سورة النبأ
عَمَّ يَتَسَاءلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5)
سورة النبأ
تعريف بالجزء الثلاثين
هذا الجزء كله - ومنه هذه السورة - ذو طابع غالب . . سوره مكية فيما عدا سورتي "البينة " و "النصر" وكلها من قصار السور على تفاوت في القصر . والأهم من هذا هو طابعها الخاص الذي يجعلها وحدة - على وجه التقريب - في موضوعها واتجاهها , وإيقاعها , وصورها وظلالها , وأسلوبها العام .
إنها طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية . وصيحات . صيحات بنوم غارقين في النوم ! نومهم ثقيل ! أو بسكارى مخمورين ثقل حسهم الخمار ! أو بلاهين في سامر راقصين في ضجة وتصدية ومكاء ! تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات المنبثقة من سور هذا الجزء كله بإيقاع واحد ونذير واحد:اصحوا . استيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . . إن هنالك إلها . وإن هنالك تدبيرا . وإن هنالك تقديرا . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حسابا . وإن هنالك جزاء . وإن هنالك عذابا شديدا . ونعيما كبيرا . . اصحوا . استيقظوا . انظروا تلفتوا تفكروا تدبروا وهكذا مرة أخرى وثالثة ورابعة وخامسة وعاشرة ومع الطرقات والصيحات يد قوية تهز النائمين المخمورين السادرين هزا عنيفا . . وهم كأنما يفتحون أعينهم ينظرون في خمار مرة , ثم يعودون لما كانوا فيه ! فتعود اليد القوية تهزهم هزا عنيفا ; ويعود الصوت العالي يصيح بهم من جديد ; وتعود الطرقات العنيفة على الأسماع والقلوب . . وأحيانا يتيقظ النوام ليقولوا:في إصرار وعناد:لا . . ثم يحصبون الصائح المنذر المنبه بالأحجار والبذاء . . ثم يعودون لما كانوا فيه . فيعود إلى هزهم من جديد .
هكذا خيل إلي وأنا أقرأ هذا الجزء . وأحس تركيزه على حقائق معينة قليلة العدد , عظيمة القدر , ثقيلة الوزن . وعلى إيقاعات معينة يلمس بها أوتار القلوب . وعلى مشاهد معينة في الكون والنفس . وعلى أحداث معينة في يوم الفصل . وأرى تكرارها مع تنوعها . هذا التكرار الموحي بأمر وقصد !
وهكذا يحس القارئ وهو يقرأ:(فلينظر الإنسان إلى طعامه . . .). .(فلينظر الإنسان مم خلق ? . . .). .(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ? وإلى السماء كيف رفعت ? وإلى الجبال كيف نصبت وإلى الأرض كيف سطحت ?).
وهو يقرأ:(أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها ? رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعا لكم ولأنعامكم). .(ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ?). . . . (فلينظر الإنسان الي طعامه . أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا . فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا , وحدائق غلبا , وفاكهة وأبا . متاعا لكم ولأنعامكم). .
وهو يقرأ(يا أيها الإنسان . ما غرك بربك الكريم , الذي خلقك فسواك فعدلك , في أي صورة ما شاء ركبك ?). .
(سبح اسم ربك الأعلى , الذي خلق فسوى , والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى). .(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم , ثم رددناه أسفل سافلين , إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون . فما يكذبك بعد بالدين ? أليس الله بأحكم الحاكمين ?). .
وهو يقرأ: إذا الشمس كورت , وإذا النجوم انكدرت , وإذا الجبال سيرت , وإذا العشار عطلت , وإذا الوحوش حشرت , وإذا البحار سجرت , وإذا النفوس زوجت , وإذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت ? (وإذا الصحف نشرت , وإذا السماء كشطت , وإذا الجحيم سعرت , وإذا الجنة أزلفت . علمت نفس ما أحضرت). .(إذا السماء انفطرت , وإذا الكواكب انتثرت , وإذا البحار فجرت , وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت). .(إذا السماء انشقت . وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت , وألقت ما فيها وتخلت , وأذنت لربها وحقت . . .) (إذا زلزلت الأرض زلزالها , وأخرجت الأرض أثقالها , وقال الإنسان مالها . . يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها). .
وهو يقرأ اللمحات والسبحات الكونية في مفاتح عدد من السور وفي ثناياها:(فلا أقسم بالخنس . الجوار الكنس . والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس). .(فلا أقسم بالشفق , والليل وما وسق . والقمر إذا اتسق). .(والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر). .(والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها). .(والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . وما خلق الذكر والأنثى). .(والضحى . والليل إذا سجى). .
الخ . . الخ . .
وفي الجزء كله تركيز على النشأة الأولى للإنسان والأحياء الأخرى في هذه الأرض من نبات وحيوان . وعلى مشاهد هذا الكون وآياته في كتابه المفتوح . وعلى مشاهد القيامة العنيفة الطامة الصاخة القارعة الغاشية . ومشاهد الحساب والجزاء من نعيم وعذاب في صور تقرع وتذهل وتزلزل كمشاهد القيامة الكونية في ضخامتها وهولها . . واتخاذها جميعا دلائل على الخلق والتدبير والنشأة الأخرى وموازينها الحاسمة . مع التقريع بها والتخويف والتحذير . . وأحيانا تصاحبها صور من مصارع الغابرين من المكذبين . والأمثلة على هذا هي الجزء كله . ولكنا نشير إلى بعض النماذج في هذا التقديم:
هذه السورة - سورة النبأ - كلها نموذج كامل لهذا التركيز على هذه الحقائق والمشاهد . ومثلها سورة "النازعات" وسورة "عبس" تحتوي مقدمتها إشارة إلى حادث معين من حوادث الدعوة . . وبقيتها كلها حديث عن نشأة الحياة الإنسانية والحياة النباتية ثم عن الصاخة:(يوم يفر المرء من أخيه , وأمه , وأبيه , وصاحبته وبنيه , لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة , ووجوه يومئذ عليها غبرة , ترهقها قترة). وسورة "التكوير" وهي تصور مشاهد الانقلاب الكوني الهائلة في ذلك اليوم , مع عرض مشاهد كونية موحية في صدد القسم على حقيقة الوحي وصدق الرسول . وسورة "الانفطار" كذلك في عرض مشاهد الانقلاب مع مشاهد النعيم والعذاب , وهز الضمير البشري أمام هذه وتلك:(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . . .)الخ" وسورة "الانشقاق" وهي تعرض مشاهد الانقلاب الكوني ومشاهد النعيم والعذاب . . وسورة "البروج" وهي تلقي إيقاعات سريعة حول مشاهد الكون ومشاهد اليوم بصدد إشارة إلى تعذيب الكفار لجماعة من المؤمنين في الدنيا بالنار . وعذاب الله لأولئك الكفار في الآخرة بالنار . وهو أشد وأنكى . .
وسورة "الطارق" . . وهي تعرض مشاهد كونية مع نشأة الإنسان ونشأة النبات للقسم بالجميع:(إنه لقول فصل , وما هو بالهزل). . وسورة "الأعلى " وتتحدث عن الخلق والتسوية والتقدير والهداية , وإخراج المرعى وأطواره تمهيدا للحديث عن الذكر والآخرة والحساب والجزاء . . وسورة "الغاشية " . . وهي تصوير لمشاهد النعيم والعذاب . ثم توجيه إلى خلق الإبل والسماء والأرض والجبال . . وهكذا . . وهكذا . . إلى نهاية الجزء باستثناء سور قليلة تتحدث عن حقائق العقيدة ومنهج الإيمان . كسورة الإخلاص . وسورة الكافرون .وسورة الماعون . وسورة العصر . وسورة القدر . وسورة النصر . أو تسري عن رسول الله [ ص ] وتواسيه وتوجهه إلى الإستعاذه بربه من كل شر , كسور الضحى . والانشراح . والكوثر . والفلق . والناس . . وهي سور قليلة على كل حال . .
وهناك ظاهرة أخرى في الأداء التعبيري لهذا الجزء . هناك أناقة واضحة في التعبير , مع اللمسات المقصودة لمواطن الجمال في الوجود والنفوس , وافتنان مبدع في الصور والظلال والإيقاع الموسيقي والقوافي والفواصل , تتناسق كلها مع طبيعته في خطاب الغافلين النائمين السادرين , لإيقاظهم واجتذاب حسهم وحواسهم بشتى الألوان وشتى الإيقاعات وشتى المؤثرات . . يتجلى هذا كله بصورة واضحة في مثل تعبيره اللطيف عن النجوم التي تخنس وتتوارى كالظباء في كناسها وتبرز , وعن الليل وكأنه حي يعس في الظلام , والصبح وكأنه حي يتنفس بالنور: (فلا أقسم بالخنس , الجوار الكنس ; والليل إذا عسعس . والصبح إذا تنفس)وفي عرضه لمشاهد الغروب والليل والقمر:(فلا أقسم بالشفق , والليل وما وسق , والقمر إذا اتسق). أو لمشاهد الفجر والليل وهو يتمشى ويسري:(والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر).(والضحى . والليل إذا سجى). وفي خطابه الموحي للقلب البشري:(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم ? الذي خلقك فسواك فعدلك . .)وفي وصف الجنة:(وجوه يومئذ ناعمة , لسعيها راضية , في جنة عالية , لا تسمع فيها لاغية . . .)ووصف النار: وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ما هيه ? نار حامية ! . . والأناقة في التعبير واضحة وضوح القصد في اللمسات الجمالية لمشاهد الكون وخوالج النفس .
والعدول أحيانا عن اللفظ المباشر إلى الكناية , وعن اللفظ القريب إلى الإشتقاق البعيد , لتحقيق التنغيم المقصود , مما يؤكد هذه اللفتة خلال الجزء كله على وجه التقريب . .
وهذه السورة نموذج لاتجاه هذا الجزء بموضوعاته وحقائقه وإيقاعاته ومشاهده وصوره وظلاله وموسيقاه ولمساته في الكون والنفس , والدنيا والآخرة ; واختيار الألفاظ والعبارات لتوقع أشد إيقاعاتها أثرا في الحس والضمير .
وهي تفتتح بسؤال موح مثير للاستهوال والاستعظام وتضخيم الحقيقة التي يختلفون عليها , وهي أمر عظيم لا خفاء فيه , ولا شبهة ; ويعقب على هذا بتهديدهم يوم يعلمون حقيقته:(عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم , الذي هم فيه مختلفون . كلا سيعلمون . ثم كلا سيعلمون !). .
ومن ثم يعدل السياق عن المعنى في الحديث عن هذا النبأ ويدعه لحينه , ويلفتهم إلى ما هو واقع بين أيديهم وحولهم , في ذوات أنفسهم وفي الكون حولهم من أمر عظيم , يدل على ما وراءه ويوحي بما سيتلوه:(ألم نجعل الأرض مهادا والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا , وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا وجنات ألفافا ?).
ومن هذا الحشد من الحقائق والمشاهد والصور والإيقاعات يعود بهم إلى ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون , والذي هددهم به يوم يعلمون ! ليقول لهم ما هو ? وكيف يكون:(إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
ثم مشهد العذاب بكل قوته وعنفه: (إن جهنم كانت مرصادا , للطاغين مآبا , لابثين فيها أحقابا , لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا . إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا , وكذبوا بآياتنا كذابا ,وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
ومشهد النعيم كذلك وهو يتدفق تدفقا:(إن للمتقين مفازا:حدائق وأعنابا , وكواعب أترابا , وكأسا دهاقا , لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . جزاء من ربك عطاء حسابا).
وتختم السورة بإيقاع جليل في حقيقته وفي المشهد الذي يعرض فيه . وبإنذار وتذكير قبل أن يجيء اليوم الذي يكون فيه هذا المشهد الجليل:(رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا . ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا . يوم ينظر المرء ما قدمت يداه , ويقول الكافر يا ليتني كنت ترابا). .
ذلك هو النبأ العظيم . الذي يتساءلون عنه . وذلك ما سيكون يوم يعلمون ذلك النبأ العظيم !
الدرس الأول:1 - 5 تهديد الكفار المنكرين للنبأ العظيم
(عم يتساءلون ? عن النبأ العظيم . الذي هم فيه مختلفون . كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون). . مطلع فيه استنكار لتساؤل المتسائلين , وفيه عجب أن يكون هذا الأمر موضع تساؤل . وقد كانوا يتساءلون عن يوم البعث ونبأ القيامة . وكان هو الأمر الذي يجادلون فيه أشد الجدل , ولا يكادون يتصورون وقوعه , وهو أولى شيء بأن يكون !
(عم يتساءلون ?). . وعن أي شيء يتحدثون ? ثم يجيب . فلم يكن السؤال بقصد معرفة الجواب منهم . إنما كان للتعجيب من حالهم وتوجيه النظر إلى غرابة تساؤلهم , بكشف الأمر الذي يتساءلون عنه وبيان حقيقته وطبيعته:
(عن النبأ العظيم , الذي هم فيه مختلفون). . ولم يحدد ما يتساءلون عنه بلفظه , إنما ذكره بوصفه . . النبأ العظيم . . استطرادا في أسلوب التعجيب والتضخيم . . وكان الخلاف على اليوم بين الذين آمنوا به والذين كفروا بوقوعه . أما التساؤل فكان من هؤلاء وحدهم .
ثم لا يجيب عن التساؤل , ولا يدلي بحقيقة النبأ المسؤول عنه . فيتركه بوصفه . . العظيم . . وينتقل إلى التلويح بالتهديد الملفوف , وهو أوقع من الجواب المباشر , وأعمق في التخويف:
(كلا ! سيعلمون . ثم كلا ! سيعلمون !). . ولفظ كلا , يقال في الردع والزجر فهو أنسب هنا للظل الذي يراد إلقاؤه . وتكراره وتكرار الجملة كلها فيه من التهديد ما فيه .
الدرس الثاني:6 - 16 تذكيرهم ببعض نعم الله عليهم
ثم يبعد في ظاهر الأمر عن موضوع ذلك النبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون . ليلتقي به بعد قليل . يبعد في جولة قريبة في هذا الكون المنظور مع حشد من الكائنات والظواهر والحقائق والمشاهد , تهز الكيان حين يتدبرها الجنان:
(ألم نجعل الأرض مهادا ? والجبال أوتادا ? وخلقناكم أزواجا ? وجعلنا نومكم سباتا ? وجعلنا الليل لباسا ? وجعلنا النهار معاشا ? وبنينا فوقكم سبعا شدادا ? وجعلنا سراجا وهاجا ? وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا ? لنخرج به حبا ونباتا , وجنات ألفافا ?). .
وهذه الجولة التي تتنقل في أرجاء هذا الكون الواسع العريض , مع هذا الحشد الهائل من الصور والمشاهد , تذكر في حيز ضيق مكتنز من الألفاظ والعبارات , مما يجعل إيقاعها في الحس حادا ثقيلا نفاذا , كأنه المطارق
أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً (8)
المتوالية , بلا فتور ولا انقطاع ! وصيغة الاستفهام الموجهة إلى المخاطبين - وهي في اللغة تفيد التقرير - صيغة مقصودة هنا , وكأنما هي يد قوية تهز الغافلين , وهي توجه أنظارهم وقلوبهم إلى هذا الحشد من الخلائق والظواهر التي تشي بما وراءها من التدبير والتقدير , والقدرة على الإنشاء والإعادة , والحكمة التي لا تدع أمر الخلائق سدى بلا حساب ولا جزاء . . ومن هنا تلتقي بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
واللمسة الأولى في هذه الجولة عن الأرض والجبال:
(ألم نجعل الأرض مهادا , والجبال أوتادا ?). .
والمهاد:الممهد للسير . . والمهاد اللين كالمهد . . وكلاهما متقارب . وهي حقيقة محسوسة للإنسان في أي طور من أطوار حضارته ومعرفته . فلا تحتاج إلى علم غزير لإدراكها في صورتها الواقعية . وكون الجبال أوتادا ظاهرة تراها العين كذلك حتى من الإنسان البدائي ; وهذه وتلك ذات وقع في الحس حين توجه إليها النفس .
غير أن هذه الحقيقة أكبر وأوسع مدى مما يحسها الإنسان البدائي لأول وهلة بالحس المجرد . وكلما ارتقت معارف الإنسان وازدادت معرفته بطبيعة هذا الكون وأطواره , كبرت هذه الحقيقة في نفسه ; وأدرك من ورائها التقدير الإلهي العظيم والتدبير الدقيق الحكيم , والتنسيق بين أفراد هذا الوجود وحاجاتهم ; وإعداد هذه الأرض لتلقي الحياة الإنسانية وحضانتها ; وإعداد هذا الإنسان للملاءمة مع البيئة والتفاهم معها .
وجعل الأرض مهادا للحياة - وللحياة الإنسانية بوجه خاص - شاهد لا يمارى في شهادته بوجود العقل المدبر من وراء هذا الوجود الظاهر . فاختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الأرض هكذا بجميع ظروفها . أو اختلال نسبة واحدة من النسب الملحوظة في خلق الحياة لتعيش في الأرض . . الاختلال هنا أو هناك لا يجعل الأرض مهادا ; ولا يبقي هذه الحقيقة التي يشير إليها القرآن هذه الإشارة المجملة , ليدركها كل إنسان وفق درجة معرفته ومداركه . .
وجعل الجبال أوتادا . . يدركه الإنسان من الناحية الشكلية بنظره المجرد , فهي أشبه شيء بأوتاد الخيمة التي تشد إليها . أما حقيقتها فنتلقاها من القرآن , وندرك منه أنها تثبت الأرض وتحفظ توازنها . . وقد يكون هذا لأنها تعادل بين نسب الأغوار في البحار ونسب المرتفعات في الجبال . . وقد يكون لأنها تعادل بين التقلصات الجوفية للأرض والتقلصات السطحية , وقد يكون لأنها تثقل الأرض في نقط معينة فلا تميد بفعل الزلازل والبراكين والاهتزازات الجوفية . . وقد يكون لسبب آخر لم يكشف عنه بعد . . وكم من قوانين وحقائق مجهولة أشار إليها القرآن الكريم . ثم عرف البشر طرفا منها بعد مئات السنين !
واللمسة الثانية في ذوات النفوس , في نواحي وحقائق شتى:
(وخلقناكم أزواجا). .
وهي ظاهرة كذلك ملحوظة يدركها كل إنسان بيسر وبساطة . . فقد خلق الله الإنسان ذكرا وأنثى , وجعل حياة هذا الجنس وامتداده قائمة على اختلاف الزوجين والتقائهما . وكل إنسان يدرك هذه الظاهرة , ويحس ما وراءها من راحة ولذة ومتاع وتجدد بدون حاجة إلى علم غزير . ومن ثم يخاطب بها القرآن الإنسان في أية بيئة فيدركها ويتأثر بها حين يتوجه تأمله إليها , ويحس ما فيها من قصد ومن تنسيق وتدبير .
ووراء هذا الشعور المبهم بقيمة هذه الحقيقة وعمقها , تأملات أخرى حين يرتقي الإنسان في المعرفة وفي الشعور أيضا . . هنالك التأمل في القدرة المدبرة التي تجعل من نطفة ذكرا , وتجعل من نطفة أنثى , بدون مميز
وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً (12)
ظاهر في هذه النطفة أو تلك , يجعل هذه تسلك طريقها لتكون ذكرا , وهذه تسلك طريقها لتكون أنثى . . اللهم إلا إرادة القدرة الخالقة وتدبيرها الخفي , وتوجيهها اللطيف , وإيداعها الخصائص التي تريدها هي لهذه النطفة وتلك , لتخلق منهما زوجين تنمو بهما الحياة وترقى !
(وجعلنا نومكم سباتا . وجعلنا الليل لباسا . وجعلنا النهار معاشا). .
وكان من تدبير الله للبشر أن جعل النوم سباتا يدركهم فيقطعهم عن الإدراك والنشاط ; ويجعلهم في حالة لا هي موت ولا هي حياة , تتكفل بإراحة أجسادهم وأعصابهم وتعويضها عن الجهد الذي بذلته في حالة الصحو والإجهاد والانشغال بأمور الحياة . . وكل هذا يتم بطريقة عجيبة لا يدرك الإنسان كنهها , ولا نصيب لإرادته فيها ; ولا يمكن أن يعرف كيف تتم في كيانه . فهو في حالة الصحو لا يعرف كيف يكون وهو في حالة النوم . وهو في حالة النوم لا يدرك هذه الحالة ولا يقدر على ملاحظتها ! وهي سر من أسرار تكوين الحي لا يعلمه إلا من خلق هذا الحي وأودعه ذلك السر ; وجعل حياته متوقفة عليه . فما من حي يطيق أن يظل من غير نوم إلا فترة محدودة . فإذا أجبر إجبارا بوسائل خارجة عن ذاته كي يظل مستيقظا فإنه يهلك قطعا .
وفي النوم أسرار غير تلبية حاجة الجسد والأعصاب . . إنه هدنة الروح من صراع الحياة العنيف , هدنة تلم بالفرد فيلقي سلاحه وجنته - طائعا أو غير طائع - ويستسلم لفترة من السلام الآمن , والسلام الذي يحتاجه الفرد حاجته إلى الطعام والشراب . ويقع ما يشبه المعجزات في بعض الحالات حيث يلم النعاس بالأجفان , والروح مثقل , والأعصاب مكدودة , والنفس منزعجة , والقلب مروع . وكأنما هذا النعاس - وأحيانا لا يزيد على لحظات - انقلاب تام في كيان هذا الفرد . وتجديد كامل لا لقواه بل له هو ذاته , وكأنما هو كائن حين يصحو جديد . . ولقد وقعت هذه المعجزة بشكل واضح للمسلمين المجهودين في غزوة بدر وفي غزوة أحد , وامتن الله عليهم بها . وهو يقول: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه). . (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم). . كما وقعت للكثيرين في حالات مشابهة !
فهذا السبات:أي الإنقطاع عن الإدراك والنشاط بالنوم ضرورة من ضرورات تكوين الحي ; وسر من أسرار القدرة الخالقة ; ونعمة من نعم الله لا يملك إعطاءها إلا إياه . وتوجيه النظر إليها على هذا النحو القرآني ينبه القلب إلى خصائص ذاته , وإلى اليد التي أودعتها كيانه , ويلمسه لمسة تثير التأمل والتدبر والتأثر .
وكان من تدبير الله كذلك أن جعل حركة الكون موافقة لحركة الأحياء . وكما أودع الإنسان سر النوم والسبات , بعد العمل والنشاط , فكذلك أودع الكون ظاهرة الليل ليكون لباسا ساترا يتم فيه السبات والانزواء . وظاهرة النهار ليكون معاشا تتم فيه الحركة والنشاط . . بهذا توافق خلق الله وتناسق . وكان هذا العالم بيئة مناسبة للأحياء . تلبي ما ركب فيهم من خصائص . وكان الأحياء مزودين بالتركيب المتفق في حركته وحاجاته مع ما هو مودع في الكون من خصائص وموافقات . وخرج هذا وهذا من يد القدرة المبدعة المدبرة متسقا أدق اتساق !
واللمسة الثالثة في خلق السماء متناسقة مع الأرض والأحياء:
(وبنينا فوقكم سبعا شدادا . وجعلنا سراجا وهاجا . وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا . لنخرج به حبا ونباتا , وجنات ألفافا). .
والسبع الشداد التي بناها الله فوق أهل الأرض هي السماوات السبع , وهي الطرائق السبع في موضع آخر . . والمقصود بها على وجه التحديد يعلمه الله . . فقد تكون سبع مجموعات من المجرات - وهي مجموعات من النجوم
وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاء ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً (16)
قد تبلغ الواحدة منها مائة مليون نجم - وتكون السبع المجرات هذه هي التي لها علاقة بأرضنا أو بمجموعتنا الشمسية . . وقد تكون غير هذه وتلك مما يعلمه الله من تركيب هذا الكون , الذي لا يعلم الإنسان عنه إلا القليل .
إنما تشير هذه الآية إلى أن هذه السبع الشداد متينة التكوين , قوية البناء , مشدودة بقوة تمنعها من التفكك والانثناء . وهو ما نراه ونعلمه من طبيعة الأفلاك والأجرام فيما نطلق عليه لفظ السماء فيدركه كل إنسان . . كما تشير إلى أن بناء هذه السبع الشداد متناسق مع عالم الأرض والإنسان ومن ثم يذكر في معرض تدبير الله وتقديره لحياة الأرض والإنسان . يدل على هذا ما بعده:(وجعلنا سراجا وهاجا). . وهو الشمس المضيئة الباعثة للحرارة التي تعيش عليها الأرض وما فيها من الأحياء . والتي تؤثر كذلك في تكوين السحائب بتبخير المياه من المحيط الواسع في الأرض ورفعها إلى طبقات الجو العليا وهي المعصرات:(وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا). . حين تعصر فتخر ويتساقط ما فيها من الماء . ومن يعصرها ? قد تكون هي الرياح . وقد يكون هو التفريغ الكهربائي في طبقات الجو . ومن وراء هذه وتلك يد القدرة التي تودع الكون هذه المؤثرات ! وفي السراج توقد وحرارة وضوء . . وهو ما يتوافر في الشمس . فاختيار كلمة(سراج)دقيق كل الدقة ومختار . .
ومن السراج الوهاج وما يكسبه من أشعة فيها ضوء وحرارة , ومن المعصرات وما يعتصر منها من ماء ثجاج , ينصب دفعة بعد دفعة كلما وقع التفريغ الكهربائي مرة بعد مرة , وهو الثجاج , من هذا الماء مع هذا الإشعاع يخرج الحب والنبات الذي يؤكل هو ذاته , والجنات الألفاف الكثيفة الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان .
وهذا التناسق في تصميم الكون , لا يكون إلا ووراءه يد تنسقه , وحكمة تقدره , وإرادة تدبره . يدرك هذا بقلبه وحسه كل إنسان حين توجه مشاعره هذا التوجيه , فإذا ارتقى في العلم والمعرفة تكشفت له من هذا التناسق آفاق ودرجات تذهل العقول وتحير الألباب . وتجعل القول بأن هذا كله مجرد مصادفة قولا تافها لا يستحق المناقشة . كما تجعل التهرب من مواجهة حقيقة القصد والتدبير في هذا الكون , مجرد تعنت لا يستحق الاحترام !
إن لهذا الكون خالقا , وإن وراء هذا الكون تدبيرا وتقديرا وتنسيقا . وتوالي هذه الحقائق والمشاهد في هذا النص القرآني على هذا النحو:من جعل الأرض مهادا والجبال أوتادا . وخلق الناس أزواجا . وجعل نومهم سباتا [ بعد الحركة والوعي والنشاط ] مع جعل الليل لباسا للستر والانزواء , وجعل النهار معاشا للوعي والنشاط . ثم بناء السبع الشداد . وجعل السراج الوهاج . وإنزال الماء الثجاج من المعصرات . لإنبات الحب والنبات والجنات . . توالي هذه الحقائق والمشاهد على هذا النحو يوحي بالتناسق الدقيق , ويشي بالتدبير والتقدير , ويشعر بالخالق الحكيم القدير . ويلمس القلب لمسات موقظة موحية بما وراء هذه الحياة من قصد وغاية . . ومن هنا يلتقي السياق بالنبأ العظيم الذي هم فيه مختلفون !
الدرس الثالث:17 - 20 من مشاهد يوم القيامة نفخ الصور()
ولقد كان ذلك كله للعمل والمتاع . ووراء هذا كله حساب وجزاء . ويوم الفصل هو الموعد الموقوت للفصل:(إن يوم الفصل كان ميقاتا . يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
إن الناس لم يخلقوا عبثا , ولن يتركوا سدى . والذي قدر حياتهم ذلك التقدير الذي يشي به المقطع الماضي في السياق , ونسق حياتهم مع الكون الذي يعيشون فيه ذلك التنسيق , لا يمكن أن يدعهم يعيشون سدى ويموتون هملا ! ويصلحون في الأرض أو يفسدون ثم يذهبون في التراب ضياعا ! ويهتدون في الحياة أو يضلون ثم يلقون مصيرا واحدا . ويعدلون في الأرض أو يظلمون ثم يذهب العدل والظلم جميعا !
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً (17) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاء فَكَانَتْ أَبْوَاباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَاباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً (21) لِلْطَّاغِينَ مَآباً (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً (23) لَّا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلَا شَرَاباً (24) إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزَاء وِفَاقاً (26)
إن هنالك يوما للحكم والفرقان والفصل في كل ما كان . وهو اليوم المرسوم الموعود الموقوت بأجل عند الله معلوم محدود:
(إن يوم الفصل كان ميقاتا). .
وهو يوم ينقلب فيه نظام هذا الكون وينفرط فيه عقد هذا النظام .
(يوم ينفخ في الصور فتأتون أفواجا . وفتحت السماء فكانت أبوابا , وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
والصور:البوق . ونحن لا ندري عنه إلا اسمه . ولا نعلم إلا أنه سينفخ فيه . وليس لنا أن نشغل أنفسنا بكيفية ذلك . فهي لا تزيدنا إيمانا ولا تأثرا بالحادث . وقد صان الله طاقتنا عن أن تتبدد في البحث وراء هذا الغيب المكنون , وأعطانا منه القدر الذي ينفعنا فلا نزيد ! إنما نحن نتصور النفخة الباعثة المجمعة التي يأتي بها الناس أفواجا . . نتصور هذا المشهد والخلائق التي توارت شخوصها جيلا بعد جيل , وأخلت وجه الأرض لمن يأتي بعدها كي لا يضيق بهم وجه الأرض المحدود . . نتصور مشهد هذه الخلائق جميعا . . أفواجا . . مبعوثين قائمين آتين من كل فج إلى حيث يحشرون . ونتصور الأجداث المبعثرة وهذه الخلائق منها قائمة . ونتصور الجموع الحاشدة لا يعرف أولها آخرها , ونتصور هذا الهول الذي تثيره تلك الحشود التي لم تتجمع قط في وقت واحد وفي ساعة واحدة إلا في هذا اليوم . . أين ? لا ندري . . ففي هذا الكون الذي نعرفه أحداث وأهوال جسام:
(وفتحت السماء فكانت أبوابا . وسيرت الجبال فكانت سرابا). .
السماء المبنية المتينة . . فتحت فكانت أبوابا . . فهي منشقة . منفرجة . كما جاء في مواضع وسور أخرى . على هيئة لا عهد لنا بها . والجبال الرواسي الأوتاد سيرت فكانت سرابا . فهي مدكوكة مبسوسة مثارة في الهواء هباء , يحركه الهواء - كما جاء في مواضع وسور أخرى . ومن ثم فلا وجود لها كالسراب الذي ليس له حقيقة . أو إنها تنعكس إليها الأشعة وهي هباء فتبدو كالسراب !
إنه الهول البادي في انقلاب الكون المنظور , كالهول البادي في الحشر بعد النفخ في الصور . وهذا هو يوم الفصل المقدر بحكمة وتدبير . .
الدرس الرابع:21 - 30 لقطات من عذاب الكفار في النار
ثم يمضي السياق خطوة وراء النفخ والحشر , فيصور مصير الطغاة ومصير التقاة . بادئا بالأولين المكذبين المتسائلين عن النبأ العظيم:
(إن جهنم كانت مرصادا , للطاغين مآبا , لابثين فيها أحقابا . لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا , إلا حميما وغساقا . جزاء وفاقا . إنهم كانوا لا يرجون حسابا , وكذبوا بآياتنا كذابا . وكل شيء أحصيناه كتابا . فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
إن جهنم خلقت ووجدت وكانت مرصادا للطاغين تنتظرهم وتترقبهم وينتهون إليها فإذا هي معدة لهم , مهيأة لاستقبالهم . وكأنما كانوا في رحلة في الأرض ثم آبوا إلى مأواهم الأصيل ! وهم يردون هذا المآب للإقامة الطويلة المتجددة أحقابا بعد أحقاب:
(لا يذوقون فيها بردا ولا شرابا). . ثم يستثني . . فإذا الاستثناء أمر وأدهى:(إلا حميما وغساقا). . إلا الماء الساخن يشوي الحلوق والبطون . فهذا هو البرد ! وإلا الغساق الذي يغسق من أجساد المحروقين ويسيل . فهذا هو الشراب !
إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَاباً (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً (29) فَذُوقُوا فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً (33) وَكَأْساً دِهَاقاً (34) لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلَا كِذَّاباً (35) جَزَاء مِّن رَّبِّكَ عَطَاء حِسَاباً (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً (37)
(جزاء وفاقا). . يوافق ما أسلفوا وما قدموا . .(إنهم كانوا لا يرجون حسابا). . ولا يتوقعون مآبا . .(وكذبوا بآياتنا كذابا). . وجرس اللفظ فيه شدة توحي بشدة التكذيب وشدة الإصرار عليه .
بينما كان الله يحصي عليهم كل شيء إحصاء دقيقا لا يفلت منه حرف:(وكل شيء أحصيناه كتابا). . هنا يجيء التأنيب الميئس من كل رجاء في تغيير أو تخفيف:(فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا). .
الدرس الخامس:31 - 36 لقطات من نعيم المتقين في الجنة
ثم يعرض المشهد المقابل:مشهد التقاة في النعيم . بعد مشهد الطغاة في الحميم:
(إن للمتقين مفازا . حدائق وأعنابا . وكواعب أترابا . وكأسا دهاقا . لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا . . جزاء من ربك عطاء حسابا). .
فإذا كانت جهنم هناك مرصدا ومآبا للطاغين , لا يفلتون منها ولا يتجاوزونها , فإن المتقين ينتهون إلى مفازة ومنجاة , تتمثل(حدائق وأعنابا)ويخص الأعناب بالذكر والتعيين لأنها مما يعرفه المخاطبون . .(وكواعب)وهن الفتيات الناهدات اللواتي استدارت ثديهن(أترابا)متوافيات السن والجمال .(وكأسا دهاقا)مترعة بالشراب .
وهي مناعم ظاهرها حسي , لتقريبها للتصور البشري . أما حقيقة مذاقها والمتاع بها فلا يدركها أهل الأرض وهم مقيدون بمدارك الأرض وتصوراتها . . وإلى جوارها حالة يتذوقها الضمير ويدركها الشعور:(لا يسمعون فيها لغوا ولا كذابا). . فهي حياة مصونة من اللغو والتكذيب الذي يصاحبه الجدل ; فالحقيقة مكشوفة لا مجال فيها لجدل ولا تكذيب ; كما أنه لا مجال للغو الذي لا خير فيه . . وهي حالة من الرفعة والمتعة تليق بدار الخلود . .
(جزاء من ربك عطاء حسابا). . ونلمح هنا ظاهرة الأناقة في التعبير والموسيقى في التقسيم بين(جزاء)و(عطاء). . كما نلمحها في الإيقاع المشدود في الفواصل كلها على وجه التقريب . . وهي الظاهرة الواضحة في الجزء كله إجمالا .
الدرس السادس:37 - 38 لا كلام يوم القيامة إلا بإذن الله
وتكملة لمشاهد اليوم الذي الذي يتم فيه ذلك كله , والذي يتساءل عنه المتسائلون , ويختلف فيه المختلفون . يجيء المشهد الختامي في السورة , حيث يقف جبريل "عليه السلام" والملائكة صفا بين يدي الرحمن خاشعين . لا يتكلمون - إلا من أذن له الرحمن - في الموقف المهيب الجليل:
(رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطابا . يوم يقوم الروح والملائكة صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا). .
ذلك الجزاء الذي فصله في المقطع السابق:جزاء الطغاة وجزاء التقاة . هذا الجزاء (من ربك). . (رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن). . فهي المناسبة المهيأة لهذه اللمسة ولهذه الحقيقة الكبيرة . حقيقة الربوبية الواحدة التي تشمل الإنسان . كما تشمل السماوات والأرض , وتشمل الدنيا والآخرة , وتجازي على الطغيان والتقوى , وتنتهي إليها الآخرة والأولى . . ثم هو(الرحمن). . ومن رحمته ذلك الجزاء لهؤلاء وهؤلاء . حتى عذاب الطغاة ينبثق من رحمة الرحمن . ومن الرحمة أن يجد الشر جزاءه وألا يتساوى مع الخير في مصيره !
ومع الرحمة والجلال: (لا يملكون منه خطابا). . في ذلك اليوم المهيب الرهيب:يوم يقف جبريل -
يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفّاً لَّا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَن شَاء اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَاباً (40)
عليه السلام - والملائكة الآخرون (صفا لا يتكلمون). . إلا بإذن من الرحمن حيث يكون القول صوابا . فما يأذن الرحمن به إلا وقد علم أنه صواب .
الدرس السابع:39 - 40 دعوة للنجاة من ذلك اليوم
وموقف هؤلاء المقربين إلى الله , الأبرياء من الذنب والمعصية . موقفهم هكذا صامتين لا يتكلمون إلا بإذن وبحساب . . يغمر الجو بالروعة والرهبة والجلال والوقار . وفي ظل هذا المشهد تنطلق صيحة من صيحات الإنذار , وهزة للنائمين السادرين في الخمار:
ذلك اليوم الحق . فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا . إنا أنذرناكم عذابا قريبا:يوم ينظر المرء ما قدمت يداه , ويقول الكافر:يال ليتني كنت ترابا . .
إنها الهزة العنيفة لأولئك الذين يتساءلون في ارتياب: (ذلك اليوم الحق). . فلا مجال للتساؤل والاختلاف . . والفرصة ما تزال سانحة ! (فمن شاء اتخذ إلى ربه مآبا). . قبل أن تكون جهنم مرصادا ومآبا !
وهو الإنذار الذي يوقظ من الخمار: (إنا أنذرناكم عذابا قريبا). . ليس بالبعيد , فجهنم تنتظركم وتترصد لكم . على النحو الذي رأيتم . والدنيا كلها رحلة قصيرة , وعمر قريب !
وهو عذاب من الهول بحيث يدع الكافر يؤثر العدم على الوجود: (يوم ينظر المرء ما قدمت يداه . ويقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا). . وما يقولها إلا وهو ضائق مكروب !
وهو تعبير يلقي ظلال الرهبة والندم , حتى ليتمنى الكائن الإنساني أن ينعدم . ويصير إلى عنصر مهمل زهيد . ويرى هذا أهون من مواجهة الموقف الرعيب الشديد . . وهو الموقف الذي يقابل تساؤل المتسائلين وشك المتشككين . في ذلك النبأ العظيم !!!
سورة النازعات
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7)
سورة النازعات
تعريف بسورة النازعات
هذه السورة نموذج من نماذج هذا الجزء لإشعار القلب البشري حقيقة الآخرة , بهولها وضخامتها , وجديتها , وأصالتها في التقدير الإلهي لنشأة هذا العالم الإنساني , والتدبير العلوي لمراحل هذه النشأة وخطواتها على ظهر الأرض وفي جوفها ; ثم في الدار الآخرة , التي تمثل نهاية هذه النشأة وعقباها .
وفي الطريق إلى إشعار القلب البشري حقيقة الآخرة الهائلة الضخمة العظيمة الكبيرة يوقع السياق إيقاعات منوعة على أوتار القلب , ويلمسه لمسات شتى حول تلك الحقيقة الكبرى . وهي إيقاعات ولمسات تمت إليها بصلة . فتلك الحقيقة تمهد لها في الحس وتهيئه لاستقبالها في يقظة وفي حساسية . .
يمهد لها بمطلع غامض الكنه يثير بغموضه شيئا من الحدس والرهبة والتوجس . يسوقه في إيقاع موسيقي راجف لاهث , كأنما تنقطع به الأنفاس من الذعر والارتجاف والمفاجأة والانبهار:(والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا). .
وعقب هذا المطلع الغامض الراجف الواجف يجيء المشهد الأول من مشاهد ذلك اليوم . ظله من ظل ذلك المطلع وطابعه من طابعه ; كأنما المطلع إطار له وغلاف يدل عليه: يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون:أئنا لمردودون في الحافرة ? أئذا كنا عظاما نخرة ? قالوا:تلك إذا كرة خاسرة ! فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .
ومن هنالك . . من هذا الجو الراجف الواجف المبهور المذعور . . يأخذ في عرض مصرع من مصارع المكذبين العتاة في حلقة من قصة موسى مع فرعون . فيهدأ الإيقاع الموسيقي ويسترخي شيئا ما , ليناسب جو الحكاية والعرض: هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى:اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل:هل لك إلى أن تزكى ? وأهديك إلى ربك فتخشى ? فأراه الآية الكبرى , فكذب وعصى , ثم أدبر يسعى , فحشر فنادى , فقال:أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى . . وبهذا يلتقي ويمهد لتلك الحقيقة الكبرى .
ثم ينتقل من ساحة التاريخ إلى كتاب الكون المفتوح , ومشاهد الكون الهائلة , الشاهدة بالقوة والتدبير والتقدير للألوهية المنشئة للكون , المهيمنة على مصائره , في الدنيا والآخرة . فيعرضها في تعبيرات قوية الأسر , قوية الإيقاع , تتسق مع مطلع السورة وإيقاعها العام: (أأنتم أشد خلقا أم السماء ? بناها , رفع سمكها فسواها , وأغطش ليلها وأخرج ضحاها ; والأرض بعد ذلك دحاها , أخرج منها ماءها ومرعاها , والجبال أرساها , متاعا لكم ولأنعامكم). .
وهنا - بعد هذه التمهيدات المقربة وهذه اللمسات الموحية - يجيء مشهد الطامة الكبرى , وما يصاحبها من جزاء على ما كان في الحياة الدنيا . جزاء يتحقق هو الآخر في مشاهد تتناسق صورها وظلالها مع الطامة الكبرى:(فإذا جاءت الطامة الكبرى , يوم يتذكر الإنسان ما سعى , وبرزت الجحيم لمن يرى ! فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا , فإن الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى). .
وفي اللحظة التي يغمر الوجدان فيها ذلك الشعور المنبعث من مشاهد الطامة الكبرى , والجحيم المبرزة لمن يرى , وعاقبة من طغى وآثر الحياة الدنيا , ومن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . . في هذه اللحظةيرتد السياق إلى المكذبين بهذه الساعة , الذين يسألون الرسول [ ص ] عن موعدها . يرتد إليهم بإيقاع يزيد من روعة الساعة وهولها في الحس وضخامتها:(يسألونك عن الساعة أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها). . والهاء الممدودة ذات الإيقاع الضخم الطويل , تشارك في تشخيص الضخامة وتجسيم التهويل !
الدرس الأول:1 - 5 القسم بمخلوقات عظيمة
(والنازعات غرقا . والناشطات نشطا . والسابحات سبحا . فالسابقات سبقا . فالمدبرات أمرا). قيل في تفسير هذه الكلمات:إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعا شديدا . ناشطات منطلقات في حركاتها . سابحات في العوالم العليا سابقات للإيمان أو للطاعة لأمر ربها مدبرات ما يوكل من الأمور إليها . .
وقيل:إنها النجوم تنزع في مداراتها وتتحرك وتنشط منتقلة من منزل إلى منزل . وتسبح سبحا في فضاء الله وهي معلقة به . وتسبق سبقا في جريانها ودورانها . وتدبر من النتائج والظواهر ما وكله الله إليها مما يؤثر في حياة الأرض ومن عليها .
وقيل:النازعات والناشطات والسابحات والسابقات هي النجوم . والمدبرات هي الملائكة .
وقيل:النازعات والناشطات والسابحات هي النجوم . والسابقات والمدبرات هي الملائكة . .
وأيا ما كانت مدلولاتها فنحن نحس من الحياة في الجو القرآني أن إيرادها على هذا النحو , ينشئ أولا وقبل كل شيء هزة في الحس , وتوجسا في الشعور , وتوفزا وتوقعا لشيء يهول ويروع . ومن ثم فهي تشارك في المطلع مشاركة قوية في إعداد الحس لتلقي ما يروع ويهول من أمر الراجفة والرادفة والطامة الكبرى في النهاية !
وتمشيا مع هذا الإحساس نؤثر أن ندعها هكذا بدون زيادة في تفصيل مدلولاتها ومناقشتها ; لنعيش في ظلال القرآن بموحياته وإيحاءاته على طبيعتها . فهزة القلب وإيقاظه هدف في ذاته , يتحراه الخطاب القرآني بوسائل شتى . . ثم إن لنا في عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أسوة . وقد قرأ سورة "عبس وتولى " حتى جاء إلى قوله تعالى:(وفاكهة وأبا). . فقال:" قد عرفنا الفاكهة . فما الأب ? ثم استدرك قائلا:لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف ! وما عليك ألا تعرف لفظا في كتاب الله تعالى ?! " . . . وفي رواية أنه قال:كل هذا قد عرفنا فما الأب ? ثم رفض عصا كانت بيده - أي كسرها غضبا على نفسه - وقال:" هذا لعمر الله التكلف ! وما عليك يا بن أم عمر أن لا تدري ما الأب " . ثم قال:" اتبعوا ما تبين لكم من هذا الكتاب , وما لا , فدعوه " . . فهذه كلمات تنبعث عن الأدب أمام كلمات الله العظيمة . أدب العبد أمام كلمات الرب . التي قد يكون بقاؤها مغلفة هدفا في ذاته , يؤدي غرضا بذاته .
الدرس الثاني:6 - 14 الراجفة والرادفة وخسارة الكفار فيها
هذا المطلع جاء في صيغة القسم , على أمر تصوره الآيات التالية في السورة:
يوم ترجف الراجفة . تتبعها الرادفة . قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة . يقولون:أإنا لمردودون في الحافرة ? أإذا كنا عظاما نخرة ? قالوا:تلك إذن كرة خاسرة ! . . فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة . .
والراجفة ورد أنها الأرض استنادا إلى قوله تعالى في سورة أخرى: (يوم ترجف الأرض والجبال). . والرادفة:ورد أنها السماء . أي أنها تردف الأرض وتتبعها في الانقلاب حيث تنشق وتتناثر كواكبها . .
كذلك ورد أن الراجفة هي الصيحة الأولى , التي ترجف لها الأرض والجبال والأحياء جميعا , ويصعق لها
قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُم بِالسَّاهِرَةِ (14)
من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله . والرادفة هي النفخة الثانية التي يصحون عليها ويحشرون [ كما جاء في سورة الزمر آية 68 ] . .
وسواء كانت هذه أم تلك . فقد أحس القلب البشري بالزلزلة والرجفة والهول والاضطراب ; واهتز هزة الخوف والوجل والرعب والارتعاش . وتهيأ لإدراك ما يصيب القلوب يومئذ من الفزع الذي لا ثبات معه ولا قرار . وأدرك وأحس حقيقة قوله:(قلوب يومئذ واجفة . أبصارها خاشعة). .
فهي شديدة الاضطراب , بادية الذل , يجتمع عليها الخوف والانكسار , والرجفة , والانهيار . وهذا هو الذي يقع يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة ; وهذا هو الذي يتناوله القسم بالنازعات غرقا والناشطات نشطا , والسابحات سبحا , والسابقات سبقا , فالمدبرات أمرا . وهو مشهد يتفق في ظله وإيقاعه مع ذلك المطلع .
ثم يمضي السياق يتحدث عن وهلتهم وانبهارهم حين يقومون من قبورهم في ذهول:
يقولون:أإنا لمردودون في الحافرة ? أإذا كنا عظاما نخرة ? . .
فهم يتساءلون:أنحن مردودون إلى الحياة عائدون في طريقنا الأولى . . يقال:رجع في حافرته:أي في طريقه التي جاء منها . فهم في وهلتهم وذهولهم يسألون:إن كانوا راجعين في طريقهم إلى حياتهم ? ويدهشون:كيف يكون هذا بعد إذ كانوا عظاما نخرة . منخوبة يصوت فيها الهواء ?!
ولعلهم يفيقون , أو يبصرون , فيعلمون أنها كرة إلى الحياة , ولكنها الحياة الأخرى , فيشعرون بالخسارة والوبال في هذه الرجعة , فتند منهم تلك الكلمة:
قالوا:تلك إذن كرة خاسرة !
كرة لم يحسبوا حسابها , ولم يقدموا لها زادها , وليس لهم فيها إلا الخسران الخالص !
هنا - في مواجهة هذا المشهد - يعقب السياق القرآني بحقيقة ما هو كائن:
(فإنما هي زجرة واحدة . فإذا هم بالساهرة). .
والزجرة:هي الصيحة . ولكنها تقال هنا بهذا اللفظ العنيف تنسيقا لجو المشهد مع مشاهد السورة جميعا . والساهرة هي الأرض البيضاء اللامعة . وهي أرض المحشر , التي لا ندري نحن أين تكون . والخبر عنها لا نعرفه إلا من الخبر الصادق نتلقاه , فلا نزيد عليه شيئا غير موثوق به ولا مضمون !
وهذه الزجرة الواحدة يغلب - بالاستناد إلى النصوص الأخرى - أنها النفخة الثانية . نفخة البعث والحشر . والتعبير عنها فيه سرعة . وهي ذاتها توحي بالسرعة . وإيقاع السورة كلها فيه هذا اللون من الإسراع والإيجاف . والقلوب الواجفة تأخذ صفتها هذه من سرعة النبض , فالتناسق ملحوظ في كل حركة وفي كل لمحة , وفي كل ظل في السياق !
الدرس الثالث:15 - 26 لقطات من طغيان فرعون ودماره
ثم يهدأ الإيقاع شيئا ما , في الجولة القادمة , ليناسب جو القصص , وهو يعرض ما كان بين موسى وفرعون , وما انتهى إليه هذا الطاغية عندما طغى:
هل أتاك حديث موسى . إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى . اذهب إلى فرعون إنه طغى . فقل:هل لك
هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَى أَن تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)
إلى أن تزكى ? وأهديك إلى ربك فتخشى ? فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى , ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال:أنا ربكم الأعلى . فأخذه الله نكال الآخرة والأولى . . إن في ذلك لعبرة لمن يخشى). .
وقصة موسى هي أكثر القصص ورودا وأكثرها تفصيلا في القرآن . . وقد وردت من قبل في سور كثيرة . وردت منها حلقات منوعة . ووردت في أساليب شتى . كل منها تناسب سياق السورة التي وردت فيها ; وتشارك في أداء الغرض البارز في السياق . على طريقة القرآن في إيراد القصص وسرده .
وهنا ترد هذه القصة مختصرة سريعة المشاهد منذ أن نودي موسى بالوادي المقدس , إلى أخذ فرعون . . أخذه في الدنيا ثم في الآخرة . . فنلتقي بموضوع السورة الأصيل . وهو حقيقة الآخرة . وهذا المدى الطويل من القصة يرد هنا في آيات معدودات قصار سريعة , ليناسب طبيعة السورة وإيقاعها .
وتتضمن هذه الآيات القصار السريعة عدة حلقات ومشاهد من القصة . .
وهي تبدأ بتوجيه الخطاب إلى الرسول [ ص ]:(هل أتاك حديث موسى ?). . وهو استفهام للتمهيد وإعداد النفس والأذن لتلقي القصة وتمليها . .
ثم تأخذ في عرض الحديث كما تسمى القصة . وهو إيحاء بواقعيتها فهي حديث جرى . فتبدأ بمشهد المناداة والمناجاة:(إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى). . وطوى اسم الوادي على الأرجح . وهو بجانب الطور الأيمن بالنسبة للقادم من مدين في شمال الحجاز .
ولحظة النداء لحظة رهيبة جليلة . وهي لحظة كذلك عجيبة . ونداء الله بذاته - سبحانه - لعبد من عباده أمر هائل . أهول مما تملك الألفاظ البشرية أن تعبر . وهي سر من أسرار الألوهية العظيمة , كما هي سر من أسرار التكوين الإنساني التي أودعها الله هذا الكائن , وهيأه بها لتلقي ذلك النداء . وهذا أقصى ما نملك أن نقوله في هذا المقام , الذي لا يملك الإدراك البشري أن يحيط منه بشيء ; فيقف على إطاره , حتى يكشف الله له عنه فيتذوقه بشعوره .
وفي مواضع أخرى تفصيل للمناجاة بين موسى وربه في هذا الموقف . فأما هنا فالمجال مجال اختصار وإيقاعات سريعة . ومن ثم يبادر السياق بحكاية أمر التكليف الإلهي لموسى , عقب ذكر النداء بالوادي المقدس طوى:(اذهب إلى فرعون . إنه طغى . فقل:هل لك إلى أن تزكى ! وأهديك إلى ربك فتخشى ?). .
(اذهب إلى فرعون . إنه طغى). . والطغيان أمر لا ينبغي أن يكون ولا أن يبقى . إنه أمر كريه , مفسد للأرض , مخالف لما يحبه الله , مؤد إلى ما يكره . . فمن أجل منعه ينتدب الله عبدا من عباده المختارين . ينتدبه بنفسه سبحانه . ليحاول وقف هذا الشر , ومنع هذا الفساد , ووقف هذا الطغيان . . إنه أمر كريه شديد الكراهية حتى ليخاطب الله بذاته عبدا من عباده ليذهب إلى الطاغية , فيحاول رده عما هو فيه , والإعذار إليه قبل أن يأخذه الله تعالى نكال الآخرة والأولى !
ذهب إلى فرعون . إنه طغى . . ثم يعلمه الله كيف يخاطب الطاغية بأحب أسلوب وأشده جاذبية للقلوب , لعله ينتهي , ويتقي غضب الله وأخذه:(فقل:هل لك إلى أن تزكى ?). . هل لك إلى أن تتطهر من رجس الطغيان ودنس العصيان ? هل لك إلى طريق الصلاة والبركة ?(وأهديك إلى ربك فتخشى). . هل لك أن أعرفك طريق ربك ? فإذا عرفته وقعت في قلبك خشيته . فما يطغى الإنسان ويعصى إلا حين يذهب عن ربه
فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25)
بعيدا , وإلا حين يضل طريقه إليه فيقسو قلبه ويفسد , فيكون منه الطغيان والتمرد !
كان هذا في مشهد النداء والتكليف . وكان بعده في مشهد المواجهة والتبليغ . والسياق لا يكرره في مشهد التبليغ . اكتفاء بعرضه هناك وذكره . فيطوي ما كان بعد مشهد النداء , ويختصر عبارة التبليغ في مشهد التبليغ . ويسدل الستار هنا ليرفعه على ختام مشهد المواجهة:
(فأراه الآية الكبرى . فكذب وعصى). .
لقد بلغ موسى ما كلف تبليغه . بالأسلوب الذي لقنه ربه وعرفه . ولم يفلح هذا الأسلوب الحبيب في إلانة القلب الطاغي الخاوي من معرفة ربه . فأراه موسى الآية الكبرى . آية العصا واليد البيضاء كما جاء في المواضع الأخرى:(فكذب وعصى). . وانتهى مشهد اللقاء والتبليغ عند التكذيب والمعصية في اختصار وإجمال !
ثم يعرض مشهدا آخر . مشهد فرعون يتولى عن موسى , ويسعى في جمع السحرة للمباراة بين السحر والحق . حين عز عليه أن يستسلم للحق والهدى:
(ثم أدبر يسعى . فحشر فنادى . فقال:أنا ربكم الأعلى). .
ويسارع السياق هنا إلى عرض قولة الطاغية الكافرة , مجملا مشاهد سعيه وحشره للسحرة وتفصيلاتها . فقد أدبر يسعى في الكيد والمحاولة , فحشر السحرة والجماهير ; ثم انطلقت منه الكلمة الوقحة المتطاولة , المليئة بالغرور والجهالة: (أنا ربكم الأعلى). .
قالها الطاغية مخدوعا بغفلة جماهيره , وإذعانها وانقيادها . فما يخدع الطغاة شيء ما تخدعهم غفلة الجماهير وذلتها وطاعتها وانقيادها . وما الطاغية إلا فرد لا يملك في الحقيقة قوة ولا سلطانا . إنما هي الجماهير الغافلة الذلول , تمطي له ظهرها فيركب ! وتمد له أعناقها فيجر ! وتحني له رؤوسها فيستعلي ! وتتنازل له عن حقها في العزة والكرامة فيطغى !
والجماهير تفعل هذا مخدوعة من جهة وخائفة من جهة أخرى . وهذا الخوف لا ينبعث إلا من الوهم . فالطاغية - وهو فرد - لا يمكن أن يكون أقوى من الألوف والملايين , لو أنها شعرت بإنسانيتها وكرامتها وعزتها وحريتها . وكل فرد فيها هو كفء للطاغية من ناحية القوة ولكن الطاغية يخدعها فيوهمها أنه يملك لها شيئا ! وما يمكن أن يطغى فرد في أمة كريمة أبدا . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة رشيدة أبدا . وما يمكن أن يطغى فرد في أمة تعرف ربها وتؤمن به وتأبى أن تتعبد لواحد من خلقه لا يملك لها ضرا ولا رشدا !
فأما فرعون فوجد في قومه من الغفلة ومن الذلة ومن خواء القلب من الإيمان , ما جرؤ به على قول هذه الكلمة الكافرة الفاجرة: (أنا ربكم الأعلى). . وما كان ليقولها أبدا لو وجد أمة واعية كريمة مؤمنة , تعرف أنه عبد ضعيف لا يقدر على شيء . وإن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذ من الذباب شيئا !
وأمام هذا التطاول الوقح , بعد الطغيان البشع , تحركت القوة الكبرى:
(فأخذه الله نكال الآخرة والأولى). .
ويقدم هنا نكال الآخرة على نكال الأولى . . لأنه أشد وأبقى . فهو النكال الحقيقي الذي يأخذ الطغاة والعصاة بشدته وبخلوده . . ولأنه الأنسب في هذا السياق الذي يتحدث عن الآخرة ويجعلها موضوعه الرئيسي . . ولأنه يتسق لفظيا مع الإيقاع الموسيقي في القافية بعد اتساقه معنويا مع الموضوع الرئيسي , ومع الحقيقة الأصيلة .
ونكال الأولى كان عنيفا قاسيا . فكيف بنكال الآخرة وهو أشد وأنكى ? وفرعون كان ذا قوة وسلطان
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى (26) أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَاء بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32)
ومجد موروث عريق ; فكيف بغيره من المكذبين ? وكيف بهؤلاء الذين يواجهون الدعوة من المشركين ?
(إن في ذلك لعبرة لمن يخشى). .
فالذي يعرف ربه ويخشاه هو الذي يدرك ما في حادث فرعون من العبرة لسواه . أما الذي لا يعرف قلبه التقوى فبينه وبين العبرة حاجز , وبينه وبين العظة حجاب . حتى يصطدم بالعاقبة اصطداما . وحتى يأخذه الله نكال الآخرة والأولى . وكل ميسر لنهج , وكل ميسر لعاقبة . والعبرة لمن يخشى . .
الدرس الرابع:27 من آيات الله في السماء والأرض
ومن هذه الجولة في مصارع الطغاة المعتدين بقوتهم , يعود إلى المشركين المعتزين بقوتهم كذلك . فيردهم إلى شيء من مظاهر القوة الكبرى , في هذا الكون الذي لا تبلغ قوتهم بالقياس إليه شيئا:
(أأنتم أشد خلقا أم السماء ? بناها . رفع سمكها فسواها . وأغطش ليلها وأخرج ضحاها . والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها . متاعا لكم ولأنعامكم). .
وهو استفهام لا يحتمل إلا إجابة واحدة بالتسليم الذي لا يقبل الجدل: (أأنتم أشد خلقا أم السماء ?). . السماء ! بلا جدال ولا كلام ! فما الذي يغركم من قوتكم والسماء أشد خلقا منكم , والذي خلقها أشد منها ? هذا جانب من إيحاء السؤال . وهناك جانب آخر . فما الذي تستصعبونه من أمر بعثكم ? وهو خلق السماء وهي أشد من خلقكم ; وبعثكم هو إعادة لخلقكم , والذي بنى السماء وهي أشد , قادر على إعادتكم وهي أيسر !
هذه السماء الأشد خلقا بلا مراء . .(بناها). . والبناء يوحي بالقوة والتماسك , والسماء كذلك . متماسكة . لا تختل ولا تتناثر نجومها وكواكبها . ولا تخرج من أفلاكها ومداراتها , ولا تتهاوى ولا تنهار . فهي بناء ثابت وطيد متماسك الأجزاء .
(رفع سمكها فسواها). . وسمك كل شيء قامته وارتفاعه . والسماء مرفوعة في تناسق وتماسك . وهذه هي التسوية:(فسواها). . والنظرة المجردة والملاحظة العادية تشهد بهذا التناسق المطلق . والمعرفة بحقيقة القوانين التي تمسك بهذه الخلائق الهائلة وتنسق بين حركاتها وآثارها وتأثراتها , توسع من معنى هذا التعبير , وتزيد في مساحة هذه الحقيقة الهائلة , التي لم يدرك الناس بعلومهم إلا أطرافا منها , وقفوا تجاهها مبهورين , تغمرهم الدهشة , وتأخذهم الروعة , ويعجزون عن تعليلها بغير افتراض قوة كبرى مدبرة مقدرة , ولو لم يكونوا من المؤمنين بدين من الأديان إطلاقا !
(وأغطش ليلها وأخرج ضحاها). . وفي التعبير شدة في الجرس والمعنى , يناسب الحديث عن الشدة والقوة . وأغطش ليلها أي أظلمه . وأخرج ضحاها . أي أضاءها . ولكن اختيار الألفاظ يتمشى في تناسق مع السياق . . وتوالي حالتي الظلام والضياء , في الليل والضحى الذي هو أول النهار , حقيقة يراها كل أحد ; ويتأثر بها كل قلب . وقد ينساها بطول الألفة والتكرار , فيعيد القرآن جدتها بتوجيه المشاعر إليها . وهي جديدة أبدا . تتجدد كل يوم , ويتجدد الشعور بها والانفعال بوقعها . فأما النواميس التي وراءها فهي كذلك من الدقة والعظمة بحيث تروع وتدهش من يعرفها . . فتظل هذه الحقيقة تروع القلوب وتدهشها كلما اتسع علمها وكبرت معرفتها !
(والأرض بعد ذلك دحاها . أخرج منها ماءها ومرعاها . والجبال أرساها). .
ودحو الأرض تمهيدها وبسط قشرتها , بحيث تصبح صالحة للسير عليها , وتكوين تربة تصلح للإنبات , وإرساء الجبال وهو نتيجة لاستقرار سطح الأرض ووصول درجة حرارته إلى هذا الاعتدال الذي يسمح بالحياة . والله أخرج من الأرض ماءها سواء ما يتفجر من الينابيع , أو ما ينزل من السماء فهو أصلا من مائها الذي تبخر
مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
ثم نزل في صورة مطر . وأخرج من الأرض مرعاها وهو النبات الذي يأكله الناس والأنعام وتعيش عليه الأحياء مباشرة وبالواسطة . .
وكل أولئك قد كان بعد بناء السماء , وبعد إغطاش الليل وإخراج الضحى . والنظريات الفلكية الحديثة تقرب من مدلول هذا النص القرآني حين تفترض أنه قد مضى على الأرض مئات الملايين من السنين , وهي تدور دوراتها ويتعاقب الليل والنهار عليها قبل دحوها وقبل قابليتها للزرع . وقبل استقرار قشرتها على ما هي عليه من مرتفعات ومستويات .
والقرآن يعلن أن هذا كله كان:(متاعا لكم ولأنعامكم). . فيذكر الناس بعظيم تدبير الله لهم من ناحية . كما يشير إلى عظمة تقدير الله في ملكه . فإن بناء السماء على هذا النحو , ودحو الأرض على هذا النحو أيضا لم يكونا فلتة ولا مصادفة . إنما كان محسوبا فيهما حساب هذا الخلق الذي سيستخلف في الأرض . والذي يقتضي وجوده ونموه ورقيه موافقات كثيرة جدا في تصميم الكون . وفي تصميم المجموعة الشمسية بصفة خاصة . وفي تصميم الأرض بصفة أخص .
والقرآن - على طريقته في الإشارة المجملة الموحية المتضمنة لأصل الحقيقة - يذكر هنا من هذه الموافقات بناء السماوات , وإغطاش الليل , وإخراج الضحى , ودحو الأرض وإخراج مائها ومرعاها , وإرساء جبالها . متاعا للإنسان وأنعامه . وهي إشارة توحي بحقيقة التدبير والتقدير في بعض مظاهرها المكشوفة للجميع , الصالحة لأن يخاطب بها كل إنسان , في كل بيئة وفي كل زمان , فلا تحتاج إلى درجة من العلم والمعرفة , تزيد على نصيب الإنسان حيث كان . حتى يعم الخطاب بالقرآن لجميع بني الإنسان في جميع أطوار الإنسان , في جميع الأزمان .
ووراء هذا المستوى آماد وأفاق أخرى من هذه الحقيقة الكبرى . حقيقة التقدير والتدبير في تصميم هذا الكون الكبير . واستبعاد المصادفة والجزاف واستبعادا تنطق به طبيعة هذا الكون , وطبيعة المصادفة التي يستحيل معها تجمع كل تلك الموافقات العجيبة .
هذه الموافقات التي تبدأ من كون المجموعة الشمسية التي تنتمي إليها أرضنا هي تنظيم نادر بين مئات الملايين من المجموعات النجمية . وأن الأرض نمط فريد غير مكرر بين الكواكب بموقعها هذا في المنظومة الشمسية . الذي يجعلها صالحة للحياة الإنسانية . ولا يعرف البشر - حتى اليوم - كوكبا آخر تجتمع له هذه الموافقات الضرورية . وهي تعد بالآلاف !
"ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكوكب على حجم ملائم , وبعد معتدل , وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة .
"لابد من الحجم الملائم , لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية .
"ولابد من البعد المعتدل لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام , والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتخلخل فيه تلك الأجسام .
"ولابد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة , لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء .
"وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة , في الصورة التي
فَإِذَا جَاءتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَى (36) فَأَمَّا مَن طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40)
نعرفها , ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن " .
وتقرير حقيقة التدبير والتقدير في تصميم هذا الكون الكبير , وحساب مكان للإنسان فيه ملحوظ في خلقه وتطويره أمر يعد القلب والعقل لتلقي حقيقة الآخرة وما فيها من حساب وجزاء باطمئنان وتسليم . فما يمكن أن يكون هذا هو واقع النشأة الكونية والنشأة الإنسانية ثم لا تتم تمامها , ولا تلقى جزاءها . ولا يكون معقولا أن ينتهي أمرها بنهاية الحياة القصيرة في هذه العاجلة الفانية . وأن يمضي الشر والطغيان والباطل ناجيا بما كان منه في هذه الأرض . وأن يمضي الخير والعدل والحق بما أصابه كذلك في هذه الأرض . . فهذا الفرض مخالف في طبيعته لطبيعة التقدير والتدبير الواضحة في تصميم الكون الكبير . . ومن ثم تلتقي هذه الحقيقة التي لمسها السياق في هذا المقطع بحقيقة الآخرة التي هي الموضوع الرئيسي في السورة . وتصلح تمهيدا لها في القلوب والعقول , يجيء بعده ذكر الطامة الكبرى في موضعه وفي حينه !
الدرس الخامس:34 - 41 ما بعد الطامة الكبرى وصفات الفائزين وصفات الخاسرين
(فإذا جاءت الطامة الكبرى , يوم يتذكر الإنسان ما سعى , وبرزت الجحيم لمن يرى . فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا , فإن الجحيم هي المأوى , وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى , فإن الجنة هي المأوى). .
إن الحياة الدنيا متاع . متاع مقدر بدقة وإحكام . وفق تدبير يرتبط بالكون كله ونشأة الحياة والإنسان . ولكنه متاع . متاع ينتهي إلى أجله . . فإذا جاءت الطامة الكبرى غطت على كل شيء , وطمت على كل شيء . على المتاع الموقوت . وعلى الكون المتين المقدر المنظم . على السماء المبنية والأرض المدحوة والجبال المرساة والأحياء والحياة وعلى كل ما كان من مصارع ومواقع . فهي أكبر من هذا كله , وهي تطم وتعم على هذا كله !
عندئذ يتذكر الإنسان ما سعى . يتذكر سعيه ويستحضره , إن كانت أحداث الحياة , وشاغل المتاع أغفلته عنه وأنسته إياه . يتذكره ويستحضره ولكن حيث لا يفيده التذكر والاستحضار إلا الحسرة والأسى وتصور ما وراءه من العذاب والبلوى !
(وبرزت الجحيم لمن يرى). . فهي بارزة مكشوفة لكل ذي نظر . ويشدد التعبير في اللفظ(برزت)تشديدا للمعنى والجرس , ودفعا بالمشهد إلى كل عين !
عندئذ تختلف المصائر والعواقب ; وتتجلى غاية التدبير والتقدير في النشأة الأولى:
(فأما من طغى , وآثر الحياة الدنيا , فإن الجحيم هي المأوى). .
والطغيان هنا أشمل من معناه القريب . فهو وصف لكل من يتجاوز الحق والهدى . ومداه أوسع من الطغاة ذوي السلطان والجبروت , حيث يشمل كل متجاوز للهدى , وكل من آثر الحياة الدنيا , واختارها على الآخرة . فعمل لها وحدها , غير حاسب للآخرة حسابا . واعتبار الآخرة هو الذي يقيم الموازين في يد الإنسان وضميره . فإذا أهمل حساب الآخرة أو آثر عليها الدنيا اختلت كل الموازين في يده , واختلت كل القيم في تقديره , واختلت كل قواعد الشعور والسلوك في حياته , وعد طاغيا وباغيا ومتجاوزا للمدى .
فأما هذا . .(فإن الجحيم هي المأوى). . الجحيم المكشوفة المبرزة القريبة الحاضرة . يوم الطامة الكبرى !
(وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . فإن الجنة هي المأوى). .
والذي يخاف مقام ربه لا يقدم على معصية , فإذا أقدم عليها بحكم ضعفه البشري قاده خوف هذا المقام
فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا (43)
الجليل إلى الندم والاستغفار والتوبة . فظل في دائرة الطاعة .
ونهى النفس عن الهوى هو نقطة الارتكاز في دائرة الطاعة . فالهوى هو الدافع القوي لكل طغيان , وكل تجاوز , وكل معصية . وهو أساس البلوى , وينبوع الشر , وقل أن يؤتى الإنسان إلا من قبل الهوى . فالجهل سهل علاجه . ولكن الهوى بعد العلم هو آفة النفس التي تحتاج إلى جهاد شاق طويل الأمد لعلاجها .
والخوف من الله هو الحاجز الصلب أمام دفعات الهوى العنيفة . وقل أن يثبت غير هذا الحاجز أمام دفعات الهوى . ومن ثم يجمع بينهما السياق القرآني في آية واحدة . فالذي يتحدث هنا هو خالق هذه النفس العليم بدائها , الخبير بدوائها وهو وحده الذي يعلم دروبها ومنحنياتها , ويعلم أين تكمن أهواؤها وأدواؤها , وكيف تطارد في مكامنها ومخابئها !
ولم يكلف الله الإنسان ألا يشتجر في نفسه الهوى . فهو - سبحانه - يعلم أن هذا خارج عن طاقته . ولكنه كلفه أن ينهاها ويكبحها ويمسك بزمامها . وأن يستعين في هذا بالخوف . الخوف من مقام ربه الجليل العظيم المهيب . وكتب له بهذا الجهاد الشاق , الجنة مثابة ومأوى:(فإن الجنة هي المأوى). . ذلك أن الله يعلم ضخامة هذا الجهاد ; وقيمته كذلك في تهذيب النفس البشرية وتقويمها ورفعها إلى المقام الأسنى .
إن الإنسان إنسان بهذا النهي , وبهذا الجهاد , وبهذا الإرتفاع . وليس إنسانا بترك نفسه لهواها , وإطاعة جواذبه إلى دركها , بحجة أن هذا مركب في طبيعته . فالذي أودع نفسه الاستعداد لجيشان الهوى , هو الذي أودعها الاستعداد للإمساك بزمامه , ونهى النفس عنه , ورفعها عن جاذبيته ; وجعل له الجنة جزاء ومأوى حين ينتصر ويرتفع ويرقى .
وهنالك حرية إنسانية تليق بتكريم الله للإنسان . تلك هي حرية الإنتصار على هوى النفس والانطلاق من أسر الشهوة , والتصرف بها في توازن تثبت معه حرية الاختيار والتقدير الإنساني . وهنالك حرية حيوانية , هي هزيمة الإنسان أمام هواه , وعبوديته لشهوته , وانفلات الزمام من إرادته . وهي حرية لا يهتف بها إلا مخلوق مهزوم الإنسانية مستعبد يلبس عبوديته رداء زائفا من الحرية !
إن الأول هو الذي ارتفع وارتقى وتهيأ للحياة الرفيعة الطليقة في جنة المأوى . أما الآخر فهو الذي ارتكس وانتكس وتهيأ للحياة في درك الجحيم حيث تهدر إنسانيته , ويرتد شيئا توقد به النار التي وقودها الناس - من هذا الصنف - والحجارة !
وهذه وتلك هي المصير الطبيعي للارتكاس والارتقاء في ميزان هذا الدين الذي يزن حقيقة الأشياء . .
الدرس السادس:42 - 46 علم الساعة خاص بالله وقدومها مفاجيء ومهمة الرسول
وأخيرا يجيء الإيقاع الأخير في السورة هائلا عميقا مديدا:
(يسألونك عن الساعة:أيان مرساها ? فيم أنت من ذكراها ? إلى ربك منتهاها . إنما أنت منذر من يخشاها . كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها). .
وكان المتعنتون من المشركين يسألون الرسول [ ص ] كلما سمعوا وصف أهوال الساعة وأحداثها وما تنتهي إليه من حساب وجزاء . . متى أو إيان موعدها . . أو كما يحكي عنهم هنا: (أيان مرساها ?). .
والجواب:(فيم أنت من ذكراها ?). . وهو جواب يوحي بعظمتها وضخامتها , بحيث يبدو هذا السؤال تافها باهتا , وتطفلا كذلك وتجاوزا . فها هو ذا يقال للرسول العظيم:(فيم أنت من ذكراها ?). . إنها لأعظم
إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
من أن تسأل أو تسأل عن موعدها . فأمرها إلى ربك وهي من خاصة شأنه وليست من شأنك:
(إلى ربك منتهاها). . فهو الذي ينتهي إليه أمرها , وهو الذي يعلم موعدها , وهو الذي يتولى كل شيء فيها .
(إنما أنت منذر من يخشاها). . هذه وظيفتك , وهذه حدودك . . أن تنذر بها من ينفعه الإنذار , وهو الذي يشعر قلبه بحقيقتها فيخشاها ويعمل لها , ويتوقعها في موعدها الموكول إلى صاحبها سبحانه وتعالى .
ثم يصور هولها وضخامتها في صنيعها بالمشاعر والتصورات ; وقياس الحياة الدنيا إليها في إحساس الناس وتقديرهم:
(كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها). .
فهي من ضخامة الوقع في النفس بحيث تتضاءل إلى جوارها الحياة الدنيا , وأعمارها وأحداثها , ومتاعها , وأشياؤها , فتبدو في حس أصحابها كأنها بعض يوم . . عشية أو ضحاها !
وتنطوي هذه الحياة الدنيا التي يتقاتل عليها أهلها ويتطاحنون . والتي يؤثرونها ويدعون في سبيلها نصيبهم في الآخرة . والتي يرتكبون من أجلها ما يرتكبون من الجريمة والمعصية والطغيان . والتي يجرفهم الهوى فيعيشون له فيها . . تنطوي هذه الحياة في نفوس أصحابها أنفسهم , فإذا هي عندهم عشية أو ضحاها .
هذه هي:قصيرة عاجلة , هزيلة ذاهبة , زهيدة تافهة . . أفمن أجل عشية أو ضحاها يضحون بالآخرة ? ومن أجل شهوة زائلة يدعون الجنة مثابة ومأوى !
ألا إنها الحماقة الكبرى . الحماقة التي لا يرتكبها إنسان . يسمع ويرى !
سورة عبس
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَن جَاءهُ الْأَعْمَى (2)
سورة عبس
تعريف بسورة عبس
هذه السورة قوية المقاطع , ضخمة الحقائق , عميقة اللمسات , فريدة الصور والظلال والإيحاءات , موحية الإيقاعات الشعورية والموسيقية على السواء .
يتولى المقطع الأول منها علاج حادث معين من حوادث السيرة:كان النبي [ ص ] مشغولابأمر جماعة من كبراء قريش يدعوهم إلى الإسلام حينما جاءه ابن أم مكتوم الرجل الأعمى الفقير - وهو لا يعلم أنه مشغول بأمر القوم - يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله , فكره رسول الله [ ص ] هذا وعبس وجهه وأعرض عنه , فنزل القرآن بصدر هذه السورة يعاتب الرسول [ ص ] عتابا شديدا ; ويقرر حقيقة القيم في حياة الجماعة المسلمة في أسلوب قوي حاسم , كما يقرر حقيقة هذه الدعوة وطبيعتها:(عبس وتولى أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى . أو يذكر فتنفعه الذكرى . أما من استغنى فأنت له تصدى ! وما عليك ألا يزكى ? وأما من جاءك يسعى وهو يخشى , فأنت عنه تلهى ?! كلا ! إنها تذكرة , فمن شاء ذكره , في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة , بأيدي سفرة , كرام بررة). .
ويعالج المقطع الثاني جحود الإنسان وكفره الفاحش لربه , وهو يذكره بمصدر وجوده , وأصل نشأته , وتيسير حياته , وتولي ربه له في موته ونشره ; ثم تقصيره بعد ذلك في أمره:
(قتل الإنسان ما أكفره ! من أي شيء خلقه ? من نطفة خلقه فقدره , ثم السبيل يسره , ثم أماته فأقبره , ثم إذا شاء أنشره , كلا ! لما يقض ما أمره). .
والمقطع الثالث يعالج توجيه القلب البشري إلى أمس الأشياء به وهو طعامه وطعام حيوانه . وما وراء ذلك الطعام من تدبير الله وتقديره له , كتدبيرة وتقديره في نشأته:
(فلينظر الإنسان إلى طعامه , أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا , فأنبتنا فيها حبا , وعنبا وقضبا , وزيتونا ونخلا , وحدائق غلبا , وفاكهة وأبا , متاعا لكم ولأنعامكم). .
فأما المقطع الأخير فيتولى عرض(الصاخة)يوم تجيء بهولها , الذي يتجلى في لفظها , كما تتجلى آثارها في القلب البشري الذي يذهل عما عداها ; وفي الوجوه التي تحدث عما دهاها:
(فإذا جاءت الصاخة . يوم يفر المرء من أخيه , وأمه وأبيه , وصاحبته وبنيه , لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه , وجوه يومئذ مسفرة , ضاحكة مستبشرة , ووجوه يومئذ عليها غبرة , ترهقها قترة , أولئك هم الكفرة الفجرة). .
إن استعراض مقاطع السورة وآياتها - على هذا النحو السريع - يسكب في الحس إيقاعات شديدة التأثير . فهي من القوة والعمق بحيث تفعل فعلها في القلب بمجرد لمسها له بذاتها .
وسنحاول أن نكشف عن جوانب من الآماد البعيدة التي تشير إليها بعض مقاطعها مما قد لا تدركه النظرة الأولى .
الدرس الأول:1 - 16 حادثة الرسول مع ابن أم مكتوم
(عبس وتولى . أن جاءه الأعمى . وما يدريك لعله يزكى ? أو يذكر فتنفعه الذكرى ? أما من استغنى فأنت له تصدى ? وما عليك ألا يزكى ? وأما من جاءك يسعى وهو يخشى , فأنت عنه تلهى ?! كلا ! إنها تذكرة . فمن شاء ذكره , في صحف مكرمة , مرفوعة مطهرة , بأيدي سفرة , كرام بررة). .
إن هذا التوجيه الذي نزل بشأن هذا الحادث هو أمر عظيم جدا . أعظم بكثير مما يبدو لأول وهلة . إنه معجزة , هو والحقيقة التي أراد إقرارها في الأرض , والآثار التي ترتبت على إقرارها بالفعل في حياة البشرية . ولعلها هي معجزة الإسلام الأولى , ومعجزته الكبرى كذلك . ولكن هذا التوجيه يرد هكذا - تعقيبا على حادث فردي - على طريقة القرآن الإلهية في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة فرصة لتقرير الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
وإلا فإن الحقيقة التي استهدف هذا التوجيه تقريرها هنا والآثار الواقعية التي ترتبت بالفعل على تقريرها في حياة الأمة المسلمة , هي الإسلام في صميمه . وهي الحقيقة التي أراد الإسلام - وكل رسالة سماوية قبله - غرسها في الأرض .
هذه الحقيقة ليست هي مجرد:كيف يعامل فرد من الناس ? أو كيف يعامل صنف من الناس ? كما هو المعنى القريب للحادث وللتعقيب . إنما هي أبعد من هذا جدا , وأعظم من هذا جدا . إنها:كيف يزن الناس كل أمور الحياة ? ومن أين يستمدون القيم التي يزنون بها ويقدرون ?
والحقيقة التي استهدف هذا التوجيه إقرارها هي:أن يستمد الناس في الأرض قيمهم وموازينهم من اعتبارات سماوية إلهية بحتة , آتية لهم من السماء , غير مقيدة بملابسات أرضهم , ولا بمواضعات حياتهم , ولا نابعة من تصوراتهم المقيدة بهذه المواضعات وتلك الملابسات .
وهو أمر عظيم جدا , كما أنه أمر عسير جدا . عسير أن يعيش الناس في الأرض بقيم وموازين آتية من السماء . مطلقة من اعتبارات الأرض . متحررة من ضغط هذه الاعتبارات .
ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك ضخامة الواقع البشري , وثقله على المشاعر , وضغطه على النفوس , وصعوبة التخلي عن الملابسات والضغوط الناشئة من الحياة الواقعية للناس , المنبثقة من أحوال معاشهم , وارتباطات حياتهم , وموروثات بيئتهم , ورواسب تاريخهم , وسائر الظروف الأخرى التي تشدهم إلى الأرض شدا , وتزيد من ضغط موازينها وقيمها وتصوراتها على النفوس .
كذلك ندرك عظمة هذا الأمر وعسره حين ندرك أن نفس محمد بن عبد الله [ ص ] قد احتاجت - كي تبلغه - إلى هذا التوجيه من ربه ; بل إلى هذا العتاب الشديد , الذي يبلغ حد التعجيب من تصرفه !
وإنه ليكفي لتصوير عظمة أي أمر في هذا الوجود أن يقال فيه:إن نفس محمد بن عبد الله [ ص ] قد احتاجت - كي تبلغه - إلي تنبيه وتوجيه !
نعم يكفي هذا . فإن عظمة هذه النفس وسموها ورفعتها , تجعل الأمر الذي يحتاج منها - كي تبلغه - إلى تنبيه وتوجيه أمرا أكبر من العظمة , وأرفع من الرفعة ! وهذه هي حقيقة هذا الأمر , الذي استهدف التوجيه الإلهي إقراره في الأرض , بمناسبة هذا الحادث المفرد . . أن يستمد الناس قيمهم وموازينهم من السماء , طلقاء من قيم الأرض وموازينها المنبثقة من واقعهم كله . . وهذا هو الأمر العظيم . .
إن الميزان الذي أنزله الله للناس مع الرسل , ليقوموا به القيم كلها , هو: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). . هذه هي القيمة الوحيدة التي يرجح بها وزن الناس أو يشيل ! وهي قيمة سماوية بحتة , لا علاقة لها بمواضعات الأرض وملابساتها إطلاقا . .
ولكن الناس يعيشون في الأرض , ويرتبطون فيما بينهم بارتباطات شتى ; كلها ذات وزن وذات ثقل وذات جاذبية في حياتهم . وهم يتعاملون بقيم أخرى . . فيها النسب , وفيها القوة , وفيها المال . وفيها ما ينشأ عن توزيع هذه القيم من ارتباطات عملية . . اقتصادية وغير اقتصادية . . تتفاوت فيها أوضاع الناس بعضهم بالنسبة لبعض . فيصبح بعضهم أرجح من بعض في موازين الأرض . .
ثم يجيء الإسلام ليقول: (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). . فيضرب صفحا عن كل تلك القيم الثقيلة الوزن في حياة الناس , العنيفة الضغط على مشاعرهم , الشديدة الجاذبية إلى الأرض . ويبدل من هذا كلهتلك القيمة الجديدة المستمدة مباشرة من السماء , المعترف بها وحدها في ميزان السماء !
ثم يجيء هذا الحادث لتقرير هذه القيمة في مناسبة واقعية محددة . وليقرر معها المبدأ الأساسي:وهو أن الميزان ميزان السماء , والقيمة قيمة السماء . وأن على الأمة المسلمة أن تدع كل ما تعارف عليه الناس , وكل ما ينبثق من علاقات الأرض من قيم وتصورات وموازين واعتبارات , لتستمد القيم من السماء وحدها وتزنها بميزان السماء وحده !
ويجيء الرجل الأعمى الفقير . . ابن أم مكتوم . . إلى رسول الله [ ص ] وهو مشغول بأمر النفر من سادة قريش . عتبة وشيبة ابني ربيعة , وأبي جهل عمرو بن هشام , وأمية بن خلف , والوليد بن المغيرة , ومعهم العباس بن عبد المطلب . . والرسول [ ص ] يدعوهم إلى الإسلام ; ويرجو بإسلامهم خيرا للإسلام في عسرته وشدته التي كان فيها بمكة ; وهؤلاء النفر يقفون في طريقه بمالهم وجاههم وقوتهم ; ويصدون الناس عنه , ويكيدون له كيدا شديدا حتى ليجمدوه في مكة تجميدا ظاهرا . بينما يقف الآخرون خارج مكة , لا يقبلون على الدعوة التي يقف لها أقرب الناس إلى صاحبها , وأشدهم عصبية له , في بيئة جاهلية قبلية , تجعل لموقف القبيلة كل قيمة وكل اعتبار .
يجيء هذا الرجل الأعمى الفقير إلى رسول الله [ ص ] وهو مشغول بأمر هؤلاء النفر . لا لنفسه ولا لمصلحته , ولكن للإسلام ولمصلحة الإسلام . فلو أسلم هؤلاء لانزاحت العقبات العنيفة والأشواك الحادة من طريق الدعوة في مكة ; ولانساح بعد ذلك الإسلام فيما حولها , بعد إسلام هؤلاء الصناديد الكبار . .
يجيء هذا الرجل , فيقول لرسول الله [ ص ]:يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله . . ويكرر هذا وهو يعلم تشاغل الرسول [ ص ] بما هو فيه من الأمر . فيكره الرسول قطعه لكلامه واهتمامه . وتظهر الكراهية في وجهه - الذي لا يراه الرجل - فيعبس ويعرض . يعرض عن الرجل المفرد الفقير الذي يعطله عن الأمر الخطير . الأمر الذي يرجو من ورائه لدعوته ولدينه الشيء الكثير ; والذي تدفعه إليه رغبته في نصرة دينه , وإخلاصه لأمر دعوته , وحبه لمصلحة الإسلام , وحرصه على انتشاره !
وهنا تتدخل السماء . تتدخل لتقول كلمة الفصل في هذا الأمر ; ولتضع معالم الطريق كله , ولتقرر الميزان الذي توزن فيه القيم - بغض النظر عن جميع الملابسات والاعتبارات . بما في ذلك اعتبار مصلحة الدعوة كما يراها البشر . بل كما يراها سيد البشر [ ص ] .
وهنا يجيء العتاب من الله العلي الأعلى لنبيه الكريم , صاحب الخلق العظيم , في أسلوب عنيف شديد . وللمرة الوحيدة في القرآن كله يقال للرسول الحبيب القريب:(كلا !)وهي كلمة ردع وزجر في الخطاب ! ذلك أنه الأمر العظيم الذي يقوم عليه هذا الدين !
والأسلوب الذي تولى به القرآن هذا العتاب الإلهي أسلوب فريد , لا تمكن ترجمته في لغة الكتابة البشرية . فلغة الكتابة لها قيود وأوضاع وتقاليد , تغض من حرارة هذه الموحيات في صورتها الحية المباشرة . وينفرد الأسلوب القرآني بالقدرة على عرضها في هذه الصورة في لمسات سريعة . وفي عبارات متقطعة . وفي تعبيرات كأنها انفعالات , ونبرات وسمات ولمحات حية !
(عبس وتولى . أن جاءه الأعمى). . بصيغة الحكاية عن أحد آخر غائب غير المخاطب ! وفي هذا الأسلوب إيحاء بأن الأمر موضوع الحديث من الكراهة عند الله بحيث لا يحب - سبحانه - أن يواجه به نبيه وحبيبه . عطفا عليه , ورحمة به , وإكراما له عن المواجهة بهذا الأمر الكريه !
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَن شَاء ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23)
ثم يستدير التعبير - بعد مواراة الفعل الذي نشأ عنه العتاب - يستدير إلى العتاب في صيغة الخطاب . فيبدأ هادئا شيئا ما:(وما يدريك لعله يزكى ? أو يذكر فتنفعه الذكرى ?). . ما يدريك أن يتحقق هذا الخير الكبير . أن يتطهر هذا الرجل الأعمى الفقير - الذي جاءك راغبا فيما عندك من الخير - وأن يتيقظ قلبه فيتذكر فتنفعه الذكرى . وما يدريك أن يشرق هذا القلب بقبس من نور الله , فيستحيل منارة في الأرض تستقبل نور السماء ? الأمر الذي يتحقق كلما تفتح قلب للهدى وتمت حقيقة الإيمان فيه . وهو الأمر العظيم الثقيل في ميزان الله . .
ثم تعلو نبرة العتاب وتشتد لهجته ; وينتقل إلى التعجيب من ذلك الفعل محل العتاب: أما من استغنى , فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى ?! وأما من جاءك يسعى وهو يخشى , فأنت عنه تلهى ?! . . أما من أظهر الاستغناء عنك وعن دينك وعما عندك من الهدى والخير والنور والطهارة . . أما هذا فأنت تتصدى له وتحفل أمره , وتجهد لهدايته , وتتعرض له وهو عنك معرض !(وما عليك ألا يزكى ?). . وما يضيرك أن يظل في رجسه ودنسه ? وأنت لا تسأل عن ذنبه . وأنت لا تنصر به . وأنت لا تقوم بأمره . .(وأما من جاءك يسعى)طائعا مختارا ,(وهو يخشى)ويتوقى(فأنت عنه تلهى !). . ويسمى الإنشغال عن الرجل المؤمن الراغب في الخير التقي تلهيا . . وهو وصف شديد . .
ثم ترتفع نبرة العتاب حتى لتبلغ حد الردع والزجر:(كلا !). . لا يكن ذلك أبدا . . وهو خطاب يسترعي النظر في هذا المقام .
ثم يبين حقيقة هذه الدعوة وكرامتها وعظمتها ورفعتها , واستغناءها عن كل أحد . وعن كل سند وعنايتها فقط بمن يريدها لذاتها , كائنا ما كان وضعه ووزنه في موازين الدنيا: (إنها تذكرة . فمن شاء ذكره . في صحف مكرمة . مرفوعة مطهرة . بأيدي سفرة . كرام بررة .). . فهي كريمة في كل اعتبار . كريمة في صحفها , المرفوعة المطهرة الموكل بها السفراء من الملأ الأعلى ينقلونها إلى المختارين في الأرض ليبلغوها . وهم كذلك كرام بررة . . فهي كريمة طاهرة في كل ما يتعلق بها , وما يمسها من قريب أو من بعيد . وهي عزيزة لا يتصدى بها للمعرضين الذين يظهرون الاستغناء عنها ; فهي فقط لمن يعرف كرامتها ويطلب التطهر بها . .
هذا هو الميزان . ميزان الله . الميزان الذي توزن به القيم والإعتبارات , ويقدر به الناس والأوضاع . . وهذه هي الكلمة . كلمة الله . الكلمة التي ينتهي إليها كل قول , وكل حكم , وكل فصل .
وأين هذا ? ومتى ? في مكة , والدعوة مطاردة , والمسلمون قلة . والتصدي للكبراء لا ينبعث من مصلحة ذاتية ; والانشغال عن الأعمى الفقير لا ينبعث من اعتبار شخصي . إنما هي الدعوة أولا وأخيرا . ولكن الدعوة إنما هي هذا الميزان , وإنما هي هذه القيم , وقد جاءت لتقرر هذا الميزان وهذه القيم في حياة البشر . فهي لا تعز ولا تقوى ولا تنصر إلا بإقرار هذا الميزان وهذه القيم . .
ثم إن الأمر - كما تقدم - أعظم وأشمل من هذا الحادث المفرد , ومن موضوعه المباشر . إنما هو أن يتلقى الناس الموازين والقيم من السماء لا من الأرض , ومن الاعتبارات السماوية لا من الاعتبارات الأرضية . . (إن أكرمكم عند الله أتقاكم). . والأكرم عند الله هو الذي يستحق الرعاية والاهتمام والاحتفال , ولو تجرد من كل المقومات والاعتبارات الأخرى , التي يتعارف عليها الناس تحت ضغط واقعهم الأرضي ومواضعاتهم الأرضية . النسب والقوة والمال . . وسائر القيم الأخرى , لا وزن لها حين تتعرى عن الإيمان والتقوى . والحالة الوحيدة التي يصح لها فيها وزن واعتبار هي حالة ما إذا أنفقت لحساب الإيمان والتقوى .
هذه هي الحقيقة الكبيرة التي استهدف التوجيه الإلهي إقرارها في هذه المناسبة , على طريقة القرآن في اتخاذ الحادث المفرد والمناسبة المحدودة , وسيلة لإقرار الحقيقة المطلقة والمنهج المطرد .
ولقد انفعلت نفس الرسول [ ص ] لهذا التوجيه , ولذلك العتاب . انفعلت بقوة وحرارة , واندفعت إلى إقرار هذه الحقيقة في حياته كلها , وفي حياة الجماعة المسلمة . بوصفها هي حقيقة الإسلام الأولى .
وكانت الحركة الأولى له [ ص ] هي إعلان ما نزل له من التوجيه والعتاب في الحادث . وهذا الإعلان أمر عظيم رائع حقا . أمر لا يقوى عليه إلا رسول , من أي جانب نظرنا إليه في حينه .
نعم لا يقوى إلا رسول على أن يعلن للناس أنه عوتب هذا العتاب الشديد , بهذه الصورة الفريدة في خطأ أتاه ! وكان يكفي لأي عظيم - غير الرسول - أن يعرف هذا الخطأ وأن يتلافاه في المستقبل . ولكنها النبوة . أمر آخر . وآفاق أخرى !
لا يقوى إلا رسول على أن يقذف بهذا الأمر هكذا في وجوه كبراء قريش في مثل تلك الظروف التي كانت فيها الدعوة , مع أمثال هؤلاء المستعزين بنسبهم وجاههم ومالهم وقوتهم , في بيئة لا مكان فيها لغير هذه الاعتبارات , إلى حد أن يقال فيها عن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم: (لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم !). . وهذا نسبه فيهم , لمجرد أنه هو شخصيا لم تكن له رياسة فيهم قبل الرسالة !
ثم إنه لا يكون مثل هذا الأمر في مثل هذه البيئة إلا من وحي السماء . فما يمكن أن ينبثق هذا من الأرض . . ومن هذه الأرض بذاتها في ذلك الزمان !!
وهي قوة السماء التي دفعت مثل هذا الأمر في طريقه ; فإذا هو ينفذ من خلال نفس النبي [ ص ] إلى البيئة من حوله ; فيتقرر فيها بعمق وقوة واندفاع , يطرد به أزمانا طويلة في حياة الأمة المسلمة .
لقد كان ميلادا جديدا للبشرية كميلاد الإنسان في طبيعته . وأعظم منه خطرا في قيمته . . أن ينطلق الإنسان حقيقة - شعورا وواقعا - من كل القيم المتعارف عليها في الأرض , إلى قيم أخرى تتنزل له من السماء منفصلة منعزلة عن كل ما في الأرض من قيم وموازين وتصورات واعتبارات وملابسات عملية , وارتباطات واقعية ذات ضغط وثقل , ووشائج متلبسة باللحم والدم والأعصاب والمشاعر . ثم أن تصبح القيم الجديدة مفهومة من الجميع , مسلما بها من الجميع . وأن يستحيل الأمر العظيم الذي احتاجت نفس محمد [ ص ] كي تبلغه إلى التنبيه والتوجيه , أن يستحيل هذا الأمر العظيم بديهية الضمير المسلم , وشريعة المجتمع المسلم , وحقيقة الحياة الأولى في المجتمع الإسلامي لآماد طويلة في حياة المسلمين .
إننا لا نكاد ندرك حقيقة ذلك الميلاد الجديد . لأننا لا نتمثل في ضمائرنا حقيقة هذا الانطلاق من كل ما تنشئه أوضاع الأرض وارتباطاتها من قيم وموازين واعتبارات ساحقة الثقل إلى الحد الذي يخيل لبعض أصحاب المذاهب "التقدمية ! " أن جانبا واحدا منها - هو الأوضاع الاقتصادية - هو الذي يقرر مصائر الناس وعقائدهم وفنونهم وآدابهم وقوانينهم وعرفهم وتصورهم للحياة ! كما يقول أصحاب مذهب التفسير المادي للتاريخ في ضيق أفق , وفي جهالة طاغية بحقائق النفس وحقائق الحياة !
إنها المعجزة . معجزة الميلاد الجديد للإنسان على يد الإسلام في ذلك الزمان . .
ومنذ ذلك الميلاد سادت القيم التي صاحبت ذلك الحادث الكوني العظيم . . ولكن المسألة لم تكن هينة ولا يسيرة في البيئة العربية , ولا في المسلمين أنفسهم . . غير أن الرسول [ ص ] قد استطاع - بإرادة الله , وبتصرفاته هو وتوجيهاته المنبعثة من حرارة انفعاله بالتوجيه القرآني الثابت - أن يزرع هذه الحقيقة في الضمائر وفي الحياة ; وأن يحرسها ويرعاها , حتى تتأصل جذورها , وتمتد فروعها , وتظلل حياة الجماعة المسلمة قرونا طويلة . . على الرغم من جميع عوامل الانتكاس الأخرى . .
كان رسول الله [ ص ] بعد هذا الحادث يهش لابن أم مكتوم ويرعاه ; ويقول له كلما لقيه:" أهلا بمن عاتبني فيه ربي " وقد استخلفه مرتين بعد الهجرة على المدينة . .
ولكي يحطم موازين البيئة وقيمها المنبثقة من اعتبار الأرض ومواضعاتها , زوج بنت خالته زينب بنت جحش الأسدية , لمولاه زيد بن حارثة . ومسألة الزواج والمصاهرة مسألة حساسة شديدة الحساسية . وفي البيئة العربية بصفة خاصة .
وقبل ذلك حينما آخى بين المسلمين في أول الهجرة , جعل عمه حمزة ومولاه زيدا أخوين . وجعل خالد بن رويحة الخثعمي وبلال بن رباح أخوين !
وبعث زيدا أميرا في غزوة مؤتة , وجعله الأمير الأول , يليه جعفر بن أبي طالب , ثم عبد الله بن رواحة الأنصاري , على ثلاثة آلاف من المهاجرين والأنصار , فيهم خالد بن الوليد .
وخرج رسول الله [ ص ] بنفسه يشيعهم . . وهي الغزوة التي استشهد فيها الثلاثة رضي الله عنهم .
وكان آخر عمل من أعماله [ ص ] أن أمر أسامة بن زيد على جيش لغزو الروم , يضم كثرة من المهاجرين والأنصار , فيهم أبو بكر وعمر وزيراه , وصاحباه , والخليفتان بعده بإجماع المسلمين . وفيهم سعد بن أبي وقاص قريبه [ ص ] ومن أسبق قريش إلى الإسلام .
وقد تململ بعض الناس من إمارة أسامة وهو حدث . وفي ذلك قال ابن عمر رضي الله عنهما -:بعث رسول الله [ ص ] بعثا أمر عليهم أسامة بن زيد - رضي الله عنهما - فطعن بعض الناس في إمارته , فقال النبي [ ص ] إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبل . وأيم الله إن كان لخليقا للإمارة , وإن كان لمن أحب الناس إلي . وإن هذا لمن أحب الناس إلي . .
ولما لغطت ألسنة بشأن سلمان الفارسي , وتحدثوا عن الفارسية والعربية , بحكم إيحاءات القومية الضيقة , ضرب رسول الله [ ص ] ضربته الحاسمة في هذا الأمر فقال:" سلمان منا أهل البيت " فتجاوز به - بقيم السماء وميزانها - كل آفاق النسب الذي يستعزون به , وكل حدود القومية الضيقة التي يتحمسون لها . . وجعله من أهل البيت رأسا !
ولما وقع بين أبي ذر الغفاري وبلال بن رباح - رضي الله عنهما - ما أفلت معه لسان أبي ذر بكلمة "يا بن السوداء" . . غضب لها رسول الله [ ص ] غضبا شديدا ; وألقاها في وجه أبي ذر عنيفة مخيفة: يا أبا ذر طف الصاع ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل . . ففرق في الأمر إلى جذوره البعيدة . . إما إسلام فهي قيم السماء وموازين السماء . وإما جاهلية فهي قيم الأرض وموازين الأرض !
ووصلت الكلمة النبوية بحرارتها إلى قلب أبي ذر الحساس ; فانفعل لها أشد الانفعال , ووضع جبهته على الأرض يقسم ألا يرفعها حتى يطأها بلال . تكفيرا عن قولته الكبيرة !
وكان الميزان الذي ارتفع به بلال هو ميزان السماء . . عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله [ ص ]:" يا بلال حدثني بأرجى عمل عملته في الإسلام منفعة عندك . فإني سمعت الليلة خشف نعليك بين يدي في الجنة " . فقال:ما عملت في الإسلم عملا أرجى عندي منفعة من أني لا أتطهر طهورا تاما في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت بذلك الطهور ما كتب لي أن أصلي .
وكان رسول الله [ ص ] يقول عن عمار بن ياسر وقد استأذن عليه:" ائذنوا له مرحبا بالطيب المطيب " . . وقال عنه:" ملئ عمار - رضي الله عنه - إيمانا إلى مشاشه " . . وعن حذيفة - رضي الله عنه قال رسول الله [ ص ]:" إني لا أدري ما بقائي فيكم فاقتدوا باللذين من بعدي - وأشار إلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما - واهتدوا بهدي عمار . وما حدثكم ابن مسعود فصدقوه " .
وكان ابن مسعود يحسبه الغريب عن المدينة من أهل بيت رسول الله . . عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:قدمت أنا وأخي من اليمن , فمكثنا حينا وما نرى ابن مسعود وأمه إلا من أهل بيت رسول الله [ ص ] من كثرة دخولهم على رسول الله [ ص ] ولزومهم له" .
وجليبيب - وهو رجل من الموالي - كان رسول الله [ ص ] يخطب له بنفسه ليزوجه امرأة من الأنصار . فلما تأبى أبواها قالت هي:أتريدون أن تردوا على رسول الله [ ص ] أمره ? إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه . فرضيا وزوجاها .
وقد افتقده رسول الله [ ص ] في الوقعة التي استشهد فيها بعد فترة قصيرة من زواجه . . عن أبي برزة الأسلمي - رضي الله عنه - قال:كان رسول الله [ ص ] في مغزى له , فأفاء الله عليه . فقال لأصحابه:" هل تفقدون من أحد ? " قالوا:نعم فلانا وفلانا وفلانا . ثم قال:" هل تفقدون من أحد ? " قالوا:نعم فلانا وفلانا وفلانا . ثم قال:" هل تفقدون من أحد ? " فقالوا:لا . قال:" لكني أفقد جليبيبا " فطلبوه , فوجدوه إلى جنب سبعة قد قتلهم ثم قتلوه . فأتى النبي [ ص ] فوقف عليه , ثم قال:" قتل سبعة ثم قتلوه . هذا مني وأنا منه . هذا مني وأنا منه " . ثم وضعه على ساعديه , ليس له سريرا إلا ساعدا النبي [ ص ] قال:فحفر له , ووضع في قبره ولم يذكر غسلا .
بذلك التوجيه الإلهي وبهذا الهدي النبوي كان الميلاد للبشرية على هذا النحو الفريد . ونشأ المجتمع الرباني الذي يتلقى قيمه وموازينه من السماء , طليقا من قيود الأرض , بينما هو يعيش على الأرض . . وكانت هذه هي المعجزة الكبرى للإسلام . المعجزة التي لا تتحقق إلا بإرادة إله , وبعمل رسول . والتي تدل بذاتها على أن هذا الدين من عند الله , وأن الذي جاء به للناس رسول !
وكان من تدبير الله لهذا الأمر أن يليه بعد رسول الله [ ص ] صاحبه الأول أبو بكر , وصاحبه الثاني عمر . . أقرب اثنين لإدراك طبيعة هذا الأمر , وأشد اثنين انطباعا بهدى رسول الله , وأعمق اثنين حبا لرسول الله , وحرصا على تتبع مواضع حبه ومواقع خطاه .
حفظ أبو بكر - رضي الله عنه - عن صاحبه [ ص ] ما أراده في أمر أسامة . فكان أول عمل له بعد توليه الخلافة هو إنفاذه بعث أسامة , على رأس الجيش الذي أعده رسول الله [ ص ] وسار يودعه بنفسه إلى ظاهر المدينة . أسامة راكب وأبو بكر الخليفة راجل . فيستحيي أسامة الفتى الحدث أن يركب والخليفة الشيخ يمشي . فيقول:" يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن " . . فيقسم الخليفة:" والله لا تنزل . ووالله لا أركب . وما علي أن أغبر قدمي في سبيل الله ساعة ? " . .
ثم يرى أبو بكر أنه في حاجة إلى عمر . وقد حمل عبء الخلافة الثقيل . ولكن عمر إنما هو جندي في جيش أسامة . وأسامة هو الأمير . فلا بد من استئذانه فيه . فإذا الخليفة يقول:" إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل " . . يالله ! إن رأيت أن تعينني فافعل . . إنها آفاق عوال , لا يرقى إليها الناس إلا بإرادة الله , على يدي رسول من عند الله !
ثم تمضي عجلة الزمن فنرى عمر بن الخطاب خليفة يولي عمار بن ياسر على الكوفة .
ويقف بباب عمر سهيل بن عمرو بن الحارث بن هشام , وأبو سفيان بن حرب , وجماعة من كبراء قريش من الطلقاء ! فيأذن قبلهم لصهيب وبلال . لأنهما كانا من السابقين إلى الإسلام ومن أهل بدر . فتورم أنف أبي سفيان , ويقول بانفعال الجاهلية:"لم أر كاليوم قط . يأذن لهؤلاء العبيد ويتركنا على بابه ! " . . فيقول له صاحبه - وقد استقرت في حسه حقيقة الإسلام:"أيها القوم . إني والله أرى الذي في وجوهكم . إن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم . دعي القوم إلى الإسلام ودعيتم . فأسرعوا وأبطأتم . فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وتركتم ? " .
ويفرض عمر لأسامة بن زيد أكبر مما يفرض لعبد الله بن عمر . حتى إذا سأله عبد الله عن سر ذلك قال له:"يا بني . كان زيد - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله [ ص ] من أبيك ! وكان أسامة - رضي الله عنه - أحب إلى رسول الله [ ص ] منك ! فآثرت حب رسول الله [ ص ] على حبي" . . يقولها عمر وهو يعلم أن حب رسول الله [ ص ] إنما كان مقوما بميزان السماء !
ويرسل عمر عمارا ليحاسب خالد بن الوليد - القائد المظفر صاحب النسب العريق - فيلببه بردائه . . ويروى أنه أوثقه بشال عمامته حتى ينتهي من حسابه فتظهر براءته فيفك وثاقه ويعممه بيده . . وخالد لا يرى في هذاكله بأسا . فإنما هو عمار صاحب رسول الله [ ص ] السابق إلى الإسلام الذي قال عنه رسول الله [ ص ] ما قال !
وعمر هو الذي يقول عن أبي بكر - رضي الله عنهما - هو سيدنا وأعتق سيدنا . يعني بلالا . الذي كان مملوكا لأمية بن خلف . وكان يعذبه عذابا شديدا . حتى اشتراه منه أبو بكر وأعتقه . . وعنه يقول عمر بن الخطاب . . عن بلال . . سيدنا !
وعمر هو الذي قال:"ولو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا لاستخلفته" يقول هذا , وهو لم يستخلف عثمان ولا عليا , ولا طلحة ولا الزبير . . إنما جعل الشورى في الستة بعده ولم يستخلف أحدا بذاته !
وعلي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - يرسل عمارا والحسن بن علي - رضي الله عنهما - إلى أهل الكوفة يستنفرهم في الأمر الذي كان بينه وبين عائشة - رضي الله عنها - فيقول:"إني لأعلم أنها زوجة نبيكم [ ص ] في الدنيا والآخرة , ولكن الله ابتلاكم لتتبعوه أو تتبعوها" . . فيسمع له الناس في شأن عائشة أم المؤمنين , وبنت الصديق أبي بكر - رضي الله عنهم جميعا .
وبلال بن رباح يرجوه أخوه في الإسلام أبو رويحة الخثعمي أن يتوسط له في الزواج من قوم من أهل اليمن . فيقول لهم:"أنا بلال بن رباح , وهذا أخي أبو رويحة , وهو امرؤ سوء في الخلق والدين . فإن شئتم أن تزوجوه فزوجوه , وإن شئتم أن تدعوا فدعوا " . . فلا يدلس عليهم , ولا يخفي من أمر أخيه شيئا , ولا يذكر أنه وسيط وينسى أنه مسؤول أمام الله فيما يقول . . فيطمئن القوم إلى هذا الصدق . . ويزوجون أخاه , وحسبهم - وهو العربي ذو النسب - أن يكون بلال المولى الحبشي وسيطه !
واستقرت تلك الحقيقة في المجتمع الإسلامي , وظلت مستقرة بعد ذلك آمادا طويلة على الرغم من عوامل الانتكاس الكثيرة . "وقد كان عبد الله بن عباس يذكر ويذكر معه مولاه عكرمة . وكان عبد الله ابن عمر يذكر ويذكر معه مولاه نافع . وأنس بن مالك ومعه مولاه ابن سيرين . وأبو هريرة ومعه مولاه عبد الرحمن بن هرمز . وفي البصرة كان الحسن البصري . وفي مكة كان مجاهد بن جبر , وعطاء بن رباح , وطاووس بن كيسان هم الفقهاء . وفي مصر تولى الفتيا يزيد بن أبي حبيب في أيام عمر بن عبد العزيز وهو مولى أسود من دنقلة " . .
وظل ميزان السماء يرجح بأهل التقوى ولو تجردوا من قيم الأرض كلها . . وفي اعتبار أنفسهم وفي اعتبار الناس من حولهم . ولم يرفع هذا الميزان من الأرض إلا قريبا جدا بعد أن طغت الجاهلية طغيانا شاملا في أنحاء الأرض جميعا . وأصبح الرجل يقوم برصيده من الدولارات في أمريكا زعيمة الدول الغربية . وأصبح الإنسان كله لا يساوي الآلة في المذهب المادي المسيطر في روسيا زعيمة الدول الشرقية . أما أرض المسلمين فقد سادت فيها الجاهلية الأولى , التي جاء الإسلام ليرفعها من وهدتها ; وانطلقت فيها نعرات كان الإسلام قد قضى عليها . وحطمت ذلك الميزان الإلهي وارتدت إلى قيم جاهلية زهيدة لا تمت بصلة إلى الإيمان والتقوى . .
ولم يعد هنالك إلا أمل يناط بالدعوة الإسلامية أن تنقذ البشرية كلها مرة أخرى من الجاهلية ; وأن يتحققعلى يديها ميلاد جديد للإنسان كالميلاد الذي شهدته أول مرة , والذي جاء ذلك الحادث الذي حكاه مطلع هذه السورة ليعلنه في تلك الآيات القليلة الحاسمة العظيمة . .
الدرس الثاني:17 - 23 تذكير الإنسان بأصله وتكريمه ورعاية الله له
وبعد تقرير تلك الحقيقة الكبيرة في ثنايا التعقيب على ذلك الحادث , في المقطع الأول من السورة , يعجب السياق في المقطع الثاني من أمر هذا الإنسان , الذي يعرض عن الهدى , ويستغني عن الإيمان , ويستعلي على الدعوة إلى ربه . . يعجب من أمره وكفره , وهو لا يذكر مصدر وجوده , وأصل نشأته , ولا يرى عناية الله به وهيمنته كذلك على كل مرحلة من مراحل نشأته في الأولى والآخرة ; ولا يؤدي ما عليه لخالقه وكافله ومحاسبه:
(قتل الإنسان ما أكفره ! من أي شيء خلقه ! من نطفة خلقه فقدره . ثم السبيل يسره . ثم أماته فأقبره . ثم إذا شاء أنشره . كلا ! لما يقض ما أمره). .
(قتل الإنسان !). . فإنه ليستحق القتل على عجيب تصرفه . . فهي صيغة تفظيع وتقبيح وتشنيع لأمره . وإفادة أنه يرتكب ما يستوجب القتل لشناعته وبشاعته . .
ما أكفره ! . . ما أشد كفره وجحوده ونكرانه لمقتضيات نشأته وخلقته . ولو رعى هذه المقتضيات لشكر خالقه , ولتواضع في دنياه , ولذكر آخرته . .
وإلا فعلام يتكبر ويستغني ويعرض ? وما هو أصله وما هو مبدؤه ?
(من أي شيء خلقه ?). .
إنه أصل متواضع زهيد يستمد كل قيمته من فضل الله ونعمته , ومن تقديره وتدبيره:
(من نطفة خلقه فقدره). .
من هذا الشيء الذي لا قيمة له ; ومن هذا الأصل الذي لا قوام له . . ولكن خالقه هو الذي قدره . قدره . من تقدير الصنع وإحكامه . وقدره:من منحه قدرا وقيمة فجعله خلقا سويا , وجعله خلقا كريما . وارتفع به من ذلك الأصل المتواضع , إلى المقام الرفيع الذي تسخر له فيه الأرض وما عليها .
(ثم السبيل يسره). .
فمهد له سبيل الحياة . أو مهد له سبيل الهداية . ويسره لسلوكه بما أودعه من خصائص واستعدادات . سواء لرحلة الحياة , أو للإهتداء فيها .
حتى إذا انتهت الرحلة , صار إلى النهاية التي يصير إليها كل حي . بلا اختيار ولا فرار:
(ثم أماته فأقبره). .
فأمره في نهايته كأمره في بدايته , في يد الذي أخرجه إلى الحياة حين شاء , وأنهى حياته حين شاء , وجعل مثواه جوف الأرض , كرامة له ورعاية , ولم يجعل السنة أن يترك على ظهرها للجوارح والكواسر . وأودع فطرته الحرص على مواراة ميته وقبره . فكان هذا طرفا من تدبيره له وتقديره .
حتى إذا حان الموعد الذي اقتضته مشيئته , أعاده إلى الحياة لما يراد به من الأمر:
(ثم إذا شاء أنشره). .
فليس متروكا سدى ; ولا ذاهبا بلا حساب ولا جزاء . . فهل تراه تهيأ لهذا الأمر واستعد ?
فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24)
(كلا ! لما يقض ما أمره). .
الإنسان عامة , بأفراده جملة , وبأجياله كافة . . لما يقض ما أمره . . إلى آخر لحظة في حياته . وهو الإيحاء الذي يلقيه التعبير بلما . كلا إنه لمقصر , لم يؤد واجبه . لم يذكر أصله ونشأته حق الذكرى . . ولم يشكر خالقه وهاديه وكافله حق الشكر . ولم يقض هذه الرحلة على الأرض في الاستعداد ليوم الحساب والجزاء . . هو هكذا في مجموعه . فوق أن الكثرة تعرض وتتولى , وتستغني وتتكبر على الهدى !
الدرس الثالث:24 - 32 رعاية الله للإنسان والحيوان في الطعام
وينتقل السياق إلى لمسة أخرى في مقطع جديد . . فتلك هي نشأة هذا الإنسان . . فهلا نظر إلى طعامه وطعام أنعامه في هذه الرحلة ? وهي شيء واحد من أشياء يسرها له خالقه ?
(فلينظر الإنسان إلى طعامه . أنا صببنا الماء صبا . ثم شققنا الأرض شقا . فأنبتنا فيها حبا , وعنبا وقضبا . وزيتونا ونخلا . وحدائق غلبا . وفاكهة وأبا . متاعا لكم ولأنعامكم). .
هذه هي قصة طعامه . مفصلة مرحلة مرحلة . هذه هي فلينظر إليها ; فهل له من يد فيها ? هل له من تدبير لأمرها ? إن اليد التي أخرجته إلى الحياة وأبدعت قصته , هي ذاتها اليد التي أخرجت طعامه وأبدعت قصته . .
(فلينظر الإنسان إلى طعامه). . ألصق شيء به , وأقرب شيء إليه , وألزم شيء له . . لينظر إلى هذا الأمر الميسر الضروري الحاضر المكرر . لينظر إلى قصته العجيبة اليسيرة , فإن يسرها ينسيه ما فيها من العجب . وهي معجزة كمعجزة خلقه ونشأته . وكل خطوة من خطواتها بيد القدرة التي أبدعته:
إنا صببنا الماء صبا . . وصب الماء في صورة المطر حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة , في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة . فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان . فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى وأقدم عهدا من هذا المطر الذي يتكرر اليوم ويراه كل أحد . وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة التي يتبخر ماؤها ثم ينزل في صورة مطر , أقرب الفروض أن هذه المحيطات تكونت أولا في السماء فوقنا ثم صبت على الأرض صبا !
وفي هذا يقول أحد علماء العصر الحاضر:"إذا كان صحيحا أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي 12 . 000 درجة . أو كانت تلك درجة حرارة سطح الأرض . فعندئذ كانت كل العناصر حرة . ولذا لم يكن في الإمكان وجود أي تركيب كيميائي ذي شأن . ولما أخذت الكرة الأرضية , أو الأجزاء المكونة لها في أن تبرد تدريجيا , حدثت تركيبات , وتكونت خلية العالم كما نعرفه . وما كان للأكسيجين والهيدروجين أن يتحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى 4000 درجة فارنهايت . وعند هذه النقطة اندفعت معا تلك العناصر , وكونت الماء الذي نعرفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية . ولا بد أنه كان هائلا في ذلك الحين . وجميع المحيطات كانت في السماء . وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء . وبعد أن تكون الماء في الجو الخارجي سقط نحو الأرض . ولكنه لم يستطع الوصول إليها . إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال . وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانيا في شكل بخار . ولما كانت المحيطات في الهواء فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد كانت فوق الحسبان . وتمشى الجيشان مع التفتت . . . . . الخ" .
أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبّاً (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقّاً (26) فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدَائِقَ غُلْباً (30) وَفَاكِهَةً وَأَبّاً (31) مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
وهذا الفرض - ولو أننا لا نعلق به النص القرآني - يوسع من حدود تصورنا نحن للنص والتاريخ الذي يشير إليه . تاريخ صب الماء صبا . وقد يصح هذا الفرض , وقد تجد فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض . ويبقى النص القرآني صالحا لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة وفي كل جيل .
ذلك كان أول قصة الطعام:(أنا صببنا الماء صبا). . ولا يزعم أحد أنه أنشأ هذا الماء في أي صورة من صوره , وفي أي تاريخ لحدوثه ; ولا أنه صبه على الأرض صبا , لتسير قصة الطعام في هذا الطريق !
(ثم شققنا الأرض شقا). . وهذه هي المرحلة التالية لصب الماء . وهي صالحة لأن يخاطب بها الإنسان البدائي الذي يرى الماء ينصب من السماء بقدرة غير قدرته , وتدبير غير تدبيره . ثم يراه يشق الأرض ويتخلل تربتها . أو يرى النبت يشق تربة الأرض شقا بقدرة الخالق وينمو على وجهها , ويمتد في الهواء فوقها . . وهو نحيل نحيل , والأرض فوقه ثقيلة ثقيلة . ولكن اليد المدبرة تشق له الأرض شقا , وتعينه على النفاذ فيها وهو ناحل لين لطيف . وهي معجزة يراها كل من يتأمل انبثاق النبتة من التربة ; ويحس من ورائه انطلاق القوة الخفية الكامنة في النبتة الرخية .
فأما حين تتقدم معارف الإنسان فقد يعن له مدى آخر من التصوير في هذا النص . وقد يكون شق الأرض لتصبح صالحة للنبات أقدم بكثير مما نتصور . إنه قد يكون ذلك التفتت في صخور القشرة الأرضية بسبب الفيضانات الهائلة التي يشير إليها الفرض العلمي السابق . وبسبب العوامل الجوية الكثيرة التي يفترض علماء اليوم أنها تعاونت لتفتيت الصخور الصلبة التي كانت تكسو وجه الأرض وتكون قشرتها ; حتى وجدت طبقة الطمي الصالحة للزرع . وكان هذا أثرا من آثار الماء تاليا في تاريخه لصب الماء صبا . مما يتسق أكثر مع هذا التتابع الذي تشير إليه النصوص . .
وسواء كان هذا أم ذاك أم سواهما هو الذي حدث , وهو الذي تشير إليه الآيتان السابقتان فقد كانت المرحلة الثالثة في القصة هي النبات بكل صنوفه وأنواعه . التي يذكر منها هنا أقربها للمخاطبين , وأعمها في طعام الناس والحيوان:
(فأنبتنا فيها حبا). . وهو يشمل جميع الحبوب . ما يأكله الناس في أية صورة من صوره , وما يتغذى به الحيوان في كل حالة من حالاته .
(وعنبا وقضبا). . والعنب معروف . والقضب هو كل ما يؤكل رطبا غضا من الخضر التي تقطع مرة بعد أخرى . .(وزيتونا ونخلا . وحدائق غلبا . وفاكهة وأبا). . والزيتون والنخل معروفان لكل عربي والحدائق جمع حديقة , وهي البساتين ذات الأشجار المثمرة المسورة بحوائط تحميها . و(غلبا)جمع غلباء . أي ضخمة عظيمة ملتفة الأشجار . والفاكهة من ثمار الحدائق و "الأب" أغلب الظن أنه الذي ترعاه الأنعام . وهو الذي سأل عنه عمر بن الخطاب ثم راجع نفسه فيه متلوما ! كما سبق في الحديث عن سورة النازعات ! فلا نزيد نحن شيئا !
هذه هي قصة الطعام . كلها من إبداع اليد التي ابدعت الإنسان . وليس فيها للإنسان يد يدعيها , في أية مرحلة من مراحلها . . حتى الحبوب والبذور التي قد يلقيها هو في الأرض . . إنه لم يبدعها , ولم يبتدعها . والمعجزة في إنشائها ابتداء من وراء تصور الإنسان وإدراكه . والتربة واحدة بين يديه , ولكن البذور والحبوب منوعة , وكل منها يؤتي أكله في القطع المتجاورات من الأرض . وكلها تسقى بماء واحد , ولكن اليد المبدعة تنوع النبات وتنوع الثمار ; وتحفظ في البذرة الصغيرة خصائص أمها التي ولدتها فتنقلها إلى بنتها التي تلدها . . كل أولئك في خفية عن الإنسان ! لا يعلم سرها ولا يقضي أمرها , ولا يستشار في شأن من شؤونها . .
فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
هذه هي القصة التي أخرجتها يد القدرة:(متاعا لكم ولأنعامكم). . إلى حين . ينتهي فيه هذا المتاع ; الذي قدره الله حين قدر الحياة . ثم يكون بعد ذلك أمر آخر يعقب المتاع . أمر يجدر بالإنسان أن يتدبره قبل أن يجيء:
الدرس الرابع:33 - 42 في الصاخة وجوه مسفرة مستبشرة ووجوه معذبة
فإذا جاءت الصاخة , يوم يفر المرء من أخيه , وأمه وأبيه , وصاحبته وبنيه . لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه . . وجوه يومئذ مسفرة , ضاحكة مستبشرة , ووجوه يومئذ عليها غبرة , ترهقها قترة , أولئك هم الكفرة الفجرة . .
فهذه هي خاتمة المتاع . وهذه هي التي تتفق مع التقدير الطويل , والتدبير الشامل , لكل خطوة وكل مرحلة في نشأة الإنسان . وفي هذا المشهد ختام يتناسق مع المطلع . مع الذي جاء يسعى وهو يخشى . والذي استغنى وأعرض عن الهدى . ثم هذان هما في ميزان الله .
"والصاخة لفظ ذو جرس عنيف نافذ , يكاد يخرق صماخ الأذن , وهو يشق الهواء شقا , حتى يصل إلى الأذن صاخا ملحا !
"وهو يمهد بهذا الجرس العنيف للمشهد الذي يليه:مشهد المرء يفر وينسلخ من ألصق الناس به:(يوم يفر المرء من أخيه وأمه وأبيه , وصاحبته وبنيه). . أولئك الذين تربطهم به وشائج وروابط لا تنفصم ; ولكن هذه الصاخة تمزق هذه الروابط تمزيقا , وتقطع تلك الوشائج تقطيعا .
"والهول في هذا المشهد هول نفسي بحت , يفزع النفس ويفصلها عن محيطها . ويستبد بها استبدادا . فلكل نفسه وشأنه , ولديه الكفاية من الهم الخاص به , الذي لا يدع له فضلة من وعي أو جهد:(لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه). .
"والظلال الكامنة وراء هذه العبارة وفي طياتها ظلال عميقة سحيقة . فما يوجد أخصر ولا أشمل من هذا التعبير , لتصوير الهم الذي يشغل الحس والضمير:(لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه)!
ذلك حال الخلق جميعا في هول ذلك اليوم . . إذا جاءت الصاخة . . ثم يأخذ في تصوير حال المؤمنين وحال الكافرين , بعد تقويمهم ووزنهم بميزان الله هناك:
(وجوه يومئذ مسفرة . ضاحكة مستبشرة). .
فهذه وجوه مستنيرة منيرة متهللة ضاحكة مستبشرة , راجية في ربها , مطمئنة بما تستشعره من رضاه عنها . فهي تنجو من هول الصاخة المذهل لتتهلل وتستنير وتضحك وتستبشر . أو هي قد عرفت مصيرها , وتبين لها مكانها , فتهللت واستبشرت بعد الهول المذهل . .
(ووجوه يومئذ عليها غبرة . ترهقها قترة . أولئك هم الكفرة الفجرة). .
فأما هذه فتعلوها غبرة الحزن والحسرة , ويغشاها سواد الذل والانقباض . وقد عرفت ما قدمت فاستيقنت ما ينتظرها من جزاء . .(أولئك هم الكفرة الفجرة). . الذين لا يؤمنون بالله وبرسالاته , والذين خرجوا عن حدوده وانتهكوا حرماته . .
وفي هذه الوجوه وتلك قد ارتسم مصير هؤلاء وهؤلاء . ارتسم ملامح وسمات من خلال الألفاظ والعبارات . وكأنما الوجوه شاخصة , لقوة التعبير القرآني ودقة لمساته .
بذلك يتناسق المطلع والختام . . المطلع يقرر حقيقة الميزان . والختام يقرر نتيجة الميزان . وتستقل هذه السورة القصيرة بهذا الحشد من الحقائق الضخام , والمشاهد والمناظر , والإيقاعات والموحيات . وتفي كلها هذا الوفاء الجميل الدقيق . .
سورة التكوير
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)
سورة التكوير
تعريف بسورة التكوير
هذه السورة ذات مقطعين اثنين تعالج في كل مقطع منهما تقرير حقيقة ضخمة من حقائق العقيدة:
الأولى حقيقة القيامة , وما يصاحبها من انقلاب كوني هائل كامل , يشمل الشمس والنجوم والجبال والبحار , والأرض والسماء , والأنعام والوحوش , كما يشمل بني الإنسان .
والثانية حقيقة الوحي , وما يتعلق بها من صفة الملك الذي يحمله , وصفة النبي الذي يتلقاه , ثم شأن القوم المخاطبين بهذا الوحي معه , ومع المشيئة الكبرى التى فطرتهم ونزلت لهم الوحي .
والإيقاع العام للسورة أشبه بحركة جائحة . تنطلق من عقالها . فتقلب كل شيء , وتنثر كل شيء ; وتهيجالساكن وتروع الآمن ; وتذهب بكل مألوف وتبدل كل معهود ; وتهز النفس البشرية هزا عنيفا طويلا , يخلعها من كل ما اعتادت أن تسكن إليه , وتتشبث به , فإذا هي في عاصفة الهول المدمر الجارف ريشة لا وزن لها ولا قرار . ولا ملاذ لها ولا ملجأ إلا في حمى الواحد القهار , الذي له وحده البقاء والدوام , وعنده وحده القرار والاطمئنان . .
ومن ثم فالسورة بإيقاعها العام وحده تخلع النفس من كل ما تطمئن إليه وتركن , لتلوذ بكنف الله , وتأوي إلى حماه , وتطلب عنده الأمن والطمأنينة والقرار . .
وفي السورة - مع هذا - ثروة ضخمة من المشاهد الرائعة , سواء في هذا الكون الرائع الذي نراه , أو في ذلك اليوم الآخر الذي ينقلب فيه الكون بكل ما نعهده فيه من أوضاع . وثروة كذلك من التعبيرات الأنيقة ! المنتقاة لتلوين المشاهد والإيقاعات . وتلتقي هذه وتلك في حيز السورة الضيق , فتضغط على الحس وتنفذ إليه في قوة وإيحاء .
ولولا أن في التعبير ألفاظا وعبارات لم تعد مألوفة ولا واضحة للقارئ في هذا الزمان , لآثرت ترك السورة تؤدي بإيقاعها وصورها وظلالها وحقائقها ومشاهدها , مالا تؤديه أية ترجمة لها في لغة البشر ; وتصل بذاتها إلى أوتار القلوب فتهزها من الأعماق .
ولكن لا بد مما ليس منه بد . وقد بعدنا في زماننا هذا عن مألوف لغة القرآن !
الدرس الأول:1 - 14 من مشاهد يوم القيامة
إذا الشمس كورت , وإذا النجوم انكدرت , وإذا الجبال سيرت , وإذا العشار عطلت , وإذا الوحوش حشرت , وإذا البحار سجرت , وإذا النفوس زوجت , وإذا الموءودة سئلت:بأي ذنب قتلت ? وإذا الصحف نشرت , وإذا السماء كشطت , وإذا الجحيم سعرت , وإذا الجنة أزلفت . . علمت نفس ما أحضرت . .
هذا هو مشهد الانقلاب التام لكل معهود , والثورة الشاملة لكل موجود . الانقلاب الذي يشمل الأجرام السماوية والأرضية , والوحوش النافرة والأنعام الأليفة , ونفوس البشر , وأوضاع الأمور . حيث ينكشف كل مستور , ويعلم كل مجهول ; وتقف النففس أمام ما أحضرت من الرصيد والزاد في موقف الفصل والحساب . وكل شيء من حولها عاصف ; وكل شيء من حولها مقلوب !
وهذه الأحداث الكونية الضخام تشير بجملتها إلى أن هذا الكون الذي نعهده . الكون المنسق الجميل , الموزون الحركة , المضبوط النسبة , المتين الصنعة , المبني بأيد وإحكام . أن هذا الكون سينفرط عقد نظامه , وتتناثر أجزاؤه , وتذهب عنه صفاته هذه التي يقوم بها ; وينتهي إلى أجله المقدر , حيث تنتهي الخلائق إلى صورة أخرى من الكون ومن الحياة ومن الحقائق غير ما عهدت نهائيا من هذا الكون المعهود .
وهذا ما تستهدف السورة إقراره في المشاعر والقلوب كي تنفصل من هذه المظاهر الزائلة - مهما بدت لها ثابتة - وتتصل بالحقيقة الباقية . . حقيقة الله الذي لا يحول ولا يزول , حين يحول كل شيء من الحوادث ويزول . ولكي تنطلق من إسار المعهود المألوف في هذا الكون المشهود . إلى الحقيقة المطلقة التي لا تتقيد بزمان ولا مكان ولا رؤية ولا حس , ولا مظهر من المظاهر التي تقيدها في ظرف أو إطار محدود !
وهذا هو الشعور العام الذي ينسرب إلى النفس وهي تطالع مشاهد هذا الانقلاب المرهوب .
فأما حقيقة ما يجري لكل هذه الكائنات , فعلمها عند الله ; وهي حقيقة أكبر من أن ندركها الآن بمشاعرنا
وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7)
وتصوراتنا المقيدة بمألوف حسنا وتفكيرنا . . وأكبر ما نعهده من الانقلابات هو أن ترجف بنا الأرض في زلزال مدمر , أو يتفجر من باطنها بركان جائح , أو أن ينقض على الأرض شهاب صغير , أو صاعقة . . وأشد ما عرفته البشرية من طغيان الماء كان هو الطوفان . . كما أن أشد ما رصدته من الأحداث الكونية كان هو انفجارات جزئية في الشمس على بعد مئات الملايين من الأميال . .
وهذه كلها بالقياس إلى ذلك الانقلاب الشامل الهائل في يوم القيامة . . تسليات أطفال !!!
فإذا لم يكن بد أن نعرف شيئا عن حقيقة ما يجري للكائنات , فليس أمامنا إلا تقريبها في عبارات مما نألف في هذه الحياة !
إن تكوير الشمس قد يعني برودتها , وانطفاء شعلتها , وانكماش ألسنتها الملتهبة التي تمتد من جوانبها كلها الآن إلى ألوف الأميال حولها في الفضاء . كما يتبدى هذا من المراصد في وقت الكسوف . واستحالتها من الغازية المنطلقة بتأثير الحرارة الشديدة التي تبلغ 12000 درجة , والتي تحول جميع المواد التي تتكون منها الشمس إلى غازات منطلقة ملتهبة . . استحالتها من هذه الحالة إلى حالة تجمد كقشرة الأرض , وتكور لا ألسنة له ولا امتداد !
قد يكون هذا , وقد يكون غيره . . أما كيف يقع والعوامل التي تسبب وقوعه فعلم ذلك عند الله .
وانكدار النجوم قد يكون معناه انتثارها من هذا النظام الذي يربطها , وانطفاء شعلتها وإظلام ضوئها . . والله أعلم ما هي النجوم التي يصيبها هذا الحادث . وهل هي طائفة من النجوم القريبة منا . . مجموعتنا الشمسية مثلا . أو مجرتنا هذه التي تبلغ مئات الملايين من النجوم . . أم هي النجوم جميعها والتي لا يعلم عددها ومواضعها إلا الله . فوراء ما نرى منها بمراصدنا مجرات وفضاءات لها لا نعرف لها عددا ولا نهاية . فهناك نجوم سيصيبها الانكدار كما يقرر هذا الخبر الصادق الذي لا يعلم حقيقته إلا الله . .
وتسيير الجبال قد يكون معناه نسفها وبسها وتذريتها في الهواء , كما جاء في سورة أخرى:(ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا). .(وبست الجبال بسا فكانت هباء منبثا). .(وسيرت الجبال فكانت سرابا). . فكلها تشير إلى حدث كهذا يصيب الجبال , فيذهب بثباتها ورسوخها وتماسكها واستقرارها , وقد يكون مبدأ ذلك الزلزال الذي يصيب الأرض , والذي يقول عنه القرآن:(إذا زلزلت الأرض زلزالها وأخرجت الأرض أثقالها . .)وكلها أحداث تقع في ذلك اليوم الطويل . .
أما قوله سبحانه:(وإذا العشار عطلت). . فالعشار هي النوق الحبالى في شهرها العاشر . وهي أجود وأثمن ما يملكه العربي . وهي في حالتها هذه تكون أغلى ما تكون عنده , لأنها مرجوة الولد واللبن , قريبة النفع . ففي هذا اليوم الذي تقع فيه هذه الأهوال تهمل هذه العشار وتعطل فلا تصبح لها قيمة , ولا يهتم بشأنها أحد . . والعربي المخاطب ابتداء بهذه الآية لا يهمل هذه العشار ولا ينفض يده منها إلا في حالة يراها أشد ما يلم به !
وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)
(وإذا الوحوش حشرت). . فهذه الوحوش النافرة قد هالها الرعب والهول فحشرت وانزوت تتجمع من الهول وهي الشاردة في الشعاب ; ونسيت مخاوفها بعضها من بعض , كما نسيت فرائسها , ومضت هائمة على وجوهها , لا تأوي إلى جحورها أو بيوتها كما هي عادتها , ولا تنطلق وراء فرائسها كما هو شأنها . فالهول والرعب لا يدعان لهذه الوحوش بقية من طباعها وخصائصها ! فكيف بالناس في ذلك الهول العصيب ?!
وأما تسجير البحار فقد يكون معناه ملؤها بالمياه . وإما أن تجيئها هذه المياه من فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد الأرض وبرودتها [ التي تحدثنا عنها في سورة النازعات ] وإما بالزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار فيتدفق بعضها في بعض . . وإما أن يكون معناه التهابها وانفجارها كما قال في موضع آخر:(وإذا البحار فجرت). . فتفجير عناصرها وانفصال الأيدروجين عن الأكسوجين فيها . أو تفجير ذراتها على نحو ما يقع في تفجير الذرة , وهو أشد هولا . أو على أي نحو آخر . وحين يقع هذا فإن نيرانا هائلة لا يتصور مداها تنطلق من البحار . فإن تفجير قدر محدود من الذرات في القنبلة الذرية أو الأيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ; فإذا انفجرت ذرات البحار على هذا النحو أو نحو آخر , فإن الإدراك البشري يعجز عن تصور هذا الهول ; وتصور جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة !
وتزويج النفوس يحتمل أن يكون هو جمع الأرواح بأجسادها بعد إعادة إنشائها . ويحتمل أن يكون ضم كل جماعة من الأرواح المتجانسة في مجموعة , كما قال في موضع آخر:(وكنتم أزواجا ثلاثة)أي صنوفا ثلاثة هم المقربون وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة . أو في غير ذلك من التشكيلات المتجانسة !
وإذا الموءودة سئلت:بأي ذنب قتلت ? وقد كان من هوان النفس الإنسانية في الجاهلية أن انتشرت عادة وأد البنات خوف العار أو خوف الفقر . وحكى القرآن عن هذه العادة ما يسجل هذه الشناعة على الجاهلية , التي جاء الإسلام ليرفع العرب من وهدتها , ويرفع البشرية كلها . فقال في موضع:(وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم . يتوارى من القوم من سوء ما بشر به . أيمسكه على هون أم يدسه في التراب ? ألا ساء ما يحكمون !). . وقال في موضع: وإذا بشر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلا [ أي البنات ] ظل وجهه مسودا وهو كظيم . أو من ينشأ في الحلية وهو في الخصام غير مبين ? . . وقال في موضع ثالث: (ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم). .
وكان الوأد يتم في صورة قاسية . إذ كانت البنت تدفن حية ! وكانوا يفتنون في هذا بشتى الطرق . فمنهم من كان إذا ولدت له بنت تركها حتى تكون في السادسة من عمرها , ثم يقول لأمها:طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ! وقد حفر لها بئرا في الصحراء , فيبلغ بها البئر , فيقول لها:انظري فيها . ثم يدفعها دفعا ويهيل التراب عليها ! وعند بعضهم كانت الوالدة إذا جاءها المخاض جلست فوق حفرة محفورة . فإذا كان المولود بنتا رمت بها فيها وردمتها . وإن كان ابنا قامت به معها ! وبعضهم كان إذا نوى ألا يئد الوليدة أمسكها مهينة إلى أن تقدر على الرعي , فيلبسها جبة من صوف أو شعر ويرسلها في البادية ترعى له إبله !
فأما الذين لا يئدون البنات ولا يرسلونهن للرعي , فكانت لهم وسائل أخرى لإذاقتها الخسف والبخس . . كانت إذا تزوجت ومات زوجها جاء وليه فألقى عليها ثوبه . ومعنى هذا أن يمنعها من الناس فلا يتزوجها أحد
وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاء كُشِطَتْ (11)
فإن أعجبته تزوجها , لاعبرة برغبتها هي ولا إرادتها ! وإن لم تعجبه حبسها حتى تموت فيرثها . أو أن تفتدي نفسها منه بمال في هذه الحالة أو تلك . . وكان بعضهم يطلق المرأة ويشترط عليها ألا تنكح غيره إلا من أراد . إلا أن تفتدي نفسها منه بما كان أعطاها . . وكان بعضهم إذا مات الرجل حبسوا زوجته على الصبي فيهم حتى يكبر فيأخذها . . وكان الرجل تكون اليتيمة في حجره يلي أمرها , فيحبسها عن الزواج , رجاء أن تموت امرأته فيتزوجها ! أو يزوجها من ابنه الصغير طمعا في مالها أو جمالها . .
فهذه كانت نظرة الجاهلية إلى المرأة على كل حال . حتى جاء الإسلام . يشنع بهذه العادات ويقبحها . وينهى عن الوأد ويغلظ فعلته . ويجعلها موضوعا من موضوعات الحساب يوم القيامة . يذكره في سياق هذا الهول الهائج المائج , كأنه حدث كوني من هذه الأحداث العظام . ويقول:إن الموءودة ستسأل عن وأدها . . فكيف بوائدها ?!
وما كان يمكن أن تنبت كرامة المرأة من البيئة الجاهلية أبدا ; لولا أن تتنزل بها شريعة الله ونهجه في كرامة البشرية كلها , وفي تكريم الإنسان:الذكر والأنثى ; وفي رفعه إلى المكان اللائق بكائن يحمل نفخة من روح الله العلي الأعلى . فمن هذا المصدر انبثقت كرامة المرأة التي جاء بها الإسلام , لا من أي عامل من عوامل البيئة .
وحين تحقق ميلاد الإنسان الجديد باستمداد القيم التي يتعامل بها من السماء لا من الأرض , تحققت للمرأة الكرامة , فلم يعد لضعفها وتكاليف حياتها المادية على أهلها وزن في تقويمها وتقديرها . لأن هذه ليست من قيم السماء ولا وزن لها في ميزانها . إنما الوزن للروح الإنساني الكريم المتصل بالله . وفي هذا يتساوى الذكر والأنثى .
وحين تعد الدلائل على أن هذا الدين من عند الله , وأن الذي جاء به رسول أوحي إليه . . تعد هذه النقلة في مكانة المرأة إحدى هذه الدلائل التي لا تخطئ . حيث لم تكن توجد في البيئة أمارة واحدة ينتظر أن تنتهي بالمرأة إلى هذه الكرامة ; ولا دافع واحد من دوافع البيئة وأحوالها الاقتصادية بصفة خاصة لولا أن نزل النهج الإلهي ليصنع هذا ابتداء بدافع غير دوافع الأرض كلها , وغير دوافع البيئة الجاهلية بصفة خاصة . فأنشأ وضع المرأة الجديد إنشاء , يتعلق بقيمة سماوية محضة وبميزان سماوي محض كذلك !
(وإذا الصحف نشرت)صحف الأعمال . ونشرها يفيد كشفها ومعرفتها , فلا تعود خافية ولا غامضة . وهذه العلنية أشد على النفوس وأنكى . فكم من سوأة مستورة يخجل صاحبها ذاته من ذكراها , ويرجف ويذوب من كشفها ! ثم إذا هي جميعها في ذلك اليوم منشورة مشهودة !
إن هذا النشر والكشف لون من ألوان الهول في ذلك اليوم ; كما أنه سمة من سمات الانقلاب حيث يكشف المخبوء , ويظهر المستور , ويفتضح المكنون في الصدور ?
وهذا التكشف في خفايا الصدور يقابله في الكون مشهد مثله:(وإذا السماء كشطت). . وأول ما يتبادر إلى الذهن من كلمة السماء هو هذا الغطاء المرفوع فوق الرؤوس . وكشطها إزالتها . . فأما كيف يقع هذا وكيف يكون فلا سبيل إلى الجزم بشيء . ولكنا نتصور أن ينظر الإنسان فلا يرى هذه القبة فوقه نتيجة لأي سبب يغير هذه الأوضاع الكونية , التي توجد بها هذه الظاهرة . وهذا يكفي . .
وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17)
ثم تجيء الخطوة الأخيرة في مشاهد ذلك اليوم الهائل المرهوب:
(وإذا الجحيم سعرت . وإذا الجنة أزلفت). .
حيث تتوقد الجحيم وتتسعر , ويزداد لهيبها ووهجها وحرارتها . . أما أين هي ? وكيف تتسعر وتتوقد ? وبأي شيء تتوقد ? فليس لدينا من ذلك إلا قوله تعالى: (وقودها الناس والحجارة). وذلك بعد إلقاء أهلها فيها . أما قبل ذلك فالله أعلم بها وبوقودها !
وحيث تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها , وتبدو لهم سهولة مدخلها , ويسر ولوجها . فهي مزلفة مقربة مهيأة . واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها !!
عندما تقع هذه الأحداث الهائلة كلها , في كيان الكون , وفي أحوال الأحياء والأشياء . عندئذ لا يبقى لدى النفوس شك في حقيقة ما عملت , وما تزودت به لهذا اليوم , وما حملت معها للعرض , وما أحضرت للحساب:
(علمت نفس ما أحضرت). .
كل نفس تعلم , في هذا اليوم الهائل ما معها وما لها وما عليها . . تعلم وهذا الهول يحيط بها ويغمرها . . تعلم وهي لا تملك أن تغير شيئا مما أحضرت , ولا أن تزيد عليه ولا أن تنقص منه . . تعلم وقد انفصلت عن كل ما هو مألوف لها , معهود في حياتها أو تصورها . وقد انقطعت عن عالمها وانقطع عنها عالمها . وقد تغير كل شيء وتبدل كل شيء , ولم يبقى إلا وجه الله الكريم , الذي لا يتحول ولا يتبدل . . فما أولى أن تتجه النفوس إلى وجه الله الكريم , فتجده - سبحانه - عندما يتحول الكون كله ويتبدل !
وبهذا الإيقاع ينتهي المقطع الأول وقد امتلأ الحس وفاض بمشاهد اليوم الذي يتم فيه هذا الانقلاب .
الدرس الثاني:15 - 18 القسم ببعض المظاهر الكونية
ثم يجيء المقطع الثاني في السورة يبدأ بالتلويح بالقسم بمشاهد كونية جميلة , تختار لها تعبيرات أنيقة . . القسم على طبيعة الوحي , وصفة الرسول الذي يحمله , والرسول الذي يتلقاه , وموقف الناس حياله وفق مشيئة الله:
فلا أقسم بالخنس , الجوار الكنس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفس . إنه لقول رسول كريم , ذي قوة عند ذي العرش مكين , مطاع ثم أمين . وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين , وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين . لمن شاء منكم أن يستقيم . وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين . .
والخنس الجوار الكنس . . هي الكواكب التي تخنس أي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي . والتعبير يخلع عليها حياة رشيقة كحياة الظباء . وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى . فهناك حياة تنبض من خلال التعبير الرشيق الأنيق عن هذه الكواكب , وهناك إيحاء شعوري بالجمال في حركتها . في اختفائها وفي ظهورها . في تواريها وفي سفورها . في جريها وفي عودتها . يقابله إيحاء بالجمال في شكل اللفظ وجرسه .
(والليل إذا عسعس). . أي إذا أظلم . ولكن اللفظ فيه تلك الإيحاءات كذلك . فلفظ عسعس مؤلف من مقطعين:عس . عس . وهو يوحي بجرسه بحياة في هذا الليل , وهو يعس في الظلام بيده أو برجله لا يرى !
وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24)
وهو إيحاء عجيب واختيار للتعبير رائع .
ومثله:(والصبح إذا تنفس). . بل هو أظهر حيوية , وأشد إيحاء . والصبح حي يتنفس . أنفاسه النور والحياة والحركة التي تدب في كل حي . وأكاد أجزم أن اللغة العربية بكل مأثوراتها التعبيرية لا تحتوي نظيرا لهذا التعبير عن الصبح . ورؤية الفجر تكاد تشعر القلب المتفتح أنه بالفعل يتنفس ! ثم يجيء هذا التعبير فيصور هذه الحقيقة التي يشعر بها القلب المتفتح .
وكل متذوق لجمال التعبير والتصوير يدرك أن قوله تعالى:(فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس , والليل إذا عسعس , والصبح إذا تنفس). . ثروة شعورية وتعبيرية . فوق ما يشير إليه من حقائق كونية . ثروة جميلة بديعة رشيقة ; تضاف إلى رصيد البشرية من المشاعر , وهي تستقبل هذه الظواهر الكونية بالحس الشاعر .
الدرس الثالث:19 - 21 من صفات جبريل عليه السلام
يلوح بهذه المشاعر الكونية التي يخلع عليها الحياة ; ويصل روح الإنسان بأرواحها من خلال التعبير الحي الجميل عنها ; لتسكب في روح الإنسان أسرارها , وتشي لها بالقدرة التي وراءها , وتحدثها بصدق الحقيقة الإيمانية التي تدعى إليها . . ثم يذكر هذه الحقيقة في أنسب الحالات لذكرها واستقبالها:
(إنه لقول رسول كريم . ذي قوة عند ذي العرش مكين . مطاع ثم أمين). .
إن هذا القرآن , وهذا الوصف لليوم الآخر . . لقول رسول كريم . . وهو جبريل الذي حمل هذا القول وأبلغه . . فصار قوله باعتبار تبليغه .
ويذكر صفة هذا الرسول , الذي اختير لحمل هذا القول وإبلاغه . .(كريم)عند ربه . فربه هو الذي يقول . . (ذي قوة). . مما يوحي بأن هذا القول يحتاج في حمله إلى قوة . (عند ذي العرش مكين). . في مقامه ومكانته . . وعند من ? عند ذي العرش العلي الأعلى . (مطاع ثم)هناك في الملأ الأعلى .(أمين). . على ما يحمل وما يبلغ . .
وهذه الصفات في مجموعها توحي بكرامة هذا القول وضخامته وسموه كذلك وارتفاعه . كما توحي بعناية الله سبحانه بالإنسان , حتى ليختار هذا الرسول صاحب هذه الصفة ليحمل الرسالة إليه , ويبلغ الوحي إلى النبي المختار منه . . وهي عناية تخجل هذا الكائن , الذي لا يساوي في ملك الله شيئا , لولا أن الله - سبحانه - يتفضل عليه فيكرمه هذه الكرامة !
الدرس الرابع:22 - 27 رد اتهامات الكفار للرسول وإثبات حقيقة الوحي
فهذه صفة الرسول الذي حمل القول وأداه , فأما الرسول الذي حمله إليكم فهو(صاحبكم). . عرفتموه حق المعرفة عمرا طويلا . فما لكم حين جاءكم بالحق تقولون فيه ما تقولون . وتذهبون في أمره المذاهب , وهو(صاحبكم)الذي لا تجهلون . وهو الأمين على الغيب الذي يحدثكم عنه عن يقين:
(وما صاحبكم بمجنون . ولقد رآه بالأفق المبين . وما هو على الغيب بضنين . وما هو بقول شيطان رجيم . فأين تذهبون ? إن هو إلا ذكر للعالمين). .
ولقد قالوا عن النبي الكريم الذي يعرفونه حق المعرفة , ويعرفون رجاحة عقله , وصدقه وأمانته وتثبته , قالوا عنه:إنه مجنون . وإن شيطانا يتنزل عليه بما يقول . قال بعضهم هذا كيدا له ولدعوته كما وردت بذلك الأخبار . وقاله بعضهم عجبا ودهشة من هذا القول الذي لا يقوله البشر فيما يألفون ويعهدون . وتمشيا مع ظنهم
وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (27) لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
أن لكل شاعر شيطانا يأتيه بالقول الفريد . وأن لكل كاهن شيطانا يأتيه بالغيب البعيد . وأن الشيطان يمس بعض الناس فينطق على لسانهم بالقول الغريب ! وتركوا التعليل الوحيد الصادق , وهو أنه وحي وتنزيل من رب العالمين .
فجاء القرآن يحدثهم في هذا المقطع من السورة عن جمال الكون البديع , وحيوية مشاهده الجميلة . ليوحي إلى قلوبهم بأن القرآن صادر عن تلك القدرة المبدعة , التي أنشأت ذلك الجمال . على غير مثال . وليحدثهم بصفة الرسول الذي حمله , والرسول الذي بلغه . وهو صاحبهم الذي عرفوه . غير مجنون . والذي رأى الرسول الكريم - جبريل - حق الرؤية , بالأفق المبين الواضح الذي تتم فيه الرؤية عن يقين . وأنه [ ص ] لمؤتمن على الغيب , لا تظن به الظنون في خبره الذي يرويه عنه , فما عرفوا عنه إلا الصدق واليقين .(وما هو بقول شيطان رجيم)فالشياطين لا توحي بهذا النهج القويم . ويسألهم مستنكرا:(فأين تذهبون ?). . أين تذهبون في حكمكم وقولكم ? أو أين تذهبون منصرفين عن الحق وهو يواجهكم أينما ذهبتم !
إن هو إلا ذكر للعالمين ذكر يذكرهم بحقيقة وجودهم , وحقيقة نشأتهم , وحقيقة الكون من حولهم . .(للعالمين). . فهو دعوة عالمية من أول مرحلة . والدعوة في مكة محاصرة مطاردة . كما تشهد مثل هذه النصوص المكية . .
الدرس الخامس:28 القرآن هدى لمن يريد الإستقامة والهداية
وأمام هذا البيان الموحي الدقيق يذكرهم أن طريق الهداية ميسر لمن يريد . وأنهم إذن مسؤولون عن أنفسهم , وقد منحهم الله هذا التيسير:
(لمن شاء منكم أن يستقيم). .
أن يستقيم على هدى الله , في الطريق إليه , بعد هذا البيان , الذي يكشف كل شبهة , وينفي كل ريبة , ويسقط كل عذر . ويوحي إلى القلب السليم بالطريق المستقيم . فمن لم يستقم فهو مسؤول عن انحرافه . فقد كان أمامه أن يستقيم .
والواقع أن دلائل الهدى وموحيات الإيمان في الأنفس والآفاق من القوة والعمق والثقل بحيث يصعب على القلب التفلت من ضغطها إلا بجهد متعمد . وبخاصة حين يسمع التوجيه إليها بأسلوب القرآن الموحي الموقظ . وما ينحرف عن طريق الله - بعد ذلك - إلا من يريد أن ينحرف . في غير عذر ولا مبرر !
الدرس السادس:29 الهداية بيد الله يهبها لمن يطلبها
فإذا سجل عليهم إمكان الهدى , ويسر الاستقامة , عاد لتقرير الحقيقة الكبرى وراء مشيئتهم . حقيقة أن المشيئة الفاعلة من وراء كل شيء هي مشيئة الله سبحانه . .
(وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين). .
وذلك كي لا يفهموا أن مشيئتهم منفصلة عن المشيئة الكبرى , التي يرجع إليها كل أمر . فإعطاؤهم حرية الاختيار , ويسر الاهتداء , إنما يرجع إلى تلك المشيئة . المحيطة بكل شيء كان أو يكون !
وهذه النصوص التي يعقب بها القرآن الكريم عند ذكر مشيئة الخلائق , يراد بها تصحيح التصور الإيماني وشموله للحقيقة الكبيرة:حقيقة أن كل شيء في هذا الوجود مرده إلى مشيئة الله . وأن ما يأذن به للناس من قدرة على الاختيار هو طرف من مشيئته ككل تقدير آخر وتدبير . شأنه شأن ما يأذن به للملائكة من الطاعةالمطلقة لما يؤمرون , والقدرة الكاملة على أداء ما يؤمرون . فهو طرف من مشيئته كإعطاء الناس القدرة على اختيار أحد الطريقين بعد التعليم والبيان .
ولا بد من إقرار هذه الحقيقة في تصور المؤمنين , ليدركوا ما هو الحق لذاته . وليلتجئوا إلى المشيئة الكبرى يطلبون عندها العون والتوفيق , ويرتبطون بها في كل ما يأخذون وما يدعون في الطريق !
سورة الانفطار
إِذَا السَّمَاء انفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ (8)
سورة الانفطار
تعريف بسورة الإنفطار
تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير . ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى , وسمتا خاصا بها , وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوف بالقلب البشري فيها ; وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد . هادئ عميق . لمسات كأنها عتاب . وإن كان في طياته وعيد !
ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب , فلا تكون هي طابع السورة الغالب - كما هو الشأن في سورة التكوير - لأن جو العتاب أهدأ , وإيقاع العتاب أبطأ . . وكذلك إيقاع السورة الموسيقي . فهو يحمل هذا الطابع . فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق !
إنها تتحدث في المقطع الأول عن انفطار السماء وانتثار الكواكب , وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت , في ذلك اليوم الخطير . .
وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد , لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته , ولكنه لا يعرف للنعمة حقها , ولا يعرف لربه قدره , ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة:(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك ? في أي صورة ما شاء ركبك). .
كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَاماً كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16)
وفي المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار . فهي التكذيب بالدين - أي بالحساب - وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود . ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيدا , ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم:(كلا . بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين . يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين). .
فأما المقطع الأخير فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله , وتجرد النفوس من كل حول فيه , وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل:(وما أدراك ما يوم الدين ? ثم ما أدراك ما يوم الدين ? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا , والأمر يومئذ لله). .
فالسورة في مجموعها حلقة في سلسلة الإيقاعات والطرقات التي يتولاها هذا الجزء كله بشتى الطرق والأساليب .
الدرس الأول:1 - 5 بعض مشاهد القيامة في الطبيعة
(إذا السماء انفطرت , وإذا الكواكب انتثرت , وإذا البحار فجرت , وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت). .
وقد تحدثنا في السورة الماضية عن الإيحاء الذي يتسرب في الحس من رؤية هذا الكون تتناوله يد القدرة بالتغيير , وتهزه هزة الانقلاب المثير , فلا يبقى شيء على حاله في هذا الكون الكبير . وقلنا:إن هذا الإيحاء يتجه إلى خلع النفس من كل ما تركن إليه في هذا الوجود , إلا الله سبحانه خالق هذا الوجود , الباقي بعد أن يفنى كل موجود . والاتجاه بالقلب إلى الحقيقة الوحيدة الثابتة الدائمة التي لا تحول ولا تزول , ليجد عندها الأمان والاستقرار , في مواجهة الانقلاب والاضطراب والزلزلة والانهيار , في كل ما كان يعهده ثابتا مستقرا منتظما انتظاما يوحي بالخلود ! ولا خلود إلا للخالق المعبود !
ويذكر هنا من مظاهر الانقلاب انفطار السماء . . أي انشقاقها . وقد ذكر انشقاق السماء في مواضع أخرى:قال في سورة الرحمن:(فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان). . وقال في سورة الحاقة:(وانشقت السماء . فهي يومئذ واهية). . وقال في سورة الانشقاق:(إذا السماء انشقت . . .). . فانشقاق السماء حقيقة من حقائق ذلك اليوم العصيب . أما المقصود بانشقاق السماء على وجه التحديد فيصعب القول به , كما يصعب القول عن هيئة الانشقاق التي تكون . . وكل ما يستقر في الحس هو مشهد التغير العنيف في هيئة الكون المنظور , وانتهاء نظامه هذا المعهود , وانفراط عقده , الذي يمسك به في هذا النظام الدقيق . .
ويشارك في تكوين هذا المشهد ما يذكر عن انتثار الكواكب . بعد تماسكها هذا الذي تجري معه في أفلاكها بسرعات هائلة مرعبة , وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعداها , ولا تهيم على وجهها في هذا الفضاء الذي لا يعلم أحد له نهاية . ولو انتثرت - كما سيقع لها يوم ينتهي أجلها - وأفلتت من ذلك الرباط الوثيق - غير المنظور - الذي يشدها ويحفظها , لذهبت في الفضاء بددا , كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها !
وتفجير البحار يحتمل أن يكون هو امتلاؤها وغمرها لليابسة وطغيانها على الأنهار . كما يحتمل أن يكون هو تفجير مائها إلى عنصريه:الأكسوجين والهيدروجين ; فتتحول مياهها إلى هذين الغازين كما كانت قبل أن يأذن الله بتجمعهما وتكوين البحار منهما . كذلك يحتمل أن يكون هو تفجير ذرات هذين الغازين - كما يقع في تفجير القنابل الذرية والهيدروجينية اليوم . . فيكون هذا التفجير من الضخامة والهول بحيث تعتبرهذه القنابل الحاضرة المروعة لعب أطفال ساذجة ! . . أو أن يكون بهيئة أخرى غير ما يعرف البشر على كل حال . . إنما هو الهول الذي لم تعهده أعصاب البشر في حال من الأحوال !
وبعثرة القبور . . إما أن تكون بسبب من هذه الأحداث السابقة . وإما أن تكون حادثا بذاته يقع في ذلك اليوم الطويل , الكثير المشاهد والأحداث . فتخرج منها الأجساد التي أعاد الله إنشاءها - كما أنشأها أول مرة - لتتلقى حسابها وجزاءها . .
يؤيد هذا ويتناسق معه قوله بعد عرض هذه المشاهد والأحداث:(علمت نفس ما قدمت وأخرت). . أي ما فعلته أولا وما فعلته أخيرا . أو ما فعلته في الدنيا , وما تركته وراءها من آثار فعلها . أو ما استمتعت به في الدنيا وحدها , وما ادخرته للآخرة بعدها .
على أية حال سيكون علم كل نفس بهذا مصاحبا لتلك الأهوال العظام . وواحدا منها مروعا لها كترويع هذه المشاهد والأحداث كلها !
والتعبير القرآني الفريد يقول: (علمت نفس). . وهو يفيد من جهة المعنى:كل نفس . ولكنه أرشق وأوقع . . كما أن الأمر لا يقف عند حدود علمها بما قدمت وأخرت . فلهذا العلم وقعه العنيف الذي يشبه عنف تلك المشاهد الكونية المتقلبة . والتعبير يلقي هذا الظل دون أن يذكره نصا . فإذا هو أرشق كذلك وأوقع !
الدرس الثاني:6 - 8 عتاب الإنسان والجماد في خلق الله له
وبعد هذا المطلع الموقظ المنبه للحواس والمشاعر والعقول والضمائر , يلتفت إلى واقع الإنسان الحاضر , فإذا هو غافل لاه سادر . . هنا يلمس قلبه لمسة فيها عتاب رضي , وفيها وعيد خفي , وفيها تذكير بنعمة الله الأولى عليه:نعمة خلقه في هذه الصورة السوية على حين يملك ربه أن يركبه في أي صورة تتجه إليها مشيئته . ولكنه اختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة . . وهو لا يشكر ولا يقدر:
(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم , الذي خلقك فسواك فعدلك , في أي صورة ما شاء ركبك). .
إن هذا الخطاب: (يا أيها الإنسان)ينادي في الإنسان أكرم ما في كيانه , وهو "إنسانيته" التي بها تميز عن سائر الأحياء ; وارتفع إلى أكرم مكان ; وتجلى فيها إكرام الله له , وكرمه الفائض عليه .
ثم يعقبه ذلك العتاب الجميل الجليل: (ما غرك بربك الكريم ?)يا أيها الإنسان الذي تكرم عليك ربك , راعيك ومربيك , بإنسانيتك الكريمة الواعية الرفيعة . . يا أيها الإنسان ما الذي غرك بربك , فجعلك تقصر في حقه , وتتهاون في أمره , ويسوء أدبك في جانبه ? وهو ربك الكريم , الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبره ; ومن هذا الإغداق إنسانيتك التي تميزك عن سائر خلقه , والتي تميز بها وتعقل وتدرك ما ينبغي وما لا ينبغي في جانبه ?
ثم يفصل شيئا من هذا الكرم الإلهي , الذي أجمله في النداء الموحي العميق الدلالة , المشتمل على الكثير من الإشارات المضمرة في التعبير . يفصل شيئا من هذا الكرم الإلهي المغدق على الإنسان المتمثل في إنسانيته التي ناداه بها في صدر الآية . فيشير في هذا التفصيل إلى خلقه وتسويته وتعديله ; وهو القادر على أن يركبه في أي صورة وفق مشيئته . فاختياره هذه الصورة له منبثق من كرمه وحده , ومن فضله وحده , ومن فيضه المغدق على هذا الإنسان الذي لا يشكر ولا يقدر . بل يغتر ويسدر !
(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك ?). .
إنه خطاب يهز كل ذرة في كيان الإنسان حين تستيقظ إنسانيته , ويبلغ من القلب شغافه وأعماقه , وربه الكريم يعاتبه هذا العتاب الجليل , ويذكره هذا الجميل , بينما هو سادر في التقصير , سيء الأدب في حق مولاه الذي خلقه فسواه فعدله . .
إن خلق الإنسان على هذه الصورة الجميلة السوية المعتدلة , الكاملة الشكل والوظيفة , أمر يستحق التدبر الطويل , والشكر العميق , والأدب الجم , والحب لربه الكريم , الذي أكرمه بهذه الخلقة , تفضلا منه ورعاية ومنة . فقد كان قادرا أن يركبه في أية صورة أخرى يشاؤها . فاختار له هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة .
وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين , سوي الخلقة , معتدل التصميم , وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو , وأعجب من كل ما يراه حوله .
وإن الجمال والسواء والاعتدال لتبدو في تكوينه الجسدي , وفي تكوينه العقلي , وفي تكوينه الروحي سواء , وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء !
وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ودقته وإحكامه وليس هنا مجال التوسع الكامل في عرض عجائب هذا التكوين . ولكنا نكتفي بالإشارة إلى بعضها . .
هذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي . . الجهاز العظمي . والجهاز العضلي . والجهاز الجلدي . والجهاز الهضمي . والجهاز الدموي . والجهاز التنفسي . والجهاز التناسلي . والجهاز اللمفاوي . والجهاز العصبي . والجهاز البولي . وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر . . كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها . وينسى عجائب ذاته وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس !
"تقول مجلة العلوم الإنجليزية:إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الطبيعية الفذة ; وإنه من الصعب جدا - بل من المستحيل - أن تبتكر آلة تضارع اليد البشرية من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكيف . فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك , ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة . وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا . وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة , وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها , ثم يزول الضغط بقلب الورقة . واليد تمسك القلم وتكتب به . وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة , إلى سكين , إلى آلة الكتابة . وتفتح النوافذ وتغلقها , وتحمل كل ما يريده الإنسان . . واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما " .
و"إن جزءا من أذن الإنسان [ الأذن الوسطى ] هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية [ قوس ] دقيقة معقدة , متدرجة بنظام بالغ , في الحجم والشكل , ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية . ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ , بشكل ما , كل وقع صوت أو ضجة , من قصف الرعد إلى حفيف الشجر . فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأركسترا ووحدتها المنسجمة " . .
"ومركز حاسة الإبصار في العين التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء وهي أطراف الأعصاب , ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا , والذي تعتبر حركته لاإرادية , الذي يمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة , كما يكسر من حدة الشمس بما تلقي الأهداب علىالعين من ظلال . وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين , أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع , فهو أقوى مطهر . . . " .
"وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان , ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي . ولتلك الحلمات أشكال مختلفة , فمنها الخيطية والفطرية والعدسية ويغذي الحلمات فروع من العصب اللساني البلعومي , والعصب الذوقي . وتتأثر عند الأكل الأعصاب الذوقية , فينتقل الأثر إلى المخ . وهذا الجهاز موجود في أول الفم , حتى يمكن للإنسان أن يلفظ ما يحس أنه ضار به , وبه يحس المرء المرارة والحلاوة , والبرودة والسخونة , والحامض والملح , واللاذع ونحوه . ويحتوي اللسان على تسعة آلاف من نتوءات الذوق الدقيقة , يتصل كل نتوء منها بالمخ بأكثر من عصب . فكم عدد الأعصاب ? وما حجمها ? وكيف تعمل منفردة , وتتجمع بالإحساس عند المخ" ? .
"ويتكون الجهاز العصبي الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة من شعيرات دقيقة تمر في كافة أنحاء الجسم . وتتصل بغيرها أكبر منها . وهذه بالجهاز المركزي العصبي . فإذا ما تأثر جزء من أجزاء الجسم , ولو كان ذلك لتغير بسيط في درجة الحرارة بالجو المحيط , نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المراكز المنتشرة في الجسم . وهذه توصل الإحساس إلى المخ حيث يمكنه أن يتصرف . وتبلغ سرعة سريان الإشارات والتنبيهات في الأعصاب مائة متر في الثانية " .
"ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي , وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مواد غفل , فإننا ندرك توا أنه عملية عجيبة . إذ تهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها !
"فأولا نضع في هذا المعمل أنواعا من الطعام كمادة غفل دون أي مراعاة للمعمل نفسه , أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له ! فنحن نأكل شرائح اللحم والكرنب والحنطة والسمك المقلي , وندفعها بأي قدر من الماء . .
"ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء التي هي ذات فائدة , وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات , وتعيد تكوين الباقي إلى بروتينات جديدة , تصبح غذاء لمختلف الخلايا . وتختار أداة الهضم الجير والكبريت واليود والحديد وكل المواد الأخرى الضرورية , وتعني بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية , وبإمكان إنتاج الهرمونات , وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة , ومستعدة لمواجهة كل ضرورة . وهي تخزن الدهن والمواد الاحتياطية الأخرى , للقاء كل حالة طارئة , مثل الجوع , وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله . إننا نصب هذه الأنواع التي لا تحصى من المواد في هذا المعمل الكيماوي , بصرف النظر كلية تقريبا عما نتناوله , معتمدين على ما نحسبه عملية ذاتية [ أوتوماتيكية ] لإبقائنا على الحياة . وحين تتحلل هذه الأطعمة وتجهز من جديد , تقدم باستمرار إلى كل خلية من بلايين الخلايا , التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض . ويجب أن يكون التوريد إلى كل خلية فردية مستمرا , وألا يورد سوى تلك المواد التي تحتاج إليها تلك الخلية المعينة لتحويلها إلى عظام وأظافر ولحم وشعر وعينين وأسنان , كما تتلقاها الخلية المختصة !
فها هنا إذن معمل كيماوي ينتج من المواد أكثر مما ينتجه أي معمل ابتكره ذكاء الإنسان ! وها هنا نظام للتوريد أعظم من أي نظام للنقل أو التوزيع عرفه العالم ! ويتم كل شيء فيه بمنتهى النظام ! .
وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير . ولكن هذه الأجهزة - على إعجازها الواضح - قد يشاركه فيها الحيوان في صورة من الصور . إنما تبقى له هو خصائصه العقلية والروحية الفريدة التي هي موضع الامتنان في هذه السورة . بصفة خاصة:(الذي خلقك فسواك فعدلك). بعد ندائه: (يا أيها الإنسان). .
هذا الإدراك العقلي الخاص , الذي لا ندري كنهه . إذ أن العقل هو أداتنا لإدراك ما ندرك . والعقل لا يدرك ذاته ولا يدرك كيف يدرك !!
هذه المدركات . . نفرض أنها كلها تصل إلى المخ عن طريق الجهاز العصبي الدقيق . ولكن أين يختزنها ! إنه لو كان هذا المخ شريطا مسجلا لاحتاج الإنسان في خلال الستين عاما التي هي متوسط عمره إلى آلاف الملايين من الأمتار ليسجل عليها هذا الحشد من الصور والكلمات والمعاني والمشاعر والتأثرات , لكي يذكرها بعد ذلك , كما يذكرها فعلا بعد عشرات السنين !
ثم كيف يؤلف بين الكلمات المفردة والمعاني المفردة , والحوادث المفردة , والصور المفردة , ليجعل منها ثقافة مجمعة . ثم ليرتقي من المعلومات إلى العلم ? ومن المدركات إلى الإدراك ? ومن التجارب إلى المعرفة ?
هذه هي إحدى خصائص الإنسان المميزة . . وهي مع هذا ليست أكبر خصائصه , وليست أعلى مميزاته . فهنالك ذلك القبس العجيب من روح الله . . هنالك الروح الإنساني الخاص , الذي يصل هذا الكائن بجمال الوجود , وجمال خالق الوجود ; ويمنحه تلك اللحظات المجنحة الوضيئة من الاتصال بالمطلق الذي ليس له حدود . بعد الإتصال بومضات الجمال في هذا الوجود .
هذا الروح الذي لا يعرف الإنسان كنهه - وهل هو يعلم ما هو أدنى وهو إدراكه للمدركات الحسية ?! - والذي يمتعه بومضات من الفرح والسعادة العلوية حتى وهو على هذه الأرض . ويصله بالملأ الأعلى , ويهيئه للحياة المرسومة بحياة الجنان والخلود . وللنظر إلى الجمال الإلهي في ذلك العالم السعيد !
هذا الروح هو هبة الله الكبرى لهذا الإنسان . وهو الذي به صار إنسانا . وهو الذي يخاطبه بإسمه: (يا أيها الإنسان). . ويعاتبه ذلك العتاب المخجل ! (ما غرك بربك الكريم ?)هذا العتاب المباشر من الله للإنسان . حيث يناديه - سبحانه - فيقف أمامه مقصرا مذنبا مغترا غير مقدر لجلال الله , ولا متأدب في جنابه . . ثم يواجهه بالتذكير بالنعمة الكبرى . ثم بالتقصير وسوء الأدب والغرور !
إنه عتاب مذيب . . حين يتصور "الإنسان" حقيقة مصدره , وحقيقة مخبره , وحقيقة الموقف الذي يقفه بين يدي ربه , وهو يناديه ذلك النداء , ثم يعاتبه هذا العتاب:
(يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم . الذي خلقك فسواك فعدلك , في أي صورة ما شاء ركبك). .
ثم يكشف عن علة الغرور والتقصير - وهي التكذيب - بيوم الحساب - ويقرر حقيقة الحساب , واختلاف الجزاء , في توكيد وتشديد:
الدرس الثالث:9 - 16 الرقابة على الإنسان وافتراق الأبرار عن الفجار (كلا ! بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين , كراما كاتبين , يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم , يصلونها يوم الدين , وما هم عنها بغائبين). .
وكلا كلمة ردع وزجر عما هم فيه . وبل كلمة إضراب عما مضى من الحديث . ودخول في لون من القول جديد . لون البيان والتقرير والتوكيد . وهو غير العتاب والتذكير والتصوير . .
(كلا . بل تكذبون بالدين). . تكذبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء . وهذه هي علة الغرور , وعلة التقصير . فما يكذب القلب بالحساب والجزاء ثم يستقيم على هدى ولا خير ولا طاعة . وقد ترتفع القلوب وتشف , فتطيع ربها وتعبده حبا فيه , لا خوفا من عقابه , ولا طمعا في ثوابه . ولكنها تؤمن بيوم الدين وتخشاه , وتتطلع إليه , لتلقى ربها الذي تحبه وتشتاق لقاءه وتتطلع إليه . فأما حين يكذب الإنسان تكذيبا بهذا اليوم , فلن يشتمل على أدب ولا طاعة ولا نور . ولن يحيا فيه قلب , ولن يستيقظ فيه ضمير .
تكذبون بيوم الدين . . وأنتم صائرون إليه , وكل ما عملتم محسوب عليكم فيه . لا يضيع منه شيء , ولا ينسى منه شيء:(وإن عليكم لحافظين , كراما كاتبين , يعلمون ما تفعلون). .
وهؤلاء الحافظون هم الأرواح الموكلة بالإنسان - من الملائكة - التي ترافقه , وتراقبه , وتحصي عليه كل ما يصدر عنه . . ونحن لا ندري كيف يقع هذا كله , ولسنا بمكلفين أن نعرف كيفيته . فالله يعلم أننا لم نوهب الاستعداد لإدراكها . وأنه لا خير لنا في إدراكها . لأنها غير داخلة في وظيفتنا وفي غاية وجودنا . فلا ضرورة للخوض فيما وراء المدى الذي كشفه الله لنا من هذا الغيب . ويكفي أن يشعر القلب البشري أنه غير متروك سدى . وأن عليه حفظة كراما كاتبين يعلمون ما يفعله , ليرتعش ويستيقظ , ويتأدب ! وهذا هو المقصود !
ولما كان جو السورة جو كرم وكرامة , فإنه يذكر من صفة الحافظين كونهم . .(كراما). . ليستجيش في القلوب إحساس الخجل والتجمل بحضرة هؤلاء الكرام . فإن الإنسان ليحتشم ويستحيي وهو بمحضر الكرام من الناس أن يسف أو يتبذل في لفظ أو حركة أو تصرف . . فكيف به حين يشعر ويتصور أنه في كل لحظاته وفي كل حالاته في حضرة حفظة من الملائكة(كرام)لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال والفعال ?!
إن القرآن ليستجيش في القلب البشري أرفع المشاعر بإقرار هذه الحقيقة فيه بهذا التصور الواقعي الحي القريب إلى الإدراك المألوف . .
ثم يقرر مصير الأبرار ومصير الفجار بعد الحساب , القائم على ما يكتبه الكرام الكاتبون:
(إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين). .
فهو مصير مؤكد , وعاقبة مقررة . أن ينتهي الأبرار إلى النعيم . وأن ينتهي الفجار إلى الجحيم . والبر هو الذي يأتي أعمال البر حتى تصبح له عادة وصفة ملازمة . وأعمال البر هي كل خير على الإطلاق . والصفة تتناسق في ظلها مع الكرم والإنسانية . كما أن الصفة التي تقابلها:(الفجار)فيها سوء الأدب والتوقح في مقارفة الإثم والمعصية . والجحيم هي كفء للفجور ! ثم يزيد حالهم فيها ظهورا . .(يصلونها يوم الدين). . ويزيدها توكيدا وتقريرا:(وما هم عنها بغائبين)لا فرارا ابتداء . ولا خلاصا بعد الوقوع فيها ولو إلى حين ! فيتم التقابل بين الأبرار والفجار . وبين النعيم والجحيم . مع زيادة الإيضاح والتقرير لحالة رواد الجحيم !
الدرس الرابع:17 - 19 الهول يوم الدين وعجز الناس والأمر لله
ولما كان يوم الدين هو موضع التكذيب , فإنه يعود إليه بعد تقرير ما يقع فيه . يعود إليه ليقرر حقيقته
وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
الذاتية في تضخيم وتهويل بالتجهيل وبما يصيب النفوس فيه من عجز كامل وتجرد من كل شبهة في عون أو تعاون . وليقرر تفرد الله بالأمر في ذلك اليوم العصيب:
(وما أدراك ما يوم الدين ? ثم ما أدراك ما يوم الدين ? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا , والأمر يومئذ لله). .
والسؤال للتجهيل مألوف في التعبير القرآني . وهو يوقع في الحس أن الأمر أعظم جدا وأهول جدا من أن يحيط به إدراك البشر المحدود . فهو فوق كل تصور وفوق كل توقع وفوق كل مألوف .
وتكرار السؤال يزيد في الاستهوال . .
ثم يجيء البيان بما يتناسق مع هذا التصوير: (يوم لا تملك نفس لنفس شيئا). . فهو العجز الشامل . وهو الشلل الكامل . وهو الانحسار والانكماش والانفصال بين النفوس المشغولة بهمها وحملها عن كل من تعرف من النفوس ! (والأمر يومئذ لله). . يتفرد به سبحانه . وهو المتفرد بالأمر في الدنيا والآخرة . ولكن في هذا اليوم - يوم الدين - تتجلى هذه الحقيقة التي قد يغفل عنها في الدنيا الغافلون المغرورون . فلا يعود بها خفاء , ولا تغيب عن مخدوع ولا مفتون !
ويتلاقى هذا الهول الصامت الواجم الجليل في نهاية السورة , مع ذلك الهول المتحرك الهائج المائج في مطلعها . وينحصر الحس بين الهولين . . وكلاهما مذهل مهيب رعيب ! وبينهما ذلك العتاب الجليل المخجل المذيب !
سورة المطففين
وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1)
سورة المطففين
تقديم لسورة المطففين
هذه السورة تصور قطاعا من الواقع العملي الذي كانت الدعوة تواجهه في مكة - إلى جانب ما كانت تستهدفه من إيقاظ القلوب , وهز المشاعر , وتوجيهها إلى هذا الحدث الجديد في حياة العرب وفي حياة الإنسانية , وهو الرسالة السماوية للأرض , وما تتضمنه من تصور جديد شامل محيط .
هذا القطاع من الواقع العملي تصوره السورة في أولها , وهي تتهدد المطففين بالويل في اليوم العظيم ,(يوم يقوم الناس لرب العالمين). . كما تصوره في ختامها وهي تصف سوء أدب الذين أجرموا مع الذين آمنوا , وتغامزهم عليهم , وضحكهم منهم , وقولهم عنهم: (إن هؤلاء لضالون !).
وهذا إلى جانب ما تعرضه من حال الفجار وحال الأبرار ; ومصير هؤلاء وهؤلاء في ذلك اليوم العظيم .
وهي تتألف من أربعة مقاطع . . يبدأ المقطع الأول منها بإعلان الحرب على المطففين: (ويل للمطففين . الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون ; وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .
ويتحدث المقطع الثاني عن الفجار في شدة وردع وزجر , وتهديد بالويل والهلاك , ودمغ بالإثم والاعتداء , وبيان لسبب هذا العمى وعلة هذا الانطماس , وتصوير لجزائهم يوم القيامة , وعذابهم بالحجاب عن ربهم , كما حجبت الآثام في الأرض قلوبهم , ثم بالجحيم مع الترذيل والتأنيب: كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين ! الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم , إذا تتلى عليه آياتنا قال:أساطير الأولين . كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم . ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون . .
والمقطع الثالث يعرض الصفحة المقابلة . صفحة الأبرار . ورفعة مقامهم . والنعيم المقرر لهم . ونضرته التي تفيض على وجوههم . والرحيق الذي يشربون وهم على الأرائك ينظرون . . وهي صفحة ناعمة وضيئة:(كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم , يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم , على الأرائك ينظرون , تعرف في وجوههم نضرة النعيم , يسقون من رحيق مختوم , ختامه مسك - وفي ذلك فليتنافس المتنافسون - ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون). .
والمقطع الأخير يصف ما كان الأبرار يلاقونه في عالم الغرور الباطل من الفجار من إيذاء وسخرية وسوء أدب . ليضع في مقابله ما آل إليه أمر الأبرار وأمر الفجار في عالم الحقيقة الدائم الطويل:
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون , وإذا مروا بهم يتغامزون , وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون . وما أرسلوا عليهم حافظين . فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون . هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?). .
والسورة في عمومها تمثل جانبا من بيئة الدعوة , كما تمثل جانبا من أسلوب الدعوة في مواجهة واقع البيئة , وواقع النفس البشرية . . . وهذا ما سنحاول الكشف عنه في عرضنا للسورة بالتفصيل . .
الدرس الأول:1 - 6 ذم المطففين ومظاهر التطفف
(ويل للمطففين:الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون , وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون . ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم:يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .
تبدأ السورة بالحرب يعلنها الله على المطففين:(ويل للمطففين). . والويل:الهلاك . وسواء كان المراد هو تقرير أن هذا أمر مقضي , أو أن هذا دعاء . فهو في الحالين واحد فالدعاء من الله قرار . .
الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3)
وتفسر الآيتان التاليتان معنى المطففين . فهم:(الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون . وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون). . فهم الذين يتقاضون بضاعتهم وافية إذا كانوا شراة . ويعطونها للناس ناقصة إذا كانوا بائعين . .
ثم تعجب الآيات الثلاثة التالية من أمر المطففين , الذين يتصرفون كأنه ليس هناك حساب على ما يكسبون في الحياة الدنيا ; وكأن ليس هناك موقف جامع بين يدي الله في يوم عظيم يتم فيه الحساب والجزاء أمام العالمين:(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .
والتصدي لشأن المطففين بهذا الأسلوب في سورة مكية أمر يلفت النظر . فالسورة المكية عادة توجه اهتمامها إلى أصول العقيدة الكلية:كتقرير وحدانية الله , وانطلاق مشيئته , وهيمنته على الكون والناس . . . وكحقيقة الوحي والنبوة . . وكحقيقة الآخرة والحساب والجزاء . مع العناية بتكوين الحاسة الأخلاقية في عمومها , وربطها بأصول العقيدة . أما التصدي لمسألة بذاتها من مسائل الأخلاق - كمسألة التطفيف في الكيل والميزان - والمعاملات بصفة عامة , فأمر جاء متأخرا في السورة المدنية عند التصدي لتنظيم حياة المجتمع في ظل الدولة الإسلامية , وفق المنهج الإسلامي , الشامل للحياة . .
ومن ثم فإن التصدي لهذا الأمر بذاته في هذه السورة المكية أمر يستحق الانتباه . وهو يشي بعدة دلالات متنوعة , تكمن وراء هذه الآيات القصار . .
إنه يدل أولا على أن الإسلام كان يواجه في البيئة المكية حالة صارخة من هذا التطفيف يزاولها الكبراء , الذين كانوا في الوقت ذاته هم أصحاب التجارات الواسعة , التي تكاد تكون احتكارا . فقد كانت هنالك أموالا ضخمة في أيدي هؤلاء الكبراء يتجرون بها عن طريق القوافل في رحلتي الشتاء والصيف إلى اليمن وإلى الشام . كما افتتحوا أسواقا موسمية كسوق عكاظ في موسم الحج , يقومون فيها بالصفقات ويتناشدون فيها الأشعار !
والنصوص القرآنية هنا تشي بأن المطففين الذين يتهددهم الله بالويل , ويعلن عليهم هذه الحرب , كانوا طبقة الكبراء ذوي النفوذ , الذين يملكون إكراه الناس على ما يريدون . فهم يكتالون (على الناس). . لا من الناس . . فكأن لهم سلطانا على الناس بسبب من الأسباب , يجعلهم يستوفون المكيال والميزان منهم استيفاء وقسرا . وليس المقصود هو أنهم يستوفون حقا . وإلا فليس في هذا ما يستحق إعلان الحرب عليهم . إنما المفهوم أنهم يحصلون بالقسر على أكثر من حقهم , ويستوفون ما يريدون إجبارا . فإذا كالوا للناس أو وزنوا كان لهم من السلطان ما يجعلهم ينقصون حق الناس , دون أن يستطيع هؤلاء منهم نصفة ولا استيفاء حق . . ويستوي أن يكون هذا بسلطان الرياسة والجاه القبلي . أو بسلطان المال وحاجة الناس لما في أيديهم منه ; واحتكارهم للتجارة حتى يضطر الناس إلى قبول هذا الجور منهم ; كما يقع حتى الآن في الأسواق . . فقد كانت هناك حالة من التطفيف صارخة استحقت هذه اللفتة المبكرة .
كما أن هذه اللفتة المبكرة في البيئة المكية تشي بطبيعة هذا الدين ; وشمول منهجه للحياة الواقعية وشؤونها العملية ; وإقامتها على الأساس الأخلاقي العميق الأصيل في طبيعة هذا المنهج الإلهي القويم . فقد كره هذه الحالة الصارخة من الظلم والانحراف الأخلاقي في التعامل . وهو لم يتسلم بعد زمام الحياة الاجتماعية , لينظمها وفق شريعته بقوة القانون وسلطان الدولة . وأرسل هذه الصيحة المدوية بالحرب والويل على المطففين . وهم يومئذ سادة مكة , أصحاب السلطان المهيمن - لا على أرواح الناس ومشاعرهم عن طريق العقيدة الوثنية فحسب , بل كذلك على اقتصادياتهم وشؤون معاشهم . ورفع صوته عاليا في وجه الغبن والبخس الواقع على الناس وهم جمهرة الشعب المستغلين لكبرائه المتجرين بأرزاقه , المرابين المحتكرين , المسيطرين في الوقت ذاته على الجماهير
أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
بأوهام الدين ! فكان الإسلام بهذه الصيحة المنبعثة من ذاته ومن منهجه السماوي موقظا للجماهير المستغلة . ولم يكن قط مخدرا لها حتى وهو محاصر في مكة , بسطوة المتجبرين , المسيطرين على المجتمع بالمال والجاه والدين !
ومن ثم ندرك طرفا من الأسباب الحقيقية التي جعلت كبراء قريش يقفون في وجه الدعوة الإسلامية هذه الوقفة العنيدة . فهم كانوا يدركون - ولا ريب - أن هذا الأمر الجديد الذي جاءهم به محمد [ ص ] ليس مجرد عقيدة تكمن في الضمير , ولا تتطلب منهم إلا شهادة منطوقة , بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله . وصلاة يقيمونها لله بلا أصنام ولا أوثان . . كلا . لقد كانوا يدركون أن هذه العقيدة تعني منهجا يحطم كل أساس الجاهلية التي تقوم عليها أوضاعهم ومصالحهم ومراكزهم . وأن طبيعة هذا المنهج لا تقبل مثنوية ولا تلتئم مع عنصر أرضي غير منبثق من عنصرها السماوي ; وأنها تهدد كل المقومات الأرضية الهابطة التي تقوم عليها الجاهلية . . ومن ثم شنوا عليها تلك الحرب التي لم تضع أوزارها لا قبل الهجرة ولا بعدها . الحرب التي تمثل الدفاع عن أوضاعهم كلها في وجه الأوضاع الإسلامية . لا عن مجرد الاعتقاد والتصور المجردين . .
والذين يحاربون سيطرة المنهج الإسلامي على حياة البشر في كل جيل وفي كل أرض يدركون هذه الحقيقة . يدركونها جيدا . ويعلمون أن أوضاعهم الباطلة , ومصالحهم المغتصبة , وكيانهم الزائف . . وسلوكهم المنحرف . . هذه كلها هي التي يهددها المنهج الإسلامي القويم الكريم !
والطغاة البغاة الظلمة المطففون - في أية صورة من صور التطفيف في المال أو في سائر الحقوق والواجبات - هم الذين يشفقون أكثر من غيرهم من سيطرة ذلك المنهج العادل النظيف ! الذي لا يقبل المساومة , ولا المداهنة , ولا أنصاف الحلول ?
ولقد أدرك ذلك الذين بايعوا رسول الله [ ص ] من نقباء الأوس والخزرج بيعة العقبة الثانية قبل الهجرة:قال ابن إسحاق:وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة أن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله [ ص ] قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري أخو بني سالم بن عوف:يا معشر الخزرج . هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل ? قالوا:نعم . قال:إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس . فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة وأشرافكم قتل أسلمتموه فمن الآن ! فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة . وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه , على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه , فهو والله خير الدنيا والآخرة , قالوا:فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف . فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا ? قال:" الجنة " . . قالوا:ابسط يدك . فبسط يده فبايعوه .
فقد أدرك هؤلاء - كما أدرك كبراء قريش من قبل - طبيعة هذا الدين . وأنه قائم كحد السيف للعدل والنصفة وإقامة حياة الناس على ذلك , لا يقبل من طاغية طغيانا , ولا من باغ بغيا , ولا من متكبر كبرا . ولا يقبل للناس الغبن والخسف والاستغلال . ومن ثم يحاربه كل طاغ باغ متكبر مستغل ; ويقف لدعوته ولدعاته بالمرصاد .
(ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ليوم عظيم ? يوم يقوم الناس لرب العالمين ?). .
وإن أمرهم لعجيب . فإن مجرد الظن بالبعث لذلك اليوم العظيم . يوم يقوم الناس متجردين لرب العالمين , ليس لهم مولى يومئذ سواه , وليس بهم إلا التطلع لما يجريه عليهم من قضاء , وقد علموا أن ليس لهم من دونه ولي ولا نصير . . إن مجرد الظن بأنهم مبعوثون لذلك اليوم كان يكفي ليصدهم عن التطفيف , وأكل أموال
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13)
الناس بالباطل , واستخدام السلطان في ظلم الناس وبخسهم حقهم في التعامل . . ولكنهم ماضون في التطفيف كأنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ! وهو أمر عجيب , وشأن غريب !
الدرس الثاني:7 - 14 عذاب الكفار في النار وبعض جرائمهم في الدنيا
وقد سماهم المطففين في المقطع الأول . فأما في المقطع الثاني فيسميهم الفجار . إذ يدخلهم في زمرة الفجار , ويتحدث عن هؤلاء . يتحدث عن اعتبارهم عند الله , وعن حالهم في الحياة . وعما ينتظرهم يوم يبعثون ليوم عظيم .
كلا ! إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين:الذين يكذبون بيوم الدين ; وما يكذب به إلا كل معتد أثيم , إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين . كلا ! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون . كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالو الجحيم . ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون . .
إنهم لا يظنون أنهم مبعوثون ليوم عظيم . . فالقرآن يردعهم عن هذا ويزجرهم , ويؤكد أن لهم كتابا تحصى فيه أعمالهم . . ويحدد موضعه زيادة في التوكيد . ويوعدهم بالويل في ذلك اليوم الذي يعرض فيه كتابهم المرقوم:(كلا . إن كتاب الفجار لفي سجين . وما أدراك ما سجين ? كتاب مرقوم . ويل يومئذ للمكذبين)! .
والفجار هم المتجاوزون للحد في المعصية والإثم . واللفظ يوحي بذاته بهذا المعنى . وكتابهم هو سجل أعمالهم . ولا ندري نحن ماهيته ولم نكلف هذا . وهو غيب لا نعرف عنه إلا بمقدار ما يخبرنا عنه صاحبه ولا زيادة - فهناك سجل لأعمال الفجار يقول القرآن:إنه في سجين . ثم يسأل سؤال الاستهوال المعهود في التعبير القرآني:(وما أدراك ما سجين ?)فيلقي ظلال التفخيم ويشعر المخاطب أن الأمر أكبر من إدراكه , وأضخم من أن يحيط به علمه . ولكنه بقوله: (إن كتاب الفجار لفي سجين)يكون قد حدد له موضعا معينا , وإن يكن مجهولا للإنسان . وهذا التحديد يزيد من يقين المخاطب عن طريق الإيحاء بوجود هذا الكتاب . وهذا هو الإيحاء المقصود من وراء ذكر هذه الحقيقة بهذا القدر , دون زيادة .
ثم يعود إلى وصف كتاب الفجار ذاك فيقول:إنه(كتاب مرقوم). . أي مفروغ منه , لا يزاد فيه ولا ينقص منه , حتى يعرض في ذلك اليوم العظيم .
فإذا كان ذلك:كان(ويل يومئذ للمكذبين)!
ويحدد موضوع التكذيب , وحقيقة المكذبين:
(الذين يكذبون بيوم الدين . وما يكذب به إلا كل معتد أثيم . إذا تتلى عليه آياتنا قال:أساطير الأولين). . فالاعتداء والإثم يقودان صاحبهما إلى التكذيب بذلك اليوم ; وإلى سوء الأدب مع هذا القرآن فيقول عن آياته حين تتلى عليه: (أساطير الأولين). . لما يحويه من قصص الأولين المسوقة فيه للعبرة والعظة , وبيان سنة الله التي لا تتخلف , والتي تأخذ الناس في ناموس مطرد لا يحيد .
ويعقب على هذا التطاول والتكذيب بالزجر والردع:(كلا !)ليس كما يقولون . .
ثم يكشف عن علة هذا التطاول وهذا التكذيب ; وهذه الغفلة عن الحق الواضح وهذا الانطماس في قلوب المكذبين:
(بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). .
أي غطى على قلوبهم ما كانوا يكسبونه من الإثم والمعصية . والقلب الذي يمرد على المعصية ينطمس ويظلم ;
كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَّرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22)
ويرين عليه غطاء كثيف يحجب النور عنه ويحجبه عن النور , ويفقده الحساسية شيئا فشيئا حتى يتبلد ويموت . .
روى ابن جرير والترمذي والنسائي وابن ماجة من طرق , عن محمد بن عجلان , عن القعقاع بن حكيم , عن أبي صالح , عن أبي هريرة , عن النبي [ ص ] قال:" إن العبد إذا أذنب ذنبا كانت نكتة سوداء في قلبه . فإن تاب منها صقل قلبه وإن زاد زادت " . . وقال الترمذي حسن صحيح . ولفظ النسائي:" إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكت في قلبه نكتة سوداء . فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه , فهو الران الذي قال الله تعالى:(كلا ! بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون). . "
وقال الحسن البصري:هو الذنب على الذنب حتى يعمى القلب فيموت . .
ذلك حال الفجار المكذبين . وهذه هي علة الفجور والتكذيب . . ثم يذكر شيئا عن مصيرهم في ذلك اليوم العظيم . يناسب علة الفجور والتكذيب:
كلا ! إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالو الجحيم . ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون . .
لقد حجبت قلوبهم المعاصي والآثام , حجبتها عن الإحساس بربها في الدنيا . وطمستها حتى أظلمت وعميت في الحياة . . فالنهاية الطبيعية والجزاء الوفاق في الآخرة أن يحرموا النظر إلى وجه الله الكريم , وأن يحال بينهم وبين هذه السعادة الكبرى , التي لا تتاح إلا لمن شفت روحه ورقت وصفت واستحقت أن تكشف الحجب بينها وبين ربها . ممن قال فيهم في سورة القيامة:
(وجوه يومئذ ناضرة , إلى ربها ناظرة). .
وهذا الحجاب عن ربهم , عذاب فوق كل عذاب , وحرمان فوق كل حرمان . ونهاية بائسة لإنسان يستمد إنسانيته من مصدر واحد هو اتصاله بروح ربه الكريم . فإذا حجب عن هذا المصدر فقد خصائصه كإنسان كريم ; وارتكس إلى درجة يستحق معها الجحيم:(ثم إنهم لصالوا الجحيم). . ومع الجحيم التأنيب وهو أمر من الجحيم:(ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون)!!
الدرس الثالث:18 - 28 صور من نعيم الأبرار في الجنة
ثم يعرض الصفحة الأخرى . صفحة الأبرار . على العهد بطريقة القرآن في عرض الصفحتين متقابلتين في الغالب , لتتم المقابلة بين حقيقتين وحالين ونهايتين:
(كلا ! إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما أدراك ما عليون ? كتاب مرقوم , يشهده المقربون . إن الأبرار لفي نعيم , على الأرائك ينظرون , تعرف في وجوههم نضرة النعيم , يسقون من رحيق مختوم , ختامه مسك . وفي ذلك فليتنافس المتنافسون . ومزاجه من تسنيم . عينا يشرب بها المقربون). .
وكلمة(كلا)تجيء في صدر هذا المقطع زجرا عما ذكر قبله من التكذيب في قوله:(ثم يقال:هذا الذي كنتم به تكذبون). . ويعقب عليه بقوله:(كلا)ثم يبدأ الحديث عن الأبرار في حزم وفي توكيد .
فإذا كان كتاب الفجار في(سجين)فإن كتاب الأبرار في(عليين). . . والأبرار هم الطائعون الفاعلون كل خير . وهم يقابلون الفجار العصاة المتجاوزين لكل حد . .
ولفظ(عليين)يوحي بالعلو والارتفاع مما قد يؤخذ منه أن(سجين)يفيد الانحطاط والسفول . ثم يعقب عليه بسؤال التجهيل والتهويل المعهود:(وما أدراك ما عليون ?). . فهو أمر فوق العلم والإدراك !
ويعود من هذا الظل الموحي إلى تقرير حقيقة كتاب الأبرار . . فهو(كتاب مرقوم يشهده المقربون)وقد
عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ (25)
سبق ذكر معنى مرقوم . ويضاف إليه هنا أن الملائكة المقربين يشهدون هذا الكتاب ويرونه . وتقرير هذه الحقيقة هنا يلقي ظلا كريما طاهرا رفيعا على كتاب الأبرار . فهو موضع مشاهدة المقربين من الملائكة , ومتعتهم بما فيه من كرائم الأفعال والصفات . وهذا ظل كريم شفيف , يذكر بقصد التكريم .
ثم يذكر حال الأبرار أنفسهم , أصحاب هذا الكتاب الكريم . ويصف ما هم فيه من نعيم في ذلك اليوم العظيم:
(إن الأبرار لفي نعيم). . يقابل الجحيم الذي ينتهي إليه الفجار . .(على الأرائك ينظرون)أي إنهم في موضع التكريم , ينظرون حيث يشاءون , لا يغضون من مهانة , ولا يشغلون عن النظر من مشقة . . وهم على الأرائك وهي الأسرة في الحجال . وأقرب ما يمثلها عندنا ما نسميه "الناموسية " أو الكلة ! وصورتها الدنيوية كانت أرقى وأرق مظاهر النعيم عند العربي ذي العيشة الخشنة ! أما صورتها الأخروية فعلمها عند الله . وهي على أية حال أعلى من كل ما يعهده الإنسان مما يستمده من تجاربه في الأرض وتصوراته !
وهم في هذا النعيم ناعمو النفوس والأجسام , تفيض النضرة على وجوههم وملامحهم حتى ليراها كل راء:
(تعرف في وجوههم نضرة النعيم). .
(يسقون من رحيق مختوم ختامه مسك). .
والرحيق الشراب الخالص المصفى , الذي لا غش فيه ولا كدرة . ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك , قد يفيد أنه معد في أوانيه , وأن هذه الأواني مقفلة مختومة , تفض عند الشراب , وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية ! . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية ! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود !
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين:(ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون). . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة:(تسنيم)التي (يشرب بها المقربون). . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع , وبهذا التوجيه: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . . .
إن أولئك المطففين , الذين يأكلون أموال الناس بالباطل , ولا يحسبون حساب اليوم الآخر , ويكذبون بيوم الحساب والجزاء , ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه , وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم: (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . فهو مطلب يستحق المنافسة , وهو أفق يستحق السباق , وهو غاية تستحق الغلاب .
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم , إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .
خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُواْ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29)
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين !
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة , ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله , ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وإن قوله (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة , بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه !
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود , وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود ! فأين مجال من مجال ? وأين غاية من غاية ? حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ?!
ألا إن السباق إلى هناك . . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). .
الدرس الرابع:29 - 34 من جرائم المجرمين ضد المؤمنين في الدنيا واختلاف الموقف يوم القيامة
وكأنما أطال السياق في عرض صور النعيم الذي ينتظر الأبرار , تمهيدا للحديث عما كانوا يلقون في الأرض من الفجار . من أذى واستهزاء وتطاول وادعاء . . وقد أطال في عرضه كذلك . ليختمه بالسخرية من الكفار , وهم يشهدون نعيم الأبرار:
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون . وإذا مروا بهم يتغامزون . وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فكهين . وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون . . وما أرسلوا عليهم حافظين). .
(فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون , على الأرائك ينظرون). .
(هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?). .
والمشاهد التي يرسمها القرآن لسخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا , وسوء أدبهم معهم , وتطاولهم عليهم , ووصفهم بأنهم ضالون . . مشاهد منتزعة من واقع البيئة في مكة . ولكنها متكررة في أجيال وفي مواطن شتى . وكثير من المعاصرين شهدوها كأنما هذه الآيات قد نزلت في وصفها وتصويرها . مما يدل على أن طبيعة الفجار المجرمين واحدة متشابهة في موقفها من الأبرار في جميع البيئات والعصور !!
(إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون). . كانوا . . فقد طوى السياق الدنيا العاجلة الزائلة . فإذا المخاطبون به في الآخرة . يرون نعيم الأبرار الذين آمنوا . وهو يذكر لهم ما كان من أمر الدنيا !
إنهم كانوا يضحكون من الذين آمنوا استهزاء بهم , وسخرية منهم . إما لفقرهم ورثاثة حالهم . وإما لضعفهم
وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُواْ فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاء لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُواْ مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
عن رد الأذى . وإما لترفعهم عن سفاهة السفهاء . . فكل هذا مما يثير ضحك الذين أجرموا . وهم يتخذون المؤمنين مادة لسخريتهم أو فكاهتهم المرذولة . وهم يسلطون عليهم الأذى , ثم يضحكون الضحك اللئيم الوضيع , مما يصيب الذين آمنوا , وهم صابرون مترفعون متجملون بأدب المؤمنين !
(وإذا مروا بهم يتغامزون). . يغمز بعضهم لبعض بعينه , أو يشيره بيده , أو يأتي بحركة متعارفة بينهم للسخرية من المؤمنين . وهي حركة وضيعة واطية تكشف عن سوء الأدب , والتجرد من التهذيب . بقصد إيقاع الانكسار في قلوب المؤمنين , وإصابتهم بالخجل والربكة , وهؤلاء الأوغاد يتغامزون عليهم ساخرين !
(وإذا انقلبوا إلى أهلهم)بعدما أشبعوا نفوسهم الصغيرة الرديئة من السخرية بالمؤمنين وإيذائهم . . (انقلبوا فكهين). . راضين عن أنفسهم , مبتهجين بما فعلوا , مستمتعين بهذا الشر الصغير الحقير . فلم يتلوموا ولم يندموا , ولم يشعروا بحقارة ما صنعوا وقذارة ما فعلوا . وهذا منتهى ما تصل إليه النفس من إسفاف وموت للضمير !
(وإذا رأوهم قالوا:إن هؤلاء لضالون)!
وهذه أعجب . . فليس أعجب من أن يتحدث هؤلاء الفجار المجرمون عن الهدى والضلال . وأن يزعموا حين يرون المؤمنين , أن المؤمنين ضالون . ويشيروا إليهم مؤكدين لهذا الوصف في تشهير وتحقير: (إن هؤلاء لضالون !). .
والفجور لا يقف عند حد , ولا يستحيي من قول , ولا يتلوم من فعل . واتهام المؤمنين بأنهم ضالون حين يوجهه الفجار المجرمون , إنما يمثل الفجور في طبيعته التي هي تجاوز لجميع الحدود !
والقرآن لا يقف ليجادل عن الذين آمنوا , ولا ليناقش طبيعة الفرية . فهي كلمة فاجرة لا تستحق المناقشة . ولكنه يسخر سخرية عالية من القوم الذين يدسون أنوفهم فيما ليس من شأنهم , ويتطفلون بلا دعوة من أحد في هذا الأمر:(وما أرسلوا عليهم حافظين). . وما وكلوا بشأن هؤلاء المؤمنين , وما أقيموا عليهم رقباء , ولا كلفوا وزنهم وتقدير حالهم ! فما لهم هم وهذا الوصف وهذا التقرير !
وينهي بهذه السخرية العالية حكاية ما كان من الذين أجرموا في الدنيا . . ما كان . . ويطوي هذا المشهد الذي انتهى . ليعرض المشهد الحاضر والذين آمنوا في ذلك النعيم:
(فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون . على الأرائك ينظرون). .
اليوم والكفار محجوبون عن ربهم , يقاسون ألم هذا الحجاب الذي تهدر معه إنسانيتهم , فيصلون الجحيم , مع الترذيل والتأنيب حين يقال: (هذا الذي كنتم به تكذبون). .
اليوم والذين آمنوا على الأرائك ينظرون . في ذلك النعيم المقيم , وهم يتناولون الرحيق المختوم بالمسك الممزوج بالتسنيم . .
فاليوم . . الذين آمنوا من الكفار يضحكون . .
والقرآن يتوجه بالسخرية العالية مرة أخرى وهو يسأل:
(هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون ?).
أجل ! هل ثوبوا ? هل وجدوا ثواب ما فعلوا ? وهم لم يجدوا(الثواب)المعروف من الكلمة . فنحن نشهدهم اللحظة في الجحيم ! ولكنهم من غير شك لاقوا جزاء ما فعلوا . فهو ثوابهم إذن . وياللسخرية الكامنة في كلمة الثواب في هذا المقام !
ونقف لحظة أمام هذا المشهد الذي يطيل القرآن عرض مناظره وحركاته - مشهد سخرية الذين أجرموا من الذين آمنوا في الدنيا - كما أطال من قبل في عرض مشهد نعيم الأبرار وعرض مناظره ومناعمه . فنجد أن هذه الإطالة من الناحية التأثيرية فن عال في الأداء التعبيري , كما أنه فن عال في العلاج الشعوري . فقد كانت القلة المسلمة في مكة تلاقي من عنت المشركين وأذاهم ما يفعل في النفس البشرية بعنف وعمق . وكان ربهم لا يتركهم بلا عون , من تثبيته وتسريته وتأسيته .
وهذا التصوير المفصل لمواجعهم من أذى المشركين , فيه بلسم لقلوبهم . فربهم هو الذي يصف هذه المواجع . فهو يراها , وهو لا يهملها - وإن أمهل الكافرين حينا - وهذا وحده يكفي قلب المؤمن ويمسح على آلامه وجراحه . إن الله يرى كيف يسخر منهم الساخرون . وكيف يؤذيهم المجرمون . وكيف يتفكه بآلامهم ومواجعهم المتفكهون . وكيف لا يتلوم هؤلاء السفلة ولا يندمون ! إن ربهم يرى هذا كله . ويصفه في تنزيله . فهو إذن شيء في ميزانه . . . وهذا يكفي ! نعم هذا يكفي حين تستشعره القلوب المؤمنة مهما كانت مجروحة موجوعة .
ثم إن ربهم يسخر من المجرمين سخرية رفيعة عالية فيها تلميح موجع . قد لا تحسه قلوب المجرمين المطموسة المغطاة بالرين المطبق عليها من الذنوب . ولكن قلوب المؤمنين الحساسة المرهفة , تحسه وتقدره , وتستريح إليه وتستنيم !
ثم إن هذه القلوب المؤمنة تشهد حالها عند ربها , ونعيمها في جناته , وكرامتها في الملأ الأعلى . على حين تشهد حال أعدائها ومهانتهم في الملأ الأعلى وعذابهم في الجحيم , مع الإهانة والترذيل . . تشهد هذا وذلك في تفصيل وفي تطويل . وهي تستشعر حالها وتتذوقه تذوق الواقع اليقين . وما من شك أن هذا التذوق يمسح على مرارة ما هي فيه من أذى وسخرية وقلة وضعف . وقد يبلغ في بعض القلوب أن تتبدل هذه المرارة فيها بالفعل حلاوة , وهي تشهد هذه المشاهد في ذلك القول الكريم .
ومما يلاحظ أن هذا كان هو وحده التسلية الإلهية للمؤمنين المعذبين المألومين من وسائل المجرمين الخسيسة , وأذاهم البالغ , وسخريتهم اللئيمة . . الجنة للمؤمنين , والجحيم للكافرين . وتبديل الحالين بين الدنيا والآخرة تمام التبديل . . وهذا كان وحده الذي وعد به النبي [ ص ] المبايعين له . وهم يبذلون الأموال والنفوس !
فأما النصر في الدنيا , والغلب في الأرض , فلم يكن أبدا في مكة يذكر في القرآن المكي في معرض التسرية والتثبيت . .
لقد كان القرآن ينشئ قلوبا يعدها لحمل الأمانة . وهذه القلوب كان يجب أن تكون من الصلابة والقوة والتجرد بحيث لا تتطلع - وهي تبذل كل شيء وتحتمل كل شيء - إلى شيء في هذه الأرض . ولا تنتظر إلا الآخرة . ولا ترجو إلا رضوان الله . قلوبا مستعدة لقطع رحلة الأرض كلها في نصب وشقاء وحرمان وعذاب وتضحية واحتمال , بلا جزاء في هذه الأرض قريب . ولو كان هذا الجزاء هو انتصار الدعوة وغلبة الإسلام وظهور المسلمين !
حتى إذا وجدت هذه القلوب التي تعلم أن ليس أمامها في رحلة الأرض شيء إلا أن تعطي بلا مقابل . وأن تنتظر الآخرة وحدها موعدا للجزاء . وموعدا كذلك للفصل بين الحق والباطل . . حتى إذا وجدت هذه القلوب , وعلم الله منها صدق نيتها على ما بايعت وعاهدت , آتاها النصر في الأرض , وائتمنها عليه . لا لنفسها . ولكن لتقوم بأمانة المنهج الإلهي وهي أهل لأداء الأمانة , مذ كانت لم توعد بشيء من المغنم في الدنيا تتقاضاه ; ولمتتطلع إلى شيء من المغنم في الأرض تعطاه . وقد تجردت لله حقا يوم كانت لا تعلم لها جزاء إلا رضاه !
وكل الآيات التي ورد فيها ذكر للنصر في الدنيا جاءت في المدينة . بعد ذلك . وبعد أن أصبح هذا الأمر خارج برنامج المؤمن وانتظاره وتطلعه . وجاء النصر ذاته لأن مشيئة الله اقتضت أن تكون لهذا المنهج واقعية في الحياة الإنسانية تقرره في صورة عملية محددة , تراها الأجيال . فلم يكن جزاء على التعب والنصب والتضحية والآلام . إنما كان قدرا من قدر الله تكمن وراءه حكمة نحاول رؤيتها الآن !
سورة الانشقاق
إِذَا السَّمَاء انشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5)
سورة الانشقاق
تعريف بسورة الإنشقاق
تبدأ السورة ببعض مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضت بتوسع في سورة التكوير , ثم في سورة الانفطار . ومن قبل في سورة النبأ . ولكنها هنا ذات طابع خاص . طابع الاستسلام لله . استسلام السماء واستسلام الأرض , في طواعية وخشوع ويسر:(إذا السماء انشقت , وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت , وألقت ما فيها وتخلت , وأذنت لربها وحقت). .
ذلك المطلع الخاشع الجليل تمهيد لخطاب "الإنسان" , وإلقاء الخشوع في قلبه لربه . وتذكيره بأمره ; وبمصيره الذي هو صائر إليه عنده . حين ينطبع في حسه ظل الطاعة والخشوع والاستسلام الذي تلقيه في حسه
يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً (8) وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)
السماء والأرض في المشهد الهائل الجليل:(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه . فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا , وينقلب إلى أهله مسرورا , وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا , ويصلى سعيرا . إنه كان في أهله مسرورا . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيرا). .
والمقطع الثالث عرض لمشاهد كونية حاضرة , مما يقع تحت حس "الإنسان" لها إيحاؤها ولها دلالتها على التدبير والتقدير , مع التلويح بالقسم بها على أن الناس متقلبون في أحوال مقدرة مدبرة , لا مفر لهم من ركوبها ومعاناتها: (فلا أقسم بالشفق , والليل وما وسق , والقمر إذا اتسق ; لتركبن طبقا عن طبق). .
ثم يجيء المقطع الأخير في السورة تعجيبا من حال الناس الذين لا يؤمنون ; وهذه هي حقيقة أمرهم , كما عرضت في المقطعين السابقين . وتلك هي نهايتهم ونهاية عالمهم كما جاء في مطلع السورة:(فما لهم لا يؤمنون ? وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ?). . ثم بيان لعلم الله بما يضمون عليه جوانحهم وتهديد لهم بمصيرهم المحتوم:(بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون). .
الدرس الأول:1 - 5 بعض مشاهد الكون في الآخرة
إنها سورة هادئة الإيقاع , جليلة الإيحاء , يغلب عليها هذا الطابع حتى في مشاهد الانقلاب الكونية التي عرضتها سورة التكوير في جو عاصف . سورة فيها لهجة التبصير المشفق الرحيم , خطوة خطوة . في راحة ويسر , وفي إيحاء هادئ عميق . والخطاب فيها: (يا أيها الإنسان)فيه تذكير واستجاشة للضمير .
وهي بترتيب مقاطعها على هذا النحو تطوف بالقلب البشري في مجالات كونية وإنسانية شتى , متعاقبة تعاقبا مقصودا . . فمن مشهد الاستسلام الكوني . إلى لمسة لقلب "الإنسان" . إلى مشهد الحساب والجزاء . إلى مشهد الكون الحاضر وظواهره الموحية . إلى لمسة للقلب البشري أخرى . إلى التعجيب من حال الذين لا يؤمنون بعد ذلك كله . إلى التهديد بالعذاب الأليم واستثناء المؤمنين بأجر غير ممنون . .
كل هذه الجولات والمشاهد والإيحاءات واللمسات في سورة قصيرة لا تتجاوز عدة أسطر . . وهو ما لا يعهد إلا في هذا الكتاب العجيب ! فإن هذه الأغراض يتعذر الوفاء بها في الحيز الكبير ولا تؤدى بهذه القوة وبهذا التأثير . . ولكنه القرآن ميسر للذكر ; يخاطب القلوب مباشرة من منافذها القريبة . صبغة العليم الخبير !
(إذا السماء انشقت , وأذنت لربها وحقت . وإذا الأرض مدت , وألقت ما فيها وتخلت , وأذنت لربها وحقت). .
وانشقاق السماء سبق الحديث عنه في سور سابقة . أما الجديد هنا فهو استسلام السماء لربها ; ووقوع الحق عليها , وخضوعها لوقع هذا الحق وطاعتها:
(وأذنت لربها وحقت). .
فإذن السماء لربها:استسلامها وطاعتها لأمره في الانشقاق ,(وحقت). . أي وقع عليها الحق . واعترفت بأنها محقوقة لربها . وهو مظهر من مظاهر الخضوع , لأن هذا حق عليها مسلم به منها .
والجديد هنا كذلك هو مد الأرض:(وإذا الأرض مدت). . وقد يعني هذا مط رقعتها وشكلها , مما ينشأ عن انقلاب النواميس التي كانت تحكمها , وتحفظها في هذا الشكل الذي انتهت إليه - والمقول إنه كرويأو بيضاوي - والتعبير يجعل وقوع هذا الأمر لها آتيا من فعل خارج عنها , مما يفيده بناء الفعل للمجهول:(مدت).
(وألقت ما فيها وتخلت). . وهو تعبير يصور الأرض كائنة حية تلقي ما فيها وتتخلى عنه . وما فيها كثير . منه تلك الخلائق التي لا تحصى , والتي طوتها الأرض في أجيالها التي لا يعلم إلا الله مداها . ومنه سائر ما يختبئ في جوف الأرض من معادن ومياه وأسرار لا يعلمها إلا بارئها . وقد حملت حملها هذا أجيالا بعد أجيال , وقرونا بعد قرون . حتى إذا كان ذلك اليوم:ألقت ما فيها وتخلت . .
(وأذنت لربها وحقت). . هي الأخرى كما أذنت السماء لربها وحقت . واستجابت لأمره مستسلمة مذعنة , معترفة أن هذا حق عليها , وأنها طائعة لربها بحقه هذا عليها . .
وتبدو السماء والأرض - بهذه الآيات المصورة - ذواتي روح . وخليقتين من الأحياء . تستمعان للأمر , وتلبيان للفور , وتطيعان طاعة المعترف بالحق , المستسلم لمقتضاه , استسلاما لا التواء فيه ولا إكراه .
ومع أن المشهد من مشاهد الانقلاب الكوني في ذلك اليوم . فإن صورته هنا يظللها الخشوع والجلال والوقار والهدوء العميق الظلال . والذي يتبقى في الحس منه هو ظل الاستسلام الطائع الخاشع في غير ما جلبة ولا معارضة ولا كلام !
الدرس الثاني:6 - 15 كدح الإنسان وملاقاته له من يأخذ كتابه بيمينه ومن يأخذه وراء ظهره
وفي هذا الجو الخاشع الطائع يجيء النداء العلوي للإنسان , وأمامه الكون بسمائه وأرضه مستسلما لربه هذا الاستسلام:
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه). .
(يا أيها الإنسان). . الذي خلقه ربه بإحسان ; والذي ميزه بهذه "الإنسانية " التي تفرده في هذا الكون بخصائص كان من شأنها أن يكون أعرف بربه , وأطوع لأمره من الأرض والسماء . وقد نفخ فيه من روحه , وأودعه القدرة على الإتصال به , وتلقي قبس من نوره , والفرح باستقبال فيوضاته , والتطهر بها أو الارتفاع إلى غير حد , حتى يبلغ الكمال المقدر لجنسه , وآفاق هذا الكمال عالية بعيدة !
(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه). . يا أيها الإنسان إنك تقطع رحلة حياتك على الأرض كادحا , تحمل عبئك , وتجهد جهدك , وتشق طريقك . . لتصل في النهاية إلى ربك . فإليه المرجع وإليه المآب . بعد الكد والكدح والجهاد . .
يا أيها الإنسان . . إنك كادح حتى في متاعك . . فأنت لا تبلغه في هذه الأرض إلا بجهد وكد . إن لم يكن جهد بدن وكد عمل , فهو جهد تفكير وكد مشاعر . الواجد والمحروم سواء . إنما يختلف نوع الكدح ولون العناء , وحقيقة الكدح هي المستقرة في حياة الإنسان . . ثم في النهاية في آخر المطاف إلى الله سواء .
يا أيها الإنسان . . إنك لا تجد الراحة في الأرض أبدا . إنما الراحة هناك . لمن يقدم لها بالطاعة والاستسلام . . والتعب واحد في الأرض والكدح واحد - وإن اختلف لونه وطعمه - أما العاقبة فمختلفة عندما تصل إلى ربك . . فواحد إلى عناء دونه عناء الأرض . وواحد إلى نعيم يمسح على آلام الأرض كأنه لم يكن كدح ولا كد . .
يا أيها الإنسان . . الذي امتاز بخصائص "الإنسان" . . ألا فاختر لنفسك ما يليق بهذا الامتياز الذي خصك به الله , اختر لنفسك الراحة من الكدح عندما تلقاه .
ولأن هذه اللمسة الكامنة في هذا النداء , فإنه يصل بها مصائر الكادحين عندما يصلون إلى نهاية الطريق ,
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاء ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُوراً (11)
ويلقون ربهم بعد الكدح والعناء:
(وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا , ويصلى سعيرا . إنه كان في أهله مسرورا . إنه ظن أن لن يحور . بلى إن ربه كان به بصيرا). .
والذي يؤتى كتابه بيمينه هو المرضي السعيد , الذي آمن وأحسن , فرضي الله عنه وكتب له النجاة . وهو يحاسب حسابا يسيرا . فلا يناقش ولا يدقق معه في الحساب . والذي يصور ذلك هو الآثار الواردة عن الرسول [ ص ] وفيها غناء . .
عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:قال رسول الله [ ص ]:" من نوقش الحساب عذب " قالت:قلت:أفليس قال الله تعالى:(فسوف يحاسب حسابا يسيرا). قال:" ليس ذلك بالحساب , ولكن ذلك العرض . من نوقش الحساب يوم القيامة عذب " . .
وعنها كذلك قالت:سمعت رسول الله [ ص ] يقول في بعض صلاته:" اللهم حاسبني حسابا يسيرا " . . فلما انصرف قلت:يا رسول الله , ما الحساب اليسير ? قال:" أن ينظر في كتابه فيتجاوز له عنه . من نوقش الحساب يا عائشة يومئذ هلك " . .
فهذا هو الحساب اليسير الذي يلقاه من يؤتى كتابه بيمينه . . ثم ينجو(وينقلب إلى أهله مسرورا). . من الناجين الذين سبقوه إلى الجنة . . وهو تعبير يفيد تجمع المتوافقين على الإيمان والصلاح من أهل الجنة . كل ومن أحب من أهله وصحبه . ويصور رجعة الناجي من الحساب إلى مجموعته المتآلفة بعد الموقف العصيب . رجعته متهللا فرحا مسرورا بالنجاة واللقاء في الجنان !
وهو وضع يقابل وضع المعذب الهالك المأخوذ بعمله السيء , الذي يؤتى كتابه وهو كاره:
(وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا . ويصلى سعيرا). .
والذي ألفناه في تعبيرات القرآن من قبل هو كتاب اليمين وكتاب الشمال . فهذه صورة جديدة:صورة إعطاء الكتاب من وراء الظهر . وليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره . فهي هيئة الكاره المكره الخزيان من المواجهة !
ونحن لا ندري حقيقة الكتاب ولا كيفية إيتائه باليمين أو بالشمال أو من وراء الظهر . إنما تخلص لنا حقيقة النجاة من وراء التعبير الأول ; وحقيقة الهلاك من وراء التعبير الثاني . وهما الحقيقتان المقصود أن نستيقنهما . وما وراء ذلك من الأشكال إنما يحيي المشهد ويعمق أثره في الحس , والله أعلم بحقيقة ما يكون كيف تكون !
فهذا التعيس الذي قضى حياته في الأرض كدحا , وقطع طريقه إلى ربه كدحا - ولكن في المعصية والإثم والضلال - يعرف نهايته , ويواجه مصيره , ويدرك أنه العناء الطويل بلا توقف في هذه المرة ولا انتهاء . فيدعو ثبورا , وينادي الهلاك لينقذه مما هو مقدم عليه من الشقاء . وحين يدعو الإنسان بالهلاك لينجو به , يكون في الموقف الذي ليس بعده ما يتقيه . حتى ليصبح الهلاك أقصى أمانيه . وهذا هو المعنى الذي أراده المتنبي وهو يقول:كفى بك داء أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكن أمانيا
وَيَصْلَى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18)
فإنما هي التعاسة التي ليس بعدها تعاسة . والشقاء الذي ليس بعده شقاء ! . .(ويصلى سعيرا). . وهذا هو الذي يدعو الهلاك لينقذه منه . . وهيهات هيهات !
وأمام هذا المشهد التعيس يكر السياق راجعا إلى ماضي هذا الشقي الذي انتهى به إلى هذا الشقاء . .
(إنه كان في أهله مسرورا . إنه ظن أن لن يحور). .
وذلك كان في الدنيا . . نعم كان . . فنحن الآن - مع هذا القرآن - في يوم الحساب والجزاء وقد خلفنا الأرض وراءنا بعيدا في الزمان والمكان !
(إنه كان في أهله مسرورا). . غافلا عما وراء اللحظة الحاضرة ; لاهيا عما ينتظره في الدار الآخرة , لا يحسب لها حسابا ولا يقدم لها زادا . .(إنه ظن أن لن يحور)إلى ربه , ولن يرجع إلى بارئه , ولو ظن الرجعة في نهاية المطاف لاحتقب بعض الزاد ولادخر شيئا للحساب !
(بلى إن ربه كان به بصيرا). .
إنه ظن أن لن يحور . ولكن الحقيقة أن ربه كان مطلعا على أمره , محيطا بحقيقته , عالما بحركاته وخطواته , عارفا أنه صائر إليه , وأنه مجازيه بما كان منه . . وكذلك كان , حين انتهى به المطاف إلى هذا المقدور في علم الله . والذي لم يكن بد أن يكون !
وصورة هذا التعيس وهو مسرور بين أهله في حياة الأرض القصيرة المشوبة بالكدح - في صورة من صور الكدح - تقابلها صورة ذلك السعيد , وهو ينقلب إلى أهله مسرورا في حياة الآخرة المديدة , الطليقة , الجميلة , السعيدة , الهنيئة , الخالية من كل شائبة من كدح أو عناء . .
الدرس الثالث:16 - 19 القسم بمشاهد الكون على تغيير أحوال الناس
ومن هذه الجولة الكبيرة العميقة الأثر بمشاهدها ولمساتها الكثيرة , يعود السياق بهم إلى لمحات من هذا الكون الذي يعيشون فيه حياتهم , وهم غافلون عما تشي به هذه اللمحات من التدبير والتقدير , الذي يشملهم كذلك , ويقدر بإحكام ما يتوارد عليهم من أحوال:
(فلا أقسم بالشفق , والليل وما وسق , والقمر إذا اتسق . . لتركبن طبقا عن طبق). .
وهذه اللمحات الكونية التي يلوح بالقسم بها , لتوجيه القلب البشري إليها , وتلقي إيحاءاتها وإيقاعاتها . . لمحات ذات طابع خاص . طابع يجمع بين الخشوع الساكن , والجلال المرهوب . وهي تتفق في ظلالها مع ظلال مطلع السورة ومشاهدها بصفة عامة .
فالشفق هو الوقت الخاشع المرهوب بعد الغروب . . وبعد الغروب تأخذ النفس روعة ساكنة عميقة . ويحس القلب بمعنى الوداع وما فيه من أسى صامت وشجى عميق . كما يحس برهبة الليل القادم , ووحشة الظلام الزاحف . ويلفه في النهاية خشوع وخوف خفي وسكون !
(والليل وما وسق). . هو الليل وما جمع وما حمل . . بهذا التعميم , وبهذا التجهيل , وبهذا التهويل . والليل يجمع ويضم ويحمل الكثير . . ويذهب التأمل بعيدا , وهو يتقصى ما يجمعه الليل ويضمه ويحمله من أشياء وأحياء وأحداث ومشاعر , وعوالم خافية ومضمرة , ساربة في الأرض وغائرة في الضمير . . ثم يؤوب من هذه الرحلة المديدة , ولم يبلغ من الصور ما يحتويه النص القرآني القصير:(والليل وما وسق). . إنما يغمره من النص العميق العجيب , رهبة ووجل , وخشوع وسكون تتسق مع الشفق وما يضفيه من خشوع وخوف وسكون !
لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24)
(والقمر إذا اتسق). . مشهد كذلك هادئ رائع ساحر . . وهو القمر في ليالي اكتماله . . وهو يفيض على الأرض بنوره الحالم الخاشع الموحي بالصمت الجليل , والسياحة المديدة , في العوالم الظاهرة والمكنونة في الشعور . . وهو جو له صلة خفية بجو الشفق , والليل وما وسق . يلتقي معهما في الجلال والخشوع السكون . .
هذه اللمحات الكونية الجميلة الجليلة الرائعة المرهوبة الموحية يلتقطها القرآن لقطات سريعة , ويخاطب بها القلب البشري , الذي يغفل عن خطابها الكوني . ويلوح بالقسم بها ليبرزها للمشاعر والضمائر , في حيويتها , وجمالها وإيحائها وإيقاعها , ودلالتها على اليد التي تمسك بأقدار هذا الكون , وترسم خطواته , وتبدل أحواله . . وأحوال الناس أيضا وهم غافلون:
(لتركبن طبقا عن طبق). . أي لتعانون حالا بعد حال , وفق ما هو مرسوم لكم من تقديرات وأحوال . ويعبر عن معاناة الأحوال المتعاقبة بركوبها . والتعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي , كقولهم:"إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه" . . وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة . وكل منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق , فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى رأس مرحلة جديدة , مقدرة كذلك مرسومة , كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من الشفق , والليل وما وسق , والقمر إذا اتسق . حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم , الذي تحدثت عنه الفقرة السالفة . . وهذا التتابع المتناسق في فقرات السورة , والانتقال اللطيف من معنى إلى معنى , ومن جولة إلى جولة , هو سمة من سمات هذا القرآن البديع . .
الدرس الرابع:20 - 25 لوم وعذاب الكفار لعدم إيمانهم وثواب المؤمنين الصالحين
وفي ظل هذه اللمحات الأخيرة , والمشاهد والجولات السابقة لها في السورة , يجيء التعجيب من أمر الذين لا يؤمنون . وأمامهم هذا الحشد من موحيات الإيمان ودلائله في أنفسهم وفي الوجود:
فما لهم لا يؤمنون ? و إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ? . .
أجل ! فما لهم لا يؤمنون ?
إن موحيات الإيمان في لمحات الوجود , وفي أحوال النفوس , تواجه القلب البشري حيثما توجه ; وتتكاثر عليه أينما كان . وهي من الكثرة والعمق والقوة والثقل في ميزان الحقيقة بحيث تحاصر هذا القلب لو أراد التفلت منها . بينما هي تناجيه وتناغيه وتناديه حيثما ألقى بسمعه وقلبه إليها !
(فما لهم لا يؤمنون ? وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ?)وهو يخاطبهم بلغة الفطرة , ويفتح قلوبهم على موحيات الإيمان ودلائله في الأنفس والآفاق . ويستجيش في هذه القلوب مشاعر التقوى والخشوع والطاعة والخضوع لبارئ الوجود . . وهو "السجود" . .
إن هذا الكون جميل . وموح . وفيه من اللمحات والومضات واللحظات والسبحات ما يستجيش في القلب البشري أسمى مشاعر الاستجابة والخشوع .
وإن هذا القرآن جميل . وموح . وفيه من اللمسات والموحيات ما يصل القلب البشري بالوجود الجميل , وببارئ الوجود الجليل . ويسكب فيه حقيقة الكون الكبيرة الموحية بحقيقة خالقه العظيم . .(فما لهم لا يؤمنون ? وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون ?). .
إنه لأمر عجيب حقا . يضرب عنه السياق ليأخذ في بيان حقيقة حال الكفار , وما ينتظرهم من مآل:
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
(بل الذين كفروا يكذبون . والله أعلم بما يوعون . فبشرهم بعذاب أليم). .
بل الذين كفروا يكذبون . يكذبون إطلاقا . فالتكذيب طابعهم وميسمهم وطبعهم الأصيل . والله أعلم بما يكنون في صدورهم , ويضمون عليه جوانحهم , من شر وسوء ودوافع لهذا التكذيب . .
ويترك الحديث عنهم , ويتجه بالخطاب إلى الرسول الكريم: (فبشرهم بعذاب أليم). . ويا لها من بشرى لا تسر ولا يودها متطلع إلى بشرى من بشير !
وفي الوقت ذاته يعرض ما ينتظر المؤمنين الذين لا يكذبون , فيستعدون بالعمل الصالح لما يستقبلون . ويجيء هذا العرض في السياق كأنه استثناء من مصير الكفار المكذبين:
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات . لهم أجر غير ممنون). .
وهو الذي يقال عنه في اللغة إنه استثناء منقطع . فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يكونوا داخلين ابتداء في تلك البشارة السوداء ثم استثنوا منها ! ولكن التعبير على هذا النحو أشد إثارة للانتباه إلى الأمر المستثنى !
والأجر غير الممنون . . هو الأجر الدائم غير المقطوع . . في دار البقاء والخلود . .
وبهذا الإيقاع الحاسم القصير , تنتهي السورة القصيرة العبارة , البعيدة الآماد في مجالات الكون والضمير .
سورة البروج
وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9)
سورة البروج
تعريف بسورة البروج
هذه السورة القصيرة تعرض , حقائق العقيدة , وقواعد التصور الإيماني . . أمورا عظيمة وتشع حولها أضواء قوية بعيدة المدى , وراء المعاني والحقائق المباشرة التي تعبر عنها نصوصها حتى لتكاد كل آية - وأحيانا كل كلمة في الآية - أن تفتح كوة على عالم مترامي الأطراف من الحقيقة . .
والموضوع المباشر الذي تتحدث عنه السورة هو حادث أصحاب الأخدود . . والموضوع هو أن فئة من المؤمنين السابقين على الإسلام - قيل إنهم من النصارى الموحدين - ابتلوا بأعداء لهم طغاة قساة شريرين , وأرادوهم على ترك عقيدتهم والارتداد عن دينهم , فأبوا وتمنعوا بعقيدتهم . فشق الطغاة لهم شقا في الأرض , وأوقدوا فيه النار , وكبوا فيه جماعة المؤمنين فماتوا حرقا , على مرأى من الجموع التي حشدها المتسلطون لتشهد مصرع الفئة المؤمنةبهذه الطريقة البشعة , ولكي يتلهى الطغاة بمشهد الحريق . حريق الآدميين المؤمنين:(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد). .
تبدأ السورة بقسم:(والسماء ذات البروج , واليوم الموعود , وشاهد ومشهود , قتل أصحاب الأخدود . .)فتربط بين السماء وما فيها من بروج هائلة , واليوم الموعود وأحداثه الضخام , والحشود التي تشهده والأحداث المشهودة فيه . . تربط بين هذا كله وبين الحادث ونقمة السماء على أصحابه البغاة .
ثم تعرض المشهد المفجع في لمحات خاطفة , تودع المشاعر بشاعة الحادث بدون تفصيل ولا تطويل . . مع التلميح إلى عظمة العقيدة التي تعالت على فتنة الناس مع شدتها , وانتصرت على النار وعلى الحياة ذاتها , وارتفعت إلى الأوج الذي يشرف الإنسان في أجياله جميعا . والتلميح إلى بشاعة الفعلة , وما يكمن فيها من بغي وشر وتسفل , إلى جانب ذلك الارتفاع والبراءة والتطهر من جانب المؤمنين:(النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود). .
بعد ذلك تجيء التعقيبات المتوالية القصيرة متضمنة تلك الأمور العظيمة في شأن الدعوة والعقيدة والتصور الإيماني الأصيل:
إشارة إلى ملك الله في السماوات والأرض وشهادته وحضوره تعالى لكل ما يقع في السماوات والأرض:الله(الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد). .
وإشارة إلى عذاب جهنم وعذاب الحريق الذي ينتظر الطغاة الفجرة السفلة ; وإلى نعيم الجنة . . ذلك الفوز الكبير . . الذي ينتظر المؤمنين الذين اختاروا عقيدتهم على الحياة , وارتفعوا على فتنة النار والحريق:(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير). .
وتلويح ببطش الله الشديد , الذي يبدئ ويعيد:(إن بطش ربك لشديد . إنه هو يبدئ ويعيد). . وهي حقيقة تتصل اتصالا مباشرا بالحياة التي أزهقت في الحادث , وتلقي وراء الحادث إشعاعات بعيدة . .
وبعد ذلك بعض صفات الله تعالى . وكل صفة منها تعني أمرا . .
(وهو الغفور الودود)الغفور للتائبين من الإثم مهما عظم وبشع . الودود لعباده الذين يختارونه على كل شيء . والود هنا هو البلسم المريح لمثل تلك القروح !
(ذو العرش المجيد . فعال لما يريد). . وهي صفات تصور الهيمنة المطلقة , والقدرة المطلقة , والإرادة المطلقة . . وكلها ذات اتصال بالحادث . . كما أنها تطلق وراءه إشعاعات بعيدة الآماد .
ثم إشارة سريعة إلى سوابق من أخذه للطغاة , وهم مدججون بالسلاح . .(هل أتاك حديث الجنود . فرعون وثمود ?)وهما مصرعان متنوعان في طبيعتهما وآثارهما . ووراءهما - مع حادث الأخدود - إشعاعات كثيرة .
وفي الختام يقرر شأن الذين كفروا وإحاطة الله بهم وهم لا يشعرون:(بل الذين كفروا في تكذيب . والله من ورائهم محيط). .
ويقرر حقيقة القرآن , وثبات أصله وحياطته:(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ). . مما يوحي بأن ما يقرره هو القول الفصل والمرجع الأخير , في كل الأمور .
هذه لمحات مجملة عن إشعاعات السورة ومجالها الواسع البعيد . تمهد لاستعراض هذه الإشعاعات بالتفصيل:
الدرس الأول:1 - 3 القسم بمخلوقات عظيمة (والسماء ذات البروج , واليوم الموعود , وشاهد ومشهود). .
تبدأ السورة - قبل الإشارة إلى حادث الأخدود - بهذا القسم:بالسماء ذات البروج , وهي إما أن تكون أجرام النجوم الهائلة وكأنها بروج السماء الضخمة أي قصورها المبنية , كما قال:(والسماء بنيناها بأيد وإنا لموسعون). . وكما قال(أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها). . وإما أن تكون هي المنازل التي تتنقل فيها تلك الأجرام في أثناء دورانها , وهي مجالاتها التي لا تتعداها في جريانها في السماء . والإشارة إليها يوحي بالضخامة . وهو الظل المراد إلقاؤه في هذا الجو .
(واليوم الموعود). . وهو يوم الفصل في أحداث الدنيا , وتصفية حساب الأرض وما كان فيها . وهو الموعود الذي وعد الله بمجيئه , ووعد بالحساب والجزاء فيه ; وأمهل المتخاصمين والمتقاضين إليه . وهو اليوم العظيم الذي تتطلع إليه الخلائق , وتترقبه لترى كيف تصير الأمور .
(وشاهد ومشهود). . في ذلك اليوم الذي تعرض فيه الأعمال , وتعرض فيه الخلائق , فتصبح كلها مشهودة , ويصبح الجميع شاهدين . . ويعلم كل شيء . ويظهر مكشوفا لا يستره ساتر عن القلوب والعيون . .
وتلتقي السماء ذات البروج , واليوم الموعود , وشاهد ومشهود . . تلتقي جميعا في إلقاء ظلال الاهتمام والاحتفال والاحتشاد والضخامة على الجو الذي يعرض فيه بعد ذلك حادث الأخدود . . كما توحي بالمجال الواسع الشامل الذي يوضع فيه هذا الحادث . وتوزن فيه حقيقته ويصفى فيه حسابه . . وهو أكبر من مجال الأرض , وأبعد من مدى الحياة الدنيا وأجلها المحدود . .
الدرس الثاني:4 - 9 جريمة أصحاب الأخدود في حرق المؤمنين بالنار
وبعد رسم هذا الجو , وفتح هذا المجال , تجيء الإشارة إلى الحادث في لمسات قلائل:
(قتل أصحاب الأخدود . النار ذات الوقود . إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود . وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض , والله على كل شيء شهيد). .
وتبدأ الإشارة إلى الحادث بإعلان النقمة على أصحاب الأخدود:(قتل أصحاب الأخدود). . وهي كلمة تدل على الغضب . غضب الله على الفعلة وفاعليها . كما تدل على شناعة الذنب الذي يثير غضب الحليم , ونقمته , ووعيده بالقتل لفاعليه .
ثم يجيء تفسير الأخدود:(النار ذات الوقود)والأخدود:الشق في الأرض . وكان أصحابه قد شقوه وأوقدوا فيه النار حتى ملأوه نارا , فصارت النار بدلا في التعبير من الأخدود للإيحاء بتلهب النار فيه كله وتوقدها .
قتل أصحاب الأخدود , واستحقوا هذه النقمة وهذا الغضب , في الحالة التي كانوا عليها وهم يرتكبون ذلك الإثم , ويزاولون تلك الجريمة:(إذ هم عليها قعود . وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود). . وهو تعبير يصور موقفهم ومشهدهم , وهم يوقدون النار , ويلقون بالمؤمنين والمؤمنات فيها وهم قعود على النار , قريبون من عملية التعذيب البشعة , يشاهدون أطوار التعذيب , وفعل النار في الأجسام في لذة وسعار , كأنما يثبتون في حسهم هذا المشهد البشع الشنيع !
وما كان للمؤمنين من ذنب عندهم ولا ثأر:(وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد . الذي له ملك السماوات والأرض . والله على كل شيء شهيد). . فهذه جريمتهم أنهم آمنوا بالله , العزيز:القادر على ما يريد , الحميد:المستحق للحمد في كل حال , والمحمود بذاته ولو لم يحمده الجهال ! وهو الحقيق بالإيمان وبالعبودية له . وهو وحده الذي له ملك السماوات والأرض وهو يشهد كل شيء وتتعلق به إرادته تعلق الحضور .
إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11)
ثم هو الشهيد على ما كان من أمر المؤمنين وأصحاب الأخدود . . وهذه لمسة تطمئن قلوب المؤمنين , وتهدد العتاة المتجبرين . فالله كان شهيدا . وكفى بالله شهيدا .
وتنتهي رواية الحادث في هذه الآيات القصار , التي تملأ القلب بشحنة من الكراهية لبشاعة الفعلة وفاعليها , كما تستجيش فيه التأمل فيما وراء الحادث ووزنه عند الله وما استحقه من نقمته وغضبه . فهو أمر لم ينته بعد عند هذا الحد , ووراءه في حساب الله ما وراءه .
كذلك تنتهي رواية الحادث وقد ملأت القلب بالروعة . روعة الإيمان المستعلي على الفتنة , والعقيدة المنتصرة على الحياة , والانطلاق المتجرد من أوهاق الجسم وجاذبية الأرض . فقد كان في مكنة المؤمنين أن ينجوا بحياتهم في مقابل الهزيمة لإيمانهم . ولكن كم كانوا يخسرون هم أنفسهم في الدنيا قبل الآخرة ? وكم كانت البشرية كلها تخسر ? كم كانوا يخسرون وهم يقتلون هذا المعنى الكبير:معنى زهادة الحياة بلا عقيدة , وبشاعتها بلا حرية , وانحطاطها حين يسيطر الطغاة على الأرواح بعد سيطرتهم على الأجساد ! إنه معنى كريم جدا ومعنى كبير جدا هذا الذي ربحوه وهم بعد في الأرض . ربحوه وهم يجدون مس النار فتحترق أجسادهم , وينتصر هذا المعنى الكريم الذي تزكيه النار ? وبعد ذلك لهم عند ربهم حساب , ولأعدائهم الطاغين حساب . . يعقب به السياق . .
الدرس الثالث:10 - 11 حرق الكفار في جهنم ونجاة المؤمنين وفوزهم بالجنة
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات - ثم لم يتوبوا - فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار . ذلك الفوز الكبير). .
إن الذي حدث في الأرض وفي الحياة الدنيا ليس خاتمة الحادث وليس نهاية المطاف . فالبقية آتية هناك . والجزاء الذي يضع الأمر في نصابه , ويفصل فيما كان بين المؤمنين والطاغين آت . وهو مقرر مؤكد , وواقع كما يقول عنه الله:
(إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات). . ومضوا في ضلالتهم سادرين , لم يندموا على ما فعلوا (ثم لم يتوبوا). . (فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق). . وينص على(الحريق). وهو مفهوم من عذاب جهنم . ولكنه ينطق به وينص عليه ليكون مقابلا للحريق في الأخدود . وبنفس اللفظ الذي يدل على الحدث . ولكن أين حريق من حريق ? في شدته أو في مدته ! وحريق الدنيا بنار يوقدها الخلق . وحريق الآخرة بنار يوقدها الخالق ! وحريق الدنيا لحظات وتنتهي , وحريق الآخرة آباد لا يعلمها إلا الله ! ومع حريق الدنيا رضى الله عن المؤمنين وانتصار لذلك المعنى الإنساني الكريم . ومع حريق الآخرة غضب الله , والارتكاس الهابط الذميم !
ويتمثل رضى الله وإنعامه على الذين آمنوا وعملوا الصالحات في الجنة: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار). . وهذه هي النجاة الحقيقية: (ذلك الفوز الكبير). . والفوز:النجاة والنجاح . والنجاة من عذاب الآخرة فوز . فكيف بالجنات تجري من تحتها الأنهار ?
بهذه الخاتمة يستقر الأمر في نصابه . وهي الخاتمة الحقيقية للموقف . فلم يكن ما وقع منه في الأرض إلا طرفا من أطرافه , لا يتم به تمامه . . وهذه هي الحقيقة التي يهدف إليها هذا التعقيب الأول على الحادث لتستقر في قلوب القلة المؤمنة في مكة , وفي قلوب كل فئة مؤمنة تتعرض للفتنة على مدار القرون .
إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18)
الدرس الرابع 12 - 18 تعقيبات على قصة أصحاب الأخدود , من صفات الله وهلاك الكفار ثم تتوالى التعقيبات . .
(إن بطش ربك لشديد). . وإظهار حقيقة البطش وشدته في هذا الموضع هو الذي يناسب ما مر في الحادث من مظهر البطش الصغير الهزيل الذي يحسبه أصحابه ويحسبه الناس في الأرض كبيرا شديدا . فالبطش الشديد هو بطش الجبار . الذي له ملك السماوات والأرض . لا بطش الضعاف المهازيل الذين يتسلطون على رقعة من الأرض محدودة , في رقعة من الزمان محدودة . .
ويظهر التعبير العلاقة بين المخاطب - وهو الرسول [ ص ] والقائل وهو الله عز وجل . وهو يقول له: (إن بطش ربك . .)ربك الذي تنتسب إلى ربوبيته , وسندك الذي تركن إلى معونته . . ولهذه النسبة قيمتها في هذا المجال الذي يبطش فيه الفجار بالمؤمنين !
(إنه هو يبدئ ويعيد). . والبدء والإعادة وإن اتجه معناهما الكلي إلى النشأة الأولى والنشأة الآخرة . . إلا أنهما حدثان دائبان في كل لحظة من ليل أو نهار . ففي كل لحظة بدء وإنشاء , وفي كل لحظة إعادة لما بلي ومات . والكون كله في تجدد مستمر . . وفي بلى مستمر . . وفي ظل هذه الحركة الدائبة الشاملة من البدء والإعادة يبدو حادث الأخدود ونتائجه الظاهرة مسألة عابرة في واقع الأمر وحقيقة التقدير . فهو بدء لإعادة . أو إعادة لبدء . في هذه الحركة الدائبة الدائرة . .
(وهو الغفور الودود). . والمغفرة تتصل بقوله من قبل: (ثم لم يتوبوا). . فهي من الرحمة والفضل الفائض بلا حدود ولا قيود . وهي الباب المفتوح الذي لا يغلق في وجه عائد تائب . ولو عظم الذنب وكبرت المعصية . . أما الود . . فيتصل بموقف المؤمنين , الذين اختاروا ربهم على كل شيء . وهو الإيناس اللطيف الحلو الكريم . حين يرفع الله عباده الذين يؤثرونه ويحبونه إلى مرتبة , يتحرج القلم من وصفها لولا أن فضل الله يجود بها . . مرتبة الصداقة . . الصداقة بين الرب والعبد . . ودرجة الود من الله لأودائه وأحبائه المقربين . . فماذا تكون الحياة التي ضحوا بها وهي ذاهبة ? وماذا يكون العذاب الذي احتملوه وهو موقوت ? ماذا يكون هذا إلى جانب قطرة من هذا الود الحلو ? وإلى جانب لمحة من هذا الإيناس الحبيب ?
إن عبيدا من رقيق هذه الأرض . عبيد الواحد من البشر , ليلقون بأنفسهم إلى التهلكة لكلمة تشجيع تصدر من فمه , أو لمحة رضاء تبدو في وجهه . . وهو عبد وهم عبيد . . فكيف بعباد الله . الذين يؤنسهم الله بوده الكريم الجليل , الله(ذو العرش المجيد)العالي المهيمن الماجد الكريم ? ألا هانت الحياة . وهان الألم . وهان العذاب . وهان كل غال عزيز , في سبيل لمحة رضى يجود بها المولى الودود ذو العرش المجيد . .
(فعال لما يريد). . هذه صفته الكثيرة التحقق , الدائبة العمل . . فعال لما يريد . . فهو مطلق الإرادة , يختار ما يشاء ; ويفعل ما يريده ويختاره , دائما أبدا , فتلك صفته سبحانه .
يريد مرة أن ينتصر المؤمنون به في هذه الأرض لحكمة يريدها . ويريد مرة أن ينتصر الإيمان على الفتنة وتذهب الأجسام الفانية لحكمة يريدها . . يريد مرة أن يأخذ الجبارين في الأرض . ويريد مرة أن يمهلهم لليوم الموعود . . لحكمة تتحقق هنا وتتحقق هناك , في قدره المرسوم . .
فهذا طرف من فعله لما يريد . يناسب الحادث ويناسب ما سيأتي من حديث فرعون وثمود . وتبقى حقيقة الإرادة الطليقة والقدرة المطلقة وراء الأحداث ووراء الحياة والكون تفعل فعلها في الوجود . فعال لما يريد . . وهاك نموذجا من فعله لما يريد:
بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِن وَرَائِهِم مُّحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ (22)
(هل أتاك حديث الجنود:فرعون وثمود ?). وهي إشارة إلى قصتين طويلتين , ارتكانا إلى المعلوم من أمرهما للمخاطبين , بعدما ورد ذكرهما كثيرا في القرآن الكريم . ويسميهم الجنود . إشارة إلى قوتهم واستعدادهم . . هل أتاك حديثهم ? وكيف فعل ربك بهم ما يريد ?
وهما حديثان مختلفان في طبيعتهما وفي نتائجهما . . فأما حديث فرعون , فقد أهلكه الله وجنده ونجى بني إسرائيل , ومكن لهم في الأرض فترة , ليحقق بهم قدرا من قدره , وإرادة من إرادته . وأما حديث ثمود فقد أهلكهم الله عن بكرة أبيهم وأنجى صالحا والقلة معه حيث لم يكن لهم بعد ذلك ملك ولا تمكين . إنما هي مجرد النجاة من القوم الفاسقين .
وهما نموذجان لفعل الإرادة , وتوجه المشيئة . وصورتان من صور الدعوة إلى الله واحتمالاتها المتوقعة , إلى جانب الاحتمال الثالث الذي وقع في حادث الأخدود . . وكلها يعرضها القرآن للقلة المؤمنة في مكة , ولكل جيل من أجيال المؤمنين . .
الدرس الخامس:19 - 22 هزيمة الكفار وحفظ القرآن
وفي الختام يجيء إيقاعان قويان جازمان . في كل منهما تقرير , وكلمة فصل وحكم أخير:
(بل الذين كفروا في تكذيب , والله من ورائهم محيط). .
فشأن الكفار وحقيقة حالهم أنهم في تكذيب يمسون به ويصبحون .(والله من ورائهم محيط). . وهم غافلون عما يحيط بهم من قهر الله وعلمه . فهم أضعف من الفيران المحصورة في الطوفان العميم !
(بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ). .
والمجيد الرفيع الكريم العريق . . وهل أمجد وأرفع وأعرق من قول الله العظيم ? وهو في لوح محفوظ . لا ندرك نحن طبيعته , لأنه من أمر الغيب الذي تفرد الله بعلمه . إنما ننتفع نحن بالظل الذي يلقيه التعبير , والإيحاء الذي يتركه في القلوب . وهو أن هذا القرآن مصون ثابت , قوله هو المرجع الأخير , في كل ما يتناوله من الأمور . يذهب كل قول , وقوله هو المرعي المحفوظ . .
ولقد قال القرآن قوله في حادث الأخدود , وفي الحقيقة التي وراءه . . وهو القول الأخير . .
سورة الطارق
وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاء ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14)
سورة الطارق
تعريف بسورة الطارق
جاء في مقدمة هذا الجزء أن سوره تمثل طرقات متوالية على الحس . طرقات عنيفة قوية عالية , وصيحات بنوم غارقين في النوم . . . تتوالى على حسهم تلك الطرقات والصيحات بإيقاع واحد , ونذير واحد . "اصحوا . تيقظوا . انظروا . تلفتوا . تفكروا . تدبروا . إن هنالك إلها . وإن هنالك تدبيرا . وإن هنالك تقديرا . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حسابا وجزاء . وإن هنالك عذابا شديدا ونعيما كبيرا . . "
وهذه السورة نموذج واضح لهذه الخصائص . ففي إيقاعاتها حدة يشارك فيها نوع المشاهد , ونوع الإيقاع الموسيقي , وجرس الألفاظ , وإيحاء المعاني .
ومن مشاهدها:الطارق . والثاقب . والدافق . والرجع . والصدع .
ومن معانيها:الرقابة على كل نفس:(إن كل نفس لما عليها حافظ). . ونفي القوة والناصر:(يوم تبلى السرائر فما له من قوة ولا ناصر). . والجد الصارم:(إنه لقول فصل وما هو بالهزل). .
والوعيد فيها يحمل الطابع ذاته:(إنهم يكيدون كيدا وأكيد كيدا . فمهل الكافرين أمهلهم رويدا !)!
وتكاد تتضمن تلك الموضوعات التي أشير إليها في مقدمة الجزء:"إن هنالك إلها . وإن هنالك تدبيرا . وإن هنالك تقديرا . وإن هنالك ابتلاء . وإن هنالك تبعة . وإن هنالك حسابا وجزاء . . . الخ" .
وبين المشاهد الكونية والحقائق الموضوعية في السورة تناسق مطلق دقيق ملحوظ يتضح من استعراض السورة في سياقها القرآني الجميل . .
الدرس الأول:1 - 4 القسم بالطارق على الحافظ على النفس
(والسماء والطارق . وما أدراك ما الطارق ? النجم الثاقب . إن كل نفس لما عليها حافظ). .
هذا القسم يتضمن مشهدا كونيا وحقيقة إيمانية . وهو يبدأ بذكر السماء والطارق ويثني بالاستفهام المعهود في التعبير القرآني:(وما أدراك ما الطارق ?). . وكأنه أمر وراء الإدراك والعلم . ثم يحدده ويبينه بشكله وصورته:(النجم الثاقب)الذي يثقب الظلام بشعاعه النافذ . وهذا الوصف ينطبق على جنس النجم . ولا سبيل إلى تحديد نجم بذاته من هذا النص , ولا ضرورة لهذا التحديد . بل إن الإطلاق أولى . ليكون المعنى:والسماء ونجومها الثاقبة للظلام , النافذة من هذا الحجاب الذي يستر الأشياء . ويكون لهذه الإشارة إيحاؤها حول حقائق السورة وحول مشاهدها الأخرى . . كما سيأتي . .
يقسم بالسماء ونجمها الثاقب:أن كل نفس عليها من أمر الله رقيب:(إن كل نفس لما عليها حافظ). . وفي التعبير بصيغته هذه معنى التوكيد الشديد . . ما من نفس إلا عليها حافظ . يراقبها , ويحصي عليها , ويحفظ عنها , وهو موكل بها بأمر الله . ويعين النفس لأنها مستودع الأسرار والأفكار . وهي التي يناط بها العمل والجزاء .
ليست هنالك فوضى إذن ولا هيصة ! والناس ليسوا مطلقين في الأرض هكذا بلا حارس . ولا مهملين في شعابها بلا حافظ , ولا متروكين يفعلون كيف شاءوا بلا رقيب . إنما هو الإحصاء الدقيق المباشر , والحساب المبني على هذا الإحصاء الدقيق المباشر .
ويلقي النص إيحاءه الرهيب حيث تحس النفس أنها ليست أبدا ي خلوة - وإن خلت - فهناك الحافظ الرقيب عليها حين تنفرد من كل رقيب , وتتخفي عن كل عين , وتأمن من كل طارق . هنالك الحافظ الذي يشق كل غطاء وينفذ إلى كل مستور . كما يطرق النجم الثاقب حجاب الليل الساتر . . وصنعة الله واحدة متناسقة في الأنفس وفي الآفاق .
الدرس الثاني:5 - 7 خلق الإنسان من الماء الدافق
ويخلص من هذه اللمسة التي تصل النفس بالكون , إلى لمسة أخرى تؤكد حقيقة التقدير والتدبير , التي أقسم عليها بالسماء والطارق . فهذه نشأة الإنسان الأولى تدل على هذه الحقيقة ; وتوحي بأن الإنسان ليس متروكا سدى , ولا مهملا ضياعا:
(فلينظر الإنسان مم خلق . خلق من ماء دافق , يخرج من بين الصلب والترائب). .
فلينظر الإنسان من أي شيء خلق وإلى أي شيء صار . . إنه خلق من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب , خلق من هذا الماء الذي يجتمع من صلب الرجل وهو عظام ظهره الفقارية ومن ترائب المرأة وهي عظام صدرها العلوية . . ولقد كان هذا سرا مكنونا في علم الله لا يعلمه البشر . حتى كان نصف القرن الأخير حيث اطلع العلم الحديث على هذه الحقيقة بطريقته ; وعرف أنه في عظام الظهر الفقارية يتكون ماء الرجل , وفي عظام الصدر العلوية يتكون ماء المرأة . حيث يلتقيان في قرار مكين فينشأ منهما الإنسان !
والمسافة الهائلة بين المنشأ والمصير . . بين الماء الدافق الذي يخرج من بين الصلب والترائب وبين الإنسان المدرك العاقل المعقد التركيب العضوي والعصبي والعقلي والنفسي . . هذه المسافة الهائلة التي يعبرها الماء الدافقإلى الإنسان الناطق توحي بأن هنالك يدا خارج ذات الإنسان هي التي تدفع بهذا الشيء المائع الذي لا قوام له ولا إرادة ولا قدرة , في طريق الرحلة الطويلة العجيبة الهائلة , حتى تنتهي به إلى هذه النهاية الماثلة . وتشي بأن هنالك حافظا من أمر الله يرعى هذه النطفة المجردة من الشكل والعقل , ومن الإرادة والقدرة , في رحلتها الطويلة العجيبة . وهي تحوي من العجائب أضعاف ما يعرض للإنسان من العجائب من مولده إلى مماته !
هذه الخلية الواحدة الملقحة لا تكاد ترى بالمجهر , إذ أن هنالك ملايين منها في الدفقة الواحدة . . هذه الخليقة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة , تبدأ في الحال بمجرد استقرارها في الرحم في عملية بحث عن الغذاء . حيث تزودها اليد الحافظة بخاصية أكالة تحول بها جدار الرحم حولها إلى بركة من الدم السائل المعد للغذاء الطازج ! وبمجرد اطمئنانها على غذائها تبدأ في عملية جديدة . عملية انقسام مستمرة تنشأ عنها خلايا . . وتعرف هذه الخليقة الساذجة التي لا قوام لها ولا عقل ولا قدرة ولا إرادة . . تعرف ماذا هي فاعلة وماذا هي تريد . . حيث تزودها اليد الحافظة بالهدى والمعرفة والقدرة والإرادة التي تعرف بها الطريق ! إنها مكلفة أن تخصص كل مجموعة من هذه الخلايا الجديدة لبناء ركن من أركان هذه العمارة الهائلة . . عمارة الجسم الإنساني . . فهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الهيكل العظمي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العضلي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز العصبي . وهذه المجموعة تنطلق لتنشئ الجهاز اللمفاوي . . إلى آخر هذه الأركان الأساسية في العمارة الإنسانية ! . . ولكن العمل ليس بمثل هذه البساطة . . إن هنالك تخصصا أدق . فكل عظم من العظام . وكل عضلة من العضلات . وكل عصب من الأعصاب . . لا يشبه الآخر . لأن العمارة دقيقة الصنع , عجيبة التكوين , متنوعة الوظائف . . . ومن ثم تتعلم كل مجموعة من الخلايا المنطلقة لبناء ركن من العمارة , أن تتفرق طوائف متخصصه , تقوم كل طائفة منها بنوع معين من العمل في الركن المخصص لها من العمارة الكبيرة ! . . إن كل خلية صغيرة تنطلق وهي تعرف طريقها . تعرف إلى أين هي ذاهبة , وماذا هو مطلوب منها ! ولا تخطئ واحدة منها طريقها في هذه المتاهة الهائلة . فالخلايا المكلفة أن تصنع العين تعرف أن العين ينبغي أن تكون في الوجه , ولا يجوز أبدا أن تكون في البطن أو القدم أو الذراع . مع أن كل موضع من هذه المواضع يمكن أن تنمو فيه عين . ولو أخذت الخلية الأولى المكلفة بصنع العين وزرعت في أي من هذه المواضع لصنعت عينا هنالك ! ولكنها هي بذاتها حين تنطلق لا تذهب إلا للمكان المخصص للعين في هذا الجهاز الإنساني المعقد . . فمن ترى قال لها:إن هذا الجهاز يحتاج إلى عين في هذا المكان دون سواه ? إنه الله . إنه الحافظ الأعلى الذي يرعاها ويوجهها ويهديها إلى طريقها في المتاهة التي لا هادي فيها إلا الله !
وكل تلك الخلايا فرادى ومجتمعة تعمل في نطاق ترسمه لها مجموعة معينة من الوحدات كامنة فيها . هي وحدات الوراثة , الحافظة لسجل النوع ولخصائص الأجداد . فخلية العين وهي تنقسم وتتكاثر لكي تكون العين , تحاول أن تحافظ في أثناء العمل على شكل معين للعين وخصائص محددة تجعلها عين إنسان لا عين أي حيوان آخر . وإنسان لأجداده شكل معين للعين وخصائص معينة . . وأقل انحراف في تصميم هذه العين من ناحية الشكل أو ناحية الخصائص يحيد بها عن الخط المرسوم . فمن ذا الذي أودعها هذه القدرة ? وعلمها ذلك التعليم ? وهي الخلية الساذجة التي لا عقل لها ولا إدراك , ولا إرادة لها ولا قوة ? إنه الله . علمها ما يعجز الإنسان كله عن تصميمه لو وكل إليه تصميم عين أو جزء من عين . بينما خلية واحدة منه أو عدة خلايا ساذجة , تقوم بهذا العمل العظيم !
ووراء هذه اللمحة الخاطفة عن صور الرحلة الطويلة العجيبة بين الماء الدافق والإنسان الناطق , حشودلا تحصى من العجائب والغرائب , في خصائص الأجهزة والأعضاء , لا نملك تقصيها في هذه الظلال . . تشهد كلها بالتقدير والتدبير . وتشي باليد الحافظة الهادية المعينة . وتؤكد الحقيقة الأولى التي أقسم عليها بالسماء والطارق . كما تمهد للحقيقة التالية . حقيقة النشأة الآخرة التي لا يصدقها المشركون , المخاطبون أول مرة بهذه السورة . .
الدرس الثالث:8 - 10 الله يبعث الإنسان يوم القيامة
(إنه على رجعه لقادر . يوم تبلى السرائر . فما له من قوة ولا ناصر). .
إنه - الله الذي أنشأه ورعاه - إنه لقادر على رجعه إلى الحياة بعد الموت , وإلى التجدد بعد البلى , تشهد النشأة الأولى بقدرته , كما تشهد بتقديره وتدبيره . فهذه النشأة البالغة الدقة والحكمة تذهب كلها عبثا إذا لم تكن هناك رجعة لتختبر السرائر وتجزى جزاءها العادل:(يوم تبلى السرائر). . السرائر المكنونة , المطوية على الأسرار المحجوبة . . يوم تبلى وتختبر , وتتكشف وتظهر كما ينفذ الطارق من خلال الظلام الساتر ; وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر ! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر:(فما له من قوة ولا ناصر). . ما له من قوة في ذاته , وما له من ناصر خارج ذاته . . والتكشف من كل ستر , مع التجرد من كل قوة , يضاعف شدة الموقف ; ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير . وهو ينتقل من الكون والنفس , إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة , إلى نهاية المطاف هناك , حيث يتكشف ستره ويكشف سره , ويتجرد من القوة والنصير . .
الدرس الرابع:11 - 14 القسم بالأرض والسماء على جدية حقيقة البعث
ولعل طائفا من شك , أو بقية من ريب , تكون باقية في النفس , في أن هذا لا بد كائن . . فمن ثم يجزم جزما بأن هذا القول هو القول الفصل , ويربط بين هذا القول وبين مشاهد الكون , كما صنع في مطلع السورة:
(والسماء ذات الرجع , والأرض ذات الصدع , إنه لقول فصل , وما هو بالهزل). .
والرجع المطر ترجع به السماء مرة بعد مرة , والصدع النبت يشق الأرض وينبثق . . وهما يمثلان مشهدا للحياة في صورة من صورها . حياة النبات ونشأته الأولى:ماء يتدفق من السماء , ونبت ينبثق من الأرض . . أشبه شيء بالماء الدافق من الصلب والترائب ; والجنين المنبثق من ظلمات الرحم . الحياة هي الحياة . والمشهد هو المشهد . والحركة هي الحركة . . نظام ثابت , وصنعة معلمة , تدل على الصانع . الذي لا يشبهه أحد لا في حقيقة الصنعة ولا في شكلها الظاهر !
وهو مشهد قريب الشبه بالطارق . النجم الثاقب . وهو يشق الحجب والستائر . كما أنه قريب الشبه بابتلاء السرائر وكشف السواتر . . صنعة واحدة تشير إلى الصانع !
يقسم الله بهذين الكائنين وهذين الحدثين:السماء ذات الرجع . والأرض ذات الصدع . . حيث يوقع مشهدهما وإيحاؤهما , كما يوحي جرس التعبير ذاته , بالشدة والنفاذ والجزم . . يقسم بأن هذا القول الذي يقرر الرجعة والابتلاء - أو بأن هذا القرآن عامة - هو القول الفصل الذي لا يتلبس به الهزل . القول الفصل الذي ينهي كل قول وكل جدل وكل شك وكل ريب . القول الذي ليس بعده قول . تشهد بهذا السماء ذات الرجع , والأرض ذات الصدع !
الدرس الخامس:15 - 17 تهديد الكفار بالعذاب القادم
وفي ظل هذا القول الفصل بالرجعة والابتلاء يتجه الخطاب إلى الرسول [ ص ] وهو ومن
إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)
معه من القلة المؤمنة في مكة يعانون من كيد المشركين ومؤامراتهم على الدعوة والمؤمنين بها - وقد كانوا في هم مقعد مقيم للكيد لها والتدبير ضدها وأخذ الطرق عليها وابتكار الوسائل في حربها - يتجه الخطاب إلى الرسول [ ص ] بالتثبيت والتطمين , وبالتهوين من أمر الكيد والكائدين . وأنه إلى حين . وأن المعركة بيده هو - سبحانه - وقيادته . فليصبر الرسول وليطمئن هو والمؤمنون:
(إنهم يكيدون كيدا , وأكيد كيدا , فمهل الكافرين , أمهلهم رويدا). .
إنهم - هؤلاء الذين خلقوا من ماء دافق يخرج من بين الصلب والترائب - بلا حول ولا قوة ولا قدرة ولا إرادة , ولا معرفة ولا هداية . والذين تولتهم يد القدرة في رحلتهم الطويلة . والذين هم صائرون إلى رجعة تبلى فيها السرائر , حيث لا قوة لهم ولا ناصر . . إنهم هؤلاء يكيدون كيدا . .
وأنا - أنا المنشئ . . الهادي . الحافظ . الموجه . المعيد . المبتلي . القادر . القاهر . خالق السماء والطارق . وخالق الماء الدافق , والإنسان الناطق , وخالق السماء ذات الرجع , والأرض ذات الصدع . . أنا الله . . أكيد كيدا . .
فهذا كيد . وهذا كيد . وهذه هي المعركة . . . ذات طرف واحد في الحقيقة . . وإن صورت ذات طرفين لمجرد السخرية والهزء !
(فمهل الكافرين). . (أمهلهم رويدا). . لا تعجل . ولا تستبطئ نهاية المعركة . وقد رأيت طبيعتها وحقيقتها . . فإنما هي الحكمة وراء الإمهال . الإمهال قليلا . . وهو قليل حتى لو استغرق عمر الحياة الدنيا . فما هو عمر الحياة الدنيا إلى جانب تلك الآباد المجهولة المدى ?
ونلحظ في التعبير الإيناس الإلهي للرسول:(فمهل الكافرين أمهلهم رويدا). . كأنه هو [ ص ] صاحب الأمر , وصاحب الإذن , وكأنه هو الذي يأذن بإمهالهم . أو يوافق على إمهالهم . وليس من هذا كله شيء للرسول [ ص ] إنما هو الإيناس والود في هذا الموضع الذي تنسم نسائم الرحمة على قلبه [ ص ] الإيناس الذي يخلط بين رغبة نفسه وإرادة ربه . ويشركه في الأمر كأن له فيه شيئا . ويرفع الفوارق والحواجز بينه وبين الساحة الإلهية التي يقضى فيها الأمر ويبرم . . وكأنما يقول له ربه:إنك مأذون فيهم . ولكن أمهلهم . أمهلهم رويدا . . فهو الود العطوف والإيناس اللطيف . يمسح على الكرب والشدة والعناء والكيد , فتنمحي كلها وتذوب . . ويبقى العطف الودود . .
سورة الأعلى
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاء أَحْوَى (5)
سورة الأعلى
تعريف بسورة الأعلى
في رواية للإمام أحمد عن الإمام علي - كرم الله وجهه - أن رسول الله [ ص ] كان يحب هذه السورة:(سبح اسم ربك الأعلى). . وفي صحيح مسلم أنه كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى , و(هل أتاك حديث الغاشية). وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما . .
وحق لرسول الله [ ص ] أن يحب هذه السورة وهي تحيل له الكون كله معبدا تتجاوب أرجاؤه بتسبيح ربه الأعلى وتمجيده , ومعرضا يحفل بموحيات التسبيح والتحميد:(سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى). . وإيقاع السورة الرخي المديد يلقي ظلال التسبيح ذي الصدى البعيد . .
وحق له [ ص ] أن يحبها , وهي تحمل له من البشريات أمرا عظيما . وربه يقول له , وهو يكلفه التبليغ والتذكير:(سنقرئك فلا تنسى - إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى - ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى). . وفيها يتكفل له ربه بحفظ قلبه لهذا القرآن , ورفع هذه الكلفة عن عاتقه . ويعده أن ييسره لليسرى في كل أموره وأمور هذه الدعوة . وهو أمر عظيم جدا .
وحق له [ ص ] أن يحبها , وهي تتضمن الثابت من قواعد التصور الإيماني:من توحيدالرب الخالق وإثبات الوحي الإلهي , وتقرير الجزاء في الآخرة . وهي مقومات العقيدة الأولى . ثم تصل هذه العقيدة بأصولها البعيدة , وجذورها الضاربة في شعاب الزمان:(إن هذا لفي الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى). . فوق ما تصوره من طبيعة هذه العقيدة , وطبيعة الرسول الذي يبلغها والأمة التي تحملها . . طبيعة اليسر والسماحة . .
وكل واحدة من هذه تحتها موحيات شتى ; ووراءها مجالات بعيدة المدى . .
الدرس الأول:1 - 5 تسبيح الله والإرشاد إلى بعض أفعاله
(سبح اسم ربك الأعلى . الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى). .
إن هذا الإفتتاح , بهذا المطلع الرخي المديد , ليطلق في الجو ابتداء أصداء التسبيح , إلى جانب معنى التسبيح . وإن هذه الصفات التي تلي الأمر بالتسبيح: (الأعلى الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى . والذي أخرج المرعى . فجعله غثاء أحوى). . لتحيل الوجود كله معبدا يتجاوب جنباته بتلك الأصداء ; ومعرضا تتجلى فيه آثار الصانع المبدع:(الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى). .
والتسبيح هو التمجيد والتنزيه واستحضار معاني الصفات الحسنى لله , والحياة بين إشعاعاتها وفيوضاتها وإشراقاتها ومذاقاتها الوجدانية بالقلب والشعور . وليست هي مجرد ترديد لفظ:سبحان الله ! . . و(سبح اسم ربك الأعلى). . تطلق في الوجدان معنى وحالة يصعب تحديدها باللفظ , ولكنها تتذوق بالوجدان . وتوحي بالحياة مع الإشراقات المنبثقة من استحضار معاني الصفات .
والصفة الأولى القريبة في هذا النص هي صفة الرب . وصفة الأعلى . . والرب:المربي والراعي , وظلال هذه الصفة الحانية مما يتناسق مع جو السورة وبشرياتها وإيقاعاتها الرخية . . وصفة الأعلى تطلق التطلع إلى الآفاق التي لا تتناهى ; وتطلق الروح لتسبح وتسبح إلى غير مدى . . وتتناسق مع التمجيد والتنزيه , وهو في صميمه الشعور بصفة الأعلى . .
والخطاب هنا لرسول الله [ ص ] ابتداء . وهذا الأمر صادر إليه من ربه . بهذه الصيغة:(سبح اسم ربك الأعلى). . وفيه من التلطف والإيناس ما يجل عن التعبير . وقد كان رسول الله [ ص ] يقرأ هذا الأمر , ثم يعقب عليه بالاستجابة المباشرة , قبل أن يمضي في آيات السورة , يقول:" سبحان ربي الأعلى " . . فهو خطاب ورده . وأمر وطاعته . وإيناس ومجاوبته . . إنه في حضرة ربه , يتلقى مباشرة ويستجيب . في أنس وفي اتصال قريب . . وحينما نزلت هذه الآية قال:" اجعلوها في سجودكم " . وحينما نزلت قبلها:(فسبح باسم ربك العظيم). . قال:" اجعلوها في ركوعكم " . . فهذا التسبيح في الركوع والسجود كلمة حية ألحقت بالصلاة وهي دافئة بالحياة . لتكون استجابة مباشرة لأمر مباشر . أو بتعبير أدق . . لإذن مباشر . . فإذن الله لعباده بأن يحمدوه ويسبحوه إحدى نعمه عليهم وأفضاله . إنه إذن بالاتصال به - سبحانه - في صورة مقربة إلى مدارك البشر المحدودة . صورة تفضل الله عليهم بها ليعرفهم ذاته . في صفاته . في الحدود التي يملكون أن يتطلعوا إليها . وكل إذن للعباد بالاتصال بالله في أية صورة من صور الاتصال , هو مكرمة له وفضل على العباد .
(سبح اسم ربك الأعلى). .(الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى). .
الذي خلق كل شيء فسواه , فأكمل صنعته , وبلغ به غاية الكمال الذي يناسبه . . والذي قدر لكل مخلوق وظيفته وغايته فهداه إلى ما خلقه لأجله , وألهمه غاية وجوده ; وقدر له ما يصلحه مدة بقائه , وهداه إليه أيضا . .
وهذه الحقيقة الكبرى ماثلة في كل شيء في هذا الوجود ; يشهد بها كل شيء في رحاب الوجود . من الكبير إلى الصغير . ومن الجليل إلى الحقير . . كل شيء مسوى في صنعته , كامل في خلقته . معد لأداء وظيفته . مقدر له غاية وجوده , وهو ميسر لتحقيق هذه الغاية من أيسر طريق . . وجميع الأشياء مجتمعة كاملة التناسق , ميسرة لكي تؤدي في تجمعها دورها الجماعي ; مثلما هي ميسرة فرادى لكي تؤدي دورها الفردي .
الذرة بمفردها كاملة التناسق بين كهاربها وبروتوناتها وإلكتروناتها , شأنها شأن المجموعة الشمسية في تناسق شمسها وكواكبها وتوابعها . . وهي تعرف طريقها وتؤدي مثلها وظيفتها . .
والخلية الحية المفردة كاملة الخلقة والإستعداد لأداء وظائفها كلها , شأنها شأن أرقى الخلائق الحية المركبة المعقدة .
وبين الذرة المفردة والمجموعة الشمسية ; كما بين الخلية الواحدة وأرقى الكائنات الحية , درجات من التنظيمات والتركيبات كلها في مثل هذا الكمال الخلقي , وفي مثل هذا التناسق الجماعي , وفي مثل هذا التدبير والتقدير الذي يحكمها ويصرفها . . والكون كله هو الشاهد الحاضر على هذه الحقيقة العميقة . .
هذه الحقيقة يدركها القلب البشري جملة حين يتلقى إيقاعات هذا الوجود ; وحين يتدبر الأشياء في رحابه بحس مفتوح . وهذا الإدراك الإلهامي لا يستعصي على أي إنسان في أية بيئة , وعلى أية درجة من درجات العلم الكسبي , متى تفتحت منافذ القلب , وتيقظت أوتاره لتلقي إيقاعات الوجود .
والملاحظة بعد ذلك والعلم الكسبي يوضحان بالأمثلة الفردية ما يدركه الإلهام بالنظرة الأولى . . وهناك من رصيد الملاحظة والدراسة ما يشير إلى طرف من تلك الحقيقة الشاملة لكل ما في الوجود .
يقول العالم [ ا . كريسي موريسون ] رئيس أكاديمية العلوم بنيورك في كتابه:"الإنسان لا يقوم وحده "
"إن الطيور لها غريزة العودة إلى الموطن . فعصفور الهزاز الذي عشش ببابك يهاجر جنوبا في الخريف . ولكنه يعود إلى عشه في الربيع التالي . وفي شهر سبتمبر تطير أسراب من معظم طيورنا إلى الجنوب . وقد تقطع في الغالب نحو ألف ميل فوق أرض البحار . ولكنها لا تضل طريقها . وحمام الزاجل إذا تحير من جراء أصوات جديدة عليه في رحلة طويلة داخل قفص , يحوم برهة ثم يقصد قدما إلى موطنه دون أن يضل . . والنحلة تجد خليتها مهما طمست الريح , في هبوبها على الأعشاب والأشجار , كل دليل يرى . وحاسة العودة إلى الوطن هذه هي ضعيفة في الإنسان , ولكنه يكمل عتاده القليل منها بأدوات الملاحة . ونحن في حاجة إلى هذه الغريزة , وعقولنا تسد هذه الحاجة . ولا بد أن للحشرات الدقيقة عيونا ميكروسكوبية [ مكبرة ] لا ندري مبلغها من الإحكام ; وأن للصقور بصرا تلسكوبيا [ مكبرا مقربا ] . وهنا أيضا يتفوق الإنسان بأدواته الميكانيكية فهو بتلسكوبه يبصر سديما بلغ من الضعف أنه يحتاج إلى مضاعفة قوة إبصاره مليوني مرة ليراه . وهو بمكروسكوبه الكهربائي يستطيع أن يرى بكتريا كانت غير مرئية [ بل كذلك الحشرات الصغيرة التي تعضها ! ] .
"وأنت إذا تركت حصانك العجوز وحده , فإنه يلزم الطريق مهما اشتدت ظلمة الليل . وهو يقدر أن يرى ولو في غير وضوح . ولكنه يلحظ اختلاف درجة الحرارة في الطريق وجانبيه , بعينين تأثرتا قليلا بالأشعة تحت الحمراء التي للطريق . والبومة تستطيع أن تبصر الفأر الدافئ اللطيف وهو يجري على العشب البارد مهماتكن ظلمة الليل . ونحن نقلب الليل نهارا بإحداث إشعاع في تلك المجموعة التي نسميها الضوء " . .
. . . "إن العاملات من النحل تصنع حجرات مختلفات الأحجام في المشط الذي يستخدم في التربية . وتعد الحجرات الصغيرات للعمال , والأكبر منها لليعاسيب [ ذكور النحل ] وتعد غرفة خاصة للملكات الحوامل . والنحلة الملكية تضع بيضا غير مخصب في الخلايا المخصصة للذكور , وبيضا مخصبا في الحجرات الصحيحة المعدة للعاملات الإناث والملكات المنتظرات . والعاملات اللائي هن إناث معدلات بعد أن انتظرن طويلا مجيء الجيل الجديد , تهيأن أيضا لإعداد الغذاء للنحل الصغير بمضغ العسل واللقح ومقدمات هضمه . ثم ينقطعن عن عملية المضغ ومقدمات الهضم عند مرحلة معينة من تطور الذكور والإناث , ولا يغذين سوى العسل واللقح . والإناث اللاتي يعالجن على هذا الشكل يصبحن عاملات" . .
"أما الإناث اللاتي في حجرات الملكة , فإن التغذية بالمضغ ومقدمات الهضم تستمر بالنسبة لهن . وهؤلاء اللاتي يعاملن هذه المعاملة الخاصة يتطورن إلى ملكات نحل , وهن وحدهن اللائي ينتجن بيضا مخصبا . وعملية تكرار الإنتاج هذه تتضمن حجرات خاصة , وبيضا خاصا , كما تتضمن الأثر العجيب الذي لتغيير الغذاء , وهذا يتطلب الانتظار والتمييز وتطبيق اكتشاف أثر الغذاء ! وهذه التغيرات تنطبق بوجه خاص على حياة الجماعة , وتبدو ضرورية لوجودها . ولا بد أن المعرفة والمهارة اللازمتين لذلك قد تم اكتسابهما بعد ابتداء هذه الحياة الجماعية , وليستا بالضرورة ملازمتين لتكوين النحل ولا لبقائه على الحياة . وعلى ذلك فيبدو أن النحل قد فاق الإنسان في معرفة تأثير الغذاء تحت ظروف معينة !
"والكلب بما أوتي من أنف فضولي يستطيع أن يحس الحيوان الذي مر . وليس ثمة من أداة من اختراع الإنسان لتقوي حاسة الشم الضعيفة لديه . ومع هذا فإن حاسة الشم الخاصة بنا - على ضعفها - قد بلغت من الدقة أنها يمكنها أن تتبين الذرات المكروسكوبية البالغة الدقة . .
"وكل الحيوانات تسمع الأصوات التي يكون كثير منها خارج دائرة الاهتزازات الخاصة بنا , وذلك بدقة تفوق كثيرا حاسة السمع المحدودة عندنا . وقد أصبح الإنسان يستطيع بفضل وسائله أن يسمع صوت ذبابة تطير على بعد أميال , كما لو كانت فوق طبلة أذنه . ويستطيع بمثل تلك الأدوات أن يسجل وقع شعاع شمسي !
"إن إحدى العناكب المائية تصنع لنفسها عشا على شكل منطاد [ بالون ] من خيوط العنكبوت . وتعلقه بشيء ما تحت الماء . ثم تمسك ببراعة فقاعة هواء في شعر جسمها , وتحملها إلى الماء , ثم تطلقها تحت العش . ثم تكرر هذه العملية حتى ينتفخ العش . وعندئذ تلد صغارها وتربيها , آمنة عليها من هبوب الهواء . فها هنا نجد طريقة النسج , بما يشمله من هندسة وتركيب وملاحة جوية !
وسمك "السلمون" الصغير يمضي سنوات في البحر , ثم يعود إلى نهره الخاص به . والأكثر من ذلك أنه يصعد إلى جانب النهر الذي يصب عنده النهير الذي ولد فيه . . فما الذي يجعل السمك يرجع إلى مكان مولده بهذا التحديد ? إن سمكة السلمون التي تصعد في النهر صعدا إذا نقلت إلى نهير آخر أدركت توا أنه ليس جدولها . فهي لذلك تشق طريقها خلال النهر , ثم تحيد ضد التيار , قاصدة إلى مصيرها !
"وهناك لغز أصعب من ذلك يتطلب الحل , وهو الخاص بثعابين الماء التي تسلك عكس هذا المسلك , فإن تلك المخلوقات العجيبة متى اكتمل نموها , هاجرت من مختلف البرك والأنهار . وإذا كانت في أوربا قطعت آلاف الأميال في المحيط قاصدة كلها إلى الأعماق السحيقة جنوبي برمودا . وهناك تبيض وتموت . أما صغارها تلك التي لا تملك وسيلة لتعرف بها أي شيء سوى أنها في مياه قفرة - فإنها تعود أدراجها وتجد طريقهاإلى الشاطئ الذي جاءت منه أمهاتها . ومن ثم إلى كل نهر أو بحيرة أو بركة صغيرة . ولذا يظل كل جسم من الماء آهلا بثعابين البحار . لقد قاومت التيارات القوية , وثبتت للأمداد والعواصف , وغالبت الأمواج المتلاطمة على كل شاطئ . وهي الآن يتاح لها النمو . حتى إذا اكتمل نموها دفعها قانون خفي إلى الرجوع حيث كانت بعد أن تتم الرحلة كلها . فمن أين ينشأ الحافز الذي يوجهها لذلك ? لم يحدث قط أن صيد ثعبان ماء أمريكي في المياه الأوربية , أو صيد ثعبان ماء أوربي في المياه الأمريكية . والطبيعة تبطئ في إنماء ثعبان الماء الأوربي مدة سنة أو أكثر لتعوض من زيادة مسافة الرحلة التي يقطعها [ إذ أن مسافته أطول من مسافة زميله الأمريكي ] ترى هل الذرات والهباءات إذا توحدت معا في ثعبان ماء يكون لها حاسة التوجيه وقوة الإرادة اللازمة للتنفيذ ?!
. . . "وإذا حمل الريح فراشة أنثى من خلال نافذة إلى علية بيتك , فإنها لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية . وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة . ولكنه يتلقى هذه الإشارة ويجاوبها , مهما أحدثت أنت من رائحة بعملك لتضليلهما . ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة ? وهل لذكر الفراشة جهاز راديو عقلي , فضلا عن السلك اللاقط للصوت [ إيريال ] ? أتراها تهز الأثير فهو يتلقى الاهتزاز ?!
. . . "إن التليفون والراديو هما من العجائب الآلية . وهما يتيحان لنا الاتصال السريع . ولكنا مرتبطون في شأنهما بسلك ومكان . وعلى ذلك لا تزال الفراشة متفوقة علينا من هذه الوجهة " .
"والنبات يتحايل على استخدام وكلاء لمواصلة وجوده دون رغبة من جانبهم ! كالحشرات التي تحمل اللقح من زهرة إلى أخرى , والرياح , وكل شيء يطير أو يمشي , ليوزع بذوره . وأخيرا أوقع النبات الإنسان ذا السيادة في الفخ ! فقد حسن الطبيعة وجازته بسخاء . غير أنه شديد التكاثر ; حتى أصبح مقيدا بالمحراث , وعليه أن يبذر ويحصد ويخزن , وعليه أن يربي ويهجن , وأن يشذب ويطعم . وإذا هو أغفل هذه الأعمال كانت المجاعة نصيبه , وتدهورت المدنية , وعادت الأرض إلى حالتها الفطرية ! " . .
"وكثير من الحيوانات هي مثل "سرطان البحر" الذي إذا فقد مخلبا عرف أن جزءا من جسمه قد ضاع , وسارع إلى تعويضه بإعادة تنشيط الخلايا وعوامل الوراثة ; ومتى تم ذلك كفت الخلايا عن العمل , لأنها تعرف بطريقة ما أن وقت الراحة قد حان !
"وكثير الأرجل المائي إذا انقسم إلى قسمين استطاع أن يصلح نفسه عن طريق أحد هذين النصفين . وأنت إذا قطعت رأس دودة الطعم تسارع إلى صنع رأس بدلا منه . ونحن نستطيع أن ننشط التئام الجروح , ولكن متى يتاح للجراحين أن يعرفوا كيف يحركون الخلايا لتنتج ذراعا جديدة , أو لحما أو عظاما أو أظافر أو أعصابا ? - إذا كان ذلك في حيز الإمكان ?!
"وهناك حقيقة مدهشة تلقي بعض الضوء على لغز هذا الخلق من جديد:فإن الخلايا في المراحل الأولى من تطورها , إذا تفرقت , صار لكل منها القدرة على خلق حيوان كامل . ومن ثم فإنه إذا انقسمت الخلية الأولى إلى قسمين , وتفرق هذان , تطور منهما فردان . وقد يكون في ذلك تفسير لتشابه التوأمين . ولكنه يدل على أكثر من ذلك . وهو أن كل خلية في البداية يمكن أن تكون فردا كاملا بالتفصيل . فليس هناك شك إذن , في أنك أنت , في كل خلية ونسيج ! " . .
ويقول في فصل آخر:
"إن جوزة البلوط تسقط على الأرض , فتحفظها قشرتها السمراء الجامدة , وتتدحرج في حفرة ما من الأرض ,وفي الربيع تستيقظ الجرثومة , فتنفجر القشرة , وتزدرد الطعام من اللب الشبيه بالبيضة الذي اختفت فيه "الجينات" [ وحدات الوراثة ] وهي تمد الجذور في الأرض , وإذا بك ترى فرخا أو شتلة [ شجيرة ] وبعد سنوات شجرة ! وإن الجرثومة بما فيها من جينات قد تضاعفت ملايين الملايين , فصنعت الجذع والقشرة وكل ورقة وكل ثمرة , مماثلة لتلك التي لشجرة البلوط التي تولدت عنها . وفي خلال مئات السنين قد بقي من ثمار البلوط التي لا تحصى نفس ترتيب الذرات تماما الذي أنتج أول شجرة بلوط منذ ملايين السنين " .
وفي فصل ثالث يقول:
"وكل خلية تنتج في أي مخلوق حي يجب أن تكيف نفسها لتكون جزءا من اللحم . أو أن تضحي بنفسها كجزء من الجلد الذي لا يلبث حتى يبلى . وعليها أن تصنع ميناء الأسنان , وأن تنتج السائل الشفاف في العين , أو أن تدخل في تكوين الأنف أو الأذن . ثم على كل خلية أن تكيف نفسها من حيث الشكل وكل خاصية أخرى لازمة لتأدية مهمتها . ومن العسير أن نتصور أن خلية ما هي ذات يد يمنى أو يسرى . ولكن إحدى الخلايا تصبح جزءا من الأذن اليمنى , بينما الأخرى تصبح جزءا من الأذن اليسرى .
. . . "وإن مئات الآلاف من الخلايا تبدو كأنها مدفوعة لأن تفعل الشيء الصواب في الوقت الصواب . وفي المكان الصواب" !
وفي فصل رابع . .
. . . "في خليط الخلق قد أتيح لكثير من المخلوقات أن تبدي درجة عالية من أشكال معينة من الغريزة أو الذكاء أو ما لا ندري . فالدبور مثلا يصيد الجندب النطاط , ويحفر حفرة في الأرض , ويخز الجندب في المكان المناسب تماما حتى يفقد وعيه , ولكنه يعيش كنوع من اللحم المحفوظ . . وأنثى الدبور تضع بيضا في المكان المناسب بالضبط , ولعلها لا تدري أن صغارها حين تفقس يمكنها أن تتغذى , دون أن تقتل الحشرة التي هي غذاؤها , فيكون ذلك خطرا على وجودها . ولا بد أن الدبور قد فعل ذلك من البداية وكرره دائما , وإلا ما بقيت زنابير على وجه الأرض . . والعلم لا يجد تفسيرا لهذه الظاهرة الخفية , ولكنها مع ذلك لا يمكن أن تنسب إلى المصادفة !
"وإن أنثى الدبور تغطي حفرة في الأرض , وترحل فرحا , ثم تموت . فلا هي ولا أسلافها قد فكرت في هذه العملية , وهي لا تعلم ماذا يحدث لصغارها , أو أن هناك شيئا يسمى صغارا . . بل إنها لا تدري أنها عاشت وعملت لحفظ نوعها !
. . . "وفي بعض أنواع النمل يأتي العملة منه بحبوب صغيرة لإطعام غيرها من النمل في خلال فصل الشتاء . وينشئ النمل ما هو معروف "بمخزن الطحن" وفيه يقوم النمل الذي أوتي أفكاكا كبيرة معدة للطحن , بإعداد الطعام للمستعمرة . وهذا هو شاغلها الوحيد . وحين يأتي الخريف , وتكون الحبوب كلها قد طحنت فإن "أعظم خير لأكبر عدد" يتطلب حفظ تلك المؤونة من الطعام . وما دام الجيل الجديد سينتظم كثيرا من النمل الطحان , فإن جنود النمل تقتل النمل الطاحن الموجود . ولعلها ترضي ضميرها الحشري بأن ذلك النمل قد نال جزاءه الكافي , إذ كانت له الفرصة الأولى في الإفادة من الغذاء أثناء طحنه !
"وهناك أنواع من النمل تدفعها الغريزة أو التفكير [ واختر منهما ما يحلو لك ] إلى زرع أعشاش للطعامفيما يمكن تسميته "بحدائق الأعشاش" . وتصيد أنواعا معينة من الدود والأرق أو اليرق [ وهي حشرات صغيرة تسبب آفة الندوة العسلية ] فهذه المخلوقات هي بقر النمل وعنزاتها ! ومنها يأخذ النمل إفرازات معينة تشبه العسل ليكون طعاما له .
"والنمل يأسر طوائف منه ويسترقها . وبعض النمل حين يصنع أعشاشه , يقطع الأوراق مطابقة للحجم المطلوب . وبينما يضع بعض عملة النمل الأطراف في مكانها , تستخدم صغارها - التي وهي في الدور اليرقي تقدر أن تغزل الحرير - لحياكتها معا ! وربما حرم طفل النمل عمل شرنقة لنفسه , ولكنه قد خدم الجماعة !
"فكيف يتاح لذرات المادة التي تتكون منها النملة , أن تقوم بهذه العمليات المعقدة ?
"لا شك أن هناك خالقا أرشدها إلى كل ذلك" . . انتهى . .
أجل . لا شك أن هناك خالقا أرشدها , وأرشد غيرها من الخلائق . كبيرها وصغيرها . إلى كل ذلك . . إنه (الأعلى الذي خلق فسوى , والذي قدر فهدى). .
وهذه النماذج التي اقتطفناها من كلام ذلك العالم ليست سوى طرف صغير من الملاحظات التي سجلها البشر في عوالم النبات والحشرات والطيور والحيوان . ووراءها حشود من مثلها كثيرة . . وهذه الحشود لا تزيد على أن تشير إلى جانب صغير من مدلول قوله تعالى:(الذي خلق فسوى . والذي قدر فهدى). . في هذا الوجود المشهود الذي لا نعرف عنه إلا أقل من القليل . ووراءه عالم الغيب الذي ترد لنا عنه لمحات فيما يحدثنا الله عنه ; بالقدر الذي يطيقه تكويننا البشري الضعيف !
وبعد عرض هذا المدى المتطاول , من صفحة الوجود الكبيرة , وإطلاق التسبيح في جنباته , تتجاوب به أرجاؤه البعيدة , يكمل التسبيحة الكبرى بلمسة في حياة النبات لها إيحاؤها ولها مغزاها:
(والذي أخرج المرعى فجعله غثاء أحوى).
والمرعى كل نبات . وما من نبات إلا وهو صالح لخلق من خلق الله . فهو هنا أشمل مما نعهده من مرعى أنعامنا . فالله خلق هذه الأرض وقدر فيها أقواتها لكل حي يدب فوق ظهرها أو يختبئ في جوفها , أو يطير في جوها .
والمرعى يخرج في أول أمره خضرا , ثم يذوي فإذا هو غثاء , أميل إلى السواد فهو أحوى , وقد يصلح أن يكون طعاما وهو أخضر , ويصلح أن يكون طعاما وهو غثاء أحوى . وما بينهما فهو في كل حالة صالح لأمر من أمور هذه الحياة , بتقدير الذي خلق فسوى وقدر فهدى .
والإشارة إلى حياة النبات هنا توحي من طرف خفي , بأن كل نبت إلى حصاد وأن كل حي إلى نهاية . وهي اللمسة التي تتفق مع الحديث عن الحياة الدنيا والحياة الأخرى . . .(بل تؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير وأبقى). . والحياة الدنيا كهذا المرعى , الذي ينتهي فيكون غثاء أحوى . . والآخرة هي التي تبقى .
وبهذا المطلع الذي يكشف عن هذا المدى المتطاول من صفحة الوجود الكبيرة . . تتصل حقائق السورة الآتية في سياقها , بهذا الوجود ; ويتصل الوجود بها , في هذا الإطار العريض الجميل . والملحوظ أن معظم السور
سَنُقْرِؤُكَ فَلَا تَنسَى (6) إِلَّا مَا شَاء اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)
في هذا الجزء تتضمن مثل هذا الإطار . الإطار الذي يتناسق مع جوها وظلها وإيقاعها تناسقا كاملا .
الدرس الثاني:6 - 7 بشرى للرسول بتكفل ربه حفظ القرآن في قلبه
بعدئذ يجيء بتلك البشرى العظيمة لرسول الله [ ص ] وامته من ورائه:
(سنقرئك فلا تنسى - إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى - ونيسرك لليسرى . فذكر إن نفعت الذكرى). .
وتبدأ البشرى برفع عناء الحفظ لهذا القرآن والكد في إمساكه عن عاتق الرسول [ ص ]:(سنقرئك فلا تنسى). . فعليه القراءة يتلقاها عن ربه , وربه هو المتكفل بعد ذلك بقلبه , فلا ينسى ما يقرئه ربه .
وهي بشرى للنبي [ ص ] تريحه وتطمئنه على هذا القرآن العظيم الجميل الحبيب إلى قلبه . الذي كان يندفع بعاطفة الحب له , وبشعور الحرص عليه , وبإحساس التبعة العظمى فيه . . إلى ترديده آية آية وجبريل يحمله إليه , وتحريك لسانه به خيفة أن ينسى حرفا منه . حتى جاءته هذه البشائر المطمئنة بأن ربه سيتكفل بهذا الأمر عنه .
وهي بشرى لأمته من ورائه , تطمئن بها إلى أصل هذه العقيدة . فهي من الله . والله كافلها وحافظها في قلب نبيها . وهذا من رعايته سبحانه , ومن كرامة هذا الدين عنده , وعظمة هذا الأمر في ميزانه .
وفي هذا الموضع كما في كل موضع يرد فيه وعد جازم , أو ناموس دائم , يرد ما يفيد طلاقة المشيئة الإلهية من وراء ذلك , وعدم تقيدها بقيد ما ولو كان هذا القيد نابعا من وعدها وناموسها . فهي طليقة وراء الوعد والناموس . ويحرص القرآن على تقرير هذه الحقيقة في كل موضع - كما سبق أن مثلنا لهذا في الظلال - ومن ذلك ما جاء هنا:
(إلا ما شاء الله). . فهو الاحتراس الذي يقرر طلاقة المشيئة الإلهية , بعد الوعد الصادق بأنه لا ينسى . ليظل الأمر في إطار المشيئة الكبرى ; ويظل التطلع دائما إلى هذه المشيئة حتى فيما سلف فيه وعد منها . ويظل القلب معلقا بمشيئة الله حيا بهذا التعلق أبدا . .
(إنه يعلم الجهر وما يخفى). . وكأن هذا تعليل لما مر في هذا المقطع من الإقرار والحفظ والاستثناء . . فكلها ترجع إلى حكمة يعلمها من يعلم الجهر وما يخفى ; ويطلع على الأمر من جوانبه جميعا , فيقرر فيه ما تقتضيه حكمته المستندة إلى علمه بأطراف الأمر جميعا .
الدرس الثالث:8 - 15 الله ييسر الرسول لليسرى ومطالبته بالتذكير ومن يتذكر ومن لا يتذكر
والبشرى الثانية الشاملة:
(ونيسرك لليسرى). .
بشرى لشخص الرسول [ ص ] وبشرى لأمته من ورائه . وتقرير لطبيعة هذا الدين , وحقيقة هذه الدعوة , ودورها في حياة البشر , وموضعها في نظام الوجود . . وإن هاتين الكلمتين:(ونيسرك لليسرى), لتشتملان على حقيقة من أضخم حقائق هذه العقيدة , وحقائق هذا الوجود أيضا . فهي تصل طبيعة هذا الرسول بطبيعة هذه العقيدة بطبيعة هذا الوجود . الوجود الخارج من يد القدرة في يسر . السائر في طريقه بيسر . المتجه إلى غايته بيسر . فهي انطلاقة من نور ; تشير إلى أبعاد وآماد وآفاق من الحقيقة ليس لها حدود . .
إن الذي ييسره الله لليسرى ليمضي في حياته كلها ميسرا . يمضي مع هذا الوجود المتناسق التركيب والحركة والاتجاه . . إلى الله . . فلا يصطدم إلا مع المنحرفين عن خط هذا الوجود الكبير - وهم لا وزن لهم ولا حساب حين يقاسون إلى هذا الوجود الكبير - يمضي في حركة يسيرة لطيفة هينة لينة مع الوجود كله ومع الأحداث والأشياء والأشخاص , ومع القدر الذي يصرف الأحداث والأشياء والأشخاص . اليسر في يده . واليسر في لسانه . واليسر في خطوه . واليسر في عمله . واليسر في تصوره . واليسر في تفكيره . واليسر في أخذه للأمور . واليسر في علاجه للأمور . اليسر مع نفسه واليسر مع غيره .
وهكذا كان رسول الله [ ص ] في كل أمره . . ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما كما روت عنه عائشة - رضي الله عنها - وكما قالت عنه:" كان رسول الله [ ص ] إذا خلا في بيته ألين الناس , بساما ضحاكا " وفي صحيح البخاري:" كانت الأمة تأخذ بيد رسول الله [ ص ] فتنطلق به حيث شاءت " !
وفي هديه [ ص ] في اللباس والطعام والفراش وغيرها ما يعبر عن اختيار اليسر وقلة التكلف البتة . جاء في زاد المعاد لشمس الدين أبي عبد الله محمد بن قيم الجوزية , عن هديه [ ص ] في "ملابسه":"كانت له عمامة تسمى السحاب كساها عليا , وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة . وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة , ويلبس العمامة بغير قلنسوة . وكان إذا أعتم أرخى عمامته بين كتفيه - كما رواه مسلم في صحيحه . عن عمر بن حريث قال:رأيت رسول الله [ ص ] على المنبر وعليه عمامة سوداء قد أرخى طرفها بين كتفيه . وفي مسلم أيضا عن جابر ذؤابة , فدل على أن الذؤابة لم يكن يرخيها دائما بين كتفيه . وقد يقال:إنه دخل مكة وعليه أهبة القتال والمغفر على رأسه فلبس في كل موطن ما يناسبه" .
وفي فصل آخر قال:"والصواب أن أفضل الطرق طريق رسول الله [ ص ] التي سنها وأمر بها ورغب فيها وداوم عليها . وهي أن هديه في اللباس أن يلبس ما تيسر من اللباس . من الصوف تارة , والقطن تارة , والكتان تارة , ولبس البرود اليمانية والبرد الأخضر . ولبس الجبة والقباء والقميص والسراويل والإزار والرداء والخف والنعل , وأرخى الذؤابة من خلفه تارة وتركها تارة . . الخ" . .
وقال في هديه في الطعام:"وكذلك كان هديه [ ص ] وسيرته في الطعام , لا يرد موجودا ولا يتكلف مفقودا . فما قرب إليه شيء من الطيبات إلا أكله - إلا أن تعافه نفسه فيتركه من غير تحريم - وما عاب طعاما قط . إن اشتهاه أكله , وإلا تركه , كما ترك أكل الضب لما لم يعتده , ولم يحرمه على الأمة , بل أكل على مائدته وهو ينظر . وأكل الحلوى والعسل - وكان يحبهما - وأكل الرطب والتمر , وشرب اللبن خالصا ومشوبا والسويق والعسل بالماء , وشرب نقيع التمر , وأكل الخزبرة - وهي حساء يتخذ من اللبن والدقيق - وأكل القثاء بالرطب , وأكل الأقط , وأكل التمر بالخبز , وأكل الخبز بالخل , وأكل القديد , وأكل الدباء المطبوخة - وكان يحبها - وأكل المسلوقة , وأكل الثريد بالسمن , وأكل الجبن , وأكل الخبز بالزيت , وأكل البطيخ بالرطب . وأكل التمر بالزبد - وكان يحبه - ولم يكن يرد طيبا ولا يتكلفه , بل كان هديه أكل ما تيسر , فإن أعوزه صبر . . . الخ" .
وقال عن هديه في نومه وانتباهه:"كان ينام على فراشه تارة وعلى النطع تارة , وعلى الحصير تارة , وعلىالأرض تارة , وعلى السرير تارة بين رماله , وتارة على كساء أسود" . .
وأحاديثه التي تحض على اليسر والسماحة والرفق في تناول الأمور - وفي أولها أمر العقيدة وتكاليفها - كثيرة جدا يصعب تقصيها . من هذا قوله [ ص ]:" إن هذا الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه " [ أخرجه البخاري ] . . " لا تشددوا على أنفسكم فيشدد عليكم فإن قوما شددوا على أنفسهم فشدد عليهم . . . " [ أخرجه أبو داود ] . . " إن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى " [ أخرجه البخاري ] . . " يسروا ولا تعسروا " [ أخرجه الشيخان ] .
وفي التعامل:" رحم الله رجلا سمحا إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى " [ أخرجه البخاري ] " المؤمن هين لين " [ أخرجه البيهقي ] " المؤمن يألف ويؤلف " [ أخرجه الدارقطني ] . " إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم " [ أخرجه الشيخان ] .
ومن اللمحات العميقة الدلالة كراهيته [ ص ] للعسر والصعوبة حتى في الأسماء وسمات الوجوه , مما يوحي بحقيقة فطرته وصنع ربه بها وتيسيره لليسرى انطباعا وتكوينا . . عن سعيد بن المسيب عن أبيه - رضي الله عنه - أنه جاء للنبي [ ص ] فقال:" ما اسمك ? " قال:حزن [ أي صعب وعر ] قال:" بل أنت سهل " . قال:لا أغير اسما سمانيه أبي ! قال ابن المسيب رحمه الله:"فما زالت فينا حزونة بعد" ! [ أخرجه البخاري ] . . " وعن ابن عمر رضي الله عنهما - أن رسول الله [ ص ] غير اسم عاصية وسماها جميلة " [ أخرجه مسلم ] . ومن قوله:" إن من المعروف أن تلقى أخاك بوجه طلق " [ أخرجه الترمذي ] . .
فهو الحس المرهف الذي يلمح الوعورة والشدة حتى في الأسماء والملامح فينفر منها , ويميل بها إلى اليسر والهوادة !
وسيرة رسول الله [ ص ] كلها صفحات من السماحة واليسر والهوادة واللين والتوفيق إلى اليسر في تناول الأمور جميعا .
وهذا مثل من علاجه للنفوس , يكشف عن طريقته [ ص ] وطبيعته:
"جاءه أعرابي يوما يطلب منه شيئا فأعطاه . قال له:أحسنت إليك ? قال الأعرابي:لا . ولا أجملت ! فغضب المسلمون , وقاموا إليه ; فأشار إليهم أن كفوا . ثم دخل منزله , وأرسل إلى الأعرابي , وزاده شيئا . ثم قال:أحسنت إليك ? قال:نعم . فجزاك الله من أهل ومن عشيرة خيرا . فقال له النبي [ ص ]:إنك قلت ما قلت وفي نفس أصحابي شيء من ذلك , فإذا أحببت فقل بين أيديهم ما قلت بين يدي , حتى يذهب من صدورهم ما فيها عليك . قال:نعم . فلما كان الغداة جاء , فقال النبي [ ص ]:إن هذا الأعرابي قال ما قال , فزدناه , فزعم أنه رضي . أكذلك ? قال الأعرابي:نعم , فجزاك الله من أهل وعشيرة خيرا . فقال [ ص ] إن مثلي ومثل هذا الأعرابي كمثل رجل كانت له ناقة شردت عليه , فتبعها الناس , فلم يزيدوها إلا نفورا , فناداهم صاحب الناقة:خلوا بيني وبين ناقتي , فإني أرفق بها وأعلم . فتوجه لها صاحب الناقة بين يديها , فأخذ لها من قمام الأرض , فردها هونا هونا , حتى جاءت واستناخت , وشد عليها رحلها , واستوى عليها . وإني لو تركتكم حيث قال الرجل ما قال فقتلتموه دخل النار " . .
فهكذا كان أخذه [ ص ] للنفوس الشاردة . بهذه البساطة , وبهذا اليسر , وبهذا الرفق وبهذا التوفيق . . والنماذج شتى في سيرته كلها . وهي من التيسير لليسرى كما بشره ربه ووفقه في حياته وفيدعوته وفي أموره جميعا . .
هذه الشخصية الكريمة الحبيبة الميسرة لليسرى كانت كذلك لكي تحمل إلى البشرية هذه الدعوة . فتكون طبيعتها من طبيعتها , وحقيقتها من حقيقتها , وتكون كفاء للأمانة الضخمة التي حملتها - بتيسير الله وتوفيقه - على ضخامتها . . . حيث تتحول الرسالة بهذا التيسير من عبء مثقل , إلى عمل محبب , ورياضة جميلة , وفرح وانشراح . .
وفي صفة محمد [ ص ] , وصفة وظيفته التي جاء ليؤديها ورد في القرآن الكريم: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين . . (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف , وينهاهم عن المنكر , ويحل لهم الطيبات , ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم)فقد جاء [ ص ] رحمة للبشرية . جاء ميسرا يضع عن كواهل الناس الأثقال والأغلال التي كتبت عليهم , حينما شددوا فشدد عليهم .
وفي صفة الرسالة التي حملها ورد: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر . . (وما جعل عليكم في الدين من حرج). . (لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). . (ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم)فقد جاءت هذه الرسالة ميسرة في حدود الطاقة لا تكلف الناس حرجا ولا مشقة . وسرى هذا اليسر في روحها كما سرى في تكاليفها (فطرة الله التي فطر الناس عليها).
وحيثما سار الإنسان مع هذه العقيدة وجد اليسر ومراعاة الطاقة البشرية , والحالات المختلفة للإنسان , والظروف التي يصادفها في جميع البيئات والأحوال . . العقيدة ذاتها سهلة التصور . إله واحد ليس كمثله شيء . أبدع كل شيء , وهداه إلى غاية وجوده . وأرسل رسلا تذكر الناس بغاية وجودهم , وتردهم إلى الله الذي خلقهم . والتكاليف بعد ذلك كلها تنبثق من هذه العقيدة في تناسق مطلق لا عوج فيه ولا انحراف . وعلى الناس أن يأتوا منها بما في طوقهم بلا حرج ولا مشقة:" إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم , وما نهيتكم عنه فاجتنبوه " . . والمنهي عنه لا حرج فيه في حالة الضرورة: إلا ما اضطررتم إليه . . وبين هذه الحدود الواسعة تنحصر جميع التكاليف . . .
ومن ثم التقت طبيعة الرسول بطبيعة الرسالة , والتقت حقيقة الداعي بحقيقة الدعوة . في هذه السمة الأصيلة البارزة . وكذلك كانت الأمة التي جاءها الرسول الميسر بالرسالة الميسرة . فهي الأمة الوسط , وهي الأمة المرحومة الحاملة للرحمة . الميسرة الحاملة لليسر . . تتفق فطرتها هذه مع فطرة هذا الوجود الكبير . .
وهذا الوجود بتناسقه وانسياب حركته يمثل صنعة الله من اليسر والانسياب الذي لا تصادم فيه ولا احتكاك . . ملايين الملايين من الأجرام تسبح في فضاء الله وتنساب في مداراتها متناسقة متجاذبة . لا تصطدم ولا تضطرب ولا تميد . . وملايين الملايين من الخلائق الحية تجري بها الحياة إلى غاياتها القريبة والبعيدة في انتظام وفي احكام .وكل منها ميسر لما خلق له , سائر في طريقه إلى غاية . وملايين الملايين من الحركات والأحداث والأحوال تتجمع وتتفرق وهي ماضية في طريقها كنغمات الفرقة العازفة بشتى الآلات , لتجتمع كلها في لحن واحد طويل مديد !
إنه التوافق المطلق بين طبيعة الوجود , وطبيعة الرسالة , وطبيعة الرسول , وطبيعة الأمة المسلمة . . صنعة الله الواحد , وفطرة المبدع الحكيم .
(فذكر إن نفعت الذكرى). .
لقد أقرأه فلا ينسى (إلا ما شاء الله)ويسره لليسرى . لينهض بالأمانة الكبرى . . ليذكر . فلهذا أعد , ولهذا بشر . . فذكر حيثما وجدت فرصة للتذكير , ومنفذا للقلوب , ووسيلة للبلاغ . ذكر (إن نفعت الذكرى). . والذكرى تنفع دائما , ولن تعدم من ينتفع بها كثيرا كان أو قليلا . ولن يخلو جيل ولن تخلو أرض ممن يستمع وينتفع , مهما فسد الناس وقست القلوب وران عليها الحجاب . .
وحين نتأمل هذا الترتيب في الآيات , ندرك عظمة الرسالة , وضخامة الأمانة , التي اقتضت للنهوض بها هذا التيسير لليسرى , وذلك الإقراء والحفظ وتكفل الله بهما ; كي ينهض الرسول [ ص ] بعبء التذكير , وهو مزود بهذا الزاد الكبير .
فإذا نهض [ ص ] بهذا العبء فقد أدى ما عليه , والناس بعد ذلك وشأنهم ; تختلف مسالكهم وتختلف مصائرهم , ويفعل الله بهم ما يشاء وفق ما يستجيبون لهذه الذكرى:
سيذكر من يخشى , ويتجنبها الأشقى , الذي يصلى النار الكبرى , ثم لا يموت فيها ولا يحيا . قد أفلح من تزكى , وذكر اسم ربه فصلى . .
فذكر . . . وسينتفع بالذكرى (من يخشى). . ذلك الذي يستشعر قلبه التقوى , فيخشى غضب الله وعذابه . والقلب الحي يتوجس ويخشى , مذ يعلم أن للوجود إلها خلق فسوى , وقدر فهدى , فلن يترك الناس سدى , ولن يدعهم هملا ; وهو لا بد محاسبهم على الخير والشر , ومجازيهم بالقسط والعدل . ومن ثم فهو يخشى . فإذا ذكر ذكر , وإذا بصر أبصر , وإذا وعظ اعتبر .
(ويتجنبها الأشقى). . يتجنب الذكرى , فلا يسمع لها ولا يفيد منها . وهو إذن(الأشقى)الأشقى إطلاقا وإجمالا . الأشقى الذي تتمثل فيه غاية الشقوة ومنتهاها . الأشقى في الدنيا بروحه الخاوية الميتة الكثيفة الصفيقة , التي لا تحس حقائق الوجود , ولا تسمع شهادتها الصادقة , ولا تتأثر بموحياتها العميقة . والذي يعيش قلقا متكالبا على ما في الأرض كادحا لهذا الشأن الصغير ! والأشقى في الآخرة بعذابها الذي لا يعرف له مدى: الذي يصلى النار الكبرى . ثم لا يموت فيها ولا يحيى . .
والنار الكبرى هي نار جهنم . الكبرى بشدتها , والكبرى بمدتها , والكبرى بضخامتها . . حيث يمتد بقاؤه فيها ويطول . فلا هو يموت فيجد طعم الراحة ; ولا هو يحيا في أمن وراحة . إنما هو العذاب الخالد , الذي يتطلع صاحبه إلى الموت كما يتطلع إلى الأمنية الكبرى !
وفي الصفحة المقابلة نجد النجاة والفلاح مع التطهر والتذكر:
(قد أفلح من تزكى . وذكر اسم ربه فصلى). .
والتزكي:التطهر من كل رجس ودنس , والله - سبحانه - يقرر أن هذا الذي تطهر وذكر اسم ربه ,
بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
فاستحضر في قلبه جلاله:(فصلى). . إما بمعنى خشع وقنت . وإما بمعنى الصلاة الاصطلاحي , فكلاهما يمكن أن ينشأ من التذكر واستحضار جلال الله في القلب , والشعور بمهابته في الضمير . . هذا الذي تطهر وذكر وصلى (قد أفلح)يقينا . أفلح في دنياه , فعاش موصولا , حي القلب , شاعرا بحلاوة الذكر وإيناسه . وأفلح في أخراه , فنجا من النار الكبرى , وفاز بالنعيم والرضى . .
فأين عاقبة من عاقبة ? وأين مصير من مصير ?
الدرس الرابع:16 - 17 ذم طالبي الدنيا مع أن الآخرة خير وأبقى
وفي ظل هذا المشهد . مشهد النار الكبرى للأشقى . والنجاة والفلاح لمن تزكى , يعود بالمخاطبين إلى علة شقائهم , ومنشأ غفلتهم , وما يصرفهم عن التذكر والتطهر والنجاة والفلاح , ويذهب بهم إلى النار الكبرى والشقوة العظمى:
(بل تؤثرون الحياة الدنيا . والآخرة خير وأبقى). .
إن إيثار الحياة الدنيا هو أساس كل بلوى . فعن هذا الإيثار ينشأ الإعراض عن الذكرى ; لأنها تقتضيهم أن يحسبوا حساب الآخرة ويؤثروها . وهم يريدون الدنيا , ويؤثرونها . .
وتسميتها(الدنيا)لا تجيء مصادفة . فهي الواطية الهابطة - إلى جانب أنها الدانية:العاجلة:(والآخرة خير وأبقى). . خير في نوعها , وأبقى في أمدها .
وفي ظل هذه الحقيقة يبدو إيثار الدنيا على الآخرة حماقة وسوء تقدير . لا يقدم عليهما عاقل بصير .
الدرس الخامس:18 - 19 عراقة الدعوة ووحدة الرسالة
وفي الختام تجيء الإشارة إلى قدم هذه الدعوة , وعراقة منبتها , وامتداد جذورها في شعاب الزمن , وتوحد أصولها من وراء الزمان والمكان:
(إن هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى). .
هذا الذي ورد في هذه السورة وهو يتضمن أصول العقيدة الكبرى . هذا الحق الأصيل العريق . هو الذي في الصحف الأولى . صحف إبراهيم وموسى .
ووحدة الحق , ووحدة العقيدة , هي الأمر الذي تقتضيه وحدة الجهة التي صدر عنها , ووحدة المشيئة التي اقتضت بعثة الرسل إلى البشر . . إنه حق واحد , يرجع إلى أصل واحد . تختلف جزئياته وتفصيلاته باختلاف الحاجات المتجددة , والأطوار المتعاقبة . ولكنها تلتقي عند ذلك الأصل الواحد . الصادر من مصدر واحد . . من ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى . .
سورة الغاشية
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِن ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِن جُوعٍ (7)
سورة الغاشية
تعريف بسورة البروج
هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة . الباعثة إلى التأمل والتدبر , وإلى الرجاء والتطلع , وإلى المخافة والتوجس , وإلى عمل الحساب ليوم الحساب !
وهي تطوف بالقلب البشري في مجالين هائلين:مجال الآخرة وعالمها الواسع , ومشاهدها المؤثرة . ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر , وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع . ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة , وسيطرة الله , وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف . . كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع , هادئ , ولكنه نافذ . رصين ولكنه رهيب !
(هل أتاك حديث الغاشية ?). .
بهذا المقطع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى الله , ولتذكرهم بآياته في الوجود , وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد . وبهذا الإستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقدير ; الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير . وتسمى القيامة هذا الإسم الجديد:(الغاشية). . أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها . وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء . . الطامة . . الصاخة . . الغاشية . . القارعة . . مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة .
وهذا الخطاب: هل أتاك . . ? كان رسول الله [ ص ] يحس وقع توجيهه إلى شخصه , حيثما سمع هذه السورة , وكأنما يتلقاه أول أمر مباشرة من ربه , لشدة حساسية قلبه بخطاب الله - سبحانه - واستحضاره لحقيقة الخطاب , وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيط حيثما سمعته أذناه . . قال ابن أبي حاتم:حدثنا علي بن محمد الطنافسي , حدثنا أبو بكر بن عباس , عن أبي إسحاق , عن عمر بن ميمون , قال:مر النبي [ ص ] على امرأة تقرأ:(هل أتاك حديث الغاشية ?)فقام يستمع ويقول:" نعم قد جاءني " . .
والخطاب - مع ذلك - عام لكل من يسمع هذا القرآن . فحديث الغاشية هو حديث هذا القرآن المتكرر . يذكر به وينذر ويبشر ; ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشية والتقوى والتوجس ; كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع . ومن ثم يستحيي هذه الضمائر فلا تموت ولا تغفل .
الدرس الأول:1 - 16 بعض مشاهد يوم القيامة الوجوه الخاشعة المعذبة والناعمة المنعمة
(هل أتاك حديث الغاشية ?). . ثم يعرض شيئا من حديث الغاشية:
(وجوه يومئذ خاشعة . عاملة ناصبة . تصلى نارا حامية . تسقى من عين آنية . ليس لهم طعام إلا من ضريع . لا يسمن ولا يغني من جوع). .
إنه يعجل بمشهد العذاب قبل مشهد النعيم ; فهو أقرب إلى جو(الغاشية)وظلها . . فهناك:يومئذ وجوه خاشعة ذليلة متعبة مرهقة ; عملت ونصبت فلم تحمد العمل ولم ترض العاقبة , ولم تجد إلا الوبال والخسارة , فزادت مضضا وإرهاقا وتعبا , فهي:(عاملة ناصبة). . عملت لغير الله , ونصبت في غير سبيله . عملت لنفسها وأولادها . وتعبت لدنياها ولأطماعها . ثم وجدت عاقبة العمل والكد . وجدته في الدنيا شقوة لغير زاد . ووجدته في الآخرة سوادا يؤدي إلى العذاب . وهي تواجه النهاية مواجهة الذليل المرهق المتعوس الخائب الرجاء !
ومع هذا الذل والرهق العذاب والألم:(تصلى نارا حامية)وتذوقها وتعانيها .
(تسقى من عين آنية). . حارة بالغة الحرارة . . (ليس لها طعام إلا من ضريع لا يسمن ولا يغني من جوع). . والضريع قيل:شجر من نار في جهنم . استنادا إلى ما ورد عن شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم . وقيل:نوع من الشوك اللاطئ بالأرض , ترعاه الإبل وهو أخضر , ويسمى "الشبرق" فإذا جني صار اسمه "الضريع" ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام ! فهذا أو ذاك هو لون من ألوان الطعام يومئذ مع الغسلين والغساق وباقي هذه الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع !
وواضح أننا لا نملك في الدنيا أن ندرك طبيعة هذا العذاب في الآخرة . إنما تجيء هذه الأوصاف لتلمس في حسنا البشري أقصى ما يملك تصوره من الألم , الذي يتجمع من الذل والوهن والخيبة ومن لسع النار الحامية , ومن التبرد والارتواء بالماء الشديد الحرارة ! والتغذي بالطعام الذي لا تقوى الإبل على تذوقه , وهو شوك لا نقع فيه ولا غناء . . من مجموعة هذه التصورات يتجمع في حسنا إدراك لأقصى درجات الألم . وعذاب الآخرة
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَّا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
بعد ذلك أشد . وطبيعة لا يتذوقها إلا من يذوقها والعياذ بالله !
وعلى الجانب الآخر:(وجوه يومئذ ناعمة . لسعيها راضية:في جنة عالية . لا تسمع فيها لاغية . فيها عين جارية . فيها سرر مرفوعة . وأكواب موضوعة . ونمارق مصفوفة . وزرابي مبثوثة). .
فهنا وجوه يبدو فيها النعيم . ويفيض منها الرضى . وجوه تنعم بما تجد , وتحمد ما عملت . فوجدت عقباه خيرا , وتستمتع بهذا الشعور الروحي الرفيع . شعور الرضى عن عملها حين ترى رضى الله عنها . وليس أروح للقلب من أن يطمئن إلى الخير ويرضى عاقبته , ثم يراها ممثلة في رضى الله الكريم . وفي النعيم . ومن ثم يقدم القرآن هذا اللون من السعادة على ما في الجنة من رخاء ومتاع , ثم يصف الجنة ومناعمها المتاحة لهؤلاء السعداء:
(في جنة عالية). . عالية في ذاتها رفيعة مجيدة . ثم هي عالية الدرجات . وعالية المقامات . وللعلو في الحس إيقاع خاص .
(لا تسمع فيها لاغية). . ويطلق هذا التعبير جوا من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان والود والرضى والنجاء والسمر بين الأحباء والأوداء , والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية , لا خير فيها ولا عافية . . وهذه وحدها نعيم . وهذه وحدها سعادة . سعادة تتبين حين يستحضر الحس هذه الحياة الدنيا , وما فيها من لغو وجدل وصراع وزحام ولجاج وخصام وقرقعة وفرقعة . وضجة وصخب , وهرج ومرج . ثم يستسلم بعد ذلك لتصور الهدوء الآمن والسلام الساكن والود الرضي والظل الندي في العبارة الموحية:(لا تسمع فيها لاغية)وألفاظها ذاتها تنسم الروح والندى وتنزلق في نعومة ويسر , وفي إيقاع موسيقي ندي رخي ! وتوحي هذه اللمسة بأن حياة المؤمنين في الأرض وهم ينأون عن الجدل واللغو , هي طرف من حياة الجنة , يتهيأون بها لذلك النعيم الكريم .
وهكذا يقدم الله من صفة الجنة هذا المعنى الرفيع الكريم الوضيء . ثم تجيء المناعم التي تشبع الحس والحواس . تجيء في الصورة التي يملك البشر تصورها . وهي في الجنة مكيفة وفق ما ترتقي إليه نفوس أهل الجنة . مما لا يعرفه إلا من يذوقه !
(فيها عين جارية). . والعين الجارية:الينبوع المتدفق . وهو يجمع إلى الري الجمال . جمال الحركة والتدفق والجريان . والماء الجاري يجاوب الحس بالحيوية وبالروح التي تنتفض وتنبض ! وهو متعة للنظر والنفس من هذا الجانب الخفي , الذي يتسرب إلى أعماق الحس .
(فيها سرر مرفوعة). . والارتفاع يوحي بالنظافة كما يوحي بالطهارة . .(وأكواب موضوعة). . مصفوفة مهيأة للشراب لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد !(ونمارق مصفوفة). . والنمارق الوسائد والحشايا للاتكاء في ارتياح !(وزرابي مبثوثة). . والزرابي البسط ذات الخمل "السجاجيد" مبثوثة هنا وهناك للزينة وللراحة سواء !
وكلها مناعم مما يشهد الناس له أشباها في الأرض . وتذكر هذه الأشياء لتقريبها إلى مدارك أهل الأرض . أما طبيعتها وطبيعة المتاع بها فهي موكولة إلى المذاق هناك . للسعداء الذين يقسم الله لهم هذا المذاق !
ومن اللغو الدخول في موازنات أو تحقيقات حول طبيعة النعيم - أو طبيعة العذاب - في الآخرة . فإدراك طبيعة شيء ما متوقف على نوع هذا الإدراك . وأهل الأرض يدركون بحس مقيد بظروف هذه الأرض وطبيعة الحياة فيها . فإذا كانوا هناك رفعت الحجب وأزيلت الحواجز وانطلقت الأرواح والمدارك , وتغيرت مدلولات الألفاظ ذاتها بحكم تغير مذاقها , وكان ما سيكون , مما لا نملك أن ندرك الآن كيف يكون !
إنما نفيد من هذه الأوصاف أن يستحضر تصورنا أقصى ما يطيقه من صور اللذاذة والحلاوة والمتاع . وهو
أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ (18)
ما نملك تذوقه ما دمنا هنا . حتى نعرف حقيقته هناك . حين يكرمنا الله بفضله ورضاه .
الدرس الثاني:17 دعوة للتأمل في آيات الله في الكون
وتنتهي هذه الجولة في العالم الآخر , فيؤوب منها إلى هذا الوجود الظاهر . الحاضر . الموحي بقدرة القادر وتدبير المدبر , وتميز الصنعة , وتفرد الطابع . الدال على أن وراء التدبير والتقدير أمرا بعد هذه الحياة , وشأنا غير شأن الأرض . وخاتمة غير خاتمة الموت:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت , وإلى السماء كيف رفعت , وإلى الجبال كيف نصبت , وإلى الأرض كيف سطحت ?). .
وتجمع هذه الأيات الأربعة القصار , أطراف بيئة العربي المخاطب بهذا القرآن أول مرة . كما تضم أطراف الخلائق البارزة في الكون كله . حين تتضمن السماء والأرض والجبال والجمال [ ممثلة لسائر الحيوان ] على مزية خاصة بالإبل في خلقها بصفة عامة وفي قيمتها للعربي بصفة خاصة .
إن هذه المشاهد معروضة لنظر الإنسان حيثما كان . . السماء والأرض والجبال والحيوان . . وأيا كان حظ الإنسان من العلم والحضارة فهذه المشاهد داخلة في عالمه وإدراكه . موحية له بما وراءها حين يوجه نظره وقلبه إلى دلالتها .
والمعجزة كامنة في كل منها . وصنعة الخالق فيها معلمة لا نظير لها . وهي وحدها كافية لأن توحي بحقيقة العقيدة الأولى . ومن ثم يوجه القرآن الناس كافة إليها:
(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ?). . والإبل حيوان العربي الأول . عليها يسافر ويحمل . ومنها يشرب ويأكل . ومن أوبارها وجلودها يلبس وينزل . فهي مورده الأول للحياة . ثم إن لها خصائص تفردها من بين الحيوان . فهي على قوتها وضخامتها وضلاعة تكوينها ذلول يقودها الصغير فتنقاد , وهي على عظم نفعها وخدمتها قليلة التكاليف . مرعاها ميسر , وكلفتها ضئيلة , وهي أصبر الحيوان المستأنس على الجوع والعطش والكدح وسوء الأحوال . . ثم إن لهيئتها مزية في تناسق المشهد الطبيعي المعروض كما سيجيء . .
لهذا كله يوجه القرآن أنظار المخاطبين إلى تدبر خلق الإبل ; وهي بين أيديهم , لا تحتاج منهم إلى نقلة ولا علم جديد . .(أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ?). . أفلا ينظرون إلى خلقتها وتكوينها ? ثم يتدبرون:كيف خلقت على هذا النحو المناسب لوظيفتها , المحقق لغاية خلقها , المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا ! إنهم لم يخلقوها . وهي لم تخلق نفسها , فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المبدع المتفرد بصنعته , التي تدل عليه , وتقطع بوجوده ; كما تشي بتدبيره وتقديره .
(وإلى السماء كيف رفعت ?). . وتوجيه القلب إلى السماء يتكرر في القرآن . وأولى الناس بأن يتوجهوا إلى السماء هم سكان الصحراء . حيث للسماء طعم ومذاق , وإيقاع وإيحاء , كأنما ليست السماء إلا هناك في الصحراء !
السماء بنهارها الواضح الباهر الجاهر . والسماء بأصيلها الفاتن الرائق الساحر . والسماء بغروبها البديع الفريد الموحي . والسماء بليلها المترامي ونجومها المتلألئة وحديثها الفاتر . والسماء بشروقها الجميل الحي السافر .
هذه السماء . في الصحراء . . أفلا ينظرون إليها ? أفلا ينظرون إليها كيف رفعت ? من ذا رفعها بلا عمد ? ونثر فيها النجوم بلا عدد ? وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال وهذا الإيحاء ? إنهم لم يرفعوها وهي لم ترفع نفسها . فلا بد لها من رافع ولا بد لها من مبدع . لا يحتاج الأمر إلى علم ولا إلى كد ذهن . فالنظرة الواعية وحدها تكفي . . .
وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)
(وإلى الجبال كيف نصبت ?). . والجبال عند العربي - بصفة خاصة - ملجأ وملاذ , وأنيس وصاحب , ومشهدها يوحي إلى النفس الإنسانية - بصفة عامة - جلالا واستهوالا . حيث يتضاءل الإنسان إلى جوارها ويستكين , ويخشع للجلال السامق الرزين . والنفس في أحضان الجبل تتجه بطبيعتها إلى الله ; وتشعر أنها إليه أقرب , وتبعد عن واغش الأرض وضجيجها وحقاراتها الصغيرة . ولم يكن عبثا ولا مصادفة أن يتحنث محمد [ ص ] في غار حراء في جبل ثور . وأن يتجه إلى الجبل من يريدون النجوة بأرواحهم فترات من الزمان !
والجبال هنا (كيف نصبت)لأن هذه اللمحة تتفق من الناحية التصويرية مع طبيعة المشهد كما سيجيء .
(وإلى الأرض كيف سطحت ?). . والأرض مسطوحة أمام النظر , ممهدة للحياة والسير والعمل , والناس لم يسطحوها كذلك . فقد سطحت قبل أن يكونوا هم . . أفلا ينظرون إليها ويتدبرون ما وراءها , ويسألون:من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا ?
إن هذه المشاهد لتوحي إلى القلب شيئا . بمجرد النظر الواعي والتأمل الصاحي . وهذا القدر يكفي لاستجاشة الوجدان واستحياء القلب . وتحرك الروح نحو الخالق المبدع لهذه الخلائق .
ونقف وقفة قصيرة أمام جمال التناسق التصويري لمجموعة المشهد الكوني لنرى كيف يخاطب القرآن الوجدان الديني بلغة الجمال الفني , وكيف يعتنقان في حس المؤمن الشاعر بجمال الوجود . .
إن المشهد الكلي يضم مشهد السماء المرفوعة والأرض المبسوطة . وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال "منصوبة " السنان لا راسية ولا ملقاة , وتبرز الجمال منصوبة السنام . . خطان أفقيان وخطان رأسيان في المشهد الهائل في المساحة الشاسعة . ولكنها لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات ! على طريقة القرآن في عرض المشاهد , وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال .
الدرس الثالث:21 - 26 واجب الرسول التذكير وتهديد الكفار بالعذاب
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة , والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة , يلتفت إلى الرسول [ ص ] يوجهه إلى حدود واجبه وطبيعة وظيفته , ويلمس قلوبهم اللمسة الأخيرة الموقظة:
فذكر إنما أنت مذكر . لست عليهم بمسيطر . إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر . إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم . .
فذكر بها وذاك . ذكرهم بالآخرة وما فيها . وذكرهم بالكون وما فيه . إنما أنت مذكر . هذه وظيفتك على وجه التحديد . وهذا دورك في هذه الدعوة , ليس لك ولا عليك شيء وراءه . عليك أن تذكر . فإنك ميسر لهذا ومكلف إياه .
(لست عليهم بمسيطر). . فأنت لا تملك من أمر قلوبهم شيئا . حتى تقهرها وتقسرها على الإيمان . فالقلوب بين أصابع الرحمن , لا يقدر عليها إنسان .
فأما الجهاد الذي كتب بعد ذلك فلم يكن لحمل الناس على الإيمان . إنما كان لإزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس . فلا يمنعوا من سماعها . ولا يفتنوا عن دينهم إذا سمعوها . كان إزالة العقبات من طريق التذكير . الدور الوحيد الذي يملكه الرسول .
وهذا الإيحاء بأن ليس للرسول من أمر هذه الدعوة شيء إلا التذكير والبلاغ يتكرر في القرآن لأسباب شتى .
إِلَّا مَن تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
في أولها إعفاء أعصاب الرسول من حمل هم الدعوة بعد البلاغ , وتركها لقدر الله يفعل بها ما يشاء . فإلحاح الرغبة البشرية بانتصار دعوة الخير وتناول الناس لهذا الخير , إلحاح عنيف جدا يحتاج إلى هذا الإيحاء المتكرر بإخراج الداعية لنفسه ولرغائبه هذه من مجال الدعوة , كي ينطلق إلى أدائها كائنة ما كانت الاستجابة , وكائنة ما كانت العاقبة . فلا يعني نفسه بهم من آمن وهم من كفر . ولا يشغل باله بهذا الهم الثقيل حين تسوء الأحوال من حول الدعوة , وتقل الاستجابة , ويكثر المعرضون والمخاصمون .
ومما يدل على إلحاح الرغبة البشرية في انتصار دعوة الله وتذوق الناس لما فيها من خير ورحمة , هذه التوجيهات المتكررة للرسول [ ص ] وهو من هو تأدبا بأدب الله ومعرفة لحدوده ولقدر الله . . ومن ثم اقتضى إلحاح هذه الرغبة هذا العلاج الطويل المتكرر في شتى الأحيان . .
ولكن إذا كان هذا هو حد الرسول , فإن الأمر لا ينتهي عند هذا الحد . ولا يذهب المكذبون ناجين , ولا يتولون سالمين . إن هنالك الله وإليه تصير الأمور:
(إلا من تولى وكفر . فيعذبه الله العذاب الأكبر). .
وهم راجعون إلى الله وحده قطعا , وهو مجازيهم وحده حتما . وهذا هو الإيقاع الختامي في السورة في صيغة الجزم والتوكيد .
(إن إلينا إيابهم . ثم إن علينا حسابهم). .
بهذا يتحدد دور الرسول في هذه الدعوة . ودور كل داعية إليها بعده . . إنما أنت مذكر وحسابهم بعد ذلك على الله . ولا مفر لهم من العودة إليه , ولا محيد لهم من حسابه وجزائه . غير أنه ينبغي أن يفهم أن من التذكير إزالة العقبات من وجه الدعوة لتبلغ إلى الناس وليتم التذكير . فهذه وظيفة الجهاد كما تفهم من القرآن ومن سيرة الرسول سواء , بلا تقصير فيها ولا اعتداء . .
سورة الفجر
سُورَة الفَجْر
مكية .. وآياتها ثلاثون
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
( وَالْفَجْرِ 1 وَلَيَالٍ عَشْرٍ 2 وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ 3 وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ 4 هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ 5 أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ 6 إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ 7 الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ 8 وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ 9 وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ 10 الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ 11 فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ 12 فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ 13 إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ 14
فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ 15 وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ 16 كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ 17 وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ 18 وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَّمًّا 19 وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا 20 كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا 21 وَجَاء رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا 22 وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى 23 يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي 24 فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ 25 وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ 26 يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ 27 ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً 28 فَادْخُلِي فِي عِبَادِي 29 وَادْخُلِي جَنَّتِي 30 )
* * *
هذه السورة في عمومها حلقة من حلقات هذا الجزء في الهتاف بالقلب البشري إلى الإيمان والتقوى واليقظة والتدبر . . ولكنها تتضمن ألوانا شتى من الجولات والإيقاعات والظلال . ألوانا متنوعة تؤلف من تفرقها وتناسقها لحنا واحدا متعدد النغمات موحد الإيقاع !
في بعض مشاهدها جمال هادئ رفيق ندي السمات والإيقاعات ، كهذا المطلع الندي بمشاهده الكونية الرقيقة ، وبظل العبادة والصلاة في ثنايا تلك المشاهد . . " والفجر . وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر " . . .
وفي بعض مشاهدها شد وقصف . سواء مناظرها أو موسيقاها كهذا المشهد العنيف المخيف : " كلا . إذا دكت الأرض دكا دكا . وجاء ربك والملك صفا صفا . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى . يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد " . .
وفي بعض مشاهدها نداوة ورقة ورضى يفيض وطمأنينة . تتناسق فيها المناظر والأنغام ، كهذا الختام : " يا أيتها النفس المطمئنة ، ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي " . .
وفيها إشارات سريعة لمصارع الغابرين المتجبرين ، وإيقاعها بين بين . بين إيقاع القصص الرخي وإيقاع المصرع القوي : " ألم تر كيف فعل ربك بعاد . إرم ذات العماد . التي لم يخلق مثلها في البلاد . وثمود الذين جابوا الصخر بالواد . وفرعون ذي الأوتاد الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد . فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " .
وفيها بيان لتصورات الإنسان غير الإيمانية وقيمه غير الإيمانية . وهي ذات لون خاص في السورة تعبيرا وإيقاعا : " فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن " . . .
ثم الرد على هذه التصورات ببيان حقيقة حالهم التي تنبع منها هذه التصورات . وهي تشمل لونين من ألوان العبارة والتنغيم : " كلا . بل لا تكرمون اليتيم . ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا جما " . .
ويلاحظ أن هذا اللون الأخير هو قنطرة بين تقرير حالهم وما ينتظرهم في مآلهم . فقد جاء بعده : " كلا إذا دكت الأرض دكا دكا " . . الخ . . فهو وسط في شدة التنغيم بين التقرير الأول والتهديد الأخير !
ومن هذا الاستعراض السريع تبدو الألوان المتعددة في مشاهد السورة . وإيقاعاتها في تعبيرها وفي تنغيمها . . كما يبدو تعدد نظام الفواصل وتغير حروف القوافي . بحسب تنوع المعاني والمشاهد . فالسورة من هذا الجانب نموذج واف لهذا الأفق من التناسق الجمالي في التعبير القرآني. فوق ما فيها عموما من جمال ملحوظ مأنوس !
فأما أغراض السورة الموضوعية التي يحملها هذا التعبير المتناسق الجميل . فنعرضها فيما يلي بالتفصيل :
* * *
" والفجر وليال عشر . والشفع والوتر . والليل إذا يسر . هل في ذلك قسم لذي حجر ؟ " . .
هذا القسم في مطلع السورة يضم هذه المشاهد والخلائق . ذات الأرواح اللطيفة المأنوسة الشفيقة : " والفجر " . . ساعة تنفس الحياة في يسر ، وفرح ، وابتسام ، وإيناس ودود ندي ، والوجود الغافي يستيقظ رويدا رويدا ، وكأن أنفاسه مناجاة ، وكأن تفتحه ابتهال !
" وليال عشر " أطلقها النص القرآني ووردت فيها روايات شتى . . قيل هي العشر من ذي الحجة ، وقيل هي العشر من المحرم . وقيل هي العشر من رمضان . . وإطلاقها هكذا أوقع وأندى . فهي ليال عشر يعلمها الله . ولها عنده شأن . تلقي في السياق ظل الليلات ذات الشخصية الخاصة . وكأنها خلائق حية معينة ذوات أرواح ، تعاطفنا ونعاطفها من خلال التعبير القرآني الرفاف !
" والشفع والوتر " . . يطلقان روح الصلاة والعبادة في ذلك الجو المأنوس الحبيب . جو الفجر والليالي العشر . . " ومن الصلاة الشفع والوتر " [ كما جاء في حديث أخرجه الترمذي ] وهذا المعنى هو أنسب المعاني في هذا الجو . حيث تلتقي روح العبادة الخاشعة ، بروح الوجود الساجية ! وحيث تتجاوب الأرواح العابدة مع أرواح الليالي المختارة ، وروح الفجر الوضيئة .
" والليل إذا يسر " . . والليل هنا مخلوق حي ، يسري في الكون ، وكأنه ساهر يجول في الظلام ! أو مسافر يختار السرى لرحلته البعيدة ! يا لأناقة التعبير ! ويا لأنس المشهد ! ويا لجمال النغم ! ويا للتناسق مع الفجر ، والليالي العشر . والشفع والوتر !
إنها ليست ألفاظا وعبارات . إنما هي أنسام من أنسام الفجر ، وأنداء مشعشعة بالعطر ! أم إنه النجاء الأليف للقلب ؟ والهمس اللطيف للروح ؟ واللمس الموحي للضمير ؟
إنه الجمال . . الجمال الحبيب الهامس اللطيف . الجمال الذي لا يدانيه جمال التصورات الشاعرية الطليقة . لأنه الجمال الإبداعي ، المعبر في الوقت ذاته عن حقيقة .
ومن ثم يعقب عليه في النهاية : - " هل في ذلك قسم لذي حجر ؟ " وهو سؤال للتقرير . إن في ذلك قسما لذي لب وعقل . إن في ذلك مقنعا لمن له إدراك وفكر . ولكن صيغة الاستفهام - مع إفادتها التقرير - أرق حاشية . فهي تتناسق مع ذلك الجو الهامس الرقيق !
* * *
الكفار أما المقسم عليه بذلك القسم ، فقد طواه السياق ، ليفسره ما بعده ، فهو موضوع الطغيان والفساد ، وأخذ ربك لأهل الطغيان والفساد ، فهو حق واقع يقسم عليه بذلك القسم في تلميح يناسب لمسات السورة الخفيفة على وجه الإجمال :
" ألم تر كيف فعل ربك بعاد ، إرم ذات العماد ، التي لم يخلق مثلها في البلاد ؟ وثمود الذين جابوا الصخر بالواد ؟ وفرعون ذي الأوتاد ؟ . . الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد ، فصب عليهم ربك سوط عذاب ؟ إن ربك لبالمرصاد " . .
وصيغة الاستفهام في مثل هذا السياق أشد إثارة لليقظة والالتفات . والخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ابتداء . ثم هو لكل من تتأتى منه الرؤية أو التبصر في مصارع أولئك الأقوام ، وكلها مما كان المخاطبون بالقرآن أول مرة يعرفونه ؛ ومما تشهد به الآثار والقصص الباقية في الأجيال المتعاقبة ، وإضافة الفعل إلى " ربك " فيها للمؤمن طمأنينة وأنس وراحة . وبخاصة أولئك الذين كانوا في مكة يعانون طغيان الطغاة ، وعسف الجبارين من المشركين ، الواقفين للدعوة وأهلها بالمرصاد .
وقد جمع الله في هذه الآيات القصار مصارع أقوى الجبارين الذين عرفهم التاريخ القديم . . مصرع : " عاد إرم " وهي عاد الأولى . وقيل : إنها من العرب العاربة أو البادية . وكان مسكنهم بالأحقاف وهي كثبان الرمال . في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن . وكانوا بدوا ذوي خيام تقوم على عماد . وقد وصفوا في القرآن بالقوة والبطش ، فقد كانت قبيلة عاد هي أقوى قبيلة في وقتها وأميزها : " التي لم يخلق مثلها في البلاد " في ذلك الأوان . .
" وثمود الذين جابوا الصخر بالواد " . . وكانت ثمود تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام . وقد قطعت الصخر وشيدته قصورا ؛ كما نحتت في الجبال ملاجئ ومغارات . .
" وفرعون ذي الأوتاد " . . وهي على الأرجح الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان . وفرعون المشار إليه هنا هو فرعون موسى الطاغية الجبار .
هؤلاء هم " الذين طغوا في البلاد ، فأكثروا فيها الفساد " . . وليس وراء الطغيان إلا الفساد . فالطغيان يفسد الطاغية ، ويفسد الذين يقع عليهم الطغيان سواء . كما يفسد العلاقات والارتباطات في كل جوانب الحياة . ويحول الحياة عن خطها السليم النظيف ، المعمر الباني ، إلى خط آخر لا تستقيم معه خلافة الإنسان في الأرض بحال . .
إنه يجعل الطاغية أسير هواه ، لأنه لا يفيء إلى ميزان ثابت ، ولا يقف عند حد ظاهر ، فيفسد هو أول من يفسد ؛ ويتخذ له مكانا في الأرض غير مكان العبد المستخلف ؛ وكذلك قال فرعون . . " أنا ربكم الأعلى " عندما أفسده طغيانه ، فتجاوز به مكان العبد المخلوق ، وتطاول به إلى هذا الادعاء المقبوح ، وهو فساد أي فساد .
ثم هو يجعل الجماهير أرقاء أذلاء ، مع السخط الدفين والحقد الكظيم ، فتتعطل فيهم مشاعر الكرامة الإنسانية ، وملكات الابتكار المتحررة التي لا تنمو في غير جو الحرية . والنفس التي تستذل تأسن وتتعفن ، وتصبح مرتعا لديدان الشهوات الهابطة والغرائز المريضة . وميدانا للانحرافات مع انطماس البصيرة والإدراك . وفقدان الأريحية والهمة والتطلع والارتفاع ، وهو فساد أي فساد . .
ثم هو يحطم الموازين والقيم والتصورات المستقيمة ، لأنها خطر على الطغاة والطغيان . فلابد من تزييف للقيم ، وتزوير في الموازين ، وتحريف للتصورات كي تقبل صورة البغي البشعة ، وتراها مقبولة مستساغة . . وهو فساد أي فساد .
فلما أكثروا في الأرض الفساد ، كان العلاج هو تطهير وجه الأرض من الفساد :
" فصب عليهم ربك سوط عذاب . إن ربك لبالمرصاد " . .
فربك راصد لهم ومسجل لأعمالهم . فلما أن كثر الفساد وزاد صب عليهم سوط عذاب ، وهو تعبير يوحي بلذع العذاب حين يذكر السوط ، وبفيضه وغمره حين يذكر الصب . حيث يجتمع الألم اللاذع والغمرة الطاغية ، على الطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد .
ومن وراء المصارع كلها تفيض الطمأنينة على القلب المؤمن وهو يواجه الطغيان في أي زمان وأي مكان . ومن قوله تعالى : " إن ربك لبالمرصاد " تفيض طمأنينة خاصة . فربك هناك . راصد لا يفوته شيء . مراقب لا يند عنه شيء . فليطمئن بال المؤمن ، ولينم ملء جفونه . فإن ربه هناك ! . . بالمرصاد . . للطغيان والشر والفساد
وهكذا نرى هنا نماذج من قدر الله في أمر الدعوة ، غير النموذج التي تعرضه سورة البروج لأصحاب الأخدود . وقد كان القرآن - ولا يزال - يربي المؤمنين بهذا النموذج وذاك . وفق الحالات والملابسات . ويعد نفوس المؤمنين لهذا وذاك على السواء . لتطمئن على الحالين . وتتوقع الأمرين ، وتكل كل شيء لقدر الله يجريه كما يشاء .
* * *
" إن ربك لبالمرصاد " . . يرى ويحسب ويحاسب ويجازي ، وفق ميزان دقيق لا يخطئ ولا يظلم ولا يأخذ بظواهر الأمور لكن بحقائق الأشياء . . فأما الإنسان فتخطئ موازينه وتضل تقديراته ، ولا يرى إلا الظواهر ، ما لم يتصل بميزان الله :
" فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه ، فيقول : ربي أكرمن . وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول : ربي أهانن " . .
فهذا هو تصور الإنسان لما يبتليه الله به من أحوال ، ومن بسط وقبض ، ومن توسعة وتقدير . . يبتليه بالنعمة والإكرام . بالمال أو المقام . فلا يدرك أنه الابتلاء ، تمهيدا للجزاء . إنما يحسب هذا الرزق وهذه المكانة دليلا على استحقاقه عند الله للإكرام ، وعلامة على اصطفاء الله له واختياره . فيعتبر البلاء جزاء والامتحان نتيجة ! ويقيس الكرامة عند الله بعرض هذه الحياة ! ويبتليه بالتضييق عليه في الرزق ، فيحسب الابتلاء جزاء كذلك ، ويحسب الاختبار عقوبة ، ويرى في ضيق الرزق مهانة عند الله ، فلو لم يرد مهانته ما ضيق عليه رزقه . .
وهو في كلتا الحالتين مخطئ في التصور ومخطئ في التقدير . فبسط الرزق أو قبضه ابتلاء من الله لعبده . ليظهر منه الشكر على النعمة أو البطر . ويظهر منه الصبر على المحنة أو الضجر . والجزاء على ما يظهر منه بعد . وليس ما أعطي من عرض الدنيا أو منع هو الجزاء . . وقيمة العبد عند الله لا تتعلق بما عنده من عرض الدنيا . ورضى الله أو سخطه لا يستدل عليه بالمنح والمنع في هذه الأرض . فهو يعطي الصالح والطالح ، ويمنع الصالح والطالح . ولكن ما وراء هذا وذلك هو الذي عليه المعول . إنه يعطي ليبتلي ويمنع ليبتلي . والمعول عليه هو نتيجة الابتلاء !
غير أن الإنسان - حين يخلو قلبه من الإيمان - لا يدرك حكمة المنع والعطاء . ولا حقيقة القيم في ميزان الله . . فإذا عمر قلبه بالإيمان اتصل وعرف ما هنالك . وخفت في ميزانه الأعراض الزهيدة ، وتيقظ لما وراء الابتلاء من الجزاء ، فعمل له في البسط والقبض سواء . واطمأن إلى قدر الله به في الحالين ؛ وعرف قدره في ميزان الله بغير هذه القيم الظاهرة الجوفاء !
* * *
وقد كان القرآن يخاطب في مكة أناسا - يوجد أمثالهم في كل جاهلية تفقد اتصالها بعالم أرفع من الأرض وأوسع - أناسا ذلك ظنهم بربهم في البسط والقبض . وذلك تقديرهم لقيم الناس في الأرض . ذلك أن المال والجاه عندهم كل شيء . وليس وراءهما مقياس ! ومن ثم كان تكالبهم على المال عظيما ، وحبهم له حبا طاغيا ، مما يورثهم شراهة وطمعا . كما يورثهم حرصا وشحا . . ومن ثم يكشف لهم عن ذوات صدورهم في هذا المجال ، ويقرر أن هذا الشره والشح هما علة خطئهم في إدراك معنى الابتلاء من وراء البسط والقبض في الأرزاق .
" كلا . بل لا تكرمون اليتيم ، ولا تحاضون على طعام المسكين . وتأكلون التراث أكلا لما ، وتحبون المال حبا جما " . .
كلا ليس الأمر كما يقول الإنسان الخاوي من الإيمان . ليس بسط الرزق دليلا على الكرامة عند الله . وليس تضييق الرزق دليلا على المهانة والإهمال . إنما الأمر أنكم لا تنهضون بحق العطاء ، ولا توفون بحق المال . فأنتم لا تكرمون اليتيم الصغير الذي فقد حاميه وكافله حين فقد أباه ، ولا تتحاضون فيما بينكم على إطعام المسكين . الساكن الذي لا يتعرض للسؤال وهو محتاج ! وقد اعتبر عدم التحاض والتواصي على إطعام المسكين قبيحا مستنكرا . كما يوحي بضرورة التكافل في الجماعة في التوجيه إلى الواجب وإلى الخير العام . وهذه سمة الإسلام .
. . إنكم لا تدركون معنى الابتلاء . فلا تحاولون النجاح فيه ، بإكرام اليتيم والتواصي على إطعام المسكين ، بل أنتم - على العكس - تأكلون الميراث أكلا شرها جشعا ؛ وتحبون المال حبا كثيرا طاغيا ، لا يستبقي في نفوسكم أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام .
وقد كان الإسلام يواجه في مكة - كما ذكرنا من قبل - حالة من التكالب على جمع المال بكافة الطرق ، تورث القلوب كزازة وقساوة . وكان ضعف اليتامى مغريا بانتهاب أموالهم وبخاصة الإناث منهم في صور شتى ؛ وبخاصة ما يتعلق في الميراث [ كما سبق بيانه في مواضع متعددة في الظلال ] كما كان حب المال وجمعه بالربا وغيره ظاهرة بارزة في المجتمع المكي قبل الإسلام . وهي سمة الجاهليات في كل زمان ومكان ! حتى الآن !
وفي هذه الآيات فوق الكشف عن واقع نفوسهم ، تنديد بهذا الواقع ، وردع عنه ، يتمثل في تكرار كلمة " كلا " كما يتمثل في بناء التعبير وإيقاعه ، وهو يرسم بجرسه شدة التكالب وعنفه :
" وتأكلون التراث أكلا لما . وتحبون المال حبا جما ! " . .
* * *
وعند هذا الحد من فضح حقيقة حالهم المنكرة ، بعد تصوير خطأ تصورهم في الابتلاء بالمنع والعطاء ، يجيء التهديد الرعيب بيوم الجزاء وحقيقته ، بعد الابتلاء ونتيجته ، في إيقاع قوي شديد :
" كلا . إذا دكت الأرض دكا دكا . وجاء ربك والملك صفا صفا . وجيء يومئذ بجهنم . يومئذ يتذكر الإنسان وأنى له الذكرى ؟ يقول : يا ليتني قدمت لحياتي . فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد " . .
ودك الأرض ، وتحطيم معالمها وتسويتها ؛ وهو أحد الانقلابات الكونية التي تقع في يوم القيامة . فأما مجيء ربك والملائكة صفا صفا ، فهو أمر غيبي لا ندرك طبيعته ونحن في هذه الآرض . ولكنا نحس وراء التعبير بالجلال والهول . كذلك المجيء بجهنم . نأخذ منه قربها منهم وقرب المعذبين منها وكفى . فأما حقيقة ما يقع وكيفيته فهي من غيب الله المكنون ليومه المعلوم .
إنما يرتسم من وراء هذه الآيات ، ومن خلال موسيقاها الحادة التقسيم ، الشديدة الأسر ، مشهد ترجف له القلوب ، وتخشع له الأبصار . والأرض تدك دكا دكا ! والجبار المتكبر يتجلى ويتولى الحكم والفصل ، ويقف الملائكة صفا صفا . ثم يجاء بجهنم فتقف متأهبة هي الأخرى !
" يومئذ يتذكر الإنسان " . . الإنسان الذي غفل عن حكمة الابتلاء بالمنع والعطاء . والذي أكل التراث أكلا لما ، وأحب المال حبا جما . والذي لم يكرم اليتيم ولم يحض على طعام المسكين . والذي طغى وأفسد وتولى . . يومئذ يتذكر . يتذكر الحق ويتعظ بما يرى . . ولكن لقد فات الأوان " وأنى له الذكرى ؟ " . . ولقد مضى عهد الذكرى ، فما عادت تجدي هنا في دار الجزاء أحدا ! وإن هي إلا الحسرة على فوات الفرصة في دار العمل في الحياة الدنيا !
وحين تتجلى له هذه الحقيقة : " يقول : يا ليتني قدمت لحياتي " . . يا ليتني قدمت شيئا لحياتي هنا . فهي الحياة الحقيقية التي تستحق اسم الحياة . وهي التي تستأهل الاستعداد والتقدمة والادخار لها . يا ليتني . . أمنية فيها الحسرة الظاهرة ، وهي أقسى ما يملكه الإنسان في الآخرة !
ثم يصور مصيره بعد الحسرة الفاجعة والتمنيات الضائعة : " فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ، ولا يوثق وثاقه أحد " . . إنه الله القهار الجبار . الذي يعذب يومئذ عذابه الفذ الذي لا يملك مثله أحد . والذي يوثق وثاقه الفذ الذي لا يوثق مثله أحد . وعذاب الله ووثاقه يفصلهما القرآن في مواضع أخرى في مشاهد القيامة الكثيرة المنوعة في ثنايا القرآن كله ، ويجملهما هنا حيث يصفهما بالتفرد بلا شبيه من عذاب البشر ووثاقهم . أو من عذاب الخلق جميعا ووثاقهم . وذلك مقابل ما أسلف في السورة من طغيان الطغاة ممثلين في عاد وثمود وفرعون ، وإكثارهم من الفساد في الأرض ، مما يتضمن تعذيب الناس وربطهم بالقيود والأغلال . فها هو ذا ربك - أيها النبي وأيها المؤمن - يعذب ويوثق من كانوا يعذبون الناس ويوثقونهم . ولكن شتان بين عذاب وعذاب ، ووثاق ووثاق . . وهان ما يملكه الخلق من هذا الأمر ، وجل ما يفعله صاحب الخلق والأمر . فليكن عذاب الطغاة للناس ووثاقهم ما يكون . فسيعذبون هم ويوثقون ، عذابا ووثاقا وراء التصورات والظنون !
* * *
وفي وسط هذا الهول المروع ، وهذا العذاب والوثاق ، الذي يتجاوز كل تصور تنادى " النفس " المؤمنة من الملأ الأعلى :
" يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلى ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي . وادخلي جنتي " . .
هكذا في عطف وقرب : " يا أيتها " وفي روحانية وتكريم : " يا أيتها النفس " . . وفي ثناء وتطمين . . " يا أيتها النفس المطمئنة " . . وفي وسط الشد والوثاق ، الانطلاق والرخاء : " ارجعي إلى ربك " ارجعي إلى مصدرك بعد غربة الأرض وفرقة المهد . ارجعي إلى ربك بما بينك وبينه من صلة ومعرفة ونسبة . . " راضية مرضية " بهذه النداوة التي تفيض على الجو كله بالتعاطف والرضى . . " فادخلي في عبادي " . . المقربين المختارين لينالوا هذه القربى . . " وادخلي جنتي " . . في كنفي ورحمتي . .
إنها عطفة تنسم فيها أرواح الجنة . منذ النداء الأول : " يا أيتها النفس المطمئنة " . . المطمئنة إلى ربها . المطمئنة إلى طريقها . المطمئنة إلى قدر الله بها . المطمئنة في السراء والضراء ، وفي البسط والقبض ، وفي المنع والعطاء . المطمئنة فلا ترتاب والمطمئنة فلا تنحرف . والمطمئنة فلا تتلجلج في الطريق . والمطمئنة فلا ترتاع في يوم الهول الرعيب . .
ثم تمضي الآيات تباعا تغمر الجو كله بالأمن والرضى والطمأنينة ، والموسيقى الرخية الندية حول المشهد ترف بالود والقربى والسكينة .
ألا إنها الجنة بأنفاسها الرضية الندية ، تطل من خلال هذه الآيات . وتتجلى عليها طلعة الرحمن الجليلة البهية . . .
سورة البلد
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2)
سورة البلد
تعريف بسورة البلد الدرس الأول:1 - 4 القسم بمكة والرسول والتوالد على كبد وتعب الإنسان
تضم هذه السورة الصغيرة جناحيها على حشد من الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني ذات الإيحاءات الدافعة واللمسات الموحية . حشد يصعب أن يجتمع في هذا الحيز الصغير في غير القرآن الكريم , وأسلوبه الفريد في التوقيع على أوتار القلب البشري بمثل هذه اللمسات السريعة العميقة . .
تبدأ السورة بالتلويح بقسم عظيم , على حقيقة في حياة الإنسان ثابتة:
(لا أقسم بهذا البلد . وأنت حل بهذا البلد . ووالد وما ولد . لقد خلقنا الإنسان في كبد).
والبلد هو مكة . بيت الله الحرام . أول بيت وضع للناس في الأرض . ليكون مثابة لهم وأمنا . يضعون عنده سلاحهم وخصوماتهم وعداواتهم , ويلتقون فيه مسالمين , حراما بعضهم على بعض , كما أن البيت وشجره وطيره وكل حي فيه حرام . ثم هو بيت إبراهيم والد إسماعيل أبي العرب والمسلمين أجمعين .
ويكرم الله نبيه محمدا [ ص ] فيذكره ويذكر حله بهذا البلد وإقامته , بوصفها ملابسة تزيد هذا البلد حرمة , وتزيده شرفا , وتزيده عظمة . وهي إيماءة ذات دلالة عميقة في هذا المقام . والمشركون يستحلون
وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ (4)
حرمة البيت , فيؤذون النبي والمسلمين فيه , والبيت كريم , يزيده كرما أن النبي [ ص ] حل فيه مقيم . وحين يقسم الله - سبحانه - بالبلد والمقيم فيه , فإنه يخلع عليه عظمة وحرمة فوق حرمته , فيبدو موقف المشركين الذين يدعون أنهم سدنة البيت وأبناء إسماعيل وعلى ملة إبراهيم , موقفا منكرا قبيحا من جميع الوجوه .
ولعل هذا المعنى يرشح لاعتبار:(ووالد وما ولد). . إشارة خاصة إلى إبراهيم , أو إلى إسماعيل - عليهما السلام - وإضافة هذا إلى القسم بالبلد والنبي المقيم به , وبانيه الأول وما ولد . . وإن كان هذا الاعتبار لا ينفي أن يكون المقصود هو:والد وما ولد إطلاقا . وأن تكون هذه إشارة إلى طبيعة النشأة الإنسانية , واعتمادها على التوالد . تمهيدا للحديث عن حقيقة الإنسان التي هي مادة السورة الأساسية .
وللأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في هذا الموضع من تفسيره للسورة في "جزء عم" لفتة لطيفة تتسق في روحها مع روح هذه "الظلال" فنستعيرها منه هنا . . قال رحمه الله:
"ثم أقسم بوالد وما ولد , ليلفت نظرنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود - وهو طور التوالد - وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع , وإلى ما يعانيه الوالد والمولود في إبداء النشء وتكميل الناشئ , وإبلاغه حده من النمو المقدر له .
"فإذا تصورت في النبات كم تعاني البذرة في أطوار النمو:من مقاومة فواعل الجو , ومحاولة إمتصاص الغذاء مما حولها من العناصر , إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان , وتستعد إلى أن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها , وتزين الوجود بجمال منظرها - إذا أحضرت ذلك في ذهنك , والتفت إلى ما فوق النبات من الحيوان والإنسان , حضر لك من أمر الوالد والمولود فيهما ما هو أعظم , ووجدت من المكابدة والعناء الذي يلاقيه كل منهما في سبيل حفظ الأنواع , واستبقاء جمال الكون بصورها ما هو أشد وأجسم" . . انتهى . .
يقسم هذا القسم على حقيقة ثابتة في حياة الكائن الإنساني:
(لقد خلقنا الإنسان في كبد). .
في مكابدة ومشقة , وجهد وكد , وكفاح وكدح . . كما قال في السورة الأخرى:(يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه). .
الخلية الأولى لا تستقر في الرحم حتى تبدأ في الكبد والكدح والنصب لتوفر لنفسها الظروف الملائمة للحياة والغذاء - بإذن ربها - وما تزال كذلك حتى تنتهي إلى المخرج , فتذوق من المخاض - إلى جانب ما تذوقه الوالدة - ما تذوق . وما يكاد الجنين يرى النور حتى يكون قد ضغط ودفع حتى كاد يختنق في مخرجه من الرحم !
ومنذ هذه اللحظة يبدأ الجهد الأشق والكبد الأمر . يبدأ الجنين ليتنفس هذا الهواء الذي لا عهد له به , ويفتح فمه ورئتيه لأول مرة ليشهق ويزفر في صراخ يشي بمشقة البداية ! وتبدأ دورته الهضمية ودورته الدموية في العمل على غير عادة ! ويعاني في إخراج الفضلات حتى يروض أمعاءه على هذا العمل الجديد ! وكل خطوة بعد ذلك كبد , وكل حركة بعد ذلك كبد . والذي يلاحظ الوليد عندما يهم بالحبو وعندما يهم بالمشي يدرك كم يبذل من الجهد العنيف للقيام بهذه الحركة الساذجة .
وعند بروز الأسنان كبد . وعند انتصاب القامة كبد . وعند الخطو الثابت كبد . وعند التعلم كبد . وعند التفكر كبد . وفي كل تجربة جديدة كبد كتجربة الحبو والمشي سواء !
ثم تفترق الطرق , وتتنوع المشاق ; هذا يكدح بعضلاته . وهذا يكدح بفكره . وهذا يكدح بروحه . وهذا يكدح للقمة العيش وخرقة الكساء . وهذا يكدح ليجعل الألف ألفين وعشرة آلاف . . . وهذا يكدح لملك أو جاه ,
أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
وهذا يكدح في سبيل الله . وهذا يكدح لشهوة ونزوة . وهذا يكدح لعقيدة ودعوة . وهذا يكدح إلى النار . وهذا يكدح إلى الجنة . . والكل يحمل حمله ويصعد الطريق كادحا إلى ربه فيلقاه ! وهناك يكون الكبد الأكبر للأشقياء . وتكون الراحة الكبرى للسعداء .
إنه الكبد طبيعة الحياة الدنيا . تختلف أشكاله وأسبابه . ولكنه هو الكبد في النهاية . فأخسر الخاسرين هو من يعاني كبد الحياة الدنيا لينتهي إلى الكبد الأشق الأمر في الأخرى . وأفلح الفالحين من يكدح في الطريق إلى ربه ليلقاه بمؤهلات تنهي عنه كبد الحياة , وتنتهي به إلى الراحة الكبرى في ظلال الله .
على أن في الأرض ذاتها بعض الجزاء على ألوان الكدح والعناء . إن الذي يكدح للأمر الجليل ليس كالذي يكدح للأمر الحقير . ليس مثله طمأنينة بال وارتياحا للبذل , واسترواحا بالتضحية , فالذي يكدح وهو طليق من أثقال الطين , أو للانطلاق من هذه الأثقال , ليس كالذي يكدح ليغوص في الوحل ويلصق بالأرض كالحشرات والديدان ! والذي يموت في سبيل دعوة ليس كالذي يموت في سبيل نزوة . . ليس مثله في خاصة شعوره بالجهد والكبد الذي يلقاه .
الدرس الثاني:5 - 7 الإنكار على بعض تصرفات الإنسان المالية
وبعد تقرير هذه الحقيقة عن طبيعة الحياة الإنسانية يناقش بعض دعاوى "الإنسان" وتصوراته التي تشي بها تصرفاته:
(أيحسب أن لن يقدر عليه أحد ? يقول:أهلكت مالا لبدا . أيحسب أن لم يره أحد ?).
إن هذا "الإنسان" المخلوق في كبد , الذي لا يخلص من عناء الكدح والكد , لينسى حقيقة حاله وينخدع بما يعطيه خالقه من أطراف القوة والقدرة والوجدان والمتاع , فيتصرف تصرف الذي لا يحسب أنه مأخوذ بعمله , ولا يتوقع أن يقدر عليه قادر فيحاسبه . . فيطغى ويبطش ويسلب وينهب , ويجمع ويكثر , ويفسق ويفجر , دون أن يخشى ودون أن يتحرج . . وهذه هي صفة الإنسان الذي يعرى قلبه من الإيمان .
ثم إنه إذا دعي للخير والبذل [ في مثل المواضع التي ورد ذكرها في السورة ](يقول:أهلكت مالا لبدا). . وأنفقت شيئا كثيرا فحسبي ماأنفقت وما بذلت !(أيحسب أن لم يره أحد)? وينسى أن عين الله عليه , وأن علمه محيط به , فهو يرى ما أنفق , ولماذا أنفق ? ولكن هذا "الإنسان" كأنما ينسى هذه الحقيقة , ويحسب أنه في خفاء عن عين الله !
الدرس الثالث:8 - 10 تذكير الإنسان ببعض نعم الله عليه
وأمام هذا الغرور الذي يخيل للإنسان أنه ذو منعة وقوة , وأمام ضنه بالمال وادعائه أنه بذل الكثير , يجابهه القرآن بفيض الآلاء عليه في خاصة نفسه , وفي صميم تكوينه , وفي خصائص طبيعته واستعداداته تلك الآلاء التي لم يشكرها ولم يقم بحقها عنده:
(ألم نجعل له عينين ? ولسانا وشفتين ? وهديناه النجدين ?). .
إن الإنسان يغتر بقوته , والله هو المنعم عليه بهذا القدر من القوة . ويضن بالمال . والله هو المنعم عليه بهذا المال . ولا يهتدي ولا يشكر , وقد جعل له من الحواس ما يهديه في عالم المحسوسات:جعل له عينين على هذا القدر من الدقة في تركيبهما وفي قدرتهما على الإبصار . وميزه بالنطق , وأعطاه أداته المحكمة:(ولسانا وشفتين). . ثم أودع نفسه خصائص القدرة على إدراك الخير والشر , والهدى والضلال , والحق والباطل:(وهديناه النجدين)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16)
. . ليختار أيهما شاء , ففي طبيعته هذا الاستعداد المزدوج لسلوك أي النجدين . والنجد الطريق المرتفع . وقد اقتضت مشيئة الله أن تمنحه القدرة على سلوك أيهما شاء , وأن تخلقه بهذا الازدواج طبقا لحكمة الله في الخلق , وإعطاء كل شيء خلقه , وتيسيره لوظيفته في هذا الوجود .
وهذه الآية تكشف عن حقيقة الطبيعة الإنسانية ; كما أنها تمثل قاعدة "النظرية النفسية الإسلامية " هي والآيات الأخرى في سورة الشمس:(ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها)[ وسنرجئ عرضها بشيء من التفصيل إلى الموضع الآخر في سورة الشمس لأنه أوسع مجالا ] .
الدرس الرابع:11 - 18 دعوة الناس لاقتحام العقبة وتوجيههم إلى البذل والنفقة والصبر والرحمة
هذه الآلاء التي أفاضها الله على جنس الإنسان في خاصة نفسه , وفي صميم تكوينه , والتي من شأنها أن تعينه على الهدى:عيناه بما تريان في صفحات هذا الكون من دلائل القدرة وموحيات الإيمان ; وهي معروضة في صفحات الكون مبثوثة في حناياه . ولسانه وشفتاه وهما أداة البيان والتعبير ; وعنهما يملك الإنسان أن يفعل الشيء الكثير . والكلمة أحيانا تقوم مقام السيف والقذيفة وأكثر ; وأحيانا تهوي بصاحبها في النار كما ترفعه أو تخفضه . في هذه النار . . " عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال:كنت مع النبي [ ص ] في سفر , فأصبحت يوما قريبا منه , ونحن نسير , فقلت:يا رسول الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة , ويباعدني عن النار . قال:سألت عن عظيم وإنه ليسير على من يسره الله عليه:تعبد الله ولا تشرك به شيئا , وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت . ثم قال:ألا أدلك على أبواب الخير ? قلت:بلى يا رسول الله . قال:الصوم جنة . والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار , وصلاة الرجل في جوف الليل شعار الصالحين , ثم تلا قوله تعالى: (تتجافى جنوبهم عن المضاجع . . . . .)ثم قال:ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه ? قلت:بلى يا رسول الله . قال:رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة وذروة سنامه الجهاد . ثم قال:ألا أخبرك بملاك ذلك كله ? قلت:بلى يا رسول الله . قال:كف عليك هذا , وأشار إلى لسانه . قلت:يا نبي الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ? قال:ثكلتك أمك ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال:على مناخرهم - إلا حصائد ألسنتهم ? " رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة .
وهدايته إلى إدراك الخير والشر , ومعرفة الطريق إلى الجنة والطريق إلى النار , وإعانته على الخير بهذه الهداية . .
هذه الآلاء كلها لم تدفع هذا "الإنسان" إلى اقتحام العقبة التي تحول بينه وبين الجنة . هذه العقبة التي يبينها الله له في هذه الآيات:
فلا اقتحم العقبة . . وما أدراك ما العقبة ? فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة , يتيما ذا مقربة , أو مسكينا ذا متربة . ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . أولئك أصحاب الميمنة . .
هذه هي العقبة التي يقتحمها الإنسان - إلا من استعان بالإيمان - هذه هي العقبة التي تقف بينه وبين الجنة . لو تخطاها لوصل ! وتصويرها كذلك حافز قوي , واستجاشة للقلب البشري , وتحريك له ليقتحم العقبة وقد وضحت ووضح معها أنها الحائل بينه وبين هذا المكسب الضخم . .(فلا اقتحم العقبة)! ففيه تحضيض ودفع وترغيب !
ثم تفخيم لهذا الشأن وتعظيم:(وما أدراك ما العقبة !). . إنه ليس تضخيم العقبة , ولكنه تعظيم شأنها عند الله , ليحفز به "الإنسان" إلى اقتحامها وتخطيها ; مهما تتطلب من جهد ومن كبد . فالكبد واقع واقع . وحين يبذل لاقتحام العقبة يؤتي ثمره ويعوض المقتحم عما يكابده , ولا يذهب ضياعا وهو واقع واقع على كل حال !
ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18)
ويبدأ كشف العقبة وبيان طبيعتها بالأمر الذي كانت البيئة الخاصة التي تواجهها الدعوة في أمس الحاجة إليه:فك الرقاب العانية ; وإطعام الطعام والحاجة إليه ماسة للضعاف الذين تقسو عليهم البيئة الجاحدة المتكالبة , وينتهي بالأمر الذي لا يتعلق ببيئة خاصة ولا بزمان خاص , والذي تواجهه النفوس جميعا , وهي تتخطى العقبة إلى النجاة:(ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة). . .
وقد ورد أن فك الرقبة هو المشاركة في عتقها , وأن العتق هو الاستقلال بهذا . . وأيا ما كان المقصود فالنتيجة الحاصلة واحدة .
وقد نزل هذا النص والإسلام في مكة محاصر ; وليست له دولة تقوم على شريعته . وكان الرق عاما في الجزيرة العربية وفي العالم من حولها . وكان الرقيق يعاملون معاملة قاسية على الإطلاق . فلما أن أسلم بعضهم كعمار بن ياسر وأسرته , وبلال بن رباح , وصهيب . . وغيرهم - رضي الله عنهم جميعا - اشتد عليهم البلاء من سادتهم العتاة , وأسلموهم إلى تعذيب لا يطاق . وبدا أن طريق الخلاص لهم هو تحريرهم بشرائهم من سادتهم القساة , فكان أبو بكر - رضي الله عنه - هو السابق كعادته دائما إلى التلبية والاستجابة في ثبات وطمأنينة واستقامة . .
قال ابن اسحاق:"وكان بلال مولى أبي بكر - رضي الله عنهما - لبعض بني جمح مولدا من مولديهم وكان صادق الإسلام , طاهر القلب , وكان أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح يخرجه إذا حميت الظهيرة فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة ; ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره , ثم يقول له لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى . فيقول وهو في ذلك البلاء:أحد أحد . . .
"حتى مر به أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - يوما وهم يصنعون ذلك به - وكانت دار أبي بكر في بني جمح . فقال لأمية بن خلف , ألا تتقي الله في هذا المسكين ? حتى متى ? قال:أنت الذي أفسدته فأنقذه مما ترى . فقال أبو بكر:أفعل . عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى , على دينك" أعطيكه به . قال:قد قبلت . قال:هو لك . فأعطاه أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - غلامه ذلك وأخذه وأعتقه .
"ثم أعتق معه على الإسلام قبل أن يهاجر إلى المدينة ست رقاب . بلال سابعهم:عامر بن فهيرة [ شهد بدرا وقتل يوم بئر معونة شهيدا ] وأم عبيس , وزنيرة . [ وأصيب بصرها حين أعتقها , فقالت قريش:ما أذهب بصرها إلا اللات والعزى ! فقالت:كذبوا وبيت الله ما تضر اللات والعزى وما تنفعان . فرد الله بصرها ] وأعتق النهدية وابنتها , وكانتا لامرأة من بني عبد الدار فمر بهما وقد بعثتهما سيدتهما بطحين لها وهي تقول:والله لا أعتقكما أبدا . فقال أبو بكر - رضي الله عنه - حل يا أم فلان [ أي تحللي من يمينك ] فقالت:حل ! أنت أفسدتهما فأعتقهما . قال فبكم هما ? قالت:بكذا وكذا . قال:قد أخذتهما وهما حرتان . أرجعا إليها طحينها . قالتا:أو نفرغ منه يا أبا بكر ثم نرده إليها ? قال:ذلك إن شئتما .
"ومر بجارية بني مؤمل - هي من بني عدي - وكانت مسلمة , وكان عمر بن الخطاب يعذبها لتترك الإسلام - وهو يومئذ مشرك - وهو يضربها , حتى إذا مل قال:إني أعتذر إليك , إني لم أتركك إلا ملالة ! فتقول:كذلك فعل الله بك ! فابتاعها أبو بكر فأعتقها" .
قال ابن إسحاق:وحدثني محمد بن عبد الله بن أبي عتيق , عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن بعض أهله , قال:قال أبو قحافة لأبي بكر:يا بني إني أراك تعتق رقابا ضعافا . فلو أنك إذا فعلت ما فعلت أعتقت رجالا جلدا يمنعونك ويقومون دونك ! قال:فقال أبو بكر رضي الله عنه:يا أبت إني إنما أريد ما أريد لله . . . " . .
لقد كان - رضي الله عنه - يقتحم العقبة وهو يعتق هذه الرقاب العانية . . لله . . وكانت الملابسات الحاضرة في البيئة تجعل هذا العمل يذكر في مقدمة الخطوات والوثبات لاقتحام العقبة في سبيل الله .
(أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة). .
والمسغبة:المجاعة , ويوم المجاعة الذي يعز فيه الطعام هو محك لحقيقة الإيمان . وقد كان اليتيم يجد في البيئة الجاهلية الجاحدة المتكالبة الخسف والغبن . ولو كان ذا قربى . وقد حفل القرآن بالوصية باليتيم . مما يدل على قسوة البيئة من حول اليتامى . وظلت هذه الوصايا تتوالى حتى في السور المدنية بمناسبة تشريعات الميراث والوصاية والزواج . وقد مر منها الكثير في سورة النساء خاصة . . وفي سورة البقرة وغيرهما . وكذلك إطعام المسكين ذي المتربة - أي اللاصق بالتراب من بؤسه وشدة حاله - في يوم المسغبة يقدمه السياق القرآني خطوة في سبيل اقتحام العقبة , لأنه محك للمشاعر الإيمانية من رحمة وعطف وتكافل وإيثار , ومراقبة لله في عياله , في يوم الشدة والمجاعة والحاجة . وهاتان الخطوتان:فك الرقاب وإطعام الطعام كانتا من إيحاءات البيئة الملحة , وإن كانت لهما صفة العموم , ومن ثم قدمها في الذكر . ثم عقب بالوثبة الكبرى الشاملة:
(ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر , وتواصوا بالمرحمة). . .
و(ثم)هنا ليست للتراخي الزمني , إنما هي للتراخي المعنوي باعتبار هذه الخطوة هي الأشمل والأوسع نطاقا والأعلى أفقا . وإلا فما ينفع فك رقاب ولا إطعام طعام بلا إيمان . فالإيمان مفروض وقوعه قبل فك الرقاب وإطعام الطعام . وهو الذي يجعل للعمل الصالح وزنا في ميزان الله . لأنه يصله بمنهج ثابت مطرد . فلا يكون الخير فلتة عارضة ترضية لمزاج متقلب , أو ابتغاء محمدة من البيئة أو مصلحة .
وكأنما قال:فك رقبة . أو إطعام في يوم ذي مسغبة , يتيما ذا مقربة , أو مسكينا ذا متربة . . وفوق ذلك كان من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة . فثم هنا لإفادة معنى الفضل والعلو .
والصبر هو العنصر الضروري للإيمان بصفة عامة , ولاقتحام العقبة بصفة خاصة . والتواصي به يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته . درجة تماسك الجماعة المؤمنة , وتواصيها على معنى الصبر , وتعاونها على تكاليف الإيمان . فهي أعضاء متجاوبة الحس . تشعر جميعا شعورا واحدا بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه , فيوصي بعضها بعضا بالصبر على العبء المشترك ; ويثبت بعضها بعضا فلا تتخاذل ; ويقوي بعضها بعضا فلا تنهزم . وهذا أمر غير الصبر الفردي . وإن يكن قائما على الصبر الفردي . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة . وهو ألا يكون عنصر تخذيل بل عنصر تثبيت , ولا يكون داعية هزيمة بل داعية اقتحام ; ولا يكون مثار جزع بل مهبط طمأنينة .
وكذلك التواصي بالمرحمة . فهو أمر زائد على المرحمة . إنه إشاعة الشعور بواجب التراحم في صفوف الجماعة عن طريق التواصي به , والتحاض عليه , واتخاذه واجبا جماعيا فرديا في الوقت ذاته , يتعارف عليه الجميع , ويتعاون عليه الجميع .
فمعنى الجماعة قائم في هذا التوجيه . وهو المعنى الذي يبرزه القرآن كما تبرزه أحاديث رسول الله [ ص ] لأهميته في تحقيق حقيقة هذا الدين . فهو دين جماعة , ومنهج أمة , مع وضوح التبعة الفردية والحساب الفردي فيه وضوحا كاملا . .
وأولئك الذين يقتحمون العقبة - كما وصفها القرآن وحددها -(أولئك أصحاب الميمنة). . وهم أصحاب
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ (20)
اليمين كما جاء في مواضع أخرى . أو أنهم أصحاب اليمين والحظ والسعادة . . وكلا المعنيين متصل في المفهوم الإيماني .
الدرس الخامس:19 - 20 الكفار أصحاب المشأمة في النار الموقدة
(والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة . عليهم نار مؤصدة). .
ولم يحتج هنا إلى ذكر أوصاف أخرى لفريق المشأمة غير أن يقول: (والذين كفروا بآياتنا). . لأن صفة الكفر تنهي الموقف . فلا حسنة مع الكفر . ولا سيئة إلا والكفر يتضمنها أو يغطي عليها . فلا ضرورة للقول بأنهم الذين لا يفكون الرقاب ولا يطعمون الطعام , ثم هم الذين كفروا بآياتنا . . فإذا كفروا فما هو بنافعهم شيء من ذلك حتى لو فعلوه !
وهم أصحاب المشأمة . أي أصحاب الشمال أو هم أصحاب الشؤم والنحس . . وكلاهما كذلك قريب في المفهوم الإيماني . وهؤلاء هم الذين بقوا وراء العقبة لم يقتحموها !
(عليهم نار مؤصدة). . أي مغلقة . . إما على المعنى القريب . أي أبوابها مغلقة عليهم وهم في العذاب محبوسون . وإما على لازم هذا المعنى القريب ; وهو أنهم لا يخرجون منها . فبحكم إغلاقها عليهم لا يمكن أن يزايلوها . . وهذان المعنيان متلازمان . .
هذه هي الحقائق الأساسية في حياة الكائن الإنساني , وفي التصور الإيماني . تعرض في هذا الحيز الصغير . بهذه القوة وبهذا الوضوح . . وهذه خاصية التعبير القرآني الفريد . . .
سورة الشمس
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3)
سورة الشمس
تعريف بسورة الشمس الدرس الأول:1 - 6 القسم بمشاهد كونية على طبيعة النفس الإنسانية
هذه السورة القصيرة ذات القافية الواحدة , والإيقاع الموسيقي الواحد , تتضمن عدة لمسات وجدانية تنبثق من مشاهد الكون وظواهره التي تبدأ بها السورة والتي تظهر كأنها إطار للحقيقة الكبيرة التي تتضمنها السورة . حقيقة النفس الإنسانية , واستعداداتها الفطرية , ودور الإنسان في شأن نفسه , وتبعته في مصيرها . . هذه الحقيقة التي يربطها سياق السورة بحقائق الكون ومشاهده الثابتة .
كذلك تتضمن قصة ثمود , وتكذيبها بإنذار رسولها , وعقرها للناقة , ومصرعها بعد ذلك وزوالها . وهي نموذج من الخيبة التي تصيب من لا يزكي نفسه , فيدعها للفجور , ولا يلزمها تقواها:كما جاء في الفقرة الأولى في السورة:(قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها). .
(والشمس وضحاها . والقمر إذا تلاها . والنهار إذا جلاها . والليل إذا يغشاها . والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها . وقد خاب من دساها). .
يقسم الله سبحانه بهذه الخلائق والمشاهد الكونية , كما يقسم بالنفس وتسويتها وإلهامها . ومن شأن هذا القسم أن يخلع على هذه الخلائق قيمة كبرى ; وأن يوجه إليها القلوب تتملاها , وتتدبر ماذا لها من قيمة وماذا
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا (5)
بها من دلالة , حتى استحقت أن يقسم بها الجليل العظيم .
ومشاهد الكون وظواهره إطلاقا بينها وبين القلب الإنساني لغة سرية ! متعارف عليها في صميم الفطرة وأغوار المشاعر . وبينها وبين الروح الإنساني تجاوب ومناجاة بغير نبرة ولا صوت , وهي تنطق للقلب , وتوحي للروح , وتنبض بالحياة المأنوسة للكيان الإنساني الحي , حيثما التقى بها وهو مقبل عليها , متطلع عندها إلى الأنس والمناجاة والتجاوب والإيحاء .
ومن ثم يكثر القرآن من توجيه القلب إلى مشاهد الكون بشتى الأساليب , في شتى المواضع . تارة بالتوجيهات المباشرة , وتارة باللمسات الجانبية كهذا القسم بتلك الحقائق والمشاهد , ووضعها إطارا لما يليها من الحقائق . وفي هذا الجزء بالذات لاحظنا كثرة هذه التوجيهات واللمسات كثرة ظاهرة . فلا تكاد سورة واحدة تخلو من إيقاظ القلب لينطلق إلى هذا الكون , يطلب عنده التجاوب والإيحاء . ويتلقى عنه - بلغة السر المتبادل - ما ينطق به من دلائل وما يبثه من مناجاة !
وهنا نجد القسم الموحي بالشمس وضحاها . . بالشمس عامة وحين تضحى وترتفع عن الأفق بصفة خاصة . وهي أروق ما تكون في هذه الفترة وأحلى . في الشتاء يكون وقت الدفء المستحب الناعش . وفي الصيف يكون وقت الإشراق الرائق قبل وقدة الظهيرة وقيظها . فالشمس في الضحى في أروق أوقاتها وأصفاها . وقد ورد أن المقصود بالضحى هو النهار كله , ولكنا لا نرى ضرورة للعدول عن المعنى القريب للضحى . وهو ذو دلالة خاصة كما رأينا .
وبالقمر إذا تلاها . . إذا تلا الشمس بنوره اللطيف الشفيف الرائق الصافي . . وبين القمر والقلب البشري ود قديم موغل في السرائر والأعماق , غائر في شعاب الضمير , يترقرق ويستيقظ كلما التقى به القلب في اية حال . وللقمر همسات وإيحاءات للقلب , وسبحات وتسبيحات للخالق , يكاد يسمعها القلب الشاعر في نور القمر المنساب . . وإن القلب ليشعر أحيانا أنه يسبح في فيض النور الغامر في الليلة القمراء , ويغسل أدرانه , ويرتوي , ويعانق هذا النور الحبيب ويستروح فيه روح الله .
ويقسم بالنهار إذا جلاها . . مما يوحي بأن المقصود بالضحى هو الفترة الخاصة لا كل النهار . والضمير في(جلاها). . الظاهر أن يعود إلى الشمس المذكورة في السياق . . ولكن الإيحاء القرآني يشي بأنه ضمير هذه البسيطة . وللأسلوب القرآني إيحاءات جانبية كهذه مضمرة في السياق لأنها معهودة في الحس البشري , يستدعيها التعبير استدعاء خفيا . فالنهار يجلي البسيطة ويكشفها . وللنهار في حياة الإنسان آثاره التي يعلمها . وقد ينسى الإنسان بطول التكرار جمال النهار وأثره . فهذه اللمسة السريعة في مثل هذا السياق توقظه وتبعثه للتأمل في هذه الظاهرة الكبرى .
ومثله:(والليل إذا يغشاها). . والتغشية هي مقابل التجلية . والليل غشاء يضم كل شيء ويخفيه . وهو مشهد له في النفس وقع . وله في حياة الإنسان أثر كالنهار سواء .
ثم يقسم بالسماء وبنائها:(والسماء وما بناها). .(وما)هنا مصدرية . ولفظ السماء حين يذكر يسبق إلى الذهن هذا الذي نراه فوقنا كالقبة حيثما اتجهنا , تتناثر فيه النجوم والكواكب السابحة في أفلاكها ومداراتها . فأما حقيقة السماء فلا ندريها . وهذا الذي نراه فوقنا متماسكا لا يختل ولا يضطرب تتحقق فيه صفة البناء بثباته وتماسكه . أما كيف هو مبني , وما الذي يمسك أجزاءه فلا تتناثر وهو سابح في الفضاء الذي لا نعرف له أولا ولا آخرا . . فذلك ما لا ندريه . وكل ما قيل عنه مجرد نظريات قابلة للنقض والتعديل . ولا قرار لها ولا ثبات . .
وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8)
إنما نوقن من وراء كل شيء أن يد الله هي تمسك هذا البناء: (إن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا . ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده). . وهذا هو العلم المستيقن الوحيد !
كذلك يقسم بالأرض وطحوها:(والأرض وما طحاها). . والطحو كالدحو:البسط والتمهيد للحياة . وهي حقيقة قائمة تتوقف على وجودها حياة الجنس البشري وسائر الأجناس الحية . وهذه الخصائص والموافقات التي جعلتها يد الله في هذه الأرض هي التي سمحت بالحياة فيها وفق تقديره وتدبيره . وحسب الظاهر لنا أنه لو اختلت إحداها ما أمكن أن تنشأ الحياة ولا أن تسير في هذا الطريق الذي سارت فيه . . وطحو الأرض أو دحوها كما قال في الآية الأخرى: والأرض بعد ذلك دحاها أخرج منها ماءها ومرعاها . وهو أكبر هذه الخصائص والموافقات . ويد الله وحدها هي التي تولت هذا الأمر . فحين يذكر هنا بطحو الأرض , فإنما يذكر بهذه اليد التي وراءه . ويلمس القلب البشري هذه اللمسة للتدبر والذكرى .
الدرس الثاني:7 - 10 طبيعة النفس الإنسانية ودعوة لتزكيتها
ثم تجيء الحقيقة الكبرى عن النفس البشرية في سياق هذا القسم , مرتبطة بالكون ومشاهده وظواهره . وهي إحدى الآيات الكبرى في هذا الوجود المترابط المتناسق:
(ونفس وما سواها . فألهمها فجورها وتقواها . قد أفلح من زكاها , وقد خاب من دساها). .
وهذه الآيات الأربع , بالإضافة إلى آية سورة البلد السابقة:(وهديناه النجدين). . وآية سورة الإنسان:(إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا). . تمثل قاعدة النظرية النفسية للإسلام . . وهي مرتبطة ومكملة للآيات التي تشير إلى ازدواج طبيعة الإنسان , كقوله تعالى في سورة "ص":(إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا من طين . فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين). . كما أنها مرتبطة ومكملة للآيات التي تقرر التبعة الفردية:كقوله تعالى في سورة المدثر:(كل نفس بما كسبت رهينة). . والآيات التي تقرر أن الله يرتب تصرفه بالإنسان على واقع هذا الإنسان , كقوله تعالى في سورة الرعد: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم .
ومن خلال هذه الآيات وأمثالها تبرز لنا نظرة الإسلام إلى الإنسان بكل معالمها . .
إن هذا الكائن مخلوق مزدوج الطبيعة , مزدوج الاستعداد , مزدوج الاتجاه ونعني بكلمة مزدوج على وجه التحديد أنه بطبيعة تكوينه [ من طين الأرض ومن نفخة الله فيه من روحه ] مزود باستعدادات متساوية للخير والشر , والهدى والضلال . فهو قادر على التمييز بين ما هو خير وما هو شر . كما أنه قادر على توجيه نفسه إلى الخير وإلى الشر سواء . وأن هذه القدرة كامنة في كيانه , يعبر عنها القرآن بالإلهام تارة:(ونفس وما سواها , فألهمها فجورها وتقواها). . ويعبر عنها بالهداية تارة:(وهديناه النجدين). . فهي كامنة في صميمه في صورة استعداد . . والرسالات والتوجيهات والعوامل الخارجية إنما توقظ هذه الاستعدادات وتشحذها وتوجهها هنا أو هناك . ولكنها لا تخلقها خلقا . لأنها مخلوقة فطرة , وكائنة طبعا , وكامنة إلهاما .
وهناك إلى جانب هذه الاستعدادات الفطرية الكامنة قوة واعية مدركة موجهة في ذات الإنسان . هي التي تناط بها التبعة . فمن استخدم هذه القوة في تزكية نفسه وتطهيرها وتنمية استعداد الخير فيها , وتغليبه على استعداد
قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13)
الشر . . فقد أفلح . ومن أظلم هذه القوة وخبأها وأضعفها فقد خاب:(قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها). .
وهناك إذن تبعة مترتبة على منح الإنسان هذه القوة الواعية القادرة على الاختيار والتوجيه . توجيه الاستعدادات الفطرية القابلة للنمو في حقل الخير وفي حقل الشر سواء . فهي حرية تقابلها تبعة , وقدرة يقابلها تكليف , ومنحة يقابلها واجب . .
ورحمة من الله بالإنسان لم يدعه لاستعداد فطرته الإلهامي , ولا للقوة الواعية المالكة للتصرف , فأعانه بالرسالات التي تضع له الموازين الثابتة الدقيقة , وتكشف له عن موحيات الإيمان , ودلائل الهدى في نفسه وفي الآفاق من حوله , وتجلو عنه غواشي الهوى فيبصر الحق في صورته الصحيحة . . وبذلك يتضح له الطريق وضوحا كاشفا لا غبش فيه ولا شبهة فتتصرف القوة الواعية حينئذ عن بصيرة وإدراك لحقيقة الاتجاه الذي تختاره وتسير فيه . وهذه في جملتها هي مشيئة الله بالإنسان . وكل ما يتم في دائرتها فهو محقق لمشيئة الله وقدره العام .
هذه النظرة المجملة إلى أقصى حد تنبثق منها جملة حقائق ذات قيمة في التوجيه التربوي:فهي أولا ترتفع بقيمة هذا الكائن الإنساني , حين تجعله أهلا لاحتمال تبعة اتجاهه , وتمنحه حرية الاختيار [ في إطار المشيئة الإلهية التي شاءت له هذه الحرية فيما يختار ] فالحرية والتبعة يضعان هذا الكائن في مكان كريم , ويقرران له في هذا الوجود منزلة عالية تليق بالخليقة التي نفخ الله فيها من روحه وسواها بيده , وفضلها على كثير من العالمين .
وهي ثانيا تلقي على هذا الكائن تبعة مصيره , وتجعل أمره بين يديه [ في إطار المشيئة الكبرى كما أسلفنا ] فتثير في حسه كل مشاعر اليقظة والتحرج والتقوى . وهو يعلم أن قدر الله فيه يتحقق من خلال تصرفه هو بنفسه: (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم). . وهي تبعة ثقيلة لا يغفل صاحبها ولا يغفو !
وهي ثالثا تشعر هذا الإنسان بالحاجة الدائمة للرجوع إلى الموازين الإلهية الثابتة , ليظل على يقين أن هواه لم يخدعه , ولم يضلله , كي لا يقوده الهوى إلى المهلكة , ولا يحق عليه قدر الله فيمن يجعل إلهه هواه . وبذلك يظل قريبا من الله , يهتدي بهديه , ويستضيء بالنور الذي أمده به في متاهات الطريق !
ومن ثم فلا نهاية لما يملك هذا الإنسان أن يصل إليه من تزكية النفس وتطهيرها , وهو يغتسل في نور الله الفائض , ويتطهر في هذا العباب الذي يتدفق حوله من ينابيع الوجود . .
بعد ذلك يعرض نموذجا من نماذج الخيبة التي ينتهي إليها من يدسي نفسه , فيحجبها عن الهدى ويدنسها . ممثلا هذا النموذج فيما أصاب ثمود من غضب ونكال وهلاك:
(كذبت ثمود بطغواها . إذ انبعث أشقاها . فقال لهم رسول الله:ناقة الله وسقياها . فكذبوه فعقروها . فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها . ولا يخاف عقباها). .
وقد وردت قصة ثمود ونبيها صالح - عليه السلام - في مواضع شتى من القرآن . وسبق الحديث عنها في كل موضع . وأقربها ما جاء في هذا الجزء في سورة "الفجر" فيرجع إلى تفصيلات القصة هناك .
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
فأما في هذا الموضع فهو يذكر أن ثمود بسبب من طغيانها كذبت نبيها , فكان الطغيان وحده هو سبب التكذيب . وتمثل هذا الطغيان في انبعاث أشقاها . وهو الذي عقر الناقة . وهو أشدها شقاء وأكثرها تعاسة بما ارتكب من الإثم . وقد حذرهم رسول الله قبل الإقدام على الفعلة فقال لهم . احذروا أن تمسوا ناقة الله أو أن تمسوا الماء الذي جعل لها يوما ولهم يوم كما اشترط عليهم عند ما طلبوا منه آية فجعل الله هذه الناقة آية - ولا بد أنه كان لها شأن خاص لا نخوض في تفصيلاته , لأن الله لم يقل لنا عنه شيئا - فكذبوا النذير فعقروا الناقة . والذي عقرها هو هذا الأشقى . ولكنهم جميعا حملوا التبعة وعدوا أنهم عقروها , لأنهم لم يضربوا على يده , بل استحسنوا فعلته . وهذا مبدأ من مبادئ الإسلام الرئيسية في التكافل في التبعة الإجتماعية في الحياة الدنيا . لا يتعارض مع التبعة الفردية في الجزاء الأخروي حيث لا تزر وازرة وزر أخرى . على أنه من الوزر إهمال التناصح والتكافل والحض على البر والأخذ على يد البغي والشر .
عندئذ تتحرك يد القدرة لتبطش البطشة الكبرى: (فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها). .
والدمدمة الغضب وما يتبعه من تنكيل . واللفظ ذاته . .(دمدم)يوحي بما وراءه , ويصور معناه بجرسه , ويكاد يرسم مشهدا مروعا مخيفا ! وقد سوى الله أرضهم عاليها بسافلها , وهو المشهد الذي يرتسم بعد الدمار العنيف الشديد . .
(ولا يخاف عقباها). . سبحانه وتعالى . . ومن ذا يخاف ? وماذا يخاف ? وأنى يخاف ? إنما يراد من هذا التعبير لازمة المفهوم منه . فالذي لا يخاف عاقبة ما يفعل , يبلغ غاية البطش حين يبطش . وكذلك بطش الله كان:إن بطش ربك لشديد . فهو إيقاع يراد إيحاؤه وظله في النفوس . .
وهكذا ترتبط حقيقة النفس البشرية بحقائق هذا الوجود الكبيرة , ومشاهده الثابتة , كما ترتبط بهذه وتلك سنة الله في أخذ المكذبين والطغاة , في حدود التقدير الحكيم الذي يجعل لكل شيء أجلا , ولكل حادث موعدا , ولكل أمر غاية , ولكل قدر حكمة , وهو رب النفس والكون والقدر جميعا . .
سورة الليل
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1)
سورة الليل
التعريف بسورة الليل
في إطار من مشاهد الكون وطبيعة الإنسان تقرر السورة حقيقة العمل والجزاء . ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر:(إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى). . وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة:(فأنذرتكم نارا تلظى . لا يصلاها إلا الأشقى . الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى , الذي يؤتي ماله يتزكى . .).
لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين , وذات اتجاهين . . كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء:(والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى). .(وما خلق الذكر والأنثى). . وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني .
الدرس الأول:1 - 3 القسم بالليل والنهار والذكر والأنثى
(والليل إذا يغشى . والنهار إذا تجلى . . وما خلق الذكر والأنثى). . .
وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى (3)
يقسم الله - سبحانه - بهاتين الآيتين:الليل والنهار . مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد . (والليل إذا يغشى). .(والنهار إذا تجلى). . الليل حين يغشى البسيطة , ويغمرها ويخفيها . والنهار حين يتجلى ويظهر , فيظهر في تجليه كل شيء ويسفر . وهما آنان متقابلان في دورة الفلك , ومتقابلان في الصورة , ومتقابلان في الخصائص , ومتقابلان في الآثار . . كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين:(وما خلق الذكر والأنثى). . تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعا .
والليل والنهار ظاهرتان شاملتان لهما دلالة توحيان بها إيحاء للقلب البشري ; ولهما دلالة كذلك أخرى عند التدبر والتفكر فيهما وفيما وراءهما . والنفس تتأثر تأثرا تلقائيا بتقلب الليل والنهار . الليل إذا يغشى ويعم , والنهار إذا تجلى وأسفر . ولهذا التقلب حديث وإيحاء . حديث عن هذا الكون المجهول الأسرار , وعن هذه الظواهر التي لا يملك البشر من أمرها شيئا . وإيحاء بما وراء هذا التقلب من قدرة تدير الآونة في الكون كما تدار العجلة اليسيرة ! وبما هنالك من تغير وتحول لا يثبت أبدا على حال .
ودلالتهما عند التدبر والتفكر قاطعة في أن هنالك يدا أخرى تدير هذا الفلك , وتبدل الليل والنهار . بهذا الانتظام وهذا الاطراد وهذه الدقة . وأن الذي يدير الفلك هكذا يدير حياة البشر أيضا . ولا يتركهم سدى , كما أنه لا يخلقهم عبثا .
ومهما حاول المنكرون والمضلون أن يلغوا في هذه الحقيقة , وأن يحولوا الأنظار عنها , فإن القلب البشري سيظل موصولا بهذا الكون , يتلقى إيقاعاته , وينظر تقلباته , ويدرك تلقائيا كما يدرك بعد التدبر والتفكر , أن هنالك مدبرا لا محيد من الشعور به , والاعتراف بوجوده من وراء اللغو والهذر , ومن وراء الجحود والنكران !
وكذلك خلقة الذكر والأنثى . . إنها في الأنسان والثدييات الحيوانية نطفة تستقر في رحم . وخلية تتحد ببويضة . ففيم هذا الاختلاف في نهاية المطاف ? ما الذي يقول لهذه:كوني ذكرا . ويقول لهذه:كوني أنثى ? . . إن كشف هذه العوامل التي تجعل هذه النطفة تصبح ذكرا , وهذه تصبح أنثى لا يغير من واقع الأمر شيئا . . فإنه لماذا تتوفر هذه العوامل هنا وهذه العوامل هناك ? وكيف يتفق أن تكون صيرورة هذه ذكرا , وصيرورة هذه أنثى هو الحدث الذي يتناسق مع خط سير الحياة كلها , ويكفل امتدادها بالتناسل مرة أخرى ?
مصادفة ?! إن للمصادفة كذلك قانونا يستحيل معه أن تتوافر هذه الموافقات كلها من قبيل المصادفة . . فلا يبقى إلا أن هنالك مدبرا يخلق الذكر والأنثى لحكمة مرسومة وغاية معلومة . فلا مجال للمصادفة , ولا مكان للتلقائية في نظام هذا الوجود أصلا .
والذكر والأنثى شاملان بعد ذلك للأنواع كلها غير الثدييات . فهي مطردة في سائر الأحياء ومنها النبات . . قاعدة واحدة في الخلق لا تختلف . لا يتفرد ولا يتوحد إلا الخالق سبحانه الذي ليس كمثله شيء . .
هذه بعض إيحاءات تلك المشاهد الكونية , وهذه الحقيقة الإنسانية التي يقسم الله - سبحانه - بها , لعظيم دلالتها وعميق إيقاعها . والتي يجعلها السياق القرآني إطارا لحقيقة العمل والجزاء في الحياة الدنيا وفي الحياة الأخرى . .
الدرس الثاني:4 - 21 سعي الناس شتى مختلف وصفات المؤمنين الإيجابية وصفات الكفار السلبية
يقسم الله بهذه الظواهر والحقائق المتقابلة في الكون وفي الناس , على أن سعي الناس مختلف وطرقهم مختلفة , ومن ثم فجزاؤهم مختلف كذلك ; فليس الخير كالشر , وليس الهدى كالضلال , وليس الصلاح كالفساد ,
إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
وليس من أعطى واتقى كمن بخل واستغنى , وليس من صدق وآمن كمن كذب وتولى . وأن لكل طريقا , ولكل مصيرا , ولكل جزاء وفاقا:
(إن سعيكم لشتى . فأما من أعطى واتقى , وصدق بالحسنى , فسنيسره لليسرى . وأما من بخل واستغنى , وكذب بالحسنى , فسنيسره للعسرى , وما يغني عنه ماله إذا تردى). .
إن سعيكم لشتى . . مختلف في حقيقته . مختلف في بواعثه . مختلف في اتجاهه . مختلف في نتائجه . . والناس في هذه الأرض تختلف طبائعهم , وتختلف مشاربهم , وتختلف تصوراتهم , وتختلف اهتماماتهم , حتى لكأن كل واحد منهم عالم خاص يعيش في كوكب خاص .
هذه حقيقة . ولكن هناك حقيقة أخرى . حقيقة إجمالية تضم أشتات البشر جميعا . وتضم هذه العوالم المتباينة كلها . تضمها في حزمتين اثنتين . وفي صفين متقابلين . تحت رايتين عامتين: (من أعطى واتقى وصدق بالحسنى). . و (من بخل واستغنى وكذب بالحسنى). .
من أعطى نفسه وماله . واتقى غضب الله وعذابه . وصدق بهذه العقيدة التي إذا قيل(الحسنى)كانت اسما لها وعلما عليها .
ومن بخل بنفسه وماله . واستغنى عن الله وهداه . وكذب بهذه الحسنى . .
هذان هما الصفان اللذان يلتقي فيهما شتات النفوس , وشتات السعي , وشتات المناهج , وشتات الغايات . ولكل منهما في هذه الحياة طريق . . ولكل منهما في طريقه توفيق !
(فأما من أعطى واتقى , وصدق بالحسنى . . فسنيسره لليسرى). .
والذي يعطي ويتقي ويصدق بالحسنى يكون قد بذل أقصى ما في وسعه ليزكي نفسه ويهديها . عندئذ يستحق عون الله وتوفيقه الذي أوجبه - سبحانه - على نفسه بإرادته ومشيئته . والذي بدونه لا يكون شيء , ولا يقدر الإنسان على شيء .
ومن يسره الله لليسرى فقد وصل . . وصل في يسر وفي رفق وفي هوادة . . وصل وهو بعد في هذه الأرض . وعاش في يسر . يفيض اليسر من نفسه على كل ما حوله وعلى كل من حوله . اليسر في خطوه . واليسر في طريقه . واليسر في تناوله للأمور كلها . والتوفيق الهادئ المطمئن في كلياتها وجزئياتها . وهي درجة تتضمن كل شيء في طياتها . حيث تسلك صاحبها مع رسول الله [ ص ] في وعد ربه له: ونيسرك لليسرى . .
(وأما من بخل واستغنى . وكذب بالحسنى . . فسنيسره للعسرى . وما يغني عنه ماله إذا تردى .). .
والذي يبخل بنفسه وماله , ويستغني عن ربه وهداه , ويكذب بدعوته ودينه . . يبلغ أقصى ما يبلغه إنسان بنفسه من تعريضها للفساد . ويستحق أن يعسر الله عليه كل شيء , فييسره للعسرى ! ويوفقه إلى كل وعورة ! ويحرمه كل تيسير ! ويجعل في كل خطوة من خطاه مشقة وحرجا , ينحرف به عن طريق الرشاد . ويصعد به في طريق الشقاوة . وإن حسب أنه سائر في طريق الفلاح . وإنما هو يعثر فيتقي العثار بعثرة أخرى تبعده عن طريق الله , وتنأى به عن رضاه . . فإذا تردى وسقط في نهاية العثرات والانحرافات لم يغن عنه ماله الذي بخل به , والذي استغنى به كذلك عن الله وهداه . .(وما يغني عنه ماله إذا تردى). . والتيسير للشر والمعصية من
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20)
التيسير للعسرى , وإن أفلح صاحبها في هذه الأرض ونجا . . وهل أعسر من جهنم ? وإنها لهي العسرى ! .
هكذا ينتهي المقطع الأول في السورة . وقد تبين طريقان ونهجان للجموع البشرية في كل زمان ومكان . وقد تبين أنهما حزبان ورايتان مهما تنوعت وتعددت الأشكال والألوان . وأن كل إنسان يفعل بنفسه ما يختار لها ! فييسر الله له طريقه:إما إلى اليسرى وإما إلى العسرى .
فأما المقطع الثاني فيتحدث عن مصير كل فريق . ويكشف عن نهاية المطاف لمن يسره لليسرى , ومن يسره للعسرى . وقبل كل شيء يقرر أن ما يلاقيه كل فريق من عاقبة ومن جزاء هو عدل وحق , كما أنه واقع وحتم . فقد بين الله للناس الهدى , وأنذرهم نارا تلظى:
(إن علينا للهدى وإن لنا للآخرة والأولى . فأنذرتكم نارا تلظى , لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى . وسيجنبها الأتقى , الذي يؤتي ماله يتزكى , وما لأحد عنده من نعمة تجزى إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى , ولسوف يرضى). .
لقد كتب الله على نفسه - فضلا منه بعباده ورحمة - أن يبين الهدى لفطرة الناس ووعيهم . وأن يبينه لهم كذلك بالرسل والرسالات والآيات , فلا تكون هناك حجة لأحد , ولا يكون هناك ظلم لأحد:(إن علينا للهدى). .
واللمسة الثانية هي التقرير الجازم لحقيقة السيطرة التي تحيط بالناس , فلا يجدون من دونها موئلا:(وإن لنا للآخرة والأولى). . فأين يذهب من يريد أن يذهب عن الله بعيدا ?!
وتفريعا على أن الله كتب على نفسه بيان الهدى للعباد , وأن له الآخرة والأولى داري الجزاء والعمل . تفريعا على هذا يذكرهم أنه أنذرهم وحذرهم وبين لهم:(فأنذرتكم نارا تلظى). . وتتسعر . . هذه النار المتسعرة(لا يصلاها إلا الأشقى). . أشقى العباد جميعا . وهل بعد الصلي في النار شقوة ? ثم يبين من هو الأشقى . إنه:(الذي كذب وتولى). . كذب بالدعوة وتولى عنها . تولى عن الهدى وعن دعوة ربه له ليهديه كما وعد كل من يأتي إليه راغبا .
(وسيجنبها الأتقى). . وهو الأسعد في مقابل الأشقى . . ثم يبين من هو الأتقى:(الذي يؤتي ماله يتزكى). . الذي ينفق ماله ليتطهر بإنفاقه , لا ليرائي به ويستعلي . ينفقه تطوعا لا ردا لجميل أحد , ولا طلبا لشكران أحد , وإنما ابتغاء وجه ربه خالصا . . ربه الأعلى . .
(وما لأحد عنده من نعمة تجزى . إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى). .
ثم ماذا ? ماذا ينتظر هذا الأتقى , الذي يؤتي ماله تطهرا , وابتغاء وجه ربه الأعلى ? إن الجزاء الذي يطالع القرآن به الأرواح المؤمنة هنا عجيب . ومفاجئ . وعلى غير المألوف .
(ولسوف يرضى).
إنه الرضى ينسكب في قلب هذا الأتقى . إنه الرضى يغمر روحه . إنه الرضى يفيض على جوارحه . إنه الرضى يشيع في كيانه . إنه الرضى يندي حياته . .
ويا له من جزاء ! ويا لها من نعمة كبرى !
(ولسوف يرضى). . يرضى بدينه . ويرضى بربه . ويرضى بقدره . ويرضى بنصيبه . ويرضى بما يجد من سراء وضراء . ومن غنى وفقر . ومن يسر وعسر . ومن رخاء وشدة . يرضى فلا يقلق ولا يضيق ولا يستعجل ولا يستثقل العبء , ولا يستبعد الغاية . . إن هذا الرضى جزاء - جزاء أكبر من كل جزاء - جزاء يستحقه من
وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
يبذل له نفسه وماله - من يعطي ليتزكى . ومن يبذل ابتغاء وجه ربه الأعلى .
إنه جزاء لا يمنحه إلا الله . وهو يسكبه في القلوب التي تخلص له , فلا ترى سواه أحدا .
(ولسوف يرضى). .
يرضى وقد بذل الثمن . وقد أعطى ما أعطى . .
إنها مفاجأة في موضعها هذا . ولكنها المفاجأة المرتقبة لمن يبلغ ما بلغه الأتقى الذي يؤتي ماله يتزكى , وما لأحد عنده من نعمة تجزى , إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى . .
(ولسوف يرضى). . .
سورة الضحى
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)
سورة الضحى
تعريف بسورة الضحى
هذه السورة بموضوعها , وتعبيرها , ومشاهدها , وظلالها وإيقاعها , لمسة من حنان . ونسمة من رحمة , وطائف من ود . ويد حانية تمسح على الآلام والمواجع , وتنسم بالروح والرضى والأمل . وتسكب البرد والطمأنينة واليقين .
إنها كلها خالصة للنبي [ ص ] كلها نجاء له من ربه , وتسرية وتسلية وترويح وتطمين . كلها أنسام من الرحمة وأنداء من الود , وألطاف من القربى , وهدهدة للروح المتعب , والخاطر المقلق , والقلب الموجوع .
ورد في روايات كثيرة أن الوحي فتر عن رسول الله [ ص ] وأبطأ عليه جبريل - عليه السلام - فقال المشركون:ودع محمدا ربه ! فأنزل الله تعالى هذه السورة . .
والوحي ولقاء جبريل والاتصال بالله , كانت هي زاد الرسول [ ص ] في مشقة الطريق . وسقياه في هجير الجحود . وروحه في لأواء التكذيب . وكان [ ص ] يحيا بها في هذه الهاجرة المحرقة التي يعانيها في النفوس النافرة الشاردة العصية العنيدة . ويعانيها في المكر والكيد والأذى المصبوب على الدعوة , وعلى الإيمان , وعلى الهدى من طغاة المشركين .
فلما فتر الوحي انقطع عنه الزاد , وانحبس عنه الينبوع , واستوحش قلبه من الحبيب . وبقي للهاجرة وحده . بلا زاد . وبلا ري . وبغير ما اعتاد من رائحة الحبيب الودود . وهو أمر أشد من الاحتمال من جميع الوجوه . .
عندئذ نزلت هذه السورة . نزل هذا الفيض من الود والحب والرحمة والإيناس والقربى والأمل والرضى والطمأنينة واليقين .
مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
(ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى). .
وما تركك ربك من قبل أبدا , وما قلاك من قبل قط , وما أخلاك من رحمته ورعايته وإيوائه . .
(ألم يجدك يتيما فآوى ? ووجدك ضالا فهدى ? ووجدك عائلا فأغنى ?). .
ألا تجد مصداق هذا في حياتك ? ألا تحس مس هذا في قلبك ? ألا ترى أثر هذا في واقعك ?
لا . لا . .(ما ودعك ربك وما قلى). . وما انقطع عنك بره وما ينقطع أبدا . .(وللآخرة خير لك من الأولى). . وهناك ما هو أكثر وأوفى:(ولسوف يعطيك ربك فترضى)!
ومع هذه الأنسام اللطيفة من حقيقة الأمر وروحه . . الأنسام اللطيفة في العبارة والإيقاع . . وفي الإطار الكوني الذي وضعت فيه هذه الحقيقة:
(والضحى . والليل إذا سجى). .
"لقد أطلق التعبير جوا من الحنان اللطيف , والرحمة الوديعة , والرضى الشامل , والشجى الشفيف:
(ما ودعك ربك وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى . ولسوف يعطيك ربك فترضى). .(ألم يجدك يتيما فآوى ? ووجدك ضالا فهدى ? ووجدك عائلا فأغنى ?). . ذلك الحنان . وتلك الرحمة . وذاك الرضى . وهذا الشجى:تنسرب كلها من خلال النظم اللطيف العبارة , الرقيق اللفظ , ومن هذه الموسيقى السارية في التعبير . الموسيقى الرتيبة الحركات , الوئيدة الخطوات , الرقيقة الأصداء , الشجية الإيقاع . . فلما أراد إطارا لهذا الحنان اللطيف , ولهذه الرحمة الوديعة , ولهذا الرضى الشامل , ولهذا الشجي الشفيف , جعل الإطار من الضحى الرائق , ومن الليل الساجي . أصفى آنين من آونة الليل والنهار . وأشف آنين تسري فيهما التأملات . وتتصل الروح بالوجود وخالق الوجود . وتحس بعبادة الكون كله لمبدعه , وتوجهه لبارئه بالتسبيح والفرح والصفاء . وصورهما في اللفظ المناسب . فالليل هو (الليل إذا سجى), لا الليل على إطلاقه بوحشته وظلامه . الليل الساجي الذي يرق ويسكن ويصفو , وتغشاه سحابة رقيقة من الشجى الشفيف , والتأمل الوديع . كجو اليتم والعيلة . ثم ينكشف ويجلي مع الضحى الرائق الصافي . . فتلتئم ألوان الصورة مع ألوان الإطار . ويتم التناسق والإتساق" .
إن هذا الإبداع في كمال الجمال ليدل على الصنعة . صنعة الله التي لا تماثلها صنعة , ولا يتلبس بها تقليد !
(والضحى . والليل إذا سجى . ما ودعك ربك . وما قلى . وللآخرة خير لك من الأولى ولسوف يعطيك ربك فترضى). .
يقسم الله سبحانه - بهذين الآنين الرائقين الموحيين . فيربط بين ظواهر الكون ومشاعر النفس . ويوحي إلى القلب البشري بالحياة الشاعرة المتجاوبة مع هذا الوجود الجميل الحي , المتعاطف مع كل حي . فيعيش ذلك القلب في أنس من هذا الوجود , غير موحش ولا غريب فيه فريد . . وفي هذه السورة بالذات يكون لهذا الأنس وقعه . فظل الأنس هو المراد مده . وكأنما يوحي الله لرسوله [ ص ] منذ مطلع السورة , أن ربه أفاض من حوله الأنس في هذا الوجود , وأنه من ثم غير مجفو فيه ولا فريد !
وبعد هذا الإيحاء الكوني يجيء التوكيد المباشر:(ما ودعك ربك وما قلى). . ما تركك ربك ولا جافاك - كما زعم من يريدون إيذاء روحك وإيجاع قلبك وإقلاق خاطرك . . وهو(ربك)وأنت عبده المنسوب إليه , المضاف إلى ربوبيته , وهو راعيك وكافلك . .
وما غاض معين فضله وفيض عطائه . فإن لك عنده في الآخرة من الحسنى خيرا مما يعطيك منها في الدنيا:(وللآخرة خير لك من الأولى). . فهو الخير أولا وأخيرا . .
وإنه ليدخر لك ما يرضيك من التوفيق في دعوتك , وإزاحة العقبات من طريقك , وغلبة منهجك , وظهور حقك . . وهي الأمور التي كانت تشغل باله [ ص ] وهو يواجه العناد والتكذيب والأذى والكيد . . والشماتة . .(ولسوف يعطيك ربك فترضى). .
ويمضي سياق السورة يذكر الرسول [ ص ] ما كان من شأن ربه معه منذ أول الطريق . ليستحضر في خاطره جميل صنع ربه به , ومودته له , وفيضه عليه , ويستمتع باستعادة مواقع الرحمة والود والإيناس الإلهي . وهو متاع فائق تحييه الذكرى على هذا النحو البديع:
(ألم يجدك يتيما فآوى ? ووجدك ضالا فهدى ? ووجدك عائلا فأغنى ?). .
انظر في واقع حالك , وماضي حياتك . . هل ودعك ربك وهل قلاك - حتى قبل أن يعهد إليك بهذا الأمر ? - ألم تحط يتمك رعايته ? ألم تدرك حيرتك هدايته ? ألم يغمر فقرك عطاؤه ?
لقد ولدت يتيما فآواك إليه , وعطف عليك القلوب حتى قلب عمك أبي طالب وهو على غير دينك !
ولقد كنت فقيرا فأغنى الله نفسك بالقناعة , كما أغناك بكسبك ومال أهل بيتك [ خديجة رضي الله عنها ] عن أن تحس الفقر , أو تتطلع إلى ما حولك من ثراء !
ثم لقد نشأت في جاهلية مضطربة التصورات والعقائد , منحرفة السلوك والأوضاع , فلم تطمئن روحك إليها . ولكنك لم تكن تجد لك طريقا واضحا مطمئنا . لا فيما عند الجاهلية ولا فيما عند أتباع موسى وعيسى الذين حرفوا وبدلوا وانحرفوا وتاهوا . . ثم هداك الله بالأمر الذي أوحي به إليك , وبالمنهج الذي يصلك به .
والهداية من حيرة العقيدة وضلال الشعاب فيها هي المنة الكبرى , التي لا تعدلها منة ; وهي الراحة والطمأنينة من القلق الذي لا يعدله قلق ; ومن التعب الذي لا يعدله تعب , ولعلها كانت بسبب مما كان رسول الله [ ص ] يعانيه في هذه الفترة , من انقطاع الوحي وشماتة المشركين ووحشة الحبيب من الحبيب . فجاءت هذه تذكره وتطمئنه على أن ربه لن يتركه بلا وحي في التيه وهو لم يتركه من قبل في الحيرة والتيه !
وبمناسبة ما ذكره ربه بإيوائه من اليتم , وهدايته من الحيرة وإغنائه من العيلة . . يوجهه ويوجه المسلمين من ورائه إلى رعاية كل يتيم , وإلى كفاية كل سائل , وإلى التحدث بنعمة الله الكبرى عليه , وفي أولها:الهداية إلى هذا الدين:
(فأما اليتيم فلا تقهر . وأما السائل فلا تنهر . وأما بنعمة ربك فحدث). .
وهذه التوجيهات إلى إكرام اليتيم والنهي عن قهره وكسر خاطره وإذلاله , وإلى إغناء السائل مع الرفق به والكرامة , كانت - كما ذكرنا مرارا - من أهم إيحاءات الواقع في البيئة الجاحدة المتكالبة , التي لا ترعىحق ضعيف , غير قادر على حماية حقه بسيفه ! حيث رفع الإسلام هذه البيئة بشرعة الله إلى الحق والعدل , والتحرج والتقوى , والوقوف عند حدود الله , الذي يحرس حدوده ويغار عليها ويغضب للاعتداء على حقوق عباده الضعفاف الذين لا يملكون قوة ولا سيفا يذودون به عن هذه الحقوق .
وأما التحدث بنعمة الله - وبخاصة نعمة الهدى والإيمان - فهو صورة من صور الشكر للمنعم . يكملها البر بعباده , وهو المظهر العملي للشكر , والحديث الصامت النافع الكريم . .
سورة الشرح
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (3)
سورة الشرح
تعريف بسورة الشرح
نزلت هذه السورة بعد سورة الضحى . وكأنها تكملة لها . فيها ظل العطف الندي . وفيها روح المناجاة الحبيب . وفيها استحضار مظاهر العناية . واستعراض مواقع الرعاية . وفيها البشرى باليسر والفرج . وفيها التوجيه إلى سر اليسر وحبل الاتصال الوثيق . .
(ألم نشرح لك صدرك ? ووضعنا عنك وزرك . الذي أنقض ظهرك ? ورفعنا لك ذكرك ?)
وهي توحي بأن هناك ضائقة كانت في روح الرسول [ ص ] لأمر من أمور هذه الدعوة التي كلفها , ومن العقبات الوعرة في طريقها ; ومن الكيد والمكر المضروب حولها . . توحي بأن صدره [ ص ] كان مثقلا بهموم هذه الدعوة الثقيلة , وأنه كان يحس العبء فادحا على كاهله . وأنه كان في حاجة إلى عون ومدد وزاد ورصيد . .
ثم كانت هذه المناجاة الحلوة , وهذا الحديث الودود !
(ألم نشرح لك صدرك ?). . ألم نشرح صدرك لهذه الدعوة ? ونيسر لك أمرها ? . ونجعلها حبيبة لقلبك , ونشرع لك طريقها ? وننر لك الطريق حتى ترى نهايته السعيدة !
فتش في صدرك - ألا تجد فيه الروح والانشراح والإشراق والنور ? واستعد في حسك مذاق هذا العطاء , وقل:ألا تجد معه المتاع مع كل مشقة والراحة مع كل تعب , واليسر مع كل عسر , والرضى مع كل حرمان ?
(ووضعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك). . ووضعنا عنك عبئك الذي أثقل ظهرك حتى كاد يحطمه من ثقله . . وضعناه عنك بشرح صدرك له فخف وهان . وبتوفيقك وتيسيرك للدعوة ومداخل القلوب . وبالوحي الذي يكشف لك عن الحقيقة ويعينك على التسلل بها إلى النفوس في يسر وهوادة ولين .
وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
ألا تجد ذلك في العبء الذي أنقض ظهرك ? ألا تجد عبئك خفيفا بعد أن شرحنا لك صدرك ?
(ورفعنا لك ذكرك). . رفعناه في الملأ الأعلى , ورفعناه في الأرض , ورفعناه في هذا الوجود جميعا . . رفعناه فجعلنا اسمك مقرونا باسم الله كلما تحركت به الشفاه:
"لا إله إلا الله . محمد رسول الله" . . وليس بعد هذا رفع , وليس وراء هذا منزلة . وهو المقام الذي تفرد به [ ص ] دون سائر العالمين . .
ورفعنا لك ذكرك في اللوح المحفوظ , حين قدر الله أن تمر القرون , وتكر الأجيال , وملايين الشفاه في كل مكان تهتف بهذا الأسم الكريم , مع الصلاة والتسليم , والحب العميق العظيم .
ورفعنا لك ذكرك . وقد ارتبط بهذا المنهج الإلهي الرفيع . وكان مجرد الاختيار لهذا الأمر رفعة ذكر لم ينلها أحد من قبل ولا من بعد في هذا الوجود . .
فأين تقع المشقة والتعب والضنى من هذا العطاء الذي يمسح على كل مشقة وكل عناء ?
ومع هذا فإن الله يتلطف مع حبيبه المختار , ويسري عنه , ويؤنسه , ويطمئنه ويطلعه على اليسر الذي لا يفارقه:
(فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا). .
إن العسر لا يخلو من يسر يصاحبه ويلازمه . وقد لازمه معك فعلا . فحينما ثقل العبء شرحنا لك صدرك , فخف حملك , الذي أنقض ظهرك . وكان اليسر مصاحبا للعسر , يرفع إصره , ويضع ثقله .
وإنه لأمر مؤكد يكرره بألفاظه:(فإن مع العسر يسرا . إن مع العسر يسرا). . وهذا التكرار يشي بأن الرسول [ ص ] كان في عسرة وضيق ومشقة , اقتضت هذه الملاحظة , وهذا التذكير , وهذا الاستحضار لمظاهر العناية , وهذا الاستعراض لمواقع الرعاية , وهذا التوكيد بكل ضروب التوكيد . . والأمر الذي يثقل على نفس محمد هكذا لا بد أنه كان أمرا عظيما . .
ثم يجيء التوجيه الكريم لمواقع التيسير , وأسباب الانشراح , ومستودع الري والزاد في الطريق الشاق الطويل:(فإذا فرغت فانصب . وإلى ربك فارغب). .
إن مع العسر يسرا . . فخذ في أسباب اليسر والتيسير . فإذا فرغت من شغلك مع الناس ومع الأرض , ومع شواغل الحياة . . إذا فرغت من هذا كله فتوجه بقلبك كله إذن إلى ما يستحق أن تنصب فيه وتكد وتجهد . . العبادة والتجرد والتطلع والتوجه . .(وإلى ربك فارغب). . إلى ربك وحده خاليا من كل شيء حتى من أمر الناس الذين تشتغل بدعوتهم . . إنه لا بد من الزاد للطريق . وهنا الزاد . ولا بد من العدة للجهاد . وهنا العدة . . وهنا ستجد يسرا مع كل عسر , وفرجا مع كل ضيق . . هذا هو الطريق !
وتنتهي هذه السورة كما انتهت سورة الضحى , وقد تركت في النفس شعورين ممتزجين:الشعور بعظمة الود الحبيب الجليل الذي ينسم على روح الرسول [ ص ] من ربه الودود الرحيم . والشعور بالعطف على شخصه [ ص ] ونحن نكاد نلمس ما كان يساور قلبه الكريم في هذه الآونةالتي اقتضت ذلك الود الجميل .
إنها الدعوة . هذه الأمانة الثقيلة وهذا العبء الذي ينقض الظهر . وهي مع هذا وهذا مشرق النور الإلهي ومهبطه , ووصلة الفناء بالبقاء , والعدم بالوجود !
سورة التين
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3)
سورة التين
تعريف بسورة التين
الحقيقة الرئيسية التي تعرضها هذه السورة هي حقيقة الفطرة القويمة التي فطر الله الإنسان عليها , واستقامة طبيعتها مع طبيعة الإيمان , والوصول بها معه إلى كمالها المقدور لها . وهبوط الإنسان وسفوله حين ينحرف عن سواء الفطرة واستقامة الإيمان .
ويقسم الله - سبحانه - على هذه الحقيقة بالتين والزيتون , وطور سينين , وهذا البلد الأمين , وهذا القسم على ما عهدنا في كثير من سور هذا الجزء - هو الإطار الذي تعرض فيه تلك الحقيقة . وقد رأينا في السور المماثلة أن الإطار يتناسق مع الحقيقة التي تعرض فيه تناسقا دقيقا .
وطور سينين هو الطور الذي نودي موسى - عليه السلام - من جانبه . والبلد الأمين هو مكة بيت الله الحرام . . وعلاقتهما بأمر الدين والإيمان واضحة . . فأما التين والزيتون فلا يتضح فيهما هذا الظل فيما يبدو لنا .
وقد كثرت الأقوال المأثورة في التين والزيتون . . قيل:إن التين إشارة إلى طورتينا بجوار دمشق .
وقيل:هو إشارة إلى شجرة التين التي راح آدم وزوجه يخصفان من ورقها على سوآتهما في الجنة التي كانا فيها قبل هبوطهما إلى هذه الحياة الدنيا . وقيل:هو منبت التين في الجبل الذي استوت عليه سفينة نوح - عليه السلام .
وقيل في الزيتون:إنه إشارة إلى طور زيتا في بيت المقدس . وقيل:هو إشارة إلى بيت المقدس نفسه . وقيل:هو إشارة إلى غصن الزيتون الذي عادت به الحمامة التي أطلقها نوح عليه السلام - من السفينة - لترتاد حالة الطوفان . فلما عادت ومعها هذا الغصن عرف أن الأرض انكشفت وأنبتت !
وقيل:بل التين والزيتون هما هذان الأكلان الذان نعرفهما بحقيقتهما . وليس هناك رمز لشيء وراءهما . .
لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6)
أو أنهما هما رمز لمنبتهما من الأرض . . .
وشجرة الزيتون إشير إليها في القرآن في موضع آخر بجوار الطور:فقال:(وشجرة تخرج من طور سيناء تنبت بالدهن وصبغ للآكلين). . كما ورد ذكر الزيتون:(وزيتونا ونخلا). . فأما "التين" فذكره يرد في هذا الموضع لأول مرة وللمرة الوحيدة في القرآن كله .
ومن ثم فإننا لا نملك أن نجزم بشيء في هذا الأمر . وكل ما نملك أن نقوله - اعتمادا على نظائر هذا الإطار في السور القرآنية -:إن الأقرب أن يكون ذكر التين والزيتون إشارة إلى أماكن أو ذكريات ذات علاقة بالدين والإيمان . أو ذات علاقة بنشأة الإنسان في أحسن تقويم [ وربما كان ذلك في الجنة التي بدأ فيها حياته ] . . كي تلتئم هذه الإشارة مع الحقيقة الرئيسية البارزة في السورة ; ويتناسق الإطار مع الحقيقة الموضوعة في داخله . على طريقة القرآن . . .
فأما الحقيقة الداخلية في السورة فهي هذه:(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم . ثم رددناه أسفل سافلين . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون). .
ومنها تبدو عناية الله بخلق هذا الإنسان ابتداء في أحسن تقويم . والله - سبحانه - أحسن كل شيء خلقه . فتخصيص الإنسان هنا وفي مواضع قرآنية أخرى بحسن التركيب , وحسن التقويم , وحسن التعديل . . فيه فضل عناية بهذا المخلوق .
وإن عناية الله بأمر هذا المخلوق - على ما به من ضعف وعلى ما يقع منه من انحراف عن الفطرة وفساد - لتشير إلى أن له شأنا عند الله , ووزنا في نظام هذا الوجود . وتتجلى هذه العناية في خلقه وتركيبه على هذا النحو الفائق , سواء في تكوينه الجثماني البالغ الدقة والتعقيد , أم في تكوينه العقلي الفريد , أم في تكوينه الروحي العجيب .
والتركيز في هذا المقام على خصائصه الروحية . فهي التي تنتكس إلى أسفل سافلين حين ينحرف عن الفطرة ويحيد عن الإيمان المستقيم معها . إذ أنه من الواضح أن خلقته البدنية لا تنتكس إلى أسفل سافلين .
وفي هذه الخصائص الروحية يتجلى تفوق التكوين الإنساني . فهو مهيأ لأن يبلغ من الرفعة مدى يفوق مقام الملائكة المقربين . كما تشهد بذلك قصة المعراج . . حيث وقف جبريل - عليه السلام - عند مقام , وارتفع محمد بن عبد الله - الإنسان - إلى المقام الأسنى .
بينما هذا الإنسان مهيأ - حين ينتكس - لأن يهوي إلى الدرك الذي لا يبلغ إليه مخلوق قط:(ثم رددناه أسفل سافلين). . حيث تصبح البهائم أرفع منه وأقوم , لاستقامتها على فطرتها , وإلهامها تسبيح ربها , وأداء وظيفتها في الأرض على هدى . بينما هو المخلوق في أحسن تقويم , يجحد ربه , ويرتكس مع هواه , إلى درك لا تملك البهيمة أن ترتكس إليه .
(لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم). . فطرة واستعدادا . .(ثم رددناه أسفل سافلين). . حين ينحرف بهذه الفطرة عن الخط الذي هداه الله إليه , وبينه له , وتركه ليختار أحد النجدين .
(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات). . فهؤلاء هم الذين يبقون على سواء الفطرة , ويكملونها بالإيمان والعمل الصالح , ويرتقون بها إلى الكمال المقدر لها , حتى ينتهوا بها إلى حياة الكمال في دار الكمال . (فلهم أجر غير ممنون)دائم غير مقطوع .
فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
فأما الذين يرتكسون بفطرتهم إلى أسفل سافلين , فيظلون ينحدرون بها في المنحدر , حتى تستقر في الدرك الأسفل . هناك في جهنم , حيث تهدر آدميتهم , ويتمحضون للسفول !
فهذه وتلك نهايتان طبيعيتان لنقطة البدء . . إما استقامة على الفطرة القويمة , وتكميل لها بالإيمان , ورفع لها بالعمل الصالح . . فهي واصلة في النهاية إلى كمالها المقدر في حياة النعيم . . وإما انحراف عن الفطرة القويمة , واندفاع مع النكسة , وانقطاع عن النفخة الإلهية . . فهي واصلة في النهاية إلى دركها المقرر في حياة الجحيم .
ومن ثم تتجلى قيمة الإيمان في حياة الإنسان . . إنه المرتقى الذي تصل فيه الفطرة القويمة إلى غاية كمالها . إنه الحبل الممدود بين الفطرة وبارئها . إنه النور الذي يكشف لها مواقع خطاها في المرتقى الصاعد إلى حياة الخالدين المكرمين .
وحين ينقطع هذا الحبل , وحين ينطفئ هذا النور , فالنتيجة الحتمية هي الارتكاس في المنحدر الهابط إلى أسفل سافلين , والانتهاء إلى إهدار الآدمية كلية , حين يتمحض الطين في الكائن البشري , فإذا هو وقود النار مع الحجارة سواء بسواء !
وفي ظل هذه الحقيقة ينادى "الإنسان":
(فما يكذبك بعد بالدين ? أليس الله بأحكم الحاكمين ?). .
فما يكذبك بالدين بعد هذه الحقيقة ? وبعد إدراك قيمة الإيمان في حياة البشرية ? وبعد تبين مصير الذين لا يؤمنون , ولا يهتدون بهذا النور , ولا يمسكون بحبل الله المتين ?
(أليس الله بأحكم الحاكمين ?). . أليس الله بأعدل العادلين حين يحكم في أمر الخلق على هذا النحو ? أو . . أليست حكمة الله بالغة في هذا الحكم على المؤمنين وغير المؤمنين ?
والعدل واضح . والحكمة بارزة . . ومن ثم ورد في الحديث المرفوع عن أبي هريرة:" فإذا قرأ أحدكم(والتين والزيتون)فأتى آخرها:(أليس الله بأحكم الحاكمين ?). . فليقل . . بلى وأنا على ذلك من الشاهدين " . .
سورة العلق
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2)
سورة العلق
تعريف بسورة العلق
مطلع هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن باتفاق . والروايات التي تذكر نزول غيرها ابتداء ليست وثيقة . قال الإمام أحمد:حدثنا عبد الرزاق , حدثنا معمر بن الزهري , عن عروة , عن عائشة - رضي الله عنها - قالت:
"أول ما بدئ به رسول الله [ ص ] من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم , فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح . ثم حبب إليه الخلاء . وكان يخلو بغار حراء فيتحنث فيه - وهو التعبد - الليالي ذوات العدد , قبل أن ينزع إلى أهله , ويتزود إلى ذلك . ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها . حتى جاءه الحق وهو في غار حراء . فجاءه الملك , فقال:اقرأ . قال:ما أنا بقارئ , قال:فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد . ثم أرسلني فقال:اقرأ . فقلت:ما أنا بقارئ , فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد , ثم أرسلني فقال:اقرأ . فقلت:ما أنا بقارئ . فأخذني فغطني الثالثة , ثم قال:(اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم). . فرجع بها رسول الله [ ص ] ترجف بوادره , حتى دخل على خديجة , فقال " زملوني زملوني " فزملوه حتى ذهب عنه الروع ,فقال:يا خديجة مالي ? وأخبرها الخبر . وقال:" قد خشيت على نفسي " فقالت له:كلا . أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا . إنك لتصل الرحم , وتصدق الحديث , وتحمل الكل , وتقري الضيف , وتعين على نوائب الحق . ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصي , وهو ابن عم خديجة أخي أبيها . وكان امرأ قد تنصر في الجاهلية . كان يكتب الكتاب العربي , وكتب العبرانية من الإنجيل - ما شاء الله أن يكتب - وكان شيخا كبيرا قد عمي . فقالت خديجة:أي ابن عم , اسمع من ابن أخيك , فقال ورقة:ابن أخي , ما ترى ? فأخبره رسول الله [ ص ] بما رأى . فقال ورقة:هذا الناموس الذي أنزل على موسى . ليتني فيها جذع , ليتني أكون حيا حين يخرجك قومك . فقال رسول الله [ ص ]:" أو مخرجي هم ? " فقال ورقة:نعم . لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي , وإن أدركني يومك أنصرك نصرا مؤزرا . ثم لم ينشب ورقة أن توفي . . . الخ" . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين من حديث الزهري . .
وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال:
"قال رسول الله [ ص ]:فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال:اقرأ . فقلت:ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال:اقرأ . فقلت:ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله:علم الإنسان ما لم يعلم قال:فقرأته . ثم انتهى , ثم انصرف عني . وهببت من نومي , وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال:ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما , قال:قلت:إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال:فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول:يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء , فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول:يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال:فوقفت أنظر إليه , وشغلني ذلك عما أردت , فما أتقدم وما أتأخر , وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء , فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك , فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي , ولا أرجع ورائي , حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي , حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . " . .
وقد رواه ابن إسحاق مطولا عن وهب بن كيسان عن عبيد أيضا . .
وقفت هنا أمام هذا الحادث الذي طالما قرأناه في كتب السيرة وفي كتب التفسير , ثم مررنا به وتركناه , أو تلبثنا عنده قليلا ثم جاوزناه !
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته , فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل .
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله , العظيم الجبار القهار المتكبر , مالك الملك كله , قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان , القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذهالخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي , ومستودع حكمته , ومهبط كلماته , وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وهذه حقيقة كبيرة . كبيرة إلى غير حد . تتكشف جوانب من عظمتها حين يتصور الإنسان - قدر طاقته - حقيقة الألوهية المطلقة الأزلية الباقية . ويتصور في ظلها حقيقة العبودية المحدودة الحادثة الفانية . ثم يستشعر وقع هذه العناية الربانية بهذا المخلوق الإنساني ; ويتذوق حلاوة هذا الشعور ; ويتلقاه بالخشوع والشكر والفرح والابتهال . . وهو يتصور كلمات الله , تتجاوب بها جنبات الوجود كله , منزلة لهذا الإنسان في ذلك الركن المنزوي من أركان الوجود الضئيلة !
وما دلالة هذا الحادث ?
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع , والرحمة السابغة , الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة , سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها , ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله , ويلتفت إليه , ويصله به , ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال .
فأما آثار هذا الحادث الهائل في حياة البشرية كلها فقد بدأت منذ اللحظة الأولى . بدأت في تحويل خط التاريخ , منذ أن بدأت في تحويل خط الضمير الإنساني . . منذ أن تحددت الجهة التي يتطلع إليها الإنسان ويتلقى عنها تصوراته وقيمه وموازينه . . إنها ليست الأرض وليس الهوى . . إنما هي السماء والوحي الإلهي .
ومنذ هذه اللحظة عاش أهل الأرض الذين استقرت في أرواحهم هذه الحقيقة . . في كنف الله ورعايته المباشرة الظاهرة . عاشوا يتطلعون إلى الله مباشرة في كل أمرهم . كبيره وصغيره . يحسون ويتحركون تحت عين الله . ويتوقعون أن تمتد يده - سبحانه - فتنقل خطاهم في الطريق خطوة خطوة . تردهم عن الخطأ وتقودهم إلى الصواب . . وفي كل ليلة كانوا يبيتون في ارتقاب أن يتنزل عليهم من الله وحي يحدثهم بما في نفوسهم , ويفصل في مشكلاتهم , ويقول لهم:خذوا هذا ودعوا ذاك !
ولقد كانت فترة عجيبة حقا . فترة الثلاثة والعشرين عاما التالية , التي استمرت فيها هذه الصلة الظاهرة المباشرة بين البشر والملأ الأعلى . فترة لا يتصور حقيقتها إلا الذين عاشوها . وأحسوها . وشهدوا بدأها ونهايتها . وذاقوا حلاوة هذا الاتصال . وأحسوا يد الله تنقل خطاهم في الطريق . ورأوا من أين بدأوا وإلى أين انتهوا . . وهي مسافة هائلة لا تقاس بأي مقياس من مقاييس الأرض . مسافة في الضمير لا تعدلها مسافة في الكون الظاهر , ولا يماثلها بعد بين الأجرام والعوالم ! المسافة بين التلقي من الأرض والتلقي من السماء . بين الاستمداد من الهوى والاستمداد من الوحي بين الجاهلية والإسلام . بين البشرية والربانية , وهي أبعد مما بين الأرض والسماء في عالم الأجرام !
وكانوا يعرفون مذاقها . ويدركون حلاوتها . ويشعرون بقيمتها , ويحسون وقع فقدانها حينما انتقل رسول الله [ ص ] إلى الرفيق الأعلى , وانقطعت هذه الفترة العجيبة التي لا يكاد العقل يتصورها لولا أنها وقعت حقا .
عن أنس - رضي الله عنه - قال:قال أبو بكر لعمر - رضي الله عنهما - بعد وفاة رسول الله [ ص ]انطلق بنا إلى أم أيمن - رضي الله عنها - نزورها كما كان رسول الله [ ص ] يزورها . فلما أتيا إليها بكت . فقالا لها:ما يبكيك ? أما تعلمين أن ما عند الله خير لرسول الله [ ص ] ? قالت:بلى , إني لأعلم أن ما عند الله خير لرسول الله [ ص ] ولكن أبكي أن الوحي قد انقطع من السماء . فهيجتهما على البكاء , فجعلا يبكيان معها . . . [ أخرجه مسلم ] . . .
ولقد ظلت آثار هذه الفترة تعمل في حياة البشر منذ تلك اللحظة إلى هذه اللحظة , وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد ولد الإنسان من جديد باستمداد قيمه من السماء لا من الأرض , واستمداد شريعته من الوحي لا من الهوى .
لقد تحول خط التاريخ كما لم يتحول من قبل قط , وكما لم يتحول من بعد أيضا . وكان هذا الحدث هو مفرق الطريق . وقامت المعالم في الأرض واضحة عالية لا يطمسها الزمان , ولا تطمسها الأحداث . وقام في الضمير الإنساني تصور للوجود وللحياة وللقيم لم يسبق أن اتضح بمثل هذه الصورة , ولم يجيء بعده تصور في مثل شموله ونصاعته وطلاقته من اعتبارات الأرض جميعا , مع واقعيته وملاءمته للحياة الإنسانية . ولقد استقرت قواعد هذا المنهج الإلهي في الأرض ! وتبينت خطوطه ومعالمه . (ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة). . لا غموض ولا إبهام . إنما هو الضلال عن علم , والانحراف عن عمد , والالتواء عن قصد !
إنه الحادث الفذ في تلك اللحظة الفريدة . الحادث الكوني الذي ابتدأ به عهد في هذه الأرض وانتهى عهد . والذي كان فرقانا في تاريخ البشر لا في تاريخ أمة ولا جيل . والذي سجلته جنبات الوجود كله وهي تتجاوب به , وسجله الضمير الإنساني . وبقي أن يتلفت هذا الضمير اليوم على تلك الذكرى العظيمة ولا ينساها . وأن يذكر دائما أنه ميلاد جديد للإنسانية لم يشهده إلا مرة واحدة في الزمان . . .
ذلك شأن المقطع الأول من السورة . فأما بقيتها فواضح أنها نزلت فيما بعد . فهي تشير إلى مواقف وحوادث في السيرة لم تجيء إلا متأخرة , بعد تكليف الرسول [ ص ] إبلاغ الدعوة , والجهر بالعبادة , وقيام المشركين بالمعارضة . وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في السورة:(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ?). . . الخ
ولكن هناك تناسقا كاملا بين أجزاء السورة , وتسلسلا في ترتيب الحقائق التي تضمنتها بعد هذا المطلع المتقدم . يجعل من السورة كلها وحدة منسقة متماسكة . .
(اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم). .
إنها السورة الأولى من هذا القرآن , فهي تبدأ باسم الله . وتوجه الرسول [ ص ] أول ما توجه , في أول لحظة من لحظات اتصاله بالملأ الأعلى , وفي أول خطوة من خطواته في طريق الدعوة التي اختير لها . . توجهه إلى أن يقرأ باسم الله: (اقرأ باسم ربك). .
وتبدأ من صفات الرب بالصفة التي بها الخلق والبدء: (الذي خلق).
ثم تخصص:خلق الإنسان ومبدأه:(خلق الإنسان من علق). . من تلك النقطة الدموية الجامدة العالقة
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)
بالرحم . من ذلك المنشأ الصغير الساذج التكوين . فتدل على كرم الخالق فوق ما تدل على قدرته . فمن كرمه رفع هذا العلق إلى درجة الإنسان الذي يعلم فيتعلم:(اقرأ وربك الأكرم , الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم). .
وإنها لنقلة بعيدة جدا بين المنشأ والمصير . ولكن الله قادر . ولكن الله كريم . ومن ثم كانت هذه النقلة التي تدير الرؤوس !
وإلى جانب هذه الحقيقة تبرز حقيقة التعليم . . تعليم الرب للإنسان(بالقلم). . . لأن القلم كان وما يزال أوسع وأعمق أدوات التعليم أثرا في حياة الإنسان . . ولم تكن هذه الحقيقة إذ ذاك بهذا الوضوح الذي نلمسه الآن ونعرفه في حياة البشرية . ولكن الله - سبحانه - كان يعلم قيمة القلم , فيشير إليه هذه الإشارة في أول لحظة من لحظات الرسالة الأخيرة للبشرية . في أول سورة من سور القرآن الكريم . . هذا مع أن الرسول الذي جاء بها لم يكن كاتبا بالقلم , وما كان ليبرز هذه الحقيقة منذ اللحظة الأولى لو كان هو الذي يقول هذا القرآن . لولا أنه الوحي , ولولا أنها الرسالة !
ثم تبرز مصدر التعليم . . إن مصدره هو الله . منه يستمد الإنسان كل ما علم , وكل ما يعلم . وكل ما يفتح له من أسرار هذا الوجود , ومن أسرار هذه الحياة , ومن أسرار نفسه . فهو من هناك . من ذلك المصدر الواحد , الذي ليس هناك سواه .
وبهذا المقطع الواحد الذي نزل في اللحظة الأولى من اتصال الرسول [ ص ] بالملأ الأعلى , بهذا المقطع وضعت قاعدة التصور الإيماني العريضة . .
كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة , ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم , ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . .(علم الإنسان ما لم يعلم). .
وهذه الحقيقة القرآنية الأولى , التي تلقاها قلب رسول الله [ ص ] في اللحظة الأولى هي التي ظلت تصرف شعوره , وتصرف لسانه , وتصرف عمله واتجاهه , بعد ذلك طوال حياته . بوصفها قاعدة الإيمان الأولى .
قال الإمام شمس الدين أبو عبد الله محمد بن قيم الجوزية في كتابه:"زاد المعاد في هدى خير العباد" يلخص هدي رسول الله [ ص ] في ذكر الله:
"كان النبي [ ص ] أكمل الخلق ذكرا لله عز وجل . بل كان كلامه كله في ذكر الله وما والاه . وكان أمره ونهيه وتشريعه للأمة ذكرا منه لله , وإخباره عن أسماء الرب وصفاته وأحكامه وأفعاله ووعده ووعيده ذكرا منه له , وثناؤه عليه بآلائه وتمجيده وتحميده وتسبيحه ذكرا منه له , وسؤاله ودعاؤه إياه ورغبته ورهبته ذكرا منه له . وسكوته وصمته ذكرا منه له بقلبه . فكان ذاكرا لله في كل أحيانه وعلى جميع أحواله . وكان ذكره لله يجري مع أنفاسه قائما وقاعدا وعلى جنبه , وفي مشيته وركوبه , وسيره ونزوله , وظعنه وإقامته .
"وكان إذا استيقظ قال:الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور . وقالت عائشة كان إذا هب من الليل كبر عشرا , وهلل عشرا , ثم قال:اللهم إني أعوذ بك من ضيق الدنيا وضيق يوم القيامة عشرا , ثم يستفتح الصلاة . وقالت أيضا:كان إذا استيقظ من الليل قال:لا إله إلا أنت سبحانك . اللهم أستغفركلذنبي وأسألك رحمتك . اللهم زدني علما , ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني وهب لي من لدنك رحمة , إنك أنت الوهاب " ذكرها أبو داود" . وأخبر أن من استيقظ من الليل فقال:"لا إله إلا الله وحده , لا شريك له , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير , الحمد لله وسبحان الله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ثم قال:اللهم اغفر لي , أو دعاء آخر استجيب له . فإن توضأ وصلى قبلت صلاته "ذكره البخاري" .
وقال ابن عباس عنه [ ص ] ليلة مبيته عنده:إنه لما استيقظ رفع رأسه للسماء , وقال العشر الآيات الخواتيم من سورة آل عمران . . (إن في خلق السماوات والأرض . . . الخ)ثم قال . . " اللهم لك الحمد أنت نور السماوات والآرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن . ولك الحمد أنت الحق , ووعدك الحق , وقولك الحق , ولقاؤك حق , والجنة حق , والنار حق , والنبيون حق , ومحمد حق , والساعة حق . اللهم لك أسلمت , وبك آمنت , وعليك توكلت , وإليك أنبت , وبك خاصمت , وإليك حاكمت , فاغفر لي ما قدمت وما أخرت , وما أسررت وما أعلنت . أنت إلهي لا إله إلا أنت , ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم " .
"وقد قالت عائشة - رضي الله عنها - كان إذا قام من الليل قال:" اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل , فاطر السماوات والأرض , عالم الغيب والشهادة , أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون , اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك , إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم " . وربما قالت:كان يفتتح صلاته بذلك .
"وكان إذا أوتر ختم وتره بعد فراغه بقوله:سبحان الله القدوس [ ثلاثا ] ويمد بالثالثة صوته .
"وكان إذا خرج من بيته يقول:بسم الله توكلت على الله , اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل , أو أزل , أو أظلم أو أظلم , أو أجهل , أو يجهل علي " [ حديث صحيح ] .
"وقال [ ص ] من قال إذا خرج من بيته بسم الله توكلت على الله ولا حول ولا قوة إلا بالله يقال له:هديت وكفيت ووقيت وتنحى عنه الشيطان " [ حديث حسن ] .
"وقال ابن عباس عنه - ليلة مبيته عنده -:إنه خرج إلى صلاة الفجر وهو يقول:اللهم اجعل في قلبي نورا , واجعل في لساني نورا , واجعل في سمعي نورا , واجعل في بصري نورا , واجعل من خلفي نورا , ومن أمامي نورا , واجعل من فوقي نورا , واجعل من تحتي نورا , اللهم أعظم لي نورا " .
"وقال فضل بن مرزوق عن عطية العوفي , عن أبي سعيد الخدري:قال:قال رسول الله [ ص ]:" ما خرج رجل من بيته إلى الصلاة فقال:اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك , وبحق ممشاي إليك , فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة , وإنما خرجت اتقاء سخطك , وابتغاء مرضاتك , أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي , فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت . إلا وكل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له , وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته " .
وذكر أبو داود عنه [ ص ] أنه كان إذا دخل المسجد قال أعوذ بالله العظيم , وبوجهه الكريم , وسلطانه القديم , من الشيطان الرجيم . فإذا قال ذلك قال الشيطان:حفظ مني سائر اليوم" .
وقال [ ص ]:" إذا دخل أحدكم المسجد فليصل وليسلم على النبي [ ص ] وليقل:اللهم افتح لي أبواب رحمتك , فإذا خرج فليقل:اللهم إني أسألك من فضلك " . . " وذكر عنه أنه كان إذا دخل المسجد صلى على محمد وآله وسلم , ثم يقول:اللهم اغفر لي ذنوبي , وافتح لي أبواب رحمتك " . فإذا خرج صلى على محمد وآله وسلم , ثم يقول:اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي باب فضلك .
"وكان إذا صلى الصبح جلس في مصلاه حتى تطلع الشمس يذكر الله عز وجل . وكان يقول إذا أصبح:اللهم بك أصبحنا , وبك أمسينا , وبك نحيا , وبك نموت , وإليك النشور . " [ حديث صحيح ] . " وكان يقول:"أصبحنا وأصبح الملك لله , والحمد لله , ولا إله إلا الله وحده لا شريك له , له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير . رب أسألك خير ما في هذا اليوم وخير ما بعده , وأعوذ بك من شر هذا اليوم , وشر ما بعده ; رب أعوذ بك من الكسل وسوء الكبر , رب أعوذ بك من عذاب في النار وعذاب في القبر . وإذا أمسى قال:أمسينا وأمسى الملك لله . . " الخ [ ذكره مسلم ] .
"وقال له أبو بكر الصديق رضي الله عنه - مرني بكلمات أقولهن إذا أصبحت وإذا أمسيت . قال:قل:اللهم فاطر السماوات والآرض , عالم الغيب والشهادة , رب كل شيء مليكه ومالكه . أشهد أن لا إله إلا أنت , أعوذ بك من شر نفسي وشر الشيطان وشركه , وأن أقترف على نفسي سوءا أو أجره إلى مسلم . قال:قلها إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعك " [ حديث صحيح ] . "ثم ذكر أحاديث كثيرة في هذا الباب" .
. . . "وكان [ ص ] إذا استجد ثوبا سماه باسمه عمامة أو قميصا أو رداء . ثم يقول:" اللهم لك الحمد , أنت كسوتنيه , أسألك خيره وخير ما صنع له , وأعوذ بك من شره وشر ما صنع له " . [ حديث صحيح ] .
"ويذكر عنه [ ص ] أنه كان يقول إذا انقلب إلى بيته:" الحمد لله الذي كفاني وآواني , والحمد لله الذي أطعمني وسقاني , والحمد لله الذي من علي . أسألك أن تجيرني من النار " .
"وثبت عنه في الصحيحين أنه كان يقول عند دخوله الخلاء:" اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث " .
وكان إذا خرج من الخلاء قال:" غفرانك " ويذكر عنه أنه كان يقول:" الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني " [ ذكره ابن ماجة ] .
"وثبت عنه أنه وضع يده في الإناء الذي فيه الماء , ثم قال للصحابة:" توضأوا باسم الله " .
"ويذكر عنه أنه كان يقول "عند رؤية الهلال":" اللهم أهله علينا بالأمن والإيمان , والسلامة والإسلام , ربي وربك الله " [ قال الترمذي حديث حسن ] .
"وكان إذا وضع يده في الطعام قال:باسم الله . ويأمر الآكل بالتسمية ويقول:إذا أكل أحدكم فليذكر اسم الله تعالى , فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل:باسم الله في أوله وآخره " [ حديث صحيح ] .
وهكذا كانت حياته كلها [ ص ] بدقائقها متأثرة بهذا التوجيه الإلهي الذي تلقاه في اللحظة الأولى . وقام به تصوره الإيماني على قاعدته الأصيلة العريقة . .
ولقد كان من مقتضيات تلك الحقيقة:حقيقة أن الله هو الذي خلق . وهو الذي علم . وهو الذي أكرم . أن يعرف الإنسان . ويشكر . ولكن الذي حدث كان غير هذا , وهذا الانحراف هو الذي يتحدث عنه المقطع الثاني للسورة:
(كلا ! إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى . إن إلى ربك الرجعى). .
إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْداً إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15)
إن الذي أعطاه فأغناه هو الله . كما أنه هو الذي خلقه وأكرمه وعلمه . ولكن الإنسان في عمومه - لا يستثني إلا من يعصمه إيمانه - لا يشكر حين يعطى فيستغني ; ولا يعرف مصدر النعمة التي أغنته , وهو المصدر الذي أعطاه خلقه وأعطاه علمه . . ثم أعطاه رزقه . . ثم هو يطغى ويفجر , ويبغي ويتكبر , من حيث كان ينبغي أن يعرف ثم يشكر .
وحين تبرز صورة الإنسان الطاغي الذي نسي نشأته وأبطره الغنى , يجيء التعقيب بالتهديد الملفوف:(إن إلى ربك الرجعى)فأين يذهب هذا الذي طغى واستغنى ?
وفي الوقت ذاته تبرز قاعدة أخرى من قواعد التصور الإيماني . قاعدة الرجعة إلى الله . الرجعة إليه في كل شيء وفي كل أمر , وفي كل نية , وفي كل حركة , فليس هناك مرجع سواه . إليه يرجع الصالح والطالح . والطائع والعاصي . والمحق والمبطل . والخير والشرير . والغني والفقير . . وإليه يرجع هذا الذي يطغى أن رآه استغنى . ألا إلى الله تصير الأمور . . ومنه النشأة وإليه المصير . .
وهكذا تجتمع في المقطعين أطراف التصور الإيماني . . الخلق والنشأة . والتكريم والتعليم . . ثم . . الرجعة والمآب لله وحده بلا شريك:(إن إلى ربك الرجعى). .
ثم يمضي المقطع الثالث في السورة القصيرة يعرض صورة من صور الطغيان:صورة مستنكرة يعجب منها , ويفظع وقوعها في أسلوب قرآني فريد .
(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ? أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ? أرأيت إن كذب وتولى ? ألم يعلم بأن الله يرى ?).
والتشنيع والتعجيب واضح في طريقة التعبير , التي تتعذر مجاراتها في لغة الكتابة . ولا تؤدى إلا في أسلوب الخطاب الحي . الذي يعبر باللمسات المتقطعة في خفة وسرعة !
(أرأيت)? أرأيت هذا الأمر المستنكر ? أرأيته يقع ?(أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ?).
أرأيت حين تضم شناعة إلى شناعة ? وتضاف بشاعة إلى بشاعة ? أرأيت إن كان هذا الذي يصلي ويتعرض له من ينهاه عن صلاته . . إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ? ثم ينهاه من ينهاه . مع أنه على الهدى , آمر بالتقوى ? . أرأيت إن أضاف إلى الفعلة المستنكرة فعلة أخرى أشد نكرا ?(أرأيت إن كذب وتولى ?).
هنا يجيء التهديد الملفوف كما جاء في نهاية المقطع الماضي:(ألم يعلم بأن الله يرى ?)يرى تكذيبه وتوليه . ويرى نهيه للعبد المؤمن إذا صلى , وهو على الهدى , آمر بالتقوى . يرى . وللرؤية ما بعدها !(ألم يعلم بأن الله يرى !).
وأمام مشهد الطغيان الذي يقف في وجه الدعوة وفي وجه الإيمان , وفي وجه الطاعة , يجيء التهديد الحاسم الرادع الأخير , مكشوفا في هذه المرة لا ملفوفا: كلا . لئن لم ينته لنسفعا بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . فليدع ناديه . سندع الزبانية .
إنه تهديد في إبانه . في اللفظ الشديد العنيف:(كلا . لئن لم ينته لنسفعا بالناصية).
نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
هكذا(لنسفعن)بهذا اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه . والسفع:الأخذ بعنف . والناصية:الجبهة . أعلى مكان يرفعه الطاغية المتكبر . مقدم الرأس المتشامخ:إنها ناصية تستحق السفع والصرع:(ناصية كاذبة خاطئة)! وإنها للحظة سفع وصرع . فقد يخطر له أن يدعو من يعتز بهم من أهله وصحبه:(فليدع ناديه)أما نحن فإننا(سندع الزبانية)الشداد الغلاظ . . والمعركة إذن معروفة المصير !
وفي ضوء هذا المصير المتخيل الرعيب . . تختم السورة بتوجيه المؤمن الطائع إلى الإصرار والثبات على إيمانه وطاعته . .
(كلا . لا تطعه , واسجد , واقترب .)
كلا ! لا تطع هذا الطاغي الذي ينهى عن الصلاة والدعوة . واسجد لربك واقترب منه بالطاعة والعبادة . ودع هذا الطاغي . الناهي دعه للزبانية !
ولقد وردت بعض الروايات الصحيحة بأن السورة - عدا المقطع الأول منها - قد نزلت في أبي جهل إذ مر برسول الله [ ص ] وهو يصلي عند المقام . فقال [ يا محمد . ألم أنهك عن هذا ? وتوعده . فأغلظ له رسول الله [ ص ] وانتهره . . ] ولعلها هي التي أخذ فيها رسول الله [ ص ] بخناقه وقال له: أولى لك ثم أولى فقال:يا محمد بأي شي تهددني ? أما والله إني لأكثر هذا الوادي ناديا , فأنزل الله:(فليدع ناديه . . .)وقال ابن عباس لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته . ولكن دلالة السورة عامة في كل مؤمن طائع عابد داع إلى الله . وكل طاغ باغ ينهى عن الصلاة , ويتوعد على الطاعة , ويختال بالقوة . . والتوجيه الرباني الأخير:(كلا ! لا تطعه واسجد واقترب). .
وهكذا تتناسق مقاطع السورة كلها وتتكامل إيقاعاتها . . .
سورة القدر
إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
سورة القدر
تعريف بسورة القدر
الحديث في هذه السورة عن تلك الليلة الموعودة المشهودة التي سجلها الوجود كله في فرح وغبطة وابتهال . ليلة الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى . ليلة بدء نزول هذا القرآن على قلب محمد [ ص ] ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثله في عظمته , وفي دلالته , وفي آثاره في حياة البشرية جميعا . العظمة التي لا يحيط بها الإدراك البشري:(إنا أنزلناه في ليلة القدر . وما أدراك ما ليلة القدر ?). .(ليلة القدر خير من ألف شهر). .
والنصوص القرآنية التي تذكر هذا الحدث تكاد ترف وتنير . بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود . نور الله المشرق في قرآنه:(إنا أنزلناه في ليلة القدر)ونور الملائكة والروح وهم في غدوهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ والأعلى:
(تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر). . ونور الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقا مع نور الوحي ونور الملائكة , وروح السلام المرفرف على الوجود وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود:(سلام هي حتى مطلع الفجر).
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في سورة الدخان:(إنا أنزلناه في ليلة مباركة , إنا كنا منذرين , فيها يفرق كل أمر حكيم . أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم). . والمعروف أنها ليلة من ليالي رمضان , كما ورد في سورة البقرة: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن , هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان). . أي التي بدأ فيها نزول القرآن على قلب الرسول [ ص ] ليبلغه إلى الناس . وفي رواية ابن إسحاق أن أول الوحي بمطلع سورة العلق كان في شهر رمضان , ورسول الله [ ص ] يتحنث في غار حراء .
وقد ورد في تعيين هذه الليلة آثار كثيرة . بعضها يعين الليلة السابعة والعشرين من رمضان . وبعضها يعين الليلةالواحدة والعشرين . وبعضها يعينها ليلة من الليالي العشر الأخيرة . وبعضها يطلقها في رمضان كله . فهي ليلة من ليالي رمضان على كل حال في أرجح الآثار .
واسمها: (ليلة القدر). . قد يكون معناه التقدير والتدبير . وقد يكون معناه القيمة والمقام . وكلاهما يتفق مع ذلك الحدث الكوني العظيم . حدث القرآن والوحي والرسالة . . وليس أعظم منه ولا أقوم في أحداث هذا الوجود . وليس أدل منه كذلك على التقدير والتدبير في حياة العبيد . وهي خير من ألف شهر . والعدد لا يفيد التحديد . في مثل هذه المواضع من القرآن . إنما هو يفيد التكثير . والليلة خير من آلاف الشهور في حياة البشر . فكم من آلاف الشهور وآلاف السنين قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثار وتحولات .
والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتها حدود الإدراك البشري:(وما أدراك ما ليلة القدر ?)وذلك بدون حاجة إلى التعلق بالأساطير التي شاعت حول هذه الليلة في أوهام العامة . فهي ليلة عظيمة باختيار الله لها لبدء تنزيل هذا القرآن . وإفاضة هذا النور على الوجود كله , وإسباغ السلام الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية , وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصور وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير . وتنزيل الملائكة وجبريل - عليه السلام - خاصة , بإذن ربهم , ومعهم هذا القرآن - باعتبار جنسه الذي نزل في هذه الليلة - وانتشارهم فيما بين السماء والأرض في هذا المهرجان الكوني , الذي تصوره كلمات السورة تصويرا عجيبا . .
وحين ننظر اليوم من وراء الأجيال المتطاولة إلى تلك الليلة المجيدة السعيدة , ونتصور ذلك المهرجان العجيب الذي شهدته الأرض في هذه الليلة , ونتدبر حقيقة الأمر الذي تم فيها , ونتملى آثاره المتطاولة في مراحل الزمان , وفي واقع الأرض , وفي تصورات القلوب والعقول . . فإننا نرى أمرا عظيما حقا . وندرك طرفا من مغزى هذه الإشارة القرآنية إلى تلك الليلة:(وما أدراك ما ليلة القدر ?). .
ولقد فرق فيها من كل أمر حكيم . وقد وضعت فيها من قيم وأسس وموازين . وقد قررت فيها من أقدار أكبر من أقدار الأفراد . أقدار أمم ودول وشعوب . بل أكثر وأعظم . . أقدار حقائق وأوضاع وقلوب !
ولقد تغفل البشرية - لجهالتها ونكد طالعها - عن قدر ليلة القدر . وعن حقيقة ذلك الحدث , وعظمة هذا الأمر . وهي منذ أن جهلت هذا وأغفلته فقدت أسعد وأجمل آلاء الله عليها , وخسرت السعادة والسلام الحقيقي - سلام الضمير وسلام البيت وسلام المجتمع - الذي وهبها إياه الإسلام . ولم يعوضها عما فقدت ما فتح عليها من أبواب كل شيء من المادة والحضارة والعمارة . فهي شقية , شقية على الرغم من فيض الإنتاج وتوافر وسائل المعاش !
لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في روحها مرة , وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى . وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب . فلم يعوضها شيء عن فرحة الروح ونور السماءوطلاقة الرفرفة إلى عليين . .
ونحن - المؤمنين - مأمورون أن لا ننسى ولا نغفل هذه الذكرى ; وقد جعل لنا نبينا [ ص ] سبيلا هينا لينا لاستحياء هذه الذكرى في أرواحنا لتظل موصولة بها أبدا , موصولة كذلك بالحدث الكوني الذي كان فيها . . وذلك فيما حثنا عليه من قيام هذه الليلة من كل عام , ومن تحريها والتطلع إليها في الليالي العشر الأخيرة من رمضان . . في الصحيحين:" تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان " . . وفي الصحيحين كذلك:" من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه " . .
والإسلام ليس شكليات ظاهرية . ومن ثم قال رسول الله [ ص ] في القيام في هذه الليلة أن يكون "إيمانا واحتسابا" . . وذلك ليكون هذا القيام استحياء للمعاني الكبيرة التي اشتملت عليها هذه الليلة "إيمانا" وليكون تجردا لله وخلوصا "واحتسابا" . . ومن ثم تنبض في القلب حقيقة معينة بهذا القيام . ترتبط بذلك المعنى الذي نزل به القرآن .
والمنهج الإسلامي في التربية يربط بين العبادة وحقائق العقيدة في الضمير , ويجعل العبادة وسيلة لاستحياء هذه الحقائق وإيضاحها وتثبيتها في صورة حية تتخلل المشاعر ولا تقف عند حدود التفكير .
وقد ثبت أن هذا المنهج وحده هو أصلح المناهج لإحياء هذه الحقائق ومنحها الحركة في عالم الضمير وعالم السلوك . وأن الإدراك النظري وحده لهذه الحقائق بدون مساندة العبادة , وعن غير طريقها , لا يقر هذه الحقائق , ولا يحركها حركة دافعة في حياة الفرد ولا في حياة الجماعة . .
وهذا الربط بين ذكرى ليلة القدر وبين القيام فيها إيمانا واحتسابا , هو طرف من هذا المنهج الإسلامي الناجح القويم .
سورة البينة
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)
سورة البينة
تعريف بسورة البينة
هذه السورة معدودة في المصحف وفي أكثر الروايات أنها مدنية . وقد وردت بعض الروايات بمكيتها . ومع رجحان مدنيتها من ناحية الرواية , ومن ناحية أسلوب التعبير التقريري , فإن كونها مكية لا يمكن استبعاده . وذكر الزكاة فيها وذكر أهل الكتاب لا يعتبر قرينة مانعة . فقد ورد ذكر أهل الكتاب في بعض السور المقطوع بمكيتها . وكان في مكة بعض أهل الكتاب الذين آمنوا , وبعضهم لم يؤمنوا . كما أن نصارى نجران وفدوا على الرسول [ ص ] في مكة وآمنوا كما هو معروف . وورد ذكر الزكاة كذلك في سور مكية .
والسورة تعرض عدة حقائق تاريخية وإيمانية في أسلوب تقريري هو الذي يرجح أنها مدنية إلى جانب الروايات القائلة بهذا .
والحقيقة الأولى هي أن بعثة الرسول [ ص ] كانت ضرورية لتحويل الذين كفروا من أهلالكتاب ومن المشركين عما كانوا قد انتهوا إليه من الضلال والاختلاف , وما كانوا ليتحولوا عنه بغير هذه البعثة: لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة:رسول من الله يتلو صحفا مطهرة , فيها كتب قيمة . .
والحقيقة الثانية:أن أهل الكتاب لم يختلفوا في دينهم عن جهالة ولا عن غموض فيه , إنما اختلفوا من بعد ما جاءهم العلم وجاءتهم البينة:(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة).
والحقيقة الثالثة:أن الدين في أصله واحد , وقواعده بسيطة واضحة , لا تدعو إلى التفرق والاختلاف في ذاتها وطبيعتها البسيطة اليسيرة:(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء , ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة , وذلك دين القيمة).
والحقيقة الرابعة:أن الذين كفروا بعد ما جاءتهم البينة هم شر البرية , وأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية . ومن ثم يختلف جزاء هؤلاء عن هؤلاء اختلافا بينا:
ن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية , جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا , رضي الله عنهم ورضوا عنه , ذلك لمن خشي ربه . .
وهذه الحقائق الأربع ذات قيمة في إدراك دور العقيدة الإسلامية ودور الرسالة الأخيرة . وفي التصور الإيماني كذلك . نفصلها فيما يلي:
(لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة:رسول من الله يتلو صحفا مطهرة , فيها كتب قيمة).
لقد كانت الأرض في حاجة ماسة إلى رسالة جديدة كان الفساد قد عم أرجاءها كلها بحيث لا يرتجى لها صلاح إلا برسالة جديدة , ومنهج جديد , وحركة جديدة . وكان الكفر قد تطرق إلى عقائد أهلها جميعا سواء أهل الكتاب الذين عرفوا الديانات السماوية من قبل ثم حرفوها , أو المشركون في الجزيرة العربية وفي خارجها سواء .
وما كانوا لينفكوا ويتحولوا عن هذا الكفر الذي صاروا إليه إلا بهذه الرسالة الجديدة , وإلا على يد رسول يكون هو ذاته بينة واضحة فارقة فاصلة:(رسول من الله يتلو صحفا مطهرة). . مطهرة من الشرك والكفر(فيها كتب قيمة). . والكتاب يطلق على الموضوع , كما يقال كتاب الطهارة وكتاب الصلاة , وكتاب القدر , وكتاب القيامة , وهذه الصحف المطهرة - وهي هذا القرآن - فيها كتب قيمة أي موضوعات وحقائق قيمة . .
ومن ثم جاءت هذه الرسالة في إبانها , وجاء هذا الرسول في وقته , وجاءت هذه الصحف وما فيها من كتب وحقائق وموضوعات لتحدث في الأرض كلها حدثا لا تصلح الأرض إلا به . فأما كيف كانت الأرض في حاجة إلى هذه الرسالة وإلى هذا الرسول فنكتفي في بيانه باقتطاف لمحات كاشفة من الكتاب القيم الذي كتبه الرجل المسلم "السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي" بعنوان:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" . . وهو أوضح وأخصر ما قرأناه في موضوعه:
جاء في الفصل الأول من الباب الأول:
كان القرن السادس والسابع لميلاد المسيح من أحط أدوار التاريخ بلا خلاف . فكانت الإنسانية متدلية منحدرة منذ قرون . وما على وجه الأرض قوة تمسك بيدها وتمنعها من التردي وقد زادتها الأيام سرعة في هبوطها وشدة في إسفافها . وكان الإنسان في هذا القرن قد نسي خالقه , فنسي نفسه ومصيره , وفقد رشده , وقوة التمييز بين الخير والشر , والحسن والقبيح . وقد خفتت دعوة الأنبياء من زمن , والمصابيح التي أوقدوها قد انطفأت من العواصف التي هبت بعدهم , أو بقيت ونورها ضعيف ضئيل لا ينير إلا بعض القلوب , فضلا عن البيوت , فضلا عن البلاد . وقد انسحب رجال الدين من ميدان الحياة , ولاذوا بالأديرة والكنائس والخلوات فرارا بدينهم من الفتن , وضنا بأنفسهم , أو رغبة إلى الدعة والسكون , وفرارا من تكاليف الحياة وجدها , أو فشلا في كفاح الدين والسياسة , والروح والمادة ; ومن بقي منهم في تيار الحياة اصطلح مع الملوك وأهل الدنيا وعاونهم على إثمهم وعدوانهم , وأكل أموال الناس بالباطل . . .
أصبحت الديانات العظيمة فريسة العابثين والمتلاعبين ; ولعبة المجرمين والمنافقين , حتى فقدت روحها وشكلها , فلو بعث أصحابها الأولون لم يعرفوها ; وأصبحت مهود الحضارة والثقافة والحكم والسياسة مسرح الفوضى والانحلال والاختلال وسوء النظام وعسف الحكام , وشغلت بنفسها لا تحمل للعالم رسالة , ولا للأمم دعوة , وأفلست في معنوياتها , ونضب معين حياتها , لا تملك مشرعا صافيا من الدين السماوي , ولا نظاما ثابتا من الحكم البشري" . .
هذه اللمحة السريعة تصور في إجمال حالة البشرية والديانات قبيل البعثة المحمدية . وقد أشار القرآن إلى مظاهر الكفر الذي شمل أهل الكتاب والمشركين في مواضع شتى . .
من ذلك قوله عن اليهود والنصارى: وقالت اليهود عزير ابن الله . وقالت النصارى المسيح ابن الله . . (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء , وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ). .
وقوله عن اليهود: وقالت اليهود:يد الله مغلولة . غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا . بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء .
وقوله عن النصارى: لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم . . (لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة ).
وقوله عن المشركين: (قل يا أيها الكافرون , لا أعبد ما تعبدون , ولا أنتم عابدون ما أعبد . ولا أنا عابد ما عبدتم ; ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين). . وغيرها كثير . .
وكان وراء هذا الكفر ما وراءه من الشر والانحطاط والشقاق والخراب الذي عم أرجاء الأرض . . . "وبالجملة لم تكن على ظهر الأرض أمة صالحة المزاج , ولا مجتمع قائم على أساس الأخلاق والفضيلة , ولا حكومة مؤسسة على أساس العدل والرحمة , ولا قيادة مبنية على العلم والحكمة , لا دين صحيح مأثور عن الأنبياء " .
ومن ثم اقتضت رحمة الله بالبشرية إرسال رسول من عنده يتلو صحفا مطهرة فيها كتب قيمة . وما كانالذين كفروا من المشركين ومن الذين أوتوا الكتاب ليتحولوا عن ذلك الشر والفساد إلا ببعثة هذا الرسول المنقذ الهادي المبين . . .
ولما قرر هذه الحقيقة في مطلع السورة عاد يقرر أن أهل الكتاب خاصة لم يتفرقوا ويختلفوا في دينهم عن جهل أو عن غموض في الدين أو تعقيد . إنما هم تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم العلم ومن بعد ما جاءتهم البينة من دينهم على أيدي رسلهم:
(وما تفرق الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءتهم البينة). .
وكان أول التفرق والاختلاف ما وقع بين طوائف اليهود قبل بعثة عيسى - عليه السلام - فقد انقسموا شعبا وأحزابا . مع أن رسولهم هو موسى - عليه السلام - وكتابهم هو التوراة . فكانوا طوائف خمسة رئيسية هي طوائف الصدوقيين , والفريسيين , والآسيين , والغلاة , والسامريين . . ولكل طائفة سمة واتجاه . ثم كان التفرق بين اليهود والنصارى , مع أن المسيح - عليه السلام - هو أحد أنبياء بني إسرائيل وآخرهم , وقد جاء مصدقا لما بين يديه من التوراة , ومع هذا فقد بلغ الخلاف والشقاق بين اليهود والمسيحيين حد العداء العنيف والحقد الذميم . وحفظ التاريخ من المجازر بين الفريقين ما تقشعر له الأبدان .
"وقد تجدد في أوائل القرن السابع من الحوادث ما بغضهم [ أي اليهود ] إلى المسيحيين وبغض المسيحيين إليهم , وشوه سمعتهم . ففي السنة الأخيرة من حكم فوكاس [ 610م ] أوقع اليهود بالمسيحيين في أنطاكية , فأرسل الأمبراطور قائده [ ابنوسوس ] ليقضي على ثورتهم , فذهب وأنفذ عمله بقسوة نادرة , فقتل الناس جميعا قتلا بالسيف , وشنقا , وإغراقا , وإحراقا , وتعذيبا , ورميا للوحوش الكاسرة . . . وكان ذلك بين اليهود والنصارى مرة بعد مرة , قال المقريزي في كتاب الخطط:"وفي أيام [ فوقا ] ملك الروم , بعث كسرى ملك فارس جيوشه إلى بلاد الشام ومصر فخربوا كنائس القدس , وفلسطين وعامة بلاد الشام , وقتلوا النصارى بأجمعهم , وأتوا إلى مصر في طلبهم , وقتلوا منهم أمة كبيرة , وسبوا منهم سبيا لا يدخل تحت حصر . وساعدهم اليهود في محاربة النصارى وتخريب كنائسهم ; وأقبلوا نحو الفرس من طبرية , وجبل الجليل , وقرية الناصرة ومدينة صور , وبلاد القدس ; فنالوا من النصارى كل منال وأعظموا النكاية فيهم , وخربوا لهم كنيستين بالقدس , وأحرقوا أماكنهم , وأخذوا قطعة من عود الصليب , وأسروا بطرك القدس وكثيرا من أصحابه . إلى أن قال - بعد أن ذكر فتح القدس:
"فثارت اليهود في أثناء ذلك بمدينة صور , وأرسلوا بقيتهم في بلادهم , وتواعدوا على الإيقاع بالنصارى وقتلهم , فكانت بينهم حرب , اجتمع فيها من اليهود نحو 20 ألفا وهدموا كنائس النصارى خارج صور . فقوس النصارى عليهم وكاثروهم فانهزم اليهود هزيمة قبيحة , وقتل منهم كثير . وكان هرقل قد ملك الروم بقسطنطينية , وغلب الفرس بحيلة دبرها على كسرى حتى رحل عنه , ثم سار من قسطنطينية ليمهد ممالك الشام ومصر , ويجدد ما خربه الفرس , فخرج إليه اليهود من طبرية وغيرها , وقدموا له الهدايا الجليلة وطلبوا منه أن يؤمنهم منه ويحلف لهم على ذلك , فأمنهم وحلف لهم . ثم دخل القدس , وقد تلقاهم النصارى بالأناجيل والصلبان والبخور والشموع المشعلة , فوجد المدينة وكنائسها خرابا , فساءه ذلك , وتوجع لهم , وأعلمه النصارى بما كان من ثورة اليهود مع الفرس , وإيقاعهم بالنصارى وتخريبهم الكنائس , وأنهم كانوا أشد نكاية لهم من الفرس , وقاموا قياما كبيرا في قتلهم عن آخرهم , وحثوا هرقل على الوقيعة بهم , وحسنوا له ذلك . فاحتجعليهم بما كان من تأمينه لهم وحلفه , فأفتاه رهبانهم وبطارقتهم وقسيسوهم بأنه لا حرج عليه في قتلهم , فإنهم عملوا عليه حيلة حتى أمنهم من غير أن يعلم بما كان منهم , وأنهم يقومون عنه بكفارة يمينه بأن يلتزموا ويلزموا النصارى بصوم جمعة في كل سنة عنه على مر الزمان والدهور ! فمال إلى قولهم وأوقع باليهود وقيعة شنعاء أبادهم جميعهم فيها , حتى لم يبق في ممالك الروم في مصر والشام إلا من فر واختفى . .
"وبهذه الروايات يعلم ما وصل إليه الفريقان:اليهود والنصارى , من القسوة والضراوة بالدم الإنساني , وتحين الفرص للنكاية في العدو , وعدم مراعاة الحدود في ذلك" .
ثم كان التفرق والاختلاف بين النصارى أنفسهم , مع أن كتابهم واحد ونبيهم واحد . تفرقوا واختلفوا أولا في العقيدة . ثم تفرقوا واختلفوا طوائف متعادية متنافرة متقاتلة . وقد دارت الخلافات حول طبيعة المسيح - عليه السلام - وعما إذا كان لاهوتية أو ناسوتية . وطبيعة أمه مريم . وطبيعة الثالوث الذي يتألف منه "الله" - في زعمهم - وحكى القرآن قولين منها أو ثلاثة في قوله: (لقد كفر الذين قالوا:إن الله هو المسيح ابن مريم). . (لقد كفر الذين قالوا:إن الله ثالث ثلاثة) (وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس:اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ?).
"وكان أشد مظاهر هذا الخلاف الديني ما كان بين نصارى الشام والدولة الرومية , وبين نصارى مصر . أو بين "الملكانية " , "المنوفوسية " بلفظ أصح . فكان شعار الملكانية عقيدة ازدواج طبيعة المسيح , وكان المنوفوسيون يعتقدون أن للسيد المسيح طبيعة واحدة هي الإلاهية . التي تلاشت فيها طبيعة المسيح البشرية كقطرة من الخل تقع في بحر عميق لا قرار له . وقد اشتد هذا الخلاف بين الحزبين في القرنين السادس والسابع , حتى صار كأنه حرب عوان بين دينين متنافسين , أو كأنه خلاف بين اليهود والنصارى . . كل طائفة تقول للأخرى:إنها ليست على شيء .
"وحاول الإمبراطور هرقل [ 610 - 641 ] بعد انتصاره على الفرس [ سنة 638 ] جمع مذاهب الدولة المتصارعة وتوحيدها , وأراد التوفيق , وتقررت صورة التوفيق أن يمتنع الناس عن الخوض في الكلام عن كنه طبيعة السيد المسيح , وعما إذا كانت له صفة واحدة أم صفتان , ولكن عليهم بأن يشهدوا بأن الله له إرادة واحدة أو قضاء واحد . وفي صدر عام 631 حصل وفاق على ذلك , وصار المذهب المنوثيلي مذهبا رسميا للدولة , ومن تضمهم من أتباع الكنيسة المسيحية . وصمم هرقل على إظهار المذهب الجديد على ما عداه من المذاهب المخالفة , متوسلا إلى ذلك بكل الوسائل . ولكن القبط نابذوه العداء , وتبرأوا من هذه البدعة والتحريف ! وصمدوا له واستماتوا في سبيل عقيدتهم القديمة . وحاول الإمبراطور مرة أخرى توحيد المذاهب وحسم الخلاف فاقتنع بأن يقر الناس بأن الله له إرادة واحدة . وأما المسألة الأخرى وهي نفاذ تلك الإرادة بالفعل فأرجأ القول فيه , ومنع الناس أن يخوضوا في مناظراته . وجعل ذلك رسالة رسمية , ذهب بها إلى جميع جهات العالم الشرقي . ولكن الرسالة لم تهدئ العاصفة في مصر , ووقع اضطهاد فظيع على يد قيصر في مصر استمر عشر سنين , ووقع في خلالها ما تقشعر منه الجلود , فرجال كانوا يعذبون ثم يقتلون غرقا , وتوقد المشاعل وتسلط نارها على الأشقياءحتى يسيل الدهن من الجانبين إلى الأرض ويوضع السجين في كيس مملوء بالرمل ويرمى في البحر . إلى غير ذلك من الفظائع" .
وكان هذا الخلاف كله بين أهل الكتاب جميعا (من بعد ما جاءتهم البينة). . فلم يكن ينقصهم العلم والبيان ; إنما كان يجرفهم الهوى والانحراف .
على أن الدين في أصله واضح والعقيدة في ذاتها بسيطة:
(وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء , ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة)وهذه هي قاعدة دين الله على الإطلاق:
عبادة الله وحده , وإخلاص الدين له , والميل عن الشرك وأهله , وإقامة الصلاة , وإيتاء الزكاة: (وذلك دين القيمة). . عقيدة خالصة في الضمير , وعبادة لله , تترجم عن هذه العقيدة , وإنفاق للمال في سبيل الله , وهو الزكاة . . فمن حقق هذه القواعد , فقد حقق الإيمان كما أمر به أهل الكتاب , وكما هو في دين الله على الإطلاق . دين واحد . وعقيدة واحدة , تتوالى بها الرسالات , ويتوافى عليها الرسل . . دين لا غموض فيه ولا تعقيد . وعقيدة لا تدعو إلى تفرق ولا خلاف , وهي بهذه النصاعة , وبهذه البساطة , وبهذا التيسير . فأين هذا من تلك التصورات المعقدة , وذلك الجدل الكثير ?
فأما وقد جاءتهم البينة من قبل في دياناتهم على أيدي رسلهم ; ثم جاءتهم البينة , حية في صورة رسول من الله يتلو صحفا مطهرة ; ويقدم لهم عقيدة , واضحة بسيطة ميسرة , فقد تبين الطريق . ووضح مصير الذين يكفرون والذين يؤمنون:
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها أولئك هم شر البرية . إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية . جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا . رضي الله عنهم ورضوا عنه , ذلك لمن خشي ربه). .
إن محمدا [ ص ] هو الرسول الأخير ; وإن الإسلام الذي جاء به هو الرسالة الأخيرة . وقد كانت الرسل تتوالى كلما فسدت الأرض لترد الناس إلى الصلاح . وكانت هناك فرصة بعد فرصة ومهلة بعد مهلة , لمن ينحرفون عن الطريق فأما وقد شاء الله أن يختم الرسالات إلى الأرض بهذه الرسالة الأخيرة الجامعة الشاملة الكاملة , فقد تحددت الفرصة الأخيرة , فإما إيمان فنجاة , وإما كفر فهلاك . ذلك أن الكفر حينئذ دلالة على الشر الذي لا حد له , وأن الإيمان دلالة على الخير البالغ أمده .
(إن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين في نار جهنم خالدين فيها . أولئك هم شر البرية)حكم قاطع لا جدال فيه ولا محال . مهما يكن من صلاح بعض أعمالهم وآدابهم ونظمهم ما دامت تقوم على غير إيمان , بهذه الرسالة الأخيرة , وبهذا الرسول الأخير . لا نستريب في هذا الحكم لأي مظهر من مظاهر الصلاح , المقطوعة الاتصال بمنهج الله الثابت القويم .
(إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات , أولئك هم خير البرية).
جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
حكم كذلك قاطع لا جدال فيه ولا محال . ولكن شرطه كذلك واضح لا غموض فيه ولا احتيال . إنه الإيمان . لا مجرد مولد في أرض تدعى الإسلام , أو في بيت يقول:إنه من المسلمين . ولا بمجرد كلمات يتشدق بها الإنسان ! إنه الإيمان الذي ينشئ آثاره في واقع الحياة: (وعملوا الصالحات). وليس هو الكلام الذي لا يتعدى الشفاه ! والصالحات هي كل ما أمر الله بفعله من عبادة وخلق وعمل وتعامل . وفي أولها إقامة شريعة الله في الأرض , والحكم بين الناس بما شرع الله . فمن كانوا كذلك فهم خير البرية .
(جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا). .
جنات للإقامة الدائمة في نعيمها الذي يمثله هنا الأمن من الفناء والفوات . والطمأنينة من القلق الذي يعكر وينغص كل طيبات الأرض . . كما يمثله جريان الأنهار من تحتها , وهو يلقي ظلال النداوة والحياة والجمال !
ثم يرتقي السياق درجة أو درجات في تصوير هذا النعيم المقيم:
(رضي الله عنهم ورضوا عنه). .
هذا الرضا من الله وهو أعلى وأندى من كل نعيم . وهذا الراضا في نفوسهم عن ربهم الرضا عن قدره فيهم . والرضا عن إنعامه عليهم والرضا بهذه الصلة بينه وبينهم . الرضا الذي يغمر النفس بالهدوء والطمأنينة والفرح الخالص العميق . .
إنه تعبير يلقي ظلاله بذاته . . (رضي الله عنهم ورضوا عنه)حيث يعجز أي تعبير آخر عن إلقاء مثل هذه الظلال !
(ذلك لمن خشي ربه). .
وذلك هو التوكيد الأخير . التوكيد على أن هذا كله متوقف على صلة القلب بالله , ونوع هذه الصلة , والشعور بخشيته خشية تدفع إلى كل صلاح , وتنهى عن كل انحراف . . الشعور الذي يزيح الحواجز , ويرفع الأستار , ويقف القلب عاريا أمام الواحد القهار . والذي يخلص العبادة ويخلص العمل من شوائب الرياء والشرك في كل صورة من صوره . فالذي يخشى ربه حقا لا يملك أن يخطر في قلبه ظلا لغيره من خلقه . وهو يعلم أن الله يرد كل عمل ينظر فيه العبد إلى غيره معه , فهو أغنى الشركاء عن الشرك . فإما عمل خالص له , وإلا لم يقبله .
تلك الحقائق الأربعة الكبيرة هي مقررات هذه السورة الصغيرة , يعرضها القرآن بأسلوبه الخاص , الذي يتجلى بصفة خاصة في هذه السور القصار . .
سورة الزلزلة
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا (3)
سورة الزلزلة
تعريف بسورة الزلزلة
هذه السورة مدنية في المصحف وفي بعض الروايات ; ومكية في بعض الروايات الأخرى . ونحن نرجح الروايات التي تقول بأنها مكية , وأسلوبها التعبيري وموضوعها يؤيدان هذا .
إنها هزة عنيفة للقلوب الغافلة . هزة يشترك فيها الموضوع والمشهد والإيقاع اللفظي . وصيحة قوية مزلزلة للأرض ومن عليها ; فما يكادون يفيقون حتى يواجههم الحساب والوزن والجزاء في بضع فقرات قصار !
وهذا هو طابع الجزء كله , يتمثل في هذه السورة تمثلا قويا . . .
إذا زلزلت الأرض زلزالها , وأخرجت الأرض أثقالها , وقال الإنسان مالها ? يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها .
إنه يوم القيامة حيث ترتجف الأرض الثابتة ارتجافا , وتزلزل زلزالا , وتنفض ما في جوفها نفضا , وتخرج ما يثقلها من أجساد ومعادن وغيرها مما حملته طويلا . وكأنها تتخفف من هذه الأثقال , التي حملتها طويلا !
وهو مشهد يهز تحت أقدام المستمعين لهذه السورة كل شيء ثابت ; ويخيل إليهم أنهم يترنحون ويتأرجحون , والأرض من تحتهم تهتز وتمور ! مشهد يخلع القلوب من كل ما تتشبث به من هذه الأرض , وتحسبه ثابتا باقيا ; وهو الإيحاء الأول لمثل هذه المشاهد التي يصورها القرآن , ويودع فيها حركة تكاد تنتقل إلى أعصاب السامع بمجرد سماع العبارة القرآنية الفريدة !
ويزيد هذا الأثر وضوحا بتصوير "الإنسان" حيال المشهد المعروض , ورسم انفعالاته وهو يشهده:
(وقال الإنسان:ما لها ?). .
يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ (8)
وهو سؤال المشدوه المبهوت المفجوء , الذي يرى ما لم يعهد , ويواجه ما لا يدرك , ويشهد ما لا يملك الصبر أمامه والسكوت . مالها ? ما الذي يزلزلها هكذا ويرجها رجا ? مالها ? وكأنه يتمايل على ظهرها ويترنح معها ; ويحاول أن يمسك بأي شيء يسنده ويثبته , وكل ما حوله يمور مورا شديدا !
"والإنسان" قد شهد الزلازل والبراكين من قبل . وكان يصاب منها بالهلع والذعر , والهلاك والدمار , ولكنه حين يرى زلزال يوم القيامة لا يجد أن هناك شبها بينه وبين ما كان يقع من الزلازل والبراكين في الحياة الدنيا . فهذا أمر جديد لا عهد للإنسان به . أمر لا يعرف له سرا , ولا يذكر له نظيرا . أمر هائل يقع للمرة الأولى !
(يومئذ). . يوم يقع هذا الزلزال ويشده أمامه الإنسان (تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها). . يومئذ تحدث هذه الأرض أخبارها , وتصف حالها وما جرى لها . . لقد كان ما كان لها(بأن ربك أوحى لها). . وأمرها أن تمور مورا , وأن تزلزل زلزالها , وأن تخرج أثقالها ! فأطاعت أمر ربها(وأذنت لربها وحقت). . تحدث أخبارها . فهذا الحال حديث واضح عما وراءه من أمر الله ووحيه أليها . .
وهنا و"الإنسان" مشدوه مأخوذ , والإيقاع يلهث فزعا ورعبا , ودهشة وعجبا , واضطرابا ومورا . . هنا و"الإنسان" لا يكاد يلتقط أنفاسه وهو يتساءل:مالها مالها ? هنا يواجه بمشهد الحشر والحساب والوزن والجزاء:
(يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم . فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره).
وفي لمحة نرى مشهد القيام من القبور: (يومئذ يصدر الناس أشتاتا). . نرى مشهدهم شتيتا منبعثا من أرجاء الأرض (كأنهم جراد منتشر). . وهو مشهد لا عهد للإنسان به كذلك من قبل . مشهد الخلائق في أجيالها جميعا تنبعث من هنا ومن هناك: (يوم تشقق الأرض عنهم سراعا). . وحيثما امتد البصر رأى شبحا ينبعث ثم ينطلق مسرعا ! لا يلوي على شيء , ولا ينظر وراءه ولا حواليه: (مهطعين إلى الداع)ممدودة رقابهم , شاخصة أبصارهم .(لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه).
إنه مشهد لا تعبر عن صفته لغة البشر . هائل مروع . مفزع . مرعب . مذهل . . .
كل أولئك وسائر ما في المعجم من أمثالها لا تبلغ من وصف هذا المشهد شيئا مما يبلغه إرسال الخيال قليلا يتملاه بقدر ما يملك وفي حدود ما يطيق !
(يومئذ يصدر الناس أشتاتا). . (ليروا أعمالهم). . وهذه أشد وأدهى . . إنهم ذاهبون إلى حيث تعرض عليهم أعمالهم , ليواجهوها , ويواجهوا جزاءها . ومواجهة الإنسان لعمله قد تكون أحيانا أقسى من كل جزاء . وإن من عمله ما يهرب من مواجهته بينه وبين نفسه , ويشيح بوجهه عنه لبشاعته حين يتمثل له في نوبة من نوبات الندم ولذع الضمير . فكيف به وهو يواجه بعمله على رؤوس الأشهاد , في حضرة الجليل العظيم الجبار المتكبر ?!
إنها عقوبة هائلة رهيبة . . مجرد أن يروا أعمالهم , وأن يواجهوا بما كان منهم !
ووراء رؤيتها الحساب الدقيق الذي لا يدع ذرة من خير أو من شر لا يزنها ولا يجازي عليها .
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره . ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). .
ذرة . . كان المفسرون القدامى يقولون:إنها البعوضة . وكانوا يقولون:إنها الهباءة التي ترى في ضوء الشمس . . . فقد كان ذلك أصغر ما يتصورون من لفظ الذرة . . .
فنحن الآن نعلم أن الذرة شيء محدد يحمل هذا الإسم , وأنه أصغر بكثير من تلك الهباءة التي ترى في ضوء الشمس , فالهباءة ترى بالعين المجردة . أما الذرة فلا ترى أبدا حتى بأعظم المجاهر في المعامل . إنما هي "رؤيا" في ضمير العلماء ! لم يسبق لواحد منهم أن رآها بعينه ولا بمجهره . وكل ما رآه هو آثارها !
فهذه أو ما يشبهها من ثقل , من خير أو شر , تحضر ويراها صاحبها ويجد جزاءها ! . . .
عندئذ لا يحقر "الإنسان" شيئا من عمله . خيرا كان أو شرا . ولا يقول:هذه صغيرة لا حساب لها ولا وزن . إنما يرتعش وجدانه أمام كل عمل من أعماله إرتعاشة ذلك الميزان الدقيق الذي ترجح به الذرة أو تشيل !
إن هذا الميزان لم يوجد له نظير أو شبيه بعد في الأرض . . إلا في القلب المؤمن . .
القلب الذي يرتعش لمثقال ذرة من خير أو شر . . . وفي الأرض قلوب لا تتحرك للجبل من الذنوب والمعاصي والجرائر . . ولا تتأثر وهي تسحق رواسي من الخير دونها رواسي الجبال . .
إنها قلوب عتلة في الأرض , مسحوقة تحت أثقالها تلك في يوم الحساب !!
سورة العاديات
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5)
سورة العاديات
يجري سياق هذه السورة في لمسات سريعة عنيفة مثيرة , ينتقل من احداها إلى الأخرى قفزا وركضا ووثبا , في خفة وسرعة وانطلاق , حتى ينتهي إلى آخر فقرة فيها فيستقر عندها اللفظ والظل والموضوع والإيقاع ! كما يصل الراكض إلى نهاية المطاف !
وتبدأ بمشهد الخيل العادية الضابحة , القادحة للشرر بحوافرها , المغيرة مع الصباح , المثيرة للنقع وهو الغبار , الداخلة في وسط العدو فجأة تأخذه على غرة , وتثير في صفوفه الذعر والفرار !
يليه مشهد في النفس من الكنود والجحود والأثرة والشح الشديد !
ثم يعقبه مشهد لبعثرة القبور وتحصيل ما في الصدور !
وفي الختام ينتهي النقع المثار , وينتهي الكنود والشح , وتنتهي البعثرة والجمع . . إلى نهايتها جميعا . إلى الله . فتستقر هناك: (إن ربك بهم يومئذ لخبير). . .
والإيقاع الموسيقي فيه خشونة ودمدمة وفرقعة , تناسب الجو الصاخب المعفر الذي تنشئه القبور المبعثرة , والصدور المحصل ما فيها بشدة وقوة , كما تناسب جو الجحود والكنود , والأثرة والشح الشديد . . فلما أراد لهذا كله إطارا مناسبا , اختاره من الجو الصاخب المعفر كذلك , تثيره الخيل العادية في جريها , الصاخبة بأصواتها , القادحة بحوافرها , المغيرة فجاءة مع الصباح , المثيرة للنقع والغبار , الداخلة في وسط العدو على غير انتظار . . . فكان الإطار من الصورة والصورة من الإطار .
إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10)
(والعاديات ضبحا , فالموريات قدحا , فالمغيرات صبحا , فأثرن به نقعا , فوسطن به جمعا . . إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد . . .)
يقسم الله سبحانه بخيل المعركة , ويصف حركاتها واحدة واحدة منذ أن تبدأ عدوها وجريها ضابحة بأصواتها المعروفة حين تجري , قارعة للصخر بحوافرها حتى توري الشرر منها , مغيرة في الصباح الباكر لمفاجأة العدو , مثيرة للنقع والغبار . غبار المعركة على غير انتظار . وهي تتوسط صفوف الأعداء على غرة فتوقع بينهم الفوضى والاضطراب !
إنها خطوات المعركة على ما يألفه المخاطبون بالقرآن أول مرة . . . والقسم بالخيل في هذا الإطار فيه إيحاء قوي بحب هذه الحركة والنشاط لها , بعد الشعور بقيمتها في ميزان الله والتفاته سبحانه إليها ?
وذلك فوق تناسق المشهد مع المشاهد المقسم عليها والمعقب بها كما أسلفنا . أما الذي يقسم الله - سبحانه - عليه , فهو حقيقة في نفس الإنسان , حين يخوى قلبه من دوافع الإيمان . حقيقة ينبهه القرآن إليها , ليجند إرادته لكفاحها مذ كان الله يعلم عمق وشائجها في نفسه , وثقل وقعها في كيانه:
(إن الإنسان لربه لكنود . وإنه على ذلك لشهيد . وإنه لحب الخير لشديد). .
إن الإنسان ليجحد نعمة ربه , وينكر جزيل فضله . ويتمثل كنوده وجحوده في مظاهر شتى تبدو منه أفعالا وأقوالا , فتقوم عليه مقام الشاهد الذي يقرر هذه الحقيقة . وكأنه يشهد على نفسه بها . أو لعله يشهد على نفسه يوم القيامة بالكنود والجحود:(وإنه على ذلك لشهيد). . يوم ينطق بالحق على نفسه حيث لا جدال ولا محال !
(وإنه لحب الخير لشديد)فهو شديد الحب لنفسه , ومن ثم يحب الخير . ولكن كما يتمثله مالا وسلطة ومتاعا بأعراض الحياة الدنيا . . .
هذه فطرته . وهذا طبعه . ما لم يخالط الإيمان قلبه . فيغير من تصوراته وقيمه وموازينه واهتماماته . ويحيل كنوده وجحوده اعترافا بفضل الله وشكرانا . كما يبدل أثرته وشحه إيثارا ورحمة . ويريه القيم الحقيقية التي تستحق الحرص والتنافس والكد والكدح . وهي قيم أعلى من المال والسلطة والمتاع الحيواني بأعراض الحياة الدنيا . .
إن الإنسان - بغير إيمان - حقير صغير . حقير المطامع , صغير الاهتمامات . ومهما كبرت أطماعه . واشتد طموحه , وتعالت أهدافه , فإنه يظل مرتكسا في حمأة الأرض , مقيدا بحدود العمر , سجينا في سجن الذات . . لا يطلقه ولا يرفعه إلا الاتصال بعالم أكبر من الأرض , وأبعد من الحياة الدنيا , وأعظم من الذات . . عالم يصدر عن الله الأزلي , ويعود إلى الله الأبدي , وتتصل فيه الدنيا بالآخرة إلى غير انتهاء . .
ومن ثم تجيء اللفتة الأخيرة في السورة لعلاج الكنود والجحود والأثرة والشح , لتحطيم قيد النفس وإطلاقها منه . مع عرض مشهد البعث والحشر في صورة تنسي حب الخير , وتوقظ من غفلة البطر:
(أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور , وحصل ما في الصدور ?). .
وهو مشهد عنيف مثير . بعثرة لما في القبور . بعثرة بهذا اللفظ العنيف المثير . وتحصيل لأسرار الصدور التي ضنت بها وخبأتها بعيدا عن العيون . تحصيل بهذا اللفظ العنيف القاسي . . فالجو كله عنف وشدة وتعفير !
أفلا يعلم إذا كان هذا ? ولا يذكر ماذا يعلم ? لأن علمه بهذا وحده يكفي لهز المشاعر . ثم ليدع النفس
إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ (11)
تبحث عن الجواب , وترود كل مراد , وتتصور كل ما يمكن أن يصاحب هذه الحركات العنيفة من آثار وعواقب !
ويختم هذه الحركات الثائرة باستقرار ينتهي إليه كل شيء , وكل أمر , وكل مصير:
(إن ربهم بهم يومئذ لخبير). .
فالمرجع إلى ربهم . وإنه لخبير بهم(يومئذ)وبأحوالهم وأسرارهم . . والله خبير بهم في كل وقت وفي كل حال . ولكن لهذه الخبرة(يومئذ)آثار هي التي تثير انتباههم لها في هذا المقام . . . إنها خبرة وراءها عاقبة . خبرة وراءها حساب وجزاء . وهذا المعنى الضمني هو الذي يلوح به في هذا المقام !
إن السورة مشوار واحد لاهث صاخب ثائر . . حتى ينتهي إلى هذا القرار . . معنى ولفظا وإيقاعا , على طريقة القرآن !
سورة القارعة
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2)
سورة القارعة
القارعة:القيامة . كالطامة , والصاخة , والحاقة , والغاشية . والقارعة توحي بالقرع واللطم , فهي تقرع القلوب بهولها .
والسورة كلها عن هذه القارعة . حقيقتها . وما يقع فيها . وما تنتهي إليه . . فهي تعرض مشهدا من مشاهد القيامة .
والمشهد المعروض هنا مشهد هول تتناول آثاره الناس والجبال . فيبدو الناس في ظله صغارا ضئالا على كثرتهم:فهم (كالفراش المبثوث)مستطارون مستخفون في حيرة الفراش الذي يتهافت على الهلاك , وهو لا يملك لنفسه وجهة , ولا يعرف له هدفا ! وتبدو الجبال التي كانت ثابتة راسخة كالصوف المنفوش تتقاذفه الرياح وتعبث به حتى الأنسام ! فمن تناسق التصوير أن تسمى القيامة بالقارعة , فيتسق الظل الذي يلقيه اللفظ , والجرس الذي تشترك فيه حروفه كلها , مع آثار القارعة في الناس والجبال سواء ! وتلقي إيحاءها للقلب والمشاعر , تمهيدا لما ينتهي إليه المشهد من حساب وجزاء !
(القارعة . ما القارعة ? وما أدراك ما القارعة ?). .
لقد بدأ بإلقاء الكلمة مفردة كأنها قذيفة:(القارعة)بلا خبر ولا صفة . لتلقي بظلها وجرسها الإيحاء المدوي المرهوب !
ثم أعقبها سؤال التهويل:(ما القارعة ?). . فهي الأمر المستهول الغامض الذي يثير الدهش والتساؤل !
وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
ثم أجاب بسؤال التجهيل:(وما أدراك ما القارعة ?). . فهي أكبر من أن يحيط بها الإدراك , وأن يلم بها التصور !
ثم الإجابة بما يكون فيها , لا بماهيتها . فماهيتها فوق الإدراك والتصور كما أسلفنا:
(يوم يكون الناس كالفراش المبثوث , وتكون الجبال كالعهن المنفوش). .
هذا هو المشهد الأول للقارعة . مشهد تطير له القلوب شعاعا , وترجف منه الأوصال ارتجافا . ويحس السامع كأن كل شيء يتشبث به في الأرض قد طار حوله هباء ! ثم تجيء الخاتمة للناس جميعا:
(فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية , وأما من خفت موازينه فأمه هاوية . وما أدراك ما هيه ? نار حامية !).
وثقل الموازين وخفتها تفيدنا:قيما لها عند الله اعتبار , وقيما ليس لها عنده اعتبار . وهذا ما يلقيه التعبير بجملته , وهذا - والله أعلم - ما يريده الله بكلماته . فالدخول في جدل عقلي ولفظي حول هذه التعبيرات هو جفاء للحس القرآني , وعبث ينشئه الفراغ من الاهتمام الحقيقي بالقرآن والإسلام !
(فأما من ثقلت موازينه)في اعتبار الله وتقويمه(فهو في عيشة راضية). . ويدعها مجملة بلا تفصيل , توقع في الحس ظلال الرضى وهو أروح النعيم .
(وأما من خفت موازينه)في اعتبار الله وتقويمه (فأمه هاوية). . والأم هي مرجع الطفل وملاذه . فمرجع القوم وملاذهم يومئذ هو الهاوية ! وفي التعبير أناقة ظاهرة , وتنسيق خاص . وفيه كذلك غموض يمهد لإيضاح بعده يزيد في عمق الأثر المقصود:
وما أدراك ما هيه ? . .
سؤال التجهيل والتهويل المعهود في القرآن , لإخراج الأمر عن حدود التصور وحيز الإدراك !
ثم يجيء الجواب كنبرة الختام:
نار حامية . .
هذه هي أم الذي خفت موازينه ! أمه التي يفيء إليها ويأوي ! والأم عندها الأمن والراحة . فماذا هو واجد عند أمه هذه . . الهاوية . . النار . . الحامية !!
إنها مفاجأة تعبيرية تمثل الحقيقة القاسية ! سورة التكاثر
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7)
سورة التكاثر
هذه السورة ذات إيقاع جليل رهيب عميق وكأنما هي صوت نذير , قائم على شرف عال . يمد بصوته ويدوي بنبرته . يصيح بنوم غافلين مخمورين سادرين , أشرفوا على الهاوية وعيونهم مغمضة , وحسهم مسحور . فهو يمد بصوته إلى أعلى وأبعد ما يبلغ:
(ألهاكم التكاثر . حتى زرتم المقابر). .
أيها السادرون المخمورون . أيها اللاهون المتكاثرون بالأموال والأولاد وأعراض الحياة وأنتم مفارقون . أيها المخدوعون بما أنتم فيه عما يليه . أيها التاركون ما تتكاثرون فيه وتتفاخرون إلى حفرة ضيقة لا تكاثر فيها ولا تفاخر . . استيقظوا وانظروا . . فقد(ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر).
ثم يقرع قلوبهم بهول ما ينتظرهم هناك بعد زيارة المقابر في إيقاع عميق رزين:
(كلا سوف تعلمون). . ويكرر هذا الإيقاع بألفاظه وجرسه الرهيب الرصين:
(ثم كلا سوف تعلمون). ثم يزيد التوكيد عمقا ورهبة , وتلويحا بما وراءه من أمر ثقيل , لا يتبينون حقيقته الهائلة في غمرة الخمار والاستكثار:
(كلا لو تعلمون علم اليقين). . ثم يكشف عن هذه الحقيقة المطوية الرهيبة:
(لترون الجحيم). . ثم يؤكد هذه الحقيقة ويعمق وقعها الرهيب في القلوب:
ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
(ثم لترونها عين اليقين). .
ثم يلقي بالإيقاع الأخير , الذي يدع المخمور يفيق , والغافل يتنبه , والسادر يتلفت , والناعم يرتعش ويرتجف مما في يديه من نعيم
(ثم لتسألن يومئذ عن النعيم)!
لتسألن عنه من أين نلتموه ? وفيم أنفقتموه ? أمن طاعة وفي طاعة ? أم من معصية وفي معصية ? أمن حلال وفي حلال ? أم من حرام وفي حرام ? هل شكرتم ? هل أديتم ? هل شاركتم ? هل استأثرتم ?
(لتسألن)عما تتكاثرون به وتتفاخرون . . فهو عبء تستخفونه في غمرتكم ولهوكم ولكن وراءه ما وراءه من هم ثقيل !
إنها سورة تعبر بذاتها عن ذاتها . وتلقي في الحس ما تلقي بمعناها وإيقاعها . وتدع القلب مثقلا مشغولا بهم الآخرة عن سفساف الحياة الدنيا وصغائر اهتماماتها التي يهش لها الفارغون !
إنها تصور الحياة الدنيا كالومضة الخاطفة في الشريط الطويل . .(ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر). . وتنتهي ومضة الحياة الدنيا وتنطوي صفحتها الصغيرة . . ثم يمتد الزمن بعد ذلك وتمتد الأثقال ; ويقوم الأداء التعبيري ذاته بهذا الإيحاء . فتتسق الحقيقة مع النسق التعبيري الفريد . .
وما يقرأ الإنسان هذه السورة الجليلة الرهيبة العميقة , بإيقاعاتها الصاعدة الذاهبة في الفضاء إلى بعيد في مطلعها , الرصينة الذاهبة إلى القرار العميق في نهايتها . . حتى يشعر بثقل ما على عاتقه من أعقاب هذه الحياة الوامضة التي يحياها على الأرض ثم يحمل ما يحمل منها ويمضي به مثقلا في الطريق !
ثم ينشئ يحاسب نفسه على الصغير والزهيد !!!
سورة العصر
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2)
سورة العصر
في هذه السورة الصغيرة ذات الآيات الثلاث يتمثل منهج كامل للحياة البشرية كما يريدها الإسلام . وتبرز معالم التصور الإيماني بحقيقته الكبيرة الشاملة في أوضح وأدق صورة . إنها تضع الدستور الإسلامي كله في كلمات قصار . وتصف الأمة المسلمة:حقيقتها ووظيفتها . في آية واحدة هي الآية الثالثة من السورة . . وهذا هو الإعجاز الذي لا يقدر عليه إلا الله . .
والحقيقة الضخمة التي تقررها هذه السورة بمجموعها هي هذه:
إنه على امتداد الزمان في جميع الأعصار , وامتداد الإنسان في جميع الأدهار , ليس هنالك إلا منهج واحد رابح , وطريق واحد ناج . هو ذلك المنهج الذي ترسم السورة حدوده , وهو هذا الطريق الذي تصف السورة معالمه . وكل ما وراء ذلك ضياع وخسار . .
(والعصر , إن الإنسان لفي خسر . إلا الذين آمنوا , وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). إنه الإيمان . والعمل الصالح . والتواصي بالحق . والتواصي بالصبر . .
فما الإيمان ? ?
نحن لا نعرف الإيمان هنا تعريفه الفقهي ; ولكننا نتحدث عن طبيعته وقيمته في الحياة .
إنه اتصال هذا الكائن الإنساني الفاني الصغير المحدود بالأصل المطلق الأزلي الباقي الذي صدر عنه الوجود . ومن ثم اتصاله بالكون الصادر عن ذات المصدر , وبالنواميس التي تحكم هذا الكون , وبالقوى والطاقات المذخورة فيه . والانطلاق حينئذ من حدود ذاته الصغيرة إلى رحابة الكون الكبير . ومن حدود قوته الهزيلة إلىعظمة الطاقات الكونية المجهولة . ومن حدود عمره القصير إلى امتداد الآباد التي لا يعلمها إلا الله .
وفضلا عما يمنحه هذا الاتصال للكائن الإنساني من قوة وامتداد وانطلاق , فإنه يمنحه إلى جانب هذا كله متاعا بالوجود وما فيه من جمال , ومن مخلوقات تتعاطف أرواحها مع روحه . فإذا الحياة رحلة في مهرجان إلهي مقام للبشر في كل مكان وفي كل أوان . . . وهي سعادة رفيعة , وفرح نفيس , وأنس بالحياة والكون كأنس الحبيب بالحبيب . وهو كسب لا يعدله كسب . وفقدانه خسران لا يعدله خسران . . .
ثم إن مقومات الإيمان هي بذاتها مقومات الإنسانية الرفيعة الكريمة . . .
التعبد لإله واحد , يرفع الإنسان عن العبودية لسواه , ويقيم في نفسه المساواة مع جميع العباد , فلا يذل لأحد , ولا يحني رأسه لغير الواحد القهار . . ومن هنا الانطلاق التحرري الحقيقي للإنسان . الانطلاق الذي ينبثق من الضمير ومن تصور الحقيقة الواقعة في الوجود . إنه ليس هناك إلا قوة واحدة وإلا معبود واحد . فالانطلاق التحرري ينبثق من هذا التصور انبثاقا ذاتيا , لأنه هو الأمر المنطقي الوحيد .
والربانية التي تحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان تصوراته وقيمه وموازينه واعتباراته وشرائعه وقوانينه , وكل ما يربطه بالله , أو بالوجود , أو بالناس . فينتفي من الحياة الهوى والمصلحة , وتحل محلهما الشريعة والعدالة . وترفع من شعور المؤمن بقيمة منهجه , وتمده بالاستعلاء على تصورات الجاهلية وقيمها واعتباراتها , وعلى القيم المستمدة من الارتباطات الأرضية الواقعة . . ولو كان فردا واحدا , لأنه إنما يواجهها بتصورات وقيم واعتبارات مستمدة من الله مباشرة فهي الأعلى والأقوى والأولى بالاتباع والاحترام .
ووضوح الصلة بين الخالق والمخلوق , وتبين مقام الألوهية ومقام العبودية على حقيقتهما الناصعة , مما يصل هذه الخليقة الفانية بالحقيقة الباقية في غير تعقيد , وبلا وساطة في الطريق . ويودع القلب نورا , والروح طمأنينة , والنفس أنسا وثقة . وينفي التردد والخوف والقلق والاضطراب كما ينفي الاستكبار في الأرض بغير الحق , والاستعلاء على العباد بالباطل والافتراء !
والاستقامة على المنهج الذي يريده الله . فلا يكون الخير فلتة عارضة , ولا نزوة طارئة , ولا حادثة منقطعة . إنما ينبعث عن دوافع , ويتجه إلى هدف , ويتعاون عليه الأفراد المرتبطون في الله , فتقوم الجماعة المسلمة ذات الهدف الواحد الواضح , والراية الواحدة المتميزة . كما تتضامن الأجيال المتعاقبة الموصولة بهذا الحبل المتين .
والاعتقاد بكرامة الإنسان على الله , يرفع من اعتباره في نظر نفسه , ويثير في ضميره الحياء من التدني عن المرتبة التي رفعه الله إليها . وهذا أرفع تصور يتصوره الإنسان لنفسه . . . أنه كريم عند الله . . وكل مذهب أو تصور يحط من قدر الإنسان في نظر نفسه , ويرده إلى منبت حقير , ويفصل بينه وبين الملأ الأعلى . . هو تصور أو مذهب يدعوه إلى التدني والتسفل ولو لم يقل له ذلك صراحة !
ومن هنا كانت إيحاءات الدارونية والفرويدية والماركسية هي أبشع ما تبتلى به الفطرة البشرية والتوجيه الإنساني , فتوحي إلى البشر بأن كل سفالة وكل قذارة وكل حقارة هي أمر طبيعي متوقع , ليس فيه ما يستغرب , ومن ثم ليس فيه ما يخجل . . وهي جناية على البشرية تستحق المقت والازدراء !
ونظافة المشاعر تجيء نتيجة مباشرة للشعور بكرامة الإنسان على الله . ثم برقابة الله على الضمائر واطلاعه على السرائر . وإن الإنسان السوي الذي لم تمسخه إيحاءات فرويد وكارل ماركس وأمثالهما , ليستحيي أن يطلع إنسان مثله على شوائب ضميره وخائنة شعوره . والمؤمن يحس وقع نظر الله - سبحانه - في أطواء حسه إحساسا يرتعش له ويهتز . فأولى أن يطهر حسه هذا وينظفه !
والحاسة الأخلاقية ثمرة طبيعية وحتمية للإيمان بإله عادل رحيم عفو كريم ودود حليم , يكره الشر ويحب الخير . ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
وهناك التبعة المترتبة على حرية الإرادة وشمول الرقابة , وما تثيره في حس المؤمن من يقظة وحساسية , ومن رزانة وتدبر . وهي ليست تبعة فردية فحسب , إنما هي كذلك تبعة جماعية , وتبعة تجاه الخير في ذاته , وإزاء البشرية جميعا . . أمام الله . . وحين يتحرك المؤمن حركة فهو يحس بهذا كله , فيكبر في عين نفسه , ويقدر نتيجة خطوه قبل أن يمد رجله . . إنه كائن له قيمة في الوجود , وعليه تبعة في نظام هذا الوجود . .
والارتفاع عن التكالب على أعراض الحياة الدنيا - وهو بعض إيحاءات الإيمان - واختيار ما عند الله , وهو خير وأبقى . (وفي ذلك فليتنافس المتنافسون). . والتنافس على ما عند الله يرفع ويطهر وينظف . . يساعد على هذا سعة المجال الذي يتحرك فيه المؤمن . . بين الدنيا والآخرة , والأرض والملأ الأعلى . مما يهدئ في نفسه القلق على النتيجة والعجلة على الثمرة . فهو يفعل الخير لأنه الخير , ولأن الله يريده , ولا عليه ألا يدر الخير خيرا على مشهد من عينيه في عمره الفردي المحدود . فالله الذي يفعل الخير ابتغاء وجهه لا يموت - سبحانه - ولا ينسى , ولا يغفل شيئا من عمله . والأرض ليست دار جزاء . والحياة الدنيا ليست نهاية المطاف . ومن ثم يستمد القدرة على مواصلة الخير من هذا الينبوع الذي لا ينضب . وهذا هو الذي يكفل أن يكون الخير منهجا موصولا , لا دفعة طارئة , ولا فلتة مقطوعة . وهذا هو الذي يمد المؤمن بهذه القوة الهائلة التي يقف بها في وجه الشر . سواء تمثل في طغيان طاغية , أو في ضغط الاعتبارات الجاهلية , أو في اندفاع نزواته هو وضغطها على إرادته . هذا الضغط الذي ينشأ أول ما ينشأ من شعور الفرد بقصر عمره عن استيعاب لذائذه وتحقيق أطماعه , وقصره كذلك عن رؤية النتائج البعيدة للخير , وشهود انتصار الحق على الباطل ! والإيمان يعالج هذا الشعور علاجا أساسيا كاملا .
إن الإيمان هو أصل الحياة الكبير , الذي ينبثق منه كل فرع من فروع الخير , وتتعلق به كل ثمرة من ثماره , وإلا فهو فرع مقطوع من شجرته , صائر إلى ذبول وجفاف . وإلا فهي ثمرة شيطانية , وليس لها امتداد أو دوام !
وهو المحور الذي تشد إليه جميع خيوط الحياة الرفيعة . وإلا فهي مفلتة لا تمسك بشيء , ذاهبة بددا مع الأهواء والنزوات . .
وهو المنهج الذي يضم شتات الأعمال , ويردها إلى نظام تتناسق معه وتتعاون , وتنسلك في طريق واحد , وفي حركة واحدة , لها دافع معلوم , ولها هدف مرسوم . .
ومن ثم يهدر القرآن قيمة كل عمل لا يرجع إلى هذا الأصل , ولا يشد إلى هذا المحور , ولا ينبع من هذا المنهج . والنظرية الإسلامية صريحة في هذا كل الصراحة . . جاء في سورة إبراهيم: (مثل الذين كفروا بربهمأعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف . لا يقدرون مما كسبوا على شيء). . وجاء في سورة النور: (والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء , حتى إذا جاءه لم يجده شيئا). . وهي نصوص صريحة في إهدار قيمة العمل كله , ما لم يستند إلى الإيمان , الذي يجعل له دافعا موصولا بمصدر الوجود , وهدفا متناسقا مع غاية الوجود . وهذه هي النظرة المنطقية لعقيدة ترد الأمور كلها إلى الله . فمن انقطع عنه فقد انقطع وفقد حقيقة معناه .
إن الإيمان دليل على صحة الفطرة وسلامة التكوين الإنساني , وتناسقه مع فطرة الكون كله , ودليل التجاوب بين الإنسان والكون من حوله . فهو يعيش في هذا الكون , وحين يصح كيانه لا بد أن يقع بينه وبين هذا الكون تجاوب . ولا بد أن ينتهي هذا التجاوب إلى الإيمان , بحكم ما في الكون ذاته من دلائل وإيحاءات عن القدرة المطلقة التي أبدعته على هذا النسق . فإذا فقد هذا التجاوب أو تعطل , كان هذا بذاته دليلا على خلل ونقص في الجهاز الذي يتلقى , وهو هذا الكيان الإنساني . وكان هذا دليل فساد لا يكون معه إلا الخسران . ولا يصح معه عمل ولو كان في ظاهره مسحة من الصلاح .
وإن عالم المؤمن من السعة والشمول والامتداد والارتفاع والجمال والسعادة بحيث تبدو إلى جانبه عوالم غير المؤمنين صغيرة ضئيلة هابطة هزيلة شائهة شقية . . خاسرة أي خسران !
والعمل الصالح وهو الثمرة الطبيعية للإيمان , والحركة الذاتية التي تبدأ في ذات اللحظة التي تستقر فيها حقيقة الإيمان في القلب . فالإيمان حقيقة إيجابية متحركة . ما أن تستقر في الضمير حتى تسعى بذاتها إلى تحقيق ذاتها في الخارج في صورة عمل صالح . . هذا هو الإيمان الإسلامي . . لا يمكن أن يظل خامدا لا يتحرك , كامنا لا يتبدى في صورة حية خارج ذات المؤمن . . فإن لم يتحرك هذه الحركة الطبيعية فهو مزيف أو ميت . شأنه شأن الزهرة لا تمسك أريجها . فهو ينبعث منها انبعاثا طبيعيا . وإلا فهو غير موجود !
ومن هنا قيمة الإيمان . . إنه حركة وعمل وبناء وتعمير . . يتجه إلى الله . . إنه ليس انكماشا وسلبية وانزواء في مكنونات الضمير . وليس مجرد النوايا الطيبة التي لا تتمثل في حركة وهذه طبيعة الإسلام البارزة التي تجعل منه قوة بناء كبرى في صميم الحياة .
وهذا مفهوم ما دام الإيمان هو الارتباط بالمنهج الرباني . وهذا المنهج حركة دائمة متصلة في صميم الوجود . صادرة عن تدبير , متجهة إلى غاية . وقيادة الإيمان للبشرية هي قيادة لتحقيق منهج الحركة التي هي طبيعة الوجود . الحركة الخيرة النظيفة البانية المعمرة اللائقة بمنهج يصدر عن الله .
أما التواصي بالحق والتواصي بالصبر فتبرز من خلالها صورة الأمة المسلمة - أو الجماعة المسلمة - ذات الكيان الخاص , والرابطة المميزة , والوجهة الموحدة . الجماعة التي تشعر بكيانها كما تشعر بواجبها . والتي تعرف حقيقة ما هي مقدمة عليه من الإيمان والعمل الصالح , الذي يشمل فيما يشمل قيادة البشرية في طريق الإيمان والعملالصالح ; فتتواصى فيما بينها بما يعينها على النهوض بالأمانة الكبرى .
فمن خلال لفظ التواصي ومعناه وطبيعته وحقيقته تبرز صورة الأمة - أو الجماعة - المتضامة المتضامنة . الأمة الخيرة . الواعية . القيمة في الأرض على الحق والعدل والخير . . وهي أعلى وأنصع صورة للأمة المختارة . . وهكذا يريد الإسلام أمة الإسلام . . هكذا يريدها أمة خيرة قوية واعية قائمة على حراسة الحق والخير , متواصية بالحق والصبر في مودة وتعاون وتآخ تنضح بها كلمة التواصي في القرآن . .
والتواصي بالحق ضرورة . فالنهوض بالحق عسير . والمعوقات عن الحق كثيرة:هوى النفس , ومنطق المصلحة , وتصورات البيئة . وطغيان الطغاة , وظلم الظلمة , وجور الجائرين . . والتواصي تذكير وتشجيع وإشعار بالقربى في الهدف والغاية , والأخوة في العبء والأمانة . فهو مضاعفة لمجموع الاتجاهات الفردية , إذ تتفاعل معا فتتضاعف . تتضاعف بإحساس كل حارس للحق أن معه غيره يوصيه ويشجعه ويقف معه ويحبه ولا يخذله . . وهذا الدين - وهو الحق - لا يقوم إلا في حراسة جماعة متعاونة متواصية متكافلة متضامنة على هذا المثال .
والتواصي بالصبر كذلك ضرورة . فالقيام على الإيمان والعمل الصالح , وحراسة الحق والعدل , من أعسر ما يواجه الفرد والجماعة . ولا بد من الصبر . لا بد من الصبر على جهاد النفس , وجهاد الغير , والصبر على الأذى والمشقة . والصبر على تبجح الباطل وتنفج الشر . والصبر على طول الطريق وبطء المراحل , وانطماس المعالم , وبعد النهاية !
والتواصي بالصبر يضاعف المقدرة , بما يبعثه من إحساس بوحدة الهدف , ووحدة المتجه , وتساند الجميع , وتزودهم بالحب والعزم والاصرار . . إلى آخر ما يثيره من معاني الجماعة التي لا تعيش حقيقة الإسلام إلا في جوها , ولا تبرز إلا من خلالها . . وإلا فهو الخسران والضياع .
وننظر اليوم من خلال هذا الدستور الذي يرسمه القرآن لحياة الفئة الرابحة الناجية من الخسران , فيهولنا أن نرى الخسر يحيق بالبشرية في كل مكان على ظهر الأرض بلا استثناء . يهولنا هذا الضياع الذي تعانيه البشرية في الدنيا - قبل الآخرة - يهولنا أن نرى إعراض البشرية ذلك الإعراض البائس عن الخير الذي أفاضه الله عليها ; مع فقدان السلطة الخيرة المؤمنة القائمة على الحق في هذه الأرض . . هذا والمسلمون - أو أصحاب دعوى الإسلام بتعبير أدق - هم أبعد أهل الأرض عن هذا الخير , وأشدهم إعراضا عن المنهج الإلهي الذي اختاره الله لهم , وعن الدستور الذي شرعه لأمتهم , وعن الطريق الوحيد الذي رسمه للنجاة من الخسران والضياع . والبقاع التي انبعث منها هذا الخير أول مرة تترك الراية التي رفعها لها الله , راية الإيمان , لتتعلق برايات عنصرية لم تنل تحتها خيرا قط في تاريخها كله . لم يكن لها تحتها ذكر في الأرض ولا في السماء . حتى جاء الإسلام فرفع لها هذه الراية المنتسبة لله , لا شريك له , المسماة باسم الله لا شريك له , الموسومة بميسم الله لا شريك له . . الراية التي انتصر العرب تحتها وسادوا وقادوا البشرية قيادة خيرة قوية واعية ناجية لأول مرة في تاريخهم وفي تاريخ البشرية الطويل . .
يقول الأستاذ أبو الحسن الندوي في كتابه القيم:"ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ? " . . عن هذه القيادة الخيرة الفذة في التاريخ كله , وتحت عنوان "عهد القيادة الإسلامية ":"الأئمة المسلمون وخصائصهم":
"ظهر المسلمون , وتزعموا العالم , وعزلوا الأمم المزيفة من زعامة الإنسانية التي استغلتها وأساءت عملها ,وساروا بالإنسانية سيرا حثيثا متزنا عادلا , وقد توفرت فيهم الصفات التي تؤهلهم لقيادة الأمم , وتضمن سعادتها وفلاحها في ظلهم وتحت قيادتهم . " أولا:أنهم أصحاب كتاب منزل وشريعة إلهية , فلا يقننون ولا يشترعون من عند أنفسهم . لأن ذلك منبع الجهل والخطأ والظلم , ولا يخبطون في سلوكهم وسياستهم ومعاملتهم للناس خبط عشواء , وقد جعل الله لهم نورا يمشون به في الناس , وجعل لهم شريعة يحكمون بها الناس (أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ?)وقد قال الله تعالى:(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط , ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا . اعدلوا هو أقرب للتقوى , واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون).
ثانيا:- أنهم لم يتولوا الحكم والقيادة بغير تربية خلقية وتزكية نفس , بخلاف غالب الأمم والأفراد ورجال الحكومة في الماضي والحاضر , بل مكثوا زمنا طويلا تحت تربية محمد [ ص ] وإشرافه الدقيق , يزكيهم ويؤدبهم , ويأخذهم بالزهد والورع والعفاف والأمانة والإيثار وخشية الله , وعدم الاستشراف للإمارة والحرص عليها . يقول:" إنا والله لا نولي هذا العمل أحدا سأله , أو أحدا حرص عليه " .
ولا يزال يقرع سمعهم:(تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين). . فكانوا لا يتهافتون على الوظائف والمناصب , فضلا عن أن يرشحوا أنفسهم للإمارة , ويزكوا أنفسهم , وينشروا دعاية لها , وينفقوا الأموال سعيا وراءها . فإذا تولوا شيئا من أمور الناس لم يعدوه مغنما أو طعمة أو ثمنا لما أنفقوا من مال أو جهد ; بل عدوه أمانة في عنقهم , وامتحانا من الله ; ويعلمون أنهم موقوفون عند ربهم , ومسؤولون عن الدقيق والجليل , وتذكروا دائما قول الله تعالى: (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها , وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل). . وقوله . . (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض , ورفع بعضكم فوق بعض درجات , ليبلوكم فيما آتاكم). .
"ثالثا:أنهم لم يكونوا خدمة جنس , ورسل شعب أو وطن , يسعون لرفاهيته ومصلحته وحده , ويؤمنون بفضله وشرفه على جميع الشعوب والأوطان , لم يخلقوا إلا ليكونوا حكاما , ولم تخلق إلا لتكون محكومة لهم . ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده . كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعتها , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام .
فالأمم عندهم سواء , والناس عندهم سواء . الناس كلهم من آدم , وآدم من تراب . لا فضل لعربي على عجمي , ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا , إن أكرمكم عند الله أتقاكم).
وقد قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص عامل مصر - وقد ضرب ابنه مصريا وافتخر بآبائه قائلا:خذها من ابن الأكرمين . فاقتص منه عمر -:متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أحرارا أمهاتهم ? فلم يبخل هؤلاءبما عندهم من دين وعلم وتهذيب على أحد , ولم يراعوا في الحكم والإمارة والفضل نسبا ولونا ووطنا , بل كانوا سحابة انتظمت البلاد وعمت العباد , وغوادي مزنة أثنى عليها السهل والوعر , وانتفعت بها البلاد والعباد على قدر قبولها وصلاحها .
في ظل هؤلاء وتحت حكمهم استطاعت الأمم والشعوب - حتى المضطهدة منها في القديم - أن تنال نصيبها من الدين والعلم والتهذيب والحكومة , وأن تساهم العرب في بناء العالم الجديد , بل إن كثيرا من أفرادها فاقوا العرب في بعض الفضائل , وكان منهم أئمة هم تيجان مفارق العرب وسادة المسلمين من الأئمة والفقهاء والمحدثين . .
"رابعا:إن الإنسان جسم وروح , وهو ذو قلب وعقل وعواطف وجوارح , لا يسعد ولا يفلح ولا يرقى رقيا متزنا عادلا حتى تنمو فيه هذه القوى كلها نموا متناسبا لائقا بها , ويتغذى غذاء صالحا , ولا يمكن أن توجد المدنية الصالحة البتة إلا إذا ساد وسط ديني خلقي عقلي جسدي يمكن فيه للإنسان بسهولة أن يبلغ كماله الإنساني . وقد أثبتت التجربة أنه لا يكون ذلك إلا إذا مكنت قيادة الحياة وإدارة دفة المدنية بين الذين يؤمنون بالروح والمادة , ويكونون أمثلة كاملة في الحياة الدينية والخلقية , وأصحاب عقول سليمة راجحة , وعلوم صحيحة نافعة " . . .
إلى أن يقول تحت عنوان:"دور الخلافة الراشدة مثل المدنية الصالحة ":
"وكذلك كان , فلم نعرف دورا من أدوار التاريخ أكمل وأجمل وأزهر في جميع هذه النواحي من هذا الدور - دور الخلافة الراشدة - فقد تعاونت فيه قوة الروح والأخلاق والدين والعلم والأدوات المادية في تنشئة الإنسان الكامل . وفي ظهور المدنية الصالحة . . كانت حكومة من أكبر حكومات العالم , وقوة سياسية مادية تفوق كل قوة في عصرها , تسود فيها المثل الخلقية العليا , وتحكم معايير الأخلاق الفاضلة في حياة الناس ونظام الحكم , وتزدهر فيها الأخلاق والفضيلة مع التجارة والصناعة , ويساير الرقي الخلقي والروحي اتساع الفتوح واحتفال الحضارة , فتقل الجنايات , وتندر الجرائم بالنسبة إلى مساحة المملكة وعدد سكانها ورغم دواعيها وأسبابها , وتحسن علاقة الفرد بالفرد , و الفرد بالجماعة , وعلاقة الجماعة بالفرد . وهو دور كمالي لم يحلم الإنسان بأرقى منه , ولم يفترض المفترضون أزهى منه . . " .
هذه بعض ملامح تلك الحقبة السعيدة التي عاشتها البشرية في ظل الدستور الإسلامي الذي تضع "سورة العصر" قواعده , وتحت تلك الراية الإيمانية التي تحملها جماعة الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر .
فأين منها هذا الضياع التي تعانيه البشرية اليوم في كل مكان , والخسار الذي تبوء به في معركة الخير والشر , والعماء عن ذلك الخير الكبير الذي حملته الأمة العربية للبشر يوم حملت راية الإسلام فكانت لها القيادة . ثم وضعت هذه الراية فإذا هي في ذيل القافلة . وإذا القافلة كلها تعطو إلى الضياع والخسار . وإذا الرايات كلها بعد ذلك للشيطان ليس فيها راية واحدة لله . وإذا هي كلها للباطل ليس فيها راية واحدة للحق . وإذا هي كلها للعماء والضلال ليس فيها راية واحدة للهدى والنور , وإذا هى كلها للخسار ليس فيها راية واحدة للفلاح ! وراية الله ما تزال . وإنها لترتقب اليد التي ترفعها والأمة التي تسير تحتها إلى الخير والهدى والصلاح والفلاح .
ذلك شأن الربح والخسر في هذه الأرض . وهو على عظمته إذا قيس بشأن الآخرة صغير . وهناك . هناك
إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
الربح الحق والخسر الحق . هناك في الأمد الطويل , وفي الحياة الباقية , وفي عالم الحقيقة , هناك الربح والخسر:ربح الجنة والرضوان , أو خسر الجنة والرضوان . هناك حيث يبلغ الإنسان أقصى الكمال المقدر له , أو يرتكس فتهدر آدميته , وينتهي إلى أن يكون حجرا في القيمة ودون الحجر في الراحة:
(يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر:يا ليتني كنت ترابا). .
وهذه السورة حاسمة في تحديد الطريق . . إنه الخسر . .(إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات , وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر). . طريق واحد لا يتعدد . طريق الإيمان والعمل الصالح وقيام الجماعة المسلمة , التي تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر . وتقوم متضامنة على حراسة الحق مزودة بزاد الصبر .
إنه طريق واحد . ومن ثم كان الرجلان من أصحاب رسول الله [ ص ] إذا التقيا لم يتفرقا حتى يقرأ أحدهما على الآخر سورة "العصر" ثم يسلم أحدهما على الآخر . . لقد كانا يتعاهدان على هذا الدستور الإلهي , يتعاهدان على الإيمان والصلاح , ويتعاهدان على التواصي بالحق والتواصي بالصبر . ويتعاهدان على أنهما حارسان لهذا الدستور . ويتعاهدان على أنهما من هذه الأمة القائمة على هذا الدستور . .
سورة الهمزة
وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ (9)
سورة الهمزة
تعكس هذه السورة صورة من الصور الواقعية في حياة الدعوة في عهدها الأول . وهي في الوقت ذاته نموذج يتكرر في كل بيئة . . صورة اللئيم الصغير النفس , الذي يؤتى المال فتسيطر نفسه به , حتى ما يطيق نفسه ! ويروح يشعر أن المال هو القيمة العليا في الحياة . القيمة التي تهون أمامها جميع القيم وجميع الأقدار:أقدار الناس . وأقدار المعاني . وأقدار الحقائق . وأنه وقد ملك المال فقد ملك كرامات الناس وأقدارهم بلا حساب !
كما يروح يحسب أن هذا المال إله قادر على كل شيء ; لا يعجز عن فعل شيء ! حتى دفع الموت وتخليد الحياة . ودفع قضاء الله وحسابه وجزائه إن كان هناك في نظره حساب وجزاء !
ومن ثم ينطلق في هوس بهذا المال يعده ويستلذ تعداده ; وتنطلق في كيانه نفخة فاجرة , تدفعه إلى الاستهانة بأقدار الناس وكراماتهم . ولمزهم وهمزهم . . يعيبهم بلسانه ويسخر منهم بحركاته . سواء بحكاية حركاتهم وأصواتهم , أو بتحقير صفاتهم وسماتهم . . بالقول والإشارة . بالغمز واللمز . باللفتة الساخرة والحركة الهازئة !
وهي صورة لئيمة حقيرة من صور النفس البشرية حين تخلو من المروءة وتعرى من الإيمان . والإسلام يكره هذه الصورة الهابطة من صور النفوس بحكم ترفعه الأخلاقي . وقد نهى عن السخرية واللمز والعيب في مواضع شتى . إلا أن ذكرها هنا بهذا التشنيع والتقبيح مع الوعيد والتهديد , يوحي بأنه كان يواجه حالة واقعية من بعض المشركين تجاه رسول الله [ ص ] وتجاه المؤمنين . . فجاء الرد عليها في صورة الردع الشديد , والتهديد الرعيب . وقد وردت روايات بتعيين بعض الشخصيات . ولكنها ليست وثيقة . فنكتفي نحن بما قررناه عنها . .
والتهديد يجيء في صورة مشهد من مشاهد القيامة يمثل صورة للعذاب مادية ونفسية , وصورة للنار حسية ومعنوية . وقد لوحظ فيها التقابل بين الجرم وطريقة الجزاء وجو العقاب . فصورة الهمزة اللمزة , الذي يدأب على الهزء بالناس وعلى لمزهم في أنفسهم وأعراضهم , وهو يجمع المال فيظنه كفيلا بالخلود ! صورة هذا المتعالي الساخر المستقوي بالمال , تقابلها صورة "المنبوذ" المهمل المتردي في(الحطمة)التي تحطم كل ما يلقى إليها , فتحطم كيانه وكبرياءه . وهي(نار الله الموقدة)وإضافتها لله وتخصيصها هكذا يوحي بأنها نار فذة , غير معهودة , ويخلع عليها رهبة مفزعة رعيبة . وهي(تطلع)على فؤاده الذي ينبعث منه الهمز واللمز , وتكمن فيه السخرية والكبرياء والغرور . . وتكملة لصورة المحطم المنبوذ المهمل . . هذه النار مغلقة عليه , لا ينقذه منها أحد , ولا يسأل عنه فيها أحد ! وهو موثق فيها إلى عمود كما توثق البهائم بلا احترام ! وفي جرس الألفاظ تشديد: عدده . كلا . لينبذن . تطلع . ممددة وفي معاني العبارات توكيد بشتى أساليب التوكيد: (لينبذن في الحطمة . وما أدراك ما الحطمة ? نار الله الموقدة . .)فهذا الإجمال والإبهام . ثم سؤال الاستهوال . ثم الإجابة والبيان . . كلها من أساليب التوكيد والتضخيم . . وفي التعبير تهديد (ويل . لينبذن . الحطمة . . . نار الله الموقدة . التي تطلع على الأفئدة . إنها عليهم مؤصدة . في عمد ممددة). .
وفي ذلك كله لون من التناسق التصويري والشعوري يتفق مع فعلة(الهمزة اللمزة)!
لقد كان القرآن يتابع أحداث الدعوة ويقودها في الوقت ذاته . وكان هو السلاح البتار الصاعق الذي يدمر كيد الكائدين , ويزلزل قلوب الأعداء ويثبت أرواح المؤمنين .
وإنا لنرى في عناية الله سبحانه بالرد على هذه الصورة معنيين كبيرين:
الأول:تقبيح الهبوط الأخلاقي وتبشيع هذه الصورة الهابطة من النفوس .
والثاني:المنافحة عن المؤمنين وحفظ نفوسهم من أن تتسرب إليها مهانة الإهانة , وإشعارهم بأن الله يرى ما يقع لهم , ويكرهه , ويعاقب عليه . . وفي هذا كفاية لرفع أرواحهم واستعلائها على الكيد اللئيم . . .
سورة الفيل
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (5)
سورة الفيل
تعريف بسورة الفيل
تشير هذه السورة إلى حادث مستفيض الشهرة في حياة الجزيرة العربية قبل البعثة , عظيم الدلالة على رعاية الله لهذه البقعة المقدسة التي اختارها الله لتكون ملتقى النور الأخير , ومحضن العقيدة الجديدة , والنقطة التي تبدأ منها زحفها المقدس لمطاردة الجاهلية في أرجاء الأرض , وإقرار الهدى والحق والخير فيها . .
وجملة ما تشير إليها الروايات المتعددة عن هذا الحادث , أن الحاكم الحبشي لليمن - في الفترة التي خضعت فيها اليمن لحكم الحبشة بعد طرد الحكم الفارسي منها - وتسميه الروايات:"أبرهة " , كان قد بنى كنيسة في اليمن باسم ملك الحبشة وجمع لها كل أسباب الفخامة , على نية أن يصرف بها العرب عن البيت الحرام في مكة , وقد رأى مبلغ انجذاب أهل اليمن الذين يحكمهم إلى هذا البيت , شأنهم شأن بقية العرب في وسط الجزيرة وشماليها كذلك . وكتب إلى ملك الحبشة بهذه النية . .
ولكن العرب لم ينصرفوا عن بيتهم المقدس , فقد كانوا يعتقدون أنهم أبناء إبراهيم وإسماعيل صاحبي هذا البيت , وكان هذا موضع اعتزازهم على طريقتهم بالفخر والأنساب . وكانت معتقداتهم - على تهافتها - أفضل في نظرهم من معتقدات أهل الكتاب من حولهم , وهم يرون ما فيها من خلل واضطراب وتهافت كذلك .
عندئذ صح عزم "أبرهة " على هدم الكعبة ليصرف الناس عنها ; وقاد جيشا جرارا تصاحبه الفيلة , وفي مقدمتها فيل عظيم ذو شهرة خاصة عندهم . فتسامع العرب به وبقصده . وعز عليهم أن يتوجه لهدم كعبتهم . فوقف في طريقه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ذو نفر , فدعا قومه ومن أجابه من سائر العرب إلى حرب أبرهة وجهاده عن البيت الحرام , فأجابه إلى ذلك من أجابه . ثم عرض له فقاتله , ولكنه هزم وأخذه أبرهة أسيرا .
ثم وقف له في الطريق كذلك نفيل ابن حبيب الخثعمي في قبيلتين من العرب ومعهما عرب كثير , فهزمهم كذلك وأسر نفيلا , الذي قبل أن يكون دليله في أرض العرب .
حتى إذا مر بالطائف خرج إليه رجال من ثقيف فقالوا له:إن البيت الذي يقصده ليس عندهم إنما هو في مكة . وذلك ليدفعوه عن بيتهم الذي بنوه للات ! وبعثوا معه من يدله على الكعبة !
فلما كان أبرهة بالمغمس بين الطائف ومكة , بعث قائدا من قواده حتى انتهى إلى مكة فساق إليه أموال تهامة من قريش وغيرهم , فأصاب فيها مائتي بعير لعبد المطلب بن هاشم , وهو يومئذ كبير قريش وسيدها . فهمت قريش وكنانة وهذيل ومن كان بذلك الحرم بقتاله . ثم عرفوا أنهم لا طاقة لهم به فتركوا ذلك .
وبعث أبرهة رسولا إلى مكة يسأل عن سيد هذا البلد , ويبلغه أن الملك لم يأت لحربهم وإنما جاء لهدم هذا البيت , فإن لم يتعرضوا له فلا حاجة له في دمائهم ! فإذا كان سيد البلد لا يريد الحرب جاء به إلى الملك . . فلما كلم عبد المطلب فيما جاء به قال له:والله ما نريد حربه وما لنا بذلك من طاقة . هذا بيت الله الحرام . وبيت خليله إبراهيم عليه السلام . . فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه , وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دفع عنه . . فانطلق معه إلى أبرهة . .
قال ابن إسحاق:وكان عبد المطلب أوسم الناس وأجملهم وأعظمهم . فلما رآه أبرهة أجله وأعظمه , وأكرمه عن أن يجلسه تحته , وكره أن تراه الحبشة يجلس معه على سرير ملكه . فنزل أبرهة عن سريره , فجلس على بساطه وأجلسه معه إلى جانبه . ثم قال لترجمانه:قل له:ما حاجتك ? فقال:حاجتي أن يرد علي الملك مائتي بعير أصابها لي . فلما قال ذلك , قال أبرهة لترجمانه:قل له:قد كنت أعجبتني حين رأيتك , ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ! أتكلمني في مئتي بعير أصبتها لك وتترك بيتا هو دينك ودين آبائك قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه ? قال له عبد المطلب:إني أنا رب الإبل . وإن للبيت رب سيمنعه . قال:ما كان ليمتنع مني . قال:أنت وذاك ! . . فرد عليه إبله .
ثم انصرف عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر , وأمرهم بالخروج من مكة , والتحرز في شعف الجبال . ثم قام فأخذ بحلقة باب الكعبة , وقام معه نفر من قريش يدعون الله ويستنصرونه . وروي عن عبد المطلب أنه أنشد:
لاهم إن العبد يمنع رحله فامنع رحالك .
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبدا محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك !
فأما أبرهة فوجه جيشه وفيله لما جاء له . فبرك الفيل دون مكة لا يدخلها , وجهدوا في حمله على اقتحامها فلم يفلحوا . وهذه الحادثة ثابتة بقول رسول الله [ ص ] يوم الحديبية حين بركت ناقته القصواء دون مكة , فقالوا:خلأت القصواء [ أي حرنت ] فقال رسول الله [ ص ] " ما خلأت القصواء , وما ذاك لها بخلق , ولكن حبسها حابس الفيل . . " وفي الصحيحين أن رسول الله [ ص ] قال يوم فتح مكة:" إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين , وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس , ألا فليبلغ الشاهد الغائب " , فهي حادثة ثابتة أنه قد حبس الفيل عن مكة في يوم الفيل . .
ثم كان ما أراده الله من إهلاك الجيش وقائده , فأرسل عليهم جماعات من الطير تحصبهم بحجارة من طين وحجر , فتركتهم كأوراق الشجر الجافة الممزقة . كما يحكي عنهم القرآن الكريم . . وأصيب أبرهة في جسده ,وخرجوا به معهم يسقط أنملة أنملة , حتى قدموا به صنعاء , فما مات حتى انشق صدره عن قلبه كما تقول الروايات . .
وتختلف الروايات هنا في تحديد نوع هذه الجماعات من الطير , وأشكالها , وأحجامها , وأحجام هذه الحجارة ونوعها وكيفية فعلها . كما أن بعضها يروي أن الجدري والحصبة ظهرا في هذا العام في مكة .
ويرى الذين يميلون إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات , وإلى رؤية السنن الكونية المألوفة تعمل عملها , أن تفسير الحادث بوقوع وباء الجدري والحصبة أقرب وأولى . وأن الطير قد تكون هي الذباب والبعوض التي تحمل الميكروبات , فالطير هو كل ما يطير .
قال الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده في تفسيره للسورة في جزء عم:
"وفي اليوم الثاني فشا في جند الجيش داء الجدري والحصبة . . قال عكرمة:وهو أول جدري ظهر ببلاد العرب . وقال يعقوب بن عتبة فيما حدث:إن أول ما رؤيت الحصبة والجدري ببلاد العرب ذلك العام . وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله . فكان لحمهم يتناثر ويتساقط فذعر الجيش وصاحبه وولوا هاربين , وأصيب الجيش , ولم يزل يسقط لحمه قطعة قطعة , وأنملة أنملة حتى انصدع صدره ومات في صنعاء" .
"هذا أول ما اتفقت عليه الروايات , ويصح الاعتقاد به . وقد بينت لنا هذه السورة الكريمة أن ذلك الجدري أو تلك الحصبة نشأت من حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش بواسطة فرق عظيمة من الطير مما يرسله الله مع الريح" .
"فيجوز لك أن تعتقد أن هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض , وأن تكون هذه الحجارة من الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل هذه الحيوانات , فإذا اتصل بجسد دخل في مسامه , فأثار فيه تلك القروح التي تنتهي بإفساد الجسم وتساقط لحمه . وأن كثيرا من هذه الطيور الضعيفة يعد من أعظم جنود الله في إهلاك من يريد إهلاكه من البشر , وأن هذا الحيوان الصغير - الذي يسمونه الآن بالمكروب - لا يخرج عنها . وهو فرق وجماعات لا يحصي عددها إلا بارئها . . ولا يتوقف ظهور أثر قدرة الله تعالى في قهر الطاغين , على أن يكون الطير في ضخامة رؤوس الجبال , ولا على أن يكون من نوع عنقاء مغرب , ولا على أن يكون له ألوان خاصة به , ولا على معرفة مقادير الحجارة وكيفية تأثيرها . . فلله جند من كل شيء " .
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحد
"وليست في الكون قوة إلا وهي خاضعة لقوته . فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت , أرسل الله عليه من الطير ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة , فأهلكته وأهلكت قومه , قبل أن يدخل مكة . وهي نعمة غمر الله بها أهل حرمه - على وثنيتهم - حفظا لبيته , حتى يرسل من يحميه بقوة دينه [ ص ] وإن كانت نعمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت دون جرم اجترمه , ولا ذنب اقترفه" .
"هذا ما يصح الاعتماد عليه في تفسير السورة . وما عدا ذلك فهو مما لا يصح قبوله إلا بتأويل , إن صحت روايته . ومما تعظم به القدرة أن يؤخذ من استعز بالفيل - وهو أضخم حيوان من ذوات الأربع جسما - ويهلك , بحيوان صغير لا يظهر للنظر , ولا يدرك بالبصر , حيث ساقه القدر . لا ريب عند العاقل أن هذا أكبر وأعجب وأبهر !! " .
ونحن لا نرى أن هذه الصورة التي افترضها الاستاذ الإمام - صورة الجدري أو الحصبة من طين ملوث بالجراثيم - أو تلك التي جاءت بها بعض الروايات من أن الحجارة ذاتها كانت تخرق الرؤوس والأجسام وتنفذ منها وتمزق الأجساد فتدعها كفتات ورق الشجر الجاف وهو(العصف). . لا نرى أن هذه الصورة أو تلك أدل على قدرة الله , ولا أولى بتفسير الحادث . فهذه كتلك في نظرنا من حيث إمكان الوقوع . ومن حيث الدلالة على قدرة الله وتدبيره , ويستوي عندنا أن تكون السنة المألوفة للناس , المعهودة المكشوفة لعلمهم هي التي جرت فأهلكت قوما أراد الله إهلاكهم أو أن تكون سنة الله قد جرت بغير المألوف للبشر , وغير المعهود المكشوف لعلمهم , فحققت قدره ذاك .
إن سنة الله ليست فقط هي ما عهده البشر وما عرفوه . وما يعرف البشر من سنة الله إلا طرفا يسيرا يكشفه الله لهم بمقدار ما يطيقون , وبمقدار ما يتهيأون له بتجاربهم ومداركهم في الزمن الطويل , فهذه الخوارق - كما يسمونها - هي من سنة الله . ولكنها خوارق بالقياس إلى ما عهدوه وما عرفوه !
ومن ثم فنحن لا نقف أمام الخارقة مترددين ولا مؤولين لها - متى صحت الرواية - أو كان في النصوص وفي ملابسات الحادث ما يوحي بأنها جرت خارقة , ولم تجر على مألوف الناس ومعهودهم . وفي الوقت ذاته لا نرى أن جريان الأمر على السنة المألوفة أقل وقعا ولا دلالة من جريانه على السنة الخارقة للمألوف . فالسنة المألوفة هي في حقيقتها خارقة بالقياس إلى قدرة البشر . . إن طلوع الشمس وغروبها خارقة - وهي معهودة كل يوم - وإن ولادة كل طفل خارقة - وهي تقع كل لحظة , وإلا فليجرب من شاء أن يجرب ! وإن تسليط طير - كائنا ما كان - يحمل حجارة مسحوقة ملوثة بميكروبات الجدري والحصبة وإلقائها في هذه الأرض , في هذا الأوان , وإحداث هذا الوباء في الجيش , في اللحظة التي يهم فيها باقتحام البيت . . إن جريان قدر الله على هذا النحو خارقة بل عدة خوارق كاملة الدلالة على القدرة وعلى التقدير . وليست بأقل دلالة ولا عظمة من أن يرسل الله طيرا خاصا يحمل حجارة خاصة تفعل بالأجسام فعلا خاصا في اللحظة المقررة . . هذه من تلك . . هذه خارقة وتلك خارقة على السواء . .
فأما في هذا الحادث بالذات , فنحن أميل إلى اعتبار أن الأمر قد جرى على أساس الخارقة غير المعهودة , وأن الله أرسل طيرا أبابيل غير معهودة - وإن لم تكن هناك حاجة إلى قبول الروايات التي تصف أحجام الطير وأشكالها وصفا مثيرا , نجد له نظائر في مواضع أخرى تشي بأن عنصر المبالغة والتهويل مضاف إليها ! - تحمل حجارة غير معهودة , تفعل بالأجسام فعلا غير معهود . .
نحن أميل إلى هذا الاعتبار . لا لأنه أعظم دلالة ولا أكبر حقيقة . ولكن لأن جو السورة وملابسات الحادث تجعل هذا الاعتبار هو الأقرب . فقد كان الله - سبحانه - يريد بهذا البيت أمرا . كان يريد أن يحفظه ليكون مثابة للناس وأمنا ; وليكون نقطة تجمع للعقيدة الجديدة تزحف منه حرة طليقة , في أرض حرة طليقة , لا يهيمن عليها أحد من خارجها , ولا تسيطر عليها حكومة قاهرة تحاصر الدعوة في محضنها . ويجعل هذا الحادث عبرة ظاهرة مكشوفة لجميع الأنظار في جميع الأجيال , حتى ليمتن بها على قريش بعد البعثة في هذه السورة , ويضربها مثلا لرعاية الله لحرماته وغيرته عليها . . فمما يتناسق مع جو هذه الملابسات كلها أن يجيء الحادث غير مألوف ولا معهود , بكل مقوماته وبكل أجزائه . ولا داعي للمحاولة في تغليب صورة المألوف من الأمر في حادث هو في ذاته وبملابساته مفرد فذ . .
وبخاصة أن المألوف في الجدري أو الحصبة لا يتفق مع ما روي من آثار الحادث بأجسام الجيش وقائده ,فإن الجدري أو الحصبة لا يسقط الجسم عضوا عضوا وأنملة أنملة , ولا يشق الصدر عن القلب . .
وهذه الصورة هي التي يوحي بها النص القرآني:(فجعلهم كعصف مأكول). . إيحاء مباشرا قريبا .
ورواية عكرمة وما حدث به يعقوب بن عتبة ليست نصا في أن الجيش أصيب بالجدري . فهي لا تزيد على أن تقول:إن الجدري ظهر في الجزيرة في هذا العام لأول مرة . ولم ترد في أقوالهما أية إشارة لأبرهة وجيشه خاصة بالإصابة بهذا المرض . . ثم إن إصابة الجيش على هذا النحو وعدم إصابة العرب القريبين بمثله في حينه تبدو خارقة إذا كان الطير تقصد الجيش وحده بما تحمل . وما دامت المسألة خارقة فعلام العناء في حصرها في صورة معينة لمجرد أن هذه الصورة مألوفة لمدارك البشر ! وجريان الأمر على غير المألوف أنسب لجو الحادث كله ?!
إننا ندرك ونقدر دوافع المدرسة العقلية التي كان الأستاذ الإمام - رحمه الله - على رأسها في تلك الحقبة . . ندرك ونقدر دوافعها إلى تضييق نطاق الخوارق والغيبيات في تفسير القرآن الكريم وأحداث التاريخ , ومحاولة ردها إلى المألوف المكشوف من السنن الكونية . . فلقد كانت هذه المدرسة تواجه النزعة الخرافية الشائعة التي تسيطر على العقلية العامة في تلك الفترة ; كما تواجه سيل الأساطير والإسرائيليات التي حشيت بها , كتب التفسير والرواية في الوقت الذي وصلت فيه الفتنة بالعلم الحديث إلى ذروتها , وموجة الشك في مقولات الدين إلى قمتها . فقامت هذه المدرسة تحاول أن ترد إلى الدين اعتباره على أساس أن كل ما جاء به موافق للعقل . ومن ثم تجتهد في تنقيته من الخرافات والأساطير . كما تحاول أن تنشئ عقلية دينية تفقه السنن الكونية , وتدرك ثباتها واطرادها , وترد إليها الحركات الإنسانية كما ترد إليها الحركات الكونية في الأجرام والأجسام - وهي في صميمها العقلية القرآنية - فالقرآن يرد الناس إلى سنن الله الكونية باعتبارها القاعدة الثابتة المطردة المنظمة لمفردات الحركات والظواهر المتناثرة .
ولكن مواجهة ضغط الخرافة من جهة وضغط الفتنة بالعلم من جهة أخرى تركت آثارها في تلك المدرسة . من المبالغة في الاحتياط , والميل إلى جعل مألوف السنن الكونية هو القاعدة الكلية لسنة الله . فشاع في تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده - كما شاع في تفسير تلميذيه الأستاذ الشيخ رشيد رضا والأستاذ الشيخ عبد القادر المغربي - رحمهم الله جميعا - شاع في هذا التفسير الرغبة الواضحة في رد الكثير من الخوارق إلى مألوف سنة الله دون الخارق منها , وإلى تأويل بعضها بحيث يلائم ما يسمونه "المعقول" ! وإلى الحذر والاحتراس الشديد في تقبل الغيبيات .
ومع إدراكنا وتقديرنا للعوامل البيئية الدافعة لمثل هذا الاتجاه , فإننا نلاحظ عنصر المبالغة فيه , وإغفال الجانب الآخر للتصور القرآني الكامل . وهو طلاقة مشيئة الله وقدرته من وراء السنن التي اختارها - سواء المألوف منها للبشر أو غير المألوف - هذه الطلاقة التي لا تجعل العقل البشري هو الحاكم الأخير . ولا تجعل معقول هذا العقل هو مرد كل أمر بحيث يتحتم تأويل ما لا يوافقه - كما يتكرر هذا القول في تفسير أعلام هذه المدرسة .
هذا إلى جانب أن المألوف من سنة الله ليس هو كل سنة الله . إنما هو طرف يسير لا يفسر كل ما يقع من هذه السنن في الكون . وأن هذه كتلك دليل على عظمة القدرة ودقة التقدير . .
وكل ذلك مع الاحتياط من الخرافة ونفي الأسطورة في اعتدال كامل , غير متأثر بإيحاء بيئة خاصة , ولا مواجهة عرف تفكيري شائع في عصر من العصور !!!
إن هنالك قاعدة مأمونة في مواجهة النصوص القرآنية , لعل هنا مكان تقريرها . . إنه لا يجوز لنا أن نواجه النصوص القرآنية بمقررات عقلية سابقة . لا مقررات عامة . , ولا مقررات في الموضوع الذي تعالجه النصوص . بل ينبغي أن نواجه هذه النصوص لنتلقى منها مقرراتنا . فمنها نتلقى مقرراتنا الإيمانية , ومنها نكون قواعد منطقنا وتصوراتنا جميعا ; فإذا قررت لنا أمرا فهو المقرر كما قررته ! ذلك أن ما نسميه "العقل" ونريد أن نحاكم إليه مقررات القرآن عن الأحداث الكونية والتاريخية والإنسانية والغيبية هو إفراز واقعنا البشري المحدود , وتجاربنا البشرية المحدودة .
وهذا العقل وإن يكن في ذاته قوة مطلقة لا تتقيد بمفردات التجارب والوقائع بل تسمو عليها إلى المعنى المجرد وراء ذواتها , إلا أنه في النهاية محدود بحدود وجودنا البشري . وهذا الوجود لا يمثل المطلق كما هو عند الله . والقرآن صادر عن هذا المطلق فهو الذي يحكمنا . ومقرراته هي التي نستقي منها مقرراتنا العقلية ذاتها . ومن ثم لا يصلح أن يقال:إن مدلول هذا النص يصطدم مع العقل فلا بد من تأويله - كما يرد كثيرا في مقررات أصحاب هذه المدرسة . وليس معنى هذا هو الإستسلام للخرافة . ولكن معناه أن العقل ليس هو الحكم في مقررات القرآن . ومتى كانت المدلولات التعبيرية مستقيمة واضحة فهي التي تقرر كيف تتلقاها عقولنا , ويكف تصوغ منها قواعد تصورها ومنطقها تجاه مدلولاتها , وتجاه الحقائق الكونية الأخرى . .
ونعود من هذا الاستطراد إلى سورة الفيل , وإلى دلالة القصة . .
(ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ?). . وهو سؤال للتعجيب من الحادث , والتنبيه إلى دلالته العظيمة . فالحادث كان معروفا للعرب ومشهورا عندهم , حتى لقد جعلوه مبدأ تاريخ . يقولون حدث كذا عام الفيل , وحدث كذا قبل عام الفيل بعامين , وحدث كذا بعد عام الفيل بعشر سنوات . . والمشهور أن مولد رسول الله [ ص ] كان في عام الفيل ذاته . ولعل ذلك من بدائع الموافقات الإلهية المقدرة !
وإذن فلم تكن السورة للإخبار بقصة يجهلونها , إنما كانت تذكيرا بأمر يعرفونه , المقصود به ما وراء هذا التذكير . .
ثم أكمل القصة بعد هذا المطلع في صورة الاستفهام التقريري كذلك:
(ألم يجعل كيدهم في تضليل ?). . أي ألم يضل مكرهم فلا يبلغ هدفه وغايته , شأن من يضل الطريق فلا يصل إلى ما يبتغيه . . ولعله كان بهذا يذكر قريشا بنعمته عليهم في حماية هذا البيت وصيانته , في الوقت الذي عجزوا هم عن الوقوف في وجه أصحاب الفيل الأقوياء . لعلهم بهذه الذكرى يستحون من جحود الله الذي تقدمت يده عليهم في ضعفهم وعجزهم , كما يطامنون من اغترارهم بقوتهم اليوم في مواجهة محمد [ ص ] والقلة المؤمنة معه . فقد حطم الله الأقوياء حينما شاءوا الاعتداء على بيته وحرمته ; فلعله يحطم الأقوياء الذين يقفون لرسوله ودعوته .
فأما كيف جعل كيدهم في تضليل فقد بينه في صورة وصفية رائعة:(وأرسل عليهم طيرا أبابيل , ترميهم بحجارة من سجيل . فجعلهم كعصف مأكول). . والأبابيل:الجماعات . وسجيل كلمة فارسية مركبة من كلمتين تفيدان:حجر وطين . أو حجارة ملوثة بالطين . والعصف:الجاف من ورق الشجر . ووصفه بأنه مأكول:أي فتيت طحين ! حين تأكله الحشرات وتمزقه , أو حين يأكله الحيوان فيمضغه ويطحنه ! وهي صورة حسية للتمزيق البدني بفعل هذه الأحجار التي رمتهم بها جماعات الطير . ولا ضرورة لتأويلها بأنها تصويرلحال هلاكهم بمرض الجدري أو الحصبة .
فأما دلالة هذا الحادث والعبر المستفادة من التذكير به فكثيرة . .
وأول ما توحي به أن الله - سبحانه - لم يرد أن يكل حماية بيته إلى المشركين , ولو أنهم كانوا يعتزون بهذا البيت , ويحمونه ويحتمون به . فلما أراد أن يصونه ويحرسه ويعلن حمايته له وغيرته عليه ترك المشركين يهزمون أمام القوة المعتدية . وتدخلت القدرة سافرة لتدفع عن بيت الله الحرام , حتى لا تتكون للمشركين يد على بيته ولا سابقة في حمايته , بحميتهم الجاهلية . ولعل هذه الملابسة ترجح ترجيحا قويا أن الأمر جرى في إهلاك المعتدين مجرى السنة الخارقة - لا السنة المألوفة المعهودة - فهذا أنسب وأقرب . .
ولقد كان من مقتضى هذا التدخل السافر من القدرة الإلهية لحماية البيت الحرام أن تبادر قريش ويبادر العرب إلى الدخول في دين الله حينما جاءهم به الرسول [ ص ] وألا يكون اعتزازهم بالبيت وسدانته وما صاغوا حوله من وثنية هو المانع لهم من الإسلام ! وهذا التذكير بالحادث على هذا النحو هو طرف من الحملة عليهم , والتعجيب من موقفهم العنيد !
كذلك توحي دلالة هذا الحادث بأن الله لم يقدر لأهل الكتاب - أبرهة وجنوده - أن يحطموا البيت الحرام أو يسيطروا على الأرض المقدسة . حتى والشرك يدنسه , والمشركون هم سدنته . ليبقي هذا البيت عتيقا من سلطان المتسلطين , مصونا من كيد الكائدين . وليحفظ لهذه الأرض حريتها حتى تنبت فيها العقيدة الجديدة حرة طليقة , لا يهيمن عليها سلطان , ولا يطغى فيها طاغية , ولا يهيمن على هذا الدين الذي جاء ليهيمن على الأديان وعلى العباد , ويقود البشرية ولا يقاد . وكان هذا من تدبير الله لبيته ولدينه قبل أن يعلم أحد أن نبي هذا الدين قد ولد في هذا العام !
ونحن نستبشر بإيحاء هذه الدلالة اليوم ونطمئن , إزاء ما نعلمه من أطماع فاجرة ماكرة ترف حول الأماكن المقدسة من الصليبية العالمية والصهيونية العالمية , ولا تني أو تهدأ في التمهيد الخفي اللئيم لهذه الأطماع الفاجرة الماكرة . فالله الذي حمى بيته من أهل الكتاب وسدنته مشركون , سيحفظه إن شاء الله , ويحفظ مدينة رسوله من كيد الكائدين ومكر الماكرين !
والإيحاء الثالث هو أن العرب لم يكن لهم دور في الأرض . بل لم يكن لهم كيان . قبل الإسلام . كانوا في اليمن تحت حكم الفرس أو الحبشة . وكانت دولتهم حين تقوم هناك أحيانا تقوم تحت حماية الفرس . وفي الشمال كانت الشام تحت حكم الروم إما مباشرة وإما بقيام حكومة عربية تحت حماية الرومان . . ولم ينج إلا قلب الجزيرة من تحكم الأجانب فيه . ولكنه ظل في حالة بداوة أو في حالة تفكك لا تجعل منه قوة حقيقية في ميدان القوى العالمية . وكان يمكن أن تقوم الحروب بين القبائل أربعين سنة , ولكن لم تكن هذه القبائل متفرقة ولا مجتمعة ذات وزن عند الدول القوية المجاورة . وما حدث في عام الفيل كان مقياسا لحقيقة هذه القوة حين تتعرض لغزو أجنبي .
وتحت راية الإسلام ولأول مرة في تاريخ العرب أصبح لهم دور عالمي يؤدونه . وأصبحت لهم قوة دولية يحسب لها حساب . قوة جارفة تكتسح الممالك وتحطم العروش , وتتولى قيادة البشرية , بعد أن تزيح القيادات الجاهلية المزيفة الضالة . . ولكن الذي هيأ للعرب هذا لأول مرة في تاريخهم هو أنهم نسوا أنهم عرب ! نسوا نعرة الجنس , وعصبية العنصر , وذكروا أنهم ومسلمون . مسلمون فقط . ورفعوا راية الإسلام , وراية الإسلاموحدها . وحملوا عقيدة ضخمة قوية يهدونها إلى البشرية رحمة وبرا بالبشرية ; ولم يحملوا قومية ولا عنصرية ولا عصبية . حملوا فكرة سماوية يعلمون الناس بها لا مذهبا أرضيا يخضعون الناس لسلطانه . وخرجوا من أرضهم جهادا في سبيل الله وحده , ولم يخرجوا ليؤسسوا إمبراطورية عربية ينعمون ويرتعون في ظلها , ويشمخون ويتكبرون تحت حمايتها , ويخرجون الناس من حكم الروم والفرس إلى حكم العرب وإلى حكمهم أنفسهم ! إنما قاموا ليخرجوا الناس من عبادة العباد جميعا إلى عبادة الله وحده , كما قال ربعي بن عامر رسول المسلمين في مجلس يزدجرد:"الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده , ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة , ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام " .
عندئذ فقط كان للعرب وجود , وكانت لهم قوة , وكانت لهم قيادة . . ولكنها كانت كلها لله وفي سبيل الله . وقد ظلت لهم قوتهم . وظلت لهم قيادتهم ما استقاموا على الطريقة . حتى إذا انحرفوا عنها وذكروا عنصريتهم وعصبيتهم , وتركوا راية الله ليرفعوا راية العصبية نبذتهم الأرض وداستهم الأمم , لأن الله قد تركهم حيثما تركوه , ونسيهم مثلما نسوه !
وما العرب بغير الإسلام ? ما الفكرة التي قدموها للبشرية أو يملكون تقديمها إذا هم تخلوا عن هذه الفكرة ? وما قيمة أمة لا تقدم للبشرية فكرة ? إن كل أمة قادت البشرية في فترة من فترات التاريخ كانت تمثل فكرة . والأمم التي لم تكن تمثل فكرة كالتتار الذين اجتاحوا الشرق , والبرابرة الذين اجتاحوا الدولة الرومانية في الغرب لم يستطيعوا الحياة طويلا , إنما ذابوا في الأمم التي فتحوها . والفكرة الوحيدة التي تقدم بها العرب للبشرية كانت هي العقيدة الإسلامية , وهي التي رفعتهم إلى مكان القيادة , فإذا تخلوا عنها لم تعد لهم في الأرض وظيفة , ولم يعد لهم في التاريخ دور . . وهذا ما يجب أن يذكره العرب جيدا إذا هم أرادوا الحياة , وأرادوا القوة , وأرادوا القيادة . . والله الهادي من الضلال . .
سورة قريش
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (4)
سورة قريش
استجاب الله دعوة خليله إبراهيم , وهو يتوجه إليه عقب بناء البيت وتطهيره: (رب اجعل هذا بلدا آمنا وارزق أهله من الثمرات). . فجعل هذا البيت آمنا , وجعله عتيقا من سلطة المتسلطين وجبروت الجبارين ; وجعل من يأوي إليه آمنا والمخافة من حوله في كل مكان . . حتى حين انحرف الناس وأشركوا بربهم وعبدوا معه الأصنام . . لأمر يريده سبحانه بهذا البيت الحرام .
ولما توجه أصحاب الفيل لهدمه كان من أمرهم ما كان , مما فصلته سورة الفيل . وحفظ الله للبيت أمنه , وصان حرمته ; وكان من حوله كما قال الله فيهم: (أو لم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ?).
وقد كان لحادث الفيل أثر مضاعف في زيادة حرمة البيت عند العرب في جميع أنحاء الجزيرة , وزيادة مكانة أهله وسدنته من قريش , مما ساعدهم على أن يسيروا في الأرض آمنين , حيثما حلوا وجدوا الكرامة والرعاية , وشجعهم على إنشاء خطين عظيمين من خطوط التجارة - عن طريق القوافل - إلى اليمن في الجنوب , وإلى الشام في الشمال . وإلى تنظيم رحلتين تجاريتين ضخمتين:إحداهما إلى اليمن في الشتاء , والثانية إلى الشام في الصيف .
ومع ما كانت عليه حالة الأمن في شعاب الجزيرة من سوء ; وعلى ما كان شائعا من غارات السلب والنهب , فإن حرمة البيت في أنحاء الجزيرة قد كفلت لجيرته الأمن والسلامة في هذه التجارة المغرية , وجعلت لقريش بصفة خاصة ميزة ظاهرة ; وفتحت أمامها أبواب الرزق الواسع المكفول , في أمان وسلام وطمأنينة . وألفت نفوسهم هاتين الرحلتين الآمنتين الرابحتين , فصارتا لهم عادة وإلفا !
هذه هي المنة التي يذكرهم الله بها - بعد البعثة - كما ذكرهم منة حادث الفيل في السورة السابقة , منة إيلافهم رحلتي الشتاء والصيف , ومنة الرزق الذي أفاضه عليهم بهاتين الرحلتين - وبلادهم قفرة جفرة وهم طاعمون هانئون من فضل الله . ومنة أمنهم الخوف . سواء في عقر دارهم بجوار بيت الله , أم في أسفارهموترحالهم في رعاية حرمة البيت التي فرضها الله وحرسها من كل اعتداء .
يذكرهم بهذه المنن ليستحيوا مما هم فيه من عبادة غير الله معه ; وهو رب هذا البيت الذي يعيشون في جواره آمنين طاعمين ; ويسيرون باسمه مرعيين ويعودون سالمين . .
يقول لهم:من أجل إيلاف قريش:رحلة الشتاء والصيف فليعبدوا رب هذا البيت الذي كفل لهم الأمن فجعل نفوسهم تألف الرحلة , وتنال من ورائها ما تنال (فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع). . وكان الأصل - بحسب حالة أرضهم - أن يجوعوا , فأطعمهم الله وأشبعهم من هذا الجوع (وآمنهم من خوف). . وكان الأصل - بحسب ما هم فيه من ضعف وبحسب حالة البيئة من حولهم - أن يكونوا في خوف فآمنهم من هذا الخوف !
وهو تذكير يستجيش الحياء في النفوس . ويثير الخجل في القلوب . وما كانت قريش تجهل قيمة البيت وأثر حرمته في حياتها . وما كانت في ساعة الشدة والكربة تلجأ إلا إلى رب هذا البيت وحده . وها هو ذا عبد المطلب لا يواجه أبرهة بجيش ولا قوة . إنما يواجهه برب هذا البيت الذي يتولى حماية بيته ! لم يواجهه بصنم ولا وثن , ولم يقل له . . إن الآلهة ستحمي بيتها . إنما قال له:"أنا رب الإبل وإن للبيت ربا سيمنعه" . . ولكن انحراف الجاهلية لا يقف عند منطق , ولا يثوب إلى حق , ولا يرجع إلى معقول .
وهذه السورة تبدو امتدادا لسورة الفيل قبلها من ناحية موضوعها وجوها . وإن كانت سورة مستقلة مبدوءة بالبسملة , والروايات تذكر أنه يفصل بين نزول سورة الفيل وسورة قريش تسع سور . ولكن ترتيبهما في المصحف متواليتين يتفق مع موضوعهما القريب . .
سورة الماعون
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
سورة الماعون
هذه السورة مكية في بعض الروايات , ومكية مدنية في بعض الروايات [ الثلاث الآيات الأولى مكية والباقيات مدنية ] وهذه الأخيرة هي الأرجح . وإن كانت السورة كلها وحدة متماسكة , ذات اتجاه واحد , لتقرير حقيقة كلية من حقائق هذه العقيدة , مما يكاد يميل بنا إلى اعتبارها مدنية كلها , إذ أن الموضوع التي تعالجه هو من موضوعات القرآن المدني - وهو في جملته يمت إلى النفاق والرياء مما لم يكن معروفا في الجماعة المسلمة في مكة . ولكن قبول الروايات القائلة بأنها مكية مدنية لا يمتنع لاحتمال تنزيل الآيات الأربع الأخيرة في المدينة وإلحاقها بالآيات الثلاث الأولى لمناسبة التشابه والاتصال في الموضوع . . وحسبنا هذا لنخلص إلى موضوع السورة وإلى الحقيقة الكبيرة التي تعالجها . .
إن هذه السورة الصغيرة ذات الآيات السبع القصيرة تعالج حقيقة ضخمة تكاد تبدل المقهوم السائد للإيمان والكفر تبديلا كاملا . فوق ما تطلع به على النفس من حقيقة باهرة لطبيعة هذه العقيدة , وللخير الهائل العظيم المكنون فيها لهذه البشرية , وللرحمة السابغة التي أرادها الله للبشر وهو يبعث إليهم بهذه الرسالة الأخيرة . .
إن هذا الدين ليس دين مظاهر وطقوس ; ولا تغني فيه مظاهر العبادات والشعائر , ما لم تكن صادرة عن إخلاص لله وتجرد , مؤدية بسبب هذا الإخلاص إلى آثار في القلب تدفع إلى العمل الصالح , وتتمثل في سلوك تصلح به حياة الناس في هذه الأرض وترقى .
كذلك ليس هذا الدين أجزاء وتفاريق موزعة منفصلة , يؤدي منها الإنسان ما يشاء , ويدع منها ما يشاء . . إنما هو منهج متكامل , تتعاون عباداته وشعائره , وتكاليفه الفردية والاجتماعية , حيث تنتهي كلها إلى غاية تعودكلها على البشر . . غاية تتطهر معها القلوب , وتصلح للحياة , ويتعاون الناس ويتكافلون في الخير والصلاح والنماء . . وتتمثل فيها رحمة الله السابغة بالعباد .
ولقد يقول الإنسان بلسانه:إنه مسلم وإنه مصدق بهذا الدين وقضاياه . وقد يصلي , وقد يؤدي شعائر أخرى غير الصلاة ولكن حقيقة الإيمان وحقيقة التصديق بالدين تظل بعيدة عنه ويظل بعيدا عنها , لأن لهذه الحقيقة علامات تدل على وجودها وتحققها . وما لم توجد هذه العلامات فلا إيمان ولا تصديق مهما قال اللسان , ومهما تعبد الإنسان !
إن حقيقة الإيمان حين تستقر في القلب تتحرك من فورها [ كما قلنا في سورة العصر ] لكي تحقق ذاتها في عمل صالح . فإذا لم تتخذ هذه الحركة فهذا دليل على عدم وجودها أصلا . وهذا ما تقرره هذه السورة نصا . .
(أرأيت الذي يكذب بالدين ? فذلك الذي يدع اليتيم , ولا يحض على طعام المسكين). .
إنها تبدأ بهذا الاستفهام الذي يوجه كل من تتأتى منه الرؤية ليرى:(أرأيت الذي يكذب بالدين ?)وينتظر من يسمع هذا الاستفهام ليرى إلى أين تتجه الإشارة وإلى من تتجه ? ومن هو هذا الذي يكذب بالدين , والذي يقرر القرآن أنه يكذب بالدين . . وإذا الجواب:(فذلك الذي يدع اليتيم . ولا يحض على طعام المسكين)!
وقد تكون هذه مفاجأة بالقياس إلى تعريف الإيمان التقليدي . . ولكن هذا هو لباب الأمر وحقيقته . . إن الذي يكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم دفعا بعنف - أي الذي يهين اليتيم ويؤذيه . والذي لا يحض على طعام المسكين ولا يوصي برعايته . فلو صدق بالدين حقا , ولو استقرت حقيقة التصديق في قلبه ما كان ليدع اليتيم , وما كان ليقعد عن الحض على طعام المسكين .
إن حقيقة التصديق بالدين ليست كلمة تقال باللسان ; إنما هي تحول في القلب يدفعه إلى الخير والبر بإخوانه في البشرية , المحتاجين إلى الرعاية والحماية . والله لا يريد من الناس كلمات . إنما يريد منهم معها أعمالا تصدقها , وإلا فهي هباء , لا وزن لها عنده ولا اعتبار .
وليس أصرح من هذه الآيات الثلاث في تقرير هذه الحقيقة التي تمثل روح هذه العقيدة وطبيعة هذا الدين أصدق تمثيل .
ولا نحب أن ندخل هنا في جدل فقهي حول حدود الإيمان وحدود الإسلام . فتلك الحدود الفقهية إنما تقوم عليها المعاملات الشرعية . فأما هنا فالسورة تقرر حقيقة الأمر في اعتبار الله وميزانه . وهذا أمر آخر غير الظواهر التي تقوم عليها المعاملات !!
ثم يرتب على هذه الحقيقة الأولى صورة تطبيقية من صورها:
فويل للمصلين , الذين هم عن صلاتهم ساهون , والذين هم يراؤون ويمنعون الماعون إنه دعاء أو وعيد بالهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . . فمن هم هؤلاء الذين هم عن صلاتهم ساهون !
إنهم (الذين يراءون ويمنعون الماعون). .
إنهم أولئك الذين يصلون , ولكنهم لا يقيمون الصلاة . الذين يؤدون حركات الصلاة , وينطقون بأدعيتها , ولكن قلوبهم لا تعيش معها , ولا تعيش بها , وأرواحهم لا تستحضر حقيقة الصلاة وحقيقة ما فيها من قراءات ودعوات وتسبيحات . إنهم يصلون رياء للناس لا إخلاصا لله . ومن ثم هم ساهون عن صلاتهم وهم يؤدونها .ساهون عنها لم يقيموها . والمطلوب هو إقامة الصلاة لا مجرد أدائها . وإقامتها لا تكون إلا باستحضار حقيقتها والقيام لله وحده بها .
ومن هنا لا تنشئ الصلاة آثارها في نفوس هؤلاء المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون . فهم يمنعون الماعون . يمنعون المعونة والبر والخير عن إخوانهم في البشرية . يمنعون الماعون عن عباد الله . ولو كانوا يقيمون الصلاة حقا لله ما منعوا العون عن عباده , فهذا هو محك العبادة الصادقة المقبولة عند الله . .
وهكذا نجد أنفسنا مرة أخرى أمام حقيقة هذه العقيدة , وأمام طبيعة هذا الدين . ونجد نصا قرآنيا ينذر مصلين بالويل . لأنهم لم يقيموا الصلاة حقا . إنما أدوا حركات لا روح فيها . ولم يتجردوا لله فيها . إنما أدوها رياء . ولم تترك الصلاة أثرها في قلوبهم وأعمالهم فهي إذن هباء . بل هي إذن معصية تنتظر سوء الجزاء !
وننظر من وراء هذه وتلك إلى حقيقة ما يريده الله من العباد , حين يبعث إليهم برسالاته ليؤمنوا به وليعبدوه . . .
إنه لا يريد منهم شيئا لذاته سبحانه - فهو الغني - إنما يريد صلاحهم هم أنفسهم . يريد الخير لهم . يريد طهارة قلوبهم ويريد سعادة حياتهم . يريد لهم حياة رفيعة قائمة على الشعور النظيف , والتكافل الجميل , والأريحية الكريمة والحب والإخاء ونظافة القلب والسلوك .
فأين تذهب البشرية بعيدا عن هذا الخير ? وهذه الرحمة ? وهذا المرتقى الجميل الرفيع الكريم ? أين تذهب لتخبط في متاهات الجاهلية المظلمة النكدة وأمامها هذا النور في مفرق الطريق ?
سورة الكوثر
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
سورة الكوثر
هذه السورة خالصة لرسول الله [ ص ] كسورة الضحى , وسورة الشرح . يسري عنه ربه فيها , ويعده بالخير , ويوعد أعداءه بالبتر , ويوجهه إلى طريق الشكر .
ومن ثم فهي تمثل صورة من حياة الدعوة , وحياة الداعية في أول العهد بمكة . صورة من الكيد والأذى للنبي [ ص ] ودعوة الله التي يبشر بها ; وصورة من رعاية الله المباشرة لعبده وللقلة المؤمنة معه ; ومن تثبيت الله وتطمينه وجميل وعده لنبيه ومرهوب وعيده لشانئه .
كذلك تمثل حقيقة الهدى والخير والإيمان . وحقيقة الضلال والشر والكفران . . الأولى كثرة وفيض وامتداد . والثانية قلة وانحسار وانبتار . وإن ظن الغافلون غير هذا وذاك . .
ورد أن سفهاء قريش ممن كانوا يتابعون الرسول [ ص ] ودعوته بالكيد والمكر وإظهار السخرية والاستهزاء . ليصرفوا جمهرة الناس عن الاستماع للحق الذي جاءهم به من عند الله , من أمثال العاص ابن وائل , وعقبة بن أبي معيط , وأبي لهب , وأبي جهل , وغيرهم , كانوا يقولون عن النبي [ ص ] إنه أبتر . يشيرون بهذا إلى موت الذكور من أولاده . وقال أحدهم:دعوه فإنه سيموت بلا عقب وينتهي أمره !
وكان هذا اللون من الكيد اللئيم الصغير يجد له في البيئة العربية التي تتكاثر بالأبناء صدى ووقعا . وتجد هذه الوخزة الهابطة من يهش لها من أعداء رسول الله [ ص ] وشانئيه , ولعلها أوجعت قلبه الشريف ومسته بالغم أيضا .
ومن ثم نزلت هذه السورة تمسح على قلبه [ ص ] بالروح والندى , وتقرر حقيقة الخير الباقي الممتد الذي اختاره له ربه ; وحقيقة الانقطاع والبتر المقدر لأعدائه .
فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
(إنا أعطيناك الكوثر). . والكوثر صيغة من الكثرة . . وهو مطلق غير محدود . يشير إلى عكس المعنى الذي أطلقه هؤلاء السفهاء . . إنا أعطيناك ما هو كثير فائض غزير . غير ممنوع ولا مبتور . . فإذا أراد أحد أن يتتبع هذا الكوثر الذي أعطاه الله لنبيه فهو واجده حيثما نظر أو تصور .
هو واجده في النبوة . في هذا الاتصال بالحق الكبير , والوجود الكبير . الوجود الذي لا وجود غيره ولا شيء في الحقيقة سواه . وماذا فقد من وجد الله ?
وهو واجده في هذا القرآن الذي نزل عليه . وسورة واحدة منه كوثر لا نهاية لكثرته , وينبوع ثر لا نهاية لفيضه وغزارته !
وهو واجده في الملأ الأعلى الذي يصلي عليه , ويصلي على من يصلي عليه في الأرض , حيث يقترن اسمه باسم الله في الأرض والسماء .
وهو واجده في سنته الممتدة على مدار القرون , في أرجاء الأرض . وفي الملايين بعد الملايين السائرة على أثره , وملايين الملايين من الألسنة والشفاه الهاتفة باسمه , وملايين الملايين من القلوب المحبة لسيرته وذكراه إلى يوم القيامة .
وهو واجده في الخير الكثير الذي فاض على البشرية في جميع أجيالها بسببه وعن طريقه . سواء من عرفوا هذا الخير فآمنوا به , ومن لم يعرفوه ولكنه فاض عليهم فيما فاض !
وهو واجده في مظاهر شتى , محاولة إحصائها ضرب من تقليلها وتصغيرها !
إنه الكوثر , الذي لا نهاية لفيضه , ولا إحصاء لعوارفه , ولا حد لمدلوله . ومن ثم تركه النص بلا تحديد , يشمل كل ما يكثر من الخير ويزيد . .
وقد وردت روايات من طرق كثيرة أن الكوثر نهر في الجنة أوتيه رسول الله [ ص ] ولكن ابن عباس أجاب بأن هذا النهر هو من بين الخير الكثير الذي أوتيه الرسول . فهو كوثر من الكوثر ! وهذا هو الأنسب في هذا السياق وفي هذه الملابسات .
(فصل لربك وانحر).
بعد توكيد هذا العطاء الكثير الفائض الكثرة , على غير ما أرجف المرجفون وقال الكائدون , وجه الرسول [ ص ] إلى شكر النعمة بحقها الأول . حق الإخلاص والتجرد لله في العبادة وفي الاتجاه . . في الصلاة وفي ذبح النسك خالصا لله:(فصل لربك وانحر). . غير ملق بالا إلى شرك المشركين , وغير مشارك لهم في عبادتهم أو في ذكر غير اسم الله على ذبائحهم .
وفي تكرار الإشارة إلى ذكر اسم الله وحده على الذبائح , وتحريم ما أهل به لغير الله , وما لم يذكر اسم الله عليه . . ما يشي بعناية هذا الدين بتخليص الحياة كلها من عقابيل الشرك وآثاره . لا تخليص التصور والضمير وحدهما . فهو دين الوحدة بكل معنى من معانيها , وكل ظل من ظلالها ; كما أنه دين التوحيد الخالص المجرد الواضح . ومن ثم فهو يتتبع الشرك في كل مظاهره , وفي كل مكامنه ; ويطارده مطاردة عنيفة دقيقة سواء استكن في الضمير , أم ظهر في العبادة , أم تسرب إلى تقاليد الحياة فالحياة وحدة ما ظهر منها وما بطن , والإسلام يأخذها كلا لا يتجزأ , ويخلصها من شوائب الشرك جميعا , ويتجه بها إلى الله خالصة واضحة
إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
ناصعة , كما نرى في مسألة الذبائح وفي غيرها من شعائر العبادة أو تقاليد الحياة . .
(إن شانئك هو الأبتر). .
في الآية الأولى قرر أنه ليس أبتر بل هو صاحب الكوثر . وفي هذه الآية يرد الكيد إلى كائديه , ويؤكد - سبحانه - أن الأبتر ليس هو محمد , إنما هم شانئوه وكارهوه .
ولقد صدق فيهم وعيد الله . فقد انقطع ذكرهم وانطوى . بينما امتد ذكر محمد وعلا . ونحن نشهد اليوم مصداق هذا القول الكريم , في صورة باهرة واسعة المدى كما لم يشهدوه سامعوه الأولون !
إن الإيمان والحق والخير لا يمكن أن يكون أبتر . فهو ممتد الفروع عميق الجذور . وإنما الكفر والباطل والشر هو الأبتر مهما ترعرع وزها وتجبر . .
إن مقاييس الله غير مقاييس البشر . ولكن البشر ينخدعون ويغترون فيحسبون مقاييسهم هي التي تقرر حقائق الأمور ! وأمامنا هذا المثل الناطق الخالد . . فأين الذين كانوا يقولون عن محمد [ ص ] قولتهم اللئيمة , وينالون بها من قلوب الجماهير , ويحسبون حينئذ أنهم قد قضوا على محمد وقطعوا عليه الطريق ? أين هم ? وأين ذكراهم , وأين آثارهم ? إلى جوار الكوثر من كل شيء , ذلك الذي أوتيه من كانوا يقولون عنه:الأبتر ?!
إن الدعوة إلى الله والحق والخير لا يمكن أن تكون بتراء ولا أن يكون صاحبها أبتر , وكيف وهي موصولة بالله الحي الباقي الأزلي الخالد ? إنما يبتر الكفر والباطل والشر ويبتر أهله , مهما بدا في لحظة من اللحظات أنه طويل الأجل ممتد الجذور . .
وصدق الله العظيم . وكذب الكائدون الماكرون . .
سورة الكافرون
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ (4)
سورة الكافرون
لم يكن العرب يجحدون الله ولكن كانوا لا يعرفونه بحقيقته التي وصف بها نفسه . أحد . صمد . فكانوا يشركون به ولا يقدرونه حق قدره , ولا يعبدونه حق عبادته . كانوا يشركون به هذه الأصنام التي يرمزون بها إلى أسلافهم من الصالحين أو العظماء . أو يرمزون بها إلى الملائكة . . وكانوا يزعمون أن الملائكة بنات الله , وأن بينه - سبحانه - وبين الجنة نسبا , أو ينسون هذا الرمز ويعبدون هذه الآلهة , وفي هذه الحالة أو تلك كانوا يتخذونها لتقربهم من الله كما حكى عنهم القرآن الكريم في سورة الزمر قولهم: (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى). .
ولقد حكى القرآن عنهم أنهم كانوا يعترفون بخلق الله للسماوات والأرض , وتسخيره للشمس والقمر , وإنزاله الماء من السماء كالذي جاء في سورة العنكبوت: (ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله). . (ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله). . وفي إيمانهم كانوا يقولون:والله . وتالله . وفي دعائهم كانوا يقولون:اللهم . . الخ .
ولكنهم مع إيمانهم بالله كان هذا الشرك يفسد عليهم تصورهم كما كان يفسد عليهم تقاليدهم وشعائرهم , فيجعلون للآلهة المدعاة نصيبا في زرعهم وأنعامهم ونصيبا في أولادهم . حتى ليقتضي هذا النصيب أحيانا التضحية بأبنائهم . وفي هذا يقول القرآن الكريم عنهم في سورة الأنعام: وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا . فقالوا هذا لله - بزعمهم - وهذا لشركائنا . فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله . وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم . ساء ما يحكمون ! وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ليردوهم , وليلبسوا عليهم دينهم , ولو شاء الله ما فعلوه , فذرهم وما يفترون . وقالوا:هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء - بزعمهم - وأنعام حرمت ظهورها , وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراء عليه . سيجزيهم بما كانوا يفترون , وقالوا:ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا , ومحرم على أزواجنا , وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء . (سيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم . قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم . وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله . قد ضلوا وما كانوا مهتدين ).
وكانوا يعتقدون أنهم على دين إبراهيم , وأنهم أهدى من أهل الكتاب , الذين كانوا يعيشون معهم في الجزيرة العربية , لأن اليهود كانوا يقولون:عزير ابن الله . والنصارى كانوا يقولون:عيسى ابن الله . بينما هم كانوا يعبدون الملائكة والجن على اعتبار قرابتهم من الله - بزعمهم - فكانوا يعدون أنفسهم أهدى . لأن نسبة الملائكة إلى الله ونسبة الجن كذلك أقرب من نسبة عزير وعيسى . . وكله شرك . وليس في الشرك خيار . ولكنهم هم كانوا يحسبون أنفسهم أهدى وأقوم طريقا !
فلما جاءهم محمد [ ص ] يقول:إن دينه هو دين إبراهيم - عليه السلام - قالوا:نحن على دين إبراهيم فما حاجتنا إذن إلى ترك ما نحن عليه واتباع محمد ?! وفي الوقت ذاته راحوا يحاولون مع الرسول [ ص ] خطة وسطا بينهم وبينه ; وعرضوا عليه أن يسجد لآلهتهم مقابل أن يسجدوا هم لإلهه ! وأن يسكت عن عيب آلهتهم وعبادتهم , وله فيهم وعليهم ما يشترط !
ولعل اختلاط تصوراتهم , واعترافهم بالله مع عبادة آلهة أخرى معه . . لعل هذا كان يشعرهم أن المسافة بينهم وبين محمد قريبة , يمكن التفاهم عليها , بقسمة البلد بلدين , والالتقاء في منتصف الطريق , مع بعض الترضيات الشخصية !
ولحسم هذه الشبهة , وقطع الطريق على المحاولة , والمفاصلة الحاسمة بين عبادة وعبادة , ومنهج ومنهج , وتصور وتصور , وطريق وطريق . . نزلت هذه السورة . بهذا الجزم . وبهذا التوكيد . وبهذا التكرار . لتنهي كل قول , وتقطع كل مساومة وتفرق نهائيا بين التوحيد والشرك , وتقيم المعالم واضحة , لا تقبل المساومة والجدل في قليل ولا كثير:
(قل يا أيها الكافرون . لا أعبد ما تعبدون , ولا أنتم عابدون ما أعبد , ولا أنا عابد ما عبدتم , ولا أنتم عابدون ما أعبد . لكم دينكم ولي دين).
نفي بعد نفي . وجزم بعد جزم . وتوكيد بعد توكيد . بكل أساليب النفي والجزم والتوكيد . .
(قل). . فهو الأمر الإلهي الحاسم الموحي بأن أمر هذه العقيدة أمر الله وحده . ليس لمحمد فيه شيء . إنما هو الله الآمر الذي لا مرد لأمره , الحاكم الذي لا راد لحكمه .
قل يا أيها الكافرون . . ناداهم بحقيقتهم , ووصفهم بصفتهم . . إنهم ليسوا على دين , وليسوا بمؤمنين وإنما هم كافرون . فلا التقاء إذن بينك وبينهم في طريق . .
وهكذا يوحي مطلع السورة وافتتاح الخطاب , بحقيقة الانفصال الذي لا يرجى معه اتصال !
(لا أعبد ما تعبدون). . فعبادتي غير عبادتكم , ومعبودي غير معبودكم . .
(ولا أنتم عابدون ما أعبد)فعبادتكم غير عبادتي , ومعبودكم غير معبودي .
(ولا أنا عابد ما عبدتم). . توكيد للفقرة الأولى في صيغة الجملة الإسمية وهي أدل على ثبات الصفة واستمرارها
.(ولا أنتم عابدون ما أعبد). . تكرار لتوكيد الفقرة الثانية . كي لا تبقي مظنة ولا شبهة , ولا مجال لمظنة أو شبهة بعد هذا التوكيد المكرر بكل وسائل التكرار والتوكيد !
وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ(6) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ(5)
ثم إجمال لحقيقة الافتراق الذي لا التقاء فيه , والاختلاف الذي لا تشابه فيه , والانفصال الذي لا اتصال فيه , والتمييز الذي لا اختلاط فيه:
(لكم دينكم ولي دين). . أنا هنا وأنتم هناك , ولا معبر ولا جسر ولا طريق !!!
مفاصلة كاملة شاملة , وتميز واضح دقيق . .
ولقد كانت هذه المفاصلة ضرورية لإيضاح معالم الاختلاف الجوهري الكامل , الذي يستحيل معه اللقاء على شيء في منتصف الطريق . الاختلاف في جوهر الاعتقاد , وأصل التصور , وحقيقة المنهج , وطبيعة الطريق .
إن التوحيد منهج , والشرك منهج آخر . . ولا يلتقيان . . التوحيد منهج يتجه بالإنسان - مع الوجود كله - إلى الله وحده لا شريك له . ويحدد الجهة التي يتلقى منها الإنسان , عقيدته وشريعته , وقيمه وموازينه , وآدابه وأخلاقه , وتصوراته كلها عن الحياة وعن الوجود . هذه الجهة التي يتلقى المؤمن عنها هي الله , الله وحده بلا شريك . ومن ثم تقوم الحياة كلها على هذا الأساس . غير متلبسة بالشرك في أية صورة من صوره الظاهرة والخفية . . وهي تسير . .
وهذه المفاصلة بهذا الوضوح ضرورية للداعية . وضرورية للمدعوين . .
إن تصورات الجاهلية تتلبس بتصورات الإيمان , وبخاصة في الجماعات التي عرفت العقيدة من قبل ثم انحرفت عنها . وهذه الجماعات هي أعصى الجماعات على الإيمان في صورته المجردة من الغبش والالتواء والانحراف . أعصى من الجماعات التي لا تعرف العقيدة أصلا . ذلك أنها تظن بنفسها الهدى في الوقت الذي تتعقد انحرافاتها وتتلوى ! واختلاط عقائدها وأعمالها وخلط الصالح بالفاسد فيها , قد يغري الداعية نفسه بالأمل في اجتذابها إذا أقر الجانب الصالح وحاول تعديل الجانب الفاسد . . وهذا الإغراء في منتهى الخطورة !
إن الجاهلية جاهلية , والإسلام إسلام . والفارق بينهما بعيد . والسبيل هو الخروج عن الجاهلية بجملتها إلى الإسلام بجملته . هو الانسلاخ من الجاهلية بكل ما فيها والهجرة إلى الإسلام بكل ما فيه .
وأول خطوة في الطريق هي تميز الداعية وشعوره بالانعزال التام عن الجاهلية:تصورا ومنهجا وعملا . الانعزال الذي لا يسمح بالالتقاء في منتصف الطريق . والانفصال الذي يستحيل معه التعاون إلا إذا انتقل أهل الجاهلية من جاهليتهم بكليتهم إلى الإسلام .
لا ترقيع . ولا أنصاف حلول . ولا التقاء في منتصف الطريق . . مهما تزيت الجاهلية بزي الإسلام , أو ادعت هذا العنوان !
وتميز هذه الصورة في شعور الداعية هو حجر الأساس . شعوره بأنه شيء آخر غير هؤلاء . لهم دينهم وله دينه , لهم طريقهم وله طريقه . لا يملك أن يسايرهم خطوة واحدة في طريقهم . ووظيفته أن يسيرهم في طريقه هو , بلا مداهنة ولا نزول عن قليل من دينه أو كثير !
وإلا فهي البراءة الكاملة , والمفاصلة التامة , والحسم الصريح . .(لكم دينكم ولي دين). .
وما أحوج الداعين إلى الإسلام اليوم إلى هذه البراءة وهذه المفاصلة وهذا الحسم . . ما أحوجهم إلى الشعور بأنهم ينشئون الإسلام من جديد في بيئة جاهلية منحرفة , وفي أناس سبق لهم أن عرفوا العقيدة , ثم طال عليهم الأمد (فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون). . وأنه ليس هناك أنصاف حلول , ولا التقاء في منتصف الطريق ,
ولا إصلاح عيوب , ولا ترقيع مناهج . . إنما هي الدعوة إلى الإسلام كالدعوة إليه أول ما كان , الدعوة بين الجاهلية . والتميز الكامل عن الجاهلية . .(لكم دينكم ولي دين). . وهذا هو ديني:التوحيد الخالص الذي يتلقى تصوراته وقيمه , وعقيدته وشريعته . . كلها من الله . . دون شريك . . كلها . . في كل نواحي الحياة والسلوك .
وبغير هذه المفاصلة . سيبقى الغبش وتبقى المداهنة ويبقى اللبس ويبقى الترقيع . . والدعوة إلى الإسلام لا تقوم على هذه الأسس المدخولة الواهنة الضعيفة . إنها لا تقوم إلا على الحسم والصراحة والشجاعة والوضوح . . .
وهذا هو طريق الدعوة الأول:(لكم دينكم ولي دين). .
سورة النصر
إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً (3)
سورة النصر
هذه السورة الصغيرة . . كما تحمل البشرى لرسول الله [ ص ] بنصر الله والفتح ودخول الناس في دين الله أفواجا ; وكما توجهه [ ص ] حين يتحقق نصر الله وفتحه واجتماع الناس على دينه إلى التوجه إلى ربه بالتسبيح والحمد والاستغفار . .
كما تحمل إلى الرسول [ ص ] البشرى والتوجيه . . تكشف في الوقت ذاته عن طبيعة هذه العقيدة وحقيقة هذا المنهج , ومدى ما يريد أن يبلغ بالبشرية من الرفعة والكرامة والتجرد والخلوص , والانطلاق والتحرر . . هذه القمة السامقة الوضيئة , التي لم تبلغها البشرية قط إلا في ظل الإسلام . ولا يمكن أن تبلغها إلا وهي تلبي هذا الهدف العلوي الكريم .
وقد وردت روايات عدة عن نزول هذه السورة نختار منها رواية إلامام أحمد:حدثنا محمد بن أبي عدي , عن داود , عن الشعبي , عن مسروق , قال:قالت عائشة:كان رسول الله [ ص ] يكثر في آخر أمره من قوله:" سبحان الله وبحمده , أستغفر الله وأتوب إليه " وقال:" إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أمتي , وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان توابا ; فقد رأيتها " . . (إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). .
[ ورواه مسلم من طريق داود بن أبي هند بهذا النص ] . .
وقال ابن كثير في التفسير:والمراد بالفتح ها هنا فتح مكة . قولا واحدا . فإن أحياء العرب كانت تتلوم [ أي تنتظر ] بإسلامها فتح مكة يقولون:إن ظهر على قومه فهو نبي , فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجا , فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيمانا , ولم يبق في سائر قبائل العرب إلا مظهرللإسلام ولله الحمد والمنة , وقد روى البخاري في صحيحه عن عمرو بن سلمة قال:لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله [ ص ] وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون:دعوه وقومه فإن ظهر عليهم فهو نبي . . . "الحديث" . .
فهذه الرواية هي التي تتفق مع ظاهر النص في السورة:(إذا جاء نصر الله والفتح). . الخ فهي إشارة عند نزول السورة إلى أمر سيجيء بعد ذلك , مع توجيه النبي [ ص ] إلى ما يعمله عند تحقق هذه البشارة وظهور هذه العلامة .
وهناك رواية أخرى عن ابن عباس ; لا يصعب التوفيق بينها وبين هذه الرواية التي اخترناها .
قال البخاري:حدثنا موسى بن إسماعيل , حدثنا أبو عوانة , عن أبي بشر , عن سعيد بن جبير , عن ابن عباس قال:كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر , فكأن بعضهم وجد في نفسه , فقال:لم يدخل هذا معنا ولنا أبناء مثله ? فقال عمر:إنه ممن قد علمتم . فدعاهم ذات يوم فأدخلني معهم . فما رأيت أنه دعاني فيهم يومئذ إلا ليريهم فقال:ما تقولون في قول الله عز وجل:(إذا جاء نصر الله والفتح)? فقال بعضهم:أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا . وسكت بعضهم فلم يقل شيئا . فقال لي:أكذلك تقول يا بن عباس ? "فقلت لا . فقال:ماتقول ? فقلت:هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . قال:(إذا جاء نصر الله والفتح)فذلك علامة أجلك(فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا). فقال عمر ابن الخطاب:لا أعلم منها إلا ما تقول [ تفرد به البخاري ] .
فلا يمتنع أن يكون الرسول [ ص ] حين رأى علامة ربه أدرك أن واجبه في الأرض قد كمل , وأنه سيلقى ربه قريبا . فكان هذا معنى قول ابن عباس:هو أجل رسول الله [ ص ] أعلمه له . . الخ . .
ولكن هناك حديث رواه الحافظ البيهقي - بإسناده - عن ابن عباس كذلك:قال:لما نزلت:(إذا جاء نصر الله والفتح). . دعا رسول الله [ ص ] فاطمة وقال:" إنه قد نعيت إلي نفسي " فبكت . ثم ضحكت . وقالت أخبرني:أنه نعيت إليه نفسه فبكيت , ثم قال:" اصبري فإنك أول أهلي لحوقا بي " فضحكت .
ففي هذا الحديث تحديد لنزول السورة . فكأنها نزلت والعلامة حاضرة . أي أنه كان الفتح قد تم ودخول الناس أفواجا قد تحقق . فلما نزلت السورة مطابقة للعلامة علم رسول الله [ ص ] أنه أجله . . إلا أن السياق الأول أوثق وأكثر اتساقا مع ظاهر النص القرآني . وبخاصة أن حديث بكاء فاطمة وضحكها قد روي بصورة أخرى تتفق مع هذا الذي نرجحه . . عن أم سلمة - رضي الله عنها - قالت:" دعا رسول الله [ ص ] فاطمة عام الفتح فناجاها , فبكت , ثم ناجاها فضحكت . قالت:فلما توفي رسول الله [ ص ] سألتها عن بكائها وضحكها . قالت:أخبرني رسول الله [ ص ] أنه يموت , فبكيت , ثم أخبرني أني سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران . فضحكت . . " [ أخرجه الترمذي ] .
فهذه الرواية تتفق مع ظاهر النص القرآني , ومع الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأخرجه مسلم في صحيحه . من أنه كانت هناك علامة بين الرسول [ ص ] وربه هي:(إذا جاء نصر الله والفتح . .)فلما كان الفتح عرف أن قد قرب لقاؤه لربه فناجى فاطمة رضي الله عنها بما روته عنها أم سلمة رضي الله عنها .
ونخلص من هذا كله إلى المدلول الثابت والتوجيه الدائم الذي جاءت به هذه السورة الصغيرة . . فإلى أي مرتقى يشير هذا النص القصير:
(إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا , فسبح بحمد ربك واستغفره , إنه كان توابا). . .
في مطلع الآية الأولى من السورة إيحاء معين لإنشاء تصور خاص , عن حقيقة ما يجري في هذا الكون من أحداث , وما يقع في هذه الحياة من حوادث . وعن دور الرسول [ ص ] ودور المؤمنين في هذه الدعوة , وحدهم الذي ينتهون إليه في هذا الامر . . هذا الإيحاء يتمثل في قوله تعالى: (إذا جاء نصر الله . . .). . فهو نصر الله يجيء به الله:في الوقت الذي يقدره . في الصورة التي يريدها . للغاية التي يرسمها . وليس للنبي ولا لأصحابه من أمره شيء , وليس لهم في هذا النصر يد . وليس لإشخاصهم فيه كسب . وليس لذواتهم منه نصيب . وليس لنفوسهم منه حظ ! إنما هو أمر الله يحققه بهم أو بدونهم . وحسبهم منه أن يجريه الله على أيديهم , وأن يقيمهم عليه حراسا , ويجعلهم عليه أمناء . . هذا هو كل حظهم من النصر ومن الفتح ومن دخول الناس في دين الله أفواجا . .
وبناء على هذا الإيحاء وما ينشئه من تصور خاص لحقيقة الأمر يتحدد شأن الرسول [ ص ] ومن معه بإزاء تكريم الله لهم , وإكرامهم بتحقيق نصره على أيديهم . إن شأنه - ومن معه - هو الإتجاه إلى الله بالتسبيح وبالحمد والاستغفار في لحظة الانتصار .
التسبيح والحمد على ما أولاهم من منة بأن جعلهم أمناء على دعوته حراسا لدينه . وعلى ما أولى البشرية كلها من رحمة بنصره لدينه , وفتحه على رسوله ودخول الناس أفواجا في هذا الخير الفائض العميم , بعد العمى والضلال والخسران .
والاستغفار لملابسات نفسية كثيرة دقيقة لطيفة المدخل:الاستغفار من الزهو الذي قد يساور القلب أو يتدسس إليه من سكرة النصر بعد طول الكفاح , وفرحة الظفر بعد طول العناء . وهو مدخل يصعب توقيه في القلب البشري . فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار مما قد يكون ساور القلب أو تدسس إليه في فترة الكفاح الطويل والعناء القاسي , والشدة الطاغية والكرب الغامر . . من ضيق بالشدة , واستبطاء لوعد الله بالنصر , وزلزلة كالتي قال عنها في موضع آخر:(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ? ألا إن نصر الله قريب) فمن هذا يكون الاستغفار .
والاستغفار من التقصير في حمد الله وشكره . فجهد الإنسان , مهما كان , ضعيف محدود , وآلاء الله دائمة الفيض والهملان . . (وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها). . فمن هذا التقصير يكون الاستغفار . .
وهناك لطيفة أخرى للاستغفار لحظة الانتصار . . ففيه إيحاء للنفس واشعار في لحظة الزهو والفخر بأنها في موقف التقصير والعجز . فأولى أن تطامن من كبريائها . وتطلب العفو من ربها . وهذا يصد قوى الشعور بالزهو والغرور . .
ثم إن ذلك الشعور بالنقص والعجز والتقصير والإتجاه إلى الله طلبا للعفو والسماحة والمغفرة يضمن كذلك عدم الطغيان على المقهورين المغلوبين . ليرقب المنتصر الله فيهم , فهو الذي سلطه عليهم , وهو العاجز القاصر المقصر . وإنها سلطة الله عليهم تحقيقا لأمر يريده هو . والنصر نصره , والفتح فتحه , والدين دينه , وإلى الله تصير الأمور .
إنه الأفق الوضيء الكريم , الذي يهتف القرآن الكريم بالنفس البشرية لتتطلع إليه , وترقى في مدارجه , على حدائه النبيل البار . الأفق الذي يكبر فيه الإنسان لأنه يطامن من كبريائه , وترف فيه روحه طليقة لانها تعنو لله !
إنه الانطلاق من قيود الذات ليصبح البشر أرواحا من روح الله . ليس لها حظ في شيء إلا رضاه . ومع هذا الانطلاق جهاد لنصرة الخير وتحقيق الحق ; وعمل لعمارة الأرض وترقية الحياة ; وقيادة للبشرية قيادة رشيدة نظيفة معمرة , بانية عادلة خيرة , . . الإتجاه فيها إلى الله .
وعبثا يحاول الإنسان الانطلاق والتحرر وهو مشدود إلى ذاته , مقيد برغباته , مثقل بشهواته . عبثا يحاول ما لم يتحرر من نفسه , ويتجرد في لحظة النصر والغنم من حظ نفسه ليذكر الله وحده .
وهذا هو الأدب الذي اتسمت به النبوة دائما , يريد الله أن ترتفع البشرية إلى آفاقه , أو تتطلع إلى هذه الآفاق دائما . .
كان هذا هو أدب يوسف - عليه السلام - في اللحظة التي تم له فيها كل شيء , وتحققت رؤياه:(ورفع أبويه على العرش وخروا له سجدا , وقال:يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا . وقد أحسن بي إذ أخرجني من السجن وجاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتي . إن ربي لطيف لما يشاء , إنه هو العليم الحكيم). .
وفي هذه اللحظة نزع يوسف - عليه السلام - نفسه من الصفاء والعناق والفرحة والابتهاج ليتجه إلى ربه في تسبيح الشاكر الذاكر . كل دعوته وهو في أبهة السلطان وفي فرحة تحقيق الأحلام:
(رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث , فاطر السماوات والأرض , أنت وليي في الدنيا والآخرة , توفني مسلما , وألحقني بالصالحين). . وهنا يتوارى الجاه والسلطان , وتتوارى فرحة اللقاء وتجمع الأهل ولمة الإخوان , ويبدو المشهد الأخير مشهد إنسان فرد يبتهل إلى ربه أن يحفظ له إسلامه حتى يتوفاه إليه , وأن يلحقه بالصالحين عنده . من فضله ومنه وكرمه . .
وكان هذا هو أدب سليمان عليه السلام وقد رأى عرش ملكة سبأ حاضرا بين يديه قبل أن يرتد إليه طرفه: (فلما رآه مستقرا عنده قال:هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر , ومن شكر فإنما يشكر لنفسه , ومن كفر فإن ربي غني كريم). .
وهذا كان أدب محمد [ ص ] في حياته كلها , وفي موقف النصر والفتح الذي جعله ربه علامة له . . انحنى لله شاكرا على ظهر دابته ودخل مكة في هذه الصورة . مكة التي آذته وأخرجته وحاربته ووقفت في طريق الدعوة تلك الوقفة العنيدة . . فلما أن جاءه نصر الله والفتح , نسي فرحة النصر وانحنى انحناءةالشكر , وسبح وحمد واستغفر كما لقنه ربه , وجعل يكثر من التسبيح والحمد والاستغفار كما وردت بذلك الآثار . وكانت هذه سنته في أصحابه من بعده , رضي الله عنهم أجمعين .
وهكذا ارتفعت البشرية بالإيمان بالله , وهكذا أشرقت وشفت ورفرفت , وهكذا بلغت من العظمة والقوة والانطلاق . .
سورة المسد
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (5)
سورة المسد
أبو لهب - [ واسمه عبد العزى بن عبد المطلب ] هو عم النبي [ ص ] وإنما سمي أبو لهب لإشراق وجهه , وكان هو وامرأته "أم جميل" من أشد الناس إيذاء لرسول الله [ ص ] وللدعوة التي جاء بها . .
قال ابن اسحاق:"حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس قال:سمعت ربيعة بن عباد الديلي يقول:"إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله [ ص ] يتبع القبائل , ووراءه رجل أحول , وضيء الوجه ذو جمة , يقف رسول الله [ ص ] على القبيلة فيقول:" يا بني فلان . إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا , وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به " وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه:يا بني فلان . هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقمس , إلى ما جاء به من البدعة والضلالة , فلا تسمعوا له , ولا تتبعوه . فقلت لأبي:من هذا ? قال عمه أبو لهب . [ ورواه الإمام أحمد والطبراني بهذا اللفظ ] .
فهذا نموذج من نماذج كيد أبي لهب للدعوة وللرسول [ ص ] , وكانت زوجته أم جميل في عونه في هذه الحملة الدائبة الظالمة . [ وهي أروى بنت حرب بن أمية أخت أبي سفيان ] .
ولقد اتخذ أبو لهب موقفه هذا من رسول الله [ ص ] منذ اليوم الأول للدعوة . أخرج البخاري - بإسناده - عن ابن عباس , أن النبي [ ص ] خرج إلى البطحاء , فصعد الجبل فنادى:" يا صباحاه " فاجتمعت إليه قريش , فقال:أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم ? أكنتم مصدقي ? قالوا:نعم . قال:" فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد " . فقال أبو لهب . ألهذا جمعتنا ? تبا لك . فأنزل الله(تبت يدا أبي لهب وتب . . .)الخ . وفي رواية فقام ينفض يديه وهو يقول:تبا لك سائر اليوم ! ألهذا جمعتنا ?! فأنزل الله السورة .
ولما أجمع بنو هاشم بقيادة أبي طالب على حماية النبي [ ص ] ولو لم يكونوا على دينه , تلبية لدافع العصبية القبلية , خرج أبو لهب على إخوته , وحالف عليهم قريشا , وكان معهم في الصحيفة التي كتبوها بمقاطعة بني هاشم وتجويعهم كي يسلموا لهم محمدا [ ص ] .
وكان قد خطب بنتي رسول الله [ ص ] رقية وأم كلثوم لولديه قبل بعثة النبي [ ص ] فلما كانت البعثة أمرهما بتطليقهما حتى يثقل كاهل محمد بهما !
وهكذا مضى هو وزوجته أم جميل يثيرانها حربا شعواء على النبي [ ص ] وعلى الدعوة , لا هوادة فيها ولا هدنة . وكان بيت أبي لهب قريبا من بيت رسول الله [ ص ] فكان الأذى أشد . وقد روي أن أم جميل كانت تحمل الشوك فتضعه في طريق النبي ; وقيل:إن حمل الحطب كناية عن سعيها بالأذى والفتنة والوقيعة .
نزلت هذه السورة ترد على هذه الحرب المعلنة من أبي لهب وامرأته . وتولى الله - سبحانه - عن رسوله [ ص ] أمر المعركة !
(تبت يدا أبي لهب وتب). . والتباب الهلاك والبوار والقطع .(وتبت)الأولى دعاء .(وتب)الثانية تقرير لوقوع هذا الدعاء . ففي آية قصيرة واحدة في مطلع السورة تصدر الدعوة وتتحقق , وتنتهي المعركة ويسدل الستار !
فأما الذي يتلو آية المطلع فهو تقرير ووصف لما كان .
(ما أغنى عنه ماله وما كسب). . لقد تبت يداه وهلكتا وتب هو وهلك . فلم يغن عنه ماله وسعيه ولم يدفع عنه الهلاك والدمار .
ذلك - كان - في الدنيا . أما في الآخرة فإنه:(سيصلى نارا ذات لهب). . ويذكر اللهب تصويرا وتشخيصا للنار وإيحاء بتوقدها وتلهبها .
(وامرأته حمالة الحطب). . وستصلاها معه امرأته حالة كونها حمالة للحطب . . وحالة كونها:(في جيدها حبل من مسد). . أي من ليف . . تشد هي به في النار . أو هي الحبل الذي تشد به الحطب . على المعنى الحقيقي إن كان المراد هو الشوك . أو المعنى المجازي إن كان حمل الحطب كناية عن حمل الشر والسعي بالأذى والوقيعة .
وفي الأداء التعبيري للسورة تناسق دقيق ملحوظ مع موضوعها وجوها , نقتطف في بيانه سطورا من كتاب:"مشاهد القيامة في القرآن" نمهد بها لوقع هذه السورة في نفس أم جميل التي ذعرت لها وجن جنونها:
"أبو لهب . سيصلى نارا ذات لهب . . وامرأته حمالة الحطب . ستصلاها وفي عنقها حبل من مسد . .
"تناسق في اللفظ , وتناسق في الصورة . فجنهم هنا نار ذات لهب . يصلاها أبو لهب ! وامرأته تحمل الحطب وتلقيه في طريق محمد لإيذائه (بمعناه الحقيقي أو المجازي" . . والحطب مما يوقد به اللهب . وهي تحزم الحطب بحبل . فعذابها في النار ذات اللهب أن تغل بحبل من مسد . ليتم الجزاء من جنس العمل , وتتم الصورة بمحتوياتها الساذجة:الحطب والحبل . والنار واللهب . يصلى به أبو لهب وامرأته حمالة الحطب !وتناسق من لون آخر . في جرس الكلمات , مع الصوت الذي يحدثه شد أحمال الحطب وجذب العنق بحبل من مسد . اقرأ:(تبت يدا أبي لهب وتب)تجد فيها عنف الحزم والشد ! الشبيه بحزم الحطب وشده . والشبيه كذلك بغل العنق وجذبه . والشبيه بجو الحنق والتهديد الشائع في السورة .
"وهكذا يلتقي تناسق الجرس الموسيقي , مع حركة العمل الصوتية , بتناسق الصور في جزئياتها المتناسقة , بتناسق الجناس اللفظي ومراعاة النظير في التعبير , ويتسق مع جو السورة وسبب النزول . ويتم هذا كله في خمس فقرات قصار , وفي سورة من أقصر سور القرآن" .
هذا التناسق القوي في التعبير جعل أم جميل تحسب أن الرسول [ ص ] قد هجاها بشعر . وبخاصة حين انتشرت هذه السورة وما تحمله من تهديد ومذمة وتصوير زري لأم جميل خاصة . تصوير يثير السخرية من امرأة معجبة بنفسها , مدلة بحسبها ونسبها . ثم ترتسم لها هذه الصورة: (حمالة الحطب . في جيدها حبل من مسد)! في هذا الأسلوب القوي الذي يشيع عند العرب !
قال ابن إسحاق:فذكر لي أن أم جميل حمالة الحطب حين سمعت ما نزل فيها وفي زوجها من القرآن , أتت رسول الله [ ص ] وهو جالس في المسجد عند الكعبة , ومعه أبو بكر الصديق , وفي يدها فهر [ أي بمقدار ملء الكف ] من حجارة . فلما وقفت عليهما أخذ الله ببصرها عن رسول الله [ ص ] فلا ترى إلا أبا بكر . فقالت:يا أبا بكر . أين صاحبك ? قد بلغني أنه يهجوني . والله لو وجدته لضربت بهذا الفهر فاه . أما والله واني لشاعرة ! ثم قالت:
مذمما عصينا وأمره أبينا
ثم انصرفت . فقال أبو بكر:يا رسول الله , أما تراها رأتك ? فقال:ما رأتني , لقد أخذ الله ببصرها عني . .
وروى الحافظ أبو بكر البزار - بإسناده - عن ابن عباس قال:لما نزلت: (تبت يدا أبي لهب)جاءت امرأة أبي لهب , ورسول الله [ ص ] جالس ومعه أبو بكر . فقال له أبو بكر:لو تنحيت لا تؤذيك بشيء ! فقال رسول الله [ ص ]:" إنه سيحال بيني وبينها " . . فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر , فقالت:يا أبا بكر , هجانا صاحبك . فقال أبو بكر:لا ورب هذه البنية ما ينطق بالشعر ولا يتفوه به , فقالت:إنك لمصدق . فلما ولت قال أبو بكر:ما رأتك ? قال:" لا . ما زال ملك يسترني حتى ولت " . .
فهكذا بلغ منها الغيظ والحنق , من سيرورة هذا القول الذي حسبته شعرا [ وكان الهجاء لا يكون إلا شعرا ] مما نفاه لها أبو بكر وهو صادق ! ولكن الصورة الزرية المثيرة للسخرية التي شاعت في آياتها , قد سجلت في الكتاب الخالد , وسجلتها صفحات الوجود أيضا تنطق بغضب الله وحربه لأبي لهب وامرأته جزاء الكيد لدعوة الله ورسوله , والتباب والهلاك والسخرية والزراية جزاء الكائدين لدعوة الله في الدنيا , والنار في الآخرة جزاء وفاقا , والذل الذي يشير إليه الحبل في الدنيا والآخرة جميعا . . .
سورة الإخلاص
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)
سورة الاخلاص
هذه السورة الصغيرة تعدل ثلث القرآن كما جاء في الروايات الصحيحة . قال البخاري:حدثنا إسماعيل:حدثني مالك عن عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة , عن أبيه , عن أبي سعد , أن رجلا سمع رجلا يقرأ:(قل هو الله أحد)يرددها . فلما أصبح جاء إلى النبي [ ص ] فذكر ذلك له - وكأن الرجل يتقالها - فقال النبي [ ص ]:" والذي نفسي بيده , إنها لتعدل ثلث القرآن " . .
وليس في هذا من غرابة . فإن الأحدية التي أمر رسول الله [ ص ] أن يعلنها:(قل هو الله أحد). . هذه الأحدية عقيدة للضمير , وتفسير للوجود , ومنهج للحياة . . وقد تضمنت السورة - من ثم - أعرض الخطوط الرئيسية في حقيقة الإسلام الكبيرة . .
(قل هو الله أحد). . وهو لفظ أدق من لفظ "واحد" . . لأنه يضيف إلى معنى "واحد" أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي , ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء , أو فاعلا في شيء , في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .
فإذا استقر هذا التفسير , ووضح هذا التصور , خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة , ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !
وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة , ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود , وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة , ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?
ومتى استقر هذا التصور الذي لا يرى في الوجود إلا حقيقة الله , فستصحبه رؤية هذه الحقيقة في كل وجود آخر انبثق عنها - وهذه درجة يرى فيها القلب يد الله في كل شيء يراه . وورائها الدرجة التي لا يرى فيها شيئا في الكون إلا الله . لأنه لا حقيقة هناك يراها إلا حقيقة الله .
كذلك سيصحبه نفي فاعلية الأسباب . ورد كل شيء وكل حدث وكل حركة إلى السبب الأول الذي منه صدرت , وبه تأثرت . . وهذه هي الحقيقة التي عني القرآن عناية كبيرة بتقريرها في التصور الإيماني . ومن ثم كان ينحي الأسباب الظاهرة دائما ويصل الأمور مباشرة بمشيئة الله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). . (وما النصر إلا من عند الله). . (وما تشاءون إلا أن يشاء الله). . وغيرها كثير . .
وبتنحية الأسباب الظاهرة كلها , ورد الأمر إلى مشيئة الله وحدها , تنسكب في القلب الطمأنينة , ويعرف المتجه الوحيد الذي يطلب عنده ما يرغب , ويتقي عنده ما يرهب , ويسكن تجاه الفواعل والمؤثرات والأسباب الظاهرة التي لا حقيقة لها ولا وجود !
وهذه هي مدارج الطريق التي حاولها المتصوفة , فجذبتهم إلى بعيد ! ذلك أن الإسلام يريد من الناس أن يسلكوا الطريق إلى هذه الحقيقة وهم يكابدون الحياة الواقعية بكل خصائصها , ويزاولون الحياة البشرية , والخلافة الأرضية بكل مقوماتها , شاعرين مع هذا أن لا حقيقة إلا الله . وأن لا وجود إلا وجوده . وأن لا فاعلية إلا فاعليته . . ولا يريد طريقا غير هذا الطريق !
من هنا ينبثق منهج كامل للحياة , قائم على ذلك التفسير وما يشيعه في النفس من تصورات ومشاعر واتجاهات:منهج لعبادة الله وحده . الذي لا حقيقة لوجود إلا وجوده , ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعليته , ولا أثر لإرادة إلا إرادته .
ومنهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا , وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ?!
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين , والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم , والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة , وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات , وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !
ومنهج يربط - مع هذا - بين القلب البشري وبين كل موجود برباط الحب والأنس والتعاطف والتجاوب . فليس معنى الخلاص من قيودها هو كراهيتها والنفور منها والهروب من مزاولتها . . فكلها خارجة من يد الله ; وكلها تستمد وجودها من وجوده , وكلها تفيض عليها أنوار هذه الحقيقة . فكلها إذن حبيب , إذ كلها هدية من الحبيب !
وهو منهج رفيق طليق . . الأرض فيه صغيرة , والحياة الدنيا قصيرة , ومتاع الحياة الدنيا زهيد , والانطلاق من هذه الحواجز والشوائب غاية وأمنية . . ولكن الانطلاق عند الإسلام ليس معناه الاعتزال ولا الإهمال , ولا الكراهية ولا الهروب . . إنما معناه المحاولة المستمرة , والكفاح الدائم لترقية البشرية كلها , وإطلاق الحياة البشرية جميعها . . ومن ثم فهي الخلافة والقيادة بكل أعبائهما , مع التحرر والانطلاق بكل مقوماتهما . كما أسلفنا .
إن الخلاص عن طريق الصومعة سهل يسير . ولكن الإسلام لا يريده . لأن الخلافة في الأرض والقيادة للبشر طرف من المنهج الإلهي للخلاص . إنه طريق أشق , ولكنه هو الذي يحقق إنسانية الإنسان . أي يحقق انتصار النفخة العلوية في كيانه . . وهذا هو الانطلاق . انطلاق الروح إلى مصدرها الإلهي , وتحقيق حقيقتها العلوية . وهي تعمل في الميدان الذي اختاره لها خالقها الحكيم . .
من أجل هذا كله كانت الدعوة الأولى قاصرة على تقرير حقيقة التوحيد بصورتها هذه في القلوب . لأن التوحيد في هذه الصورة عقيدة للضمير , وتفسير للوجود , ومنهج للحياة . وليس كلمة تقال باللسان أو حتى صورة تستقر في الضمير . إنما هو الأمر كله , والدين كله ; وما بعده من تفصيلات وتفريعات لا يعدو أن يكون الثمرة الطبيعية لاستقرار هذه الحقيقة بهذه الصورة في القلوب .
والانحرافات التي أصابت أهل الكتاب من قبل , والتي أفسدت عقائدهم وتصوراتهم وحياتهم , نشأت أول ما نشأت عن انطماس صورة التوحيد الخالص . ثم تبع هذا الانطماس ما تبعه من سائر الانحرافات .
على أن الذي تمتاز به صورة التوحيد في العقيدة الإسلامية هو تعمقها للحياة كلها , وقيام الحياة على أساسها , واتخاذها قاعدة للمنهج العملي الواقعي في الحياة , تبدو آثاره في التشريع كما تبدو في الاعتقاد سواء . وأول هذه الآثار أن تكون شريعة الله وحدها هي التي تحكم الحياة . فإذا تخلفت هذه الآثار فإن عقيدة التوحيد لا تكون قائمة , فإنها لا تقوم إلا ومعها آثارها محققة في كل ركن من أركان الحياة . .
ومعنى أن الله أحد:أنه الصمد . وأنه لم يلد ولم يولد . ولم يكن له كفوا أحد . . ولكن القرآن يذكر هذه التفريعات لزيادة التقرير والإيضاح:
(الله الصمد). . ومعنى الصمد اللغوي:السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه . والله - سبحانه - هو السيد الذي لا سيد غيره , فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد . وهو المقصود وحده بالحاجات , المجيب وحده لأصحاب الحاجات . وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه , ولا يقضي أحد معه . . وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد .
(لم يلد ولم يولد). . فحقيقة الله ثابتة أبدية أزلية , لا تعتورها حال بعد حال . صفتها الكمال المطلق في جميع الأحوال . والولادة انبثاق وامتداد , ووجود زائد بعد نقص أو عدم , وهو على الله محال . ثم هي تقتضي زوجية . تقوم على التماثل . وهذه كذلك محال . ومن ثم فإن صفة(أحد)تتضمن نفي الوالد والولد . .
(ولم يكن له كفوا أحد). . أي لم يوجد له مماثل أو مكافئ . لا في حقيقة الوجود , ولا في حقيقة الفاعلية , ولا في أية صفة من الصفات الذاتية . وهذا كذلك يتحقق بأنه(أحد)ولكن هذا توكيد وتفصيل . . وهو نفي للعقيدة الثنائية التي تزعم أن الله هو إله الخير وأن للشر إلها يعاكس الله - بزعمهم - ويعكس عليه أعماله الخيرةوينشر الفساد في الأرض . وأشهر العقائد الثنائية كانت عقيدة الفرس في إله النور وإله الظلام , وكانت معروفة في جنوبي الجزيرة العربية حيث للفرس دولة وسلطان !!
هذه السورة إثبات وتقرير لعقيدة التوحيد الإسلامية , كما أن سورة "الكافرون" نفي لأي تشابه أو التقاء بين عقيدة التوحيد وعقيدة الشرك . . وكل منهما تعالج حقيقة التوحيد من وجه . وقد كان الرسول [ ص ] يستفتح يومه - في صلاة سنة الفجر - بالقراءة بهاتين السورتين . . وكان لهذا الافتتاح معناه ومغزاه . .
سورة الفلق
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِن شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4)
سورة الفلق
هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى - لنبيه [ ص ] ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا , للعياذ بكنفه , واللياذ بحماه , من كل مخوف:خاف وظاهر , مجهول ومعلوم , على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل . . وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه , ويبسط لهم كنفه , ويقول لهم , في مودة وعطف:تعالوا إلى هنا . تعالوا إلى الحمى . تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه . تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا . . هنا الأمن والطمأنينة والسلام . .
ومن ثم تبدأ كل منهما بهذا التوجيه .(قل:أعوذ برب الفلق). .(قل:أعوذ برب الناس). .
وفي قصة نزولها وقصة تداولها وردت عدة آثار , تتفق كلها مع هذا الظل الذي استروحناه , والذي يتضح من الآثار المروية أن رسول الله [ ص ] استروحه في عمق وفرح وانطلاق:
عن عقبة - ابن عامر - رضي الله عنه - أن رسول الله [ ص ] قال:" ألم تر آيات أنزلت هذه الليلة لم ير مثلهن قط ? قل:أعوذ برب الفلق وقل:أعوذ برب الناس " . .
وعن جابر - رضي الله عنه - قال:قال لي رسول الله [ ص ]:" اقرأ يا جابر " . قلت:ماذا بأبي أنت وأمي ? قال " اقرأ:قل أعوذ برب الفلق . وقل أعوذ برب الناس " فقرأتهما . فقال:" اقرأ بهما فلن تقرأ بمثلهما " . .
وعن ذر بن حبيش قال:سألت أبي بن كعب - رضي الله عنه - عن المعوذتين . قلت:يا أبا المنذر إن أخاكابن مسعود يقول كذا وكذا [ وكان ابن مسعود لا يثبتهما في مصحفه ثم ثاب إلى رأي الجماعة وقد أثبتهما في المصحف ] فقال:سألت رسول الله [ ص ] فقال:" قيل لي:قل . فقلت " . فنحن نقول كما قال رسول الله [ ص ] وكل هذه الآثار تشي بتلك الظلال الحانية الحبيبة . .
وهنا في هذه السورة يذكر الله - سبحانه - نفسه بصفته التي بها يكون العياذ من شر ما ذكر في السورة .
(قل أعوذ برب الفلق). . والفلق من معانيه الصبح , ومن معانيه الخلق كله . بالإشارة إلى كل ما يفلق عنه الوجود والحياة , كما قال في الأنعام: (إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي). . وكما قال: (فالق الإصباح وجعل الليل سكنا والشمس والقمر حسبانا). .
وسواء كان هو الصبح فالاستعاذة برب الصبح الذي يؤمن بالنور من شر كل غامض مستور , أو كان هو الخلق فالاستعاذة برب الخلق الذي يؤمن من شر خلقه , فالمعنى يتناسق مع ما بعده . .
(من شر ما خلق). . أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا . وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض . كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى . والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها . والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها !
(ومن شر غاسق إذا وقب). . والغاسق في اللغة الدافق , والوقب النقرة في الجبل يسيل منها الماء . والمقصود هنا - غالبا - هو الليل وما فيه . الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة . والليل حينئذ مخوف بذاته . فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء:من وحش مفترس يهجم . ومتلصص فاتك يقتحم . وعدو مخادع يتمكن . وحشرة سامة تزحف . ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل , وتخنق المشاعر والوجدان , ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء . ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام . ومن ظاهر وخاف يدب ويثب , في الغاسق إذا وقب !
(ومن شر النفاثات في العقد). . والنفاثات في العقد:السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس , وخداع الأعصاب , والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر . وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء !
والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ; ولا ينشئ حقيقة جديدة لها . ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر . وهذا هو السحر كما صوره القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام:سورة طه (قالوا:يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون أول من ألقى . قال:بل ألقوا . فإذا حبالهم وعصيهم يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى . فأوجس في نفسه خيفة موسى . قلنا:لا تخف إنك أنت الأعلى . وألق ما في يمينك تلقف ما صنعوا إن ما صنعوا كيد ساحر ولا يفلح الساحر حيث أتى . . .).
وهكذا لم تنقلب حبالهم وعصيهم حيات فعلا , ولكن خيل إلى الناس - وموسى معهم - أنها تسعى إلى حد أن أوجس في نفسه خيفة , حتى جاءه التثبيت . ثم انكشفت الحقيقة حين انقلبت عصا موسى بالفعل حية فلقفت الحبال والعصي المزورة المسحورة .
وهذه هي طبيعة السحر كما ينبغي لنا أن نسلم بها . وهو بهذه الطبيعة يؤثر في الناس ، وينشئ لهم مشاعر وفق إيحائه . . مشاعر تخيفهم وتؤذيهم وتوجههم الوجهة التي يريدها الساحر ، وعند هذا الحد نقف في فهم طبيعة السحر والنفث في العقد . . وهي شر يستعاذ منه بالله ، ويلجأ منه إلى حماه .
وقد وردت روايات - بعضها صحيح ولكنه غير متواتر - أن لبيد بن الأعصم اليهودي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - في المدينة . . قيل أياما ، وقيل أشهرا . . حتى كان يخيل إليه أنه يأتي النساء وهو لا يأتيهن في رواية ، وحتى كان يخيل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله في رواية ، وأن السورتين نزلتا رقية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما استحضر السحر المقصود - كما أخبر في رؤياه - وقرأ السورتين انحلت العقد ، وذهب عنه السوء .
ولكن هذه الروايات تخالف أصل العصمة النبوية في الفعل والتبليغ ، ولا تستقيم مع الاعتقاد بأن كل فعل من أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وكل قول من أقواله سنة وشريعة ، كما أنها تصطدم بنفي القرآن عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أنه مسحور ، وتكذيب المشركين فيما كانوا يدعونه من هذا الإفك . ومن ثم تستبعد هذه الروايات . . وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة . والمرجع هو القرآن . والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد . وهذه الروايات ليست من المتواتر . فضلا على أن نزول هاتين السورتين في مكة هو الراجح . مما يوهن أساس الروايات الأخرى .
" ومن شر حاسد إذا حسد " . .
والحسد انفعال نفسي إزاء نعمة الله على بعض عباده مع تمني زوالها . وسواء أتبع الحاسد هذا الانفعال بسعي منه لإزالة النعمة تحت تأثير الحقد والغيظ ، أو وقف عند حد الانفعال النفسي ، فإن شرا يمكن أن يعقب هذا الانفعال .
ونحن مضطرون أن نطامن من حدة النفي لما لا نعرف من أسرار هذا الوجود ، وأسرار النفس البشرية ، وأسرار هذا الجهاز الإنساني . فهنالك وقائع كثيرة تصدر عن هذه الأسرار ، ولا نملك لها حتى اليوم تعليلا . . هنالك مثلا ذلك التخاطر على البعد . وفيه تتم اتصالات بين أشخاص متباعدين . اتصالات لا سبيل إلى الشك في وقوعها بعد تواتر الأخبار بها وقيام التجارب الكثيرة المثبتة لها . ولا سبيل كذلك لتعليلها بما بين أيدينا من معلومات . وكذلك التنويم المغناطيسي . وقد أصبح الآن موضعا للتجربة المتكررة المثبتة . وهو مجهول السر والكيفية . . وغير التخاطر والتنويم كثير من أسرار الوجود وأسرار النفس وأسرار هذا الجهاز الإنساني . . .
فإذا حسد الحاسد ، ووجه انفعالا نفسيا معينا إلى المحسود فلا سبيل لنفي أثر هذا التوجيه لمجرد أن ما لدينا من العلم وأدوات الاختبار ، لا تصل إلى سر هذا الأثر وكيفيته . فنحن لا ندري إلا القليل في هذا الميدان . وهذا القليل يكشف لنا عنه مصادفة في الغالب ، ثم يستقر كحقيقة واقعة بعد ذلك !
فهنا شر يستعاذ منه بالله ، ويستجار منه بحماه
والله برحمته وفضله هو الذي يوجه رسوله - صلى الله عليه وسلم - وأمته من ورائه إلى الاستعاذة به من هذه الشرور . ومن المقطوع به أنهم متى استعاذوا به - وفق توجيهه - أعاذهم . وحماهم من هذه الشرور إجمالا وتفصيلا .
وقد روى البخاري - بإسناده - عن عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفيه ، ثم نفث فيهما ، وقرأ فيهما ، " قل هو الله أحد " . . و " قل : أعوذ برب الفلق " . . و " قل : أعوذ برب الناس " . . ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده ، يبدأ بهما على رأسه ووجهه ، وما أقبل من جسده ، يفعل ذلك ثلاث مرات . . وهكذا رواه أصحاب السنن . . .
سورة الناس
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)
سورة الناس
الاستعاذة في هذه السورة برب الناس , ملك الناس , إله الناس . والمستعاذ منه هو:شر الوسواس الخناس , الذي يوسوس في صدور الناس , من الجنة والناس .
والاستعاذة بالرب , الملك , الإله , تستحضر من صفات الله - سبحانه - ما به يدفع الشر عامة , وشر الوسواس الخناس خاصة .
فالرب هو المربي والموجه والراعي والحامي . والملك هو المالك الحاكم المتصرف . والإله هو المستعلي المستولي المتسلط . . وهذه الصفات فيها حماية من الشر الذي يتدسس إلى الصدور . . وهي لا تعرف كيف تدفعه لأنه مستور .
والله رب كل شيء , وملك كل شيء , وإله كل شيء . ولكن تخصيص ذكر الناس هنا يجعلهم يحسون بالقربى في موقف العياذ والاحتماء .
والله - برحمة منه - يوجه رسوله [ ص ] وأمته إلى العياذ به والالتجاء إليه , مع استحضار معاني صفاته هذه , من شر خفي الدبيب , لا قبل لهم بدفعه إلا بعون من الرب الملك الإله . فهو يأخذهم من حيث لا يشعرون , ويأتيهم من حيث لا يحتسبون . والوسوسة:الصوت الخفي . والخنوس:الاختباء والرجوع . والخناس هو الذي من طبعه كثرة الخنوس .
وقد أطلق النص الصفة أولا: (الوسواس الخناس). . وحدد عمله:(الذي يوسوس في صدور الناس). ثم حدد ماهيته:(من الجنة والناس). . وهذا الترتيب يثير في الحس اليقظة والتلفت والانتباه لتبين حقيقة الوسواس الخناس , بعد إطلاق صفته في أول الكلام ; ولإدراك طريقة فعله التي يتحقق بها شره , تأهبا لدفعه أو مراقبته !
والنفس حين تعرف - بعد هذا التشويق والإيقاظ - أن الوسواس الخناس يوسوس في صدور الناس خفيةوسرا , وأنه هو الجنة الخافية , وهو كذلك الناس الذين يتدسسون إلى الصدور تدسس الجنة , ويوسوسون وسوسة الشياطين . . النفس حين تعرف هذا تتأهب للدفاع , وقد عرفت المكمن والمدخل والطريق !
ووسوسة الجنة نحن لا ندري كيف تتم , ولكنا نجد آثارها في واقع النفوس وواقع الحياة . ونعرف أن المعركة بين آدم وإبليس قديمة قديمة ; وأن الشيطان قد أعلنها حربا تنبثق من خليقة الشر فيه , ومن كبريائه وحسده وحقده على الإنسان ! وأنه قد استصدر بها من الله إذنا , فأذن فيها - سبحانه - لحكمة يراها ! ولم يترك الإنسان فيها مجردا من العدة . فقد جعل له من الإيمان جنة , وجعل له من الذكر عدة , وجعل له من الاستعاذة سلاحا . . فإذا أغفل الإنسان جنته وعدته وسلاحه فهو إذن وحده الملوم !
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال:قال رسول الله [ ص ]:" الشيطان جاثم على قلب ابن آدم فإذا ذكر الله تعالى خنس , وإذا غفل وسوس " .
وأما الناس فنحن نعرف عن وسوستهم الشيء الكثير . ونعرف منها ما هو أشد من وسوسة الشياطين !
رفيق السوء الذي يتدسس بالشر إلى قلب رفيقه وعقله من حيث لا يحتسب ومن حيث لا يحترس , لأنه الرفيق المأمون !
وحاشية الشر التي توسوس لكل ذي سلطان حتى تتركه طاغية جبارا مفسدا في الأرض , مهلكا للحرث والنسل !
والنمام الواشي الذي يزين الكلام ويزحلقه , حتى يبدو كأنه الحق الصراح الذي لا مرية فيه .
وبائع الشهوات الذي يتدسس من منافذ الغريزة في إغراء لا تدفعه إلا يقظة القلب وعون الله .
وعشرات من الموسوسين الخناسين الذين ينصبون الأحابيل ويخفونها , ويدخلون بها من منافذ القلوب الخفية التي يعرفونها أو يتحسسونها . . وهم شر من الجنة وأخفى منهم دبيبا !
والإنسان عاجز عن دفع الوسوسة الخفية . ومن ثم يدله الله على عدته وجنته وسلاحه في المعركة الرهيبة !
وهناك لفتة ذات مغزى في وصف الوسواس بأنه(الخناس). . فهذه الصفة تدل من جهة على تخفيه واختبائه حتى يجد الفرصة سانحة فيدب ويوسوس . ولكنها من جهة أخرى توحي بضعفه أمام من يستيقظ لمكره , ويحمي مداخل صدره . فهو - سواء كان من الجنة أم كان من الناس - إذا ووجه خنس , وعاد من حيث أتى , وقبع واختفى . أو كما قال الرسول الكريم في تمثيله المصور الدقيق:" فإذا ذكر الله تعالى خنس , وإذا غفل وسوس " . .
وهذه اللفتة تقوي القلب على مواجهة الوسواس . فهو خناس . ضعيف أمام عدة المؤمن في المعركة .
ولكنها - من ناحية أخرى - معركة طويلة لا تنتهي أبدا . فهو أبدا قابع خانس , مترقب للغفلة . واليقظة مرة لا تغني عن اليقظات . . والحرب سجال إلى يوم القيامة ; كما صورها القرآن الكريم في مواضع شتى , ومنها هذه الصورة العجيبة في سورة الإسراء:
" وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، فسجدوا إلا إبليس ، قال : أأسجد لمن خلقت طينا ؟ قال : أرأيتك هذا الذي كرمت علي لئن أخرتني إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته إلا قليلا . قال : اذهب فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا . واستفزز من استطعت منهم بصوتك ، وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد ، وعدهم ، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا . إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وكفى بربك وكيلا " . .
وهذا التصور لطبيعة المعركة ودوافع الشر فيها - سواء عن طريق الشيطان مباشرة أو عن طريق عملائه من البشر - من شأنه أن يشعر الإنسان أنه ليس مغلوبا على أمره فيها فإن ربه وملكه وإلهه مسيطر على الخلق كله وإذا كان قد أذن لإبليس بالحرب فهو آخذ بناصيته . وهو لم يسلطه إلا على الذين يغفلون عن ربهم وملكهم وإلهم فأما من يذكرونه فهم في نجوة من الشر ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها يستند ودواعيه الخفية فالخير إذن يستند إلى القوة التي لا قوة سواها وإلى الحقيقة التي لا حقيقة غيرها . يستند إلى الرب الملك الإله . والشر يستند إلى وسواس خناس يضعف عن المواجهة ويخنس عند اللقاء وينهزم أمام العياذ بالله . .
وهذا أكمل تصور للحقيقة القائمة عن الخير والشر كما أنه أفضل تصور يحمي القلب من الهزيمة ويفعمه بالقوة والثقة والطمأنينة . .
والحمد لله أولا وأخيرا . وبه الثقة والتوفيق . . وهو المستعان المعين . . .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire