فى
كل تاريخٍ ــ عامٍ أو خاص ـ لحظاتٌ حاسمة، تحدثُ فيها التحولات الكبرى؛
وقد كانت سنة 309 هجرية من أعظم السنوات حسماً وتحوُّلاً فى تاريخ التصوف..
ففى هذه السنة، وبالتحديد : يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من شهر ذى
القعدة، أُخرج الحسين بن منصور الحلاَّج من سجنه، فجُلد، وقُطعت يداه ورجلاه ، وشُوِّه، وصُلب، وقُطعت رأسه ، وأُحرقت جثته .
ولم تكن الأحداثُ التى وقعت فى هذا اليوم، مُفاجئة.. بل كانت
مأساة الحلاج متوقَّعة منذ بدأتْ محاكمته ببغداد، قبل قتله ببضعة أشهر
تنفيذاً للحكم النهائى، الذى أصدرته هذه المحكمة الفقهية .. تلك المحكمة
التى انتهت إلى إلصاق تهمة المروق عن الدين، بهذا الصوفى العارم. بيد أنه
يمكن القول، أيضاً ، أن نهاية الحلاج المأسوية، كانت متوقَّعة من قبل ذلك
بسنوات طويلة ! فقد سمعه أبو القاسم الجنيد يتكلَّم فى بعض (الحقائق)
الصوفية، فانزعج واحتدَّ على الحلاج، وصرخ فيه: أية خشبة سوف تفسدها …
وهى إشارةٌ مبكرة، أنبأت بالمصير الذى ينتظر الحلاج، وبنهايته مصلوباً على
خشبة ! ولابد لنا هنا ، من ملاحظة أن هذه النبوءة، ارتبطت .. بل انطلقت ،
من كلام قاله الحلاج.
وُلد أبو المغيث الحسين بن منصور الحلاج حوالى عام 244هجرية ، بقرية تابعة لبلدة البيضاء الفارسية، فدرس علوم الدين، ثم سلك طريق الصوفية على يد الشيخ سَهْل بن عبد الله التسترى..
ثم طاف وساح فى البلدان، وصحب جماعة من كبار مشايخ العصر كالجنيد والنورى
وابن عطاء وعمرو بن عثمان المكى.. وجرت بين الحلاج وهؤلاء المشايخ وقائع
كثيرة، يضيق المقام هنا عن ذكرها، لكنها فى مجملها تشير إلى نأى الحلاج
وتفرُّده عن أهل الزمان، وتؤكد شعوره بذاته على أنه : نسيج وحده ..مع أنه
يعانى ما يعانيه القوم.
وقد عاش الحلاَّج التجربة الصوفية بكل ما فيها من صدقٍ و
روعة، وغرق فى بحر النور الإلهى تمام الغرق. ولسوف نقتصر فيما يلى على ذكر
فقرتين شهيرتين من سيرة الحلاج ، تلك السيرة التى أفاض فيها المؤرخون
والمترجمون له.. وهاتان الفقرتان تكشفان عن طبيعة الحياة التى عاشها
الحلاَّج ، وطبيعة الموقف الذى تمت فيه إدانته :
الفقرة الأولى قال ابن باكويه : سمعتُ الحسين بن محمد المذارى يقول: سمعتُ أبا يعقوب النهرجورى يقول :دخل
الحسين بن منصور الحلاَّج مكة، فجلس فى صحن المسجد لايبرح من موضعه إلا
للطهارة أو الطواف، لايبالى بالشمس ولا بالمطر، فكان يُحمل إليه كل عشية
كوزٌ وقرص (ماء وخبز) فيعضُّ من جوانبه أربع عضات ويشرب.
الفقرة الثانية قال ابن زنجى: وحُملت دفاتر
من دور أصحاب الحلاج، فأمرنى حامد ــ الوزير ــ أن أقرأها والقاضى أبو عمر
حاضر، فمن ذلك قرأتُ: إن الإنسان إذا أراد الحج، أفرد فى داره بيتاً، وطاف
به أيام الموسم، ثم جمع ثلاثين يتيماً، وكساهم قميصاً قميصاً، وعمل لهم
طعاماً طيباً، فأطعمهم وخدمهم وكساهم، وأعطى لكل واحدٍ سبعة دراهم أو
ثلاثة، فإذا فعل ذلك ، قام له ذلك مقام الحج! فلما قرأت ذلك الفصل، التفت
القاضى أبو عمر إلى الحلاج وقال له: من أين لك هذا؟ قال : من كتاب الإخلاص للحسن البصرى. قال : كذبت ياحلال الدم، قد سمعنا كتابالإخلاص وما فيه هذا. فلما قال أبو عمر: كذبت ياحلال الدم
قال له حامد: أكتب بهذا ! فتشاغل أبو عمر بخطاب الحلاَّج، فألحَّ عليه
حامد، وقدَّم له الدواة ، فكتب بإحلال دمه، وكتب بعده مَنْ حضر المجلس،
فقال الحلاج : ظهرى حِمىً، ودمى حرام، وما يحل لكم أن تتأولوا علىَّ، واعتقادى الإسلام، ومذهبى السنة، فالله الله فى دمى ولم
يزل يردد هذا القول وهم يكتبون خطوطهم، ثم نهضوا ورُدَّ الحلاج إلى الحبس،
وكُتب إلى المقتدر ــ الخليفة ــ بخبر المجلس، فأبطأ الجواب يومين، فغلظ
ذلك على حامد، وندم وتخوَّف، فكتب رقعةً إلى المقتدر فى ذلك يقول: إن
ماجرى فى المجلس قد شاع، ومتى لم تُتبعه قتل هذا ــ الحلاَّج ــ افتتن به
الناس، ولم يختلف عليه اثنان. فعاد الجواب من الغد :” إذا كان القضاة قد
أباحوا دمه، فليحضر صاحب الشرطة، ويتقدم بتسليمه وضربه ألف سوط، فإن هلك
وإلا ضُربت عنقه..” فسُرَّ حامد.
ويوم مقتله، وبينما كان الحلاَّجُ مشدوداً على الصليب الخشبى (الخشبة التى أفسدها) وقبيل حَزَّ رقبته؛ نظر إلى السماء مناجياً ربه :
نَحَنُ بشَوَاهِدِكَ نلُوذُ
وبِسَنَا عِزَّتِكَ نَسْتَضِئ
لِتُبْدِى لَنا مَا شِئْتَ مِنْ شَأْنِكَ
وأنْتَ الذِى فِى السَّماءِ عَرْشُكَ
وأَنْتَ الذِى فىِ السَّمَاءِ إلَه
وفِى الأرضِ إِلَه..
تَجَلَّى كَمَا تَشَاء
مِثْلَ تَجَلِّيكَ فىِ مَشِيئتِكَ كأَحْسنِ صُورَةٍ
والصُّورَةُ
هِىَ الرُّوحُ النَّاطِقَةُ
الذِى أفْرَدْتَهُ بالعلمِ (والبيَانِ) والقُدرَةِ
وهَؤَلاءَ عِبَادُكَ
قَدْ اجْتَمَعُوا لِقَتْلِى تَعَصُّباً لدِينكَ
وتَقَرُّباً إليْكَ
فاغْفرْ لَهُمْ !
فإنكَ لَوْ كَشَفْتَ لَهُمْ مَا كَشَفْتَ لِى
لما فَعَلُوا ما فَعلُوا
ولَوْ سَتَرْتَ عَنِّى مَا سَترْتَ عَنْهُمْ
لما لَقِيتُ مَا لَقِيتُ
فَلَكَ التَّقْديرُ فِيما تَفْعَلُ
ولَكَ التَّقْدِيرُ فيِما تُرِيدُ
إن المراد بمحاولة الحلاج تفجير اللغة هو
سعيه للتخلُّص التام من أسـاليـب الصياغة اللغوية الشائعة فى عصره، وطموحه
الكبير إلى استبدال اللفظ الذى اهترئ من كثرة التداول، بلفظ يتخلَّق بحرية
خلال السياق الجديد.. وقد تجلَّى هذا التفجير للُّغة السائدة، كما تجلَّى
اكتشاف الحلاَّج لمعدن اللغة الصوفية الجديدة، فى النص الوحيد (الكامل)
الذى بقى إلى اليوم من مؤلفاته . وهذا النص ، الذى كتبه الحلاج فى سجنه ــ
وهرَّبه تلاميذه ــ والذى يعدُّ واحداً من أروع النصوص الصوفية على
الإطلاق؛ هو : كتاب الطواسين .
فى كتاب الطواسين، يفجِّر الحلاَّج كل التراكمات اللغوية والدلالية ، ليعود إلى أصل اللغة: الحرف.. وإلى التجلى الأتم لها : القرآن !
أراد الحلاج أن يغوص نحو الحروف، التى هى المادة الأولية فى
اللغة، فجعل فصول كتابه (طواسين) أى أن كل فصل منها (طاسين) .. مستفيداً فى
ذلك من الدلالة الصوتية العميقة، الناشئة من جمع حرفى الطاء والسين؛
وناسجاً فى الوقت ذاته على منوال النص اللغوى الأقدس (القرآن) باعتباره
المجلى الأصلى لصياغة الكلام الإلهى صياغةً عربية.. فقد بدأت بعض سور
القرآن بذكر الحروف، ومن بينها الطاء والسين، اللذين بدأ بهما الحلاج .
ثم يأتى الحلاج بما يجلو الحرف، وذلك عن طريق الإضافة ليكشف
عن مفهومٍ صوفى، يساوق الجمع اللغوى بين لفظين.. هذا المفهوم الصوفى هو
باختصار: إن الحقيقة لاتدرك إلا من حيث النسب والإضافات ، فلا توجد حقيقة
إلا من حيث نسبتها وإضافتها. بعبارة أخرى : لن تصير حقائق الوجود قائمة
بالفعل، إلا بعد إضافة هذا الوجود لله .
وإضافات الحلاج للطاء والسين، تكشف عن مستوى آخر من مستويات
اللغة الصوفية عنده، وهو مستوى الترميز .. فقد أراد الحلاج أن يبين للصوفية
أنه لايمكن التحدث عن حقائق الطريق إلا رمزاً. فأضاف للحروف رموزاً، بحيث
صارت فصول كتابه كالآتى: طاسين السراج، طاسين النقطة، طاسين الدائرة ..
إلخ، والسراج هنا هو محمد r النبى الذى اقتبس كل الأنبياء نورهم من نوره
القديم الذى يتلالأ منذ كان آدم بين الطين والماء . أما النقطة والدائرة ،
فهما من الاصطلاحات التى سوف تستقر فى اللغة الصوفية ، حتى يأتى ابن عربى
ــ فى الفتوحات المكيــة ــ فيجوس فى مفاوزهما ، ويكشف عن دلالاتهما الخاصة
بالجدل المعرفى (الابستمولوجى) الكاشف عن العلاقة الوجودية (الانطولوجية)
بين الله والإنسان والإنسان الكامل .
ومن الحروف، تتألف الأسماء التى هى الظهور
الخاص لحقائق الأشياء ..كُلٌّ على حدة. ولذلك ، فحين أراد الله تعالى أن
يتميَّز آدم ، علَّمه الأسماء كلها، ثم أظهره على الملائكة، إلى آخر ما ورد
فى الآيات القرآنية .. ولذا، واصل الحلاَّج غوصه، فى محاولةٍ لكشف حقيقة
الأسماء، بوصفها مركبة من حروف. وضرب لذلك أمثلة فى سياق كلامه، منها قوله
فى (طاسين الأزل والالتباس) ما نصُّه : اشتقَّ اسم إبليس من رسمه ( يقصد : لأنه التبس عليه الأمر فى الأزل) فغيِّر عزازيل، العين لعلق همته (يقصد : لأنه تعلَّق بالله على التجريد فلم يسجد لغيره) والزاى لازدياد الزيادة فى زيادته (يقصد : لأنه أزاد على كونه طاووس الملائكة، كونه الوحيد الذى لم يسجد لغير الله) والألف
إزادة فى أُلفته ، والزاى الثانية لزهده فى رتبته، والياء حين يهوى إلى
سهيقته، واللام لمجادلته فى بليَّته، قال له : ألا تسجد يا أيها المهين؟
قال : محب ، والمحب مهين، إنك تقول مهين، وأنا قرأت فى كتاب مبين، ما يجر
علىَّ ياذا القوة المتين ، كيف أذل له وقد خلقتنى من نار وخلقته من طين..
ثم يقول الحلاَّج : يا أخى ، سُمِىَ عزازيل، لأنه عُزِلَ، وكان معزولاً فى ولايته؛ مارجع من بدايته إلى نهايته، لأنه ماخرج عن نهايته.. والمقصود
بالنهاية هنا، إدراك ابليس ــ وهو أعرف العارفين بالله ــ أن الأمر الإلهى
له كان ابتلاءً، وأن المعصية مقدرةً عليه فى الأزل ، وأنه لن يخرج عن
دائرة المشيئة الإلهية التى اقتضت كل ما جرى!
* * *
وعلى هذا النحو، كان سَعْى الحلاج إلى الرجوع لبكارة اللغة
ومادتها الأولى (الحروف) وإلى دلالات المفرد المميز لحقيقة الشئ (الاسم)
ليدفع بذلك باباً عظيماً، سوف يُعرف فى التراث العربى بعلم الحروف والأسماء
.. وهو علم سوف يستهوى الصوفية بعد الحلاج، فيحاولون الغوص وراء : سر الظرف المودع فى الحرف (وهو عنوان لأحد كتب عبد الكريم الجيلى، المتوفى 826 هجرية)
وبعد … لقد كانت اللحظة الحاسمة التى
قُتل فيها الحلاج، كفيلةً بتغليف التصوف من بعده بجدار الصمت . لكن الرجل
فتح أمام اللاحقين عليه باب اللغة الجديدة، التى سوف تتجلى عند النفرى وابن
عربى والجيلى، وغيرهم من الصوفية.. ويمكن للباحثين فى التصوف، تبيان ملامح
هذه اللغة الجديدة، من خلال استعراض المزيد من الخصائص اللغوية فى كتاب الطواسين ، الذى يُعدُّ علامةً مهمّة على الطريق الطويل الذى قطعته اللغة الصوفية عبر مراحل تطورها.
لتحميل : اضغط هنا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire