رسول من عند اللّه ، وأن ما بين يديه من قرآن هو من عند اللّه.
وأخذ النبىّ ـ كما أمره اللّه ـ الطريق عليهم ، فدعاهم إلى أن يدخلوا معه فى تجربة عملية ، هى أبلغ من كل قول ، وأقوى من كل حجة ..
«تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 484
وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ
(1/473)

لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ » ولقد خرج النبي الكريم بنفسه ، وبابنته فاطمة ، وولديها الحسن والحسين ، وبنسائه جميعا .. وطلب إلى هذا الوفد أن يلقوه بأنفسهم ، وبأبنائهم وبنسائهم ، وأن يبتهلوا جميعا ـ هو ومن معه ، وهم ومن معهم ـ إلى اللّه : أن يجعل لعنته على الكاذب من الفريقين ، فيما يقول عن عيسى من مقولات! وتدبّر الوفد الأمر فيما بينهم ، وأداروه على جميع وجوهه ، ونظروا إلى أنفسهم ، وإلى أبنائهم ونسائهم ، فرأوا أن الأمر قد صار إلى الجدّ ، وأنهم مبتلون فى أنفسهم وأهليهم ، وهنا أعادوا النظر فيما بين أيديهم من أمر المسيح ، فرأوا أن حجتهم واهية ، وأن يقينهم الذي استيقنوه منه ، مشوب بشك يكاد يغلب هذا اليقين ، وبدا لهم أن مصرعهم وشيك هم وأهليهم إن هم باهلوا النبي ، وأن دعوتهم على أنفسهم باللعنة إن أخطأتهم ، فلن تخطئهم دعوة النبي ، التي لا ترد .. فتركوا ما جاءوا له ، وعادوا من حيث أتوا ، وفى قلب كلّ منهم وسواس ، وفى كيانه صراع عاصف ، بين الحق الذي رآه ، والباطل الذي يعيش فيه.
الآيتان : (62 ، 63) [سورة آل عمران (3) : الآيات 62 الى 63]
إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
التفسير : إن الذي يقصّه القرآن الكريم من أحداث ومواقف ، هو القصص الحق ، لأنه منزل من الحق سبحانه وتعالى .. ومن الحق الذي تحدث به القرآن :
أنه لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له ، وأن القول بأن مع اللّه آلهة أخرى ، أو أن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 485
للّه ولدا ، أو زوجا ـ هو كذب مبين ، وبهتان عظيم .. وإن من صفات اللّه إلى جانب تفرده بالألوهية ، تفرده كذلك بالعزة والحكمة .. وإن عزته ليست عزة جبرية وتسلط ، وإنما هى عزة قائمة بالحكمة والعدل.
(1/474)

هذا هو إيمان المؤمنين باللّه ، وذلك هو وصفهم له .. فإن آمن به أهل الكتاب على تلك الصفة ، فقد اهتدوا ورشدوا ، وإن تولوا فقد ضلوا وتعسوا.
وقوله تعالى : « فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ » وعيد لأولئك الذين أبوا أن يستمعوا إلى قوله الحق ، وأن يستجيبوا لما يدعوهم الرسول إليه من الحق ..
فوقوعهم تحت علم اللّه يكشف مستورهم ، ويفضح أعمالهم ، ويسجل جرائمهم التي سيجزون عليها .. ثم إن وصفهم بالمفسدين حكم بالإدانة عليهم ، وبأنهم ـ بعد كفرهم ـ قد أصبحوا فاسدين ومفسدين ، ومن كانت تلك صفته فالنار أولى به ، وبئس المصير.
الآية : (64) [سورة آل عمران (3) : آية 64]
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
التفسير : هذه دعوة عادلة إلى أهل الكتاب .. يدعوهم فيها رسول اللّه ، إلى كلمة يجتمع عليها المسلمون وأهل الكتاب ، تلك الكلمة هى : « أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ » فالتوحيد الخالص للّه ، توحيدا مصفّى من كل ضلالات الشرك وأوهامه ـ هو مضمون تلك الكلمة ومحتواها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 486
و قوله تعالى : « وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ » هو تعريض بأتباع المسيح الذين اتخذوا المسيح ـ وهو بعض الناس ـ اتخذوه إلها من دون اللّه .. فالمسيح هو إنسان من الناس ، فكيف يتخذ الناس بعضهم أربابا وآلهة؟ إنه مهما بلغ تقديرنا وإعزازنا لبعض الناس منا ، فإن ذلك لا يخرج بهم عن دائرة الإنسانية ، ولا يخرج بنظرنا إليهم عن الحدود البشرية ، وإن وضعناهم على الذروة منها.
(1/475)

و قوله تعالى : « فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ » إلفات للمسلمين إلى ما بين أيديهم من حقّ ، فى تلك الكلمة التي دعوا أهل الكتاب إليها .. فإن أباها أهل الكتاب ، وأعطوها ظهورهم ، فإن على المسلمين أن يؤذّنوا بها فى أسماع العالمين ، وأن يملئوا أفواههم وقلوبهم بها ، وأن يقولوها صريحة مدوية ، بمحضر من هؤلاء الذين صمّوا آذانهم عنها ، وأمسكوا ألسنتهم عن النطق بها .. وإشهاد أهل الكتاب على إيمان المؤمنين ، هو شهادة عليهم ، وحجة قائمة على موقفهم العنادىّ من دعوة الحق.
الآيتان : (65 ، 66) [سورة آل عمران (3) : الآيات 65 الى 66]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66)
التفسير : ينكر اللّه سبحانه وتعالى على أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ دعواهم فى إبراهيم عليه السّلام ، إذ تدّعى اليهود أنه على دين اليهودية ، وأن اليهود على دينه ، كما يدّعى النصارى أنه كان على النصرانية ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 487
(1/476)

و أنهم على دين إبراهيم! وقد كثر جدلهم وحجاجهم فى هذا .. فكان أن أنكر اللّه على الفريقين دعواهم .. « لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ » فكيف يدين إبراهيم بالتوراة والإنجيل وقد سبقهما بزمن طويل؟ وليست التوراة إحالة على دين إبراهيم ، حتى يكون ما عليه اليهود هو دين إبراهيم ، وإنما جاءت التوراة بشريعة خاصة لليهود ، وإن كانت الشرائع كلها مستمدة من مصدر واحد .. ولكن لكل دين شريعة خاصة بالجماعة المدعوة إلى هذا الدين ، قال اللّه تعالى : « لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً » (48 : المائدة).
وكذلك الشأن فى الإنجيل ، إذ ليس فيه شريعة ، وإنما شريعة أتباع الإنجيل هى التوراة! وفى قوله تعالى : « أَ فَلا تَعْقِلُونَ » تعريض بأهل الكتاب ، وبغلبة التعصب الذي أعمى بصائرهم عن النظر فى البديهيات ، فضلا عن المشكلات.
وقوله تعالى : « ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ » هو استدعاء لموقف أهل الكتاب وفيما يجادلون فيه ، مما فى أيديهم من التوراة والإنجيل عن المسيح ، وأمه ، ومولده ومعجزاته ، وصلبه .. فهذا الموقف على علّاته ، وما فيه ، من مقولات باطلة ، هو أصح من موقفهم الجدلىّ فى إبراهيم عليه السّلام ، وفى يهوديته ونصرانيته ، إذ كان الموقف الأول يستند إلى شى ء .. أي شى ء ، على حين أن الموقف الآخر لا يستند إلا على خواء!! وقوله تعالى : « وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ » إفحام لهؤلاء الذين يتقوّلون بغير علم ، وإخراس لألسنتهم التي تجادل بالزور والبهتان .. فليس لهم مع قول اللّه قول ، وليس لهم مع علمه علم .. فاللّه يعلم علما مطلقا محيطا بكل شى ء ..
وهم لا يعلمون من علم اللّه شيئا!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 488
(1/477)

الآية : (67) [سورة آل عمران (3) : آية 67]
ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
التفسير : هذا هو إبراهيم ـ عليه السّلام ـ وذلك هو دينه ..
«ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ » وقوله تعالى : « وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً » تعريض بما عليه أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ من انحراف عن الدين القويم ، الدّين الذي جاء به أنبياء اللّه إلى عباد اللّه! والحنيف هو المتعبد للّه ، الراكع الساجد لعزته وجلاله ، المائل عن طرق الهوى والضلال .. والمسلم ، هو من أسلم وجهه للّه ، وأقامه عليه وحده ، دون أن يلتفت إلى سواء.
واليهود والنصارى ، لم يسلموا وجههم لإله واحد ، قائم على هذا الوجود ، متفرد به .. إذ جعل اليهود إلههم إلها فرديّا ، هو ربّهم ، وقائد جنودهم ، وقائم على تدبير شئونهم .. هم وحدهم .. أما الناس جميعا غيرهم ، فلهم إلههم أو آلهتهم ..! ولا شأن لهذا الإله أو تلك الآلهة باليهود ، كما لا شأن لليهود بها ..
هكذا يعتقدون ..
أما النصارى فإلههم هو ثلاثة : أب ، وابن ، وروح قدس .. تجتمع وتتفرق ..
فإذا اجتمعت كانت إلها واحدا ، وإذا تفرقت كان كل منها إلها كاملا ..
وهذا وذاك ، على غير الحق ، وعلى غير ما يدين به إبراهيم ، الذي ينسبون دينهم إليه .. لأن ذلك شرك ، واللّه تعالى يقول فى إبراهيم : « وَ ما كانَ مِنَ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 489
الْمُشْرِكِينَ »
فكيف ينتسب إليه المشركون؟ وكيف تصحّ تلك النسبة ، أو تستقيم على وجه؟
الآية : (68) [سورة آل عمران (3) : آية 68]
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
(1/478)

بعد أن أبطل اللّه سبحانه دعوى اليهود والنصارى بنسبتهم إلى إبراهيم ، الذي يدينون بغير ما كان يدين به ، من توحيد اللّه ، توحيدا خالصا مطلقا ـ بيّن اللّه سبحانه ـ من هم أولى الناس بإبراهيم وبالانتساب إليه ، وبوصل دينهم بدينه ..
وإن أولى الناس بتلك النسبة لهو النبي صلّى اللّه عليه وسلّم والذين آمنوا .. إذ كان دين محمد هو الإسلام للّه ، والإقرار بوحدانيته ، وكذلك إيمان المؤمنين بمحمد .. فكل من كان على إيمان باللّه كهذا الإيمان فهو أحقّ الناس بإبراهيم ، وأقربهم نسبا إليه.
وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ » مع ما فيه من فضل سابغ على المؤمنين بولاية اللّه لهم ، وضمّهم إلى جناب رحمته ، فيه زجر لأهل الكتاب وتشنيع عليهم ، وطرد لهم من ولاية اللّه لهم ، ومن قبولهم فى المقبولين من عباده المؤمنين : « اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » (257 : البقرة).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 490
الآية : (69) [سورة آل عمران (3) : آية 69]
وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69)
التفسير : الشرّ يعمل دائما على أن يتحكّك بالخير ، وأن يدير وجهه إليه ، ليرصد كل حركاته وسكناته ، وذلك ليطمئن على وجوده القائم على الباطل ، وحتى يطفى ء تلك الشعاعات المضيئة المسلطة عليه من الحق ، والتي تهدده بفضح موقفه وسوء مصيره.
(1/479)

و هكذا أهل الباطل والضلال دائما ، فى كل أمة ، ومن كل جيل ، يهاجمون الحق فى كل سانحة تسنح لهم ، ويدبّرون له العدوان حيث وجدوا إلى ذلك سبيلا .. لأنهم يستشعرون أنهم مهددون بالضياع ، وأن تلك الخيوط الواهية التي تشدّهم إلى الباطل ، وتقيمهم على الضلال ، هى فى معرض الانحلال والتفكك ، لأدنى لمسة تلمسها بها يد الحق! فهم بهذه المحاولات التي يتهجمون بها على مواطن الحق إنما يريدون أن يدفعوا خطرا ـ متوهّما أو متحققا ـ يطلّ عليهم من آفاق الحق ومواطنه.
وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى فى القرآن الكريم كثيرا من مكايد أهل الكتاب ، وما يدبرون للمسلمين من شر ، وما يبيّتون من عدوان.
والسلاح الأول الذي يعتمد عليه أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ فى المعركة التي يدبّرونها مع الإسلام ، هو التشكيك فى رسالة الرسول ، وفى الكتاب الذي نزل عليه .. ذلك أنهم لو كسبوا المعركة فى هذه الميدان ، لأغناهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 491
ذلك عن لقاء الإسلام والمسلمين فى أي ميدان آخر .. حيث لا يكون إسلام ولا مسلمون ، متى قام الدليل على بطلان دعوة « محمد » وبطلان ما نزل عليه من عند اللّه.
ذلك هو تقدير بعض أهل الكتاب ، وهو فى ذاته تقدير سليم لو أنه صادف النبىّ والكتاب الذي نزل عليه ، كما توهموا وقدروا .. ولكن ، فى كل مرة ساق فيها أهل الكتاب كيدا إلى النبي وإلى القرآن ، رجمتهم صواعق الحق ، فولوا مدبرين ، يجرّون ثوب الخزي والخسران.
(1/480)

و فى قوله تعالى : « وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ » ما يكشف عن بعض هذه النوايا الخبيثة ، التي تنطوى عليها بعض النفوس الضالة من أهل الكتاب .. إنهم يريدون أن يفسدوا على المسلمين دينهم ، وأن يقيموهم منه على الشك ، بما يتأوّلون لهم من متشابه القرآن ، وما يصدرون لهم من شبهات ، يحيكونها من خيوط البهتان والضلال .. فبهذا إنما هم يضلّون أنفسهم ، إذ اتخذوا الضلال مركبا ، والزور طريقا ، والجدل سلاحا ، فى تلك المعركة التي اشتبكوا فيها مع الإسلام والمسلمين .. إنهم قد خسروا أنفسهم من أول الطريق ، إذ كانوا على ضلال وفى ضلال .. فإن كسبوا المعركة واستطاعوا أن يضلوا غيرهم ، فحسبهم من الغنيمة أنهم خسروا معها أنفسهم مرتين .. مرة قبل المعركة ومرة بعدها! وقوله تعالى : « وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ » قد قصر الضلال عليهم وحدهم فى سعيهم الذي سعوه لإضلال المؤمنين .. وهذا يدعونا إلى أن نسأل :
كيف يقصر الضلال عليهم وحدهم ، مع أنه من الممكن أن يكونوا قد أضلّوا غيرهم ، بما فعلوا حين احتكاكهم بضعاف الإيمان ، ممن أسلموا ولمّا يدخل الإيمان فى قلوبهم ، من الأعراب وغيرهم .. فكيف هذا؟
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 492
(1/481)

و الجواب على هذا ، هو أن هؤلاء الضالين من أهل الكتاب ، إذ يسعون إلى إضلال غيرهم الذين استقام طريقهم على الهدى ـ هؤلاء إنما يضلون أنفسهم ، أي يغرقونها فى الضلال ، وأما هؤلاء الذين أغواهم هؤلاء الضالون ، وأركبوهم معهم مركب الضلال ، فإنهم عب ء جديد يثقل هؤلاء الضلال ، ويغلظ جريمتهم ، ويضاعف إثمهم.! فالواقع ـ والأمر كذلك ـ أنهم لم يضلّوا إلا أنفسهم ، فيما سعوا فيه ، من إضلال غيرهم ، وأنهم حملوا فوق ظهورهم أوزار هؤلاء الذين أضلوهم .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ » (24 ، 25 : النحل).
الآيتان : (70 ـ 71) [سورة آل عمران (3) : الآيات 70 الى 71]
يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
التفسير : بعد أن كشفت الآية السابقة عن بعض النوايا السيئة التي يعيش فيها فريق من أهل الكتاب ، الذين يتربصون بالمؤمنين ، ليضلّوهم ، وليفسدوا عليهم دينهم الذي ارتضوا ـ بعد هذا التفت ـ سبحانه ـ إلى هؤلاء الضّالين المضلّين من أهل الكتاب ، وخاطب فيهم أهل الكتاب جميعا ، إذ كان هؤلاء هم علماؤهم وأهل الكلمة فيهم .. فقال سبحانه :
«يا أَهْلَ الْكِتابِ » أي يأمن منّ اللّه عليهم بكتاب من عنده ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 493
فيه رحمة وهدى ونور ، فكفروا هذه النعمة ، وعموا عن هذا الهدى والنور اللذين يشعّان منها :
«
(1/482)

لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » أي وأنتم تشهدون ما فى آيات اللّه من عبر وعظات ، وما فيها من دلائل على قدرة اللّه ، وحكمته ، وعلمه .. إنها تنطق بالحق لو وجدت من يسمع ، وإنها لتشعّ بالنور لو وجدت من يبصر ..
«يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ » ونداؤهم مرة أخرى ونسبتهم إلى الكتاب توكيد لهذه التذكرة ، إن كانوا ممن يتذكرون ..
وفى قوله تعالى : « لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ » عرض لبعض أفاعيلهم وفضح لما هم فيه من ضلال .. إنّهم يلبسون الحق بالباطل ، أي يغطّون وجه الحق ، ويسترونه بدخان الباطل والضلال ، فيشتبه على الناس وجه الحق ، وتتفرق بهم السبل إليه .. وإنهم ليكتمون الحقّ الذي يعرفونه من أمر محمد والقرآن الذي نزل عليه ، وليس ذلك الكتمان عن جهل ، وإلا لكان لهم ما يعذرون به ، ولكن كتمانهم هذا عن علم ومعرفة ، وتلك هى مصيبة المتكبرين ، وآفة الحاسدين ، الحاقدين. « وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » ؟
الآية : (72) [سورة آل عمران (3) : آية 72]
وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 494
التفسير : من مكر بعض الطوائف من أهل الكتاب ، وكيدهم للإسلام والمسلمين ، تلك التجربة التي أرادوا أن يفسدوا بها على المسلمين دينهم ، وأن يدخلوا الشك عليهم من جهته ، وهذه الطائفة هى من جماعة اليهود ، الذين يكيدون للإسلام ويتربصون به.
وانظر كيف سوّلت لهم أنفسهم ، وإلى أين قادهم الحقد ودفع بهم الحسد؟
لقد ائتمروا فيما بينهم ، وتخيروا جماعات منهم يدسونهم فى الإسلام ، ويدخلونهم مع المسلمين ، على حساب أنهم دخلوا فى الإسلام ، وصاروا من المسلمين ..
هذه هى المرحلة الأولى من مراحل التجربة ..
(1/483)

و إذا دخلت هذه الجماعة فى الإسلام ، وحسبت فى المسلمين ، فإن لها أن تحدّث عن الإسلام ، وأن تقول قولتها فيه ، وفيما وجدت منه! وما ذا لو أنّها قالت فى الإسلام قولة السوء؟ وما ذا لو رمت الإسلام بكل نقيصة ومعيبة؟
أ ليست لسانا من ألسنة المسلمين؟ وأليس ما تقوله عن علم وتجربة؟ ومن ذاق عرف ، كما يقولون؟ إن ذلك من شأنه أن يحدث اضطرابا وحلخلة فى المجتمع الإسلامى ، وأن يثير شكوكا فى قلوب الضعفاء والجهلة ، وعند من لم ترسخ أقدامهم بعد على طريق الإسلام.
ذلك ما قدره أصحاب هذه « اللعبة » لتجربتهم الصبيانية تلك ..
وقد جاء أمرهم على غير ما قدروا ودبّروا! فبدلا من أن يثيروا البلبلة والاضطراب فى محيط الإسلام والمسلمين ، وقع الاضطراب والبلبلة فى جماعتهم هم ، وإذا كثير من هؤلاء الذين أرسلوهم ليكونوا كلاب صيد فى حمى الإسلام ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 495
صادهم الإسلام ، وعلقوا فى حباله .. فما أن عاش بعضهم فى الإسلام ساعات حتى استولت عليه روح الإسلام ، وطردت من كيانه نوازع الزيغ والضلال ، فدخل فى الإسلام عن يقين ، بعد أن كان قد غشى حماه للكيد والإفساد ..
ومن غلبت عليه شقوته من كلاب الصيد هذه ، فلم يدخل الإسلام ولم يعتقده ، عاد إلى جماعته مثخنا بالجراح ، فلم يصبح مسلما ، ولم يعد كافرا. ، بل تحوّل إلى منافق ، يتردد أمره بين الإيمان والكفر ..!
من أجل هذا كان من وصاة تلك الجماعة المتآمرة ، لمن ترسلهم من كلاب الصيد هذه ـ كانت وصاتهم لهم : « وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ » يحذّرونهم من أن يلقوا أسماعهم إلى المسلمين ، وأن يفتحوا قلوبهم إلى ما يحدّثونهم به من الإسلام ، وإلا ساءت العاقبة ، وفسد التدبير! وقد شاء اللّه أن تسيى ء العاقبة ، عاقبة تلك الجماعة المتامرة ، وأن يفسد تدبيرها. ويسوء مصيرها. فتعلو كلمة الإسلام ، ويموت الشانئون والكائدون ، غيظا وكمدا!
(1/484)

الآيتان : (73 ـ 74) [سورة آل عمران (3) : الآيات 73 الى 74]
وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
التفسير : فى قوله تعالى : « قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ » رد على أولئك الذين اعتقدوا أنهم على الحق ، وهم الضالون المضلون. ولم يقع فى تصورهم أن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 496
يكون للّه سبحانه وتعالى فضل على غيرهم ، أو أن يؤتى ـ سبحانه ـ أحدا غيرهم كتابا ، كما أتاهم كتابا ، فمكروا به وحرّفوه.
لهذا أمر اللّه نبيّه ـ عليه السّلام ـ أن يبطل هذا التصور الفاسد الذي تصوروه ، وأن يقول لهم كلمة الحق التي ألقاها اللّه إليه : « إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ » أي إن الهدى هو ملك للّه ، لا ملك لأحد معه فيه ، وأنه نعمة من نعمه ، ورزق من أرزاقه ، يضعه حيث يشاء ، ويهدى به من يشاء ، وأنه ليس محبوسا على اليهود وحدهم ، مقصورا عليهم ، لا ينال منه أحد غيرهم ..
(1/485)

و فى قوله تعالى : « أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ » ما يكشف عن ظن اليهود بأنفسهم ، وأنهم فوق العالمين ، وأن اللّه هو ربّهم وحدهم ، وأن رحمته ونعمته لا تنزلان إلا عليهم ، وهم لهذا ينكرون كل نعمة تصيب غيرهم ، وكل فضل يناله سواهم. كما يقول اللّه سبحانه وتعالى عنهم « وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً ، حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ » (109 البقرة) ويقول سبحانه فيهم : « أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ » (54 : النساء) المصدر المؤول من أن وما بعدها فى قوله تعالى : « أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ » هو معمول للام التعليل المتعلق بفعل محذوف قبله ، تقديره :
فلا تقتلوا أنفسكم حسدا لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ، أو لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ركبتم الضلال وعميتم عن الحق ، وفقدتم عقولكم فأهلكتم أنفسكم؟
و قوله تعالى : « أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ » معطوف على قوله تعالى « أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 497
و المعنى : أ لأن أوتى المسلمون كتابا من عند اللّه فاهتدوا ، كما أوتيتم أنتم كتابا من عند اللّه فلم تنتفعوا به ، وقامت الحجة به عليكم ، ولأن أصبح للمسلمين الحجة عليكم بهذا الكتاب الذي فى أيديهم ، والذي يحدّث عنه كتابكم الذي فى أيديكم ـ أ لهذا وذاك جحدتم الحق ، وتنكرتم له ، وحرّفتم كتابكم ليلتقى ما فيه مع أهوائكم ، وليطفى ء داء الحسد المتقد فى صدوركم؟
(1/486)

و لقد مكر اليهود بأنفسهم ، وأفسدوا الكتاب الذي فى أيديهم ، والذي يحدّث عن محمد ، ويبشر به وبكتابه الذي أنزله اللّه عليه ، حتى لا يكون للمسلمين حجة عليهم يلزمونهم بها ، وما تنطق به التوراة من تصديق بمحمد وبكتاب اللّه الذي معه .. وفى هذا يقول اللّه تعالى عنهم : « أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ » (75 ـ 76 البقرة) ذلك أن اليهود كانوا يعلمون ما فى التوراة عن « محمد » وعن رسالته ، وأنّهم قد استقبلوا محمدا من أول الأمر بالتكذيب ، وبادءوه بالعداوة والبغضاء ، فلم يكن لهم ـ والشأن كذلك ـ إلّا يمضوا فى الشوط إلى نهايته ، بل وأن يمعنوا فى التكذيب ، وأن يتطاولوا فى العداوة والبغضاء .. وكان من أسلحتهم فى تلك الحرب أن يطمسوا ما فى التوراة من الحق الذي تتحدث به عن « محمد » ورسالته.
وقوله تعالى : « قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » هو ردّ آخر على اليهود الذين أرادوا أن يحتجزوا فضل اللّه ، وأن يجعلوه خالصا لهم .. شحّا وحسدا أن يصيب أحد خيرا غيرهم .. « وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » يسع فضله النّاس جميعا ، دون أن ينقص من فضل اللّه شى ء .. ولكن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 498
(1/487)

اليهود يرون اللّه وكأنه أحد أغنيائهم ، وأنه بقدر ما ينفق ، يكون النقص فيما بين يديه من مال ، ولو استمر فى الإنفاق لنفد ما بين يديه .. وفيهم يقول اللّه تعالى : « قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً » (100 : الإسراء).
وللإنسان أن يذهب مذهب التقتير ، لأنه إنسان ، ملكه محدود وإن بلغ ما بلغ من كثرة واتساع ، وتعالى اللّه علوا كبيرا أن ينظر إليه وإلى فضله هذا النظر الذي يجعله والناس على سواء وقد كشف اللّه سبحانه وتعالى عن هذا الخلق اللئيم المندسّ فى طبيعة اليهود ، وهو الحسد القاتل ، الذي يأكل صدورهم ، إذا نال أحد من الناس خيرا .. يقول اللّه تعالى : « أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ « 1 » يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ « 2 » وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً » (51 ـ 52 ـ 53 : النساء) .. إنها كزازة نفس ، وسوء خلق ، وفساد ضمير ، وأنانية فاتلة ، وشحّ لئيم.
وقوله تعالى : « يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ » رد ثالث على اليهود بأن فضل يقع حيث يشاء ، وينزل حيث أراد اللّه أن ينزل : « اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ » وفضل اللّه عظيم ، ورحمته واسعة « فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً » (78 : النساء)
__________________________________________________
(1) وهم اليهود.
(2) أي الضلال والبهتان. [.....]
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 499
الآية : (75) [سورة آل عمران (3) : آية 75]
(1/488)

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75)
التفسير : الأحكام التي جاء بها القرآن فى شأن اليهود ، والتي كشف بها ما فى نفوسهم من ضلال ، وما فى قلوبهم من حسد وبغضاء للناس عامة ، ولأهل الإيمان خاصة ـ هذه الأحكام وإن شملت غالبية اليهود ، ودمغت أحبارهم وعلماءهم وأصحاب الكلمة فيهم ، إلا أنها ليست على إطلاقها ، فليس هناك شر محض ، ولا خير خالص ، فمهما استشرى الشر فإن فيه لمعا من الخير لا تكاد ترى ، ومهما صفا الخير فإن فيه غشاوات من الشر لا تكاد تبين! واليهود وإن كانوا الشرّ كله ، من الرأس إلى القدم ـ ففيهم الضالون ، وفيهم المؤمنون .. كما يقول اللّه تعالى : « مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ » (110 : آل عمران).
وفى هذا المدخل الضيق إلى الإحسان والإيمان ما يسمح لأىّ من هذه الجماعة الضالة أن ينجو بنفسه ، وأن يتحول إلى تلك القلة القليلة من المحسنين المؤمنين فيهم ..
وفى قوله تعالى : « وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ » استثناء من الحكم العام الذي حكم به اللّه على اليهود .. وهذا باب رحمة لمن أراد اللّه له التوفيق والهداية منهم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 500
ففى تلك الجماعة الضالة المعربدة أفراد قليلون يخافون اللّه ويرعون الأمانة التي فى أيديهم ، سواء أ كانت من اللّه أم من الناس ، فلم يخونوا أمانة اللّه ، ولم يكتموا ما فى أيديهم من التوراة عن النبىّ « محمد » ورسالته ، ولم يخونوا الناس فى الأمانات التي اؤتمنوا عليها ، وإن كانت القناطير المقنطرة من الذهب والفضة ..
(1/489)

و هؤلاء النفر القليل هم الذين ذكرهم اللّه سبحانه وتعالى فى قوله سبحانه « مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ » :
(113 ـ 114 : آل عمران) أما أكثر هذه الجماعة فهى على الضلال والعمى ، وفى العداوة والبغضاء والحسد للناس جميعا ، ولأهل الإيمان بخاصة .. فهذه الكثرة لا ترعى أمانة اللّه ، ولا تحفظ أمانة الناس .. أما حسابهم مع اللّه فقائم على أنهم أبناؤه وأحباؤه ، لهم أن يفعلوا معه ما يشاءون ويشاء لهم الهوى ، دون أن ينالهم بشى ء من عقابه وعذابه .. وأما حسابهم مع الناس ، فالناس فى نظرهم وتقديرهم فى درجة دون درجتهم ، وبينهم وبين الناس حجاز فى الفضائل وفى التكوين الجسدى والخلقي والروحي ، كهذا الحجاز الذي بين الناس وفصائل القردة والحيوانات القريبة الشبه بالإنسان.
فالناس ـ فى تقدير اليهود ـ قطيع من الحيوان ، وإن لهم ـ بهذا التقدير ـ أن يستغلّوا هذا القطيع الآدمي ، كما يستغلّون الحيوان ، وألا يرتبطوا معه بروابط العقود والوثائق ، وإن ارتبطوا فلهم أن يتحلّلوا منها ما وسعهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 501
(1/490)

الحول والحيلة « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ » أي لا حرج علينا ، ولا حائل من خلق أو دين يحول بيننا وبين أن نستغلّ الأميين ، بشتى الصور ومختلف الأساليب! والأميون هم غير اليهود ، وهم العرب خاصة ، إذ كانوا ولا كتاب لهم .. وقد منّ اللّه على هؤلاء الأميين ـ أي العرب ـ إذ بعث فيهم رسولا منهم ، فقال تعالى « لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ » (164 : آل عمران).
قوله تعالى : « وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » تكذيب لا دعائهم بأن ليس عليهم حرج ، فيما نقضوا من عهود ، أو ضيّعوا من حقوق فيما بينهم وبين غيرهم ، فقد أقاموا هذه الدعوى على أساس من دينهم وشريعتهم ، إذ كانوا أهل دين وأصحاب شريعة ، وليس فى دينهم الذي أنزله اللّه على أنبيائهم ولا فى الشريعة التي حملها هذا الدين ـ إباحة للبغى والعدوان ، ولا دعوة للسلب والنهب والسرقة ، ولا تفرقة بين الناس والناس فى الحقوق والواجبات! وإنما بدل اليهود فى التوراة وغيّروا ، ودسوا فيها من الأحكام والشرائع ما يغذّى غرورهم الزائف ، ويرضى شعورهم المريض ، نحو الإنسانية كلها ، وأهل الأديان خاصة.
الآية : (76) [سورة آل عمران (3) : آية 76]
بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 502
التفسير : قوله تعالى : « بَلى » هو لفظ يجاب به على سؤال فى معرض النفي ، فيجعل المنفىّ واقعا مثبتا.
وعلى هذا فإنّ قبل لفظة « بلى » سؤال منفى ، وهذه اللفظة وما بعدها جواب عن هذا السؤال.
(1/491)

و السؤال محذوف .. وتقديره : ألم يكن هؤلاء الذين إذا ائتمنوا على قنطار أدوه .. ألم يكونوا من جماعة اليهود ، تلك الجماعة الضالة التي حكم اللّه عليها باللعنة والطرد ..؟
و الجواب : بلى .. إنهم منهم ، ولكن لكلّ حسابه وجزاؤه .. فمن أوفى بعهده فيهم ، واتقى اللّه فى الأمانة التي أؤتمن عليها ، فلن يأخذه اللّه بجناية قومه ، بل هو ممن أحبهم اللّه ورضى عنهم « فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ » فكيف لا يتقبل عملهم؟ وكيف يجعلهم والمجرمين على سواء؟ « أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ؟ » (35 ـ 36 : القلم)
الآية : (77) [سورة آل عمران (3) : آية 77]
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77)
التفسير : بعد أن عزل اللّه سبحانه المتقين من أهل الكتاب ، وضمّهم إلى أهل رحمته ومرضاته ـ كشف سبحانه وتعالى عن المصير السيّ ء الذي ينتظر الجماعة الباغية الضالة من اليهود ، وهم الكثرة الغالبة فيهم .. فوصفهم اللّه سبحانه وصفا كاشفا ، ودمغهم بجرائمهم الشنيعة ، التي يحملونها على ظهورهم إلى يوم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 503
الحساب .. فقال تعالى « إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا » .. فهم قد نقضوا عهد اللّه ، وما عاهدهم عليه فى قوله سبحانه :
«
(1/492)

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ » وقد كذب أهل الكتاب هؤلاء على اللّه ، وبدلوا آياته ، وأنطقوا كتابه بما أملته أهواؤهم ، وحلفوا على هذا البهتان ، وأكّدوا هذا الزور بأيمان بالغة.
وهم بهذا الإثم الذي ارتكبوه قد باعوا آخرتهم ، لقاء قليل من حطام الدنيا.
فإذا كانت الآخرة جى ء بهم إليها وليس لهم نصيب من نعيمها ، وإنما لهم ما ينتظرهم من نكال وعذاب .. « أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ » والخلاق الحظ والنصيب « وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ » فهم مطرودون من رحمة اللّه ، مبعدون من مواطن رضاه ومغفرته .. لا يكلمهم اللّه ، حين يكلم عباده الذين رضى عنهم ، لأنهم ليسوا أهلا لأن يسمعوا كلام رب العالمين ، إذ أصمّوا آذانهم عن سماع كلماته التي حملها إليهم رسله الكرام ..
ولا ينظر إليهم ، نظر رحمة ومودة .. لأنهم أغمضوا أعينهم عن النظر فى آيات اللّه وتدبر ما فيها من هدى ونور .. ولا يزكيهم ـ أي ولا يطهرهم من الآثام التي حملوها معهم ، ولا ينالهم بمغفرته ورحمته ، كما يتجاوز لأهل مودته عن سيئاتهم. « وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ » فتلك هى عقبى الذين كذبوا على اللّه ، وبدّلوا نعمة اللّه كفرا وأحلّوا قومهم دار البوار.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 504
الآية : (78) [سورة آل عمران (3) : آية 78]
وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)
(1/493)

التفسير : هذه الآية تكشف عن فريق آخر من أهل الكتاب ، من جماعة اليهود ، بعد أن كشفت الآيات السابقة عن جماعة من أهل العلم فيهم ، يتّجرون بما عندهم من علم ، ويبيعونه لمن يشترى .. أما هذا الفريق فهم. « يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ » أي يتلون آيات الكتاب تلاوة تلوكها ألسنتهم ، وتلتوى بها شفاههم ، فلا تخرج الكلمات إلا متآكلة متكسرة ، يختلط بعضها ببعض ، لا يدرى أحد ما مدلولها ، ولا يهتدى أحد إلى وجه الحقّ فيها .. فهى أقرب إلى الرمز منها إلى الكلام .. « وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ .. وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » أنه الكذب .. أي أن كذبهم هذا على علم ، وهو شرّ ما عرف من الكذب ، وأبغض ما ظهر للناس من وجوهه.
الآيتان : (79 ، 80) [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80]
ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
التفسير : فى هاتين الآيتين يكشف اللّه سبحانه عن تلك المفارقات البعيدة بين دعوات الأنبياء ، وبين ما يدخله أتباعهم على تلك الدعوات من افتراء وبهتان.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 505
فالنبىّ ـ وإن كان بشرا من البشر ، وإنسانا من الناس ـ هو ممن اصطفاه اللّه ، وتخيره من بين الناس ، ليقوم بالسفارة بين اللّه وبين وعباده.
(1/494)

و اللّه سبحانه وتعالى ، إنما يتخير سفراءه من صفوة خلقه ، ثم يكملهم ويحمّلهم بما يفيض عليهم من نفحات رحمته ، وغيوث بركاته ، فإذا هم بعد هذا الأدب الربانىّ أكمل الناس كمالا ، وأصدقهم قولا ، وأبعدهم عن مواطن الشبه والريب ، .. بل هم الكمال كله ، والصدق جميعه ، والفضيلة فى تمامها وكمالها ..
فإذا جاء أتباع رسول من رسل اللّه ، وبأيديهم كتاب يضاف إليه هذا الرسول ، وعلى ألسنتهم كلمات يحسبونها عليه ، ثم كان فى هذا الكتاب ما ينقص من جلاله وكماله ، وكان فى تلك الكلمات ما يجعل للّه ما لا ينبغى لذلك الجلال والكمال ـ فآفة ذلك هم الأتباع ، الذين غيروا فى الكتاب وبدّلوا ، وتقوّلوا على الرسول ، ونسبوا إليه ما نسبوا ، زورا وبهتانا ، ليجدوا لما تقوّلوا وزيّفوا طريقا إلى الآذان ، حين ينسبونه إلى الرسول ، ويضيفونه إلى ما تلقوا من كلماته التي هى كلمات اللّه.
وهذا الموقف يظهر على تمامه ، فيما كان بين المسيح وأتباعه .. فقد جاء المسيح ـ عليه السّلام ـ إلى الناس مرسلا من عند اللّه ، برسالة قائمة على سنن الأنبياء والمرسلين الذين سبقوه ، كما ينقل ذلك عنه أتباعه فى كلمات صريحة واضحة إذ يقول : « ما جئت لأنقض الناموس والأنبياء بل لأكّمل » .
ومع هذا الذي يقوله السيد المسيح ، وينقله عنه أتباعه ، ويؤمنون به ـ فإنهم يلتقون بالسيد المسيح فى آخر المطاف ، فإذا هو اللّه رب العالمين ، تجسد فى كائن بشرى ، وعاش ما عاش بين الناس ، ثم قدّم نفسه قربانا ليفتدى البشرية ويخلّصها من الخطيئة التي هى ميراث الناس جميعا من أبيهم آدم .. فكان أن عمل المسيح على إثارة ثائرة اليهود عليه ، ليصلبوه ، وليؤدّى بهذا الصلب الفداء
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 506
(1/495)

المطلوب لخلاص البشر .. وقد تم له ما أراد ، وقدّم إلى الصلب ، وصلب!! هكذا يقول أتباع المسيح عن المسيح وفيه! وهى مقولات تنقضها كلمات المسيح نفسه فى الإنجيل أو الأناجيل التي فى يد أتباعه ، كما ينقضها تاريخ الرسل والأنبياء السابقين له ، ونبى الإسلام الذي جاء من بعده ، وينقضها قبل ذلك كله ، وبعد ذلك كله ، المنطق السليم ، والعقل المطلق من قيد الهوى ، المتحرر من عبودية التقليد والمحاكاة.
وفى قوله تعالى : « ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ » ... وفى ذكر « بشر » بدل « نبىّ » ما يشير إلى أن النبىّ بشر من البشر ، وأنه إذا جاز على البشر الكذب والافتراء على اللّه وعلى الناس ، فإن النبي ـ وهو بشر ـ لا يكون منه أبدا الكذب والافتراء على اللّه أو على الناس .. وإلا كان ذلك اتهاما للّه ، ورميا لعلمه بالقصور ، ولقدرته بالعجز ، ولحكمته بالنقص ، حيث اصطفى واختار من يحمل رسالته ، ويودّى أمانته ، ثم لم يكن من هذا المصطفى المختار إلا أن زيف الرسالة وخان الأمانة .. وبدلا من أن يكون داعيا للّه ، هاديا إليه ، تحول إلى داعية لنفسه ، قائدا الناس إلى الهلاك والضلال .. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا .. وإنه لن يرضى أسوأ الحكام وأجهل الأمراء أن ينسب إليه مثل هذا العجز وسوء التقدير فى اختيار أعوانه وسفرائه. فكيف بأحكم الحاكمين .. اللّه رب العالمين؟
(1/496)

و فى الآية حذف دل عليه سياق الكلام .. وتقديره : « ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ » ليدعو الناس إلى اللّه ، وإلى الإقرار بوحدانيته .. « ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ » وقوله تعالى : « وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ » أي ولكنه يدعوكم إلى أن تكونوا ربانيين أي مؤمنين باللّه ، دعاة إلى اللّه ، إذ كنتم علماء ، وللناس
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 507
على العلماء حقّ هو أن يعلموهم ما علموا.
والالتفات هنا من الغيبة إلى الحضور ، هو إمساك بمخانق علماء أهل الكتاب ، وهم متلبسون بهذا الضلال الذي هم فيه ، يطعمون منه ويطعمون أتباعهم من هذا الزاد الفاسد ، الذي يهلك من يتناوله ويتزوّد منه.
وقوله تعالى : « وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً » معطوف على قوله تعالى : « ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ » .. ويكون معنى القول هنا الأمر ، أو يكون معنى الأمر فى قوله تعالى : « وَ لا يَأْمُرَكُمْ » القول ..
أي ولا يقول لكم أن اتخذوا الملائكة والنّبيّين أربابا.
وفى قوله تعالى : « أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » ما يسأل عنه .. وهو : هل كانوا مسلمين قبل أن يجيئهم الرسول ويدعوهم إلى ما دعاهم إليه؟ وإذا كان كذلك فما داعية إرساله إليهم؟
(1/497)

و الجواب على هذا ، هو أن أتباع المسيح الذين التقوا به ، وآمنوا بدعوته ، كانوا على هدى وبصيرة من أمر تلك الرسالة الكريمة التي حملها عيسى عليه السلام ، وهم بهذا كانوا مؤمنين ، مسلمين ، بل كان منهم الحواريون الذين أوحى اللّه إليهم! فهذه هى دعوة عيسى ، وتلك هى رسالته ، وهؤلاء هم أتباعه الذين آمنوا به وحقّ لهم الانتساب إليه ، وإلى المسلمين! ومع الأيام ، وانتقال الشريعة اليهودية المسيحية إلى مواطن غير موطنها دخل عليها كثير من الحذف والإضافة ، والتأويل ، والتخريج ، حتى أصبح لها وجهان .. وجه بدأت به ، ووجه آخر انتهت إليه ، وبين الوجهين من الخلاف ما بين الأبيض والأسود من خلاف. وتضادّ.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 508
بدأت المسيحية بالمسيح رسولا وانتهت به إلها يدعو إلى عبادته وعبادة أمّه .. كما يقول اللّه تعالى « وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ » (116 : المائدة).
بدأت المسيحية إسلاما يدين بها المسلمون ، وانتهت إلحادا يدين بها من يعبدون المسيح ، ويؤلهون أم المسيح! وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى : « أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ » . أي أ يدعوكم المسيح أيها الذين آمنوا به إلها ، إلى الكفر باللّه ، بعد أن دعا آباءكم الأولين إلى الإيمان به فكانوا من عباده المسلمين؟
أ يدعوكم إلى هذا الذي تدّعون؟ ذلك محال! إن دعوة المسيح هى تلك الدعوة التي دعا إليها آباءكم الأولين ، فآمنوا وأسلموا عليها ، فكيف تكون تلك الدعوة نفسها هى التي بين أيديكم ، والتي تدعوكم إلى الإيمان به إلها من دون اللّه؟ ما تأويل هذا وما منطقه؟
(1/498)

إنه لا تأويل لهذا إلا أن تحريفا دخل على دعوة المسيح فغيّر وجهها ، وقلب حقيقتها ، وإنه لا منطق لهذا إلا أن يكون هناك مسيحيان : مسيح عرفه المسيحيون الأولون .. المؤمنون المسلمون ، ومسيح عرفتموه أنتم وعبدتموه من دون اللّه! وأما وليس إلا مسيح واحد ، فالكلمة الآن لكم ، لتقيموا لهذا التناقض وجها ، ولتجعلوا له منطقا ، إن كان للجمع بين المتناقضين وجه أو منطق!!.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 509
الآيتان : (81 ـ 82) [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 82]
وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82)
التفسير : النبيّون صلوات اللّه عليهم قائمون على أمر واحد ، هو الدعوة إلى اللّه ، وكشف معالم الطريق للناس إليه ، ودعوة الناس بدعوة الحق والخير كما أمر اللّه.
ومن ثمّ كانت الجامعة بينهم ، وكان النسب والقرابة! إذ كانوا جميعا يعملون فى ميدان واحد ، وغاية واحدة .. ونجاح الدعوة لأىّ منهم هو نجاح ضمنى لهم جميعا ، وهو انتصار فى موقع من مواقع الحق الذي يجاهدون فى سبيله.
وقوله تعالى : « وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ » هو توكيد لهذه الجامعة التي تجمع بين النبيين ، وتوثيق للأمر الذي شدّوا أيديهم عليه وعلى الجهاد فى سبيله.
(1/499)

فلقد أخذ اللّه العهد على النبيين واحدا واحدا ، فيما ندبهم له ، وفيما دعاهم إليه ، وهو أن تتوحد فى مجال الجهاد رايتهم ، وألا ينسخ بعضهم بعضا ، أو ينعزل بعضهم عن بعض .. فإذا قام نبىّ منهم يدعو إلى اللّه ، ثم جاء نبىّ آخر يدعو بتلك الدعوة ، كان على كل منهما أن يصدّق الآخر ، ويؤمن به ، وينصره فيما يدعو إليه ، لأن نصرة هذا النبىّ نصرة له ، ونصرة لرسالتيهما معا.
وليس هذا شأن الأنبياء وحدهم ، فى إيمان بعضهم ببعض ، وتصديق بعضهم بعضا ، ونصرة بعضهم لبعض .. بل هو شأن أتباع الأنبياء جميعا ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 510
إذ هم المؤمنون باللّه ، وكتبه ورسله ، فكل دعوة نبىّ هي دعوة جميع الأنبياء وأتباع الأنبياء ، ومعاداة أي نبى وأتباع أي نبىّ هى محاربة للّه ولرسوله وللمؤمنين : « إنما المؤمنون إخوة » وأتباع الأنبياء ، المؤمنون برسالات الأنبياء ، هم جميعا إخوة ، يجمعهم التوحيد باللّه ، والعبودية للّه! وفى قوله تعالى : « لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ » اللام موطئة للقسم الذي تضمنه العهد والميثاق الذي واثق اللّه به النبيين وعاهدهم عليه ، والتقدير « وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ » لئن آتيتكم النبوة وما معها من كتاب وحكمة « ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ » .
وقوله تعالى : « مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ » وصف للرسول الذي يجب الإيمان به ونصرته ، وهو أن يكون ما معه من كتاب ، وما يدعو إليه من دين ، قائما على السنن الذي دعا إليه أنبياء اللّه ورسله ، من الإيمان باللّه الواحد الأحد ، المنزه عن الشريك والولد ، فمن دعا إلى غير هذه الدعوة فليس نبيا وليس رسولا ، فما أكثر أدعياء النبوة ، ومدّعى الرسالة.
(1/500)

قوله تعالى : « قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي » الإصر العهد الموثّق .. وفى استحضار النبيّين ، وأخذ الإقرار من أفواههم ، وإشهادهم عليه ، ثم شهادة اللّه على ما شهدوا عليه .. كل هذا يدل على ما لهذا الأمر الذي عاهدهم اللّه عليه من شأن وخطر عظيمين : « قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ » .. وكفى باللّه شهيدا.
وقوله تعالى « فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ » توكيد لهذا العهد ، وتجريم لمن نقضه ، ووقف من أنبياء اللّه ورسله موقف المشاق المنابذ ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 2 ، ص : 511
و فى الآية الكريمة تعريض بأهل الكتاب ، وخاصة اليهود ، الذين نقضوا عهد اللّه ، هذا الذي أخذه على أنبيائهم وعلى أتباع أنبيائهم ، فكذّبوا بمحمد وبهتوه ، وكتموا ما فى أيديهم من كتاب اللّه الذي لو استقاموا على ما فيه لكانوا أول المصدقين بمحمد ، والمؤمنين به ، إذ كانت التوراة تشهد لمحمد ولرسالته ، وتبشّر به ، كما يقول اللّه تعالى فى أهل الكتاب ، وموقفهم من الرسول الكريم « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » (146 : البقرة) ويقول سبحانه أيضا : « وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ » (89 : البقرة).
وقد وصف اللّه سبحانه وتعالى أهل الكتاب هؤلاء الذين يكذبون رسل اللّه ويبهتونهم ، بالفسق .. والفسق ـ فى اللغة ـ هو الخروج من حال إلى حال ، ومن شأن إلى شأن ، ثم كثر استعماله فى الخروج من خير إلى شر ..

Aucun commentaire: