lundi 30 juin 2014

محاكمة غاليليو

Galileo Galilei‏ (15 فبراير1564 - 8 يناير1642)عالِم فلكي وفيلسوف وفيزيائي إيطالي، ولد
في بيزا في إيطاليا. نشر نظرية كوبرنيكوس ودافع عنها بقوة على أسس فيزيائية، فقام أولا بإثبات خطأ
نظرية أرسطو حول الحركة، وقام بذلك عن طريق الملاحظة والتجربة.
كتب Galileo Galilei‏كتابا تحدث فيه عن ملاحظاته ونظرياته، وقال أنها تثبت الأرض كوكب
صغير يدور حول الشمس مع غيره من الكواكب، وشكا بعض أعدائه إلى سلطات الكنيسة الكاثوليكية بأن
بعض بيانات جاليليو تتعارض مع أفكار وتقارير الكتاب المقدس، وذهب جاليليو إلى روما للدفاع عن نفسه
وتمكن بمهارته من الإفلات من العقاب لكنه انصاع لأمر الكنيسة بعدم العودة إلى كتابة هذه الأفكار مرة
أخرى، وظل ملتزما بوعده إلى حين، لكنه كتب بعد ذلك في كتاب آخر بعد ست عشرة سنة نفس الأفكار،
وأضاف أنها لا تتعارض مع شيء مما في الكتاب المقدس. وفي هذه المرة أرغمته الكنيسة على أن يقرر
علانية أن الأرض لاتتحرك على الإطلاق وأنها ثابتة كما يقول علماء عصره. ولم يهتم جاليليو لهذا التقرير العلني.
ظل جاليليو منفيا في منزله حتى وافته المنية في 8 يونيو 1642، وتم دفن جثمانه في فلورانسا.
وقدمت الكنيسة اعتذارا لجاليليو عام 1983.

هذه اللوحة هي تبين المحاكمة التي اجرت للعالم من قبل سلطات الكنيسة الكاثوليكية في ذلك الوقت


Joseph-Nicolas Robert-Fleury. Galileo before the Holy Office, 1847. Musee Luxembourg.
قصيدة أنا مع الإرهاب ، كتبها نزار قبانى عام 1995 أثناء إقامته فى العاصمة الإنجليزية لندن وتصنف القصيدة من الشعر السياسى 

أنا مع الإرهاب

متهمون نحن بالإرهاب
إن نحن دافعنا عن بكل جرأة
عن شعر بلقيس ...
وعن شفاة ميسون ...
وعن هند ... وعن دعد ...
وعن لبنى ... وعن رباب ...
عن مطر الكحل الذي
ينزل كالوحي من الأهداب !!
لن تجدوا في حوزتي
قصيدة سرية ...
أو لغة سرية ...
أو كتبا سرية أسجنها في داخل
الأبواب
وليس عندي أبدا قصيدة واحدة
تسير في الشارع وهي ترتدي
الحجاب
****
متهمون نحن بالإرهاب
أذا كتبنا عن بقايا وطن ...
مخلع ... مفكك مهترئ
أشلاؤه تناثرت أشلاء ...
عن وطن يبحث عن عنوانه ...
وأمة ليس لها سماء !!
***
عن وطن .. لم يبق من أشعاره
العظيمة الأولى ...
سوى قصائد الخنساء !!
***
عن وطن لم يبق في آفاقه
حرية حمراء .. أو زرقاء ... أو
صفراء ...
***
عن وطن ... يمنعنا ان نشتري
الجريدة
أو نسمع الأنباء ...
عن وطن ... كل العصافير به
ممنوعة دوما من الغناء ...
عن وطن ...
كتابه تعودوا أن يكتبوا
من شدة الرعب ...
على الهواء !!
***
عن وطن يشبه حال الشعر في
بلادنا
فهو كلام سائب ...
مرتجل ...
مستورد...
وأعجمي الوجه واللسان ...
فما له بداية ...
ولا له نهاية ...
ولا له علاقة بالناس ... أو
بالأرض ...
أو بمأزق الإنسان !!
***
عن وطن ...
يمشي إلى مفاوضات السلم
دونما كرامة ...
ودونما حذاء !!
***
عن وطن رجاله بالوا على
أنفسهم خوفا ...
ولم يبق سوى النساء !!
***
الملح ... في عيوننا ...
والملح في شفاهنا..
والملح ... في كلامنا
فهل يكون القحط في نفوسنا
إرثا أتانا من بني قحطان ؟؟
لم يبق في أمتنا معاوية ...
ولا أبو سفيان ...
لم يبق من يقول (لا) ...
في وجه من تنازلوا
عن بيتنا .. وخبزنا .. وزيتنا ...
وحولوا تاريخنا الزاهي...
إلى دكان !!
***
لم يبق في حياتنا قصيدة ...
ما فقدت عفافها ...
في مضجع السلطان...
**
لقد تعودنا على هواننا ..
ماذا من الإنسان يبقى ...
حين يعتاد الهوان؟؟
**
عن أسامة بن منقذ ...
وعقبة بن نافع ...
عن عمر ... عن حمزة ...
عن خالد يزحف نحو الشام ...
ابحث عن معتصم بالله ...
حتى ينقذ النساء من وحشية
السبي ...
ومن ألسنة النيران !!
ابحث عن رجال آخر
الزمان...
فلا أرى في الليل إلا قططا
مذعورة ...
تخشى علي أرواحها ...
من سلطة الفئران !!
***
هل العمي القومي ...قد أصابنا
وهو أبكم ؟
أم نحن نشكو من عمى الألوان
**
متهمون نحن بالإرهاب ...
أذا رفضنا موتنا ...
بجرافات إسرائيل ...
تنكش في ترابنا ...
تنكش في تاريخنا ...
تنكش في إنجيلنا ...
تنكش في قرآننا ...
تنكش في تراب أنبيائنا ...
إن كان هذا ذنبنا
ما أجمل الإرهاب ....
***
متهمون نحن بالإرهاب ...
إذا رفضنا محونا ....
على يد المغول ... واليهود
... والبرابرة ...
إذا رمينا حجرا ...
على زجاج مجلس الأمن الذي
استولى عليه القياصرة !!
***
متهمون نحن بالإرهاب ...
إذارفضنا أن نفاوض الذئب
وأن نمد كفنا لعاهرة !!
**
أمريكا ...
ضد ثقافات البشر...
وهي بلا ثقافة ...
ضد حضارات الحضر
وهي بلا حضارة
أمريكا ...
بناية عملاقة
ليس لها حيطان !!
***
متهمون نحن بالإرهاب ...
إذا رفضنا زمنا
صارت به أمريكا
المغرورة ... الغنية ... القوية
مترجما محلفا ...
للغة العبرية !!
**
متهمون نحن بالإرهاب ...
إذا رمينا وردة ...
للقدس ...
للخليل ...
أو لغزة ...
والناصرة ...
إذا حملنا الخبز والماء ...
إلى طروادة المحاصرة ...
*
متهمون نحن بالإرهاب ...
إذا رفعنا صوتنا
ضد كل الشعوبيين من قادتنا ...
وكل من قد غيروا سروجهم ...
وانتقلوا من وحدويين ...
إلى مساسرة !!
***
إذا اقترفنا مهنة الثقافة ...
إذا تمردنا على أوامر
الخليفة
العظيم .. والخلافة ...
إذا قرأنا كتبا في الفقه
... والسياسة ...
إذا ذكرنا ربنا تعالى...
إذا تلونا (سورة الفتح) ..
وأصغينا إلى خطبة يوم الجمعة
فنحن ضالعون في الإرهاب !!
متهمون نحن بالإرهاب ...
إن نحن دافعنا عن الأرض
وعن كرامة التراب
إذا تمردنا على اغتصاب الشعب
واغتصابنا ...
إذاحمينا آخر النخيل في
صحرائنا ...
وآخر النجوم في سمائنا ...
وآخرالحروف في أسمائنا ...
وآخر الحليب في أثداء أمهاتنا
إن كان هذا ذنبنا ...
ما أروع الإرهاب !!
***
أنا مع الإرهاب ...
إن كان يستطيع أن ينقذني
من المهاجرين من روسيا ...
ورومانيا، وهنقاريا، وبولونيا ...
وحطوا في فلسطين على أكتافنا
ليسرقوا ... مآذن القدس ...
وباب المسجد الأقصى ...
ويسرقوا النقوش ...
والقباب ...
**
أنا مع الإرهاب ...
إن كان يستطيع أن يحرر
المسيح ...
ومريم العذراء ...
والمدينة المقدسة ...
من سفراء الموت والخراب !!
***
بالأمس ...
كان الشارع القومي في بلادنا
يصهل كالحصان ...
وكانت الساحات أنهارا
تفيض عنفوان ...
وبعد أوسلو ...
لم يعد في فمنا أسنان ...
فهل تحولنا إلى شعب
من العميان .. والخرسان ؟؟
***
متهمون نحن بالإرهاب ...
إن نحن دافعنا بكل قوة
عن إرثنا الشعري
عن حائطنا القومي ..
عن حضارة الوردة ..
عن ثقافة النايات .. في جبالنا
وعن مرايا الأعين السوداء
**
متهمون نحن بالإرهاب ...
إن نحن دافعنا بما نكتبه ...
عن زرقة البحر ...
وعن رائحة الحبر
وعن حرية الحرف ...
وعن قدسية الكتاب !!
***
أنا مع الإرهاب ...
إن كان يستطيع أن يحرر الشعب
من الطغاة .. والطغيان ...
وينقذ الإنسان من وحشية الإنسان
ويرجع الليمون والزيتون
والحسون
للجنوب من لبنان ...
ويرجع البسمة للجولان ....
***
أنا مع الإرهاب ...
إن كان يستطيع أن ينقذني
من قيصر اليهود ...
أو من قيصر الرومان !!
***
أنا مع الإرهاب ...
ما دام هذا العالم الجديد ...
مقتسما
ما بين امريكا .. وإسرائيل
بالمناصفة !!
***
أنا مع الإرهاب ...
بكل ما أملك من شعر
ومن نثر ...
وممن أنياب ...
ما دام هذا العالم الجديد ...
بين يدي قصاب !!(جزار)
**
أنا مع الإرهاب
ما دام هذا العالم الجديد
قد صنفنا
من فئة الذباب !!
**
أنا مع الإرهاب ...
إن كان مجلس الشيوخ في
أمريكا ..
هو الذي في يده الحساب
وهو الذي يقرر الثواب ...
والعقاب !!
***
أنا مع الإرهاب ...
ما دام هذا العالم الجديد ...
يكره في أعماقه
رائحة الأعراب !!
***
انا مع الإرهاب ...
ما دام هذا العالم الجديد ...
يريد أن يذبح أطفالي ...
ويرميهم إلى الكلاب !!
**
من أجل هذا كله ...
أرفع صوتي عاليا :
أنا مع الإرهاب !!
أنا مع الإرهاب !!
أنا مع الإرهاب !!...

مسلسل الزميل الحلقة الاولى

هل استجبنا لله حتى يستجيب لنا؟ (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) 186 البقرة





كل العرب لا تتقن غير مد اليد و الطلب
الطلب من الله بدون تعب ..يا للعجب


الم يعلم العرب ان للكون سننا و لا تغيير لسنة الله 

 فسنن الله سبحانه لا تتغير ولا تتبدل، " سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً "


و تغير حال الانسان يأتي بعد تغيير الانسان لنفسه
قال تعالى :

 إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ

لقد توعد الله الانسان الذي لم يتبع هداه حيث قال:
 " فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى" 
 
والسؤال لماذا ؟
لاننا امة كسولة تفضل الدعاء على العمل

فكل من يقرأ كتاب  الله يفهم ان الله قد قرن استجابته باستجابة الانسان له اولا..



هل استجبنا لله حتى يستجيب لنا؟
 

اقرا معي قوله في كتابه الموجه للانسانية كافة لكل من يسأل حاجة من الله:

(وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ ۖ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ۖ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)186 البقرة

لقد وضع الله شرط الاجابة بان يستجيب العباد اولا

و اولهم قبول كتاب الله و العمل به و جعله المرجع الاول

للتذكير امرنا الله بطلب العلم و ذلك بقوله:( اقرأ)

و طلب منا التعاون على البرّ و التقوى قال تعالى:


 ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ﴾ [ المائدة : 2]

و امرنا بالوحدة في قوله تعالى:
 

وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ 103 آل عمران

و امرنا باتباع الصراط المستقيم( الانعام)

قال تعالى:

قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ ۖ
أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ
وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ
وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ
وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
كما امرنا التسلح بالقوة للدفاع عن المستضعفين و اعداد العدة مثل قوله
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ۚ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ
60 الأنفال





هذا بعض ما طلب  الله منا  القيام به فهل استجبنا له حتى يستجيب لنا؟

dimanche 29 juin 2014

الإسلام والحداثة

الدكتور روجي غارودي :   

ترجمه عن الفرنسية: الدكتور العربي كشاط :
روجيه غارودي إن خمسة قرون من هيمنة الحضارة الغربية; أدت إلى تلويث الطبيعة واستنفاد مواردها وقدرة تقنية على إتلافها، وانفجار في مستنقعات السوق، التي فاقمت العنف، وسعرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة، وعمقت الهوة بين شمال مستقطب للثروات المتناقصة وجنوب يتضور جوعًا.
تقتضينا دراسة ما بين الحداثة والإسلام من علاقة أن نبدأ بتعريف (الحداثة ) في منظور ثقافة عالمية متعددة، وليس من زاوية نظر ثقافة أوروبية خصوصية فحسب
ذلك أن الحداثة شكل من أشكال ثقافة من الثقافات، وأسلوب حياة من الحيوات. أما الثقافة فتتحد بمجمل علاقات الإنسان، فردًا أو جماعة، بذاته، بالطبيعة، وبالآخرين من بني نوعه، وبالمستقبل أو بمعنى الحياة.
ومما له دلالته أن تدرج كتبنا المدرسية على تحديد بداية (الأزمنة الحديثة ) بـ (النهضة ) الغربية، التي ليست سوى الميلاد المتزامن للرأسمالية والاستعمار والذي بتقويضه أركان قرطبة عام 1236م ودكه لغرناطة آخر مملكة إسلامية بأوروبا عام 1492م، واجتياحه لأمريكا، يكون قد قطع أوصال ثقافتين شامختين، هما الثقافة الإسلامية وثقافة الهنود الحمر.
وابتداءً من هذه اللحظة، يغدو بالإمكان أن نرجع بتحديد الحضارة الغربية لعلاقاتها بالطبيعة والآخر والله (أو الغاية النهائية من الوجود) إلى ثلاث مسلّمات هي:
( 1 ـ مسلّمة ديكارت، التي تجعل (الإنسان سيدًا ومالكًا للطبيعة
(2ـ مسلّمة هوبز، التي تجعل (الإنسان ذئبًا بالنسبة للإنسان
3ـ مسلّمة مارلو، التي تجعل (الإنسان المنمي لقدراته العقلية إلهًا يسود جميع العناصر ويهيمن عليها).
ولكن خمسة قـــرون من الهيمنة المطلقة لم تنـــته بــهذه الثقــــافـة إلى ما استهدفته مسلماتها تلك من نتائج، وإنما إلى نقائضها من تلويث للطبيعة، واستتنفاد لمواردها، وقدرة تقنية على إتلافها، وانغمار في مستنقعات السوق التي فاقمت العنف، وسعرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة التي لم تفتأ أن جزأت المجتمع الواحد إلى فئات متناهشة، وعمقت الهوة بين شمال مستقطب للثروات المتفاحشة، وجنوب يتضور جوعًا ومسغبة.
أما زعم الاستغناء عن الله سبحانه في تدبير الكون، فقد انحدر بهذه الثقافة إلى كفرانها بالقيم المطلقة، واعتبارها الإنسان والنزعة القومية مركزًا للأشياء ومقياسًا لها; فانقضت ركائز الحياة، وخيمت البلبلة، ومزقت حراب العنف أحشاء المدن، وطم بحر الأهوال، وتوازنات الرعب، واحتدم سعار الإرادات والرغبات، على صعيد الأفراد والمجتمعات.
ومما لا مراء فيه أن هذه (الحداثة ) المزعومة التي انطلقت منذئذ أبواقها للترويج لها، إنما هي دين، غير أنه لا يجرؤ على المجاهرة باسمه، وركنه الأوحد إنما هو (آحادية السوق )تلك البدعة التي انفرد الغرب باختلاقها في مطلع (النهضة ) والذي اهتبل الاتحاد السوفيتي، وتحطيم العراق، واستبداد الولايات المتحدة الأمريكية بشؤون العالم الثالث وأوروبا ، فرصة سانحة ليجاهر العالم باعتبار (ليبيراليته الاقتصادية ) نهاية التاريخ، على حد تعبير فوكوياما، أحد منظري أيديولوجية وزارة الدفاع الأمريكية.
ومما لا شك فيه أنه ما من مسلمة من مسلمات هذه (الحداثة ) المزعومة إلا وهي مجرد أكذوبة من الأكاذيب، في مقدمتها:
أكذوبة الديموقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية الحريات
والحق أن هذه الديموقراطية لم تكن في طور من أطوارها سوى وسيلة تعمية وتمويه، تلجأ إليها أقلية من مالكي العبيد إلى مالكي الثروات.
أما ديموقراطية أثينا على عهد بركليس، التي يضرب بها المثل والتي تعتبر (أم الديموقراطيات )، فقد كانت عبارة عن حكومة يديرها عشرون ألف مواطن من الأحرار، يستبدون برقاب مئة ألف من الأرقاء المحرومين من جميع الحقوق.
أجل، إنها ديموقراطية، لا عيب فيها، غير أنها مقصورة على الأسياد، وليس لغيرهم من العبيد فيها نصيب.
أما الأكذوبة الثانية فهي المتعلقة بالمساواة بين الناس في الحقوق
وعلى الرغم من نص وثيقة (إعلان الاستقلال الأمريكي ) على هذا المبدأ فقد ظل العبيد أكثر من قرن من الزمان يتجرعون علقم الاسترقاق، ولم يتورع حاملو هذا الشعار إلى اليوم عن ممارسة ألوان من التمييز العنصري الذي ينحدر بالزنوج إلى دركات الأشياء
أجل، إنها ديموقراطية لا يعيب فيها غير أنها مقصورة على البيض، وليس لغيرهم من السود فيها نصيب.
وبنبرة متغطرسة أكدت وثيقة (حقوق الإنسان والمواطن ) إبان الثورة الفرنسية أن الناس كلهم يولدون أحرارًا ومتساوين في الحقوق، ولكن دستور (اقتراع دافعي الضرائب ) قضى بحرمان ثلاثة أرباع الفرنسيين من المشاركة في الانتخاب، بغير ذنب إلا إنهم فقراء، مسخهم فقرهم (مواطنين غير نافعين).
أجل، إنها ديموقراطية لا عيب فيها، غير أنها مقصورة على الأثرياء، وليس لغيرهم من الفقراء فيها نصيب.
إن حرمان الفقراء هذا من الاقتراع ليس البتة انتهاكًا لمبادئ الديموقراطية الليبيرالية البرجوازية، بل هو تطبيق دقيق لحقيقتها التي تقوم على التفرقة بين الأغنياء المنتخِبين والمعوزين المنتخَبين; كما أكد ذلك الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك )، الذي كان أعلم الناس، نظرية وتطبيقًا، بالديموقراطية الإنجليزية أم الديموقراطيات الغربية، حيث قال في كتابه (المبحث الثاني حول الحكومة المدنية ): (إن الهدف الذي يطمح إليه الناس من اجتماعهم إنما هو الإبقاء على الممتلكات )، وهذا يعني إيصاد أبواب الديموقراطية في وجه غير المالكين للثروات.
وعشية الثورة الفرنسية، لم تنعقد أنامل ديدرو، أثناء تحريره فصول موسوعته إلا لتكرار إحدى أطروحات (جون لوك ) السياسية التي تقصر صفة (المواطنة ) على المالك دون غيره من المعوزين.
وعلى الرغم من المظاهر والشكليات; فإن هذا المبدأ نفسه ما زال حتى اليوم هو الممسك بزمام (ديموقراطياتنا ) الليبـــيرالية، حيث يتأكد الآن أكــثر مما مضى، ما ذهب إليه (روسو ) في (العقد الاجتماعي ) من النفي الصريح لأي وجود للديموقراطية.. ويعود الانتفاء إلى سببين:
أولهما: انعدام الإيمان المشترك بالغاية النهائية للوجود الإنساني
وثانيهما: التفاوت بين الناس فيما يحوزون من الثروات
الأمر الذي عوّق تشكل (الإرادة العامة )، تلك التي تعد محور مفهوم روسو للديموقراطية الحقيقية.
ولقد كشفت تجارب أكثر من قرنين، عن الطابع الراهن لما كان بالنسبة (لروسو ) مجرد توقعات مستقبلية استوحاها من حالكات سوابق الديموقراطية.
وقد تجلى اليوم لذي عينين أن مماثلة الديموقراطية بحرية السوق ليست سوى فقرة من أخبث فقرات عقائد السياسة الأمريكية، إذ أنه من المستحيل -كما بين ذلك روسو – أن تتشكل الإرادة العامة في غيبة الأهداف العامة التي يشترك أفراد المجتمع في الإيمان بها
وأنى لهم ذلك، وقد أطلقت (آحادية السوق ) إرادات آحادهم وجماعاتهم وحوشًا تتهارش، ورغبات في الأدغال تتصادم.
وكلما جرى حديث حول حقوق الإنسان تذكر المرء أنه بمقتضى تأكيد (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ) (1948م)، حق المساواة بين الناس أمام القانون، يصبح بإمكان أي إنسان، سواء كان عاطلاً عن العمل أم مالكًا للمليارات، أن يصدر صحيفة أو ينشئ قناة تلفزيونية; وغني عن البيان أن قانونًا هذا شأنه لا يحجم عن عقاب من تمتد يده إلى قطعة رغيف، دون تفرقة بين المترفين والمعوزين.
إن هذه المبادئ وما إليها من حق الاقتراع وغيره، مدونة في جميع دساتير وتشريعات البلاد الديموقراطية، ولكن شتان بين هذه النظريات والواقع الذي تمسك بتلابيب الناس فيه قوانين قمعية قاهرة، تلك التي تستبدل سندات البنوك ببطاقات الانتخاب.
ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تكلف المشاركة في حملة انتخابية خمسمائة مليون دولار كل من يطمح إلى مقعد نائب في البرلمان، أو ممثل في هيئة من الهيئات، مثل ما هو الشأن في جميع هذه البلاد التي يسهِّل فيها الثراء شراء الوسيلتين اللازمتين لكل راغب في السطو على السلطة; ونعني بهما:
ـ وسائل الإعلام، للتلاعب بالرأي العام وتكيفه
ـ وصناعات الأسلحة، التي تضمن، في نهاية المطاف، إقناع غير المقتنعين
ومن نوازل هذا التلاعب والتكييف الذي سجله القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، قصر وصف الليبيراليين (بالمعنى السياسي للكلمة ) على أولئك الذين يقاومون سلطان النبلاء.
أما اليوم، فالليبيراليون (بالمعنى الاقتصادي للكلمة )، هم المدافعون عن سلطان الثراء. وهكذا أصبح الاقتصاد السياسي، أو ذلك (العلم الكئيب ) على حد تعبير كارليل (أو بالأحرى العلم الذي ليس من العلم في شيء )، عبارة عن أيديولوجية مهمتها تبرير الحالة الراهنة، تلك التي تتلخص في مبادئ رائدها آدم سميث الذي يزعم أنه: إذا سعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة، تحققت المصلحة العامة، لكأن يدًا غير مرئية توجه نحو هذا الصالح المشترك محققة بذلك اتساق هاتين المصلحتين.
ومن وجهة النظر هذه، فإن اتجاهات الدولة كلها لا يأتي منها إلا الضرر; ولما كانت السوق لا تأتمر إلا بقوانينها، وتأبى إلا أن تمسك بأعنة العلاقات الاجتماعية، فلم يبق للدولة إذن إلا أن تتحول إلى مجرد دركي أو حارس ليلي أمين، مهمته المحافظة على هذه الأوضاع.
إن هذه المبادئ التي ما زالت إلى اليوم محل إعجاب وإطراء كل من (ميلتون فريدمان ) و(قون هايك ) وتلامذتهما الأمريكان والإنجليز: ريغان وتاتشر، ووزراء فرنسا من أحزاب اليمين واليسار، قد انتهت بعد قرنين من التجارب إلى أوخم العواقب; من أبرزها عدم تملك العامل وسائل الإنتاج على الرغم من التقدم العملي، وتضخم الثراء والسلطة في قطب، وتكرس التبعية والبطالة والإقصاء في القطب الآخر.
ذلكم على الصعيد المحدود، أما على الصعيد الكوكب، فلقد أفضت خمسة قرون من الاستعمار إلى تدمير الزراعات الغذائية الأساسية لصالح الزراعات والإنتاجات الآحادية التي جعلت من المستعمرات ملحقات اقتصادية خاضعة لحاضرات (متروبول ) القوى الكبرى، خضوعًا تقنع -بعد الاستقلالات الشكلية – بقناعات المساعدات التي (يتفضل ) بها مستعمرو الأمس، وإدارة صندوق النقد الدولي للديون.
ونجم عن هذه المظالم، بين 1960-1989م، ارتفاع معدل الدخل العالمي من 70% إلى 83% لـ 20% لأثرى أثرياء العالم، وانخفاضه إلى أقل من 1.5% لأفـــقر فقراء المعمورة. وهذا التقـــاطب لا يني يتفـــاقم أيضًــا في أغنى بلاد العـــالم، حيث يستحوذ 1% من الأمريكـــان على 40% من الثروات القومية..
وكلما استشعر أسياد العالم مخاطر تمرد المضطهدين، اتخذوا من ديموقراطيتهم سبيلاً يسلكونها بشكل طبيعي نحو الديكتاتورية.
فبفضل هذه الديموقراطية في أتم أشكالها، أدلت أغلبية الألمان بأصواتها فبوّأت هتلر مقاعد الزعامة، وراح أرباب البنوك وملوك الصناعة من الألمان والأمريكان والإنجليز والفرنسيين يمدونه بالأموال والذخائر تمكينًا له من أن يقف حتى عام 1938 سدًا منيعًا في وجه الشيوعيين.
وهتلر ليس سوى حالة خاصة من ظاهرة شاملة، ففي أمريكا اللاتينية فتحت الديموقراطية الأمريكية أبواب معاهدها المختصة لتخريج العقداء والجنرالات وتكوين (سرايا الموت ) تمكينًا للديكتاتورية، ودفاعًا ضاربًا عن (الحرية الاقتصادية )، التي تعني اختراق الأموال الأمريكية اقتصادياتهم اختراقًا تفرضه الخصخصة والقمع الدموي للمعارضات الشعبية على مرأى ومسمع من أولئك الذين لا ينددون بانتهاك حقوق الإنسان إلا حين يتعلق الأمر  بتركيع الرافضين للسياسة الأمريكية التي يقترف إثم فرضها صندوق النقد الدولي، وضروب من الحصار الذي يودي بحياة مئات الآلاف من أطفال العراق، ويلحق الأضرار البالغة بالدول البترولية المتمردة مثل ليبيا والسودان وإيران و…. ويضيق الخناق على لاهوتيي التحرر، الذين يتواصى بالتنديد بهم كل من مركز الاستخبارات الأمريكية والفاتيكان.
إن (آحادية السوق ) هذه التي عمِّدت باسم (الحداثة )، تتجلى في تمزق النسيج الاجتماعي، الذي لا يلبث أن يختفي عن الأنظار لتحل محله الداروينية الاجتماعية التي تعني، على حد تعبير (سنبسر ): (مضاعفة حرية الأغنى في افتراس الأفقر والأضعف وتعني كذلك أن: (بين القوي والضعيف، الحرية هي التي تضطهد).
إن هذه الحقيقة المقررة التي كان الأب (لاكوردير ) قد عبر عنها في عصر انطلاق الرأسمالية الصناعية، لنتأكد منها اليوم أكثر كان مما عليه الحال في زمانه، حيث تواجهنا بشكل لا يتجزأ مشكلات مجتمعنا الاقتصادية والسياسية والدنيئة، والتي تتعلق في جوهرها بمعنى الحياة الذي يستتبع التساؤل عما يتمخض عنه التطور العلمي والتقني.
 وما بنا من حاجة إلى طويل تأمل، وهذه آحادية السوق المتولدة من (الحداثة الغربية ) تقض المضاجع بما صنعته من أوضاع اشتطت فيها النزاعات الفردانية، وطغت فيها أمواج المنافسات، مما ضاعف من تدهور العلاقات الاجتماعية، وسرع السابق الذي جعل من (الإنسان ذئبًا للإنسان ) على حد تعبير هوبز.
ومنذ أن انهمك (يلتسن ) في ممارسة (البغاء السياسي ) لبعث الرأسمالية، وصل الاتحاد السوفيتي إلى مستوى الولايات المتحدة في استهلاك المخدرات; ففي أزبكستان تضاعفت المساحات المزروعة حشيشًا ست مرات، أي من 150 هكتارًا سنة 1992م إلى 1000 هكتار سنة 1995م. وكذا الأمر بالنسبة لأنجب التلاميذ من زبائن مدرسة صندوق النقد الدولي، حيث إحدى الدول حطمت الرقم القياسي -على الصعيد العالمي – في إنتاج الحشيش.
ففي الولايات المتحدة طليعة الانحطاط، بلغ مجموع مبيعات المخدرات مقدار مبيعاتها من السيارات والفولاذ.
وهناك أشكال أخرى من أشكال هذه (الحداثة الغربية )، أكتفي بالإشارة إلى اثنين منها، وهما:
ـ الرشوة، التي ينطوي عليها اقتصاد السوق انطواء السحابة على الأعاصير
وليس بغريب على نظامٍ كل شيء فيه قابل لأن يشترى ويباع، بما في ذلك السلطة والضمائر، أن يؤول إلى ما أشار إليه الاقتصادي (ألان كوسطا ) في كتابه: (الرأسمالية في أسوأ أحوالها )، حيث قال: (إن الرشوة في سؤددها الحالي جزء لا يتجزأ من المد المالي والإعلامي المتزايد )، فعندما يهتبل الإعلام فرصة العمليات المالية كاندماج الشركات وحيازة المقتنيات، ليتيح خلال بضع دقائق تكوين ثروةٍ من المستحيل أن يحلم بها حالم ولو يبذل المضاعف من الجهود والنفيس من الأوقات; يتعذر على المرء أن يقاوم إغراءات الاقتصاد البضاعي المترعرع في حظيرة هذه السوق (الأصيلة ) التي ترتفع بالرشوة إلى أن يضاهي دورها دور المشاريع التجارية.
ـ وتأبى (آحادية سوق ) الحداثة الغربية إلا أن (تجود) بأفضل ما لديها، وأعني بذلك المضاربة التي يحددها قاموس (روبير ) بأنها: (عملية مالية تهدف إلى تحقيق الأرباح من خلال استغلالها لتقلبات السوق )، تلك التي أفرزت نموذجًا ثقافيًا يقولب فيه الناس حسب مقتضيات المزاحمة الوحشية والربح المجنون وما إلى ذلك من الأشكال الـ (عصرية ) لما يعرف في القرآن الكريم باسم (الربا).
ومما له دلالته أن يتزامن انبثاق هذا التصور عن الكون مع بروز أكمل الأشكال تعبيرًا عن البربرية الغربية: من جرائم قصفها الرهيب لكوفنتري وأزوبنش وهيروشيما، وأزهاقها أرواح أربعين مليون ضحية بلغ ركامها عشرة أضعاف ما أفترسته الحرب العالمية الأولى التي سعّر شواظها زبانية الأمبراطوريات المتزاحمة المتقاتلة.
ولما انقشعت نقوع هذه الأهوال، وانفتحت العيون على عالم فقد رشده، تسلطت على الأذهان فكرة عجز الإنسان عن تدبير شؤون المجتمعات، تلك التي لم يبق لها إلا الانصياع إلى (الماكينة المفكرة ) التي ستنفرد بالتفكير والإجابة عن جميع الأسئلة المطروحة.
وبصدور كتاب (نوربير واينعر ): (السبرانية ) سنة 1942م، وتطبيقاته التي انتهت (بقون نومان ) إلى اختراع (الحاسوب ) عام 1945م، تكون (الحداثة ) قد تمخضت فولدت أسطورتها المركزية المتمثلة في (الذكاء الاصطناعي )، الذي يعني إمكان الاستعاضة عن بعض أشكال أعمال الذهن الإنساني; استعاضة تعني انتقال الأدوات والماكينات من كونها مسخَّرات لخدمة الإنسان إلى انفرادها -دونه – بالأجوبة عن الأسئلة التي لها صلة بغاية أعماله، بدل أن تكتفي بتزويده بما هو بحاجة إليه من الوسائل.
إن هذه (الحداثة ) بالذات، هي التي نجاهر برفضها، وندعو كل من يؤمن بأن للحياة معنى أن ينضم إلينا لنقف سدًا منيعًا في وجه هذه الأباطيل من الحتميات التي تروج لها أيديولوجيات تضلل الأَغرار بزعمها أن القوانين الاقتصـــادية قوانـــين طبيعية لا فكاك منها. ولكن الحــق الذي لا مرية فيه أن ما يسمى بالاقتصاد السياسي ليس من العلم في شيء، بل هو مجرد أيديولوجية ليس لها من مهمة إلا تبرير الأوضاع وإطراء السلبية والاستسلام لطاغوت الحتميات التي تكبل الإنسان حين توهمه أن الحاضر هو محصول الماضي، وأن المستقبل لن يكون سوى امتداد للحاضر.
وما على المؤمنين، وقد تجاوز الحتميون المدى، إلا أن يقوضوا أركان الحتميات بتعاليهم على ضروب الماديات التي أفرزتها (الحداثة ) الغربية الكذوب، التي انتهت إلى هذا الإفلاس الشنيع الذي يستنهض المسلمين لـ:
ـ الإسهام في تشكيل (حداثة ) أصيلة وشاملة
- الاستمتاع بثمار العلوم والتقنيات والمشاركة في تطويرها دون اعتبارها غايات في ذاتها
- مقاومة التيارات التي تعتبر الفردانية والقومية مركز الأشياء ومقياسًا لها
- التخلص من براثن حتميات السوق والمال الزائفة
- تعميق الشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه المصير المشترك
وكل أولئك يستوجب الخروج من مأزقين:
 ـ مأزق محاكاة الغرب، الذي يتخبط فيه بعض المسؤولين السياسيين المسلمين
ـ ومـأزق محاكاة الماضي، الذي تتخبط فيـه المعرضات الشعــبية فــي محاولاتها لإزالة عقابيل الاستعمار الذي طالما استمات في طمس الهوية الإسلامية.
وحينذاك نستيقن بأنه على أنقاض الإمبراطورية الرومانية التي امتد رواق هيمنتها من البحر المتوسط فما دونه إلى الفرات فالأندلس، ستترعرع من جديد تجربة الإخصاب لتنعش الشرق والغرب على غرار ما حققه الإسلام في القرن السابع حين انطلاقته السريعة المذهلة التي ليست من الفتوحات العسكرية الاستعمارية في شيء; حيث إن عدد الفاتحين وعُددهم لم تكن شيئًا مذكورًا; مقارنة بما كان يتمتع به البيزنطيون والفرس وغيرهم من كثافة بشرية وإمدادات مادية.
ومهما يكن، فإن الإسلام لم ينتشر بالقوة، وإنما بفضل ما حققه من:
اليقظات الدينية.
والثورات الاجتماعية.
والتحولات الثقافية.
1 ـ اليقظة الدينية:
ليس الإسلام دينًا جديدًا ظهر بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الله عز وجل إلا الواحد الأحد، رب العالمين جميعًا
والإسلام بمعنى الخضوع الإرادي لله وحده، هو ذلك الدين الذي أرسل الله به رسله أجمعين، من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام.. قال تعالى:
{ قل ما كنت بدعًا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } (الأحقاف:9
وقال تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } (الحجر:10)
وقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } (آل عمران:144)
وقال سبحانه تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } (البقرة:285)
ولقد أرسل الله رسوله محمدًا عليه الصلاة والسلام ليدعو الناس إلى الفطرة
قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا } (الروم:30)
والمسلمون يؤمنون بالمرسلين جميعهم، بمن ذكروا في القـــرآن وبمن لم يذكروا
ـ الثورة الاجتماعية3
التي تجلت صيغتها الأولى في مجتمـــع المدينة المنـــورة الذي أقامه الرسول على أسس الشريعة الخالدة التي تبني صروح الاقتصاد والسياسة والاجتماع على الإيمان بتفرد الله سبحانه بالملك والحكم والعلم، والتي تعتبر الإنسان خليفة الله في الأرض، يعمرها ويطورها، مؤتمرًا في كل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ائتمارًا يجنبه الوقوع في مهاوي النظرة الرومانية التي تحدد الملكية بـ (حق الاستعمال وسوء الاستعمال).
ومن مقتضيات مهمة الخلافة إعطاء الأولوية للواجبات التي يضطلع بأدائها المسلم أداءً روحُه الإخلاص، وشكله الإتقان، وثمرته التكافل القائم على أداء الزكاة وتحريم الربا: أصل بلاء تكدس الثورة في قطب والبؤس في قطب آخر، إذ لا مجال في نظام الإسلام لأي شكل من التسلسلات الهرمية التي تكرسها الأنظمة السياسية الجائرة.
قال تعــالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (التوبة:34)
وعندما طلع المسلمون على دنيا الطبقات والامتيازات بهذا التصور النبيل، الذي شكلوه واقعًا جسد العدل والمساواة وتقويم الرجال والأحداث بالقسطاس المستقيم، عندما فعلوا ذلك، استقبلوا حثيما حلوا استقبال الفاتحين المحررين.
ـ التحول الثقافي3
ينطلق التحول الثقافي الذي يحققه الإسلام من مسلَّمة الاعتقاد بتفرد الله سبحانه وتعالى بالعلم، اعتقادًا يجنبنا الغرور بمعارفنا القليلة، ويذكرنا دومًا بأن (كل ما أقوله عن الله إنما يقوله إنسان )، على حد تعبير اللاهوتي البروتستانتي (كارل بارت).
ويستوجب استمرار هذا العطاء الثقافي أن نتأسى بأسلافنا من أمــثال أبي حنيفة والشافعي وغيرهم في استلهام كليات شريعتنا لإحياء فقه يستجيب لمتطلبات العصر استجابة لا تحيد قد شعــــرة عما رســمه الله سبحـــانه من معايــير وسنه من ضوابط، قال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } (الجاثية:18)
وتجنبًا لسوء الفهم، أو إساءة الظن، ينبغي التذكير بضرورة التفرقة بين ما هو ثابت من الشريعة، ومتغير من الفقه، كما يجب التنبيه إلى خطأين يرتكبهما صنفان من الناس:
ـ صنف الذين يظنون أن مجرد سرد الأجوبة الذكية التي واجه بها أسلافنا مشكلات عصرهم، يعفينا من استفراغ الجهد في استنباط الأحكام من النصوص المحدودة لتنزيلها على الوقائع المتجددة المحدودة، في إطار الكليات والمقاصد.
ـ الصنف الذي يشمل الولايات المتحدة وأذنابها من منافقي الغرب الذين نصّبوا أنفسهم مدافعين عن (حقــــوق الإنسان ) و(حقــوق المرأة ) دفــاعًا يموهــــون به جرائمــهم في إعــداد وتمــــويل الدكتــاتـــوريــات المُحْتَمِيَة بـ (كتائب الموت ) في أمريكا اللاتيـــنية، وبجلادي رواندا في أفريقيا، متنادين بالسخرية من الشريعة التي يوهمون الناس أنها مجرد تقطيع للأيدي، وامتهان للمرأة، وتشبث بليد بما أكل عليه الدهر وشرب من الأحكام البائدة، هادفين إلى حرمان كل من يؤمن من الناس بأن للحياة معنى، من أن يكتشف مبادئ الشريعة العظيمة القائمة على اليقين المطلق بتفرد الله سبحانه وتعالى بالملك والأمر والعلم، يقينًا يجنينا الارتكاس في حمأة الغرور بسلطان المال والحكم والعلموية.
وبإمكان عالمنا الذي بلغ هذا المستوى العالي من التطور التكنولوجي أن يجد في المبدأين الإسلاميين: مبدأ التعالي والجماعة، ما يساعد كل فرد في تحقيق ما تنطوي عليه جوانحه من إمكانات، إسهامًا حقيقيًا في تطوير (حداثة ) حقيقية.
ولكي يتمكن المسلمون من تحقيق النهضة المرجوة، عليهم أن يتعاملوا بجد مع أبعاد الإسلام التي شيدت حضارته الرائعة، تلك التي أنعشت بركاتها العالم من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر.
والتعامل الجاد مع الإسلام يعني الكف عن أخذه تفاريق، والعمل على تجسيد أبعاده العالمية والروحية والاجتماعية والنقدية، إبراءً للذمة، وابتعاثًا للإنسان كي يستعيد إنسانيته.

الذين يكنزون الذهب والفضة


 




 أحمد دهمش








 
الإسلام يحرم اكتناز الذهب والفضة ويهدد من يفعل ذلك بعذاب أليم، يقول تعالى
 "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ماكنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون . التوبة/ 34 :35 .

هذا هو الإسلام

وهؤلاء هم المسلمين



ولا يكتفي القرآن بمجرد التحذير من كنز الأموال وإنما يضع التشريعات التي تمنع تركز الثروة في أيدي الأÛe;أغنياء فما يفيء إلى بيت المال – أو ما يأتي إلى خزانة الدولة يوزع على المحتاجين فقط دون الأغنياء يقول تعالى" ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فالله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا واتقوا الله إن الله شديد العقاب.


جاء ذلك توجيهاً للنبي عليه السلام بشأن الفيء أو الإيراد الذي يأتي بدون حرب وذلك بتوزيعه على الفقراء والمحتاجين دون الأغنياء حتى لا يتركز المال في يد الأغنياء ويحتكروا الثروة وجاءهم الأمر بأن يأخذوا ما يأتيهم به الرسول من هذا الفيء وأن ينتهي من ليس له حق فيه عن المطالبة به .
ونقرأ في آية أخرى
" والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم "
أي جعل الله حق معلوم في أموال كل شخص للسائل والمحروم ، وجعل من المسلم المقتدر يتحسس حتى من لا يسأل ،فمن الممكن أن يكون هناك محتاج ولكنه متعفف عن السؤال وجاء هذا في قوله تعالى "لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ .البقرة273" أي أنك تعطي من يسألك ومن لا يسألك ( أي أنك تبحث حالته دون أن يدري بذلك )..


أنظروا إلى عظمة القرآن الذي يفرض علينا ليس فقط أعطاء السائل المحتاج فقط بل عليك أيضا أن تبحث على المحتاج المتعفف غير السائل ..
ونقرأ في قوله تعالى أيضا

  "زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ "آل عمران14. وقد أخبرنا الله تعالى أن حب هذا المال يعتبر من الشهوات الدنيوية وأنه متاع الحياة الدنيا وأنه لا يغني في الآخرة وأن المتاع الحقيقي هو في الآخرة
هذا هو الإسلام .. ولكن حال المسلمين شيء أخر .. !!


* في القرن الأول الهجري، بل بعد الفتوحات الإسلامية صار بعض الصحابة أعجوبة في اكتناز الأموال حسبما نقرأ في كتب التراث فيذكر(ابن سعد) في (الطبقات الكبرى) أن الزبير بن العوام ترك عند وفاته ما قيمته(52 مليون دينار) بالإضافة إلى سيولة مالية قدرها(35,2 مليون دينار) مع عمائر بمصر والإسكندرية والكوفة والبصرة والمدينة!!
أما طلحة بن عبيد الله ـ الذي كان يتحلى بخاتم من ذهب فيه ياقوتة حمراء فقد ترك سيولة مالية قدرها(2,2مليون درهم) وقيمة ما تركه من أصول عينية (30 مليون درهم) بالإضافة إلى (100 بهار) في كل (بهار) ثلاث قناطير من ذهب .
وذلك طبقاً لما ورد في طبقات ابن سعد (3/ 1، 77 ،157 :158)


أما عمرو بن العاص فاتح مصر "فقد ترك عند وفاته (70 بهاراً من الذهب) أي(140 أرديا من الذهب)!! طبقاً لما أورده المقريزي في الخطط (654,1) .
والقاعدة القرآنية تجعل كنز المال وعدم إنفاقه في سبيل الله تعالى وقوعاً في التهلكة، "والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ماكنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون" وقد انطبقت هذه القاعدة عليهم وقتها، ويكفي أن نعرف أن أولئك السادة الأعلام كانوا رءوس الفتنة
أيها المسلمون يجب علينا جميعا العودة للقرآن وتعاليمه ..







http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=1593

العدالة الاجتماعية و المسلمين

وكم من عائله في بلاد العرب حالها الآن يشبه هذه الحالة
وكم من قصص حزينة لشعب مهجر جائع لاتحكى وتبقى في صدور هذا الشعب العظيم تقلته دون ان يتألم ..

في سجــن العقــل من حلم التحرر إلى كابوس الاستبداد الدكتور المنصف المرزوقي







في سجــن العقــل
من حلم التحرر إلى كابوس الاستبداد
الدكتور المنصف المرزوقي

وسائلة أي المذاهب مذهبي                   وهل كان فرعا في الديانات أم أصلا
وأي نبي مرسل أقتدي به                     وأي كتاب منزّل عندي الأعلى
فقلت لها لا يقتني المرء مذهبا               وإن جلّ إلاّ كان في عنقه غلا
تتلمذت للإنسان في الدهر حقبه              فلقّنني غيّا وعلّمني جهلا
نهاني عن قتل النفوس وعندما             رأى غرّة منّي تعلّم القتل
وذمّ إليّ الرقّ ثم إسترقني                   وصوّر ظلما فيه تمجيده عدلا
وكاد يريني الإثم في كل ما أرى            وكلّ نظام غير ما سنّ مختلاّ
إلا أن رأيت النجم يطلع في الدجى         لذي مقلة حسرى وذي مقلة جذلى
وشاهدت كيف النهر يبذل ماءه             فلا يبتغي شكرا ولا يدعي فضلا
وكيف يزين الطل وردا وعوسجا           وكيف يروي العارض الوعر والسهل
وكيف تغذي الأرض الأم نبتها             وأقبحه شكلا كأحسنه شكلا
فأصبح رأيي في الحياة كرأيها              وأصبحت لي دين سوى مذهبي قبل


إيليا أبو ماضي




مقدمة





هذا الكتاب من أقدم مخطوطاتي ويمكن عدّه من كتابات الشباب . أذكر أنني كنت أستجمع له الأفكار ليالي الحراسة في مستشفى سترازبورغ في بداية السبعينيات بين توقف قلبي , وتقّي لتر من الدّم . وكانت كتابة صعبة محمومة , حوارا بيني وبين نفسي مفارقة كنت لا أقبل الردّ عليها المتوفر آنذاك بين صفوف المثقفين التقدميين  .  انطلقت من أسئلة الجيل : لماذا الاستعمار , لماذا الاندثار الحضاري , لماذا العقم العلمي والفلسفي والفني , لماذا الدكتاتورية , في عالم فيه شعوب متقدمة غازية , خلاقة و ديمقراطية الخ ... تطور السؤال ليصبح بسرعة كيف نخرج من التخلف , من العقم الحضاري ومن الفقر , من الاستبداد بالرأي والقرار ؟ هكذا ووجهت يوما ككلّ شباب العرب منذ قرن بهذه التساؤلات وبكل الحلول المقترحة للردّ عليها ...

ومن ثمة فقد كان علي أن أنزل أنا الآخر إلى السوق الأيديولوجية لأختار المرهم السحري والدواء الناجح الذي سيشفي كل أمراض الأمة . وكانت السوق زاخرة بأصناف البضائع - الأدوية : إسلام سلفي , إسلام تقدمي , قومية عربية , ماركسية لينينية , ماركسية تروتسكية , ليبرالية غربية وحتى القومية التونسية ...

وقد كانت عملية الاختيار لا تخضع لحكم مبني على التدقيق في الجودة البضاعة وتجربة لها ما كانت مرتبطة باعتبارات ذاتية تتغير بتغير ظروف الساعة والحساسية الشخصية والتأثيرات الخارجية .

لقد بدأت الحيات الفكرية ككل الشباب عربي في مناخ متشبث بجذوره الإسلامية: قدوته ومثاله في الحياة عمر

 الخطاب, لا لشيء إلا لأنه قال " إنني أعجب لامرئ يموت جوعا ولا يخرج شاهرا سيفه على الناس " , أو لقوله

3 بارك الله في امرئ قوم اعوجاج عمر " . وكان اقتناعي بأن كل الإيجابيات في تاريخ الأمة العربية من الإسلام

( الفتوحات , الحضارة , التماسك , الصمود في وجه الاستعمار الخ ..) . وكان تعلقي به إذن تعلق متين , قوي , وعميق , إلا أن الشك داهمني بطول المدّة , لا شك الميتافيزقي المعتاد في هذه المرحلة من العمر , وإنما شك أعمق وأمرّ استعصى على العلاج , خاصة وأنه خلافا لما حدث للغزالي( النموذج الحضاري في مثل هذه المواقف العصبية)لم أصب " بنور قذفه الله تعالى في الصدور وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف " .

وقد اضطررت إليه ونحن نواجه إبان الدراسة الجامعية بمنهجيات أخرى ونظريات أخرى أجبرتني على المقارنة والتشدد في استخلاص النتائج .

وكانت خواطري المضطربة تدور دوما حول نفس المحاور : إن كان الإسلام العقيدة المثلى فكيف نفسر انحطاط المسلمين ؟ وهل يمكن الاكتفاء بالحجة الواهية إن تركهم للإسلام هو الذي أدى بهم إلى الانحطاط , أليس هذا الكلام بمثابة الادعاء بأنه لولا عدم نزول المطر لما كان الجفاف ؟

ثم هالني الفرق بين النظرية والواقع : من جهة تعاليم مثالية لم يفرط فيها من شيء ومن جهة أخرى ممارسة قرون طويلة من العبودية ( لم يلغي الرق في بعض البلدان الإسلامية إلا في ...1960 ) من ظلم المرأة , من التحجر الفكري , من  أشرس أنواع الاستبداد السياسي . وكان من الطبيعي أن تتلقفنا الأيديولوجية الماركسية ونحن في تلك الحيرة , لأنني لم أكن فردا معزولا وإنما جزء من جيل .

وكانت آنذاك ( الستينات ) في أوج قوتها وانتشارها , خاصة في الجامعات التي كنا نرتادها لنبحث عن العلم نام عنه أهلنا قرونا طويلة , ولم لهم منه إلا ذكريات باهتة لانتصارات ولت ومضت . لا همّ لهم إلا التذكير به آناء الليل وأطراف النهار ليتناسوا رداءتهم وعمقهم الحالي . واستهوتني النظرية خاصة في تأكيدها على أنها نظرية الحركة ونظرية التحرك , ولا يمكن أن تصاب بالجمود والتحجر لوجود محرك داخلي فيها أسمه الجدلية يجعلها تتجدد غبر موتها . "فحجبت " إلى الصين الشعبية يوم كانت محرمة على السواح لأنني تصورتها قلعة الفكر والممارسة الثورية , باحثا في تنظيم ''الكومونات'' وفكر ماو_تسي تونج  والطب كما يمارسه الأطباء الحفاة حلا لمشاكل بلدي , لكن الشك اللعين لم يلبث أن داهمني مرّة أخرى لينغّص عليّ راحتي الفكرية واطمئناني إلى اختيار الطريق الأصوب .

وقد بدأ الشك نظريا بحتا معزولا في البداية عن الإشكالية السياسية .

فهاهي الدعائم النظرية التي بنت عليها الماركسية دعائمها , أي علم القرن التاسع عشر تتهاوى أمام انفجار النظريات العلمية الجديدة كالنسبية théorie de la relativité والفيزياء النووية la mécanique quantique ونظرية الكوارث théorie des catastrophes  ونظرية النظام théorie de systèmes التي أذابت مفهوم المادة ودمرت معنى القانون وسخرت من خرافات السببية الميكانيكية النيوتينية , لكن الأخطر من هذا أنني لاحظت نفس الظاهرة التي لاحظتها إبان فترتي الإسلامية , أي التناقض المريع بين النظرية والممارسة ( وبين النظرية وتنبؤاتها ) فأداة التحرر المطلق أدت هنا أيضا إلى اعتي أنواع الديكتاتورية في شكل الستالينية , ونظرية التحرك الجدلي في النظرية والممارسة أدت إلى " سد باب الاجتهاد " , وفي حالة وقوعه إلى تراشق السباب بين " المؤمنين " , فهذا " تحريفي " والآخر يساري مصاب بمرض طفولي , وذلك تروتسكي بوخاريني رجعي لم يفهم الوصفة أو خانها عن قصد مثبتا بخيانته هذه صحة تنبؤات الكتب المقدّسة في فقرة كذا الخ ...

وكان علينا أن نؤمن بأن العمل الصهيوني هو الحليف الموضوعي للعامل الفلسطيني , والعامل الأبيض في جنوب إفريقيا رفيق كفاح العامل الأسود , وإن طبقة المحظوظين " النومنكلاتورا " في الاتحاد السوفياتي ليست طبقة مسيطرة , وإن عدم ملكية الفلاح لأرضه أمر واجب , وإن الرئاسة العائلية والرئاسة مدى الحياة وكبت الحريات والحرب بين البلدان الاشتراكية والحد من حرية شعوب بأكملها والتدخل عسكريا في شؤونها لمنعها من ممارسة حقها في الاستقلال أمور لا علاقة لها بالنظرية الماركسية الصحيحة الحقة . وهنا كنت أتذكر مقولات سمعتها في السابق فإذا بعقلي يترجم ساخرا " ما أجمل الماركسية وما أقبح الماركسيين " ليضيف بمرارة : وما الفائدة من النظريات الكاملة المكتملة التي تتولد عن مثل هذه الأخطاء وهذه الفظاعات التي تتركب ضد الإنسان , والتي لا يجوز الاحتجاج عليها بالواقع ؟

وكان مخاطبي هنا أيضا يحاول إقناعي بأن القدر لا بد أن يستجيب وانه عندما يطبق هو وشيعته " الماركسية الحقيقية " فإن الأمور ستعود إلى نصابها وكنت آنذاك أهز كتفي وقد أصبح الشك عندي يقينا , فكم رددوا مثل هذه التعلّة في السباق وكم من شيع وصلت بها على الحكم فإذا بالجبل يتمخض فيلد ... خازوقا .

وبما أن الطبيعة لا تحب الفارغ والفكر أيضا فقد قررت هذه المرة أن أبحث في الغرب نفسه عن هذه النظرية المثالية التي ستفسر لي العالم وتجعله مفهوما مستساغا من العقل والقلب , وعن برنامج للعمل قد يشكل الحل لتحقيق عالم الأخوة والعدالة والمساواة التي كنت وما أزال أبحث عنه بتعطش الإنسان الذي عانى طويلا من مرارة الظل

 والحرمان . هنا لم يطل تعبدي في المحراب , فقد كنا نعيش في خضم هذا الغرب المهيمن المسيطر , وكنت كعربي مهزوم حضاريا أرفض تلقائيا سيطرته عليّ بكل قواي ( وما كان بحثي عن حل في الإسلام أو في الماركسية إلا محاولة يائسة للخروج من فلكه ) , فقد اكتشف بسرعة إنه إذا كانت دعامات الفكر العقائدي الإسلامي أو الشيوعي صلبة بقدر مبالغ فيه , فإن دعامات الفكر الغربي الحديث متحركة بقر يصعب احتماله , فالفكر هنا في حالة صراع دائم ونظرياته في ميدان العلوم الإنسانية في تنافس وخصام شديدين . أما علومه الصحيحة فقد اتضح لي أنها ليست صحيحة بالقدر الذي كنا نتصوره كما لاحظت أنها تشهد من داخلها تطورات هائلة تضع في الميزان قدرتها على وصف الواقع رغم تحكمها المتزايد فيه إضافة إلى ما بدا واضحا من عنف العقل وعقلية العنف التي تميز الغرب في تعاملها مع الإنسان والطبيعة .

أما في ميدان التناقض بين النظرية والممارسة فقد لاحظت نفس الفرق الهائل الذي اتضح لي عند كل أصحاب الحلول الجذرية والنهائية , فمن جهة التشدق بالحرية والعدالة والديمقراطية وقيم الحضارة الغربية , ومن جهة أخرى استعباد الأمم والشعوب إما مباشرة أو بطرق ملتوية مع ممارسة كل أنواع التعسف ولو بتغليفها بذكاء ضد قطاعات متعددة من المجتمع الغربي نفسه , وقس على نفس المنوال ما يخص سائر المشاكل الأخرى كالديمقراطية التي بدت لعبة أحزاب وقوى مصرفية وإعلامية رهيبة تسيطر على شعوبا مدجنة إن لم نقل مرتشية .

بطبيعة الحال استغرقت هذه الرحلة في عالم الشك سنوات طويلة وكانت رحلة مليئة بالحيرة , بالتناقضات , بالاستفسارات , بالحماس الذي سرعان ما كان ينطفئ  بخيبات الأمل المتتابعة وكنت مدفوعا إلى هذا البحث الشاق الذي لا يكل , بشعور مرهف بما أسماه الفلاسفة الغربيين ب''الألينة'' أو التغرب  و " كان الوعي المؤلم " CONSCIENCE MALHEUREUSE طابعنا المميز نحن شباب تلك الحقبة ( الستينات ) .

وقد ولد أكثرنا في وسط فقير وشعرنا مبكرا بانتمائنا إلى طبقة دنيا واكتشفنا ولم نبلغ المراهقة بعد أننا ننتمي إلى بلد متخلف . ووجهنا في بداية شبابنا باكتشاف ثلاث هو انتماءنا إلى حضارة عجفاء , ذابلة , مهزومة , متكبرة في آن واحد لكن بكبرياء دون رصيد , إلى أمة قال فيها أحد شعرائها أنها أمة ضحكت من جهلها ( من تمزقها , من انقساماتها, من إنجازاتها ) الأمم ... لذلك كان الرد على الأسئلة التي ما انفك العقل يبحث لها عن إجابة مقنعة في هذه العقيدة أو تلك المسألة حيوية ... مسألة رد اعتبار للطبقة المسحوقة التي نشأنا فيها , للبلد الذي نحبه , للحضارة التي كتب علينا أن ننتمي إليها , للأمة التي كنا نحمل انتمائنا إليها فوق جبيننا تارة كإكليل غار وطورا كإكليل شوك . وكنا ولا نزال نبحث عن أقصر السبل لمجتمع الرخاء والكرامة والحرية , واستعصى رد الاعتبار وضاعت ملامح الطريق أكثر من مرة . وكان للنقاشات الطويلة التي أمضيت فيها الكثير من الوقت مع المؤمنين من كل حدب وصوب فضل كبير لا لأنها كانت تأتي بالحقيقة التي كان العقل النهم يبحث عنها , وإنما لأنها مكنت من اكتشاف التشابه بين كل العقائديين نفسيا ومنهجيا . فقد ظهر أن إيمان الماركسي والإسلامي – وإن اختلفا في الشكل – واحدا في طبيعته الخفية , أي أنه نفس الإيمان المطلق بالتعبير عن " حقائق " مقدسة أو موضوعية لا يمكن النقاش فيها , ونفس الإيمان بأن الآخر على خطأ

 وضلالة , ونفس الرفض المطلق لإعادة النظر في دعائم تفكيره الخ .. وبالتالي اتضح أن الفرق لا يكمن بين المسلم أو الماركسي , أو المنتمي لهذا الفكر الميتافيزيقي السياسي أو ذاك بقدر ما يكمن بين العقائديين من جهة ورجال العلم أو رجال الفن من جهة أخرى .

إلا أن الفضل الأكبر في بلورة أفكار هذا الكتاب يعود إلى الأحداث التاريخية العظمى والمتسارعة التي كانت تفرض نفسها على عقولنا وحواسنا ولم أكن لحسن الحظ أنتمي إلى تلك العقول التي قال عنها قاليلي العظيم إنها تفضل أن تغير ما في سماء الطبيعة على أن تغير حرفا من كتب أرسطو أو التي تدعي عندما تكتشف خطأ قالينوس في وصفه لأعضاء الجسم أن هذه الأعضاء تغيرت من وقت قالينوس حتى لا تضطر إلى مراجعة الحقيقة المخيفة : إن قالينوس قابل للخطأ وإن عليها أن تفكر بنفسها . كان نقطة التحول قضية دخول القوات السوفياتية إلى تشيكوسلوفاكيا سنة 1968 لقمع شعب مسالم متفق على الشروع في اشتراكية ذو توجه إنساني ملتف حول زعيمه وممثله " دوبشاك " . وكان من الخطورة بمكان بالنسبة للاشتراكيين أمثالي أن تقمع هذه الثورة المسالمة باسم الاشتراكية وزاد من حدة المأساة أن يكتب طلبة براغ على الحيطان : " أفق يا لينين لقد جنوا " فلم ينهض من قبره وواصلوا جنونهم ولم يجد يومها'' يان بالاش'' الطالب المسالم ما يواجه به جحافل الدبابات الهمجية إلا احتجاج الأقوياء الضعفاء : سكب البترول على جسمه وإشعال النار فيه ودخل أيان بلاش تاريخ بلاده شهيدا للحرية . وكنت أسمع حجج الماركسيين في تبرير هذا الاعتداء السافر على شعب مسالم , فأغضب , وكنت أزداد قرفا وأنا أسمع مقولة الاشتراكية شيء وتجاوزات الاشتراكيين شيء آخر , والتشهير باستعباد شعب بأكمله هو نتيجة عداء بدائي للشيوعية والسوفياتية . ورفضت أن أقبل الحجتين وخرج الشعب التشكوسلوفاكي بعد واحد وعشرين سنة ليعبر هو الآخر عن رفض تاريخي أهم , وبدأ الشك يداهمني في الفروع و في الأصول . هنا لابد من التذكير أنني أفكر كطبيب والطبيب لا يتعامل مع المشاكل إلا بالتشخيص الصحيح ولو كان مؤلم , ولا يقبل من العلاج إلا ما اتضح نفعه تجريبيا . وكنت وأنا أواجه أشباه الفلاسفة والثوريين بحجتهم المترهلة الماركسية شيء وكيم إيل سونج شيء وشاوشكو شيء وستالين شيء وبريجنيف شيء وخوجة شيء الخ ... والعودة إلى ماركس الحقيقي هو الحل , فتخيل وصفة يجربها زيد فتقتل , فنقول غلطة زيد ويجربها عمر فتقتل , فنقول غلطة عمر ونبقى نجرب بغباء وإصرار دون أن يخطر ببالنا أن الوصفة نفسها بحاجة إلى المراجعة أو النقد وجاءت الأحداث الأخيرة في الاتحاد السوفياتي وبولونيا وألمانيا الشرقية والصين تؤكد على ما نعرفه بالحدس أن على النظرية أن تسلم بالواقع وأن تطأطئ له الرأس طال الزمان أو قصر . وكان للطب أيضا دوره في توجيه الرد في قضية التفاضل بين العقائد , فنحن لا نقبل مبدئيا الإقرار بفضل علاج على آخر إلا بمقارنة صارمة تعتمد قياس مؤشرات موضوعية . ولا نعتبر ما تصفه لنا شركات الأدوية من منافع إلا إشهارا يجب الشك فيه خاصة إذا كان مرفوقا بتجارب لأشهر الأطباء في أشهر المستشفيات لكنها تجارب لم تنشر في المجلات الطبية الراقية وإنما في كتيبات أنيقة تطبعها نفس الشركات, بعد إغداق أموال هامة على " علماءها " .

خرجت إذا في بداية السبعينات من الماركسية غير آسف عليها وهازا الكتفين وأنا أسمع من ينعتني بالمثالي المثقف البورجوازي الصغير , وكان عليه أن ينعتني بالمتمرد العلمي الصارم . ولا أكن واعيا أنذاك بأنني على موعد مع إشكالية ضخمة هي الإسلام , فقد كنا نعتقد في بداية السبعينات أنه موضوع أغاق وانتهى , وكان الجدل الوحيد قائما بين التقدميين والقوميين أو المتعلقين بشكل أو آخر بالفكر الماركسي وبين الليبراليين المتهكمين على موت الايدولوجيات . والحق أن علاقتي مع الدين كانت ولا تزال بسيطة وبالغة التعقيد في آن واحد . فقد رفضت دوما الانبتات وأصررت على أن لا أفكر إلا من داخل المنظومة العربية الإسلامية , وكنت لا أجد أدنى صعوبة لتجري في اللغة والتقاليد العربية وقبول الإسلام كثقافة وحضارة ومنفذ إلى العلم الروحاني , باحثا في الماركسية عن أداة علمية لتحليل اجتماعي – اقتصادي وسياسي صائب مع رفض تصورها الساذج لقضية الدين كمجرد أفيون شعب أو إلحادها لأنني كنت ولا أزال مؤمنا بوجود قوة غيبية أقف خاشعا أمام إعجازها وعبقريتها وأنا أدرس روائع البيولوجيا . ومن ثمة انشطار النفس إلى شطرين : توجه عقلاني حداثي علماني صارم وتعلق متين من تراث الأباء والأجداد . ولم أكن موفقا ساذجا ولا ملفقا خبيثا في هذا والفضل راجع من جديد للطب في بلورة هذا التوجيه لأن الطبيب لا يتنكر للتراث الطبي فهو متجذر فيه لكنه لا يحمله ما لا يطيق إذ هو مفتوح على تطور المعارف مدركا لما فيها من نقص , باحثا عن أقصى قدر ممكن من النجاعة , قابلا لمبدأ وضرورة التغيير المستمر . فلا محبة أبو قراط ولا الإعجاب بالرازي يسمرانه مكانه لتطبيق وصفاتهما ولا تجاوزه لهما ينسيه فضلهما عليه لذلك لم أجد يوما أدنى صعوبة في تجاوز النص كل نص لمتابعة النفس المسجونة داخله لان هذا ما نفعله طيلة تاريخنا الفكري في الطب بدون توقف أو حرج . فالطبيب خلافا للعقائدي ملزما بمتابعة المهمة لا بالإستكانة إلى نصوص جامدة . وكنت أفهم تلقائيا أن الثائر الأعظم جاء في قوم يقتلون بناتهم فحرم ذلك وفي قوم يتزوجون ما شاء من الناس , وحدد ذلك , وفي قوم يحرمون المرأة من كل إرث , فكانت ثورة الثائرين لما وهبها النصف , وفي قوم بنيت حياتهم على الرق فلطفه ما استطاع وكان ذلك أقصى ما كانت تسمح به الظروف . ولأن الظروف تغيرت أصبحنا لا نكتفي بهذا المقدار وغنما نلغي الرق ونطالب بالمساواة التامة بين الرجل والمرأة . ولا أعجب من شيء قدر عجبي ممن يواجهونك بنصوص خلقت في زمان ومكان غير زماننا ومكاننا محتجين على الواقع المتغير بجملة سحرية من نوع صالح في كل زمان ومكان ومتجاهلين أن التمادي في هذا المنطق يعني إعادة الرق لأن النصوص لم تلغه وإنما قننته وربما استمد هذا التعجب من قناعة عميقة لا برهان عليها ولا دليل , ألا وهي أن الثائر الأعظم لو بعث اليوم حيا لمشى شوطا أبعد في تحرير الإنسان ولربما كان أول ما يفرض مثلا هذه المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة .

لم يخطر لي على بال إذا أن بوسع  الدين أن يعود يوما كتعبير عن تطلعات التحرر الإنساني , ففي بداية الستينات كل الإسلام السياسي مرادفا للحلف الإسلامي لملك فيصل الموجه ضد عبد الناصر ومناورات الأخوان المسلمين أي للرجعيين , لذلك فوجئت ككل المثقفين التقدميين طيلة السبعينات بإلتهاب جذوة الإسلام السياسي في الوقت الذي كان فيه بريق الماركسية ينطفئ شيئا فشيئا لا بفضل أعداء الاشتراكية وإنما بفضل دموية الرفيق بول بوت في كمبوديا , ودكتاتورية الرفيق كيم إيل سويخ في كوريا الشمالية , فملكية الرفيق تشاوشسكو في رومانيا نهيك عن غطرسة الرفيق بريجنيف وحرب الحدود بين الصين والفيتنام , وانطلاق الثورة العمالية في بولونيا بقيادة النقابيين ... الكاثوليك . كان أمرا غير متوقع وواجهه الجميع في ما أعرف بسيل من التهم والتعابير الإرهابية المبتذلة والمعروفة .

 تدخلت عقلية الطب من جديد, لأننا في مهنتنا لا نشتم الإعراض وإنما نتساءل عما تخفيه , لذلك تركت السب والشتم لأصحابه وحاولت أن أفهم الظاهرة , ولم يكن المرء بحاجة إلى كثير من الذكاء ليفهم أن راية الرفض مرت من يد إلى أخرى . فقد كنذا كلنا أمام بورجوازية عاقرة – عاهرة – منبتة تتكلم الفرانكو آراب أو الإنجلو آراب , دينها الدرهم والدينار . وكانت هذه البورجوازية المدنية أو العسكرية التي أفرزتها حركات الاستقلال وانتصاب الدولة الوطنية تأخذ بخناقها جميعا تارة باسم الدولة العصرية والحداثة وتارة باسم التجذر في الدين والهوية , وكان نصيبها من الاستقلال اللحم والشحم ونصيب القطاعات العريضة من الشعب العظم وما علق به من لعاب هذه البورجوازية .

ولان الخطاب الاشتراكي تهاوى , ولأن الطبعة لا تحب الفراغ فقد كان من الطبيعي أن تستنجد قطاعات عديدة من الشباب العربي بأول راية للثورة في تاريخنا : الإسلام .

إن أبسط قراءة لجذور الحركات الإسلامية في الوطن العربي في مصر تظهر أنه كلما كان الفقر مدقعا والظلم فائقا لكل الحدود , كلما كان الرفض تحت راية الإسلام عميقا جذريا منتشرا ولا ربما كان أحسن مثال على عمق الرفض وارتباطه بعمق الظلم مأساة مصطفى شكري زعيم حركة التفكير والهجرة الذي شنق في مصر سنة 1977 فقد قدمته كل وسائل الإعلام العالمية والعربية كإرهابي متعصب بل وكمجنون خطير يكفر كل المسلمين وينادي بالاعتصام بالكهوف فرارا من الكفار . ولم يخطر ببال هؤلاء القيمين على السلام والتقدم أن يتساءلوا بعقلية الطبيب عن سبب العنف عند مصطفى شكري وجماعته , ولربما اكتشفوا لو تساءلوا أنه كان ردة فعل بحجم عنف الفقر والقمع السياسي المسلط على شباب بلا أدنى مستقبل , ولم يكن الفقر وحده المحرك وإنما هذه الأنفة التي كان فرسان الحداثة يخدشونها دوما عندما جعلوا من تراثنا مستودعا لا منهلا .

لكل هذه الأسباب تعاطفت مع قوى الرفض الجديدة رغم تباعد المواقف النظرية رافضا أن أتوقف عند حرفية الحطاب وهوية المتكلمين , محاولا أن أنفذ قدر المستطاع إلى فحواه وروحه إلا أن عقلية التجريب الطبي لم تكن تسمح بالطوباوية , فقد كان الشك في قدرة هذا التيار الجديد على دفع المشروع التحرري قدما إلى الأمام عميقا , ملازما لا ينفع فيه دواء الأمل والتوهم , لذلك تابعت غرق الثورة الإسلامية في إيران في الدم والفظاعة بنوع من اليأس الحزين .

وتعمق الحوار في بداية الثمانينات بيني وبين نفسي حول أسباب تواتر الفشل وقد تعرض لهذه الإشكالية العالم الاجتماعي الفرنسي ادقار موران بتركيز واقتضاب قائلا : أن هناك في العالم قوى رهيبة تبحث عن التحرر وفي الأخير لا تفعل سوى ترسيخ عبوديتها .

وكان موضوعي في بداية السبعينات فهم أسباب هذا المصير المأساوي لقوى التحرر التي تتمخض دوما عن قوى استبدادية تكون في بعض الأحيان ألعن مما قاومتها . وبحثت لسنوات عن الرد بالعودة إلى النظرية – إلى الوصفة لأكتشف جذور الاستبداد فيها إذ قد علمني الطب أن أعود دوما للخلل الكامل داخل الخلية لفهم مرض الجسم بأكمله . وكانت رحلة طويلة في عالم الفكر العقائدي عدت منها بقناعة أن القضية أعقد مما تصورت لأن كل بذور التحرر وكل بذور الاستبدادية موجودة في آن واحد و الإشكالية النظرية جزء من المشكل .

و من ثمة انتقل السِِؤال إلى مستوى آخر  : ما الذي يجعل نزعة الاستبداد تتغلب على نزعة التحرر داخل كل عقيدة ؟ ووجدت الرد لا في نقاشات المثقفين وإنما في المعانات اليومية . في احتكاك في إطار علمي في ميدان الطب الجماعي بعمق الفقر والحاجة والخصاصة إذ يتمرد الناس خاصة الشباب على الفقر والظلم باسم هذه العقيدة أو تلك ويستنجدون براية التحرر تحمل هذا الاسم أو ذاك , ويأخذون السلطة في هذا البلد أو ذاك ليرتطموا من جهة بسلبيات الفكر الذي حملهم إلى السلطة ومن جهة أخرى بحاجز الفقر الموضوعي الناتج عن ضعف قوى الإنتاج , فتكون خيبة الأمل والمرارة والمطالبة بتحقيق الوعود , وأمام الاستحالة الموضوعية لتحقيق هذه الوعود , يتهيكل النظام الجديد كسابقه على قاعدة التوزيع الظالم للقرار أي للثورة وهكذا أضيف الفصل الأخير إلى مخطوطة تمحورت لسنوات حول النظرية وحدها . والسؤال هو إلى متى ستبقى قوى التحرر ترتطم ثورة بعد ثورة بالاستبداد الفكري أي السياسي أو السياسي أي الفكري وبالقصور التكنولوجي فتتحطم أحلام الحرية والرخاء , بماذا سنستنجد يوم يفرز الحزب الإسلامي المنتصر في هذا البلد أو ذاك فظاعته ممارسا الوصاية والإقصاء والقمع ومبرزا النومكلاتورا الإسلامية .

وحتى لا نغرق في اليأس وحتى لا نواجه المستقبل بنفسية المهزومين , أقول أنه علينا الاستنجاد بعقلية الطب . وقديما قال الطبيب الألماني الكبير فيرشوف " إنما السياسة طب لكن على مستوى شعب " .

والعقلية الطبية تأمر بأن نبقى نجرب الدواء بعد الدواء على شرط أن يكون تشخيصنا صحيحا .

لذلك أقول لنبدأ أولا بتشخيص مأزق التحرر , لنأتي بعدها جماعيا إلى مرحلة التطبيب .



                                                                 ***






الفصـــل الأول



الطــــــرح الآخــــــر





«  يا للناس من قوم فاتنين , إنهم دوما يداوون ويزيدون ويعقدون مرضاهم واختلال أنظمتهم متوهمين بأن عقارا سحريا ما ينصحهم أحدهم بتجربته سيشفيهم ولكن حالهم لا تتحسن أبدا , بل تنحدر من سيء إلى أسوأ – أليس فائدتهم كفائدة المسرحية فهم يجربون يدهم في التشريع متوهمين أنهم سيضعون عن طريق الاصلاحات نهاية لعدم استقامة الجنس البشري ورذالته غير عالمين أنهم فعلا وواقعا بأنهم يقطعون رؤوس هدرة Hydra »

أفــلاطــــــون







الصــــراعــــات النظــــريــــة



يقول التوسار أن " الصراعات النظرية هي صراعات سياسية داخل النظرية " , وهو محق في هذا إلا ما فاته توضيحه هو الرهان , والرهان كان وسيبقى المشروع التحرري بأشكاله وأنواعه وأسمائه المختلفة و والنظرية هي دوما القوة التي تعبر في الزمن ما ومكان ما بأسلوب ما عن تقييم لمرحلة من مراحل هذا المشروع وتعطيه دفعا جديدا في قالب هذا النظام السياسي أو ذاك .

والنظرية مرتبطة أوثق الارتباط بالطبع بما ينتج عنها من تطبيق على أرض الواقع , تأثر عليها وتتأثر بها سلبا وإيجابا مثلا قولبت النظرية الماركسية المشروع التحرري في أوروبا القرن التاسع عشر وتمخضت عنها أنظمة حكمت نصف الكرة الأرضية وهاهي الآن تنهار الواحدة بعد الأخرى أو تراجع أبجديتها , فمن المجر التي تنزع النجم الأحمر من برلمانها إلى حائط برلين الذي أسقطته الجماهير الشعبية الذي بنى باسمها لحمايتها إلى " ملك " مجنون شيوعي في رومانيا ... الخ .

كلها تجارب تاريخية توجه إلى النظرية التي ولدتها أكبر التحديات , شأنها في هذا شأن الاكتشافات المخبرية في هذا الميدان التي تضع على المحك نظريات علمية خالها الفكر صلبة قارة أزلية .

إن ما يحدث اليوم في أرمينيا وبولونيا والمجر وألمانيا الشرقية نهيك عن الاتحاد السوفياتي لا يفعل إلا تأكيد توقعات العديد من الأعمال التقدمية للمشروع التحرري في ثوبه الماركسي والسابقة بعقود للفترة الحالية أكانت أعمال Hanna  Arendt وSolynestyne و Marcuse  و Medvedev ... الخ .

فقد كانت كل بوادر فشل المشروع موجودة منذ عشرات السنين بعد أن دخلت النظرية في حيز التطبيق , لذلك كان من الطبيعي أن تطلق الثقافة صفارة الإنذار كما هو شأنها دوما في مثل هذه الحالات , إلا أن من طبيعة التجربة السياسية أن لا تصغي على مثل هذه الصفارات السابقة بل أن تحاول إخمادها لأنها مدفوعة بديناميكيتها الخاصة التي لا تتوقف كالحجرة التي تتدحرج من أعالي الجبال أي إلا عندما تصل قاع تجربة اسمها الفشل الكامل والتكذيب القاطع لآمال المشروع التحرري . إن ما كانت النظرية التقييمية تشير إليه وما أكدته الأحداث الأخيرة بصفة قطعية هو كالآتي :

q       فشل قدرة التوقع داخل المشروع التحرري في ثوبه الماركسي حيث ظهرت الثورة الشيوعية أي لم تكن منتظرة ولم تظهر أي كانت " القوى الموضوعية المزعومة " تجعل ظهورها أمرا إلزاميا .

q       فشل هذا المشروع في جعل السلطة أداة بيد الشعب لصالح الشعب بل وعودتها على طغيان فاق كل الحدود التي عرفتها التجارب التاريخية الأخرى ومن ثمة سحق الإنسان حتى العظم هذا الإنسان التي بعثت النظرية أساسا للتبشير بخلاصه .

q       فشل هذا المشروع في تحرير الإنسان من عبوديته الخاصة المادية وهو فشل نسبي بالطبع , إذ هو يقارن ما حققه المشروع التحرري في ثوبه الليبرالي – الغربي والذي صوت له سكان المناطق الشيوعية بأقدامهم هربا من الظلم والفاقة إلى واحات العالم " الرأسمالي الإمبريالي " .

يبقى أن نقيم نحن هذا الفشل والمستوى الأول الذي لا يهمنا لتفاهته , وهو الشماتة النابعة من المنافسة العقائدية أكانت الليبرالية الغربية , أو الحرة الإسلامية , والتبجح بنجاح لازال ينتظر تأكيدا أكبر .

والمستوى الثاني الذي يهمنا بالأساس هو مستوى المشروع التحرري نفسه لأنه هو الذي كبا من جديد في ثوبه الماركسي مثلما كبا العديد من المرات في هذا الثوب أو ذاك .. أو بما أن تحرر الإنسان هو الرهان , وأن الإنسانية لا تفعل عبر تاريخها المأساوي إلا تجريب هذا الحل أو ذاك لتحقيق هذا التحرر , فإننا مطالبون بتجاوز خيبة الأمل ومطالبون بفحص هذه التجربة الجديدة علنا نتعلم منها بعض المعطيات فالتجارب الفاشلة نفسها غنية بالعظات , وقد تعودنا على فهم أعمق للصعوبات التي يواجهها المشروع التحرري ومن ثمة على نضج أكثر من التعامل مع الصعوبات .

السؤال : لماذا فشل الإسلامي ( نسبيا أو كليا حسب الزمان والمكان ) وفي نشر الإسلام ؟ ولماذا أخفقت المسيحية في تطبيق تعاليم المسيحية ؟ وكيف وصلت الماركسية إلى طورها الحالي من التشريع لنظام عسكري يحل نقابات العمال ويطلق الرصاص على تظاهراتهم ؟ تبعه انهيار اقتصادي وقد يتمخض عن نظام ليبرالي ... ؟

كيف تمخض الإسلام الذي ينادي بالحرية والمساواة والعدالة والذي وجد أصلا لينشر هذه القيم عن أنظمة متعددة عبر التاريخ , حكمت باسمه ومارست العبودية والظلم وكانت الحجة والذريعة للعقول التي فرضت التحجر الفكري ؟ لماذا يسهل عادة في إطار هذه الأنظمة قمع الساخطين على ظلم أمير المؤمنين باسم التعاليم الإسلامية المثالية وباعتبار التمرد على ظلمه تمردا على التعاليم التي نصّب نفسه حاميا لها وناطقا باسمها ؟

كيف ولماذا تنقل العقيدة من طور إيجابي فعال إلى دور سلبي يقاوم الحركة ؟ كيف ولماذا تصبح المغامرة الفكرية والسياسية التي فتحت آفاقا للعلم والعمل أهم عقبة تقف في وجه تطور هاتين الحاجيتين ؟ باختصار كيف ولماذا تصبح أداة التحرر أداة استبداد ويكون ردهم عادة على هاته التساؤلات أنه لا يجوز الاحتجاج بالمسلمين على الإسلام أو بالحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي أو الكمبودي على الماركسية . وهذا ليس برد وإنما استعباد له , لذلك لن نتوقف عند هذا الحد .

                                                                       *







المبـــــتــــذلات



إنها إشكاليات المستوي الأول أي إشكاليات التفاضل أو القدرة على تحقيق المشروع التحرري أحسن من كل المنافسين , مع ما ينجر عن هذا من مشاكل ثانوية هامشية لا بد من التعرض إليها بعجلة للإعراض عنها نهائيا . وقد وصفها ابن المقفع فقال :

" وأردت الدين فلما وقع ذلك في نفسي اشتبه علي أمر الدين , أما كتب الطب فلم أجد فيها لشيء من الأديان ذكرا يدلني على أهداها وأصوبها وأما الملل فكثيرة ومختلفة ليس منها شيء إلا وهو على ثلاثة أصناف : قوم ورثوا دينهم عن آبائهم وآخرون أكرهوا عليه حتى ولجوا فيه وآخرون يبتغون به الدنيا وكلهم يزعم أنه على صواب وهدى وأن من خالفه على خطأ وضلالة . والاختلاف بينهم كثير في أمر الخالق والخلق ومبدأ الأمر ومنتهاه وما سوى ذلك , وكل زار وله عدو وعليه كاتب فرأيت أن أنظر في علم كل ملة , وأناظرهم وأنظر فيما يصفون لعلي أعرف , لذلك الحق من الباطل فأختاره وألزمه على ثقة ويقين غير مصدق بما لا أعرف ولأتابع ما لا يبلغه عقلي . ففعلت ذلك وسألت ونظرت فلم أجد أحدا من الأوائل يزيد عن مدح دينه وذم ما يخالفه من الأديان فاستبان لي أنهم بالهوى يستجيبون ولا يتكلمون بالعدل ولم أجد عند أحد منهم صفة تكون عدلا ويعرفها ذو العقل ويرضى بها . فلما رأيت ذلك لم أجد إلى متابعة أحد منهم سبيلا ... " ولم تتطور مفاهيم وعادات العقائديين من عهد الكاتب الفذ إذ مازالت ظاهرة التفاضل أهم ظاهرة تميز تفكيرهم .

يقول عباس محمود العقاد في " مدح دينه وذم ما يخلفه من الأديان " : " إن شمول العقيدة ( الإسلامية ) في ظواهرها الفردية وظواهرها الاجتماعية هي المزية الخاصة التي توحي إلى الإنسان أنه كل شامل فيستريح من خصام العقائد التي تشطر السرير إلى شطرين ثم تعبأ بالجمع بين الشطرين على وفاق . وهذه العقيدة الشاملة هي التي أفردت الإسلام بمزية لم تعهد في دين آخر من الأديان الكتابية فإن تاريخ التحول إلى هذه الأديان لم يسجل لنا قط تحولا إليها من دين كتابي آخر بمحض الرضا والاقتناع , ولم يحدث قط في أمة من الأمم ذات الحضارة العريقة أنها تركت عقيدتها لتتحول إلى دين كتابي غير الإسلام . وإنما تفرد الإسلام بهاته المزية دون سائر العقائد الكتابية ورغبهم جميعا فيه ذلك الشمول الذي يجمع النفس والضمير ويعم بين الناس على تعداد الأقوام والأوطان ويحقق المقصد الأكبر من العقيدة الدينية فيما امتازت به من عقائد الشرع وعقائد الأخلاق وآداب الاجتماع ".

وللمفكر الماركسي ''لوفافر'' رأي مخالف وشبيه في نفس الوقت في موضوع المزية التي لم تعهد في " دين " آخر غير الماركسية والتي تفردت بها الماركسية دون سائر العقائد يقول :

" الماركسية حركية تفكير شامل تجمع وتوحد مختلف الظواهر لا ولن تتوقف في تقدمها وتطورها , وهي معرفة علمية للعالم تتحرك دائما وأبدا نحو مزيد من التعمق الذاتي إذ لم ينته تطورها بعد وهي توالي كذلك تقدمها المطرد إلى الأمام كسائر العلوم الأخرى بدون أن تهدم أسسها . وقد استطاع توحيد مظهرين مختلفين من مظاهر التفكير البشري أي العلم والفلسفة , وهي تتميز بانغماسها في الواقع الموضوعي الذي تكشفه وتترجم له بدلا من التباعد عنه أو استخراج جزء منعزل عنه وقد حوت بعد أن أحدثت فيها تغييرات جذرية سائر الفلسفات المجزئة والمفككة " .

ولا فائدة في الإكثار فلكل عقيدة كتّاب نهجوا على هذا المنوال وجبروا كميات هائلة من الورق في هذا المعنى ومن الأجدى التوقف عند المواقف التي يثيرها هذا الادعاء حتى نتفادى الوقوع فيها وهي على ثلاثة أصناف :

أولا : يشكل الموقف العقائدي المتعنت الذي وصفه ابن المقفع أكثر المواقف انتشارا , إذ ترث أغلبية الناس الادعاء العقائدي بالأفضلية والأزلية وتكتفي بقناعة الآباء والأجداد وبقناعتهما كحجة دامغة تثبت حقها الكلي والمشروعي في امتلاك كل الحقيقة بلا شريك أو منازع , وتحارب بعنف أعمى المخالفين في الملة والمتمسكين بالمنطق نفسه . وقد يعتنق بعض الناس الادعاء العقائدي عن رضا ووعي , ولكن تصرفاتهم هي نفس تصرفات الورثة إذ يستسلمون للعقيدة عقلا وروحا ولا يسلمون بأبسط مقومات التفكير النقدي ويرتبط هذا الموقف بالتزامات سياسية معينة نسميها بالمحافظة ثانيا : يشكل الموقف التوفيقي ثاني المواقف وقد علق عليه أصحاب النوايا الطيبة آمالا واسعة إذ يخلصهم من الحزازات والصراعات التي يدركون عمقها فتراهم ينادون بإمكانية الجمع بين عقيدتين

 ( أو أكثر ) بمزايا التوفيق بينهما والأخذ بأحسن ما في كل واحدة منها بغض النظر عن تباعدهما الشكلي . وقد عبر غاندي عن هذه النظرة في كلمته الشهيرة " إنما الأديان لغات ناقصة يستعملها أناس ناقصون للتعبير عن حقيقة كاملة " وطبقها في ترتيله للقرآن والإنجيل وكتب الهندوس المقدسة في نفس الصلاة .

ثالثا : تشكل بعض المدارس الفلسفية المثالية ثالث هذه المواقف وآخر ملجأ للفكر المتحرر نسبيا , إذ يواجه الفيلسوف بمقتضاه الادعاء العقائدي بتحفظ قلما يثبت عليه فلا يلبث أن يستبدل قناعة بأخرى وتستمر المهاترة التفاضلية على صعيد آخر . وقد أسهمت الأدبيات العقائدية على مر العصور في حصر الكلام حول هذه المواضيع فسخر أدب الإثبات قدرات المتكلم لخدمة منطلقات وأهداف الزعم العقائدي , وأدى هذه الأخير دوره بصدق نية أو لغرض في نفسه . بينما دار أدب الشرح في حلقة مفرغة من التحاليل والتنقيب عن الدرر الثمينة الكامنة في تعريج الجمل الغامضة ومتاهات الكلمات والاصطلاحات التي تتحمل بسهولة عجيبة شتى التأويلات , ولا يعدو هذا الشرح أن يكون في غالب الوقت ترديدا تتفاوت فيه جودة التمحيص وعبقرية التبرير تفاوتا كبيرا حسب قيمة الشارح ومدى إخلاصه للنصوص أو استعماله لها لدفع بعض أفكاره وسربلتها برداء العقيدة , بينما ألهب الأدب النضالي صدور العامة بالحماس اللازم لسوغ العالم والإنسان وفق المقاييس العقائدية وتجاوز الصعوبات الهائلة التي يثيرها الواقع . ولا تزال هذه الأدبيات تستنفذ كثيرا من الطاقات .

ويبقى النقاش يدور إلى مالا نهاية في حلقة مفرغة .

يقول ماكسيم رودنسون " أن هناك ماركسيات كثيرة بالعشرات والمئات , ولقد قال ماركس أشياء كثيرة ومن اليسر أن نجد في تراثه ما نبرر به أية فكرة . إن هذا التراث كالكتاب المقدّس ( أسفار التوراة والأناجيل وملحقاتها ) حتى الشيطان يستطيع أن يجد فيها ما يؤيد ضلالته " .ويقول محسن الميلي في نفس السياق في الإسلام :

" ولا نعجب من إنسان يدرس القرآن ويقف عند الآيات المتشابهات أن يظهر له أن كل القرآن متشابه , أو يقف عند الآيات التي يدل ظاهرها على الجبر أن يقول أن الإنسان مجبر وليس مخيرا , لا نعجب مما لا يرى من التراث الإسلامي إلا الصفحات المشرقة أن يصوره على أنه تاريخ " ملائكي " , كما لا نعجب ممن لا يرى في هذا التراث إلا الصراعات الدموية على السلطة أن يقول بأن التراث الإسلامي يمثل أحلك عصور الظلام , لا نعجب أن يأتي تأويل

" قومي " للإسلام يتعصب للعروبة ويجعل الإسلام ظاهرة من ظواهر الإبداع العربي متهما كل من ليس بعربي بأنه عنصر طارئ ودخيل على الأمة لا نعجب أن يأتي تأويل " رأس مالي " للإسلام لمجرد سماح الإسلام بالملكية الفردية والتجارة الخاصة , كما لا نعجب أن يأتي تأويل " شيوعي " للإسلام ينطلق من تأويل لبعض النصوص والأحداث " .

المشكلة أن الميلي ( مثل رودنسون ) لا يفعل سوى إضافة قراءة أخرى عندما يطالبنا بالخروج من " هذه الأغاليط والمغالطات " بتجاوز" النظرة  التجزيئية التي لا تقف على انسجام الموضوع وتكامله " ونحاول عبثا تجاوز النظرة التجزيئية لنكتشف بسرعة أننا لم نفعل سوى التمادي في التجزئة وهكذا نبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة : البحث عن النظرية المثالية التي ستتمخض حتما إن طبقت كما ينبغي عن الممارسة المثالية .

 وحتى لا نكرر أنفسنا , حتى لا نعيد أنفسنا إلى ما لا نهاية حتى لا نتراكم كما يقول أدونيس يجب أن نتجاوز التجاوز , وأن نطرح أسئلة أخرى وعلى مستوى آخر .







الإشكـــاليــات الــدسـمـــة



- كيف يمكن تفسير التناقضات الهائلة والفرق الشاسع بين ما يوجد في الكتب وما يجري في الواقع , كيف متى ولماذا وقع الانفصام ؟

- لماذا هذا التقديس الشديد للنظرية ورفض المساس بها وتطويرها وحتى إعادة صياغتها , وما هي درجة الصحة في ادعاء العقائديين بأنها حجة على كل شيء ولا شيء حجة عليها ؟

- كيف يمكن العقيدة أن تنظر للتحرر وتغلف ممارسة الاستبداد ؟

- لماذا هذا الرفض المطلق عند العقائديين باعتبار التجربة التاريخية وكلها تجربة استبداد ؟

- كيف ولماذا يختار الإنسان مواقفه العقائدية ولماذا يثبت عليها وأي وظيفة فكرية اجتماعية يؤديها الخيار والثبات ؟

- ماذا لو كانت للعقائد ازدواجية الطبع والخصائص , أي أنها في نفس الوقت إيجابية وسلبية ؟

- هل تتطور سلبياتها عبر التاريخ فتطغى على إيجابياتها , أي هل يجوز تشبيهها بكائن حي يولد فيشب يافعا ثم شابا ليصيبه الهرم يوما فالموت . أليس النشوء فالتطور فالهرم فالموت قانونا عاما في الكون تخضع له كل أجزائه , أكانت في عالم الجماد أم من عالم الحياة , أترى الكائنات الفكرية تخضع هي الأخرى لنفس القانون ؟

- هل  نعتقدها قارة تتحدى الزمن ( في حين أنه لا شيء يتحدى الزمن ) كما نعتقد أن الجبل لا يتحرك لأننا لا نملك الوقت الكافي لملاحظة تحركه نظرا للتفاوت بين مقاييس زمننا وزمن تحرك الجبل ؟ عن كانت هذه النظرة الخلدونية صحيحة فكيف تولد العقائد , بماذا تحيا وبماذا تموت , وهل جذور الموت كامنة في أعماقها شانها في هذا شأن الكائن الحي الذي يحمل أوامر موته في داخل التركيبات الكيمياوية التي تحمل أوامر الحياة نفسها ؟

هل العقائد إذا ردود مؤقتة وإن طال ترحالها عبر الزمان لكن لأي حاجة قارة ؟ هل هناك حاجة في الإنسان اسمها الحاجة العقائدية تتالى العقائد لإشباعها مثلما تتالى مدارس الفنية والعلمية لإشباع حاجته إلى الفن وحاجته إلى المعرفة .

هذا الكتاب محاولة لإعادة طرح الموضوع ومحاولة لإيجاد مخرج من مأزق نظري لا زالت ترتباته على الصعيد السياسي عاملا من عوامل تخلفنا .





الفــــــرضـــيـــات





نعرف كلنا ظاهرة تراشق العقائديين بالسباب ولا نكلف أنفسنا عناء تفسير الظاهرة والغوص في أعماقها إما لأننا نعتقد في إطار تشبعنا بالمبتذلات التي وصفها ابن المقفع إن علينا الانتصار لأحد الخصمين , أو لأننا كليهما باسم" التسامح" في نفس الكفة طالبين من الله أن يهدي كل الناس إلى سواء سبيل التآخي والتفاهم إلى آخر المعزوفة . لنضع الحكم المعياري جانبا ولنحاول الإصغاء السباب لنفهمه وتفسيره قبل المسارعة إلى دخول حلبة الصراع أو الانسحاب منها بفضل حبنا العميق للتسامح .

ترى ما الذي يقصده الطالب الإسلامي عندما يصف زميله الطالب الشيوعي بالإلحاد والعمالة لنظام قتل عشرين مليون فلاح , وما الذي يعنيه هذا الطالب الشيوعي عندما يكيل الصاع صاعين لزميله الإسلامي فيصفه بالظلام الرجعي المتشبث بممارسات قروسطية كقطع الأيدي ورجم الناس وتبرير الظلم الطبقي وتفاوت نصيب الناس من الدنيا ؟ فهل الماركسي حقا ما يصف الإسلام وهل الإسلام فعلا ما يشجبه الماركسي ؟ طبعا لا , ولكن الأمر لا يتضح لا لهذا ولا لذاك لأنهم يجهلان أن " الإسلام " أو " الماركسية " كائن معقد وليس بالبساطة التي يتصورانها فالعقيدة أيا كان اسمها ومضمونها هي شيئان :

1- المشروع التحرري النظري : ويوجد هذا المشروع في الكتب والأعمال والنظرية المختلفة التي ترتكز عليها العقيدة وقلما يمكن مؤاخذة هذه الكتابات لأنها تتوثب طموحا لتحرير الإنسان من ربقة الاستغلال والاضطهاد والقمع , وهذا ما سيمكن في ما بعد من تفادي الإشكالية برفض الاحتجاج على العقيدة والممارسة باسم العقيدة النظرية .

2- الممارسة وهي كما علمنا التاريخ دوما ممارسة الاستبداد تنفي في الواقع وتكذب وتسفه المشروع التحرري , بل وتستعمله كغطاء لتركيز الاستغلال وتعميقه . والآن لنعد إلى خصام طالبينا .

من البديل أن كليهما مقتنع بأنه على حق وصواب وأن الآخر على خطأ وضلالة , وهما على أهبة الاستعداد عندما تتوفر الفرصة للفتك بالعدو العقائدي ممثل الشر وعدو الإنسانية بمنتهى راحة الضمير , فمن البديهي أيضا أن كليهما وقفا عند نصف الآية .

 لنعد طرح سؤالنا بكيفية مغايرة من أين يستمد الإسلام أو الشيوعي قناعته بأنه ناطق باسم الحق والهدى ؟ والرد بديهي : من مشروعه التحرري ونصوصه التي لا غبار فيه , والآن على ماذا يستند يا ترى لهاجمة الخصم العقائدي ؟ والرد كذلك بديهي : على ممارسة الاستبداد في تاريخ هذا الخصم . وهكذا يسع الإسلام أن يتغنى بالمبادئ النظرية السامية للإسلام وأن يقارنها بالممارسات الاستبدادية للستالينية أو لتجربة الخمير الحمر في الوقت الذي سترى الماركسي يسقط نبل المشروع التحرري الإسلامي وتجربة الاستبداد الماركسي ليتغنى بدوره بالكتابات المقدسة , ويشجب إسلام أئمة اليمن وسائر ممارسات الاستبداد التي عرفتها البلدان الإسلامية على مر العصور .

فلنتجاوز عملية الإسقاط والتعتيم والخلط التي تحكم خصام العقائديين لنقول :

إن كل عقيدة هي بالضرورة هي مشروع تحرري وممارسة لهذا المشروع تمخضت تاريخيا عن تجارب استبدادية وبالتالي , فإن علينا أن نفصل دوما بين المشروع النظري وهو ما نعنيه عادة بالعقيدة , وشكلها المتحجر الذي سيصبح قناعا يتغطى به الاستبداد ولنسمي هذا الشكل : المذهب .

نأتي إلى الفرضيات التي يمكن أن تعيننا على فهم المعضلة .



-هدف كل حضارة (1) تحرير الإنسان من الحاجة المادية , من الجهل ومن النظام , ولكل حضارة تكنولوجيا معينة وإيديولوجيا مرتبطة بها أوثق الارتباط , وبالتالي فإن العقيدة أو الإيديولوجيا هي الجزء النظري للمشروع التحرري في حين تشكل التكنولوجيا الجزء العملي أو المادي الملموس له .

-قضية العقيدة الأولى ليست الحقيقة وإنما السلطة ( السلطة الفكرية التي تسمح بترتيب الكون , السلطة السياسية التي تسمح بالتحكم في العالم الإنسان بالمضي قدما في المشروع التحرري أو إيقافه ) .

وتحاول كل عقيدة ترجمة الحاجيات بعقليتها ووسائلها الخاصة , فهي تلعب إذن دورا هاما في المشروع التحرري  عندما يصبح التعبير المقدس عن هذا المشروع وجزءا من استراتيجيته . ولنركز من جديد على أن تحرر الإنسان هو الهدف أو اللب , أما ما يحاط حول هذا اللب من زخرف قدسي ( كاتصال العقيدة بمصدر غيبي أو علاقته بالعلم في مفهومه المبتذل ) فأمر ثانوي أو هو لا يستمد أهميته إلا في قيامه بوظيفة شحن المستعبدين بالثقة والأمل مثلا في تحقيق جزء أو كل المشروع التحرري نظرا للارتباط بقوى خارقة يفترض منها أنها تؤمن الانتصار .

والأمثلة على هذا متعددة وتزخر بها كتب التاريخ , فوراء قيام كل عقيدة أكانت غيبية أو متعلمنة أي أكانت من نتاج الحضارة الثانية ( الزراعية ) أو الثالثة ( الصناعية ) ثورة اجتماعية سياسية حادّة أبطالها من سماهم طه حسين بالمعذبين في الأرض . فما كان لليهودية أن تظهر لولا أنين وتمرد عبيد فرعون , وما كان للمسيحية أن ترى النور لولا انتظار الناس لمنقذ يخلصهم من جور روما ويعدهم بالسلام في الأرض والسماء , وما كان للإسلام أو الماركسية أن يلعبا أي دور لولا دوام وتواتر الاستبداد . فالعقائد مشاريع تحررية سياسية اجتماعية تنطق بلهجات مختلفة عبر الزمان والمكان ولكنها تتكلم أساسا لغة واحدة .  يقول شارل أندري جوليان في كتابه " تاريخ إفريقيا الشمالية " عن ظروف ظهور المسيحية في أرض المغرب في القرن الثاني : " كان على الملاكين الكبار في غياب أسواق كافية استغلال عبيدهم بشكل مجحف واستغلال المراعي وتقسيمها وبيعها للمستعمرين ( الرومان ) وكانت أرستقراطية الأرضية كسولة مبذرة , تمارس الرباء , مما أدى إلى انهيار العملية " ... وعن رأي الدولة التي تدافع عن مصالح هذه الطبقة في الديانة الجديدة يقول : " كانت الدولة ( الرومانية ) ترفض التغاضي عن شيعة هي في نفس الوقت ذات توجه عالمي ومضادة للعسكرية الرومانية والفوضوية ( أي ثورية ... ) ويقول في موضع آخر من كتابه : " كان موقفها تجاه المسيحية هو موقف النظم المعاصرة تجاه الحركات الثورية " . ولا شك أن هذه الموقف هو من الثوابت التاريخية , فقد مثّل نفس السيناريو المرار العديدة على ساحة التاريخ ... فنجد من جهة نظم قمعية ومن جهة أخرى حركات ثورية تتخذ في بعض الحالات طابعا منظما هائلا يجعل منها عقيدة المقموعين والمسحوقين . لا غرابة أن نرى عبيد مكّة وفقرائها يدخلون في دين الله أفواجا نرى المنبوذين في الهند يتعلقون بأهداب الديانة الجديدة لأنها تعدهم بالحرية .

- العقيدة هي أساس الشكل المقدس للسياسية والصراعات العقائدية أكانت بين العقائد أو داخل نفس العقيدة هي بالأول صراعات سياسية تغلف نظريا .

- بقاء العقيدة مرتبط بتحقيقها للهدف الأوحد الذي بعثت من أجله ألا وهو تحرير الإنسان وبالتالي فإن كل عقيدة تفشل في تحقيق هذا التحرر مؤهلة للانقراض طال الزمان أو قصر مهما كانت ضراوة المدافعين عنها والمتشبثين بها .



 
(1)  الحضارة هي جملة الوسائل التكنوإديولوجية المستعملة في التعامل مع الطبيعة والإنسان وقد عرف العالم ثلاث حضارات الأولى والبدائية الثانية أو الزراعية والثالثة أو الصناعية وهو بصدد الانتقال في البلدان المتقدمة إلى الحضارة الرابعة نظرا للتطور المدهش للتكنولوجيا المعاصرة ( أنظر كتابنا دع وطني يستيقظ )











-  كل عقيدة معرضة عاجلا أم آجلا إلى التحجر في قالب ما يمكن تسميته بالمذهب , والتحجر هذا رغم طول الزمان نذير بأفولها , وخلافا لما يدعيه العقائديون فالتحجر ليس شكلا دخيلا عليها نتيجة " سوء الفهم للأصول" وإنما هو شكلها الطبيعي عندما يتضح استعصاء المشروع التحرري على التحقيق , فتنقلب نظرية التحرر إلى قناع تختفي وراءه ممارسة الاستبداد .

- فشل مشاريع التحرر ( مختلف العقائد التي نعرفها ) نتيجة تضافر عاملين أحدهما خارجي والآخر داخلي . أما العامل الخارجي فيتمثل لقصور تكنولوجيا الحضارة عن تلبية حاجيات الإنسان الرئيسية المادية , ولا يبقى للإيديولوجيا غلا تنظير هذا العجز أو محاولة مداواته بصفة سحرية كالتطبيل للزهد أو للعالم الآخر الخ ... أما العامل الداخلي فيكمن في آليات التفكير العقائدي نفسه كأهمية الإيمان وتغييب العقل والحرية أي أدوات التقييم مما يسمح للأقلية المحظوظة بالاستيلاء بسهولة على السلاح الذي شهر في وجههم ... هذه إذا بعض الفرضيات الهامة التي يمكن أن تعطي للنقاش الدائر حاليا في عالمنا العربي بعدا آخرا .



                                                                      ***







































































الفصــــل الثـاني



آليـات الفـكـر العـقـائــدي





لقد أفرز الفكر البشري إلى حدّ الآن في إطار بحثه عن الحقيقة نوعين من العقائد :

1 – عقائد الحضارة الأولى وخاصة الثانية الدينية , وتستمد شرعيتها وقوتها من الإيمان بقوة غيبية ( تختلف تسميتها حسب العقائد) .

2 – عقائد الحضارة الثالثة أي العقلانية , وترفض أي سند تثبت به وجودها وتدعم بها شرعيتها خارج العقل البشري .

ويشترك التفكيران في انكار ثلاث حقائق رئيسية . أولها استحالة الكلام عن العالم والإنسان بكيفية شاملة مكتملة منذ البداية ( إذ لن يتوفر هذا إلا عندما يطوي التاريخ آخر صفحات سجل البشرية ) , وثانيها استحالة حشر الواقع اللامحدود والمتحرك في إطار فكري محدود مهما كان هذا الإطار . إذ " تتناهى النصوص ولا تتناهى أحوال الناس " . وآخرها استحالة تكذيب التاريخ الذي أثبت غلط ونسبية جل المفاهيم العقائدية والفلسفية والعلمية التي تشبثت بهما حضارات عريقة ( والقانون جاري مفعوله على اعتقاداتنا وعلى عصرنا بنفس الكيفية ) إذ كل معرفة تاريخية ...

ومع هذا فللحقيقة الغيبية دور إيجابي فعال لا يحسن إنكاره , إذ تستطيع وحدها في فترة معينة من تاريخ البشرية تأدية عدّة وظائف يستحيل الاستغناء عنها ويستحيل تأديتها بكيفية أخرى نظرا لانعدام البديل .

مثلا : يستطيع التفكير الغيبي وحده إنكار استحالة القفز في مرحلة الجهل المطبق الذي لا يطاق إلى مرحلة العلم المكتمل . لذلك تراه يثب دون أدنى تردد من التطلب إلى التحقيق الخيالي معتبرا أن الحقيقة ليست في تطابق الكلام مع جوهر موضوعه بقدر ما هي في الإيمان الكلي بوجود علاقة قارة بين التصور المعين الذي يفترضه وبين طبيعة الأشياء المدروسة . ومن ثمة  ترى العقائدي يعطي أولوية كلية للكلام على خصائص الأمور ويحدد بالتالي مكانتها وطبيعتها بحرية وديكتاتورية مطلقة , ولا يعبأ " برأيها " وذلك إلى أبعد مدى ممكن تسمح به الفاعلية ( التي لا تلبث أن تدخل في صراع طويل ونشاز مهم مع هذه الإرادة السحرية ) .

كما يجد الإنسان " بدائيا " كان أو " متحضرا " ضالته المنشودة في هذه الحقائق المتحررة من قيود المنطق والموضوعية . إذ تقيه بكيفية سحرية من التخبط والضياع في زحمة الظواهر المحيرة , فيغرف منها معرفته للعالم كما تمكنه منه ولو كان هذا التمكن وهميا .

وتستطيع المخيلة وحدها ممارسة حرية التعريف هذه , إذ يسعها في إطار الأسطورة وصف العالم والرد على جملة التساؤلات الإنسانية الملحة حول ماضي وحاضر وغد الإنسان بسهولة تامة , إذ لا يحد من شططها في قيامها بهذا الدور سوى ملكة الابتكار وتصوّر الإمكانيات المتعددة للرد على هذه الأسئلة , وفي ما عدى هذا تراها تمزج وتخلط وتقنع وتمسخ عددا محدودا من الظواهر يسهل اكتشافها وراء تعقيد الأقنعة الأسطورية البدائية منها والمتطورة , ولا يحد من شططها في سلمها هذا سوى طبيعة المهمة الملقاة على عاتقها فهي تعمل دائما وفق خط معين يحدده لها الوعي الباطني أي أنها تعبر عما يختلج في لا شعور الإنسان من رغبات ومخاوف , وتتشارك معه في خصائصه المعهودة إذ ترفض الواقع وتصر على إخضاعه لرغباتها وتنكر حيثيات الزمان ولا تأبه لما فيها من تناقضات . فتطغى الرغبة على كافة إمكانيات الفكر الموضوعي ولا تعود تحسب له حسابا خاصة وأن هذا الفكر عاجز مرحليا عن تأدية جملة المهام المستعجلة والحيوية التي تترجم لها العقيدة الغيبية بنجاح متفاوت . فالحقيقة الغيبية إذا كاللوحة الفنية أي أنها عمل عفوي وفريد من نوعه وإمكانية محدودة من بين إمكانيات متناهية ولكنها تختلف معها في أدائها لوظائف على قدر كبير من الخطورة .

تقول أسطورة العالم عند الهندوس مثلا أن للكون عمرا كعمر الإنسان وتحدده بـــــ 311040 مليار سنة بالضبط وتقسمه إلى أربعة مراحل .

1 – مرحلة'' كريتا يوجا'' التي تدوم 172.000.000 سنة وتتميز بانتصار وسيادة العدل والحق والخير ولكن إلى مدى . إذ تأخذ في التلاشي رويدا رويدا ويبدأ عمر الإنسان في التناقض تدريجيا .

2 – مرحلة'' ترتيا يوجا'' وتدوم 900.000. 1 سنة وتشهد هذه الفترة انهيار وانحطاط الأخلاق فتعم الأمراض وتسود الآفات .

3 – مرحلة ''دافايار يوجا'' التي تبلغ خلالها المعاصي درجة قصوى فتصل البشرية خلالها إلى مرحلة الأخيرة

4 – مرحلة ''كالي يوجا''و تدوم هذه 000. 432 لتكون بداية النهاية إذ ينسى الإنسان الدين ويرتكب كل المعاصي والموبقات فينتقم منه الرب فينشو بتدمير العالم وخلقه من جديد ليتكرر السيناريو نفسه إلى ما نهاية .

يلاحظ القارئ المهام المتعددة التي تؤديها هذه الأسطورة فهي :

- تنظم الزمان وتحدد معالم الماضي والمستقبل .

- تفسر سبب المرض والموت .

- تفرض أولوية الدين .

- تؤكد حتمية انتصار الحق على الباطل في خاتمة المطاف .

- تعد الباغي بعقاب لا مفر منه , فكأنها بتذكيرها إياه بهذه الحقيقة أولى بوادر انتقام الرب فينشو , ولا تقتصر وظيفة الحقيقة الغيبية على التعريف حتى إن كانت معرفة العالم على قدر كبير من الأهمية لسكناه والاطمئنان إليه بل تذهب إلى أبعد وأهم من هذا أي تحقيق جملة من المكاسب الخيالية .

يقول مرسيا الياد في وصف تعامل بعض القبائل البدائية مع مشكلة المرض :

" تروى أساطير قبائل الميهل الهندية الظروف التي واكبت ظهور الأمراض . ولقبائل أخرى جنوب شرقي الصين نفس الأساطير وتجمع كلها القول بأن العالم كان في بداية التاريخ ملكا مشتركا بين البشر والأرواح الشريرة إلى أن دب بينهم خلاف فبدأت هذه الأرواح الشريرة في التنكيل بالناس والانتقام منهم بتسليط الأوبئة عليهم . فالمرض هو نتيجة اختطافها لروح الإنسان , ويقتصر الساحر إن أراد شفاء المريض على إصلاح الأمور بينه وبين الأرواح الشريرة أو تهديدها بسرد قصة الانتصار الساحق الذي أحرزه الساحر الأكبر داتومبا بمعونة الرب فأرد في حرب سابقة ضد " .

يلاحظ القارئ إن وظيفة الحقيقة الغيبية هنا هي مداراة وتجاوز العجز البشري عن تفسير الأمراض , والسيطرة عليها باختلاق تصورات ومراسيم تسد بها فراغا لا يطاق أي أن وجودها بهذا الشكل أفضل وأنفع من لا وجودها بما قد يعنيه هذا من يأس قاتل . فانعدام البديل الفعل هو السبب الرئيسي في تشبث العقائدي بمفاهيمه وفي مغالاته في التمسك بها.

أما دور العقيدة في تنظيم المجتمع فأمر معروف وقديم قدم الإنسانية نفسها . وتؤدي العقيدة هذا الدور بتحديد مكانة الفرد من الجماعة وبالتركيز على واجباته تجاهها . كما تفرض التصرفات الأخلاقية أي جملة الأعمال والآراء التي تمكن الجماعة من العيش في انسجام نسبي . فالعقيدة إذا هي محاولة لتحرير الإنسان من الجهل بالعلم المخيل , وتحرير الإنسان من الإنسان بالأخلاق والقانون إلا أن الحقيقة العقائدية تبقى على نبل وحيوية ومقاصدها عفوية رمزية وظائفية نسبية . ومن ثمة فهي بحاجة إلى ضمانات تسند ادعاءاتها وتدعم وجودها وتضفي عليها شرعيتها وتمكنها بالتالي من أداء مهامها على أحسن وجه . فلابد من التوقف عند طبيعة هذه الضمانات وتقييم دورها في ظهور الاستبداد وأولى هذه الضمانات وأهمها بطبيعة الحال هو الإيمان .

يقول فرازر : " تؤمن قبائل الماوري النيوزيلندية ككافة القبائل المنحدرة من أصل بوليذيزي بوجود حواجز سحرية منيعة تفصل بين عامة الناس وبين القادة المقدسين . وتعتقد أن خرق هذه الحواجز سوى بالنظر إليهم أو بالأكل من وعاء أكلوا فيه أمر بالغ الخطورة قد يؤدي إلى موت المتجاسر على هذه المحرمات , حتى ولو ارتكب الخطيئة من غير قصد ... ولقبائل هندية بالبرازيل نفس الاعتقادات فيلقى الإنسان عندهم نفسه على الأرض رافضا الأكل والشرب إلى أن يقضي نحبه ... إذ تنبأ الشامان بموته . كذلك نجد تصرفات متشابهة عند البدائيين الأستراليين إذ يرفض المقاتل العلاج  إذا أصيب بخدش نبلة يظنها مسحورة ويستقبل الموت بنفسية من لا مهرب له ولا ملاذ " .

ومما لا شك فيه أن القارئ لاحظ ما في هذه الاعتقادت من غرابة ( بينما لا يراها عادة في اعتقاداته هو ) . فمن البديهي أنه ليست هناك أدنى علاقة موضوعية واجبة الوجوب بين خرق قانون وهمي وموت هذا الإنسان البدائي . ومع هذا فقد ظهرت هذه العلاقة الخيالية قدرتها على قتله بنفس فعالية عملية الخنق أو الذبح , مما جعل ممكن الوجود واجب الوجود بفضل الإيمان وحده . معنى هذا أيضا أن وجود الحقيقة الغيبية في الإيمان بوجودها إذ لا تملك سندا آخر غير هذا الإيمان , ولكنه كاف لإعطائها فعالية القوى الطبيعية . فالإيمان قادر في بعض الأحيان على إلغاء الفوارق بين الحقيقة الموضوعية الواجبة الوجود والمستقلة عن أهواء الإنسان . وبين الحقيقة الغيبية . وله قدرة خارقة على إخضاع الواقع ومن ثمة , فهو بطبيعته عنفواني إذ يستمد فعاليته من الاستسلام الكلي ومن الرفض المطلق لم عداه من إمكانيات واحتمالات , وتعرف العقيدة الغيبية قوة هذه الدعامة , لذلك تجعل منها أولى متطلباتها أن هذه القوة التي تستطيع إلغاء الحواجز الموضوعية أو تطويقها مبنية بالأساس على الرغبة , رغبة الفرد في أن تكون الأمور كما يريدها , أو كما قبلها من الثقافة المتقدمة عليه فهو يدرك عجزه عن البت في كبريات المشاكل التي ترتبط حياته , وهو يعلم أن هذا الإيمان جزء من انتمائه إلى مجموعة معينة تحميه ويستمد منها أهم معالم وجوده . فهو يدرك أن لا وجود خارجها إلا للضياع والمغامرة وإن تماسك الكون والمجموعة المرتبطان أوثق الارتباط بإيمانه . فعليه إذا أن يحارب دوما لكي يبقى هذا التماسك موجودا عامل الشك في نفسه وهو شك يتعاظم بتكاثر المعلومات عن تعقيد العالم وعقائد الآخرين ومن ثمة, تراه يحارب شك الآخر أو إيمانه المخالف للتخلص من شكه الخاص ومن ثمة لا نستغرب أن نرى العقيدة تحارب حربا لا هوادة فيها كل ما يمكن أن يشكل تنسيبا أو تشكيكا في دعامتها . في تدرك بصفة مبهمة أنه لا برهان على فرضياتها وأن حججها العفوية هي الفرضية , والمنهجية والاستنتاج في آن واحد , وإنه لا إقناع من باب آخر غير القبول اللامشروط لمفاهيمها , وترتبات هذه النظرة واضحة فالله كما تصفه وتتصوره العقيدة موجود وفعال طالما بقي الإيمان به قويا , عنفوانيا عميقا لا يطاله الشك , عندئذ تصل العقيدة إلى قمة المجد والسيطرة .

لكن الأرضية التي تبنى عليها وجودها وسلطانها خطرة متحركة , وعاجزة عن تحمل الهزات العنيفة إذ تبهت معالم هذا الله الموصوف ويطوله الوهن , والضعف بضعف الإيمان به , وقد يموت وينقرض إن تلاشى الإيمان كليا . فتلاقي العقيدة نفس المصير بالضبط نظرا لارتباطها الكلي بهذا السند الرئيسي إذ تتسرب كثير من قداسية هذا الكائن إليها . فهو يمدها بالقوة ويدعمها ويثبت حقها ادعاء الأفضلية والأزلية , في حين تؤدي له هي الأخرى نفس الخدمة بتنظيم مظاهر الإيمان والدعوة له وبالتالي في " إيجاده " ومن ثمة , نفهم تشنج الإيمان  وعنفوانيته واستبداديته . ندرك سبب دفاع العقيدة عن حرفية النصوص عن تمسكها الكلي والمتشنج بمفاهيمها , ودفاعها المستميت عن الإيمان والحرص إليه وصيانته من كل ما يمكن التأثير عليه ونفهم كرهها الجدل والنقاش , واحتراسها من العقل . أي أننا نرى في خصائصها العميقة ومكوناتها الأساسية ومصادر قوتها الخفي كل بذور الاستبداد المقبل .

إن هذه الآلية الفكرية الرئيسية واضحة كل الوضوح في التعامل مع السند الآخر للفكر العقائدي , أي سلطة الأوائل لنتساءل كيف ولماذا تصبح تعاليم منظر وقائد الثورة العارمة ركيزة الجور والطغيان وقد قلنا ورددنا بما فيه الكفاية أن كل عقيدة عبر مختلف أشكالها إلا ثورة على الجهل والظلم .

ويمكن أن ندلل على هذا الانحراف الخطير , وعلى العقلية التي تدعمها بنص لقاليلي أشهر شهداء الفكر المتحرر وسيسع القارئ أن يقدر أزلية الظاهرة وتجددها باستبدال اسم أرسطو باسم أي سلطة فكرية أخرى , مع العلم بأنه يمكن اعتبار أرسطو نبيا بالمفهوم الوظائفي للكلمة وليس بالمفهوم الديني إذ شكل لأمد طويل بالنسبة لشريحة معينة من الناس ( الفلاسفة ) الهادي والمهدي .





الاستســلام للسلـــطــة





  "سمبليسيو ": أود أن اعترف لكما بأنني أمضيت معظم الليل في استعادة حديث البارحة و لقد انتهيت إلى رأي ألا وهو أن في ما قلمتماه الكثير من الأفكار الجديدة و الصائبة و المدهشة و مع ذلك ...و مع ذلك فمازلت على اعتقادي بأن ما قاله القدماء أكثر جدية و صوابا و خاصة ما قال... أراك تبتسم يا سنيور ساجرد أتفوهت بكلام يثير الاستهزاء ؟ 

ساجردو : إنني أبتسم و لكنني في الواقع أود أن أقهقه إذ ذكرني كلامك بحادثة طريفة جرت بحضوري

سالفياتي : ماذا جرى ؟ قص علينا الحادثة يا ساجردو حتى لا يظن السنيور سمبليسيو أنك تضحك منه

ساجردو : كنت ذات يوم عند طبيب فينيسي ذائع الصيت اعتاد عدد من كبير العلماء المتعلمين على زيارته فضولا أو طلبا للمعرفة , وكان صاحبنا مغرما بالجدل والنقاش في مختلف المواضيع العلمية إذ كان موهوبا وقادرا على إفحام أي خصم .

وقرر طبيبنا ذلك اليوم أن يضع حدا فاصلا بخصومة الأعصاب وأن يثبت نهائيا أنها لا تتفرع من القلب كما يدعي أتباع أرسطو , ولعلك تذكر يا سنيور سمبليسيو هذه الخصومة المشهورة بينهم وبين تلامذة قاليان . وحضر الفلاسفة يومئذ على أهبة الاستعداد للمناقشة والمناظرة إذ كان إيمانهم بصواب نظريتهم عميقا للغاية , فبادرهم طبيبنا بتشريح جثة وهم ينظرون مثبتا بطريقة لا جدال فيها أن الأعصاب تتفرع من المخ لا من القلب كما يدعون ولما أتم الطبيب التشريح التفت إلى أحد هؤلاء الفلاسفة مبتسما ابتسامة المنتصر وسأله عن رأيه في هذه الحجة الدامغة ومنتظرا تهانيه بصواب التجربة واعترافا بنتيجتها .

أتدري يا سمبليسيو ماذا كان رد صاحبنا ؟ وجم لحظة ثم قال : لقد أثبت لنا يا سنيور بصفة واضحة ما كنت تقوله دائما في هذا الموضوع ولكن أرسطو يقول بصفة أوضح أن الأعصاب تتفرع من القلب . حقا إنني آسف فلو لا نصوص أرسطو لما رفضت تصديقك .

سمبلسيو : أيها السادة أود إلفات نظركما إلى حقيقة مهمة ألا وهي أن النقاش لم ينتهي بعد وذلك رغم ادعاء بعض المفكرين .

ساجردو : ولن ينتهي أبدا يا سمبليسيو إذ لن يختفي أبدا نوع معروف من مدعي العلم على كل حال لا ينقد اعتراضك هذا من غرابة رد هذا الفيلسوف , بأي أدلة كذب تجربة علمية استحال عليه إنكار نتيجته ؟

بأي براهين قارعة حقيقة واضحة ؟ رد يا سمبليسيو , لقد رد هو على التجربة بجمل مستخرجة من كتب أرسطو ومعتمدا على سيط الفيلسوف وعلى سمعته  فقط ؟

سمبليسيو : لقد اكتسب أرسطو صيتا ذائعا وشهرة لا حدود له على مر العصور لأنه كان أعمق الناس في أبحاثه وأقواهم في سوق الحجج والبراهين ولا تنسى يا ساجردو أنه لم يكتب للعامة وأنه لم ينظم ولم يبسط آراءه واستنتاجاته فعلى كل من يرغب في الإلمام وبكل ما قاله أن يكون قوي الذاكرة حاضرة البديهة وأن يجمع ويقارن آراء مبعثرة في فصول مختلفة وسيغرف الإنسان الذي يجيد هذا الفن من أرسطو كل الأدلة والبراهين وذلك في أي موضوع الإنسان معرفته إذ احتوى تفكير أرسطو كل شيء وكل موضوع يخصه .

ساجردو ( ساخر ) : بما أن خلط النصوص لا يضايقك يا عزيزي سمبليسيو , وبما أنك تؤمن أن مزج مقتطفات من أرسطو كفيل بإعطاء أي فيلسوف الحجج الدامغة والأجوبة النهائية التي تمكنه من فهم سائر المشاكل فسأطبق هذه المنهجية على قصائد أقيد وقرجيل وأخيط بعض الجمل بأخرى وسأفسر ابتداء من هذا المزيج أسرار الطبيعة وشواغل الإنسان ولكن هل أنا بحاجة إلى فرجيل أو أي شاعر آخر , ألا أملك كتابا أقل حجما بكثير من كتب أرسطو وأوقيد ومع ذلك أجد فيه كل ما يمكن قوله عن العالم وعن الإنسان ؟

نعم الست ملما بالأبجدية ؟ ما رأيك يا سلفياتي لو مزجت الأحرف وفق أي تنظيم ؟ ألن تنكشف فجأة أسرار الطبيعة أمامي كما ينكشف وجه القمر الساطع في ليلة ظلماء عندما تهب الريح وترغم السحب الدامسة على الفرار ؟

ألن أجيد آنذاك كافة العلوم والفنون ؟ أو ما رأيك لو مزجت الألوان قليل من الأحمر هنا أو شيء من الأصفر هناك ماذا بي أخلق بشرا وحيوانات الخ .. الخ .. .

سلفياتي : لقد ذكرتني قصتك بحادثة طريفة أخرى , كنت لها شاهد عيان . كنا في يوم ما في جمع من العلماء فاخذ أحدهم في سياق الحديث في وصف المرقب وأسهب في مدح هذا الاختراع الذي فتح آفاقا واسعة في علم الفلك فتصدى له فيلسوف معروف بانتمائه إلى إحدى المدارس الفلسفية الشهيرة مدعيا أن فضل هذا الاختراع ( وهم لم يرى المرقب أبدا ) راجع إلى أرسطو . وأضاف أن صاحب الاكتشاف هو مجرد ناقل لنظرياته , ثم أخرج كتابا له وأتى إلى صفحة يقول فيها أرسطو بإمكانية رؤية النجوم في عز الظهيرة وذلك بمشاهدة السماء من قاع بئر عميقة وأخذ دكتورنا يشرح بفصاحة وقناعة الواثق من نفسه ومن مصادره : ألم تفهموا ؟ البئر هي جعبة المرقب والمادة الكثيفة الشفافة المكونة من الهوا وبخار الماء الموجود في قاع البئر هي العدسة . هكذا !

ساجردو : ينتمي صاحبنا إلى نوع من البشر يؤمن بان في كل صخرة آلاف التماثيل الرائعة ولا يجد أدنى صعوبة في اكتشافها مهما كانت حالة الصخرة .

سلفياتي : أتذكر يا ساجردو سخافات الكيميائيين وإيمانهم الكلي بان هم العباقرة اقتصر على موضوع واحد هو صنع الذهب من المعادن البخسة . أتذكر طريقتهم في تبادل المعلومات وتدريس الطلبة حتى لا يكتشف بقية البشر أسرارهم الرهيبة ؟ أتذكر كيف يدعي كل واحد منهم أنه اكتشف أحسن وسيلة الإيحاء بالسر العظيم ؟ إنني لا أعرف موقفا أكثر فكاهة وإثارة من الإنصات إليهم وهم يحللون قصائد الشعراء القدامى مفتشين عن الأسرار عن الإيحاءات وذلك لاعتقادهم بأن القصص والأساطير طلاسيم تخفي ما عظم من هذه الأسرار .

سمبليسيو: أن أصحاب التفكير الغريب والمنطق العجيب يا ساجردو ويا سلفياتي كثيرون فهل يعني هذا أن نلقى تبعة سخافاتهم وترهاتهم على عاتق أرسطو ويسوؤني أن أضيف أنكما تتحدثان عنه بلا كلفة ...

فأنتما لا توفيانه قدره من التبجيل والاحترام . لقد حاز أرسطو على شهرته الكبيرة عن جدارة واستحقاق وأعترف له بعبقرية عدد ما لا يستهان به من النوابغ على مر العصور ألا يكفي هذا كي نجله إجلالا مطلقا .

سلفياتي : لسنا بصدد البحث في موضوع احترام أو عدم احترام أرسطو إنما نريد إقناعك يا سمبليسيو بحقيقة بسيطة ألا وهي أن سبب تدهور سمعة المعلم في تصرف تلامذته الذي لا يتورعون عن ترديد أي سخافة باسمه . قل لي بربك لو كان أرسطو حاضرا عندما ادعى الفيلسوف أن المرقب نقل لاختراع هو صاحبه ألا تظن  أنه ربما تضايق من كلام تلميذه هذا أكثر من تضايقه من نقد الحاشرين وسخريتهم ؟ ألا تظن أن أرسطو كفيل بتغيير آراءه وتصحيح كتبه لو بعلم بآخر الاكتشافات وبتبني النظرات الجديدة والتبرؤ من كل هذه العقول المتحجرة الذليلة التي تحتفظ بكل كلمة من كلماته ؟

لو كان أرسطو كما يتصورونه لكان مثال الإنسان الغبي الهمجي الطاغية المؤمن بأن البشر ماشية حمقاء وبأن القول الفصل هو لإرادته ولو كان ذلك على حساب التجربة والمنطق وحتى الطبيعة نفسها لقد أعطاه أتباعه هذا السلطان المطلق واعتبروه فوق كل شيء وذلك بمحض إرادته هم فأنا لا أعلم بأن أرسطو قد ادعى في يوم ما أن على الفكر أن ينحني أمامه وأن يتعيش على نظرياته آه أيتها العقول الذليلة أنكم تجدون الاحتماء بدرع مفكر عبقري ولكنكم عاجزون على الدخول إلى حلبة الصراع مكشوفي الوجه .

وترتعد فرائصكم من الخوف كلما تجاسر أحد على الابتعاد عن الخط المرسوم تراهم يفضلون تغيير ما يرونه في سماء الطبيعة حتى لا يغير شيئا في سماء أرسطو .

ساجردو : إنهم يذكرونني بذلك الفنان العبقري الذي نحت تمثالا لا له فأجاد واكتسب الصنم من دقة النحت وروعة الفن قوة غريبة وإشعاعا مذهلا , فأصيب الفنان بالرهبة وغدا يخشى الاقتراب من الصخرة التي فجر فيها بيده معالم الغضب والجلال  .

سالفياني : لا زلت أعجب من أتباع أرسطو الذين أخذوا على عاتقهم مهمة الدفاع عن كل كلمة كتبها المعلم كأنهم لا يرون الضرر الفادح الذي يسببونه له ولشهرته وللاحترام الذي يستحقه فيهدمون بطريقة دفاعهم عنه كل سلطانه الفكري وأنا مضطر الآن لمراجعة آرائي في كل ما قاله أرسطو كلما سمعتهم يدافعون بضراوة عن نظريات أثبت الفكر فسادها وكلما حاولوا إقناعي بأن الفيلسوف الحقيقي هو الذي يعتنق هذه الأفكار الهزيلة فلو تصرفوا بتعقل أي لو تخلوا عن المغالاة في اعتبار الخطأ صوابا لثقة فيما يقوله أرسطوا في مواضيع لا يمكنني التوغل فيها ولآمنت بصواب رأيه وتسويقه على ثقة ويقين .

ساجردو : ترى لم يحاولون من الآن الأخذ بوصفة السنيور سمبليسيو فيربطون بين المقتطفات ويكتشفون بذلك كل ما سيكتشفه العلم قبل أن يبدأ العلماء في البحث والتنقيب فيحصلون على قصب السباق .

سالفياتي : كفى هزلا يا ساجردو أتذكر ذلك الفيلسوف الذي ألّف منذ سنوات كتابا عن خلود الروح مستشهدا بجمل من كتب أرسطو لتدعيم آرائه , وكانت تلك الآراء شبه مجهولة وغير أرثوذكسية , فلاحظ ذلك أحد أصدقائه وحذره من مغبة غضب الكنيسة التي قد تمتعض من الكتاب وتمنعه من الصدور فقرر الفيلسوف عندئذ تغيير نظرة المعلم للمشكلة وأعلن لصديقه أنه على أهبة الاستعداد لإثبات عكس النظرية وذلك بالاستشهاد بنصوص أخرى .

ساجردو : عظيما , عظيم , والله إنه لفيلسوف بأتم معنى الكلمة إذ لم يسمح لأرسطو بالتسلط على عقله بل شدّه هو من أذنه وأرقصه على النغم الذي اختاره . آه أيتها العقول الذليلة كيف يرضى الإنسان بالعبودية عن طواعية واختيار كيف يقبل بربط نفسه بشخص غريب وبسلاسل أبدية ؟ كيف يمكنه الاقتناع ببراهين طفلانية ؟ والأدهى من هذا يا سلفياتي إن دكاترتنا في اختلاف دائم حول الرأي الذي انتصر له المعلم هل أيّد هذا الموقف أو نقيضه ؟

أو ليس في هذا إضفاء النبوة على صنم من خشب ؟ هل يجب أن ننتظر الرد على أي سؤال من هذا الصنم ؟ أعلينا أن نخشى وأن نعبد وأن نقدس إلى الأبد صنما خشبيا ؟

سمبليسيو : من سيوجه العلم إذا تركنا أرسطو جانبا ؟ من سيفتح الأبواب ويرسم الطريق قل لي اسم أي معلم آخر ؟

سلفياتي : يحتاج الإنسان إلى دليل في الأماكن الموحشة والمجهولة ولكن الأعمى وحده بحاجة غليه في السهل المنبسط فعلى الأعمى أن يقبع في عقر داره وعلى المبصر أن يكون دليل نفسه . أنا لا أنكر أن أحد حق الإنصات إلى أرسطو والاهتمام بما كتب بل بالعكس , فإنني أعجب بالتعمق في دراسته, ولكنني أنحو باللوم على كل من يستسلم له عقلا وروحا وأهزأ  بكل من يؤمن بدون مبرر وبصفة عمياء بكل ما قاله كما لو كانت لكلمته قيمة القانون أليس من السخف أن ينكر أتباعه الواقع وأن يستخفوا بالبراهين والأدلة الملموسة وذلك بالاعتماد على الصيت والشهرة فقط ؟

إذا أردتم أيها السادة الأرسطوطاليون أن تتابعوا على هذا الشكل فلا تحسبوا أنفسكم فلاسفة بل دكاترة في الحفظ والاستظهار, فالذي لا يتفلسف غير جدير بلقب الفيلسوف .

لقد بدأنا نتيه في بحر عميق فلنغادر وغلا فلن نخرج منه بعد الآن .

وختم القول يا سنيور سمبليسيو إئتنا ببراهينك وبراهين أرسطو ولا تعتمد من الآن على صيته وسلطاته فقط , لأننا نهتم بالعالم أكثر مما نهتم بالورق المقدس .

                                                             *

بهذا الحوار يكون قاليلي قد وصف ببراعة مساهمة ومسؤولية النبي المذهبي في عملية التحجر . وقد أدرك القارئ أهم خصائص هذا النبي , فهو مقدس ولكلامه مهما كان ألوية مطلقة على الواقع , وهو مقياس الحقيقة أي أنه مصدر التفرقة بين الحق والباطل تكمن قيمة كل الأفكار في تماشيها مع كلام المعلم أو معقولا في هذا الكلام . ويجب إلقاء تبعة الخطأ على الواقع كلما حدت نشاز بين نظرة النبي للأمور وخصائص هذه الأخيرة , وتقتصر المعرفة على التعيش على أفكار المعلم ونظرياته التي لا تبلى ولا تعرف النسبية . فالطريق السوي مرسوم إلى الأبد ولا هادي للناس غيره ولا حيلة لهم إلا في الاحتماء بدرعه والتعيش على تعاليمه , ( إذا احتوى فكره كل شيء وكل موضوع يخصه ) , فعلى العقائدي أن يغرف منه بثقة واطمئنان .

فرمز السلطة إذا كامل المعرفة والفعالية سواء كان ناقل الحقيقة الربانية أو همزة الوصل بين المعرفة الموضوعية العلمية الحقة وبين الإنسان الناقص , ولا تخفى أهمية تعظيم المعلم على أحد إذ تساهم قوته هو الآخر في قوة العقيدة , فكلما عظم النبي ( أي عظم الاعتراف بقدره ) كلما عظمت العقيدة فيشعر المؤمن باطمئنان كلي لاختياره " نبيا له مثل هذه القوة الجبارة يستظل به ويحتمى بدرعه" , وبعبارة أخرى فإن تعظيم الإنسان لنبي عقيدته كتعظيمه لأبيه إذ يستمد الطفل من عظمة الأب ثقة مطلقة بنفسه .

ولكن خطر هذا الاعتماد الكلي على سلطة الأب الروحي كبير , إذ يشعر الإنسان العقائدي المتعود على هذه الركيزة بالضياع إذا ما تهدد الواقع سلطة النبي بتكذيبه أو أظهر خطأ في كلامه أو نسبية فيه عندئذ يصرخ كسمبليوسيو مستغيثا   " من سيوجه العلم والعمل إذا تركنا فلانا جانبا من سيفتح الأبواب ويرسم الطريق قل لي اسم معلم آخر "

تبرز هذه الصرخة أهم خصائص نفسية العقائدي المتشبث بسلطان الأب الروحي , أي ضعفه وخشيته من التوغل في دروب المعرفة والمسؤولية . فهو بحاجة ماسة إلى من يفتح له الأبواب ويرسم له الطريق , وهو مستعد كي ينعم بتلك الطمأنينة للتخلي عن حريته ومسئوليته , فاختياره واضح منذ البداية ولا رجوع فيه : الراحة والدعة النفسانية التي يوفرها الإيمان , والمشي في الطريق المرسوم بدلا من القلق والضياع والحيرة والتخبط , أي ثمن الحرية الباهظ  لذلك ترى العقائدية يجاهد ابتداء من اللحظة التي قبل فيها بالمشي في الطريق المرسوم لحماية هذا الحل من هجمات الواقع برفض متشنج عنفواني لكل ما يشكل خطرا على صيت الأب الروحي وسلطانه , فيحتفظ بكل كلمة من كلماته ويجترها ويبالغ في اظهار قيمتها وفعاليتها , ويجعل منها مقياس كل حقيقة , ويتنكر لما عداها من آراء ومفاهيم برفضها وإخراجها بكيفية سحرية وقسرية من دائرة اهتماماته ومشاغله ويواجه بها الواقع في محاولة يائسة لإدخاله في كلام النبي التاريخي النسبي الإنساني , المعرض للتقصير ككل كلام إنساني آخر .

لكن لهذا الحل الذي يعتمده الفكر مؤقتا عيوبا لا تلبث أن تتضخم فتظهر كل السلبيات . ولابد هنا من جديد التركيز على أننا لن نتمكن من فهم كافة معطيات القضية إن لم نضع الفكر في إطاره التاريخي , وإن لم نفهم إن هذه السلبيات هي تجاربه الإجبارية , وإنه لا وجود ( خلافا لما يدعيه بعض حملة الفكر ) لمدارس فكرية متناحرة .

هذه المدارس هي رد الفكر على نفسه ونقاشه مع نفسه عبر تعدد الحضارات والأشخاص ومن ثمة نفهم أن علينا تحاشي الأحكام المعيارية والاكتفاء بتتبع عثرات الفكر , أي عثرات نظرية المشروع التحرري .

السؤال المطروح الآن هو : كيف يحاول هذا الفكر الذي سقط في فخ نصبه لنفسه أن يواجه تكذيب الواقع ونقضه الدائم لنظرية أتى بها في زمن ما ومكان ما واستكان لها زمنا ولكنها لا تصمد أمام نقد منطقي يأتي به هو في فترات صحوه .

لنتوقف عند نقاشه مع نفسه حول بعض الفرضيات العقائدية والغيبية . ولندرس محاولاته اليائسة لإيجاد حلول مرضية لتناقضاته الغيبية الفرضية والعقل الباحث الموضوعي الناقد الذي يستعمله نفس الفكر للتثبت من صلاحية هذه الفرضيات .

                                                               *





العقــل : القــوة المشبــوهـة





لنتفق مبدئيا على تصور للعقل : هو أساسا وظيفة وربما من أقدمها عند الإنسان قدم الذكاء واللغة والرقص وبالتالي هو ليس كما نتصور عامل حديث أفرزته الحضارة والتطور لأنه هو الذي أفرزهما , وهو متقدم عليهما إذ نجده عند الصياد البدائي قبل أن نكتشفه عند أرسطو وابن سينا .

ونحن إذ نجده عند هذا الصياد فلسبب البقاء على قيد الحياة فلابد من الملاحظة الدقيقة والصائبة أي الموضوعية لمكان الفريسة , ولابد من معرفة صحيحة لاتجاه الريح وسرعة الركض , وتقدير لمرمى السهم الخ ... إن كل هذه العوامل : الملاحظة والحساب والاستنتاج والمراجعة السريعة للقرار هي شروط الفعالية التي يكتشفها ويحترمها الصياد قبل أن يمارسها عالم الذرة . وهي أساسا عملية تقييم في مراحل مختلفة , وبما أنها ضرورية للحياة ضرورة الإيمان والتخيل العقائديين , فإننا سنواجه بحالة مزعجة ألا وهي تجاور النقيضين داخل نفس الفرد ونفس الحضارة لتأديتهما بطريقتين مختلفتين مهمة واحدة ألا وهي تحرير الإنسان من الفاقة والجهل بالتقييم الموضوعي وإن فشل هذا الأخير لقصور في التكنولوجيا بجامح الرغبة التي تتجاوز سحريا كل الحدود الصعبة . إن من طبيعة التقييم الفعلي أن ترد على أسئلة من نوع أبعد , أقرب , أقوى , أضعف الخ ... وبالتالي فهي مقارنة دائمة بين خيارات للتوصل إلى فعالية التمكن من الغزال أو تطويع قوى الذرة .

فهذه الخاصية الهامة هي التي ستواجه الإيمان داخل الشخص أو خارجه لتقييم هذا الموقف بصفة واضحة او مبهمة , أنفع ؟ أنجع , أحسن الخ ...

كيف تتعايش هذه القوة القديمة الموجودة بالضرورة ومنذ البداية في الإنسان مع نزعته الأخرى أي كيف يتعامل العقل مع الحقيقة الغيبية ؟

مما لا شك فيه أنه لاحظ بمجرد إعمال شيء من المنطق وجود تناقضات جذرية مقلقة . فبدا في طرح الأسئلة التي لا تتحملها العقيدة ولا تطيقها إذ قلنا أنها لا تحي إلا بالقبول اللامشروط , فلنتابع بعض مظاهر تململ العقل لأن هذا الصراع الداخلي هو جزء لا يتجزأ من آليات الفكر العقائدي .

سؤال : لو كان الله المذهبي بالأوصاف التي تعرفه بها العقيدة ( أي الرحمة والقدرة ) فلم لم يخلق العالم خيرا من أول وهلة ؟

ويستنتج العقل أنه إما أراد ذلك ولم يقدر فهو إذن ناقص وإما انه لم يرد وهو قادر فهو إذا شرير . وقد عمر الخيام في أبيات رائعة ما تثيره الحقيقة الغيبية من تساؤلات قلقة ومن مشاعر مضطربة وبالتالي , فشلها أو نجاحها نسبي في أداء مهمتها بقول مخاطبه الله المذهبي :

                                       طبائع الأنفـس ركبتهـــــا      فكيف تجزئ أنفسا صغتها

وكيف تفني كاملا أو ترى     نقصا بنفس أنت صورتها



ويسأله :

                                       إن كانت الجنة مقصورة       على المطيعين فأين العطاء

ويتساءل :

                                      كان الذي صورني يعلم      في الغيب ما أجني وما آثم

                                      فكيف يجزيني على أنني     أجرمت والجرم قضا مبرم



وتقتصر مهمة التفكير العقلاني المرتبط في البداية بالعقيدة على محاولة إغلاق منافذ الشك فيخلق تفسيرات وتبريرات تزيد الطين بلة .

وقد حاول النبي الفارسي ماني مثلا الرد على المشكلة فأتى بنظرية يمكن تحليلها كالآتي :

·        الله خيّر لا يريد إلا الخير : تشكّل هذه الجملة الأرضية التي تسند البناء العقائدي بأكمله والتي لا يمكن التفريط بها بأي ثمن تعني أنه لا تستقيم الحياة للإنسان بدون الله خير ... فهو إذا ؟؟

·        لا يخلق الخير إلا الخير : وبما أن الشرّ موجود فهو إذا خارج عن إرادته كما لا يجوز القول بأن الشيطان هو سبب الشر لأن الشيطان من صنع الله فهو يعقل أن يخلق إلاه الخير سيّد الشّر ويتركه يعيث في الأرض فسادا .

·        إذن فهناك آلهين إله الخير والاه الشّر : ووجود الثاني بالقوة وهو سبب الشّر وما حالة العالم بما فيه من خير وشّر سوى صورة لمراحل الصراع الجبّار القائم بين الإلهين .

وهكذا ينجح ماني بهذا التخلص من أنقاض وجود الله الخيّر . ولكن المنطق أجبره على إحداث تغييرات جذريّة أي تقسيم الآلوهية إلى قسمين وهو الأمر الذي ترفضه العقيدة الإسلامية . لكن تفسير الإسلام للشّر عبر قصة إبليس كما وردت في القرآن – أي تحميل الشيطان مسؤوليته – يؤدي إلى تناقضات جذرية لاحظها جلال صادق العظيم قائلا :

" لا شك أن إبليس خالف الأمر الإلهي عندما رفض السجود لآدم غير أنه كان منسجما كل الانسجام مع المشيئة الإلهية ومع واجبه المطلق نحو ربه . لو وقع إبليس ساجدا لآدم لخرج عن حقيقة التوحيد وعصى واجبه المطلق نحو معبوده إذ أن السجود لغير الله لا يجوز على الإطلاق لأنه أشرك به ؟ بعبارة أخرى كان إبليس صنيعة الإرادة الإلهية خاضعا لأحكامها ومنفذا لطلباتها وعندما اختار العصيان والجحود إنه لم يختر سوى ما كان الله قد اختاره له منذ الأزل .

إنه مستعمل فيها قدرة الله عليه واقع في قبضة قهره "

ولهذا استخلص بعض الناس من تناقضات الحقيقة الغيبية استنتاجات في منتهى الغرابة عقائديا , ولكنها تدل على تعدد وتنوع المسالك الممكنة عندما يبدأ تعامل العقل مع هذه الفرضية العفوية . لقد أدّى التركيز مثلا على خصائص الله الإيجابية والتنويه بالشيطان كسيّد الشّر , إلى استنتاج منطقي كوّن نواة لعقيدة غريبة هي عقيدة الزيديين . أن يقبل الزيديون بصورة الله كما وردت في الإسلام ويعترفون بإبليس كسيّد الشّر , ومن ثمة يتوصلون إلى أنه يجب عبادة الشيطان ولهم في هذا الموقف تبرير متين . لماذا عبادة الله وهو خير لا يريد لنا إلا الخير , أليس من الأهم اتـّقاء شّر الشيطان المصمم على إلحاق الأذى بنا فلنتودّد إليه ولنعبده ولنسترضيه حتى نكون معه في سلام ووئام ؟

إنّ الموقف هذا قديم , إذ عرف الفكر في شكله الأسطوري آلهة لا تسمن ولا تغني من جوع لأنها كمال مطلق وبالتالي لا فعالة في مجرى الأحداث البشرية . فتركها ليتودّد إلى آلهة أقل خطرا وأكثر تأثيرا على مصير الإنسان . شكلت إذن تناقضات العقيدة الغيبية ومحاولات إيجاد حلول لها فصولا كاملة من كتب الاّهوت والفلسفة على مر العصور , فقد تخبط الفكر في ردائه المسيحي طيلة قرون عديدة في محاولة تصوّر ذات المسيح . ترى هل كان المسيح آلها أم إنسانا ؟ وما هي طبيعة العلاقة التي تربط بين الأب والروح القدس ؟ وقد أثارت هذه المشكلة زوابع فكرية * . فقد أعلن الراهب أريوس في القرن الرابع بالإسكندرية أن ذات الله تختلف اختلافا جذريا عن ذات الابن وأن الله خلق ابنه قبل أن يخلق العالم . فشنّ عليه الراهب'' أتاناس'' هجوما عنيفا مؤكدا أنهما من نفس الذات وانتصر مجمع الأساقفة المنعقد بالقسطنطينية سنة 381 لهذه النظرية وقرر أن الأب والابن وروح القدس ثلاث مظاهر لنفس الذات . ولم يتوقف النقاش وكيف يسعه ذلك وقد طلع'' نستوريوس'' سنة 419 بنظرية تقول بأن الابن تقمّص جسد المسيح ولذلك فالمسيح في نفس الوقت إنسان وذات آلهية متجسّدة . وبالتالي فإن مريم هي أم المسيح وليست بأمّ ابن الله ولم تلاق هذه النظرية استحسان مجمع الأساقفة ب''آفاز'' الذي شجبها مقررا من جديد أن المسيح كل لا يتجزأ .

وقد تدخلت سلطات الكنيسة بكامل ثقلها لتضع حدا فاصلا لهذه الخصومات . فأعلنت أنه يجب الإيمان بأن للمسيح ذات بشرية أخرى إلهية وأن الذاتان تتجاوزان فيه بدون تمازج فهو آلهة وإنسان في الوقت نفسه .

ولم تتبخر المشكلة بل ازدادت تعقيدا إذ طرح الجانب المنطقي للفكر عندئذ مشكلة قدرة المسيح . هل هي قدرة إنسان محدودة أم قدرة إله  لامحدودة ؟ وهلم جرا من الأسئلة والمعضلات التي لا تنتهي , إذ لا يِؤدي سد ثغرة في البناء العقائدي إلا إلى فتح ثغرات . لهذا اضطرت الكنيسة للتدخل مرة أخرى . فقررت أن الخصائص الأربعة متواجدة في المسيح , ولو قررت العكس لما تغير شيء على سطح الأرض إنما كان هدفها إسكات صوت العقل ولجم الحاجة الثقيلة أي بوادر الثورة الفكرية والسياسية .

وقد واجهت الفلسفة نفس المشاكل فزادتها تعقيدا بتنظيمها أي بلفها في كلام غامض لا يفهمه إلا أصحاب الحل والعقد . واصطنعت كثيرا من المشاكل من نوع هل خلق الله العالم من لا شيء ؟ وكيف يمكن للواحد أن يخلق الكثرة ؟ وهل العالم قديم أم حديث , فإن كان قديما فهل يعني هذا أنه شريك لله في إحدى صفاته ؟ وإن كان محدثا فهل يعني أن إرادة الله متغيرة ؟ وهل يقبل التغير الدال على نقص من ذات كاملة ومكتفية بجوهرها ؟ الخ ...

وطبيعة هذه التساؤلات مزدوجة وتهدف إلى تعميق مفاهيم العقيدة كسلطة فكر-سياسية .

ولكنها تشكل خطرا موضوعيا على تماسك البنيان وتهدد انسجامه وهو الأمر الذي تدركه العقيدة قبل أن يفطن إليه الفلاسفة إن فطنوا ذلك أن إدخال العقل أداة التحرر على العقيدة كإدخال الذئب على قطيع من الغنم .

يقول الفارابي مثلا في وصفه لله :

" الله علم وعالم ومعلوم فهو لا يحتاج في أن يعلم إلى ذات أخرى يستفيد بعلمها الفضيلة خارج عن ذاته ولا  في أن يكون معلوما إلى ذات أخرى تعلمه بل هو مكتف بجوهره في أن يعلم ويعـلـّـم وليس علمه بذاته شيئا سوى جوهره فإنه يعلم , ذاته وانه معلوم وأنه علم فهو ذات واحد وجوهر واحد " .

ولهذا الصقل والتشذيب الفلسفي لمفهوم الله ترتيب خطير يتنافى مع أهم مهام العقيدة . إذ كيف يعقل تصور أدنى صلة بين كائن كالإنسان وبين قوة مكتفية بجوهرها ؟ فهدف العقيدة هو تقريب الله من الإنسان بينما تعمق الفلسفة القوة بينهما كذلك يدخل الفارابي في نشاز آخر مع العقيدة عندما يتصور أن علم الله يتناول الكليات دون الجزئيات لأن هذه خارجة عن ذاته إذ يقع عندئذ في تناقض آخر . فلو صدق كلامه لوجب أن ننسب الجهل إلى الله وهذا كفر . وإذا قلنا أن الله يعلم الجزئيات وهي متحركة فمعنى هذا أن علمه متبدل متغير وهو ما يتنافى مع الخصائص المقررة له .

أما تخلص ابن سينا القائل بأن الله يعلم الجزئيات من وقت حدوثها بل من الأزل , فكلام عفوي من نفس طبيعة قرارات الكنيسة , أي أنه محاولة الفكر لوضع حد للجدل  الذي أثاره بنفس الكيفية التي نسكت بها صوتا مزعجا أي بإيجاد أي تخلص . والتمسّك يمكننا أن نستخلص إذن ما يلي :

·        يؤدي أي تساؤل منطقي حول البديهيات العقائدية إلى إدخال بلبلة فكرية وخيمة العواقب على تماسك البنيان العقائدي.

·        ينقض التفكير المنطقي البديهيات الغيبية إذا حاول التعمق فيها أو إثباتها إذ يكشف التعامل معها بطريقة ضمنية عيوبها ومواطن الضعف فيها .

·        يضيع التفكير المنطقي عندما يتعامل بقواعده وعاداته مع الحقيقة الغيبية في دوامة مفرغة من الثرثرة العميقة . إذ لا تؤدي هذه الثرثرة إلى شيء فلا هي علم ولا هي عقيدة , فلا غرابة أن تتشعب المواقف وأن يعلو الصراخ وأن يكثر التهافت والردّ عليه وذلك لانعدام أي محكّ موضوعي يمكن الاحتكام إليه .               

*







التـــوفيــق والإرجــاء

بعد القبول اللامشروط للسند الأعلى والاستكانة إلى سلطة الأوائل ومحاصرة العقل،  نصل إلى رابع خاصية من خصائص الفكر العقائدي ألا وهي البحث عن حل وسط بين الموضوعية والذاتية بين الرغبة واستحالتها بين الفعالية الحقيقية والفعالية الرمزية .

يأتي من العقائدين من يقول أن النشاز بين متطلبات العقل والحقيقة الغيبية مفتعل , ويأخذون على عاتقهم إثبات هذه النظرية ودافعها في هذا الجمع بين الحسنيين وخاصة تفادي الاصطدام مع الاستبداد السياسي لنتتبع آراء أشهر الموفقين المسلمين ابن رشد إذ نستخلص من أفكاره الخصائص الرئيسية لهذا النوع من التفكير وسنرد عليها في إطار هذا الحوار الأزلي الذي ما انفك الفكر يحاور به نفسه .

لابد من التدليل هنا على توفيقية ابن رشد بما أن أحد كبار مفكرينا محمد عابد الجابري ينفي عنه هذه الصفة ( محمد عابد الجابري : نحن والتراث صفحة 304 ) التي يقصرها على فلاسفة الشرق العربي . ونحن لا نجد أدنى صعوبة في الاتفاق مع الجابري حول نقطتين هامتين أبرزهما في كتابه هذا :

- أن كل قراءة تفويضية , قرأ الفارابي التراث اليوناني وفوضه ( لصالح التحرر ) من خلال الكليات أو الجزئيات ومن هذا الباب نقرأ نحن ابن رشد فنفوضه أيضا في صراعاتنا الفكرية – السياسية كما فوض ابن رشد نفسه أرسطو لمواقفه الخاصة المرتبطة بوضعية سياسية ( الثورة الموحدية وفكرة " التعرض للمحافظين وأعداء العقل تلامذة الغزالي وابن سينا " ) .

- أن على كل قراءة أن تعتبر المنظومة الفكرية لصاحبها وعصره حتى لا نسقط في التعميم السطحي فنعتب على ابن خلدون أنه آمن بالسحر والتنجيم كعلمين قائمي الذات أو نلوم ابن سينا على نظرية الأخلاط الأربعة والفارابي على نظرية العقول العشرة .

ولربما وقع الجابري في الفخ الذي حذر منه فهو لا ينف التوفيقية إلا بدأ بقراءته لابن رشد بمفاهيم عصرنا التي أصبحت تشجب التوفيقية وتسميها أيضا التلفيقية وترى فيها ضعفا كبرا , والحال أنها كانت أقصى ما كان يمكن تحقيقه في تلك العصور التي لم يكن للعقل فيها رصيد الانتصارات التكنولوجية التي حققتها في عصرنا والتي تمكنه اليوم من حقه في الصدارة والأولوية المطلقة على الحس وسائل أنواع النور التي يقذف به الله في صدور عباده .

لنعترف إذن مبدئيا أن نقدنا لابن رشد ليس في المطلق وإنما هو قراءة جديدة له كما ينصح الجابري لكن من داخل منظومتنا نحن , ولا عيب في هذا ما دمنا أعلنا عن منطلقنا من خلال نصوصه ومنظومته الفكرية لنبين الخلل في عقلانيته المنقوصة على لأن لا ننس مرة أخرى أنه لم يكن نظرا لميزان القوى آنذاك بين قوى التحرر والاستبداد من حل آخر لإكتساح جزء من المواقع .

يقول فيلسوفنا " وإنا معشر المسلمين :

1- نعلم على القطع أن النظر البرهاني لا يؤدي إلى مخالفة ما ورد به الشرع .

2- فإن الحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهد له .

ويعتقد ابن رشد بعد هذا التمهيد أنه سيسعه التحرك بمطلق الحرية فيرد على حامل لواء الحقيقة الغيبية الغزالي رافضا تكفيره للفلاسفة بقوله :

" فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل التباعد حتى يكفر بها بعضا أو لا يكفر ولذلك ما أدى إليه البرهان أن العلم الرباني منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي فلا معنى للاختلاف في هاته المسألة , ويشبه أن يكون المخطأ في هاته المسألة ( مسألة بعث الروح أم الجسد ) معذورا والمصيب مشكورا ومأجورا وذلك إذا اعترف بالوجود وتأول فيه نحوا من التأويل أعني في صفة المعاد لا في وجوده إذ كان هذا التأويل لا يؤدي إلى نفس التأويل وإنما كان جحد الوجود في هذا كفرا لأنه أصل من أصول الشريعة"

وترتبات هذا الكلام واضحة فقد شرح ابن رشد الضمانات المبدئية التي يتعهد بها المفكر للعقيدة قبل إبداء أي رأي مستقل وهي :

1 – يجب عليه أن يجهر بإيمانه المطلق بالعقيدة وأن يركز على ولائه الكلي واللامشروط للأفكار الرسمية ( نقطة 1 ).

2- يجب عليه أن يتعهد مبدئيا بإيجاد توافق كلي بين الترتبات الممكنة للتفكير العقلاني وبين الحقيقة الغيبية , وأن يتوقف في تأويلاته عند حدود معينة فيكفر هو أيضا باسم العقل كل متطاول ومتجاسر على الحقيقة المقدسة وأن يقبل بأولوياتها على العقل ( نقطة 2 – 4 – 5 ) .

3 – يجب على أن يتعهد بخدمة العقيدة بنفس إخلاص الإيمان اللامشروط في بابه الخاص ( نقطة 3 ) ولا تكفي هذه الضمانات على ما يبدو للتغلب على ارتياب العقائديين المشروع لهذا التفكير إذ يحاول ابن رشد تبرير منهجيته وشرعية استخدام العقل بالاستشهاد بجمل مستخرجة من النصوص المقدسة نفسها والتصرف هذا شائع وفعال ولكن إلى مدى . يقول الفيلسوف :

" وإن كان فعل الفلسفة ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع ... وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم إما واجب الشرع وإما مندوب إليه فإما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل وتطلب معرفتها به لذلك بين على غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى مثل قوله ] فاعتبروا يا أولي الألباب [ وهذا نص على وجوب استعمال القياس العقلي " .

ويضم ابن رشد أنه يمكن إفحام السلطة الفكر-سياسية بهذه الحجة , وقد غال ابن رشد في استعمالها فذهب إلى حد القول بأن الفلسفة اليونانية – أبرز مظاهر التفكير العقلاني في ذلك العصر – رافد فرعي يصب في نهر العقيدة إذ " أنه يتبين في هذا أن النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذ كان مغزاه في كتبهم ومقصده هو المقصد الذي حثه علينا الشرع " فيجوز للمؤمن إذن أن يأخذ بأقوال الفيلسوف سواء كان مشاركا في الملة أو لا " بدون أن يخشى على دينه " , " فالحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة وهما المصطحبان بالطبع المتحابتان بالقوة والغريزة " ثم يلغي ابن رشد تناقضات الحقيقة الغيبية بنظرية وجود باطن مظاهر للعقيدة , فالناس طبقات لذلك تخاطب كل صنف منهم بما يتناسب مع مداركه " وقد تلطف الله بعباده في الأشياء التي لا تعلم إلا بإعمال العقل فضرب لهم أمثالا وأشباهها ودعاهم إلى التصديق بتلك الأمثال بينما خص الفلاسفة وحدهم باكتشاف تلك المعاني التي لا تنجلي إلا لأهل البرهان القادرين على استخراج دلالة الحقيقة إلى الدلالة المجازية " .

ويفسر لنا ابن رشد كيفية إلغاء التناقضات والتخلص منها بشيء من الحيلة " فإن كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى إليه البرهان فيه أو مخالفا فإن كان موافقا فلا قول هناك وإن كان مخالفا طلب هنا تأويله " .

فالهدف واضح ومحدد : إيجاد توافق كامل بين متطلبات المنطق وبين المواقف الغيبية برضاها إن أمكن أو بصهرها وإرغامها بشيء من البراعة البهلوانية الكلامية على الدخول في بوتقة قالب أعده لها خصيصا . ولا يغفل ابن رشد عما هذه العملية من مخاطر فيوصي بوقفها على الخاصة ويحرم العامة منها إذ يمكنها أن تظل أو تكفر إن هي أقحمت في متاهات التأويلات الرشدية .

ويقر فيلسوفنا في الأخير أن " كل شريعة كانت بالوحي فالعقل يخلطها " . وبأن " العلم الملقى قبل الوحي جاء متمما لعلوم العقل أعني أن كل ما عجز عنه العقل أفاده الله تعالى الإنسان من قبل الوحي " ( نقطة 5 ) .

لقد لاقت فلسفة ابن رشد هذا استقبالا حسنا على مر العصور إذ رأى فيها العقائديون الأذكياء مخرجا من مأزق تناقضات الحقيقة المقدسة مع قواعد المنطق إذ تمكنهم من التوفيق بين معتقداتهم وبين التفكير المستقل وبين الاستبداد الفكر-سياسي السائد وتطلعاتهم نحو التحرر .

لكن التوفيقية لا تشكل حلا حقيقيا , إذ تتمرد ضدها لأنها لا ترضى في الواقع أي منهما وذلك لسببين بديهيين هما :

أولا : تستند العقيدة كما قلنا على الإيمان , وعلى الإيمان وحده حتى وإن تفضلت بالتدليل على بعض مفاهيمها فمن باب بغية الشرح لا من باب الاهتمام الزائد بالعقل , وقد عبر الصوفي الهروي عن هذه الحقيقة الأساسية بجملة تنسف المحاولة الرشيدة بأكملها يقول :" إن من طلب نور الحقيقة على قدم الاستدلال كان كمن يطلب الشمس من السراج".

فالتفكير التوفيقي تفكير التطفل دخيل على العقيدة بل ومتجاسر على أهم ما فيها إذ يشكل إيحاءه بأن الإيمان وحده لا يكفي وأنه مصدر اعتقادات السذج والعامة الذي يمثل خطرا علة تماسك العقيدة وقوتها . وقد لخص مالك ابن أنس في رده على فهمه للآلية القرآنية " واستوى على العرش " , وما يتبع ذلك من تشخيص لله من مبادئ وتطلبات العقيدة بقوله " الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة فعلى المؤمن إذن قبول الفرضية وعدم المبالاة بما فيها من تناقضات وتفادي الخوض فيها وقد قال النبي في المعنى نفسه " فما عرفتم فأعلموا به وما تشابه عليكم فآمنوا به " وحذر الناس من مغبة النقاش والكلام في هذه المواضيع الحساسة قال " ما ضل قوم بعد هدى إلا آتوا الجدل " .

وبالتالي فإن موقف أبو حامد الغزالي أكثر منطقية ونزاهة من موقف ابن رشد فقد عرض بصدق واخلاص المشاكل التي يواجهها العقائدي الذكي ووصف قلقه وحيرته في نص شهير يقول فيه :

" فلما خطرت لي هذه الخواطر انقدحت ( أي ثبتت ) هذه الخواطر المشككة في النفس فحولت علاجا فلم يتيسر إذ لم يمكن دفعه ( أي الشك ) إلا بالدليل ولم يمكن نصب الدليل غلا تركيب العلوم الأزلية فإذا لم تكن ( تلك العلوم ) مسلمة لم يمكن تركيب الدليل وأعضل هذا الداء ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم المنطق والمقال حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين فلم يكن ذلك بنظم وترتيب كلام بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر وذلك النور هو مفتاح أكبر المعارف ... وبذلك فإن طريق الفلاسفة فاسدة لا توصل إلى يقين والعلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ولا يقاربه امكانية  الغلط والوهم " .

يلاحظ القارئ أن الغزالي لم يحاول إنكار وجود تناقضات خطيرة بين خطر العقل وسلامة الإيمان ,  وأنه عانى من الشك والحيرة والقلق وجرب استعمال الدليل , ولكن بدون جدوى , وتعذر عليه دفع الشك بالمنطق أدراك أنه لا خيار له بين التسليم بالحقيقة الغيبية والإيمان بها وبين التمرد فارتضى الحل الأول ولكنه من موقع النزاهة الفكرية , إن لم يحاول التخلص من التناقضات بالربح الخيالي على الجبهتين مفضلا المحافظة على مكاسبه بدل الدخول في معركة فكر-سياسية خاسرة مسبقا .

ثانيا : يستحيل على التفكير العقلاني المحض قبول نظرية ومنهجية ابن رشد إذ هناك تناقض جذري بين طبيعة العقل ومهمة المحاولة التوفيقية .

فمن طبيعة العقل أي منهاج التحرر مواجهة الفرضية بدون تحيز مسبق يمكنه إثباتها أو نفيها بعد تمحيص دقيق لها . ولا قيمة لهذه الفرضية بالنسبة إليه إلا في تماشيها مع الواقع وليس لها أدنى فضل في حد ذاتها فيقبلها إن قبلتها التجربة أو الممارسة أو لفضها بسهولة كلية ليستبدلها بفرضية أخرى إن أظهر الواقع نقصا أو عيبا فيها . فللعقل إذن قدرة القبول وقدرة الرفض .

فهل للتفكير التوفيقي المتعقلن قدرة رفض نظرية كاملة ومكتملة وكليانية كما تجاهر بذلك علنا ؟

قطعا لا وذلك باعتراف ابن رشد نفسه , فقوله أن " التأويل أن لا ينفي التأويل ( الغيبي ) وإلا كاد جحد الوجود كفرا " واضح لا لبس فيه , فعمليات العقل مغشوشة في البداية إذ تتلخص في شل الرفض أي نصف إمكانيات الفكر وفي تسخير قدرات النصف الآخر للتلاعب بتأويلات ظاهر الباطن وباطن الظاهر فالتفكير التوفيقي إذن عاجز عن إثبات ما تنفيه العقيدة أو نفي ما تثبته , فتحامله على العقيدة واضح وتحامله على العلم أوضح . فمهمته إذن تمجيد التناقض القائم بين شطري الفكر : فكر الاستبداد وفكر التحرر ؟

فيلجم العقل ويحدد صلاحيته , وذلك حتى لا يتهدم هذا البناء العقائدي الشامخ .

لكن العقل يتنطع أمام هذه الحالة حتى وهو مهزوم بل قل بوقاحة المعري وهو ينشد :

                                   كذب الناس لا إمام سوى العقل      مشيرا في صبحه والمساء

                                  أيهــا الغـــران خصصــت بعقل      فأسألــه فكــل عـقـل نبــي

         

ومن ثمة لا يبقى للاتجاه الأمني في أولى مراحل تطور الفكر سوى محاولة إسكات هذا الصوت المشاغب كما يحاول الإنسان التخلص من ألم مزعج في داخله , فتنتهي مرحلة التوفيق وتبدأ مرحلة الصراع . وقد عرفت كل الحضارات

- ومن جملتها حضارتنا – حدّة هذا الصراع بين الاتجاهين , لكن أحسن مثال تاريخي نقدمه هو معركة شقي الفكر في الغرب إبان عصور النهضة .



                                                           *

المــواجهــة الحـتـميـة



كيف واجهت العقيدة الكاثوليكية طيلة القرون الثلاثة الأخيرة الحركة المتمثلة في تطور المعرفة العلمية واستقلالها المتصاعد ؟

ومن المعروف أنه كان لها " مونوبول " الكلام عن العالم , وأنها كانت تطمح دائما لتنظيمه سياسيا وقد فرضت لعدة قرون بالإرهاب تارة وبالإقناع تارة أخرى تصورها الغيبي الخاص للعالم . وقد صمد البنيان العقائدي على مر العقود طالما بقي البنيان مشعا في الصدور وطالما أمكنها مراقبة واحتواء التفكير العلمي إلى أن بدأت دعامات البناء تتمايل بميدان الأرضية الفكرية التي بنت عليها الكنيسة قناعاتها . وقد كان قاليلي أهم من أعمل معوله في دعامات البناء الشامخ وأهم مفكر هدد متاتنتها ولازلت آثار تطاوله على الحقيقة الغيبية فعالة إلى عصرنا هذا .

ولابد من التركيز هنا على نقطة هامة ألا وهي أن قاليلي لم يتوخى أبدا تهديم أسس المسيحية , ولم يطمح إلى خلق نظرية بديلة . وإنما اكتفى بوضع النظرية الغيبية بين قوسين , إذ لم يجد في إيمانها بأن الأرض مركز الثقل في الكون أو أنها مسرح أحداث خارقة وإن الإنسان خليقة إله استوى على العرش وإن الحياة الدنيا وآخرة الآخرة خير وأبقى من الأولى الخ ... ما يشفي غليله ويصده عن البحث المستقل فترك كل هذه الآراء جانبا ( ومن هذا الرفض الضمني بدأت الثورة ) واعتمد على عقله في محاولة فهم أسرار الطبيعة .

فلاحظ مع ''كوبرنيك'' و''جيوردانو برونو'' أن الأرض جرم عادي يخضع ككافة الأحكام السماوية الأخرى المهولة العدد إلى عدد معين من القوانين الطبيعية , وأن اعتبارها مسرحا لحوادث خارقة أمر فيه نظر . وقد أدرك ما في كلامه هذا من نقض واضح للنظرة العقائدية إذ يستحيل التوفيق بين التصورين وإلا وجب أن نرد على مشاكل عويصة من نوع هل توجد حضارات أخرى في الكون ؟ وما هي علاقة الله بها ؟ وأين يوجد عرش الله ؟ إضافة على أن مراجعة القائم على الحقيقة تؤدي آليا إلى مراجعة باقي سلطانه . لذلك واجهت الكنيسة الخطر المحدق بها بكثير من العنف والتشنج فقامت بإحراق'' جيوردانو برنو'' سنة 1604 وكان أول من قال بأن الأرض كوكب عادي وشجبت نظريات ''كوبرنيك'' رسميا سنة 1616 وحاكمت'' قاليلي'' بعد شجب آراءه وتفكيره سنة 1633 وألقت به في غياهب السجن وأجبرته على التراجع عن آراءه باستعمال الإرهاب والتعذيب .

كما يجب هنا أن نذكّر القارئ بأن'' قاليلي'' حارب على جبهتين في الوقت نفسه , فقد قاوم فكر العقائديين المتعلمنين أي فكر ورثة أرسطو وحارب الفكر الغيبي الكلاسيكي المتمثل في الكاثوليكية . وكان أول من طالب باستقلال العلم عن العقيدة , وهو أول من أكد على أن دور الحقيقة الغيبية يقتصر على إرشاد الإنسان إلى طريق الخلاص وهدايته إلى الخير , وأنه لا صلاحية لها في الكلام عن الظواهر الطبيعية إلى المطالبة بفك كماشة الاستبداد .

وقد حاربت الكنيسة هذه الحركة العلمية ما استطاعت . وحقدت على ''قاليلي''  وأمثاله لتهديدهم لسلطتها أو إفراغهم السماء من شحنتها العاطفية ببعض المعادلات الحسابية الجافة , واستبدالهم بكثير من اللامبالاة عالم لا يأبه بتأمينات الإنسان , ولا يصيخ  السمع لتأوهاته وتوسلاته ولا يعنى بآثامه أو بحسناته ولا يهيئ له مؤدي في حياة مقبلة ومخرج من الموت والفناء .

وقد عبّر ''بسكال'' عن آثار هذا التغيير الهائل في علاقة الإنسان بالسماء في جملته الشهيرة " إن صمت الفضاء اللامتناهي يخيفني " وعبّر ''ماكس شيلر'' عن الشعور نفسه بوصفه لعالم ''نيوتن'' بأنه كقلب فارغ من الحب.

 لا تنجح حركة الكنيسة المضادة في إيقاف مسيرة العلم وتهدّم  نظرية داروين ما تبقى من التصور الغيبي للعالم مساهمة  بدورها في انحسار المسيحية كديانة فعالة في الغرب إذ أرجعت الإنسان إلى حجمه  تجعل  منه حيوانا طبيعيا ( عاقلا مع الأسف كما تقول السريالية أو حيوانا يأكل بلا جوع ويشرب بلا عطش ويمارس الجنس في أي وقت حسب تعريف ظريف آخر )

لقد حاولت الكنيسة التعرض لداروين ومحاربة أفكاره ولكنها فشلت فشلا ذريعا في محاولاتها هذه كما فشلت في خنق صوت الشهيد قاليلي .

 نستنج إذن أن الفكر يخلق فرضيات غيبية ويتشبث بها زمنا طويلا ويدافع عنها بعنف لأنها ترضى حاجة ماسة إلى الدعة والسكون , لكن الفكر لا يستطيع أن يمنع نفسه عن التفكير مثلما لا تستطيع العين أن تمنع نفسها عن الرؤية . ومن ثمة نلاحظ أنه يعود يوما ما إلى مراجعة مقاييسه وموازينه ومفاهيمه , لكن الهدف قار لا يتغير : إيجاد تطابق كلي بين نظرته للكون وطبيعة هذا الأخير , واثبات دعائم هذا التصور على قاعدة أصلب من العنف الذي يسلطه على نفسه, وتحرير الإنسان من كل استبداد .

والآن كيف أعيد طرح المشكل من أساسه بظهور الحضارة الثالثة في الغرب , وانتهاء سيطرت المسيحية كتنظيم لحضارة زراعية في طور الاختفاء وتجدد شكل المشروع التحرري عبر ظهور نزاع البروليتاريا والرأسمالية الصناعية .





الفكــر العقـائـدي المتعـلمـن

 هو خلافا لما أشاعه أتباعه ليس حالة خاصة من العلم وإنما حالة خاصة للعقيدة .

لقد بقيت التقنية العقلية مقصورة زمنا طويلا على معالجة بعض المسائل الطبيعية المحددة لكن الفكر لم يلبث أن اكتشف إمكانية استغلال المنهجية ونتائجها في معالجة القضايا العامة التي طرحها منذ بدأ يبحث , أي قضية فهم الكون , والتنظيم الإنساني العادل والفعال . ومن ثمة طرح مشروع خلق العقائد العلمانية ومشروع باشره الفكر مرارا عديدة عبر التاريخ في إطار بعض التجارب ( كالبيثاغورية التي مثلها بيتاغور Pythagore وأتباعه ستة قرون قبل ولادة المسيح والتي أجهضها التفكير الغيبي لغياب الجو التكنولوجي الملائم معتقدا  أن النجاح سيكتب له هذه المرة نظرا لوجود مناخ صالح لم يتوفر من قبل ونظرا للآمال العريضة التي كان يعلقها على العلم ) .

وقد يتبادر إلى الذهن أن نتساءل عن خصائص هذه التقنية العقلية التي اكتشف الفكر فعاليتها والتي حول أن يتجاوز بها ورطته الغيبية .

علينا قبل الشروع في الرد فهم كيفية عمل " النموذج " أي العلم نفسه باعتباره الشكل المتحرر للكفر العقلاني الذي تخلص نهائيا من " العقدة الأمنية "  التي رأيناه قوام ودعامة شكله الغيبي .

يرمي العلم كما هو معروف إلى اكتشاف الخصائص الموضوعية للظواهر الطبيعية وربطها ببعضها البعض , ومعرفة العلاقات الحقيقية التي تحكم وجودها وتصرفاتها , وأهدافه في البداية دائما متواضعة أي أنه لا يطمح إلى أكثر من التعمق في ميدان معين من الميادين الطبيعية ولا ينمو بتاتا تكوين صورة مكتملة شاملة عن عالم الطبيعة من أول وهلة.

وتبدأ المحاولة بقبول الفوضى في الأشياء للاعتراف بالجهل المطبق أي بالتخلي عن المعرفة المخيلة الغيبية . فيلاحظ " العالم " بدقة متناهية وفي ميدان محدد بعض خصائص الظواهر ويحاول فهمها بخلق تفسير مؤقت يسميه الفرضية ثم ينتقل في وقت ثان إلى الواقع ليقدر متانة هذا التفسير , فإن قبلته التجربة كانت النتيجة وإن رفضته تعاد المحاولة من جديد إلى أن يتوصل الباحث إلى هدفه .

لنتوقف عند أهم الخصائص التي تجعل من العلم أداة تحرر فكري لا يتحجر , ويؤدي انعدامها إلى الاستبداد في العقيدة.



·        ليست للفرضية أدنى قدسية ولا أولوية لها على الواقع فهي ذات أهمية قصوى إذ تستحيل العمل بدونها , ولكنها كلا شيء في نفس الوقت . إذ يسهل على الباحث إسقاطها والاستغناء عنها إذ ثبت فيها عيب أو نقص , فهو لا يسخر قدراته لإثباتها وفرضها على الواقع بأي ثمن , بل يرمي إلى اكتشاف صلاحيتها في تماشيها وتطابقها معه فالأولوية المطلقة منذ البداية للواقع والتجربة لما رأيناه من خاصية العقل الأولى أي التقييم الدائم ولم كان تقديم التقديم . لذلك ترى الفرضيات العلمية تتغير بسرعة كبيرة دون أن تهدد هذه الحركة دعائم العلم , فلا يؤدي نفي فرضية معينة سادت لمدة ما إلى تصدع في بنائه , بل يؤدي على العكس إلى تطوير المفاهيم وتصعد الفعالية . وهذا بالطبع ما يجري في العقيدة الغيبية التي تحاول فرض الفرضية على الواقع وإدخاله قسرا في إطاره الجامد الذي لا يتبدل .

·        تشكل المنهجية العلمية جملة العمليات التي تسمح بالتيقن من جدية الفرضية . وحسابها لها دقيق عسير إذ لا تكن لها احتراما زائدا . وتتطور هذه المنهجية هي الأخرى بتطور المعرفة سواء بتحسين آلتها وأجهزتها التي تمكنها من التوغل في مسالك ميدان البحث أو بتحديث مفاهيمه النظرية أي اكتشاف أحسن الوسائل للبت في مشاكل معينة . و الأهم من هذا أن المنهجية تسمح بالاكتشاف و لكنها لا توحي به , فهي مستقلة نسبيا عن الفرضية والاستنتاج . معنى هذا أنك لن تستطيع تكوين صورة مكتملة عن ميدان معين في علم الأحياء مثلا بمجرد معرفتك للمنهجية التجريبية وبامتلاكك لمجهر معقد , فهذا لا يكفي إذ سيرتبط مدى تحصيلك العلمي بإمكانيات المجهر لا محالة وإجادة استعمالك له وخاصة بموهبتك في البحث والتمحيص وبالصدفة وبقوة مخيلتك في اختلاق فرضيات تربط الأجزاء المفككة في تشكيلة نظرية متناسقة , وبمحاكمتك الصارمة لها, وبالتقدم في علوم مجاورة ...الخ .ولهذه النقطة أهمية كبرى , إذ يكمن هنا الاختلاف الأساسي بين المنهجية العلمية والمنهجية المتعلمنة التي توحي عادة ( وتحدد بكيفية واضحة أو مبهمة ) وبكل ما يمكن أن يقال في الموضوع . الجدلية مثلا هي المنهجية والنظرية في آن واحد , فهي كيفية التعامل مع الظواهر المتحركة المتضاربة والإقرار بأن الظواهر متحركة ومتضاربة لزوميا إذ لا وجود لظواهر ثابتة أزلية تجهل الحركة والتضارب .

ترسم إذا المنهجية المتعلمنة حدودا واضحة للمعرفة " العلمية " أي أنها حبلى بإمكانيات متعددة , ولكنها محدودة , وفي هذا يكمن الاختلاف الجذري مع المنهجية العلمية التي تستند هي الأخرى على خلفية نظرية معينة مؤقتة , التي تستطيع التحرك في ميدان أوسع , إذ لا تحد هذه النظرية من حريتها فيسعها القول اليوم بالسببية وإنكارها في الغد مما يؤدي إلى تجاوز فرضيات ومواقف متنافرة ولا متجانسة , وإلى غليان فكري لا يهدأ , وهو غليان مقبول ومرغوب فيه وشرعي بينما ترى التشكيلة المتعلمنة إما جامدة على مواقف النبي ومتشنجة في محاولة الحفاظ على مكاسبه و

" إنجازاته العلمية " وغما في حالة حرب وتمزق نظرا لتكفير العقائديين بعضهم البعض .

·        ليست للنتيجة العلمية أدنى قدسية شأنها في هذا شأن الفرضية التي مهدت لها الطريق . ويجهل عادة المتعلمنون هذه الخاصية الهامة فيعتقدون أن نتاج العلم مكتمل شامل أزلي لا ضعف ولا وهن فيه كنتاج العقيدة , بينما يكذب الواقع هذا التصور الساذج . فالمعرفة العلمية في تطور وتحسن مستمر وقد تصبح حقائق اليوم أباطيل الغد أو على الأقل تصورا جزئيا وهامشيا للمشكلة المطروحة , فهناك لا محالة بعض النتائج الثابتة ولكنها نتائج تطفو على بحر متموج من الحقائق المؤقتة والمتضاربة وقد كذب التاريخ خطأ أعظم العباقرة بدون أن ينقص هذا التكذيب الجزئي من قيمتهم ومكانتهم فلكل حقيقة علمية تاريخ وحاضر ومستقبل .

فقد تغير مثلا مفهوم الفيزياء للضوء تغيرا كبيرا طيلة القرنين الأخيرين , فقد نجحت المعادلات الهندسية الكلاسيكية في تفسير كثير من خصائصه باعتباره إشعاعا أفقيا إلى أن أثبتت تجارب 'اكسوال خطأ هذا التطور , وأظهرت أنه إشعاع متموج . فساد هذا الاعتقاد أمدا طويلا إلى أن أثبتت تجارب أنشتاين حول تفاعل الضوء والمادة قصور هذه " الحقيقة " في تفسير بعض الظواهر , فاستبدل التصور القديم بالتصور المعاصر وربما المؤقت أي أن الضوء موجات ووحدات مادة تعرف ب''الفوتون'' .

هذا ويعرف كبار العلماء  أن تراكم النتائج الجزئية وتضارب الآراء وتعدد النظريات كما يعرفون طوال حياتهم العلمية تزعزع أقوى المعتقدات  وميدان جل البديهيات وانتساب كل الاكتشافات والتطور المستمر والمتصاعد السرعة لأغلب الفرضيات التعليمية . ولا ترحم هذه الحركة الدائبة المجنونة أقدس المقدسات العلمية ولا تهادن ولا تتوقف خاشعة عند أي حقيقة مهما حازت من سمعه وبالتالي فإن علاقة العلم بالسلطوية موقوفة , لأنه لا وجود لنبي في العلم يمجد الحركة كما يجهل المتعلمنون أن من طبيعة التساؤل العلمي أن يطرح من المشاكل أكثر مما يحل فترى العلم ينتقل من البسيط إلى المعقد , أي أن حركته معاكسة تماما للحركة العقائدية التي ترمي إلى رفض تعقيد الواقع وتبسيطه بشتى الحيل . فالعلم مغامرة مجهولة العواقب ومتعددة المسالك فلا يبدأ الباحث في البت في مشكلة إلا وتبرز مشاكل . ولا يتخلص من معضلة إلا وتعترض مسيرته عقبات كأداء ومهولة العدد , فما أن ينفتح بابا يظن السر ورائه إلا ويفاجئ بعشرات الأبواب الموصدة في وجهه . ويقدر العلماء دون غيرهم من الناس هذه الحقيقة المنعشة والمخيفة في نفس الوقت . وقد قال أحد البحاثة في وصف هذه الحالة النفسانية التي تعتريهم وهم يواجهون الأبواب الموصدة إن ما يسمى اليوم بانفجار المعرف وهو في الواقع انفجار الجهل في وجوهنا . والطريف أن العلماء لا يستعملون أبدا هذا الاصطلاح للكلام عن أنفسهم , فالتواضع فضيلة لا محالة ولكنه تواضع مفروض . فهم واعون بما في معرفتهم للعالم من نقص ومدركون لضآلة مداركهم بالقياس إلى خضم الواقع المريع . وقد عبر نيوتن عن هذا الشعور بقوله أنه كصبي يلعب على شاطئ بحر زاخر بالكنوز ولكنه مقتنع وسعيد بالتقاط بعض الحصى الجميلة التي يلفطها هذا البحر . فالعالم إذن هو الباحث الواعي بعمق جهله , والذي لا يصل إلى هذه النتيجة غالبا إلا بعد سنين طويلة من البحث والتنقيب والانتصارات الكبيرة والصغيرة .

وكثيرا ما تشكل جملة سقراط الشهيرة " إنني أعلم أنني لا أعلم شيء " القناعة الأخيرة لهذا العالم الحقيقي الواعي بما في اصطلاح العالم الذي يطلقه عليه المتعلمنون من سخرية غير مقصودة .

وأخيرا يستحيل تحجر العلم نظرا لتضافر ثلاثة عوامل أخرى هي عامل الصدفة وعامل الحاجة وعامل الحرية .

·        عامل الصدفة : لكثير من الدول برامج علمية تلعب دورا لا ينكر في تقدم العلم . ولكنها عاجزة في الواقع عن توليد فرضية العبقرية والنتائج العظيمة . ولم يكن تطور المعرفة أبدا محكوما بتخطيط مسبق وإرادة موجهة , ولم تكن الخطط الخماسية أبدا وراء جل الاكتشافات العلمية التي قلبت العالم رأسا على عقب إذ كانت هذه الانتصارات نتيجة محاولات فردية كونت منعطفا في تاريخ الفكر . كغرق علم الأحياء مثلا طيلة القرون الماضية في مهاترات عقيمة حول مشكلة تكوين الجنين , فمن قائل بأنه موجود بصفة مصغرة في الحيوان المنوي , ومن قائل أنه على العكس موجود في البيضة فقط . ولم تتبخر هذه النظريات ولم يحسم النقاش إلا عندما أبصر دوخراف سنة1875 عملية الإخصاب تحت عدسة مجهره .

·        عامل الحاجة : لقد تتالت الانتصارات العلمية والتكنولوجية في غرب أوروبا أواخر القرن التاسع عشر لوجود مناخ اقتصادي فكري . ومن ثمة عجزت العقيدة الغيبية عن التعرض لهذه الحركة وإجهاضها نظرا لحاجة البورجوازية الماسة لما يقدمه العلم من خدمات في محاولتها الرامية للسيطرة على العالم . ولا زالت المجتمعات المتطورة وحدها قادرة على هضم نتاجات العالم وترتباته النظرية لحاجتها إليه سواء على الصعيد الاقتصادي أو الثقافي أو العسكري . فهي تحث الحركة العلمية على مزيد من الإنتاج لا حبا في العلم بل حبا في إمكانيات الفعالية والسيطرة والقوة التي يوفرها , كما تجد كافة قطاعات المجتمع مصلحتها في تطوره المطرد إذ يسعى السياسيون باستخدامه في تكريس سيطرته وتفوق بلدانه ونظمهم , ويجد العسكر اكتشافاته ما يسمح لهم بتطوير لعبهم الرهيبة , ويكتسب منه الباحثون الشهرة والاحترام , ويرى بقية الناس فيه وسيلة لتحسين مستوى معيشتهم والتغلب على الأمراض . فمن البديهي أن لا تصمد قناعات مقدسة أمام تكاتف المصالح الهائلة هذه وطغيان الحركة ودعامتها إذ يعني الجمود اللافاعلية بينما المجتمع في حالة نهم دائم إلى الإنجازات والمكاسب في عالم الواقع لا في عالم الخيال .

·        عامل الحرية : مما لاشك فيه أن الحرية المطلقة هي أولى شروط ومتطلبات الحركة العلمية . فالنقد بصفة خاصة شرط من شروطها الأساسية . وهو نقد حاد لا يرحم ولا يمارئ ولا يقف خاشعا أمام اسم أو نظرية , ولا يبالي التحرش بالمقدسات العلمية أو العقائدية , ولا يحترم إلا صمود النظرية أمام التجربة . وهو نقد بناء لا يهدف إلى التحطيم بقدر ما يهدف إلى التيقن من صلابة النظرية وهو غير معرض إذ لا يسعى إلى خدمة مصلحة إنسان أو فريق وهو نقد مشروع وشرعي فلن يسوق الباحثون الحقيقيون رفيقا لهم معرض إلى المشنقة لقوله بغير ما يقولون , ولن يعذبونهم حتى ينكر ما أقر به سلفا , ولن يفرضوا عليه اعتناق نظرية معينة جاهر بكذبها لا لأن العلماء ملائكة من غير طينة البشر ( فالعالم الجامعي ككل المؤسسات الإنسانية يعج بالمؤامرات والحسد والأحقاد والضغائن والطموحات الشخصية ) بل لأن طبيعة العلم تمج هذه التصرفات ولا تطيقها , ولا يمكن أن تشكل بديل حجة أو برهان أضف إلى هذا أنه ليس نبي في العلم ( فلان أو علان ) أهمية كبرى في تطور العلم . وقد يلعب دور مصيري في فتح آفاق المعرفة بعد أن طال الضياع في السراديب التي لا تؤدي إلى شيء , ولكن فضله مهما عظم محدود , لذلك يذكره التاريخ ويجله أشد الإجلال ولكنه لا يعطيه أبدا مونوبول التشريع في عالم الطبيعة , ولا يجعل من كلامه تراثا مقدسا يتوارثه الأبناء عن الآباء بكثير من الخشوع والخضوع فيعامله ( الأبناء ) بمزيج من الاحترام والوقاحة أي أنه يحاكمون نتائجه بالأسلوب نفسه الذي يحاكمون به أي نظرية علمية أخرى , فيقبلون طالما أثبت الواقع صلاحيتها ولا يتوانون ولا يتوارون عن تحويرها وعن تنسيبها وتنقيحها وتشذيبها وإسقاط بعض المقاطع منها أو إضافة بعض التحسينات إليها إذ هي نقطة الانطلاق لا نهاية الحركة العلمية , والعالم العبقري ليس من يغلق النقاش بل من يفتح آفاقا واسعة له . هذا , والمغامرة العلمية كما هو معروف مغامرة جماعية تتفاوت حسب الأهمية وعبقرية المشاركين فيها , فتطفوا أسماء البعض منهم على سطح النسيان ولكن لكل واحد من آلاف الباحثين دورا فعالا مهما بلغ من التواضع فلا غرابة أن لا نجد إذن نبيا في الفيزياء وفي الكيمياء الخ ... ولهذه النقطة أهمية بديهية إذ لا تكون الحركة العلمية ولا يكتب لها النجاح إلا بالتغيير الجذري في العلاقة التي تربط أعضاء المجتمع العلمي إذا ما قارناها بالعلاقة السائدة في الوسط الغيبي . فلو فرضت هذه العلاقة الغيبية داخل العلم بوجود سلطة مطلقة لنبي واحد وتعيش آلاف من الأتباع على آراءه لأصيبت الحركة بالشلل ولما كانت علما إنما عقيدة .

هذه هي إذن أهم خصائص العلم وأسباب استحالة جموده والإجماع على قبولها والتسليم بها موجود , لذلك يسعنا اتخاذها مقياس لأي حركة فكرية تدعى العلمانية , فإما أنها توفي بهذه الشروط وإن لها هذه الخصائص فهي علمانية وإما لا , عندئذ يجوز منطقيا رفض الادعاء واعتباره غير مشروع .



                                                               *

التقــليــد وحــدوده



هل للعقيدة الماركسية نموذج العقائد المتعلمة ( في الواقع لا في النظرية ) مثل هذه الخصائص ؟ أي هل تثبت هذه الممارسة في المجتمعات التي تدين أو دانت بالماركسية تشابه العقيدة بالعلم ؟ بعبارة أخرى هل استطاع الفكر التغلب حقّا على نزعته الأمنية الاستبدادية في إطار هذه العقيدة , أم انه وقع من جديد في مأزق التحجر والتمذهب مفضلا السكون على الحركة واليقين والبحث .

لنركز على فكرة هامة جدا قبل الشروع في الرد على السؤال ألا وهي اختلاف ميادين عمل العقل والعقيدة , فهدف هذه الأخيرة كما رأينا سياسي . الأول يطمح إلى تغيير ميزان القوى لصالح المقموعين وإن أمكن إلغاء علاقة القوة بين الناس الطبقات والشعوب , يضاف على هذا أهدافنا أخلاقية تمس الفرد مباشرة والثاني ميتافيزيقية كإزالة الرهبة من الموت أو ربط علاقات ودية مع الكون الخ ... ومن البديهي أن تحقيق هذه الأهداف مرتبط بوسائل منها العقلانية ومنها الرمزية . أما العقل فيهدف أساسا إلى ربط الظواهر المتفرقة في علاقات منطقية تجعل الكون قابلا للوصف والفهم مع اعتماد التقييم الدائم لمواقفه . ونرى هنا المأزق الذي يمكن للعقيدة أن تقع فيه عندما تحاول تدجين وسيلة لها أسلوبها وميدانها وطرق عملها الخاصة التي يمكن أن تشكل في بعض الأحيان خطرا على المحاولة العقائدية نفسها .

نحن نجد أول محاولة جدية لتلقيح المشروع العقائدي بالتقنية العقلية في الغرب في القرن التاسع عشر , في شكل نظرية الفلسفة الوضعية التي بشر بها الفيلسوف الفرنسي أوجست كونت , وذلك في الإطار الواسع لظهور الحضارة الثالثة وتكنولوجيتها المميزة . وقد أوضح الرجل أهدافه منذ البداية : تحقيق القطيعة مع المرحلة الغيبية للفكر مع الحفاظ على البرنامج العقائدي لكن بتأقلمه وتطويره وتطعيمه بنتائج ومنهجية العلم . فهو يقرر أن البشرية دخلت في طور الفكر الموضوعي بعد أن تجاوزت مرحلتي التفكير اللاهوتي الغيبي والتفكير الميتافيزيقي , معتبرا أن الانتقال من من مرحلة التفكير اللاهوتي إلى مرحلة التفكير الميتافيزيقي ثم الوضعي قانونا علميا , وليس مجرد نظرية فلسفية . أما علم الاجتماع الذي اخترعه كونت فهو مكمل سائر العلوم وسيدها إذ يستمد مفاهيمه من ترتيبه لسائر المعارف العلمية الأخرى ( الحسابيات – الفلك – الفيزياء – الكيمياء – علم الأحياء ) ويشكل هذا العلم الجديد بالنسبة إليه فيزياء المجتمع وبالتالي فلقوانينه صدق وقيمة قوانين الفيزياء والكيمياء .

تقول النظرية أنه وجب اكتشاف هذه القوانين واستعمالها للتحكم الفعال في قوى المجتمع وتوجيهها لصالح الإنسان . وبهذا تكون الفلسفة قد حاولت استيعاب شتى المنجزات العلمية واستعمالها لخلق دين جديد مبنى على استبدال الله القديم بإله جديد هو الإنسانية .

ولم تلاق هذه الديانة الجديدة كما هو معروف نجاحا كبيرا رغم محاولات تلامذة كونت إذ لم تكن أي من القوى الاجتماعية بحاجة إليها  فطالها النسيان ولم تؤثر في شيء على مجرى الأحداث , على عكس الماركسية التي عرفت الانتشار الهائل والسريع الذي جعل منها مقياس كل عقائد الماضي والحاضر . وقد عرف أنجلز ( الذي ركز كثيرا على هذه النقطة ) ماركس بأنه داروين التاريخ , وعرف'' بيبل'' الماركسية بأنها علم مختلف الظواهر الإنسانية , كما يؤكد الماركسيين على علمانية العقيدة ويستمدون من هذه القناعة ثقة مطلقة بحتمية تحقيق التاريخ لغاياتهم وأهدافهم , ولا غرابة في أن يولوا هذا الادعاء الكثير من اهتمامهم إذ لو نحينا عن العقيدة صفة العلمانية لجاز اعتبارها عقيدة علمانية تتنازع مع عقائد عادية أخرى ولا يمكن للماركسية أن تقبل بطبيعة الحال بمثل هذه الوضعية , فهي ترفض شأنها شأن كل العقائد , أن تكون نسبية أو مقاسة بغيرها أما إذا صح أنها نتاج الحركة العلمية التي أحرزت الانتصارات المذهلة في ميادين العلوم الطبيعية , وأنها تطبيق المنهجية نفسها في ميادين التاريخ والاقتصاد والسياسة وإن لتطبيقاتها في هذه الميادين فعالية تطبيقات العلم في الميادين الطبيعية فستتغير النظرة إليها تغيرا جذريا . وقد أسهب المفكر الماركسي التوسار في شرح وإثبات هذه الادعاء وساق حججا متعددة وأهمه ما يلي :

q       الماركسية هي علم الظواهر الاجتماعية وتشكل ككل العلوم انقلابا على المفاهيم العقائدية السابقة ونقضا لها .

q       يقصر هذا العلم الثوري اهتمامه على الظواهر المادية الملموسة كوضعية الإنسان الحقيقية في عالم حقيقي محكوم بقوانين موضوعية فلا يتخيل هذه الظواهر ولا يضيف إليها شيئا من عنده ولا يعبأ بمفاهيم مثالية سطحية مضللة .

q       يوجد انفصام كلي بين منهجية ومشاكل هذا العلم وبين منهجية ومشاكل التفكير العقائدي الغيبي .

q       يعمل هذا العلم في ميادينه الخاصة أي ميادين العلوم الاجتماعية بأسلوب الكيمياء أو الفيزياء التي تطورت هي الأخرى بمجرد قطع الصلة بينها وبين ما سبقها من تفاسير ومفاهيم خرافية .

q       لا يشبه هذا العلم في شيء العلوم البورجوازية الدخيلة والمصطنعة كعلم النفس أو علم الاجتماع التي تدعي العلمانية بينما هي مجرد تنظير لمواقف عقائدية بورجوازية .

q       العقيدة البروليتارية هي من ترتبات هذا العلم ونتاجه وليست متقدمة عليه , فهي تعتمد على اكتشافاته الناتجة عن معالجته الموضوعية للواقع للتوصل إلى أهداف موضوعية ستتحقق حتما لأن الأحداث حبلى بها.

q       يكتشف هذا العلم القوانين التي تسير المجتمع فيمكن الطبقة العاملة من التحكم في الأحداث وتوجيهها .

q       تكتسب الممارسة أهمية قصوى في تطور هذا العلم الحديث . وهناك أخذ ورد دائم بين النظرية والممارسة : تصحح النظرية الممارسة وتصحح الممارسة النظرية , وبالتالي يستحيل تحجر هذا العلم خاصة وأن المنهجية الجدلية لا تعترف بالحقائق القارة الأزلية ولا تتعامل إلا مع الحقائق المتضاربة المتغيرة المتناقضة لتكشف المغزى العميق للتناقض والتضارب فيها .

q       حقائق هذا العلم فعالة رغم تباين الزمان والمكان ككافة القوانين الطبيعية الأخرى فقانون صراع الطبقات حتمي كقانون الجاذبية ولا يضيف إلى وجوده تبتل المؤمن شيئا كما لا ينقص منه شكل " الملحد " شيئا .

يرى التوسار لكل هذه الأسباب أن العقيدة البروليتارية هي أول عقيدة علمية في التاريخ , وإنها تفسر علميا سائر العقائد الأخرى غير مضللة وأن ماركس قد أزال الحواجز القائمة قبله بين العلم والعقيدة .

وقد أدرك القارئ من وصفها لهذه العقائد العقلانية بأنها متعلمنة أننا لا نشاطر التوسار في قناعته كما يذكر , إذ قلنا أن كيفية العمل بالنبي في هذه العقائد لا يختلف في شيء عن كيفية عمل العقيدة الغيبية به . ولكن كيف يمكن التدليل على أن الماركسية تتعلمن وتدعي ما ليس فيها بدون السقوط في فخ النقد العقائدي ؟

ولا نعني بهذا كيف يمكن تفادي التنفيذ والشجب العقائدي إذ لا مفر منه ولكن ترى إلى أي محك موضوعي يجب الاحتكام لنحكم على صحة أو عقائدية هذا الادعاء ولنا الخيار بين موقفين إذا ابتغينا الرد بكامل الموضوعية .

أولا : يمكننا الدخول في مناقشة نظرية فنأخذ في المقارنة بين مواقف نظرية في العقيدة ومواقف نظرية في العلم . وسيثبت الماركسيون بسهولة تواجد توافق كلي في النظرية بين المحاولتين . ولا غرابة في هذا فقد كان العلم نموذج العقيدة فتشبهت به ما استطاعت ونقلت كثيرا من مفاهيمه ومصطلحاته كمفاهيم القوة والقانون والحتمية والصراع الخ... لكن ترى هل سيجد باحث يرضى بدراسة المشكلة في ماركسية القرن العشرين مفاهيم علم هذا القرن واثبات مواكبتها لتطوره .

ومن البديهي أن قيمة هذا النقاش محدودة لأننا لا نناقش في كون النظرية الماركسية تحبذ العلم وتحاول التشبه به .

ثانيا : يمكننا مقارنة كيفية عمل النظرية العلمية وكيفية عمل النظرية العقائدية . فإن وجدنا تطابقا في الواقع لا في النظرية فقط بين التجربتين قلنا أن الماركسية حقا علم وليس مجرد شهوة علم وأن وجدنا اختلافا كبيرا قلنا أن الماركسية عقيدة متعلمنة قابلة هي الأخرى للتحجر والتمذهب .

وأرى أن هذا الموقف سليم منهجيا حتى من وجهة نظر الماركسية القائلة بأنه لا يجوز أن نحكم على كائن ما ( هنا الماركسية نفسها بدءا من النظرة التي ينظر بها هذا الكائن إلى نفسه) فالاحتكام إلى الممارسة والتجربة التاريخية موقف نزيه وأكثر غنى من النقاش في عالم النظرية البحتة فالواقع والواقع وحده ( لن نقسو عليه أو نرغمه على التفوه بما لا يطيقه ) هو الذي سيقرر هل التوسار على حق أم أنه يخلط هو الآخر بين مرتجى الوجود وواجب الوجود؟

                                                                      *

تقـييـم المـمـارســة

اعتبرت  العقيدة الرسمية السوفياتية دوما  أن الماركسية جزء لا يتجزأ من العلم , إذ تأخذ بمنهجيته وتطبقها في ميدان العلوم التاريخية والاقتصادية والسياسية وتوجد نتائجه المبعثرة والمفككة في نظرة شاملة ومكتملة للعالم وشؤونه . فلا تناقض ممكن بينهما إذ يشكلان شيئا واحدا في الواقع وقد عبر أحد العلماء الروس عن هاته النظرة بقوله : " إن الماركسية هي العلم الأوحد والداروينية جزء من هذا العالم وقد أتى ماركس وانجلز ولنين بالنظرية العلمية الصحيحة الوحيدة لمعرفة العالم " .

المهم أن الواقع تمخض عن تجربة مغايرة , إذ تغلبت من جديد النزعة الاستبدادية . فدخل البعد العملي للنظرية في صراع سريع مع العلم زهاء ثلاثين سنة وحاربه بصرامة وعنفوانية . تعصبت الكاثوليكية في حربها ضد قاليلي وكوبرنيك وجيوردانو برونو . ويتضح هذا في موقف المذهب السوفياتي تجاه العلوم بصفة عام وعلم الأحياء بصفة خاصة . وسنركز على علاقته بهذا العلم الذي خالف العقيدة في كثير من تصوراته وكان سببا مباشرا في تفجير التناقض المتكرر بين التفكير العقائدي المتعلمن والتفكير العلمي الصحيح . وستمكننا دراسة سياسة المذهب ومواقفه من هذا النشاز من استخلاص بعض الاستنتاجات الهامة حول وقوع الفكر من جديد في نفس المأزق الاستبدادي الذي رأيناه تخبط فيه مرارا في شكله الغيبي .

يعد علم الأحياء من العلوم الرائدة في هذا القرن . وقد أحدثت اكتشافاته ومنجزاته ثورة هائلة على الصعيد العلمي في ميادين متعددة كالطب البيطري وعلو م البيئة والزراعة . أدى هذا إلى تغير جذري في تصورنا لمشكلة الحياة . وقد ضاع الفكر في شكل هذا العلم وتخبط قرونا طويلة في متاهات التفكير الميتافيزيقي إلى أن ثبت خطاه بفضل المنهج التجريبي , وعامل السلطة وعبقريته وجسارة بعض الفطاحل من الباحثين فتتالت الاكتشافات في شتى الميادين بسرعة متصاعدة . ولا زلنا نعايش هذه الحركة ونتعيش على منجزاتها وقد لعب علماء من الطراز الأول في نهاية القرن الأخير وبداية هذا القرن دورا مرموقا في تطوير وتعميق مفاهيم العلم أذكر منهم مندل ومورغان وفايسمان ودوفريس.

وقد عمت تجاربهم مفاهيم , وغدت الآن مبدئية منها أن تأثير البيئة على تطور الأحياء نسبي , وإن الطبيعة تصفي غير القابلين للحياة , وأن البقاء في عالم الطبيعة هو للأفضل والأقوى , وأنه يمكن الانتقال من طور آخر بكيفية مفاجئة وغير متوقعة , أي بكيفية لا جدلية , وأن بعض التشكيلات كتركيب الكلوروفيل تجهل التغير وأنها قارة ثابتة , وأن الوراثة محكومة بقوانين موضوعية هي قوانين مندل , وأن الخصائص التي يكتسبها الفرد بالتجربة لا تورث , وأن خللا في التركبات المادية التي نسميها بالكروموزومات هي سبب الأمراض الوراثية الخ ...

وقد لاحظ العقائديون الماركسيون بسرعة تنافي هذه الأفكار الجديدة مع التصورات العقائدية التي وردت في كتب ماركس وخاصة في كتاب انجلز " ضد دوهرنغ " فتصدوا لها بمنتهى الصرامة وحاربوها بنفس عقلية الكنيسة الكاثوليكية في صراعها ضد فيزياء عصرها . ومما لاشك فيها أن في كثير من مفاهيم علم الأحياء هذا , تكذيب قطعي أو ضمني لبعض المفاهيم الماركسية الأساسية ودحض لفكرة وعلمانية وأفضلية المنهجية الجدلية , أضف إلى هذا أن الماركسية ككل النظريات العقائدية متفائلة وتؤمن بأن خلاص الإنسان مسألة ممكنة وتقنية بحتة , بينما يرى على الأحياء على العكس أن قدرة الإنسان محدودة , فيجوز أن يشقى المرء طوال حياته لا لأنه مستغل اقتصاديا بل لأنه مصاب بعيب وراثي يجعله ناقصا بيولوجيا كذلك يرى أن قدرة البشرية محدودة بقوانين البيئة وتقلبات الطبيعة , فمن الممكن أن تطرأ تغيرات جذرية على التركيبة الوراثية للإنسان بصفة مفاجئة ولا متوقعة , ( مثلا تحت تأثير الإشعاعات النووية ) فتضمحل الإنسانية وتتلاشى وتختفي مثلما اختفت أجناس وأصناف أخرى متعددة من الحيوانات التي سيطرت مدة من الوقت على العالم وانقرضت هي الأخرى بنفس السرعة التي نشأت بها . ويمكن إعادة صياغة الإنسان بالغدد البيولوجية , لذلك يصنع الإنسان حقا تاريخه ولكن إلى مدى معين . وقد لاحظ الشق العقائدي للفكر من جهة أخرى ما في نظرية البقاء للأقوى من ترتبات عقائدية خطرة , ومن ذريعة للعنصريين إذ تمكنهم من القول بأن سيادة الإمبريالية والاستعمارية والفاشية مسألة طبيعية بحتة , إذ حكم على الأمم والشعوب القوية أن تسيطر وأن تستبعد الأمم الصغيرة . وأخيرا وليس آخرا لاحظ ما في نظرية دوفريس من تصغير للمنهجية الجدلية ودليل على أنها ليست بمفتاح شتى المعارف في شتى الميادين الطبيعية والإنسانية .

كيف ووجه هذا التناقض ؟ فقد تنطع الفكر بكافة المفاهيم ورفض تجاربه وحقائقه , واخترع علم أحياء خاص لتتماشى مفاهيمه مع المفاهيم العقائدية الاستبدادية وأفرز " علما فذا " وهو ليسنكو عهد إليه بمهمة مقارعة الحقائق العلمية بمفاهيم أكثر إرثوذكسية ليرضي حاجته الأمنية . وقد دعمت الدولة السوفياتية هذا العالم العجيب بمنتهى القوة . فأنكر

( باسم العلم طبعا لا باسم العقيدة ) جل حقائق عصره , وقال بأولوية البيئة ورفض وجود الكروموزومات والأمراض الوراثية وقرر استحالة الانتقال من طور إلى طور آخر بكيفية مفاجئة الخ … وهكذا أصبح الاتحاد السوفياتي طيلة فترة سيادة هذا الشخص على العلم من سنة 1936 علم رسمي على غرار الدين الرسمي في المجتمعات العقائدية الغيبية .

وقد فرض الفكر هذا العلم الرسمي وسخر طاقات هائلة للدفاع عن وجوده وإضفاء شرعية علمية عليه , وجاهد لإحلال وفرض مفاهيمه الغيبية بدل مفاهيم علم الأحياء الحقيقي , باستعمال شتى الوسائل على رأسها القمع الجسدي والفكري . وهكذا استطاع شق من التفكير التنكيل بتوأمة أو نصفه الآخر مسببا لنفسه آلاما مبرحة . فلنتبع بعض فصول هذه المأساة .

كتب بريزينت سنة 1939 وهو أحد العقائديين المتعلمنين في الدفاع عن هذا الموقف مقالة معبرة , منها هذا المقتطف نقلا عن العالم الروسي روى مدفدف .

" على علمائنا الذين يحاولون الدفاع عن هذه الحقائق المندلية المورغانية أن يتذكروا أن أسس هذه النظريات المشبوهة التي يدعمونها موجودة كلها في الفلسفة المشبوهة للعنصري درونج , وأن إنجلز قد أثبت غلطها . وعلى أتباع مورغان أن يتساءلوا عن الأسباب الطبقية التي حدت بوكول ستوف وسربروفسكي وغيرهم للدعوة إلى علم التناسل البشري الفاشي … ويعتقد العمال العلميون المتعلقون بالميتافيزيقا المندلية المورغانية أن القول الفصل سيبقى في الأخير " للعلم" بينما لا نرى أي جديد يذكر في هذه الفلسفة فلكلها آراء درونج العنصري الذي حطم إنجلز نظرياته في كتابه الشهير ضد درونج . أفلا يتعلمون من تشابه مواقف مورغان وأتباع درونج ؟ إن الكفاح ضد المخلفات البورجوازية في العلم والتصدي لهذا العلم المشبوه ( علم الأحياء ) وللانحرافات المثالية الميتافيزيقية لهو واجب كل باحث علمي في بلدنا . وعلى العلماء كشف الصلة الخفية التي تربط بين النظرية الميتافيزيقية لثبات التركيبات الوراثية طيلة مئات الألوف من السنين وبين التجارب المشبوهة الرامية إلى توجيه النسل البشري " وفي نفس المعنى كتب بوشنسكي سنة 1948 ( نقلا عن المصدر الآنف الذكر ) : " لقد أحرز تعليم لسينكو نصرا باهرا واستطاع دحر النظريات اللاعلمية الفيسمانية . المندلية المورغانية في ميدان علم الأحياء , فتحقق بذلك مرة أخرى انتصار الاشتراكية والشيوعية على الرأسمالية . ويشكل هذا الانتصار على العلماء الذين ينادون في بلادنا بمخلفات العقائد البورجوازية انتصارا على البورجوازية الدولية إذ يفضح علم الأحياء السوفياتي المنبثق من النظام السوفياتي الاتجاهات المعادية للبورجوازية الفايسمانية المندلية المورغانية لبعض علمائنا " .

ولابد من التوقف عند هاته الآراء التي شكلت خلاصة القناعات التي تحكمت طيلة ثلاثين سنة في مختلف الميادين العلمية في الاتحاد السوفياتي إذ نستشف منها بأتم الوضوح أهم معالم خصائص الفكر الاستبدادي وهو في حالة تشنج ضد الواقع .

أولا : علينا اعتبار النظريات العلمية التي تتنافى مع النزعة الأمنية نظريات بورجوازية مشبوهة فلا وجود للعلم المحض إلا ماركسيا . لذلك يشكل التغلب عليها انتصارا للاشتراكية على البورجوازية والرأسمالية .

ثانيا : تصبح النظريات العلمية المدعومة بمئات التجارب والمنجزات فلسفة وميتافيزيقيا إذ لم تتماشى مع العقيدة , أي أن بقدرة النزعة الاستبدادية إلغاءها بكيفية سحرية وباعتبارها فلسفة فايسمانية مورغانية مندلية , ويعني وصفها بهاته الكيفية بالنسبة إليها إلحاق وصمة العار لها , إذ تحمل هاته الاصطلاحات كل معاني الاحتقار الاشمئزاز كما تفعل عندما تصف نزعة سياسية بأنها تروتسكية بوخارينية رجعية بورجوازية صغيرة . أضف إلى هذا أنها تدعو إلى اعتبار معتنق هاته الآراء خائنا أو مشبوها .

ثالثا : يكفي أن أنجلز قال بخطأ كلام يشبه كلام هذا العلم لكي يقع هذا الأخير بكيفية أوتوماتيكية تحت طائلة التكذيب فمعيار صحة العلم ليس تماشيه مع الواقع بل تماشيه مع كلام النبي العقائدي .

رابعا : ترفض النزعة الاستبدادية أدنى استقلال للعلم , فهو بالنسبة إليها رديف للعقيدة وسندها , وتقتصر مهمتها على القيام بهذا الدور . فإن حصل التنافر يكون ذلك لأن العلم ليس علما بالمعنى الصحيح أي العقائدي للكلمة . لهذا تؤمن بوجود علم بروليتاري صحيح وعلم بورجوازي مضلل ولا علماني . فاستعمال النازيين لمفاهيم علم الوراثة أي سنهم لقوانين تقضي بإعدام المعتوهين والمصابين بعدد معين من الأمراض الوراثية ليس دليلا على ضياع الفكر وكثرة التفاسير والاستعمالات العقائدية الممكنة للعلم . بل على نازية علم الأحياء .

خامسا : تلعب الشهوة  العقائدية دورا رئيسيا في التنطع لعدد معين من الحقائق المزعجة التي لا تدخل في الإطار المخصص لها , فينكرها ويستنكرها بمنتهى العنف .

لكل هذه الأسباب تبنت الدولة مواقف ليسنكو وحثت الناس على الأخذ بها فتصدت كافة أجهزتها لقمع أي نظرية منبثقة عن بحث مستقل , ونكلت " بالعلماء الخونة " .

ويمكن هنا عقد مقارنة غير مجحفة بين نكبة العالم السوفياتي فافيلوف ونكبة قاليلي , وهما مرة أخرى حملة وضحايا وخدّام نفس الفكر المتحرر .

كان فافيلوف عالما فذا في ميدان علم الأحياء , وكان شجاعا . فواجه الموج العقائدي الغيبي ورفضها العنيد والسخيف لتجارب " الميتافيزيقيا الفيسمانية المندلية المورقانية المفحمة بكثير من الصلابة . وقد لخص الخلاف القائم بينه كعالم وبين العقائديين المتعلمنين من أتباع ليسنكو قائلا بأن " سبب اختلافنا معهم هو أننا نرفض الرجوع إلى آراء الجزء الأول من القرن التاسع عشر وهي آراء تجاوزها اليوم العلم " . وقد شكل هذا الرأي " إلحادا " وخيانة تغتفر , إذ لا يعقل تجاوز أفكار ومفاهيم العقيدة المقدسة . ولهذا واجه فافيلوف نفس مصير قاليلي فألقى عليه القبض سنة 1941 . ولفقت ضده اتهامات كالانتماء لحزب العمل الفلاحة وتدبير المؤامرات والتجسس لصالح بريطانيا والتخريب الزراعي والاتصال بالروس البيض الخ … وحكم عليه بالإعدام ثم استبدل هذا الحكم نظرا لمكانة الرجل العلمية الأشغال الشاقة المؤبدة . وقضى العالم الكبير نحبه في معتقلة سنة 1943 . وقد نقضت المحكمة العليا للاتحاد السوفياتي هذا الحكم سنة 1955 وأعادت الاعتبار إلى فافيلوف ولكن بعد فوات الأوان مثلما فعلت الكنيسة الكاثوليكية مع قاليلي .

ويلاحظ القارئ تشابه المصيرين , فقد واجه فافيلوف كما واجه قاليلي محاولة وضع الحقيقة في إطار معين بكثير من اللامبالاة والاستقلال الفكري . ورفض هو الآخر تغير ما يراه في سماء الطبيعة حتى لا يتغير شيئا من جمل انجلز , كما يلاحظ تشابه ردّة فعل " الكنيسة " السوفياتية مع ردّة فعل الكنيسة الكاثوليكية . فلا مكان للخارجين عن العقيدة , إذ هم أعداء التقدم أو أعداء الله لذلك يجوز تصفيتهم إذ هم يدخلون الشغب على عقول الناس ويتصدون للشهوة  العقائدية وبالتالي للمهمة العقائدية التي تتطلب الإسلام والإيمان والإجماع الفكري والسياسي أي سيادة الاستبداد .

ولم يكن فافيلوف الضحية الوحيدة , فقد سيطر ليسنكو على مقدرات علم الأحياء ومقدراته في ميادين الزراعة وتربية الحيوانات وبقية العلوم الأخرى . وحاربت الدولة معارضيه بمنتهى الصرامة . وقد بلغت موجة القمع ذروتها سنة 1948 إذ عقدت في غضونها أكاديمية لنين للعلوم دورة تاريخية قررت خلالها أن على العلماء قبول نظرية ليسنكو أو الالتحاق بركب أعداء التقدم والاشتراكية. وخطت سياسة قمعية لا مثيل لها طبقها وزير التعليم العالي كافطانوف الذي نكل بكافة العلماء المشبوهين وأغلق مختبرات ومعاهد عديدة كانت تقاوم بطريقة أو بأخرى نظرية ليسنكو تمّ بعدها طرد عدد كبير من أساتذة جامعة موسكو وسائر جامعات البلاد الأخرى . كما تم انتزاع الكتب المشبوهة من المكتبات وإحراقها ( على عادة القرون الوسطى ) وأصدرت وزارة الصحة قرارات تحرم الإيمان بوجود أمراض وراثية ودراستها , كما طولب الأساتذة بتدريس علم الأعضاء وعلم الخلايا والأنسجة وأمراض النفس بالاعتماد على النظريات الرسمية السلمية وحدها دون شريك .

لم تكن حركة ليسنكو معزولة إذ حاولت العقيدة فرض سلطانها في شتى الميادين العلمية الأخرى يقول مدفدف في مكان أخر من كتابه عن ليسنكو :

" بدأت النظرية الخاطئة القائلة بوجود علمين , علم رجعي وعلم تقدمي تنتشر في سائر الميادين العلمية . فقامت محاولات مشابهة في الطب والجيولوجيا والكيمياء الخ …

كما قررت الحكومة أن كل من يتصدر لآراء وليامز ( أحد تلامذة ليسنكو ) هو رجعي وعدو للنظام . كذلك اعتبرت علم السيبرنيتية علما رجعيا ولهذا بقيت أبحاثه شبه سرية إلى سنة 1955 . كما حرمت سائر الأبحاث حول الأمراض الوراثية , وأصبح الإيمان بعد دورة أغسطس 1948 لأكاديمية لينين ببعض الحقائق العلمية أمرا خطيرا لمجرد أنها اكتشفت في أمريكا . ولم تسلم الفيزياء نفسها من موجة الجهل المظلم هاته ولكن لفترة قصيرة لحسن الحظ , إذ أخذ بعضهم في التشدق برجعية نظرية النسبية واسموها بالانتشتاينية الرجعية وهاجموا نظريات بوهاروباولنج وتصدوا لكثير من المفاهيم العلمية العصرية التي تستعملها الفيزياء الحديثة يوميا . وقد جربت هذه الأساليب الإرهابية في ميدان الكيمياء ما سبب تأخرا ملحوظا للكيمياء السوفياتية وبقية العلوم الأخرى .

يلاحظ القارئ إذن أن النزعة الاستبدادية لم تترك ميدانا غلا وأرادت إخضاعه لمفاهيمه , فكيف نفسر نجاح العلم للاتحاد السوفياتي وهو نجاح لا يمكن لأي إنسان إنكاره أو التقليل من أهميته ؟

إن نجاح الفيزياء السوفياتية في التخلص من قبضة العقيدة المتعلمنة لا يعود إلى حسن الحظ كما يقول مدفدف , بل إلى حاجة السوفيات الماسة إلى علم فعال . فقد لا يضر الكنيسة الكاثوليكية التصدي لقاليلي إذ لا نفع يرتجى من علمه , ولكن النظام السوفياتي على العكس بحاجة إلى منجزات هذا العلم والتكنولوجيا التي لا تكون إلا بتبني النظريات الصحيحة سواء تماشت مع المقدسات أم لم تتماشى . أضف إلى هذا أننا في عصر لا يرضى للفاعلية بديلا , ومن البديهي أن هاته الفعالية لا تأبه بمقدسات هذا أو ذاك في عصر يشبه سباقا رهيبا بين قوى سياسية جبارة تتنازع لإثبات أولويتها وقوتها وأن الواقع لا يرحم المتخلفين عن الركب . فإما الانصياع إلى الطبيعة والتحكم فيها بإطاعة قوانينها . وإما الاقتناع بتحكم خيالي ولا فعال في هذه القوى باسم مقدسات يصعب الاستغناء عنها فالواقع هو الذي فرض انتصارات العلم لا العقيدة . وقد اعترف النظام السوفياتي بهزيمة ليسنكو بعد أن جاهد طيلة ثلاثين سنة ولم يتراجع إلا عندما أظهرت التجربة فشل التطبيقات العلمية لهذا " العلم " . ولا زالت الزراعة السوفياتية تعاني إلى اليوم من مخلفات اليسنكو ووليامز وغيرهم من مدعي العلم . ومن الملاحظ أيضا أن العلوم التي يحتاجها النظام كالفيزياء لصنع قنابله الذرية وصواريخه أو الكيمياء لصنع القذائف والمحروقات استطاعت التوقي من تدخلات العقيدة بسرعة وفعالية أكبر من علوم الأحياء , إذ قد يقبل النظام السوفياتي التخلف في ميدان الزراعة والطب للحفاظ عن المقدسات في ميدان الزراعة والطب ولكن لا يسعه التخلف في ميدان الأسلحة والصناعة .

فمما لا شك فيه إذن أن تراجع النزعة الاستبدادية لم يكن نتيجة قناعة بخطأ في سياستها بل كان نتيجة ضغط خارجي عنيف . إذ يستحيل التعرض جديا في عصرنا هذا للعلم لا حبا فيه بل الاحتياج الكلي لمنجزاته فقد أصبح بفضل انتصاراته أول أسباب القوة .

ومجمل القول أن مدفدف على حق في قوله " إن تقدم العلم في الاتحاد السوفياتي حصل بالرغم من المذهب لا بفضله" وإنه لولا العراقيل التي أثاره في سبيله لما عانت العلوم البيولوجية من التأخر الملحوظ الذي تعرفه إلى حد الآن .

ولابد لنا في سياق الحديث عن علاقة العقيدة بالعلوم بصفة عامة من التوقف عند موقفها من العلوم الإنسانية بصفة خاصة . فقد لاحظنا صلف النزعة الاستبدادية في تعرضها للعلوم الطبيعية التي تملك كافة مقومات الموضوعية والتي تستطيع بالتالي إرغام العقيدة على إفساح المجال لهل للكلام بمطلق الحرية عن مواضيعها الخاصة فكيف تتصرف علوم أخرى كالتاريخ والاقتصاد والسياسة علم النفس والاجتماع وكلها علوم تفتقر إلى محك موضوعي وتتطلب الكثير من حرية الرأي أن النقاش المستديم والنقد البناء وتعدد وجهات النظر .

لقد ركزت العقيدة على هذه العلوم لاقترابها من مشاغلها الملحة ولضعف دعائمها وصيغتها العقائدية أو المبهمة , فكانت في ظل الأنظمة الماركسية , ولا تزال مجرد ترديد ببغائي لمفاهيم العقيدة وحشو حولها فتراها لا تتباعد في شيء عن الحقائق المقدسة ولا تجرؤ على إدخال الجديد أو الخروج من دائرة الإطار المهيأ لها , فتقصر همها على تحليل كافة الظواهر الاجتماعية والفردية علة ضوء نظرية صراع الطبقات واكتشاف هذا الصراع في كل حدث وفي كل زمان ومكان , وهذا لا يعني بالطبع أن صراع الطبقات ليس واقعا تاريخيا أو أن الماركسية لا تفسر بدقة كثيرا من المشاكل الاجتماعية التاريخية والمعاصرة , ولكن العمل بهذه النظرية استبدادي . فلو كانت الماركسية بحق علم مختلف الظواهر الاجتماعية كما يقول بابل لما ضرها في شيء اعتبار بروز التجربة التاريخية وإدخال بعض التحويرات على النظرية . والقول بأن الرخاء الاقتصادي في السويد يجمد أو يلغي الامكانيات الثورية للطبقة العاملة وتساهم في ظروف معينة ( الاستعمار ) مع بورجوازية بلدانها في استعباد أمم العالم الثالث , وأن دورها الثوري بالقياس إلى دور الفلاحين قليل في البلدان المتأخرة صناعيا , وهو الأمر الذي أثبتته الثورة الصينية ( وليتصور القارئ مآل هذه الثورة لو اقتنع ماوتسي تونج في الثلاثينات للتحليلات " العلمية " للحزب الشيوعي الصيني الذي كان يرى آنذاك وفقا للتعاليم المقدسة إعطاء الأولوية للبروليتاريا واعتبار طبقة الفلاحين مجرد رديف للثورة لا رأس حربتها ) ولو كانت الماركسية علما حقيقيا لم توانت عن مراجعة تحليلات ماركس حول رأس المال ونظرية التاريخ والدين لتقوم بعض آراءه وتتعمق في بعض الآراء الأخرى ولا وصفت شتى تطابقه وتماشيه مع كلام النبي . ولا يجوز مرجعة الفرضيات والاستنتاجات

( بينما نعرف أن هذه العملية هي سبب تطور العلم ) . وأخيرا تفرض هذه الحقائق العلمية بقوة , فتقرر الدولة أنها موضوعية دون سواها وتحرق الكتب المشبوهة وتعتقل العلماء وتنكل بهم الخ ...

1- إن الخصائص العلمية التي يضفيها المفكر إلتوسر على الماركسية , والتي ذكرت أهمها في الواقع هي في الواقع مجرد كتالوج للمزايا والمحاسن التي يظن ويود أنها فيها وتعديده لهاته المزايا كتعديد العقائدي الغيبي لمحاسن الله أو الدين . أي أنه موقف نظري لا يعبا بتجربة التاريخ ولا يعطيها أدنى أهمية وبالتالي فهو موقف سحري مثالي لا يعبر عن الواقع بقدر ما يعبر عن شهوة جارفة تتخطى خصائص الأشياء وتثب من مرتجى الوجود إلى واجب الوجود .

2- عن العوامل الحقيقية التي تحدد مستوى العلم فأي مجتمع عقائدي غيبي أو متعلمن هي ديناميكية العلم وحاجة المجتمع إليه . فالماركسية تحاول كالليبرالية التحكم فيه وتوجيهه ولكنها عاجزة عن هضمه ودمجه .

3- يجب تفسير تعلمن الماركسية بحاجتها الماسة إلى سند صلب يدعم ادعاءاتها . وقد اختارت العلم لأنه يلعب في عصرنا هذا دور السماء سابقا , فهو مصدر الحقيقة وطريق الخلاص وبالتالي فوظيفته كوظيفة الله في العقيدة الغيبية . فحقائق الماركسية عقائدية الصبغة غذ تتطلب نفس الإيمان وتعهد إلى نفس المواقف المتعصبة لمواجهة تعقيد الواقع أما فهم الماركسي السني للعلم فهو فهم غيبي خالص رغم أنه يكثر كما هو معروف من استعمال اصطلاحات الحتمية والموضوعية والتحليل العلمي الخ ...

وهو في كل هذا ضحية تصور غيبي للعلم إذ يعتبره بطريقة واعية أو لا شعورية الكمال المطلق والخير المطلق جاهلا الصراعات التي تعصف بالمجتمعات المتباينة أي التي حددت واكتشفت خصائص صراع الأمم وصراع العقائد وصراع الأفراد والجنسية وطبيعة التناقضات داخل المجتمعات الاشتراكية وله صفة طبيعية . كل هذه الصراعات وترابطها أو استقلالها النسبي أي لما رفضت الاعتراف بوجود صراعات مستقلة ولم حاولت إدخالها قسرا في إطار صراع الطبقات فمن البديهي أن هناك تناقض بين المستعبدين والمستعبدين داخل مجتمع معين . ولكن التاريخ القديم والمعاصر يثبت بكيفية لا جدال فيها أن الانتماء إلى عقيدة واحدة لا يلغي التناقضات العرقية والشعوبية , وأن الصراعات الفردية تلعب دورا هاما في التاريخ تارة كتعبير عن طموحات وتارة كتعبير عن طموح الفرد نفسه . كما لا جدال في وجود صراعات معقدة داخل المجتمعات الاشتراكية بين الحكام والمحكومين الخ .

ومجمل القول أن الفكر في إطار العقيدة المتعلمنة كالعقيدة الغيبية لا يعرف مراجعة ولا يقبل التحوير والتغيير في مفاهيمه أو التخلص من بعض المواقف التي تثبت التجربة التاريخية نقصا أو عيبا فيها . فمجرد التساؤل حول صحة بعض الفرضيات كفر , فإنه يدل على موقف سياسي مشبوه وانتماء طبقي معين . كذلك لا يجوز بتاتا تنسيب كلام وتجاوز تحليل ومراجعة رأي , إذ يشكل هذا في نظر العقائديين تمييعا وتحريفا وتزييفا للكلام المقدس . فالعلمانية الحقة هي في التمسك بحرفية النصوص وإرغام الواقع على الدخول في إطار النظرية . لذلك يؤدي تنطع هذا الواقع إلى مزايدات واتهامات وانقسامات وشيع تدعي كل واحدة منها أنها تفسر علميا علم المعلم الأول والأخير . ونستنتج من هذا ما يلي :

تظهر كيفية معاملة العقيدة الماركسية للواقع " أي الممارسة " وهو ما يهمنا بعدها عن العلم . فلفرضياتها قدسية ينكرها ويستمدها البحث العلمي البسيط . ولمنهجيتها أولوية مطلقة على الأمور , إذ تحدد منذ البداية طبيعتها ومكانتها وتوحي بكل ما يمكن أن يقال عنها وهو أمر غير مألوف في العلم . ولاستنتاجاتها كذلك قدسية مطلقة إذ ترفض التجربة باسم النظرية كما تكمن صحة أي كلام في ميدا النتائج العلمية وتضارب الفرضيات وسرعة التغيرات وحدّة النقاشات المحتدمة طيلة الوقت وظنا أن العلم هو تراصف حقائق أزلية تستطيع رسم صورة نهائية لحالة العالم وإعانة الإنسان على تحقيق خلاصه فيه .  كما يتناسى أن العلم ليس الخير المطلق إذ هو في نفس الوقت البنيسلين والنبالم . وللكهرباء استعمالات شتى كإضاءة الطرق وتعذيب المساجين السياسيين أو التلفزيون نعمة لأنه ينشر المعرفة ونقمة إذ يعطي للغباء والبلادة أبعادا واسعة وانتشارا مخيفا الخ الخ .

وبالتالي فتصوره للعلم مشابه لتصور نظيره الغيبي للسماء وموقفه هو نفس الموقف الغيبي إذ ينتظر من العلم ما ينتظره المؤمن من السماء لذلك تراه يواجه الخارجين عن الحقيقة المقدسة بنفس الكيفية وموضوع العبادة في كلتا الحالتين واحد وهو لا وجود له إلا في شهوة  العقائديين . وخلاصة القول أن الفكر في شكل العقيدة المتعلمنة أثر مثلما أثر في شكل العقيدة الغيبية تفضيل اليقين على الشك , والسكون على الحركة , والإيمان على البحث , والتشبث بقناعات وتشكيلات وتنظيمات إيديولوجية سياسية اقتصادية تحاول حصر كافة مظاهر الواقع المتحرك الفياض في إطار قار لا يتغيب , والحال أن كل ما في الوجود حركة فياضة لا تستقر على حال , ومن ثمة نفهم الفخ الذي سيقع فيه الفكر في إطار هذه التجربة لفرض تماشي الواقع مع الرغبة : العنف المادي والمعنوي .



                                                             ّ****





































 


الفصل الثالث





مـن الفكــر الشمـولي إلـى الممارسـة  الكلانيـة





المذهــب وتغـطيــة الاسـتـبـداد

يفسر العقائديون ظاهرة التحجر وتباعد الممارسة عن التعاليم بالانحراف والتحريف ز ويلقون بتبعة هذا التباعد عن خط المشروع التحرري الأصلي على الأشخاص ( وهم أعداءهم السياسيون ) , أو على جملة الناس الذين يرونهم غير جديرين بالرسالة , وهو ما نستشفه من محمد عبده في مقولته المشهورة " ما أجمل الإسلام وما أقبح المسلمين " .

إلا أن هذا التفسير المبتذل لا يصمد أمام النقد لبديهيات طال التعتيم عليها ومن أهمها :

- أن فشل المشروع التحرري ظاهرة عامة لا تختص بها عقيدة دون أخرى والتحريف مرض . ومن ثمة يفترض فيه أن يكون شاذا , وبما أنه القاعدة فإن التفسير مرفوض .

- أن رفض نظرية " الحادث العرضي " الذي يلم بعقيدة كاملة ومكتملة , يؤدي بنا إلى البحث عن أسباب التحجر لا خارج العقيدة وإنما داخلها أو على الأصح في علاقتها مع الآخر . مع العلم بأن هذه العلاقة محكومة بخصائصها الذاتية .

- أن جذور التحجر كامنة في أعماق العقيدة وذلك منذ البداية لاعتمادها طرق وأساليب تفكير كلياني , تستمد منها قوتها في نشر الثورة ( الإيمان ... ) ولكنها تصبح حجرة عثرة فيما بعد . فمن البديهي أن تقدم المشروع التحرري مرتبط بالتقييم الدائم للتقدم الحاصل فيه . والتقييم لا يكون إلا باعتماد أداته أي العقل وذلك في إطار الحرية الفكرية . وبما أن مصدر القوة عند انطلاق الثورة وهو الإيمان ليس العقل, فإننا نفهم كيف تتمجد العقيدة وكيف تصبح ذريعة الاستبداد في شكلها المذهبي . إذ يكفي أن يفتك السادة خصائصها الكليانية من المتمردين لقمعهم بها . في إطار تربيتنا العقائدية ( وهي جزء من دوام العقيدة نفسها ) تعلمنا وعلمنا أن لا نسأل وأن لا نقيم . ولا ربما آن الأوان في إطار دفع جديد للمشروع التحرري أن نتعلم تقنيات التقييم فنسأل بدورنا الناس والمؤسسات والمدارس الفكرية أين أنت من المشروع التحرري ؟ ماذا قدمت؟  ماذا أنجزت, هل أخلفت بوعودك ولماذا ؟ وربما كان ممكنا  لو كنا متشبعين بهذه المنهجية التي هي جزء من العقلية العلمية والمتحررة أن نقف في أي مقطع من مقاطع التاريخ لنقيم درجة تحرر الإنسان أو درجة استعباده في ظل هذه العقيدة أو تلك , ولا شك أننا سنكتشف اختلافات في الجزئيات وتفاوت في الحدة , لكن دوام وثبات الأصل : الاستبداد بشتى مظاهره وأولها وأهمها يحدده عبر هذا الشكل أو ذاك لنستمع إلى Medvedev  يصف انتقال الفلاح الروسي من استبداد إلى آخر . لقد خلفت عصور السيطرة التترية عند الفلاحين تقاليدا عميقة من المذلة والخضوع وجاءت الثورة فزعزعت هذه التقاليد وانتزعت هؤلاء الفلاحين من أوكارهم وعركتهم لتجعل منهم جماهيرا . ففقدت قطاعات كاملة من الشعب معتقداتها القديمة مع عدم استيعاب كاف لمعطيات العقيدة الجديدة إذ لم تكن الجماهير بحاجة لمزيد من الحرية أو تعزيزها لأنها كانت تجهل معنى حرية الفرد بل كانت بحاجة إلى سيد ونظام قوي . وهكذا أوكلت إلى ستالين بمهمة استبدال الديانة المهزومة بديانة جديدة . كان الفلاح يؤمن بالله وبالتماثيل وبعذراء قازان وكان يجد في كل هذا مواضيع حب وعبادة لكنهم قالوا إن الله غير موجود وتركوا مشاعره الدينية على حالتها فلا عجب أن إله ستالين إذ لا يمكن لأحد إنكار وجوده فقد كان موجود حقا في الكرملين بل وكان يظهر في المناسبات ليلوح بيده للشعب .

السؤال : كيف تتواصل  هذه الحالة التي نعرفها عامة قارة ؟ بالعنف المادي وحده ؟ طبعا لا , وإنما بسلاح أخطر وأهم بكثير هو السلاح العقائدي نفسه الذي أشهر يوما في وجه الظلم والاستغلال , لكن هل هو حقا نفس السلاح ؟ والرد يكون مزدوجا . فشكلا هو العقيدة ومشروعها التحرري وباطنا هو كائن آخر تبخرت من ثورته العقيدة وترسبت فيه كل نواقصها , ومن أهمها الاستكانة إلى السلطة وتحييد القوة التقييمية للعقل , وتكون النتيجة التفكير الدوغمائي والمذهبي .

*

لماذا تكتسب الشعارات المذهبية سلطانا واسعا على قلوب الناس وأفكارهم ؟ ولماذا لا تسود ولا تسيطر بفضل خصائصها الذاتية وحدها بل لا يفرضها من قبل أجهزة السلطة حال تمكن المذهب من مقاليد الأمور وأحداثه تشكيلات وأجهزة فكرية وسياسية مهمتها نشر الشعارات وتعميمها وحمايتها من كل تحرك للجانب الثوري في الفكر والسياسة .

وتشكل الشعارات أو الإشهار المذهبية أولا وقبل كل شيء قناعات السادة أي حملة النزعة الأمنية الاستبدادية ومواقفهم . ولذلك فماركس محق قوله إن الأفكار السائدة هي دائما وأبدا أفكار الطبقة السائدة . لكن تشكيلة طبقة السادة أكثر تعقيدا مما ظنه ماركس . فحصر الخلاف والصراع بين الطبقة الطبقة المستغلة والطبقة المستغـلـّـة أمر غيبه الواقع والتاريخ . فالبروليتاري مستعبد كعامل , وسيّد كرجل في المجتمع تحكمه قيم الرجال مثلما هو الحال في المجتمعات الإسلامية على الخصوص . والعربي سيّد كرجل أو كبورجوازي ولكنه مستعبد كمستهلك حضاري يتعيش فكريا على تراث حضاري متحجر . وعلميا على تراث غربي ينكره ويستنكره ولا يساهم فيه بشيء , والمرأة مستعبدة كامرأة وكبروليتارية في حالة انتمائها إلى الطبقة المستغلة . معنى هذا أن وضعية الإنسان داخل نظام تتناحر الأضداد فيه هي وضعية معقّدة . فقد تتلاقى مصالحه كليّا مع مصالح النظام فيكون سيفه المشهور في وجه الخارجين على سلطانه وإرادته وهذا نادر جدا . والأغلب أن يرتبط جزئيا بالنظام نظرا لتماشي بعض من مصالحه معه بينما تتنافى في الواقع أكثرها مع مشيئة النظام .

فنطاق عمل القانون الماركسي أوسع بكثير مما تتوقعه النظرية أي أن الأفكار المذهبية هي تنظيم وتبرير مواقف الرجل ومصالحه الجنسية , وتشريع وتبرير مواقف ومصلح الطبقة المستغلة , وتبرير مواقف ومصالح البيروقراطية الحزبية الحاكمة في بلد شيوعي , وتبري مواقف ومصالح الحضارة المهيمنة أي أنها بالأول أفكار كل من تتلاقى مصالحه الفعلية أو الخيالية مع تنظيم معين لمجتمع معين . ويقتصر دور المذهــب وتغـطيــة الاسـتـبـداد الأفكار السائدة على شرح وتبرير وفرض هذا التنظيم بالإقناع والترغيب إذ لا يمكن إجبار الناس على الخضوع لمفاهيم المذهب بالقوة الفظّة وحدها . وبالتالي فالمذهب بديل لين للعنف أو أنه نوع وشكل من أشكال هذا العنف . إذ يرمي إلى نفس غاية القوة أي فرض النظام وشل كل عوامل الرفض التي يواجهها مع فارق هام هو أنه يطلب من الضحية نفسها المساهمة في ممارسة القمع الذي تتعرض إليه . فإن رفض مظهر المذهب على حقيقته يستعمل كل فنون العنف الهمجية ليجبره على الدخول في إطار لا يجوز الخروج منه . يبقى بعد هذا أن أهم سؤال يطرحه وجود المذهب هو كيف يتمكن السادة من الاستحواذ على العقيدة واستعمالها لتحقيق مآربهم الخاصة بينما هي كل مشاع للجميع وليست وقفا لفريق على آخر .

قلنا أن القوة لا تكفي وحدها لفرض التنظيم المجحف للمجتمع وخاصة لدوامه . فللدولة بطبيعة الحال أجهزة معقدة تستعملها لقمع الخارجين على القانون , ولكن عامل الردع الذاتي المتمثل في القبول والتعلق بالنظام خير وأبقى وأكثر فعالية لذلك , تسعى الطبقة المسيطرة على امتلاك هذا السلاح الرهيب التي تشكله العقيدة وتخص به نفسها وتستعمله كما تستعمل بقية أجهزة القمع الأخرى للحفاظ على مكاسبها و إسكات المحتجين . و يتم الاستحواذ على العقيدة حال انتصارها على قمعي جامد و حال تمكنها من مقاليد الحكم إذ يفرز النظام الجديد بسرعة الفريقين الأزليين : فريق الحكام و فريق المحكومين , فيتمكن الحكام من العقيدة أي يأتون لها بتفسير محدد . وقد قلنا في ما سبق أن المذهب هو تفسير الأقوى للعقيدة ,و يفرضون هذا التفسير دون سواه , و يسخرونه لخدمة أهداف معينة كالتعتيم على المصالح الشخصية و التشريع لنظام ظالم يطمح للدوام ,وتبرير اختيارات سياسية والتشهير بأعداء البارحة من مخالفين من الملة وأعداء اليوم والغد من خصوم ومنافسين عقائديين ,والسيطرة على مقدرات الناس وعقولهم.

كيف يتم كل هذا ؟ تعزل العقيدة النظرية عن الواقع وتوضع في مصاف المقدسات وبعيدا عن هجمات التفكير الحر سواء كان عقائديا أم لا ويحد من حرية التفكير بصفة عامة ذلك أن السلاح العقلاني الذي سيهاجم العقيدة هو نفسه الذي سيهاجم المذهب .

ويحاول السادة عزل الأفكار المناوئة لمصالحهم بمناهضة العقائد المخالفة , وخاصة بمحاربة المتعلقين بالحلم العقائدي التحرري الذي خانه المذهب إذ يشكل هؤلاء أعداء النظام وخطرهم أكبر بكثير من خطر المخالفين في الملة , لذلك يصبح تحييدهم شرطا أساسي كي تخلى الساحة للسادة يصولون فيها بدون منازع ورقيب , متمكنين من أهم سلاح يسمح بالسيطرة على بقية الأسلحة الأخرى كالسلطة والجاه والمال الخ ... ألا وهو العقيمة المعقمة ز أما التقنيات فتبدأ بإظهار محاسن ومزايا وضعية المستعبدين فهم مثلا " خير أمة أخرجت للناس " أو " بناة المجتمع الاشتراكي المثالي " أو مواطني " المجتمع الليبرالي المتقدم " . ويجاهدون لتحويل نقمة المستعبدين الواعية أو المكبوتة نحو الأعداء الخياليين من مخالفين في الملة والخارجين عن النظام. فتناط" بالشيوعيين الملحدين " و "الإرهابيين المخربين " و"الرجعيين العملاء " مهمة تفسير أخطاء المذهب وتجاوزته وتحمل وزرها . وتتلخص سياسة المذهب في نقطتين أساسيتين هما الدفاع عن حق السادة في تحقيق مكاسب عملية , وحق المستعبدين في تحقيق مكاسب خيالية ومنع من لهم مصلحة في التفكير الحر من ممارسة هذا الحق , والسماح لمن لا مصلحة لهم في التمتع بهذه الإمكانية . وقد يتساءل القارئ إن كان المذهب مجرد خديعة ؟

فإن كان كذلك فكيف نفسر دوام هذه الخديعة عبر القرون وتأثيرها الخارق ؟ أو ليس في هذا الرأي تطاول على الواقع والتاريخ . والقارئ محق في تساؤله واعتراضه صائب , فالمذهب أكثر من مجرد خديعة و إلا  لما دام . فالأمر بالنسبة للسادة مثلا أكثر تعقيدا من نفاق واع أو مكيافيلية مغالية في المكر والدهاء , فهم يؤمنون بما يقولون وتعلقهم بالعقيدة أمر غير مشكوك فيه ولكن تعلقهم هذا مرتبط بتماشي إيمانهم مع مصالحهم بل ويجدون في هذا التماشي أهم أسباب تعلقهم بالعقيدة الممجدة ودفاعهم عنها .

ولابد من التركيز على نقطة هامة ألا وهي أن بمقدرة المذهب التعتيم على النوايا والدوافع الحقيقية للسادة بنفس النجاح الذي يلعب دوره في تخدير المستعبدين . فالمستعمر يؤمن بصدق نية( تظهر فعالية المذهب في عمق هذا الصدق) أن الاستعمار قدره , وأن المشيئة الإلهية أناطت به مهمة تحضير الأمم المتخلفة , وأن المناهضين للاستعمار مجرد ثوار هدفهم الإرهاب والتخريب . ويعتقد أن طبيعة النظام في العالم تقتضي من كل إنسان أن يلزم مكانه المحدد له , فيكون هو أحسن المستعمرين ويكونوا الآخرون أحسن المستعمرين , وتسير الأمور إذّاك وفق مجراها الطبيعي ويسود المنطق وتحكم الأخلاق ويقيه عمق إيمانه بالتبريرات المذهبية خطر الشك في منطقية وأخلاقية تصرفاته ومن ثمة , تكتسب الممارسة الاستعمارية فعاليتها المؤقتة .

وقد لعبت التبريرات المذهبية بصفة عامة دورا كبيرا في التعتيم على الدوافع الحقيقية للتصرفات الإنسانية وإضفاء شرعية هي بأمس الحاجة إليها تكتسب بها قوة لا يستهان بها , تمكنها من التأثير على مجرى الأحداث . والتاريخ غني بمثل هذه التبريرات . فالحروب الصليبية مقدسة إذ يهدف إلى تخليص قبر المسيح من أيدي الكفار لا حربا تبتغي منها تحقيق مطامع اقتصادية سياسية . وغزواتنا العربية بالطبع جهاد في سبيل الله لا فرض سلطان العرب , وغزوات الغرب الاستعمارية " نشر الحضارات " لا نهب المواد الأولية والاستحواذ على أسواق هائلة لتصريف السلع الخ ...

فالإشكالية إذن هي تجاوز فشل المشروع التحرري , فهو فشل يتجاوز الجميع لأن أسبابه موضوعية وذاتية خارج نطاق السادة والمستعبدين والتجاوز , ولا يكون هذا إلا بالاقتسام الغير عادل للقرار ولم يتبعه من امتيازات على أن تترك للجماهير التي لم تنتفع أصلا بالثورة العقائدية امتيازات خيالية كانتمائها إلى خير أمة أخرجت للناس أو إلى الطبقة الثورية التي تقود قطار التاريخ الخ ...

ومن البديل أن تنظيما كهذا لا يفرض نفسه وإنما تفرضه ذهنية يجب أن تنمى وأجهزة يجب أن تصقل , لتدوم هذه الحالة أطول فترة ممكنة بانتظار تجدد المشروع الثوري للعقيدة كان ذلك (أي صبغة شيعة داخل نفس العقيدة ) تعيد المطالبة بالتحرر أو خارج هذه العقيدة في إطار دعوة ظاهرها الاختلاف وباطنها حلم التحرر الذي يشنه طائر القنيكس الأسطوري المتجدد دوما عبر كل أصناف الموت الذي تلحق به.

أما محور الصراع الفكري – السياسي بين المذهب والعقيدة فسيكون بالطبع هذه الجماهير التي تلتهب من حين إلى آخر لتصبح جذوة نار ونور لتنطفئ عقودا طويلا ويصبح رمادا يكسو بعض الجمرات تجتر مرارة خيبتها وامتيازاتها الوهمية .

لنتوقف عند الآليات الفكرية التي ستسمح بدوام حالة الاستبداد أطول وقت ممكن بانتظار الانفجار الثوري العقائدي الحتمي .





المــذهب والحــريــة



إذا كانت المعارك النظرية هي معارك سياسية في النظرية كما يقول التو سار فإلغاء الحرية السياسية يمر إجباريا بإلغائها في دنيا الفكر . وبما أن المذهب هو فكر وممارسة , فالمطلوب منا الآن متابعة طرق المذهب للإلغاء العقل في أدائه لوظيفته التقييم والمقارنة , وهي وظيفة لا تؤدي إلا في إطار مبدأ الإقرار بالحرية المطلقة في التعامل مع الواقع .

إن مهمة المذهب إسكات كل فكر مناوئ أي كل تقييم للعقل يأتي من خارج الإطار العقائدي أو من داخله ومن ثمة فهو نقيض الحرية وعدوها اللدود .

لنوفي في البداية التفكير المذهبي حقه أي أن تعترف له بدوره في المحافظة على شكل العقيدة بفضل خصائصه التي تعرضنا إليها .

يقول ابن خلدون في وصف حالة التحجر الديني التي وصل إليه معاصروه من المسلمين :

" سد الناس باب الخلاف وطرقه لما كثر تشعب الاصطلاحات في العلوم ولما عاق عن الوصول إلى مرتبة الاجتهاد و ولما خشي من إسناد ذلك إلى غير أهله ومن لا يوثق برأيه ولا بدينه . فصرحوا بالعجز وردوا الناس إلى تقليد هؤلاء ( الأئمة الأربعة ) كل ما اختص به من المقلدين ومدعي الاجتهاد لهذا فالعقد مردود على عقبه مهجور تقليده " .

من الواضح أن التقليد الأعمى والتصريح بالعجز ورد المجتهد على عقبه أمر يؤسف له , إذ ما قسناه بمقياس حرية الفكر و ولكن هل مضرته أكثر من منفعته عقائديا , أي هل خطر التقليد أكبر من خطر الاجتهاد على مصير العقيدة ؟ ويسهل الرد بالنفي على هذا السؤال لأن ترك باب الاجتهاد مفتوحا على مصراعيه أمر قد لا تحمد عقباه , إذ يسهل تفجير التناقضات العقائدية الخطيرة التي تبدأ كتناقضات فكرية مجردة وتتطور من مناقشات أكاديمية في مواضيع قانونية محددة على تساؤلات حول طبيعة هذه القوانين ومصدرها وأسبابها وشرعية استحواذ أصحابها على السلطة . ويتصور القارئ أن المذهب يسمح بفتح عنفات حرية الفكر أي الشرعية التقييمية للعقل في المجتمعات العقائدية . وأنه يسع لأي إنسان الخوض في كل المواضيع العقائدية بمنتهى الحرية وبدون ضغط أو إكراه من الجماعة . ولنفترض أن هذا المجتمع المثالي لا يرهب النقاش المسئول ولا يعترف للواقع بأولوية كل المقدسات تاركا للعقل حرية التعامل مع الواقع بمنتهى الحرية , فيكون له حق إدخال تحويرات جذرية على التشكيلة العقائدية ونشر الوعي في مختلف قطاعات المجتمع . ومن البديهي أن هذا المجتمع لن يكون عقائديا بالمعنى المعروف , إذ ستنفجر العقيدة عاجلا أو آجلا نظرا لتباين التفاسير وكثرتها الناتجة عن تنافر قطاعات المجتمع , واستعمالها المغاير للتغطية السياسية . كما ستؤدي حرية العقل حتما إلى إظهار سذاجة التصورات العقائدية للعالم , وبعدها عن الشمول والكمال فتزيل عنها أهم خصائصها أي القدسية كما يؤدي الاعتراف بأولوية الواقع إلى التخلي تدريجيا عن الاعتماد على تشكيلة تبين عيوبها ونواقصها يوما بعد يوم , فيسقط حقها في الادعاء بالتأثير الفعلي على الأحداث ودور المذهب سلبي إذا ما قسناه بمقياس حرية الفكر وإيجابي إذا ما قسناه بمقياس العقيدة وبقاؤها . فسد باب الخلاف وطرقه والاكتفاء بقدر محدود من الاجتهاد والتنكر للواقع والاحتماء بدرع الحكومة التي تستطيع إخراس أصوات التشكيك والاحتجاج من شروط وأسباب بقاء ودوام العقيدة .

نفهم إذن أن دور التفكير المذهبي هو التنطع لسائر مظاهر الحرية وعلى رأسها الثقافة كأرقى شكل من أشكال الحرية في عالم الفكر .

فالثقافة نقيض المذهب وتكذيبه الصارخ , إذ تبدأ من أين تنتهي . فهي ليست معرفة بقدر ما هي وعي بمدى الجهل الذي يتخبط فيه الإنسان إذ تدرك أن تراكم المعلومات في شتى الميادين لا يؤدي أبدا إلى تكوين فكرة ثابتة ومكتملة عن العالم بل يؤدي على العكس إلى تفجير كافة الإطارات الفكرية المعهودة وإلى ميدان الأرضية الفكرية التي نبني عليها كثيرا من قناعاتنا . ويشهد هذا العصر بالذات تزايد تصارع وتضارب الحركات الفكرية ويعايش ظاهرة تسارع ولادة وتطور واختفاء مفاهيم متعددة , وقد بلغت سرعة هذه الحركة حدا مخيفا فالعلم يبني ويهدم ويتجاوز نتائجه باستمرار كما تعصف التيارات المتضاربة بميادين الأدب والفن والفلسفة مما يؤدي إلى تمخض عالم الثقافة عن تشكيلات فكرية مؤقتة ونسبية تتجاوز في فوضى مهولة ولا يجمع بينها أدنى قاسم مشترك سواء الجرى وراء حقيقة مطلقة هي والسراب على حد السواء .

لهذا تعرف الثقافة على عكس المذهب تفكك المذهب وتدرك ضحالة وقلة ونسبية معرفته وتتفق مع الشاعر في قوله :

                                     يا من تدعي في العلم معرفة      علمت شيئا وغابت عنك أشياء



كما تقدر استعصاء ربط المعلومات في تشكيلة واحدة متناسقة الأجزاء واستحالة فرض الحلول والتفاسير النهائية إذ تدرك انعدام المحك الموضوعي الذي قد يمكن من إفراز هذه المعلومات المتضاربة فكل حكم عقائدي أي منحاز ومتعصب وتفكيره ذو بعد واحد ولكنها ترضى بالفوضى وترى فيها دليلا على حرية التفكير وحيويته وثمن هذه الحرية فلا تهاب تعدد " الأنبياء " ولا تعترف لهم بقدسية زائفة عن اللزوم وتحافظ على حق النقد والتفكير المستقل ومن الواضح أن الإنسان العقائدي العادي عاجز عن قبول الفوضى وأنه لا يستسيغ ميدانا دائما في أرضيته الفكرية وأنه لا يجد مصلحة له في تخليه عن تصور شامل ومكتمل للعالم والضياع في زحمة الظواهر المتغيرة بينما يمكنه التفكير المذهبي , من تذوق الدعة النفسانية التي توفرها له قناعاته القليلة الصلبة بإنكار تعقيد الواقع والتغلب عليه سحريا . ومع هذا تنجح المعرفة دائما من التسرب إلى العالم الفكري المتحجر عاجلا أو آجلا فتشكل خطرا داهما على توازن وتماسك عالم هذا الإنسان .

وليقدر القارئ العربي عمق التغييرات الفكرية التي أدخلتها الثقافة علة تفكير الإنسان الغربي المعاصر أي بقدر عمق التغييرات التي يستطيع الفكر إدخالها على المفاهيم .

- دمر كوبرنيك وقاليلي التصور المذهبي المسيحي للعالم المستبد وأظهر نسبية الأرض أي صغرها و" تفاهتها " فشاع عن بعدها التصور المعاصر للأرض أي اعتبارها حبة رمل مجهولة المصير في كون مترامي الأطراف.

- دمر فرويد كثيرا من التصورات الساذجة المثالية السائدة منذ قديم الزمان حول طبيعة الإنسان وأظهر تأصل غريزتي الجنس والعنف وفضح ما وراء الدين والأخلاق من محاولات ترمي لتخطي وتصعيد مخاوف وشهوات  وترويض لغرائز خطيرة , وأزال عن الطفولة هالة البراءة التي تعودت كل الحضارات إصباغها عليها .

- ضرب ماركس عرض الحائط بالأفكار المثالية الطوباوية حول طبيعة العلاقات التي تربط أفراد المجتمع وأظهر دور قوى الإنتاج والاقتصاد في هذه العلاقة وقرر حقيقة نادى بها مكيافال من قبله ألا وهي أن تغير آراء ومواقف الإنسان رهينة بتغير مصالحه . وقد أدت هذه المواقف إلى تغير جذري في علاقة الإنسان الغربي بنفسه بمحيطه نظرا لتشبعه وتشبع المجتمع ككل بهذه الأفكار " الهدامة " ( أي التي تهدم الصرح المذهبي ) رغم رفض المذهب المسيحي ثم الستار الليبرالي المتشنج لها .  

فقد جاهدت النزعة الاستبدادية ما استطاعت لإسقاطها وإجهاضها واعتمدت كل الوسائل القمعية محاولة على الأقل مراقبة واحتواء هذه الحركة الفكرية المستقلة عن سلطانها ولكن عبثا إذ لا يمكن حجب وجه الشمس بالغربال كما يقول المثل العامي أو على الأصح لا يمكن للفكر أن يمنع نفسه عن التفكير مثلما لا تستطيع العين أن لا ترى طالما لم يصبها مرض لا شفاء منه .

ويستهجن الإنسان المذهبي بطبيعة الحال هذه الهجمات الشرسة على معالم استكان لها وتعود عليها , فتراه إما يرفض كليا الأفكار ويحاربها حربا لا هوادة فيها أو يسارع على العكس إلى التعلق بعقيدة جديدة ومذهبتها أي تجريدها من بعدها الثوري اليوطوبي , والاحتفاظ ببعض المفاهيم والمراسيم واستبدال قناعات مقدسة لأخرى تعمل بنفس الكيفية , وتوفر عليه عناء الثقافة ومغبتها . وهو يدل على تأصل الحاجة الأمنية في نفس الإنسان وقابليته للتعلق ببعض الشعارات والمواقف البسيطة كي تعرفه وتميزه وتعده بالغد الأفضل الذي وعدته به الثورة العقائدية . وقد لاحظ مثلا المفكر الماركسي الكبير قرامشي ظاهرة استشراء إيمان عميق عند معاصريه من الشيوعيين بأن تحقيق الاشتراكية رهين عوامل جبرية ميكانيكية تدفع بالمجتمع قدما إلى طور الاشتراكية بالرغم من كل الحواجز والعقبات وليس رهين إرادة الإنسان . وفي هذا الاعتقاد بالطبع تبسيط كاريكاتوري للنظرية الماركسية . وقد حاول قرامشي تبرير الظاهرة بأن الإيمان بالسببية الميكانيكية رغم صبغته الدينية المبهمة عامل إيجابي , إذ يمكن المناضلين من الصمود في وجه القوى الرجعية المتفوقة عليهم في فترة معينة من الصراع , وبهذا يكون قد لعب دورا في الانتصار الحتمي للاشتراكية والحال أن الموقف يدل في الواقع على أهمية وأزلية الحاجة العقائدية الأمنية ودوامها عبر مختلف التشكيلات غيبية كانت أم متعلمنة .

إن نتاج هذه الحركة الفكرية المذهبية التي ستتخذها السلطة السياسية " مثقفوها " سيكون علما قوامه سيادة النمو الفكري الواحد الذي تعكس سيادة النمط السياسي الواحد وبالتالي , سيؤدي إلى فكر ضحل , فقير , مبني على رفض التقدمية والتعقيد والحركة في العالم ومن ثمة إنتاجه لعالم خيالي يتسم بالبساطة والسذاجة .

في التنافر بين إمكانيات الفكر ومتطلبات الواقع يقول أحد حملة الفكر الكبار في عصرنا سيجموند فرويد : " هناك تنافر كبير بين طبيعة التفكير ونظام العالم الذي نحاول فهمه إذ تكتفي حاجتنا الملحة للسببية وحيد يمكنها من ربط المظاهر ببعضها البعض وهو الأمر الذي قل ما يوجد في الواقع إذ نرى على العكس أن كل حادث هو نتيجة تضافر عوامل متعددة وننتصر مع هذا دائما في دراستنا للأمور لأسباب ونغفل أسباب أخرى لأن التعقيد المذهل لها يخيفنا فنخلق صلات غير موجودة نأتي بها لإنكار صلات أوسع وأكثر تعقيدا .

تتبلور إذا النزعة أكثر ما تتبلور في التفكير المذهبي الذي يلغي تعدد وتشعب الصلات بين المظاهر الطبيعية أو البشرية: فالصلات بالنسبة إليه قليلة واضحة وحقائقها مؤسسة لا برهان عليها ولكنها برهان على كل شيء ملغيا سائر التجارب التي لا تدخل ضمن إطاره التفسيري , ولا يتوانى عن استعمال العنف لفرض مواقفه ورفض ما عداها . ولا يرى أدنى ضيم في العمليات فالحرية في نظره فوضى وخطر داهم لأن العالم شفاف تسهل معرفته والتحكم فيه لو لا تآمر الأعداء فالتعقيد هو نتيجة التشويش الذي يحدثونه عمدا لا من خصائص الأمور . فالإنسان مثلا خيّر لا يريد إلا الخيّر , والتنظيم السيء للمجتمع هو سبب انحرافه عن جادة الصواب , والرجل قوام على المرأة . والبروليتاريا ثورية بطبيعتها إلى آخر البديهيات التي لا يجوز الخوض فيها . فمن " الإلحاد " مثلا ملاحظة أن البروليتاريا ثورية في ظروف معينة ودعامة من دعامات الإمبريالية والرجعية في ظروف أخرى وأن طبيعتها الثورية قابلة لتغييرات جذرية لم تتوقعها النظرية كذلك لا يجوز تنسيب الدين الإسلامي واعتباره محاولة عقائدية من بين محاولات متعددة , أو اعتبار سيادة الرجل على المرأة ظاهرة لا طبيعية ومظهر من مظاهر تناحر الأضداد وميدانا من ميادين عمل جدلية السيد والعبد . فالثورية كل الثورية والإيمان كل الإيمان في التمسك بهاته الحقائق " الموضوعية العلمية " أو المقدسة وقبولها جملة وتفصيلا بسائر ترتباتها إلى لأن يقضي الله أمرا كان مفعولا .

ومجمل القول أن الحقائق المذهبية كاملة مكتملة لا تحتاج للدليل إذ أثبت المذهب صحتها . ولا داعي للخوض فيها فهي الفرضية والاستنتاج في نفس الوقت وهي إطار المعرفة النهائي لإنهاء نتاج إيمان متخشب متصلب متحجر لا حياة فيه ومن ثمة فالمذهب عدسة تعكس بعض ظلال المظاهر وتحرفها بينما يبقى الواقع وتعقيده خارج مدارك هذا التفكير . بل ومن الممكن القول أنه وسيلة دفاع ضد التعقيدات بالذات , وأنه محاولة يائسة لإنكاره وتخطيه أكثر مما هو جهل بوجوده .

وقد اعترف إنقلز بالظاهرة في رسالة شهيرة إلى ج بلوخ يقول فيها :

" إنني أتحمل مع ماركس مسؤولية إعطاء العامل الاقتصادي أهمية أكبر مما يستحقها إذ كان علينا دائما أن نركز على هذا العامل وأن ننادي بأهميته خاصة وأن خصومنا ينكرون دوره الكبير كما كنا لا نجد الفرصة للتركيز على العوامل الأخرى التي تساهم في التأثير المتبادل بين الأمور "

ويغالي المذهب في هذه المنهجية بتلخيصه العقائدي ليكتسب فعالية كافية للقيام بمهام معينة ولكنها محدودة لزوميا في الزمان والمكان ليتوقف عند لغة المذهب لأنها تشكل أحسن مدخل لفهم عقليته وبعض من التقنيات التي يعتمدها لبسط نفوذه .

فالمذهب إذا هو رفض تعقيد الواقع , رفض السلطة السياسية لتعقيد المجتمع ومحاولة التحكم فيه بدون إطاعة قوانينه , أي أنه لا عقل مطلق . فلا عجب إذن أن يكون الفشل مصيره الحتمي رغم فترات متباينة الطول من السيطرة المبنية على الإرهاب الفكري والجسدي وهو أيضا محاولة يائسة ترمي إلى حشر الواقع بغناه المذهل في إطار فكري جامد إذ لا تترك النزعة الأمنية أن العقيدة مهما كانت م هي إلا حصيلة عمل وتفكير عدد محدود جدا من الناس , وهو عمل وتفكير نسبي لزوميا في الزمان والمكان بينما يشكل الواقع حصيلة عمل وتفكير الأجيال والحضارات التي تتعاقب منذ بداية التاريخ على سطح الأرض . فالواقع إذن هو الذي يستطيع هضم ودمج المذهب وتوضيح معناها وتحديد مكانتها لا العكس كما يدعي . فالمذهب قادر إلى مدى على فرض فكرة مشوهة ومحدودة عن العالم ولكن إخفاقه في فرض هذه الصورة حتمي إذ يأتي يوم يواجه فيه الفكر بمعضلة يبت فيه دائما لصالح الواقع ألا وهي التحليلات العقائدية للواقع لا واقعية والتحليلات الواقعية للواقع لا عقائدية , أي تتضح له إفشال الواقع للنزعة الأمنية الاستبدادية وتكذيبه لها ومن ثمة يواجه بخيار العودة إلى عالم الحركة أو إنكار الذات وقلما يطول تردده . إنها نفس النتيجة التي تصل إليها السلطة السياسية عندما تكتشف استعصاء التحكم في مجتمع معقد بآليات سياسية بدائية .





اللغــة المـذهبـية



تتجلى طبيعة التفكير المذهبي أحسن مما تتجلى في اللغة التي يستعملها وينشرها . وتشكل دراسة هذه اللغة ينبوعا لا ينضب لكل من يحول فهم ذهنية وعقلية أصحابه . فهي تعكس ظاهرة التمذهب أي تفجر الثورية وترسب العنف أي التطور المعاكس للحريتين المكونتين للإيمان .

من المعروف أن المصطلحات العقائدية الجديدة تلعب دورا أساسيا في تغيير نظرة الإنسان للعالم إذ يؤدي ظهورها على إعادة ترتيب سائر مصطلحات اللغة , الفكر , وفتح ميادين فسيحة في عالم الفكر وإدخال بلبلة مهمة على عالم القناعات والعادات , وشق طرق جديدة في عالم مجهول أي إضاءة ميادين مظلمة من المعرفة . وبالتالي تغيير شكل العالم إذ لا وجود ممكن لهذا الأخير خارج تصورنا الزماني والمكاني له .

والأهم من هذا أن المصطلح العقائدي ليس محايدا أي كلمة تضاف إلى قائمة طويلة من الكلمات التي نخلقها في محاولة وصف تعاملنا مع العالم . فلكلمة الاشتراكية لا محالة قيمة إعلامية ولكن قيمتها العاطفية أكبر إذ يستحبها الناطق بها أو ينزعج المستمع لها ويؤثر فيه تأثيرا بالغا ( إيجابيا أو سلبيا ) لأنها محملة بعديد من المشاعر والأوهام والمخاوف والأحلام والأماني , وبذلك تلعب قيمتها العاطفية هذه دورا كبيرا في تأديتها لمهمتها الإعلامية . وكثيرا ما تعجز الكلمة في حد ذاتها عن التعبير عن القوة الهائلة التي يحاول ترجمتها . فترى طريقة النطق نفسها بالكلمة العقائدية ( الله , الوطن , الدين ) تساهم في إبراز خصوبتها ودسامتها وشاعريتها . وتشمل التغييرات الجذرية التي تدخلها الكلمة الجديدة كافة مرافق الحياة الفكري , فتضمحل قيمة كلمات وجمل معهودة أو تندثر كليا بينما تحتل العبارات والشعارات العقائدية الجديدة مكانة الصدارة وتبرز صلات جديدة ولا معهودة بين كلمات غنية بالمعاني والمشاعر .

فالتعبير العقائدي حي وحيوي إذ يؤثر في عالم الفكر مشكلا بداية تغيّر العالم , وهو ثوري إذ يقلب القيم والموازين رأسا على عقب معيدا ترتيب كلمات القاموس الفكري , وهو وسيلة لا غاية إذ يريد إدخال قيم جديدة وفرضها على العالم . فللفكرة إذن أولوية مطلقة على التعبير في اللغة العقائدية . لذلك يرى الإنسان التحرر يتعامل مع هذه اللغة بمنتهى الحذر والاحترام إذ يدرك أن التمكن من غناها شرط من شروط النصر . وتنقلب الآية ببداية تحجر العقيدة أي نمو الاستبداد فيها إذ يكرس المذهب انتصار وانفصام التعبير عن الواقع وإرهابية الكلمة وانتشار الوثنية اللفظية . ويشكل الانفصام بين الكلمة والمعنى أهم خاصية الكلام المذهبي و فلا توافق مثلا بين كلمة الاشتراكية بما تحمله من معاني وآمال , وبين الحالة السياسية والاجتماعية التي توصف بالاشتراكية إذ يتستر القمع في ميدان السياسة والستاكانوفية في ميدان الاقتصاد وراء الكلمة النبيلة ولكنهما لا يعبران عنها ولا يترجمان لها في الواقع , والظاهرة مستشرية في كل زمان ومكان . فالعدالة والحرية والديمقراطية ألفاظ ميتة يتشدق بها طغاة كل العصور ولا تعني شيئا عدى أنها تحاول التغطية على واقع الظلم والعبودية والديكتاتورية فالمصطلحات العقائدية في ظل هذه الأنظمة مصطلحات " سجينة " مرغمة على التشريع لأنظمة تتغنى بالكلمة وتعمل بعكسها , فتغدو مجرد تبرير وذريعة . فلا ثورية فيها ولا صدق إنما هي مجرد كلمات تافهة تعلكها الألسن بتكاسل وتثاقل متزايد بل يمكن القول أن الحدث يصبح مشروعا . وتقتصر سياسة المذهب إلى إفراغ المصطلحات من معناها الخفي .

ثاني خصائص اللغة المذهبية الوثنية اللفظية , إذ توضع كلمات لا حياة فيها في مصاف المقدسات , وتعبد كما تعبد الأصنام اللات والعزى أي أن موضوع العبادة ( المعنى ) غير موجود أوانه لم يعد يتجسد في المصطلحات الميتة. وتشكل هذه الوثنية في الواقع وسيلة دفاع فعالة يعتمدها المذهب للدفاع عن وجوده بإيهام المجتمع بأنه لا يزال وريث العقلية . فالعقلية البدائية تؤمن بتواجد صلة وثيقة بين اللفظة وما تعنيه . وقد رأينا إيمان الساحر بقدرته على إلحاق الأذى بإنسان ما إذا ما ثقب عن دمية ترمز له .

فالمذهب قادر على إقناع المستعبدين بإخلاصه للمعنى إذ ظهر ولاءه للكلمة لذلك يستأثر بها ويرددها ليلا نهارا , ويطبل ويزمر لها ويركز على نبلها وعظمتها وأولويتها الخ ... وعلى صدق ترجمته لها في الواقع .

وتساهم الوثنية اللفظية بالطبع في التعجيل بإحضار المفاهيم وتحجرها . إذ يعرف علماء اللغة قانونا تفقد الكلمة بمقتضاه من قيمتها الإعلامية والعاطفية كلما شاع وتزايد استعمالها . وينطبق هذا القانون على المصطلحات والجمل العقائدية التي تجعل منها التراتيل والصلوات والخطب والشعارات مضغة في الأفواه . ويعرف كل واحد منا فعالية هذا القانون ولم بكيفية مبهمة إذ لا تلبث الشعارات أن تثير فينا مللا وقرفا فنجابهها في وقت ما باللامبالاة التامة التي تشكل احتجاجا صامتا ورفضا لا شعوريا أو واعيا لما في تراصف الكلمات المعسولة من نصب وخديعة . كما ندرك أن الشعارات هي في الواقع مجرد اشهار أي أن نفعها يعود في الحقيقة على الناطق صاحب الشعارات أكثر مما يعود على السامع مستهلكها , ويزيد في لا فعالية الجمل ترابطها المعهود والمتوقع , إذ يمكننا دائما التنبؤ بما يقوله الخطيب المفوه أو الواعظ . ومن ثمة يعهد الفكر الجمل الميكانيكية ولا يوليها اهتماما زائد فترى أغلبية الناس تسمع الكلام العقائدي ولا تنصت إليه إذ هو من معالم العالم الذي يعرفونه ولكنه ليس المحرك والحافز العقائدي الذي عرفه أجدادهم أو الذي يعيد اكتشافه الشباب جيل بعد جيل .

وفضل الكلام الساخر كبير لا يستهان به في إظهار زيف الكلام المذهبي ودجله لأنه يفضح بكيفية ذكية ما فيه من نصب وخديعة , ويكشف أهدافه ويظهر وظيفته التبريرية كما أنه قادر وحده على تجاوز قمعية المذاهب لأنه يتغذى بها .

وأخيرا يشكل الإرهاب ثالث خصائص هذا الكلام المذهبي . فللكلمة في إطاره دور ردعي هام . فمن طبيعة المذهب غرف اللعنات التي تصبها العقيدة بكثير من السخاء على أعدائها واستعمال هل ضد أعدائه هو من عقائديين ومخالفين في الملة . وتجلى النصب المذهبي في اعتبار المستحوذ على الكلمة قيما على الفكرة , واعتبار عدو التجاوزات المذهبية والخارج على سلطة الكلمة الكاذبة عدو الهدف العقائدي .

وللتعابير المذهبية وقع إرهابي هام فالكلمات حرام لا يجوز التطاول عليها واعتبارها أمرا لا يجوز الخوض فيها إذ هي إما وحي من السماء وإما اكتشاف علمي . وما على الإنسان إلا الخضوع إذ لا هو بقادر على التصدي لرغبات السماء ولا هو بقادر على دحض العلم . ويقتصر دوره على تنفيذ أوامر القيمين على هاته الحقائق المنزلة , ولا يكون في موضع قطيعة مع متطلبات السماء أو العلم . وينمي المذهب الاستسلام لهاته الكلمات التي جرى  إفراغها من محتواها واختيار التعابير المثيرة للغرائز والحواس من حماس وكره وخوف لثلب الخارجين على أرادته و سلطانه . فقد نكل ستالين مثلا بأعدائه من قدامى البولشفيك بتصفيف الجمل الإرهابية ضدهم , فجند للقضاء عليهم كافة وسائل الإعلام التي عرفتهم بأنهم أعداء الاشتراكية والعلمانية والتقدم البشري والعدالة والإخاء ووصفتهم بخدمة الإمبريالية والرأسمالية وإذناب الاستعمار والفاشية الخ ...

وهكذا تم تحطيمهم وإذلالهم باللغة الإرهابية التي لا تقبل ردا أو نقاشا , وسهل التخلص منهم . وتعطي وسائل الإعلام التي تملكها الدولة في عصرنا لهذا والمنوبول الفكري الذي يتمتع به المذهب قوة هائلة بإشاعة هذه اللغة الضحلة الإرهابية على النصب والترديد الببغائي , والإجماع المزيف المفتعل والشعارات الكاذبة . ومن حسن حظ التحرر أن القضية التكنولوجية وضعت خطابات مغايرة ومناقضة تحت تصرف الناس مما يساهم في كسر شوكة الاستبداد اللغوي ولغة الاستبداد  وإن أهم  ما هذه اللغة الخلط المعتمد ،  فالمعارض للحكم أيا كانت آراءه ومواقفه وتصرفاته متآمر على " أمن الدولة " أو على الثورة الاشتراكية أو المقدسات الإسلامية لأن الحاكم والمقدسات الإسلامية أو الثورة الاشتراكية شيء واحد ومن ثمة , فالتآمر على الحاكم تآمرا على هذه القيم بكيفية أوتوماتيكية . وتفرض هذه الصلة على الناس إلى أن تستولي الدبابات على مبنى الإذاعة فتنفرط الصلة العضوية بسرعة غريبة ويتكرر نفس السيناريو بعد توزيع الأدوار من جديد .

وتستعمل أبواق الدعاية المأجورة للوصول إلى الغاية لغة القدح والتشنيع . فتخلق العدو وتشكله تشكيلا فتجعل منه " شيوعيا ملحدا ومتآمرا عميلا ورجعيا قذرا وإرهابيا مخربا الخ ...

وتتضافر كل هذه المهام والأساليب وتبلغ ذروتها في الخطب والشعارات الرنانة التي لا تعني شيئا ولا تعبئ ولا تحث أحدا على العمل والكد . فتكون الخطب البليدة المضللة التي بلغت آفاقا منقطعة النظير في سنة 1967 والتي كانت سببا من أسباب الهزيمة الرئيسية .

 ومجمل القول أن بوسع عملاء الكلمة المذهبية إنشاد أبيات نزار القباني في تعريف أنفسهم وطبيعة مهمتهم .

نجـــــلــــس القــــرفـــصــــــــاء

نبيـــــع الشعـــارات للأغبيــــــاء

ونــحشــــو الجمـــاهير قشا وتبنا

ونتـــركهـــم يعلكـــــون الهــواء



لا غرابة أن يتم انفصام المذهب عن الواقع بعد أن تم انفصامه عن العقيدة إذ لا يمكنه تفادي هذا المصير نظرا لسلبية ورجعية مواقفه ورفضه الاعتراف بالموجود الخارج عن إرادته وعجزه عن فهمه وإعطاءه أدنى تفسير موضوعي وقبول تعدد وجهات النظر والنسبية وتجاوز الاعتبارات المقدسة . وكلها أمور يستعصي فهمها وقبولها على عقلية المذهب . لهذا تراه أيضا عاجزا على التحكم في مجرى الأمور , يجاهد لإيقاف عجلة التاريخ قانعا بالتحكم الخيالي الإرهابي في الأحداث وعاجزا كليا عن التعرض بفعالية لتيار التاريخ فيجرفه هذا الأخير مع ما يجرف طال الزمان أو قصر .





المجتـــمـــع اللأخــلاقـــي



إذا كان الطموح الأساسي للمروع التحرري هو سيادة الأخلاق أي التعامل الإنساني المحكوم بالقيم , فإن اللأخلاقية التي يرفضها ويغطيها المذهب هي أهم مؤشر على فشل المشروع و بنهاية  دور العقل وغياب الحرية , وتكلّس العنف, واستشراء الاستسلام للسلطة في إطار الفقر الجماعي , يصبح المطلب الأخلاقي أمرا عزيز المنال , والتصرف الأخلاقي عامل هدّام لا يتماشى مع تركيب  المجتمع الفكرية والسياسية المبنية على قواعد غير مكتوبة تتعارض أساسا مع المقول والمصرّح به .

ليتصور القارئ وضعية إنسان في مجتمع عبودي يقرر تطبيق الأوامر والنواهي العقائدية النبيلة بحذافيرها . وليتخيل مصير هذا الإنسان الذي يقر العزم ذات صباح على أن لا يكذب مطلقا وأن يقول الحق ولو ( كان على نفسه ) , وأن يماري ولا يهادن في قول الحق . وليحاول القارئ بخياله الخصب تتبع مغامرات هذا الإنسان وهو يقول الحق من مشرق الشمس إلى مغربها مع زوجته وأولاده ورؤسائه ومرؤوسيه وزبائنه ومرضاه الخ ... وليتصور أن شجاعة الرجل بلغت به حدا مخيفا فيصارح الحكام برأيه فيهم وفي سياستهم الرشيدة المخلصة الصائبة الموفقة الوطنية الثورية الخ ... ولنغالي في تصورنا لصدق الرجل أي لنتخيله يواجه نفسه وغرائزه وشهواته وعنفه المكبوت بدون مدارات أو تصعيد , معترفا بنواياه ودوافعه الحقيقية ,ولنتصوره وهو يحاول إعطاء أصدق واخلص صورة على نفسه للآخرين بدون اللجوء إلى الأقنعة المعهودة التي تختفي وراءها عادة كل الوجوه . لا محالة أن المسكين سيواجه صعوبات تستعص على التذليل , وأنه لن يطول في المجتمع إذ سيجد نفسه بسرعة إما في غياهب السجون , وإما في مستشفى المجانين . ,إنه لن يعمر طويلا لا في السجن ولا في المستشفى إن واصل سياسته الانتحارية في قول الحق , وسيصل صاحبنا إلى نفس المستقر إن هو حاول العيش بنفس الكيفية شجاعا كريما الخ ...

معنى هذا أن المجتمع العبودي لا يقبل ولا يتحمل التصرفات الأخلاقية التي تسنها العقيدة وأن احترام الأوامر والنواهي الأخلاقية المثالية لا تمكن الإنسان من تحقيق أهدافه الشرعية والسيطرة على مقدراته وأموره . إذ تتطلب الحياة أو بالأحرى البقاء على قيد الحياة داخل هذا المجتمع قدرا كبيرا من الخداع والمكر والمداراة و فلا يسلم المواطن مثلا من شر الدولة إلا بالطاعة أو اللامبالاة , ولا يرتقي السياسي الماهر إلى سدة الحكم إلا بعد تصفية خصومه وفرض مفاهيمه بالقوة والخديعة وشراء الضمائر واستعمال أجهزة العنف والقمع . ولا يسلم الإنسان العادي من المضايقات , والويل والثبور له إن تجاسر على الخروج عن هذا الإجماع . ولا يحتاج دور النفاق والجشع والاستغلال في تكديس الثروات على حساب الجائعين إلى كثير من الشرح .

ومن ثمة يدرك القارئ أن الرذائل التي ينتقدها ويشجبها الواعظ ليلا نهارا وهي – في الواقع شروط الحياة داخل المجتمع العبودي وخصائصه – فالسرقة مثلا لأفقر الناس قد تكون شرا لابد منه وكذلك الكذب والخداع . وكلها أكثر من مجرد تصرفات خاطئة لا مسبب لها يمكن التخلص منها بعد إقناع اللصوص  بأن بطونهم ليست جائعة كما يتخيلون .

فالسؤال إذن : من الذي يتحمل الحياة بدون اللجوء إلى السرقة ؟ من هي المرأة التي تضطرها ظروف الحياة إلى المتاجرة بجسدها ؟ من هو الإنسان الذي لا يقدر على الحياة لا يطيقها إلا بإغراق نفسه في بحر من الخمر في عملية انتحارية طويلة النفس .

 وأخيرا هل يستطيع الإنسان في مجتمع البقاء والمتعة والسلطة للأقوى أخذ حظه من الدنيا بدون تحمل أعباء خطيئة القهر , وإلحاق الأذى بالمستضعفين , وبدون الانتماء إلى طبقة المستعبدين القانعة باجترار شعارات كالصبر مفتاح الفرج , والقناعة كنز لا يفنى ولا غالب إلا الله الخ ...

لا غرابة إذا أن يكون المجتمع الاستبدادي لا أخلاقي لأن له تنظيم هرمي يرتكز على التفاضل , وتحكمه علاقة السيطرة والقوة التي تتجلى في كافة القطاعات أي في علاقة الرجل بالمرأة , والغني بالفقير , والكهل بالشاب والشاب بالكهل , والموهوب بالغير الموهوب والمواطن بالأجنبي " والمتحضر " بالغير المتحضر , والمستعمر بالمستعمر الخ...

وتتخذ هذه العلاقة مميزا وأسلوبا معينا حسب الزمان والمكان أي قد تكون ممارسة وقحة وفجة لعنف أعمى , أو قد تكون ممارسة لينة وطويلة النفس لنفس العنف أو حلا وسطا بين الاثنين وتفرز هذه العلاقة بسرعة في كل الحالات نوعين من القيم النظرية والقيم العملية .

أما القيم المثالية التي يتغنى بها الأنبياء والفلاسفة والشعراء على مر العصور ز فلا تعبر في الواقع إلا عن تطلب وتطلع نحو غايات بعيدة المنال أكثر مما تعبر عن وجودها . فالعدل لم يكن أبدا صفة بل مطلبا لأنه صيحة المظلوم في كل العصور , ولا تتعالى المناداة بكرامة الإنسان غلا في الظروف التي تعرف أكثر من غيرها دوس الكرامة . كذلك نعرف أن حب السلام ناتج عن انتشار الحرب , وأن قيمة الحب في انعدامه أو في قلته , وأن الكرم فضيلة لأن البخل داء مستفحل , وأن العلم مستحب لان الجهل مستشري الخ الخ

معنى هذا أن القيم المثالية تحدد بصفة سلبية ما يفتقده المجتمع الاستبدادي من صفات . وأنها تشكل قيم المسحوقين والمعذبين في الأرض وبداية وعيهم بحالتهم المزرية .فنيتشه محق في قوله بأن المسيحية هي ديانة العبيد ,وأنها كانت تعبيرا عن حاجاتهم ورفضهم لحالتهم .ونجد في المواجهة قيم السادة العملية التي تسيطر على مقدرات المجتمع طيلة فترات جمود المستعبدين واستكانتهم إلى أوامر ونواهي السادة .ويقرر هؤلاء طيلة هاته الفترة طبيعة الخير والشر .فيقرر المستعمر مثلا أن طاعة القوانين الاستعمارية فضيلة ويشجب الأعمال المخلفة لمصالحه كالتخريب والخروج على القانون ويقرر الرجل أن عذرية المرأة فضيلة ولهو الرجل رجولة ويصف الذين يملكون المضطرين إلى السرقة بأنهم لصوص ,ويعتبر الحكام استكانة المحكومين وطنية الخ ... ويتعرض الرافضون لهاته الأخلاقية المزيفة إلى أخطار جسيمة , فيصفهم السدة وخدمهم الكهنة بأنهم "زنادقة أو ملاحدة "أو " ارهابين " ؟ .فالتعاليم الفعالة هي إذن جملة التعاليم التي تتماشى مع تركيبة اجماعية سياسية نفسانية معينة تعود على السادة بالمنفعة ويدعو الذهب إلى اعتناقها . والملاحظ أنها قيم سلبية أي أن العمل محدد غالب الوقت بعكسه أي لا عصيان ,لا إلحاد, لا خروج عن القوانين , لا تقاعس في العمل لا خروج على التقاليد , لا إخلال بالنظام ( الأزلي الصالح ) , لا تعدي على ممتلكات الغير ومن جملتها المرأة لا ثورة .  يواجه المستعبدون خيارا صعبا إذ يجب عليهم احترام هذه الأوامر والنواهي التي يفرضها السادة بالقوة وفي نفس الوقت تحقيق قدر معقول من غرائزهم وشهواتهم لذلك تجد استراتيجية حياتهم مبنية على المصارحة باحترام القيم وبين تجاوزها المصحوب بتأنيب الضمير نظرا لتغلغل وتمكن قيم السادة من عقولهم . وتتباين حظوظ الأفراد في تعاملهم مع القيم , فيتحمس لها السادة وإذنابهم لأسباب بديهية , ويتحملها جل الناس على مضض وتنؤ فئة قليلة بحملها الثقيل , وتعجز في ظلها عن تحقيق ولو قدر ضئيل من حاجياتها فتتمرد عليها وتحث على الثورة والإطاحة بكل البنيان . وهكذا تتجدد المطالب القديمة الأزلية في إطار تفكير عقائدي يفتح آفاقا واسعة من الآمال ولكن على مدى ... إذ يتكرر نفس السيناريو حال تمكن العقيدة من الحكم وقد يعترض القارئ على هذا التصور مذكرا بحقيقتين وهما أن السيد رجلا أو غنيا أو حاكما ليس سيد شريعة الغاب . فهو مضطر إلى احترام عدد معين من القوانين , ويقاسي هو الآخر بصفة أو بأخرى من الحد الغرائزي الذي تفرضه الحضارة فبذلك فتصنيفنا سطحي وساذج , كذلك يسع القارئ التذكير بأن بعض السادة تخلو في أماكن وأزمان متعددة عن مصالحهم والتحقوا بصفوف المضطهدين أو ليس في هذا التصرف أحسن دليل على وجود حس أخلاقي أصلي أزلي مستقل عن المصالح التي تدفع الإنسان بصفة أوتوماتيكية إلى الانتماء إلى طبقة السادة . والقارئ محق في اعتراضه و ولابد هنا من اغتنام الفرصة للتركيز على ما في العرض التحليلي من مخاطر , فالعلاقات الإنسانية بالغة التعقيد ولا يمكن لأي نظرية استيعاب هذا التعقيد المخيف خاصة إن وقعت في فخ لا مناص منه هو فخ العرض والتفسير . إذ يعني الوضوح عادة التبسيط ولكننا مضطرون في نفس الوقت هذا الأسلوب إذا أردنا الحديث عن المظاهر وإلا وجب الصمت . فالمهم إذن أن يكون العرض والتحليل نقطة انطلاق وبداية نقاش لا أن يكون محاولة اصطياد كل مظاهر الواقع وحشرها داخل إطار نظري .

لا يكفي الإرهاب الفج وحده كما قلنا مرارا لدوام علاقة العبودية . لذلك يحاول المذهب احتواء تمرد المستعبدين بفرض قيم معينة يجب على السادة اعتناقها كالرأفة مثلا بالعبيد , وأطماعهم بإمكانية تحريرهم إن أحسنوا التصرف والإحسان في مجتمع طبقي مبني على وجود فقراء وأغنياء . معنى هذا أن من مصلحة النظام الحد من حرية السادة الغرائزية , ولكنه حد لا يقاس ولا يقارن بالتضحيات المطلوبة من المستعبدين . ويهدف حد حرية السادة إلى حقن المستعبدين بقيم مسكنة باحترام بعض حقوقهم . فالفلاح يعرف تلقائيا أن حيواناته هي جل ثروته , وأن مصلحته في الاعتناء بها لذلك يحدد المذهب خصائص العبد المثالي وخصائص السيد المثالي ويحدد لكل واحدة منهما دوره ومكانته . ولا يتوانى عن قمع السيد بنفس الكيفية التي يقمع بها تمرد العبد لأن الهدف هو فرض البنيان الاجتماعي الاستبدادي والمحافظة على تماسكه . يبقى رغم هذا أن حرية السيد أكبر من حرية المستعبد الذي يستطيع التلاعب بالقوانين التي تحد من حريته الغرائزية . فهو لا يتحمل ثقل القوانين المذهبية بنفس الكيفية التي تقسم ظهر المستعبد . كذلك نلاحظ أن " خيانة " بعض السادة لمصلحة طبقتهم شاذة حسب القاعدة ولأن الأغلبية الساحقة للسادة تتعلق بالنظام وتحميه . والظاهرة على كل مشرفة للإنسان , ولكنها لا تؤثر في طبيعة التصرفات الفعالة داخل مجتمع مبني على ميزان القوى وتناحر الأضداد .

وينتمي هؤلاء الناس عادة إلى طبقة العقائديين المخلصين الذين يشكلون ألد أعداء النظام الذي يبدأ بالتخلص منهم قبل التخلص من غيرهم من الأعداء . إذ يشكلون بالنسبة إليه حصان طروادة . فهم داخل الحصن لأنهم بناته وخطرهم أكبر من خطر المخالفين في الملة , وهم واعون في أغلب الأحيان بما يتهدد العقيدة من أخطار ماحقة , ولكنهم عاجزون عن تفاديها نظرا لإيمانهم العميق بأن سبب التمذهب هو انحراف فلان وعلان وليس تبلور خصائص العقيدة السلبية . ولا يلاحظون الصلة الوثيقة التي تربط بين العقيدة والمذهب ولا يدركون أن العنف العقائدي والتصلب والتنطع للواقع والعقل أسلحة فتاكة يمكن أن تستعمل ضد أصحابها عملا بقانون سنة المسيح . ولا يزال قول من عاش بحد السيف مات به ساري المفعول لذلك تراهم تئنون ويتذمرون عندما يطالهم السيف ويقصرون همهم على شجب انحرافات المسئولين كما لو كان هذا الانحراف أمرا غريبا . أو يحاولون عبثا تفادي المصير المحتوم باستعمال شتى الوسائل اللافعالة . فقد أظهرت الثورة الصينية على سبيل المثال وهو المنتصرة عسكريا سنة 1949 وعيا منقطع النظير بأخطار التحجر الفكري والسياسي الذي أصاب الاتحاد السوفياتي وبلدان أوروبا الشرقية الخاضعة لسيطرته , واكتساب عقيدة الجدلية في ظل الحكم ولكنها تفشل في هذا , وما الثورة الثقافية الصينية إلا محاولة من جملة هذه المحاولات .

هذا , ولا تكتسي عادة مقاومة تحجر العقيدة هذا الطابع الواعي المنظم , فتقتصر في بعض المرات على احتجاج طوباوي من طرف الفئات الواعية التي تدرك تباعد الممارسة عن النظرية . ولكن خطر هذه القطاعات من المجتمع على المذهب خليل , فإما تصارح بمعارضتها فتقمع , وإما تجرد النظرية أي أنها تفر إلى عالم الفن والفلسفة الذي تحاول إبعاده عن عالم الصراعات السياسية , فتنقد وتشجب بعد لف النقد في اصطلاحات وإشارات مبهمة لا يأبه لها السادة لعدم جديتها . وتقارع بعض الفئات الأخرى التعصب المذهبي بتعصب مضاد وتحجر آخر فقد عرفت مثلا كثير من الكنائس البروتستنتينية تزمتا وتحجرا لا تحسده عليها الكنيسة الكاثوليكية التي كانت تصرفاتها سبب الانشقاق .

ويفرض الواقع رغم كل هذا حكمه وناموسه على المذاهب المتحجرة إذ لا يأبه بتشنجها العصابي ومحاولتها اليائسة لفرض تطابق تصورها للأمور وخصائص العالم الموضوعية . فيدرك الناس عاجلا أو آجلا حقيقة احتكار بعض الفئات للتراث المقدس ولا فعالية التنديد بمخالفة التشكيلة المتحجرة للتعاليم النبيلة .

وقد تخيل دستويفسكي في إحدى رواياته الشهيرة الأخوة كارامازوف بعث المسيح في إسبانيا في العصور الوسطى . ووصل إلى استنتاج منطقي هو حتمية اعتقاله من طرف السلطات الروحية وربما صلبه من جديد إذ يقول :

" أراد ( المسيح ) قضاء لحظات خاطفة بين أطفاله في تلك الأمكنة التي كان يجرى فيها إضرام النار في أجساد الكفرة والملحدين . أراد أن يبدو للناس كما بدا لهم منذ خمسة عشر قرنا خلت وهو في سنه الثلاثين عندما كان يحيا بين البشر . هكذا نزل إلى شوارع المدينة الجنوبية ( إشبيلية ) أين أمر البارحة الكاردينال بحرق مئة كافر أمام الشعب وبحضور الملك والحاشية وأمراء الكنيسة والسيدات الجميلات وإبراز أعضاء المجتمع الإشبيلي ظهر فجأة للناس بلا ضجيج أو ضوضاء الغريب أنهم عرفوه كلهم . يا لها من قصيدة شعر رائعة تنشد في هذا اللقاء ويكون أروع مقاطعها لماذا عرفوه . وتجمع الشعب حوله  بفعل قوة خارقة فمشى بينهم بسكون وعلى شفتيه ابتسامة وديعة . كانت شمس المحبة تحرق قلبه ومن عينيه كانت تشع الأنوار . بكى الشعب من فرط التـأثير وقبل الأرض التي داستها خطاه وتعالى الصراخ إنه هو ! إنه هو !

توقف أمام كاتدرائية اشبيلية فحملوا إليه نعش طفلة صغيرة ميتة نظر إليها بمنتهى الحنان ثم قال انهضي أيتها البنية فنهضت وعلى ثغرها ابتسامة البراءة بكى الناس وتعالى صراخهم . وفي تلك اللحظة بالضبط بدا الكردينال . كان كهلا يبلغ التسعين من العمر . طويل القامة غائر العينين مرتديا حلة كهنوتية متواضعة . لقد رأى كل شيء : نعش البنية الميتة , البعث .

تهجمت أساريره ولمع في عينيه بريق مرعب . التفتت إلى أعوانه مشيرا إليه وأمر بإيقافه .

إلى هذا الحد بلغت قوة هذا الإنسان الذي عرف كيف يفرض إرادته وكيف يهمن على شعب مرتعد الفرائس . وتمكن الأعوان منه في صمت قاتن وأخذوه . سجد الشعب للكاردينال سحبوه إلى مبنى عتيق وسجنوه في زنزانة مظلمة ضيقة ومرت ليلة قبل أن يدخل عليه الكاردينال .

- ها أنت إذن أسكت لا تقل شيئا . لماذا رجعت , أتريد إدخال الفوضى على حياتنا أأتيت لإزعاجنا . لماذا رجعت ؟ ألم تلقي بعبء  المهمة على عاتق البابا ؟ أليس من واجبه هو أن يحكم وأن يقرر فلماذا رجعت , لإزعاجنا بدون مبرر . لماذا رجعت قبل الموعد المحدد ؟ إنهم ( الناس ) شريرون متمردون ولكننا نعرف كيف نخضعهم . إنهم معجبون بنا . يضنونا من طينة الآلهة لأننا قبلنا عندما تمكنا من السلطة حمل عبأ حريتهم . والحرية كريهة بالنسبة إليهم وحملها ثقيل عليهم إننا نوهمهم بأننا نحكم باسمك . نكذب عليهم دائما إننا لن نسمح لك أبدا بالتدخل في شؤوننا . إن أقوى وأعمق شهوات الإنسان هي أن يلين وأن يخضع لإرادة السيد . رغبته الوحيدة الاستسلام إلى حقيقة واضحة لا جدال فيها ويجلها الكل . إنك تعرف هذا السر ... ومع ذلك أطلقت عنان الحرية بدلا من لجمها نسيت أن الإنسان لا يعني بمعرفة الحق من الباطل بقدر ما يعني براحته وطمأنينته أردت من الناس أن يحبوك بمنتهى الحرية وأن يتبعونك بمحض الرضا والاقتناع ! ألم تتوقع أنهم سيضيقون ذراعا لهاته الحرية وأنهم سيتخلون عنك وسيشكون فيك وفي تعاليمك ؟ مثل الناس كمثل أطفال مدرسة تمردوا على معلمهم وطردوه . ولكن فرحتهم لم تطل لأنها كلفتهم غالية . دمروا كل شيء ثم فهموا أن الذي وضع فيه بذور الثورة والحرية قد سخر منهم . لقد فرح الناس لما خلصناهم من هذه الهدية المسمومة التي أهديتها إليهم . لما تلومنا ؟ لأننا نحب الإنسانية ألم نقدر ضعفها ؟

ألم نخلصها من حملها الثقيل بعد أن أدركنا الحس الأخلاقي فيها ؟ فلماذا رجعت ؟ لنشر الشغب الفوضى , لا يمكن أن نخفي عليك سرا ربما تريد أن تسمعه مني ؟ فل يكن . اعلم أننا لسنا معك بل نحن معه ( الشيطان ) هذا هو سرنا لقد تخلينا عنك منذ ثمانية قرون لأننا قبلنا منه ما رفضته آباءنا قبلنا منه روما وسيف القيصر وأعلنا أنفسنا ملوك الأرض قاطبة . سترى غدا هذه الجماهير الذليلة هذا القطيع المطيع . سيضرمون فيك النار بمجرد إشارة مني سآمر بحرقك جزاءا وفقا لك .
























الفصــــل الرابــع



مــن شـــروط التحــــــرّر

        






لــب القـضيــــة





لماذا تتبخر الروح الثورية للعقيدة للتسرب في قالب متين قمعي ,وعلى وجه التدقيق لماذا يحدث هذا بعد امتلاك السلطة؟ولماذا لا تحيي فيها هذه الروح  وكأن إلا المعارضة السياسية لتنقلب إلى  نفس المنقلب ,عندما تمسك بالأمور وكأن هناك لعنة تلاحقها عبر العصور والتجارب .

يقول شارل أندري جوليان في كتابه " تاريخ إفريقيا الشمالية " في معرض حديثه عن الانتفاضات الدينية السياسية,وخاصة عن ظهور حزب الخوارج في أرض المغرب بعد بضعة قرون من ظهور الدوناتية (*) أي تقريبا نفس المنحى الديني السياسي لكن داخل المسيحية وتعلق المغاربة بهذين الاتجاهين المتشابهين كل داخل ديانة معينة :"لا بد لكل ثورة من دعامة إيديولوجية ,فقد ثار الفلاحون المصريون سنة 2000 قبل المسيح ليفتكوا من الأرستقراطية التعاويذ السرية للخلود , كما ثار الدوناتيون في إفريقية ضد الانتهازية الكاثوليكية وتحالف الحكام الرومان مع الرهبانية وكبار الملاكين  ولم تكن هذه الشيعة ( الدينية ) إلا التعبير الديني عن كراهيتهم لطبقة كبار الملاكين والحكم السائد .لذلك كان من الطبيعي أن يحمل البربر عندما أسلموا على أيدي العرب المعارضة على المستوى الديني . الشيء الذي كان يسمح لهم بتقديم طلباتهم الاجتماعية في شكل مثالي ديني . وهكذا أصبح الاتجاه الخارجي تعبيرا عن السخط الطبقي والشعور القبلي مثلما كان الأمر داخل الاتجاه الدوناتي ".

لنلاحظ عرضا تشابه الثورة الخوارجية مع الدوناتية في بلاد المغرب رغم تباعد الشكل الظاهري الديني , أي الفوارق الميتافيزيقية الهامة بين المسيحية والإسلام مما يؤكد مرة أخرى أن لب القضية ليس اللاهوتيات , وغنما المشروع التحرري بمستواه الفكري والأخلاقي حقا ولكن أولا وقبل كل شيء بمستواه الاجتماعي والسياسي , ,أهم ما سنتوقف عنده في كلام جوليان هو تشريع المذهب آنذاك وتبريره لظاهرة الرق . والحال أن المشروع التحرري وجد أساسا لتخليص الإنسان العبد من هذه الآفة غذ يقول في وصف وضعية وآراء الكنيسة الكاثوليكية في بلدان المغرب عشية الفتح الإسلامي :

" وقد أعانت هذه الكنيسة الضعفاء على شرط أن يقبلوا اللامساواة الاجتماعية وأن يخضعوا لها . كما أعلنت أن الرق شرعي لأن المقتضيات الاقتصادية ومنها استعمال طاقة الجر الإنسانية تفرضه ولا تمكن من إلغائه" .

لنذكر هنا أن الإسلام المذهبي اتخذ نفس الموقف من الناحية العملية , وأننا سنجد نفس التراجع في تنفيذ أهم بنود البرنامج التحرري الماركسي في الستالينية . ولما هذا ؟ هل السبب يعود إلى سوء نية السادة ووحشيتهم الفطرية ؟ طبعا لا , لأن وحشية السادة هي نتيجة وليست سببا . فالمصيبة أعظم والمأساة أعمق من هذا إذ وعدت العقيدة بما كانت عاجزة عن توفيره في غياب البديل التكنولوجي , أي أنها في الواقع أمضت شيكا على بياض .

لا جدال في أن فكرا مفتوحا يعتمد في تعامله مع الواقع على التقييم الدائم لنتاجه , والحوار الذي لا يفتر مع نفسه , والرفض لكل ما من شأنه أن يحد من تطوره ولو هدد ذلك دعائمه نفسها غير قابل لأن يصبح ملك خواص يستعملونه للدفاع عن مصالحهم أو تصوراتهم , بينما سيعرف فكر مغلق وشمولي يرتكز على عنف الإيمان هذا المصير عاجلا أو آجلا .



 


(*) نسبة إلى قائد ديني سياسي بربري هو دوناتوس تمرد على الرومان والكنيسة الكاثوليكية في القرن الثالث بعد المسيح ولاقت ثورته اضطهادا كبيرا .





إلا أنه من الخطأ أن نتصور أن خصائص الفكر العقائدي النظرية تفسر وحدها عملية التمذهب , إذ سنكون قد سقطنا في فخ السببية البسيطة والساذجة التي لا تفهم أن تطور الكائنات – أكانت من عالم الفكر أم من عالم المادة – محكومة بقوانين مرتبطة أسباب متعددة ومتشابكة وبالغة التعقيد , فنحن نعلم مثلا أن مرض السل لا يحصل لمجرد تلاقي الجسم مع جرثومة كوخ , وإنما يحصل لتضافر أسباب عدّة منها وجود الجرثومة ومنها ضعف الجسم ووهنه المرتبط هو الآخر بعديد من الأسباب الثانوية كرداءة المسكن والغذاء والحالة النفسية الخ ...

ومن ثمة يسعنا أن نقول أن الخصائص الذاتية للتفكير العقائدي ( والتي رأينا أنها مصدر قوته وضعفه في آن واحد ) ضرورية لتفسير التمذهب , وان وجودها لابد منه لكنها غير كافية لفهم هذا المصير وخلفياته المعقدة .

السؤال إذن : ما هي العوامل الأخرى التي تتضافر مع الأسباب الضرورية لتفرغ العقيدة من محتواها الثوري ولتجعل منها غطاء الاستبداد وتبريره ؟

والردّ : العوامل التكنولوجية .

حضـــارة = تكنــوايديــولـوجيـا



حتى نفهم عمق فشل المشروع التحرري الذي يشكل تمذهب العقيدة واجهته علينا أن نحاول الآن تحديد علاقة الإيديولوجيا في شكلها الثوري والسلطوي أي العقيدة بالتكنولوجيا .

من نافذة القول أن مشروع التحرر مرتبط أساسا بفعالية الإنتاج الفكري والمادي , فالتحرر من الفاقة والجوع والمرض رهين قدرة المجموعة على الإنتاج الكافي للغذاء واللباس والدواء الخ ... وقدرتها هذه مرتبطة بنوعية وفعالية تكنولوجيتها .

كذلك يمكن القول أن التحرر من الجهل والسوء التنظيم رهين غزارة إنتاج هذه المجموعة للعلوم والقوانين الحامية للحقوق المبدئية والشرعية ... أي بإيديولوجيتها . والإنتاجان مرتبطان أوثق الارتباط , ويتطوران عبر الزمان والمكان معطيان طابعا مميزا لكل حضارة . لذلك يمكن القول أن الحضارة ليست إلا تكنواديولوجيتها . فلنتفق منذ الآن على تعريف التكنولوجيا , ولنعترف أنها جملة الوسائل المعتمدة لخلق الثورة المادية أي أنها أساسا الطاقة والتقنيات (*) والمواد المنتجة .

هل يمكن إذا اعتمدنا هذا التعريف لأن نتحدث عن الحضارة الفارسية والحضارة الرومانية أو عن الحضارة الغربية والشيوعية ؟ 

قطعا لا , لأن التكنولوجيا  عند الفرس والرومان لا تختلف أساسا إذ ترتكز على استعمال الطاقة الحيوانية والبشرية كمصدر للطاقة , والأرض كمصدر الخيرات والتقنيات الزراعية لاستخراج هذه الأخيرة . كذلك نعرف أن الحضارة الغربية المعاصرة لا تختلف أساسا عن حضارة بلدان الكتلة الشرقية إذ ترتكز على الطاقات الجديدة كالفحم والبترول والذرة ... وعلى تصنيع المعادن داخل المصانع في حين تقل أهمية الأرض والطاقة العضلية بصفة ملحوظة .

إذ اعتبرنا أن ما يميز حضارة عن أخرى ليست الفروق البسيطة في التنظيم والتفكير وإنما طبيعة التكنولوجيا المعتمدة على تحقيق جزء من الحريات الثلاث , فإننا نستطيع أن نقول أن التاريخ لا يعرف إلى الآن إلا حضارات ثلاث وإنه بصدد الانتقال إلى حضارة رابعة .





 


(*) يلاحظ القارئ صعوبة الفصل بين تكنولوجيا والإيديولوجيا إذ سنجد الفكر في كل عمل مادي . والمادة وراء كل عمل فكري وهذا ما يجعلنا نقرر أن الحضارة ليست تكنولوجيا وإيديولوجيا وإنما تكنواديولوجيتها .






الحضــــارات الثـــلاث

أولها الحضارة البدائية , ونحن نعرف أنها دامت عشرات الآلاف من السنين . واعتمدت أساسا على الطاقة العضلية البشرية والحيوانية ثم على القوس والنشاب وعلى آلات بسيطة كالحجر المصقول لصنع المواد البدائية وللنقص . وقد عرفت في ظلها المجموعات البشرية الصغيرة ضرورة التحرك والتنقل الدائم جريا وراء الغذاء .

لذلك شكل اكتشاف التكنولوجيا الزراعية منعطفا خطيرا , حيث التصق الإنسان لأول مرة بالأرض معتمدا تقنيات جديدة لاستخراج جلّ غذائه مما يزرع , لكنه لم يستطع أن يتخلى عن الطاقة العضلية الحيوانية بل وزاد طلبه من الطاقة العضلية البشرية . ومن الجدير بالذكر أن هذا الانتقال الهائل من نمط حياة إلى نمط آخر لم يلغ النوع منذ الأزل من الحياة , بل عايشه طويلا ودخل معه في تنافس وفي حرب ضروس إذا اعتبرنا البداوة المظهر المتطور والأخير للحضارة الأولى . وقد عرفت الإنسانية المنعطف الثاني باكتشاف العمل الميكانيكي نتيجة التحكم في طاقة لا تولدها العضلات وإنما الفحم والمحروقات السائلة والذرّة . وقد مكنت هذه الطاقة بالإضافة إلى المعادن المتخرجة بكثافة من باطن الأرض من صنع آلاف المواد التي لم تكن تخطر ببال الفلاح , والتي كان البدائي عاجزا حتى عن تصور إمكانية وجودها .

لنلاحظ من جديد أن دخول جزء من الإنسانية للحضارة الثالثة لم يلغ الفلاحة , وإنما أدخل فيها تحويرات جذرية كانهيار عدد الفلاحين من الأغلبية الساحقة داخل المجتمع إلى أقلية لا تتجاوز نسبة 6% في بلد كأمريكا إضافة إلى تلقيح الإنتاج القديم بتكنولوجيا الإنتاج الجديد .

لنتساءل الآن عن طبيعة العلاقة بين التكنولوجيا والإيديولوجيا داخل الحضارة , وهي – كما قلت – علاقة المؤسسة تستعصي على الحل إذ لا يمكن فهم إحدى طرفي المعادلة بدون معرفة تأثير الطرف الآخر ويمكن تلخيص التأثير المتبادل هذا كالآتي :

1 – تحدد التكنولوجيا الشكل العام للإيديولوجيا , وذلك واضح وبيّن إذ ما اعتبرنا مثلا الماركسية , فوجود هذه الأخيرة وبروزها في غرب القرن التاسع عشر ليس وليد السلطة , وإنما نتيجة تضافر عاملين : أولهما دوام الاستبداد الطبقي وثانيهما الطابع  الجديد لهذا الاستبداد , فمن البديهي أن نظرية الخلاص على أيدي البروليتاريا رهينة وجود البروليتاريا نفسها وأنه لا وجود لهذه الأخيرة بدون وجود المصانع التي لم توجد هي نفسها إلا بعد اكتشاف الآلات الميكانيكية وتقنيات استعمال الفحم والبخار لتوليد العمل الميكانيكي وصنع المواد الضرورية . كذلك يمكن القول أنه كان من الحتمي أن تختار العقيدة الجديدة العقل كركيزة لمشروعها التحرري بما أنه وراء الاكتشافات التكنولوجية التي ولدتا . فلو لا التسلل المنطقي الذي أدى إلى اكتشاف متتابعة , فمن اكتشاف الطاقة الجديدة والتقنيات , إلى خلق المصانع وتكديس العمال فيها , إلى استغلالهم البشع , إلى ظهور حركات التمرد لما ظهرت الماركسية , لما اكتسب الشكل الجديد للمشروع التحرري ووجوده نفسه , ويصدق نفس التصور على عقائد الحضارة الثانية وتصوراتها إذ سنجد طابع التكنولوجيا الزراعية في كل فصول السيناريو للمشروع التحرري .

فلا يعدو الله في التصور الممذهب أن يكون فيها صورة مصعدة للإقطاع العادل أو سنرى فيه الجنّة كمزرعة كونية تتساقط فيها الثمار بدون حاجة إلى بذل الطاقة العضلية الخ ... والمراد من هذا الكلام ليس القول بأن هناك علاقة ميكانيكية بين التكنولوجيا والإيديولوجيا , وإنما التركيز على أننا لا نستطيع أن نفهم الإيديولوجيا كحقيقة مسقطة على الواقع ومستقلة عنه إذ هي إفراز من إفرازات هذا الواقع , وهو أساسا تكنولوجيا . فنحن نعرف أن الاستبداد موجود من بداية التاريخ , وأن رفضه تواجد منذ بروزه , لكننا لا نستطيع أن نفهم الشكل الذي أخذه هذا الرفض منذ نهاية القرن الماضي في شكل الماركسية بدون اعتبار تجدد المحيط الجذري عبر ظهور الآلة , والمصنع والتنظيم الصناعي وتكديس العمال في المدن وضرورة غزو الأسواق الداخلية والخارجية ( الإمبريالية ) لتصريف المواد المصنعة الخ ... وكلها ترتبات قفز تكنولوجية .

 معنى هذا أن شكل المشروع التحرري لكل حضارة محكوم بصورة مبهمة أو واضحة بالتكنولوجيا , إذ لا يخلق الفكر مشروعه هذا من عدم وإنما من " المواد الأولية "  التي توجدها هذه التكنولوجيا لتغذية الهيكل النظري . يبقى أنه يمكن للفكر أن يتصرف داخل هذه الحدود . فتأتي الخلافات الثانوية بين مختلف المشاريع التحررية لهذه الأمة أو تلك والناتجة عن تباين بعض الأسباب الموضوعية كالمكان وظروفه الطبيعية . إلا إن هذه الحرية النسبية داخل الإطار المفروض بمستوى تقدم التكنولوجيا لا تلغي أبدا خلافا لما تدعيه العقيدة أولوية الجزء التكنولوجي , لأن المشروع التحرري يتقدم أساسا بحركية هذا الجزء فقد ارتبط الانتصار على الأوبئة مثلا باكتشاف التلقيح ودور الماء الصالح للشراب , والصادات الحيوية . ولم يأت نتيجة حرارة ملايين الصلوات التي تصاعدت من المحتضرين وأهليهم على السماء . كذلك يمكن القول أن أمل حياة صلاة الاستسقاء سيتضاءل باكتشاف تقنيات زرع السحب بغاز الكربون لتمطر حيث شاء إنسان الغد . ومن البديهي كذلك أن اختفاء الرق في كل بقاع الأرض – مع بروز الحضارة الثالثة أي مع اكتشاف العمل المرتكز على الطاقات الجديدة – ليس وليد الصدفة إذ الأمران مرتبطان أوثق الارتباط فقد فشلت المسيحية في تحقيق حلم تحرر العبيد وهم أصحاب الديانة الثورية الجدية وبررت الكنيسة الكاثوليكية دوام العبودية ولم ينجح الإسلام كمذهب في تحقيق أمل المستعبدين الذين اعتنقوا العقيدة , والسبب في هذا بديهي , فقد أمضت هذه الأخيرة للمستعبدين شيك بدون رصيد , ولما تقدم هؤلاء لسحب فائض قيمة ووجهوا بالحقيقة المرة ألا وهي استعصاء كسر الطوق الحديدي المحكم حولهم .

نأتي على علاقة هذه الأخيرة بشغلها الشاغل بالمشروع التحرري . وهي كما سنرى علاقة معقّدة ازدواجية ويمكن تحديد أهم معالمها كالآتي :

- تمكن التكنولوجيا سواء في إطار الحضارة الثانية أو الثالثة من خلق كمية معينة من الإنتاج المادي التي تبقى دائما ودوما حاجة الأغلبية ومن ثمة , الصراع الحتمي بين الأفراد والطبقات والأمم .

- يكون التحرر نسبيا إما لأقلية طبقية على الصعيد الوطني , أو لأقلية إنسانية على الصعيد العالمي

( الأمم الغنية ) . فالقاسم المشترك بين عمل العبيد في أراضي روما وعمل البروليتاريا في مصانع منشستر في نهاية القرن التاسع عشر هو عذاب الأغلبية المنتجة والمقهورة تحاول الإيديولوجيا التخفيف منه أو إلغائه .

- هذا العذاب ليس نتيجة ظلم متعمد أو قسوة فطرية عند السادة بقدر ما هو مفروض بحدود التكنولوجيا ومستواها فلو كان لنبلاء وإقطاعي روما إمكانية استثمار أراضيهم بجرارات القرن العشرين لما توانوا عن ذلك . لا حبا في عبيدهم أو رأفة بهم ولكن للفارق الهام – من ناحية الفعالية – بين مردود الجرار ومردود الطاقة العضلية للعبد .

ومن ثمة , فإن حالة تكنولوجيا الحضارة الزراعية التي لم تبلغ المستوى الكافي من التقدم الذي يسمح لها بالاستغناء عن الطاقة العضلية البشرية الرخيصة هي التي جعلت الرق طوال سيطرتها أمرا ضروريا . وقد رأينا أن هذه الضرورة في غياب البديل التكنولوجي الصحي هي التي كانت ولا تزال في المجتمعات وراء التبتل على الأولياء لمحاربة الكوليرا أو صلاة الاستسقاء لتمطر السماء .

نفهم إذن ما الذي أدى إلى فشل كل ثورات العبيد أو أشباه العبيد من فلاحين في شتى بقاع الأرض إبان سيطرة الحضارة الثانية مثلا , وتعدد الانتفاضات اللافعالة التي تملئ كتب التاريخ من ثورة سبارتاكوس على رأس عبيد روما إلى ثورة الزنج في تاريخنا الإسلامي إلى تمرد الفلاحين في غرب القرون الوسطى الخ الخ ...

حقا ووجهت كل هذه الانتفاضات بمصالح القلة المستأثرة بأغلبية الإنتاج مع بذل المجهود الأقل وبالتالي , فالقاعدة هي أن كل مشروع تحرري مواجه منذ البداية بتكتل الطبقة السائدة ضده للحفاظ على مصالحها , لكن مقاومة هذه الطبقة لا تكفي لتفسير فشل المشروع التحرري العقائدي الدوري . فكم من مرة عبر التاريخ أطيح بالطبقة السائدة . كم من مرة تهيكل المجتمع ( رغم بعض الحالات الشاذة والتجارب القصيرة العمر كالجزر الخوارجية في بلدان المغرب مثلا ) على نفس النمط الذي واجهته العقيدة . بل لقد علمتنا دروس التاريخ أن الطبقة التي قامت ضدها الثورة العقائدية تستطيع عادة بعد فترة المقاومة أن تستولي على سلاح المهاجمين نفسه . وهو ما حدث مثلا في تاريخنا عندما استولى الأمويون على عقيدة الثائر الأعظم بعد أن حاربوه بكل قواهم في بداية الدعوة .

إن القضية أعقد بكثير مما نتصوره وهي تتجاوز وجود حاجز اسمه المصلحة الضيقة لطبقة المستأثرين للقسط الأوفر من المجهود الجماعي , والسؤال الحقيقي هو : لماذا تعاد بعد كل ثورة الهيكلة الاجتماعية الظالمة ؟ والرد هو من جديد: الحدود الموضوعية القاهرة التي تفرضها حالة ومستوى التكنولوجيا . لنتصور ترتبات إلغاء الرق وشتى أنواع استغلال أشباه العبيد من فلاحين " أحرار " في مجتمعات الحضارة الثانية .

إن من البديهي أن هذا الإلغاء لن يجعل العمل في الحقول ( أو في المناجم ) أقل صعوبة ومشقة من الناحية البدنية , ومن المؤكد كذلك أنه لن يرفع الإنتاج الجماعي بصفة هامة لأن إقبال العامل الحر بجد ونشاط على العمل في حقل هو سيده ليس إلا عاملا من جملة العوامل التي تتحكم في رفع الإنتاج وأكثر هذه العوامل أهمية خارجة عن نطاقه لارتباطها بالتقدم التقني وهو ما ندركه اليوم عندما نلاحظ أن وفرة الإنتاج الزراعي في بلدان كأمريكا أو كندا ليست مرتبطة لا بعدد الفلاحين ولا بعدالة توزيع الأراضي وإنما بظهور التقنيات الصناعية التي تتيح لطبقة لا تتجاوز 6% من سكان أمريكا تغذية نصف العالم في حين أننا نرى بالمقابل بلدا كالاتحاد السوفياتي يطبق نظاما أكثر عدلا في توزيع الأراضي وغير قادر على تغذية سكانه .

لنتصور تساويا مطلقا بين الفقر والخصاصة تفرضه بالقوة إيديولوجيا ترفض الانصياع لترتبات القصور التكنولوجي وندرة الأرض , فما من شك أن مجتمعا كهذا لن يكون بالمثالية التي قد تبدو بديهية منذ أول وهلة , فالتوزيع العادل للعذاب لا يلغي العذاب , وليس بالضرورة المدخل الأوحد لإزالته . أضف إلى هذا أن مجتمعا كهذا لن يعرف تراكم الثروات المادية والفكرية والفنية التي تعرف أن الظلم هو مؤسسها , فقد كان المبدع ولا يزال طفيليا يعيش من عرق العامل والفلاح إذ يستهلك طاقته العضلية المباشرة لكي ينتج ما قد يكون نافعا له ( الدواء ) , وما لا يكون ( الفن ) . وندرة هذه المجتمعات عبر التاريخ أو قصر عمر كل المحاولات لإنجازها لأصدق شاهدا على استحالة هذا السيناريو لأسباب تكنولوجية وذاتية , أهمها أن الإنسان إن لم يكن بالطبيعة شيطانا فهو ليس ملاكا وإنما هو ملاكشيطان تتجاوز فيه الطبيعتان , ولابد من ظروف موضوعية ليتغلب مؤقتا جزء من الطبيعة على الجزء الآخر وهو مكون وثابت , فالظاهرة القارة إذن هي التهيكل الظالم للمجتمع كحل لمواجهة الندرة والقصور التكنولوجي . إذ يمكن هذا التهيكل من تحرير جزء ضئيل من المجتمع من الجوع والفاقة ولو كان ذلك على حساب الجزء الآخر بانتظار البحث عن بديل تكنولوجي يلحق البقية بركب المحررين .

ومن ثمة فإن السيناريو التاريخي لا يطمح لتحقيق المشروع التحرري عبر شكل فجي من العدالة وإنما عبر فعالية متزايدة للتكنولوجيا حسب سيناريو كالآتي :

- ضغط كبير من المحيط على الجماعات الإنسانية ,فالسماء لا تمطر خبزا ولا دواء ولا تفسيرا للكون يزيل الخوف من الموت .

- بحث مستديم عن طاقة وتقنيات ومواد تفي بحاجيات الإنسان وهي مادية –فكرية – معنوية تنظيمية . ومن ثمة , إيجاد تكنوايديولوجيا تشكل لب الحضارة .

- مواجهة نقائص  وثمن التكنولوجيا التي وضعت في زمن ما ومكان ما . والثمن عادة فادح لأن المجتمعات لا تنجح في تحقيق أهدافها –إن نجحت –إلا عبر تجارب طويلة ومريرة . ومن ثمة , يمكننا أن نتوقف عند أي لحظة من التجربة العظمى لنقيم حالة النجاح النسبي . والفشل النسبي وهو ما نحن بصدد التعرض له في مثالنا هذا . إذ نرى أن حاجيات الزراعة فرضت الرق والتصور الفرعوني للإله الدولة المركزية لتنظيم الري والدفاع عن الحقوق ضد المجموعات الفلاحية الأخرى أو البدو , مع تمكين المجتمع من مواجهة متفاوتة النجاح للجوع والعراء وتوفير الظروف الموضوعية بأقلية تستطيع التفرع لإنتاج الجزء الغير الملموس والهام جدا من حاجيات الإنسان الروحية والفكرية . أي إنتاج الأفكار والقوانين والفنون . ومن ثمة , نفهم ضرورة الإنتاج الإيديولوجي ودوره الرئيسي والمعقد . إلا أنه من الواضح أنها تصطدم بآثام وحدود التكنولوجيا عاجزة عن التقدم شوطا بعيدا , بل سنرى ما سيدور في حلقة مفرغة من الانتفاضات والتهيكل الاستبدادي المذهبي الدوري . لذلك , فإننا سنواجه عبر التاريخ بالبحث الدائم عن بديل تكنولوجي يمكن المشروع التحرري من معالجة الجزء السببي من المشكل . إن الذي حرر العبيد وألغى الرق ليس المسيح وإنما المهندس الإنجليزي "واط " مكتشف توظيف البخار في العمل الميكانيكي هذا الاكتشاف الذي أدى بدوره إلى الاستبداد الرأسمالي الصناعي الذي ولد الماركسية ... التي ... الخ .

ومما لا شك فيه أيضا أن الخصائص الشمولية للفكر ستتبلور أكثر فأكثر عند مواجهة لأي صعوبة ما , وأحيانا يستحيل تغيير الواقع التكنولوجي , فتتصلب تلك الخصائص مثلما تتصلب العضلة وهي تواجه مقاومة حمل ثقيل يصعب تحريكه وتضيف داءها إلى داء التكنولوجي . ومن مظاهر هذا التصلب عنف الحركة العقائدية التي تريد التغيير , وعنف الحركة المذهبية التي تقاوم هذا التغيير . يبقى للإيديولوجيا دورا لا يستهان به , إذ تستطيع أن تلعب دور المسكن في إطار مرض لا تملك له علاجا وأن تكون في نفس الوقت صراخ وألم ونضب الإنسان الخائف المريض الباحث عن الشفاء .



والخـــــلاصــــــة !

ماذا يمكن أن نستنتج عمليا من هذه النظرية ونحن في خضم فصول جديدة من المعركة الطاحنة القديمة والمتجددة؟

أول فكرة تفرض نفسها ببداهتها أنه لا تحرر بدون قفزة تكنولوجية .

إن الإرادية الإيديولوجية غير قادرة وحدها على توفير مواطن الشغل , تحسين ظروف العمل ,وخلق الثروات المادية الكافية لإشباع حاجيات الأغلبية من غذاء وملبس ومسكن ودواء . ولقائل أن يقول أن النقاش في هذه النقطة غير مجد لأنه بديهي و فلا أجد أحدا يناقش في أهمية العوامل الاقتصادية , ولا أحد يجهل ارتباطها بمستوى وحدود التكنولوجيا , إلا إن الاعتراض بنفسه قابل للنقاش . فقد تجذر الإيمان بعد فشل الثورة الأولى وسائر الانتفاضات التي تلتها بأن القضية هي أخلاقية دينية في المقام الأول ثم اقتصادية سياسية في الآخر , والحل أن العكس هو الصحيح أضف إلى هذا أن قضية البديل التكنولوجي لازالت غامضة في الأذهان , بل قل أن طرحها لا زال بدائيا وذلك لسببين :

- نحن نعتقد أننا نستورد التكنولوجيا كجملة من التقنيات المحايد إيديولوجيا , والحال أنها تنضج بالإيديولوجيا لأننا رأينا أن لكل تكنولوجيا بالضرورة ترتبات هائلة على الصعيد الفكري والتنظيم للمجتمع .

إننا غير واعون بأننا نستورد تكنولوجيا الحضارة الثالثة ونتعامل معها بعقلية الحضارة الثانية . في حين أن ملامح ثورة تكنولوجية عارمة أخرى قد بدأت تتضح في الأفق مع كل ترتباتها الإيديولوجية الممكنة .

إنني لا أعجب من شيء قدر عجبي من القائلين في الوطن العربي اليوم أن قضية التحرر هي إيديولوجية مع التفاتة عابرة وسطحية للتكنولوجيا وكل ما يتعلق ويرتبط بها .

لذلك لابد من التركيز والقول انه إذ كانت التكنولوجيا جملة الوسائل والأدوات لخلق الثورة الجماعية وحتى الفكرية, وإذا كانت قضية الإنسان هي تحقيق الحريات الثلاث فان البديل التكنولوجي هو بالضرورة محور كل نظرية تحررية مستقبلية وإنه ليس لأي خطاب إيديولوجي خاصة إذا كان ينتمي إلى حضارة سابقة أي حظ في دفع المشروع التحرري قدما على الأمام , بل العكس هو الذي حصل وسيحصل دوما .

فماذا تقول هذه التكنولوجيا , أي ماذا عن خصائصها الجديدة وامكانية تفويضها في عملية التحرر ؟ أول ما يجب ملاحظته أننا لا نقد خطورة القفزة التكنولوجية أمام الثالثة التي غزتها في عقر دارها – إن صح التعبير – مغيرة حتى طرف تعاملها مع الأرض , وتواجه أيضا بالضرورة إيديولوجية منافستها التي حملتها معها من المراكز التي نشأت فيها وأخذت منها انطلاقتها .ومن البديهي أن الصراع الإيديولوجي القائم اليوم في الجامعة لا يعكس إلا تنافس الحضارتين نفسهما وإننا نشهد في كل ذلك مظاهر حياتنا ( اللباس , التفكير , التصرف الخ ... ) حولنا وحتى داخلنا فصول هذا الصراع الذي لا يمكن أن ينتهي إلا بهضم الجديد للقديم .

إن مثل هذا الصراع يحدث شرخا وتمزقا في الذات نفسها وفي الشخصية الجماعية , لأنه من الصعب أن نوفق بين متطلبات بنيتين فكريتين متناقضتين , لذلك ترانا نحاول الاستئصال أو التوفيق , والحال أننا عاجزون عن كليهما فنحن لا نستطيع مثلا – إذا ابتغينا المحافظة على شخصيتنا الموروثة عن الحضارة الثانية – أن نرفض تكنولوجيا الحضارة الثالثة لأنها النظارة التي تمنع من شبه العمى , وحقنة الأنسولين التي تحمي الحياة , والسيارة التي بها ننتقل الخ ... وهذه التكنولوجيا مرتبطة بإيديولوجيتها ارتباط الرأس واليد في نفس الجسم . لذلك , غزتنا الماركسية والليبرالية والأمل في استئصالهما كأمل الذين قبلوا الحضارة الثالثة برمتها تكنولوجيا وإيديولوجيا أنه يمكن استئصال إيديولوجيا حضارة لا تزال تتحكم في نصف المجتمع الذي لا يزال مرتبطا بتكنولوجيتها بصفة أو بأخرى, لا لشيء إلا لأن نصف الناس في تونس مثلا مرتبطون بصفة أو بأخرى بالنمط القديم للفلاحة .

إلا أن وضعيتنا تزداد صعوبة وتعقيدا بفعل قانون تصاعد سرعة التغييرات الذي يعرفه تاريخ الكون , وأن تاريخ الإنسانية الذي يشكل جزءا منه . فقد رمى هذا التسارع في أعناقنا – ونحن لم نهضم بعد تكنولوجيا وإيديولوجيا الحضارة الثالثة – تكنولوجيا الحضارة الرابعة وذلك في أقل من قرن من الزمان , وهو حدث لم يعرف له التاريخ شبيها على الإطلاق , فلم يوجد في التاريخ قط جيل عايش تصادم ثلاث حضارات في نفس الوقت .

إن تكنولوجيا الحضارة الرابعة من أقمار صناعية , وصواريخ وطائرات وروبو , وعقول إلكترونية مختلفة تمام الاختلاف عن تكنولوجيا الحضارة الثالثة التي ( لا زلنا نستوردها غير واعين بأن الزمن تجاوزها ) , ولابد لها من تأثير على حياتنا اليومية . من منا يقدر عمق التغير الذي أحدثه المراقب الجبارة بما ولّده من اكتشافاته على تصورنا للكون . فإذا به كائن حيّ يتطور هو الآخر وتتمخض أحشاؤه عن نجوم وكواكب هنا وهناك في طفولة دائمة لا تتوقف عن الخلق والإبداع , ومبرمج للموت هي الأخرى , لكن على مستواها الجبّار . وهذه الصورة المخالفة تماما لكون الحضارة الثالثة ( الآلة الصماء العمياء ) وكون الحضارة الثانية ( مزرعة الإقطاعي الأكبر وعبيده الصالحين )  كذلك أدخل تكنولوجيا المواصلات الحديثة من طائرات نفاثة أقمار صناعية وهاتف وعقول إلكترونية الخ ... تغيرات جذرية على طبيعة العلاقات البشرية , حيث جعلت من العالم أكثر من أي وقت مضى شبكة موحدة يتأثر أبعد وأبسط جزء فيها بما يجري داخل الشبكة وهو ما يفرغ يوما بعد يوم مفهوم الاستقلال الوطني والقومي من كل محتوى حقيقي , أما تأثير التكنولوجيا الجديدة على الحياة فواضح كل الوضوح في دور الاكتشافات الطبية , وفي السيطرة المتزايدة على موارد الأرض ,وفي ما يمكن أن تقدمه علوم كالهندسة البيولوجية في استغلال الجراثيم في صنع ما نحتاجه من غذاء ودواء الخ ...

ومن البديهي أن فعالية هذه التكنولوجيا الجديدة أهم من فعالية كل ما اخترع الإنسان سواء طوال الثانية أو الثالثة . وهذا أيضا قانون تصاعد فعالية التكنولوجيا عبر التاريخ , فهل معنى هذا أن دفع المشروع التحرري قدما يمر إجباريا بالتمكن من هذه التكنولوجيا وتطويرها ؟

قطعا نعم . فمما لا شك فيه أن توفير الحريات الثلاث رهين بقدرتنا على إنتاج متزايد كما ونوعا لهذه التقنيات الجديدة التي تحدد الآن وربما لسنوات عديدة مقبلة مستوى التحدي المفروض علينا تجاوزه , لكن من السذاجة أن نغفل عما تحتويه هذه التكنولوجيا من إمكانيات توضع تحت تصرف الاستبداد .

وقد يلاحظ القارئ هنا نوعا من التناقض , فمن جهة ندعي أن القفزة التكنولوجية قادرة على الغاء إحدى دعامتي التهيكل الاستبدادي للمجتمع أي القلة والخصاصة ومن جهة أخرى نقرر أنها قد تكون هي الأخرى خطرا دائما على المشروع التحرري . فلابد هنا من التحري والتوقف .

فالتكنولوجيا لا تقلب وضعية المستعبد بين عشية وضحاها حتى وهي في ظل قانون تسارع التاريخ بحاجة إلى مهلة من الزمن تطول أو تقصر , وبحكم اقتراب السادة من مواقع القرار والخلق والإنتاج , فإن توظيف هذه التكنولوجيا لصالحهم أمر لابد منه في البداية , لكن الطبيعة الانفجارية لتطور التكنولوجيا المعاصرة لا تسمح طويلا بوقف الهاتف والمصل الواقي من الحصبى على جزء ضئيل من المجتمع حتى وإن تمكنت الدولة مبدئيا من جهاز كالتلفزة لنشر إيديولوجيتها , مع العلم أن السم نفسه في الدسم لأن التلفزة تفتح بالضرورة أعين الناس على حقائق تستحيل التعتيم عليها طويلا أو تبريرها .

لكن خطر التكنولوجيا على المشروع التحرري ليس في هذا بقدر ما هو في إفرازاته الثانوية و وهو ما ننساه دوما في إطار تشبعنا ( إن لم أقل تسممنا ) بفكرة التقدم .

فنحن نعرف أن مثل هذه النظرية وهي ليست إلا نظرية تبين أن الأمور تتقدم في طريق خط زمني مستقيم , وتتطور " طبيعيا " من حسن إلى أحسن . ومن ثمة , أصبح التقدم رائدنا وشعارنا المفضل نلوكه بدون ملل دون أن نتساءل عن معناه وخاصة في جديته , وربما أصبحنا اليوم قادرين على الحسم في هذه الفكرة بعد أن وفر لنا التاريخ المعاصر جملة من التجارب تركز جميعها على بعض البديهيات التي أغفلناها أو حاولنا التغافل عنها ومن أهمها , أننا لا نستطيع أن نتحدث عن التقدم في الاقتصاد أو في الفكر أو في السياسة الخ ... إلا إذا كان التجارب والأحداث ترفع تدريجيا من مستوى الإيجابيات , وتخفض من مستوى السلبيات . إلا أننا نعلم اليوم بعد قرن من مقارنة الإيمان بالتقدم كما نراه حولنا  , إن مثل هذا التقدم سيناريو من جملة السيناريوهات التي يوفرها لنا التاريخ وليس السيناريو الأوحد فنحن نلاحظ التواجد الدائم لسيناريوهات ترفع من السلبيات وتخفض من الإيجابيات كموت الأفراد , والتحجر العقائدي , وموت الدول وانقراض شعوب أو أصناف من الحيوانات الخ ... ولا يمكن أن نتحدث البتة في خصوصها عن تقدم وإنما عن اندثار وتأخر وتفكك .

أما ما نستطيع أن نلاحظه في الميدان الذي يهمنا – أي التطور التكنولوجي عبر التاريخ – فهو الارتفاع الهائل في القدرات والإيجابيات إذا يمكن مقارنة إنتاج المجموعات البدائية من الغذاء واللباس والدواء بقدرة المجموعات الفلاحية التي تبقى بعيدة كل البعد عن طاقة إنتاج المجموعات الصناعية . ومن المؤكد أن تكنولوجيا الحضارة الرابعة – كما بدأ يتضح ذلك من الآن – ستكون أغزر وأحسن وأغنى بكثير من إنتاج هذه المجموعات الأخيرة . مع العلم أننا لا ندري ما سيأتي بعد هذه الحضارة إلا أن ارتفاع فعالية الإنتاج بشتى أشكاله يتماشى في نفس الوقت مع ارتفاع هام في السلبيات التي تولدها أوتوماتيكيا التكنولوجيا سواء بثمنها الباهظ أو بترتباتها المختلفة , فالتكنولوجيا البدائية لا تسمح بإنتاج الكثير لكن فعاليتها في التدمير قليلة أيضا وقدرات الحضارة الثانية في ميدان الإنتاج أضعف بكثير من إمكانيات التكنولوجيا الصناعية الثالثة , لكنها لا تلوث البيئة , ويبقى ثمن الإنتاج في إطارها في الحقل بدنيا ونفسانيا أقل بكثير من ثمنه في المصانع الآلية البدائية التي عرفها غرب القرن التاسع عشر.

كذلك نلاحظ في ميدان التعامل مع الحياة . أن قدرة التكنولوجيا ترتفع حضارة بعد أخرى وقرن بعد قرن , فنحن قادرون على التغلب حتى على تخليد إمكانيات الجسم لكننا نعرف أيضا تصاعدا موازيا في إمكانيات القضاء على كل أصناف الحياة . فقد كانت قدرة القتل بالعصى والنيبال محدودة في بداية التاريخ , كما أصبحنا اليوم نقيس مقدرة القنابل الذرية , بمقياس اسمه المليون قتيل Megadeath . هذه الظاهرة أي التقدم المزدوج في الإيجابيات والسلبيات تذكر بظاهرة تصاعد قيمة الرهان , لأن قيمة ما نربحه في رهاننا مع الزمن تتزايد مع تزايد خسارتنا الممكنة . معنى هذا أن تأثير التكنولوجيا على صعيد الإشكالية التي تشغلنا ليس بسيطا بل هو بالغ التعقيد . فهذه الأخيرة تلعب في نفس الوقت دورا هاما في عملية التحرر عندما تضع بين أيدينا وسائل متطورة لتحقيق الحريات الثلاث كزرع الصحراء , واستغلال الطاقات الجديدة , واستخدام الإعلامية والقمر الصناعي , وكل الأجهزة الممكنة لتعميم الوعي والثقافة ... وهو ما يعطي للتحرر من الفقر والحرمان والجهل إمكانيات جبارة . لكن من الواضح أيضا أن هذه التكنولوجيا محملة بأخطاء قد لا نستطيع التصدي لها كتحطيم ثقافتنا ولغتنا نظرا لغزو الثقافات الأجنبية المكثف عبر الأقمار الصناعية ( وفي إطار تأخر إنتاجنا الفكري الذي لن يصمد أمام المزاحمة ) كذلك يمكن أن نخشى على آخر ما نملك من حريات نظرا لاستعمال الدولة الاستبدادية لإمكانيات الإعلامية , وكل وسائل المراقبة والقمع المادي والأدبي , فنواجه بشكل مقنع أو واضح استبداد لم تعرف معركة التحرر طوال التاريخ نظيرا له من ناحية الجبروت والمتانة .

ونحن لا نستطيع أن نجزم بالطبع إن كانت التكنولوجيا ستحقق الإطار المادي على الأقل لعالم أقل نفعا وشراسة أم أنها ستعطي لقوى القمع في الداخل والدمار في الخارج وسائل هائلة .

يقول المتفائل بالفرضية الأولى والمتشائم بالفرضية الثانية والمتسائل بالتواجد الضروري والمتوازن للنزعتين , لكن كل كلام مجرد فرضية ولن يبت في الموضوع غلا من سيتبعنا على خط الزمان , فيقيمون مثل ما نقيم نحن من سبقنا وتجاربهم على نفس هذا الخط , وبما أن المستقبل ليس بالضرورة قطيعة كاملة مع الماضي وليس بالضرورة امتدادا له , وبما أننا لا ندرك ما تخبأ لنا الأقدار من اكتشافات تكنولوجية وثورات إيديولوجية وأن نكتفي بالرهان على موقف يفرض نفسه , ألا وهو ضرورة ربط تقدم المشروع التحرري في العلم وفي الوطن العربي على وجه الخصوص بقدرتنا على استيعاب هذه التكنولوجيا وعلى المساهمة دوما في تطورها لأن القضية هي دفع المشروع التحرري إلى الأمام في سباق غير مضمون العواقب مع غرائزنا المدمرة , والتي تعهدتها أحقاب وعقود من الخصاصة والحرمان والتطاحن على القليل الذي ننتجه , فأصبحت عاملا متفردا بذاته يستطيع أن يغلب عيوب التكنولوجيا على حسناتها حتى وإن وفرت لنا يوما كل إمكانيات التحرر .

وتبقى القضية الأخيرة الأخرى مطروحة بدون حل , كيف نهضم هذه التكنولوجيا بإيديولوجيتها الواضحة أو المبهمة وقد تقاسمت عقولنا الإيديولوجيا المتقدمة عليها , أكانت في ثوبها الغيبي أو المتعلمن .

كيف يمكن أن نوظف إيديولوجية هذه التكنولوجيا لصالح المشروع التحرري توظيفا محكما ؟

وللرد على السؤال , يجب أن نفهم أن الإنسان وقود التاريخ وفي نفس الوقت قائده ومن ثمة , ضرورة الفصل بين مستويين : مستوى القدر التي تغلي فيها الطبخة , ومستوى الطباخ الذي يمكنه أن يضيف إلى ما يغلى في هذا القدر من توابل جديدة تستطيع أن تغير مذاق الطبيخ وحتى تكوينه . فمن البديهي أن التطاحن الإيديولوجي الذي يقسم السريرة إلى شطرين دون أن ينجح أي موفق ولو كان ابن رشد في رأب الصدع مؤهل لأن يتواصل أحقابا طويلة إلى أن تتم عملية هضم الإيديولوجيا المنتصرة لما سبقها . فقد قلت أن عملية الهضم لا تؤدي بالضرورة إلى الإلغاء, فقد بقيت المعطبات الإيديولوجية للحضارة الأولى موجودة داخل الإيديولوجيا الدينية للحضارة الثانية في شكل خلف كانقلاب الآلهة القديمة إلى قديسين وأولياء صالحين يمارسون دور همزة الوصل بين الإنسانية المعذبة والإدارة السماوية التي أحدثت فيها الثورة الزراعية تغييرات جذرية بمركزتها وتوحيد صلاحياتها . كما استطاعت إيديولوجيا الحضارة الثالثة هضم التصورات الدينية الغيبية للحضارة الثانية داخل الغرب المعاصر . وهذا كما نرى ليس توفيقا كالذي نبحث عنه منذ قرون , لأن العملية لا تفصل بين ميدانين – تكنولوجي عقلاني وإيديولوجي – حسي فتخصص لكل ميدانه , وتقرر بأنه لا تضارب ولا تناقض بينهما وإنما هي عملية أكثر خطورة وعمق , حيث تهجر الإيديولوجيا القديمة وتضيق صلاحياتها تدريجيا وتتراجع من مركز الصدارة إلى ما وراء الركح مع طفرات عنيفة لمحاولة استعادة مركز الصدارة هذا , وتبوء لإيديولوجيتها الخاصة التي لا يمكن قهرها إلا بتكنولوجيا متقدمة عليها وأكثر فعالية منها لا بالتراجع إلى ما سبق .

لا غرابة في هذا الصراع لأن الإيديولوجيا كائن حي بأتم معنى الكلمة . فالحياة ليست خصائص الكائنات البيولوجية فحسب , وإنما هي من خصائص الكائنات الفكرية أيضا . والكائنات لا تموت بسهولة , وإنما تقضي جزءا هائلا من الحياة في محاولة يائسة للبقاء الدائم إذا أمكن . لذلك سنرى أن كل إيديولوجيا تسخر كل ما يمكن تسخيره من ناس وفكر وعنف للسيطرة والديمومة , لكن قانون الكون الأول لا يسمح لأي حي بالخلود لأن قانونه هو التغير الدائم . لذلك أقول أن على المرء أن لا يتعجل الطبخة وأن لا يحاول التصدي لها , فقوانين الكون الجبارة سارية المفعول على أجسامنا ومعتقداتنا مهما تشبثت بالحياة . ومن ثمة , فإنني أجزم أن الصراع بين الأصالة والتفتح , الإيمان / والإلحاد , والعقل / النقل , والمعقول / واللامعقول وسائر ما يطلق من التسميات لوصف بعض المضاعفات الفكرية والسياسية هنا وهناك الناتجة عن التطاحن التكنوإيديولوجي لحضارتين مختلفتين سيتواصل زمنا لا يمكن تحديده بالضبط وأن نفس العملية ستجدد على مر العصور كلما تغيرت المعطيات التكنولوجية , وأن قوى التحرر والاستبداد ستستمد دوما أسلحتها من هذا الصراع وتشارك فيه بهذه الأسلحة .

هل يعني هذا أننا مسيرون لا مخيرون لا من قبل قوة غيبية قاهرة ولكن من طرف قوة تكنولوجية , إيديولوجية . وأن علينا أن نكتفي بمحاولة الطفو على سطح هذا المحيط المضطرب الذي تتحرك في أعماقه طبقات جيولوجية جبارة لا قبل لنا بالتعرض لها , والقول أننا دورنا على تواضعه في دفع المشروع التحرري إلى الأمام يقتضي منا دوما أن نحاول إضافته إلى ما يغلى في قدر التاريخ دون أن نجزم بشيء .

يصبح السؤال عندئذ ما الذي يمكن أن نضيفه من تصورات وأفكار تكون في خدمة التحرر بعد أن اقتنعنا بالنصف الآخر للمعادلة أي ضرورة هضم البديل التكنولوجي والعمل دوما على تطويره ؟ لنركز من جديد على أن الثورة التكنولوجية تولد الثورة الإيديولوجية وتتولد عنها في إطار العلاقة الدائرية والترابط الوثيق الذي يجب أن لا نغفل عنه لحظة واحدة .

لقد رأينا ترتبات الليسنكية على الصعيد الفكري والسياسي , لكننا لاحظنا أيضا أنها سببت كما يقول مدفدف تأخرا رهيبا في ميدان العلوم البيولوجية في الاتحاد السوفياتي . فالاستعمال الاستبدادي للخصائص الشمولية والكليانية لا يجمد المشروع التحرري كإيديولوجيا فقط ولكنه يهدد خاصة جزءه التكنولوجي في تحجير التفكير والتجربة والتقييم فقط , وكبح جماح العقل داخل إطار ضيق وحدود مغلقة . فهو إذن عامل من عوامل تأخر الاكتشاف التكنولوجي لأن الحرية الفكرية كل لا يتجزأ إذ يصعب حضرها هنا وقبولها في ميدان آخر . ولربما وجب في هذا السياق على منظري التخلف العربي والإسلامي أن يتساءلوا عن مساهمة قمع الصوفي الحلاج وابن المقفع الناقد والموفق ابن رشد في عدم اكتشافنا للبخار قبل الإنجليزي " واط " وأن يحاولوا اكتشاف الصلة بين انتصار قاليلي على البابا وبين انفجار المعارف التكنولوجية في الغرب مما مكنه من التغلب على العالم الإسلامي والاستبداد به إلى يومنا هذا .

إن هضم التكنولوجيا الجديدة والعمل على تطويرها مرتبطان بالضرورة بتغييرات جذرية في طرق تعاملنا مع العالم وفهمه . فعلى الصعيد المنهجي نحن اليوم مطالبون بتجاوز العقل الرشدي والعقل الماركسي على حد السواء, لأن القضية لم تعد في محاولة إثبات تطابق العقل والحس أي المعقول واللامعقول أو وقف الأول دول الشاهد والضامن والسند للثاني , ولم تعد أيضا في محاولة إثبات توافق وهمي بين كون المعقد بسببية بسيطة بل ساذجة , فالعقل المعاصر الذي فرضته التكنولوجيا والذي تخلقه لكي يخلقها وتدعمه لكي يدعمها , كما تخلق النبتة البيئة التي تتعهدها , هو عقل حركي بناء – هدام , تجريبي – تقييمي , له صلة وثيقة بالحس لا كمنافس لخصم يوازيه قوة وأهمية , وله ميادينه الخاصة ولكن كرديف يمكن تفويضه في بعض الحالات مثلما هو الحال في الخيال العلمي, حيث يطلق العنان للمخيلة لتحمل إلى السطح شطحاتها , فيصفي منها العقل ما أمكن , والعقل في هذه الحضارة غاز لا يتقيد بحدود إذ أدخل في ميدان صولاته وجولاته كل صلاحيات الفكر القديم , وهو لا يبالي باحتجاج ابن خلدون على حدوده المزعجة أي عجزه عن الإطاحة " بجميع الأسباب والوصول عبر سلاسل الأسباب إلى مسبب الأسباب " .

لا أدري موقف ابن خلدون الذي آمن بأن السحر علم من هذا العقل الذي قاس طولا وعرضا وزنا بنجومه وكواكبه وحدد عمره ومراحل تطوره , وخلق عوالم خيالية واقعية نحبسها في آلاف التسجيلات السينمائية  التي تعيدها إلى الحياة عبر شاشة التلفزة في إطار سهراتنا العائلية .

فلا شك أن ابن خلدون الذي كانت تكنولوجية عصره متواضعة إلى أبعد حدود التواضع وكذلك علومه , كان سيعيد النظر في دور العقل وأهميته لو عايش ما نعايشه من طفرة تكنولوجية وعلمية , فالساذج وحده من يعتقد أن تقييمه للعقل وتقييمنا نحن اليوم غير مرتبطين بواقعنا المعاش ولا ينبعان منه مباشرة . معنى هذا أن الفكر العربي مطالب اليوم في إطار المشروع التحرري بتجاوز النقاش القديم والمبتذل لأنه لا تحرر بدون العقل لا لشيء إلا لأنه وحده القادر على نقد التعلمن والعلمانية كإيديولوجيا مضللة , ولأنه وحده القادر على تقصي كل عيوب التكنولوجيا وكل جدودها وعلى البحث المستديم عن بديل يقع به تجاوز التجاوز .

إن كلن للتحرر هدف يجذبه ومحرك اسمه الحاجة يدفعه فإن العقل هو البوصلة التي ترسم له وجهة الطريق ودونها يضيع نهر المشروع التحرري في مستنقعات الاستبداد ولربما أصبحنا نعلم اليوم أن أهمية خاصية في العقل هي وظيفة التقييم الدائم لكل ما ينتجه الإنسان من كلام وفعل , وأن تقدم المعرفة والتجربة التي يسمح بها مرتبطة أشد الارتباط بهذا التجاوز الدائم المبني على المحاسبة الدائمة , ومن البديهي أن هذه الخاصية هي أهم ما نحتاج غليه اليوم حتى لا نقع فريسة أخطائنا وأوهامنا وأن حرية العقل هي الضمان الأوحد لتقدم المشروع التحرري بشقيه التكنولوجي والإيديولوجي .

يبقى أن نقول أن اعتماد العقل والعقل وحده لا يمكننا من اكتساب أداة التحرر المثلى , فالعقل يحمل مخزونا هائلا من العنف والسيطرة إن لم يطمع بتوجه أخلاقي , ومن أهم معالمه التسامح رغم أم لهذا العامل وضعية معقدة حيث هو في آن واحد نتيجة خمود الصراعات وسبب من أسبابه . فهو الذي يغذي اليوم الأعراض عن المبتذلات التي تعرضنا لها في البداية لأننا ندخل بالنقاش والصراع التفاضلي في دوامة الإيديولوجيا . فمن مصلحة السادة توجيه العنفوانية المترتبة عن فشل المشروع التحرري إلى الجماعات الأخرى , إما لأنها تستطيع أن تستوعب فائض العنفوانية التي يشكل وجوده عامل انفجار يهدد مصالح الاستبداد فمن الضروري إذن وضع الخط الفاصل لا بين هذه العقيدة وتلك وإنما بين دعاة التحرر ومبرري الاستبداد في كل عقيدة .

هكذا تنتفي كل جدية وكل أهمية للنقاش التفاضلي , كما تتبخر المشكلة المصطنعة حول مدى حقيقة الكلام وصدق مقولاتها لأن لب الإيديولوجيا ليس العلم وإنما الفعل ومن نافلة القول أن مثل هذه النظرة قادرة على إرساء التسامح على دعامة أمتن من القبول الممتعض وفي بعض الأحيان المنفق للعقائد الأخرى إذ تصبح هذه الأخيرة عبر اشكالياتنا , الجزء النظري للمشروع التحرري لجماعات بشرية مختلفة في الزمان والمكان تعاني مما نعانيه , وتطمح إلى ما نطمح إليه وليست نظريات منافسة على قول الحقيقة أو يشكل وجودها نقضا واضحا أو مبهما لادعائنا بامتلاكها ومن ثمة هي خطر علينا إزالته إن أمكن أو محاصرته أو تطويقه إن استعصى القضاء عليه .

ومن الطبيعي أن تغيير نظرتنا هو نفسه جزء من تحررنا لأننا نتحرر هكذا من التعتيم والمغالطة ومن المشاكل المصطنعة التي تلهينا بالقشور عن اللب . واللب من جديد هو استعمال الدافع الإيديولوجي لإعطاء المشروع التحرري حركية أكثر . فالقضية اليوم ليست في الانتصار لهذه الإيديولوجيا أو تلك وكأنها في حد ذاتها وكل متكامل نأخذ به كله أو نتركه كله , وإنما إعطاء المشروع التحرري نفسا جديدا بهيكلته على العقل المتسامح طبعا وبتحديد أهدافه الجديدة التي ستشكل مقدسات القرن المقبلة : حقوق الإنسان  وأساسا جزئها السياسي : الديمقراطية .