dimanche 29 juin 2014

الإسلام والحداثة

الدكتور روجي غارودي :   

ترجمه عن الفرنسية: الدكتور العربي كشاط :
روجيه غارودي إن خمسة قرون من هيمنة الحضارة الغربية; أدت إلى تلويث الطبيعة واستنفاد مواردها وقدرة تقنية على إتلافها، وانفجار في مستنقعات السوق، التي فاقمت العنف، وسعرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة، وعمقت الهوة بين شمال مستقطب للثروات المتناقصة وجنوب يتضور جوعًا.
تقتضينا دراسة ما بين الحداثة والإسلام من علاقة أن نبدأ بتعريف (الحداثة ) في منظور ثقافة عالمية متعددة، وليس من زاوية نظر ثقافة أوروبية خصوصية فحسب
ذلك أن الحداثة شكل من أشكال ثقافة من الثقافات، وأسلوب حياة من الحيوات. أما الثقافة فتتحد بمجمل علاقات الإنسان، فردًا أو جماعة، بذاته، بالطبيعة، وبالآخرين من بني نوعه، وبالمستقبل أو بمعنى الحياة.
ومما له دلالته أن تدرج كتبنا المدرسية على تحديد بداية (الأزمنة الحديثة ) بـ (النهضة ) الغربية، التي ليست سوى الميلاد المتزامن للرأسمالية والاستعمار والذي بتقويضه أركان قرطبة عام 1236م ودكه لغرناطة آخر مملكة إسلامية بأوروبا عام 1492م، واجتياحه لأمريكا، يكون قد قطع أوصال ثقافتين شامختين، هما الثقافة الإسلامية وثقافة الهنود الحمر.
وابتداءً من هذه اللحظة، يغدو بالإمكان أن نرجع بتحديد الحضارة الغربية لعلاقاتها بالطبيعة والآخر والله (أو الغاية النهائية من الوجود) إلى ثلاث مسلّمات هي:
( 1 ـ مسلّمة ديكارت، التي تجعل (الإنسان سيدًا ومالكًا للطبيعة
(2ـ مسلّمة هوبز، التي تجعل (الإنسان ذئبًا بالنسبة للإنسان
3ـ مسلّمة مارلو، التي تجعل (الإنسان المنمي لقدراته العقلية إلهًا يسود جميع العناصر ويهيمن عليها).
ولكن خمسة قـــرون من الهيمنة المطلقة لم تنـــته بــهذه الثقــــافـة إلى ما استهدفته مسلماتها تلك من نتائج، وإنما إلى نقائضها من تلويث للطبيعة، واستتنفاد لمواردها، وقدرة تقنية على إتلافها، وانغمار في مستنقعات السوق التي فاقمت العنف، وسعرت الحروب، وألهبت نيران المزاحمة التي لم تفتأ أن جزأت المجتمع الواحد إلى فئات متناهشة، وعمقت الهوة بين شمال مستقطب للثروات المتفاحشة، وجنوب يتضور جوعًا ومسغبة.
أما زعم الاستغناء عن الله سبحانه في تدبير الكون، فقد انحدر بهذه الثقافة إلى كفرانها بالقيم المطلقة، واعتبارها الإنسان والنزعة القومية مركزًا للأشياء ومقياسًا لها; فانقضت ركائز الحياة، وخيمت البلبلة، ومزقت حراب العنف أحشاء المدن، وطم بحر الأهوال، وتوازنات الرعب، واحتدم سعار الإرادات والرغبات، على صعيد الأفراد والمجتمعات.
ومما لا مراء فيه أن هذه (الحداثة ) المزعومة التي انطلقت منذئذ أبواقها للترويج لها، إنما هي دين، غير أنه لا يجرؤ على المجاهرة باسمه، وركنه الأوحد إنما هو (آحادية السوق )تلك البدعة التي انفرد الغرب باختلاقها في مطلع (النهضة ) والذي اهتبل الاتحاد السوفيتي، وتحطيم العراق، واستبداد الولايات المتحدة الأمريكية بشؤون العالم الثالث وأوروبا ، فرصة سانحة ليجاهر العالم باعتبار (ليبيراليته الاقتصادية ) نهاية التاريخ، على حد تعبير فوكوياما، أحد منظري أيديولوجية وزارة الدفاع الأمريكية.
ومما لا شك فيه أنه ما من مسلمة من مسلمات هذه (الحداثة ) المزعومة إلا وهي مجرد أكذوبة من الأكاذيب، في مقدمتها:
أكذوبة الديموقراطية، والدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية الحريات
والحق أن هذه الديموقراطية لم تكن في طور من أطوارها سوى وسيلة تعمية وتمويه، تلجأ إليها أقلية من مالكي العبيد إلى مالكي الثروات.
أما ديموقراطية أثينا على عهد بركليس، التي يضرب بها المثل والتي تعتبر (أم الديموقراطيات )، فقد كانت عبارة عن حكومة يديرها عشرون ألف مواطن من الأحرار، يستبدون برقاب مئة ألف من الأرقاء المحرومين من جميع الحقوق.
أجل، إنها ديموقراطية، لا عيب فيها، غير أنها مقصورة على الأسياد، وليس لغيرهم من العبيد فيها نصيب.
أما الأكذوبة الثانية فهي المتعلقة بالمساواة بين الناس في الحقوق
وعلى الرغم من نص وثيقة (إعلان الاستقلال الأمريكي ) على هذا المبدأ فقد ظل العبيد أكثر من قرن من الزمان يتجرعون علقم الاسترقاق، ولم يتورع حاملو هذا الشعار إلى اليوم عن ممارسة ألوان من التمييز العنصري الذي ينحدر بالزنوج إلى دركات الأشياء
أجل، إنها ديموقراطية لا يعيب فيها غير أنها مقصورة على البيض، وليس لغيرهم من السود فيها نصيب.
وبنبرة متغطرسة أكدت وثيقة (حقوق الإنسان والمواطن ) إبان الثورة الفرنسية أن الناس كلهم يولدون أحرارًا ومتساوين في الحقوق، ولكن دستور (اقتراع دافعي الضرائب ) قضى بحرمان ثلاثة أرباع الفرنسيين من المشاركة في الانتخاب، بغير ذنب إلا إنهم فقراء، مسخهم فقرهم (مواطنين غير نافعين).
أجل، إنها ديموقراطية لا عيب فيها، غير أنها مقصورة على الأثرياء، وليس لغيرهم من الفقراء فيها نصيب.
إن حرمان الفقراء هذا من الاقتراع ليس البتة انتهاكًا لمبادئ الديموقراطية الليبيرالية البرجوازية، بل هو تطبيق دقيق لحقيقتها التي تقوم على التفرقة بين الأغنياء المنتخِبين والمعوزين المنتخَبين; كما أكد ذلك الفيلسوف الإنجليزي (جون لوك )، الذي كان أعلم الناس، نظرية وتطبيقًا، بالديموقراطية الإنجليزية أم الديموقراطيات الغربية، حيث قال في كتابه (المبحث الثاني حول الحكومة المدنية ): (إن الهدف الذي يطمح إليه الناس من اجتماعهم إنما هو الإبقاء على الممتلكات )، وهذا يعني إيصاد أبواب الديموقراطية في وجه غير المالكين للثروات.
وعشية الثورة الفرنسية، لم تنعقد أنامل ديدرو، أثناء تحريره فصول موسوعته إلا لتكرار إحدى أطروحات (جون لوك ) السياسية التي تقصر صفة (المواطنة ) على المالك دون غيره من المعوزين.
وعلى الرغم من المظاهر والشكليات; فإن هذا المبدأ نفسه ما زال حتى اليوم هو الممسك بزمام (ديموقراطياتنا ) الليبـــيرالية، حيث يتأكد الآن أكــثر مما مضى، ما ذهب إليه (روسو ) في (العقد الاجتماعي ) من النفي الصريح لأي وجود للديموقراطية.. ويعود الانتفاء إلى سببين:
أولهما: انعدام الإيمان المشترك بالغاية النهائية للوجود الإنساني
وثانيهما: التفاوت بين الناس فيما يحوزون من الثروات
الأمر الذي عوّق تشكل (الإرادة العامة )، تلك التي تعد محور مفهوم روسو للديموقراطية الحقيقية.
ولقد كشفت تجارب أكثر من قرنين، عن الطابع الراهن لما كان بالنسبة (لروسو ) مجرد توقعات مستقبلية استوحاها من حالكات سوابق الديموقراطية.
وقد تجلى اليوم لذي عينين أن مماثلة الديموقراطية بحرية السوق ليست سوى فقرة من أخبث فقرات عقائد السياسة الأمريكية، إذ أنه من المستحيل -كما بين ذلك روسو – أن تتشكل الإرادة العامة في غيبة الأهداف العامة التي يشترك أفراد المجتمع في الإيمان بها
وأنى لهم ذلك، وقد أطلقت (آحادية السوق ) إرادات آحادهم وجماعاتهم وحوشًا تتهارش، ورغبات في الأدغال تتصادم.
وكلما جرى حديث حول حقوق الإنسان تذكر المرء أنه بمقتضى تأكيد (الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ) (1948م)، حق المساواة بين الناس أمام القانون، يصبح بإمكان أي إنسان، سواء كان عاطلاً عن العمل أم مالكًا للمليارات، أن يصدر صحيفة أو ينشئ قناة تلفزيونية; وغني عن البيان أن قانونًا هذا شأنه لا يحجم عن عقاب من تمتد يده إلى قطعة رغيف، دون تفرقة بين المترفين والمعوزين.
إن هذه المبادئ وما إليها من حق الاقتراع وغيره، مدونة في جميع دساتير وتشريعات البلاد الديموقراطية، ولكن شتان بين هذه النظريات والواقع الذي تمسك بتلابيب الناس فيه قوانين قمعية قاهرة، تلك التي تستبدل سندات البنوك ببطاقات الانتخاب.
ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، تكلف المشاركة في حملة انتخابية خمسمائة مليون دولار كل من يطمح إلى مقعد نائب في البرلمان، أو ممثل في هيئة من الهيئات، مثل ما هو الشأن في جميع هذه البلاد التي يسهِّل فيها الثراء شراء الوسيلتين اللازمتين لكل راغب في السطو على السلطة; ونعني بهما:
ـ وسائل الإعلام، للتلاعب بالرأي العام وتكيفه
ـ وصناعات الأسلحة، التي تضمن، في نهاية المطاف، إقناع غير المقتنعين
ومن نوازل هذا التلاعب والتكييف الذي سجله القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، قصر وصف الليبيراليين (بالمعنى السياسي للكلمة ) على أولئك الذين يقاومون سلطان النبلاء.
أما اليوم، فالليبيراليون (بالمعنى الاقتصادي للكلمة )، هم المدافعون عن سلطان الثراء. وهكذا أصبح الاقتصاد السياسي، أو ذلك (العلم الكئيب ) على حد تعبير كارليل (أو بالأحرى العلم الذي ليس من العلم في شيء )، عبارة عن أيديولوجية مهمتها تبرير الحالة الراهنة، تلك التي تتلخص في مبادئ رائدها آدم سميث الذي يزعم أنه: إذا سعى كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة، تحققت المصلحة العامة، لكأن يدًا غير مرئية توجه نحو هذا الصالح المشترك محققة بذلك اتساق هاتين المصلحتين.
ومن وجهة النظر هذه، فإن اتجاهات الدولة كلها لا يأتي منها إلا الضرر; ولما كانت السوق لا تأتمر إلا بقوانينها، وتأبى إلا أن تمسك بأعنة العلاقات الاجتماعية، فلم يبق للدولة إذن إلا أن تتحول إلى مجرد دركي أو حارس ليلي أمين، مهمته المحافظة على هذه الأوضاع.
إن هذه المبادئ التي ما زالت إلى اليوم محل إعجاب وإطراء كل من (ميلتون فريدمان ) و(قون هايك ) وتلامذتهما الأمريكان والإنجليز: ريغان وتاتشر، ووزراء فرنسا من أحزاب اليمين واليسار، قد انتهت بعد قرنين من التجارب إلى أوخم العواقب; من أبرزها عدم تملك العامل وسائل الإنتاج على الرغم من التقدم العملي، وتضخم الثراء والسلطة في قطب، وتكرس التبعية والبطالة والإقصاء في القطب الآخر.
ذلكم على الصعيد المحدود، أما على الصعيد الكوكب، فلقد أفضت خمسة قرون من الاستعمار إلى تدمير الزراعات الغذائية الأساسية لصالح الزراعات والإنتاجات الآحادية التي جعلت من المستعمرات ملحقات اقتصادية خاضعة لحاضرات (متروبول ) القوى الكبرى، خضوعًا تقنع -بعد الاستقلالات الشكلية – بقناعات المساعدات التي (يتفضل ) بها مستعمرو الأمس، وإدارة صندوق النقد الدولي للديون.
ونجم عن هذه المظالم، بين 1960-1989م، ارتفاع معدل الدخل العالمي من 70% إلى 83% لـ 20% لأثرى أثرياء العالم، وانخفاضه إلى أقل من 1.5% لأفـــقر فقراء المعمورة. وهذا التقـــاطب لا يني يتفـــاقم أيضًــا في أغنى بلاد العـــالم، حيث يستحوذ 1% من الأمريكـــان على 40% من الثروات القومية..
وكلما استشعر أسياد العالم مخاطر تمرد المضطهدين، اتخذوا من ديموقراطيتهم سبيلاً يسلكونها بشكل طبيعي نحو الديكتاتورية.
فبفضل هذه الديموقراطية في أتم أشكالها، أدلت أغلبية الألمان بأصواتها فبوّأت هتلر مقاعد الزعامة، وراح أرباب البنوك وملوك الصناعة من الألمان والأمريكان والإنجليز والفرنسيين يمدونه بالأموال والذخائر تمكينًا له من أن يقف حتى عام 1938 سدًا منيعًا في وجه الشيوعيين.
وهتلر ليس سوى حالة خاصة من ظاهرة شاملة، ففي أمريكا اللاتينية فتحت الديموقراطية الأمريكية أبواب معاهدها المختصة لتخريج العقداء والجنرالات وتكوين (سرايا الموت ) تمكينًا للديكتاتورية، ودفاعًا ضاربًا عن (الحرية الاقتصادية )، التي تعني اختراق الأموال الأمريكية اقتصادياتهم اختراقًا تفرضه الخصخصة والقمع الدموي للمعارضات الشعبية على مرأى ومسمع من أولئك الذين لا ينددون بانتهاك حقوق الإنسان إلا حين يتعلق الأمر  بتركيع الرافضين للسياسة الأمريكية التي يقترف إثم فرضها صندوق النقد الدولي، وضروب من الحصار الذي يودي بحياة مئات الآلاف من أطفال العراق، ويلحق الأضرار البالغة بالدول البترولية المتمردة مثل ليبيا والسودان وإيران و…. ويضيق الخناق على لاهوتيي التحرر، الذين يتواصى بالتنديد بهم كل من مركز الاستخبارات الأمريكية والفاتيكان.
إن (آحادية السوق ) هذه التي عمِّدت باسم (الحداثة )، تتجلى في تمزق النسيج الاجتماعي، الذي لا يلبث أن يختفي عن الأنظار لتحل محله الداروينية الاجتماعية التي تعني، على حد تعبير (سنبسر ): (مضاعفة حرية الأغنى في افتراس الأفقر والأضعف وتعني كذلك أن: (بين القوي والضعيف، الحرية هي التي تضطهد).
إن هذه الحقيقة المقررة التي كان الأب (لاكوردير ) قد عبر عنها في عصر انطلاق الرأسمالية الصناعية، لنتأكد منها اليوم أكثر كان مما عليه الحال في زمانه، حيث تواجهنا بشكل لا يتجزأ مشكلات مجتمعنا الاقتصادية والسياسية والدنيئة، والتي تتعلق في جوهرها بمعنى الحياة الذي يستتبع التساؤل عما يتمخض عنه التطور العلمي والتقني.
 وما بنا من حاجة إلى طويل تأمل، وهذه آحادية السوق المتولدة من (الحداثة الغربية ) تقض المضاجع بما صنعته من أوضاع اشتطت فيها النزاعات الفردانية، وطغت فيها أمواج المنافسات، مما ضاعف من تدهور العلاقات الاجتماعية، وسرع السابق الذي جعل من (الإنسان ذئبًا للإنسان ) على حد تعبير هوبز.
ومنذ أن انهمك (يلتسن ) في ممارسة (البغاء السياسي ) لبعث الرأسمالية، وصل الاتحاد السوفيتي إلى مستوى الولايات المتحدة في استهلاك المخدرات; ففي أزبكستان تضاعفت المساحات المزروعة حشيشًا ست مرات، أي من 150 هكتارًا سنة 1992م إلى 1000 هكتار سنة 1995م. وكذا الأمر بالنسبة لأنجب التلاميذ من زبائن مدرسة صندوق النقد الدولي، حيث إحدى الدول حطمت الرقم القياسي -على الصعيد العالمي – في إنتاج الحشيش.
ففي الولايات المتحدة طليعة الانحطاط، بلغ مجموع مبيعات المخدرات مقدار مبيعاتها من السيارات والفولاذ.
وهناك أشكال أخرى من أشكال هذه (الحداثة الغربية )، أكتفي بالإشارة إلى اثنين منها، وهما:
ـ الرشوة، التي ينطوي عليها اقتصاد السوق انطواء السحابة على الأعاصير
وليس بغريب على نظامٍ كل شيء فيه قابل لأن يشترى ويباع، بما في ذلك السلطة والضمائر، أن يؤول إلى ما أشار إليه الاقتصادي (ألان كوسطا ) في كتابه: (الرأسمالية في أسوأ أحوالها )، حيث قال: (إن الرشوة في سؤددها الحالي جزء لا يتجزأ من المد المالي والإعلامي المتزايد )، فعندما يهتبل الإعلام فرصة العمليات المالية كاندماج الشركات وحيازة المقتنيات، ليتيح خلال بضع دقائق تكوين ثروةٍ من المستحيل أن يحلم بها حالم ولو يبذل المضاعف من الجهود والنفيس من الأوقات; يتعذر على المرء أن يقاوم إغراءات الاقتصاد البضاعي المترعرع في حظيرة هذه السوق (الأصيلة ) التي ترتفع بالرشوة إلى أن يضاهي دورها دور المشاريع التجارية.
ـ وتأبى (آحادية سوق ) الحداثة الغربية إلا أن (تجود) بأفضل ما لديها، وأعني بذلك المضاربة التي يحددها قاموس (روبير ) بأنها: (عملية مالية تهدف إلى تحقيق الأرباح من خلال استغلالها لتقلبات السوق )، تلك التي أفرزت نموذجًا ثقافيًا يقولب فيه الناس حسب مقتضيات المزاحمة الوحشية والربح المجنون وما إلى ذلك من الأشكال الـ (عصرية ) لما يعرف في القرآن الكريم باسم (الربا).
ومما له دلالته أن يتزامن انبثاق هذا التصور عن الكون مع بروز أكمل الأشكال تعبيرًا عن البربرية الغربية: من جرائم قصفها الرهيب لكوفنتري وأزوبنش وهيروشيما، وأزهاقها أرواح أربعين مليون ضحية بلغ ركامها عشرة أضعاف ما أفترسته الحرب العالمية الأولى التي سعّر شواظها زبانية الأمبراطوريات المتزاحمة المتقاتلة.
ولما انقشعت نقوع هذه الأهوال، وانفتحت العيون على عالم فقد رشده، تسلطت على الأذهان فكرة عجز الإنسان عن تدبير شؤون المجتمعات، تلك التي لم يبق لها إلا الانصياع إلى (الماكينة المفكرة ) التي ستنفرد بالتفكير والإجابة عن جميع الأسئلة المطروحة.
وبصدور كتاب (نوربير واينعر ): (السبرانية ) سنة 1942م، وتطبيقاته التي انتهت (بقون نومان ) إلى اختراع (الحاسوب ) عام 1945م، تكون (الحداثة ) قد تمخضت فولدت أسطورتها المركزية المتمثلة في (الذكاء الاصطناعي )، الذي يعني إمكان الاستعاضة عن بعض أشكال أعمال الذهن الإنساني; استعاضة تعني انتقال الأدوات والماكينات من كونها مسخَّرات لخدمة الإنسان إلى انفرادها -دونه – بالأجوبة عن الأسئلة التي لها صلة بغاية أعماله، بدل أن تكتفي بتزويده بما هو بحاجة إليه من الوسائل.
إن هذه (الحداثة ) بالذات، هي التي نجاهر برفضها، وندعو كل من يؤمن بأن للحياة معنى أن ينضم إلينا لنقف سدًا منيعًا في وجه هذه الأباطيل من الحتميات التي تروج لها أيديولوجيات تضلل الأَغرار بزعمها أن القوانين الاقتصـــادية قوانـــين طبيعية لا فكاك منها. ولكن الحــق الذي لا مرية فيه أن ما يسمى بالاقتصاد السياسي ليس من العلم في شيء، بل هو مجرد أيديولوجية ليس لها من مهمة إلا تبرير الأوضاع وإطراء السلبية والاستسلام لطاغوت الحتميات التي تكبل الإنسان حين توهمه أن الحاضر هو محصول الماضي، وأن المستقبل لن يكون سوى امتداد للحاضر.
وما على المؤمنين، وقد تجاوز الحتميون المدى، إلا أن يقوضوا أركان الحتميات بتعاليهم على ضروب الماديات التي أفرزتها (الحداثة ) الغربية الكذوب، التي انتهت إلى هذا الإفلاس الشنيع الذي يستنهض المسلمين لـ:
ـ الإسهام في تشكيل (حداثة ) أصيلة وشاملة
- الاستمتاع بثمار العلوم والتقنيات والمشاركة في تطويرها دون اعتبارها غايات في ذاتها
- مقاومة التيارات التي تعتبر الفردانية والقومية مركز الأشياء ومقياسًا لها
- التخلص من براثن حتميات السوق والمال الزائفة
- تعميق الشعور بالمسؤولية المشتركة تجاه المصير المشترك
وكل أولئك يستوجب الخروج من مأزقين:
 ـ مأزق محاكاة الغرب، الذي يتخبط فيه بعض المسؤولين السياسيين المسلمين
ـ ومـأزق محاكاة الماضي، الذي تتخبط فيـه المعرضات الشعــبية فــي محاولاتها لإزالة عقابيل الاستعمار الذي طالما استمات في طمس الهوية الإسلامية.
وحينذاك نستيقن بأنه على أنقاض الإمبراطورية الرومانية التي امتد رواق هيمنتها من البحر المتوسط فما دونه إلى الفرات فالأندلس، ستترعرع من جديد تجربة الإخصاب لتنعش الشرق والغرب على غرار ما حققه الإسلام في القرن السابع حين انطلاقته السريعة المذهلة التي ليست من الفتوحات العسكرية الاستعمارية في شيء; حيث إن عدد الفاتحين وعُددهم لم تكن شيئًا مذكورًا; مقارنة بما كان يتمتع به البيزنطيون والفرس وغيرهم من كثافة بشرية وإمدادات مادية.
ومهما يكن، فإن الإسلام لم ينتشر بالقوة، وإنما بفضل ما حققه من:
اليقظات الدينية.
والثورات الاجتماعية.
والتحولات الثقافية.
1 ـ اليقظة الدينية:
ليس الإسلام دينًا جديدًا ظهر بظهور النبي صلى الله عليه وسلم، وليس الله عز وجل إلا الواحد الأحد، رب العالمين جميعًا
والإسلام بمعنى الخضوع الإرادي لله وحده، هو ذلك الدين الذي أرسل الله به رسله أجمعين، من آدم إلى محمد عليهم الصلاة والسلام.. قال تعالى:
{ قل ما كنت بدعًا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم } (الأحقاف:9
وقال تعالى: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين } (الحجر:10)
وقال تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل } (آل عمران:144)
وقال سبحانه تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله } (البقرة:285)
ولقد أرسل الله رسوله محمدًا عليه الصلاة والسلام ليدعو الناس إلى الفطرة
قال تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا } (الروم:30)
والمسلمون يؤمنون بالمرسلين جميعهم، بمن ذكروا في القـــرآن وبمن لم يذكروا
ـ الثورة الاجتماعية3
التي تجلت صيغتها الأولى في مجتمـــع المدينة المنـــورة الذي أقامه الرسول على أسس الشريعة الخالدة التي تبني صروح الاقتصاد والسياسة والاجتماع على الإيمان بتفرد الله سبحانه بالملك والحكم والعلم، والتي تعتبر الإنسان خليفة الله في الأرض، يعمرها ويطورها، مؤتمرًا في كل ذلك بأمر الله سبحانه وتعالى ائتمارًا يجنبه الوقوع في مهاوي النظرة الرومانية التي تحدد الملكية بـ (حق الاستعمال وسوء الاستعمال).
ومن مقتضيات مهمة الخلافة إعطاء الأولوية للواجبات التي يضطلع بأدائها المسلم أداءً روحُه الإخلاص، وشكله الإتقان، وثمرته التكافل القائم على أداء الزكاة وتحريم الربا: أصل بلاء تكدس الثورة في قطب والبؤس في قطب آخر، إذ لا مجال في نظام الإسلام لأي شكل من التسلسلات الهرمية التي تكرسها الأنظمة السياسية الجائرة.
قال تعــالى: {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم (التوبة:34)
وعندما طلع المسلمون على دنيا الطبقات والامتيازات بهذا التصور النبيل، الذي شكلوه واقعًا جسد العدل والمساواة وتقويم الرجال والأحداث بالقسطاس المستقيم، عندما فعلوا ذلك، استقبلوا حثيما حلوا استقبال الفاتحين المحررين.
ـ التحول الثقافي3
ينطلق التحول الثقافي الذي يحققه الإسلام من مسلَّمة الاعتقاد بتفرد الله سبحانه وتعالى بالعلم، اعتقادًا يجنبنا الغرور بمعارفنا القليلة، ويذكرنا دومًا بأن (كل ما أقوله عن الله إنما يقوله إنسان )، على حد تعبير اللاهوتي البروتستانتي (كارل بارت).
ويستوجب استمرار هذا العطاء الثقافي أن نتأسى بأسلافنا من أمــثال أبي حنيفة والشافعي وغيرهم في استلهام كليات شريعتنا لإحياء فقه يستجيب لمتطلبات العصر استجابة لا تحيد قد شعــــرة عما رســمه الله سبحـــانه من معايــير وسنه من ضوابط، قال تعالى: {ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون } (الجاثية:18)
وتجنبًا لسوء الفهم، أو إساءة الظن، ينبغي التذكير بضرورة التفرقة بين ما هو ثابت من الشريعة، ومتغير من الفقه، كما يجب التنبيه إلى خطأين يرتكبهما صنفان من الناس:
ـ صنف الذين يظنون أن مجرد سرد الأجوبة الذكية التي واجه بها أسلافنا مشكلات عصرهم، يعفينا من استفراغ الجهد في استنباط الأحكام من النصوص المحدودة لتنزيلها على الوقائع المتجددة المحدودة، في إطار الكليات والمقاصد.
ـ الصنف الذي يشمل الولايات المتحدة وأذنابها من منافقي الغرب الذين نصّبوا أنفسهم مدافعين عن (حقــــوق الإنسان ) و(حقــوق المرأة ) دفــاعًا يموهــــون به جرائمــهم في إعــداد وتمــــويل الدكتــاتـــوريــات المُحْتَمِيَة بـ (كتائب الموت ) في أمريكا اللاتيـــنية، وبجلادي رواندا في أفريقيا، متنادين بالسخرية من الشريعة التي يوهمون الناس أنها مجرد تقطيع للأيدي، وامتهان للمرأة، وتشبث بليد بما أكل عليه الدهر وشرب من الأحكام البائدة، هادفين إلى حرمان كل من يؤمن من الناس بأن للحياة معنى، من أن يكتشف مبادئ الشريعة العظيمة القائمة على اليقين المطلق بتفرد الله سبحانه وتعالى بالملك والأمر والعلم، يقينًا يجنينا الارتكاس في حمأة الغرور بسلطان المال والحكم والعلموية.
وبإمكان عالمنا الذي بلغ هذا المستوى العالي من التطور التكنولوجي أن يجد في المبدأين الإسلاميين: مبدأ التعالي والجماعة، ما يساعد كل فرد في تحقيق ما تنطوي عليه جوانحه من إمكانات، إسهامًا حقيقيًا في تطوير (حداثة ) حقيقية.
ولكي يتمكن المسلمون من تحقيق النهضة المرجوة، عليهم أن يتعاملوا بجد مع أبعاد الإسلام التي شيدت حضارته الرائعة، تلك التي أنعشت بركاتها العالم من القرن التاسع إلى القرن الثاني عشر.
والتعامل الجاد مع الإسلام يعني الكف عن أخذه تفاريق، والعمل على تجسيد أبعاده العالمية والروحية والاجتماعية والنقدية، إبراءً للذمة، وابتعاثًا للإنسان كي يستعيد إنسانيته.

Aucun commentaire: