في ظلال القرآن
مقدمة
أولا:من آثار حياة سيد في ظلال القرآن
الحياة في ظلال القرآن نعمة . نعمة لا يعرفها إلا
من ذاقها . نعمة ترفع العمر وتباركه وتزكيه.
والحمد لله . . لقد منَّ علي بالحياة في ظلال القرآن
فترة من الزمان ، ذقت فيها من نعمته ما لم أذق قط في حياتي . ذقت فيها هذه النعمة
التي ترفع العمر وتباركه وتزكيه .
لقد عشت أسمع الله - سبحانه - يتحدث إلي بهذا القرآن
. . أنا العبد القليل الصغير . . أي تكريم للإنسان هذا التكريم العلوي الجليل ؟ أي
رفعة للعمر يرفعها هذا التنزيل ؟ أي مقام كريم يتفضل به على الإنسان خالقه الكريم
؟
وعشت - في ظلال القرآن - أنظر من علو إلى الجاهلية
التي تموج في الأرض ، وإلى اهتمامات أهلها الصغيرة الهزيلة . . أنظر إلى تعاجب أهل
هذه الجاهلية بما لديهم من معرفة الأطفال ، وتصورات الأطفال ، واهتمامات الأطفال .
. كما ينظر الكبير إلى عبث الأطفال ، ومحاولات الأطفال . ولثغة الأطفال . . وأعجب
. . ما بال هذا الناس ؟! ما بالهم يرتكسون في الحمأة الوبيئة ، ولا يسمعون النداء
العلوي الجليل . النداء الذي يرفع العمر ويباركه ويزكيه ؟
عشت أتملى - في ظلال القرآن - ذلك التصور الكلامل
الشامل الرفيع النظيف للوجود . . لغاية الوجود كله ، وغاية الوجود الإنساني . .
وأقيس إليه تصورات الجاهلية التي تعيش فيها البشرية ، في شرق وغرب ، وفي شمال وجنوب
. . وأسأل . . كيف تعيش البشرية في المستنقع الآسن ، وفي الدرك الهابط ، وفي الظلام
البهيم وعندها ذلك المرتع الزكي ، وذلك المرتقى العالي ، وذلك النور الوضيء ؟
وعشت - في ظلال القرآن - أحس التناسق الجميل بين
حركة الإنسان كما يريدها الله ، وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله . . ثم أنظر . . فأرى
التخبط الذي تعانيه البشرية في انحرافها عن السنن الكونية ، والتصادم بين التعاليم
الفاسدة الشريرة التي تملى عليها وبين فطرتها التي فطرها الله عليها . وأقول في
نفسي:أي شيطان لئيم هذا الذي يقود خطاها إلى هذا الجحيم ؟ يا حسرة على العباد !!!
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الوجود أكبر بكثير من
ظاهره المشهود . . أكبر في حقيقته ، وأكبر في تعدد جوانبه . . إنه عالم الغيب والشهادة
لا عالم الشهادة وحده . وإنه الدنيا والآخرة ، لا هذه الدنيا وحدها . . والنشأة
الإنسانية ممتدة في شعاب هذا المدى المتطاول كله إنما هو قسط من ذلك النصيب . وما
يفوته هنا من الجزاء لا يفوته هناك . فلا ظلم ولا بخس ولا ضياع . على أن المرحلة
التي يقطعها على ظهر هذا الكوكب إنما هي رحلة في كون حي مأنوس ، وعالم صديق ودود .
كون ذي روح تتلقى وتستجيب ، وتتجه إلى الخالق الواحد الذي تتجه إليه روح المؤمن في
خشوع: ولله يسجد من في السماوات والأرض
طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال .
. تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن
، وإن من شيء إلا يسبح بحمده . . أي راحة
، وأي سعة وأي أنس ، وأي ثقة يفيضها على القلب هذا التصور الشامل الكامل الفسيح
الصحيح ؟
وعشت - في ظلال القرآن - أرى الإنسان أكرم بكثير
من كل تقدير عرفته البشرية من قبل للإنسان ومن بعد . . إنه إنسان بنفخة من روح الله: فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له
ساجدين . . وهو بهذه النفخة مستخلف في
الأرض: وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في
الأرض خليفة . . ومسخر له كل ما في الأرض:
وسخر لكم ما في الأرض جميعا . . ولأن الإنسان بهذا القدر من الكرامة والسمو جعل
الله الآصرة التي يتجمع عليها البشر هي الآصرة المستمدة من النفخة الإلهية الكريمة
. جعلها آصرة العقيدة في الله . . فعقيدة المؤمن هي وطنه ، وهي قومه ، وهي أهله .
. ومن ثم يتجمع البشر عليها وحدها ، لا على أمثال ما تتجمع عليه البهائم من كلأ
ومرعى وقطيع وسياج ! . .
والمؤمن ذو نسب عريق ، ضارب في شعاب الزمان . إنه
واحد من ذلك الموكب الكريم ، الذي يقود خطاه ذلك الرهط الكريم:نوح وإبراهيم وإسماعيل
وإسحاق ، ويعقوب ويوسف ، وموسى وعيسى ، ومحمد . . عليهم الصلاة والسلام . . وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون . .
هذا الموكب الكريم ، الممتد في شعاب الزمان من قديم
، يواجه - كما يتجلى في ظلال القرآن - مواقف متشابهة ، وأزمات متشابهة ، وتجارب
متشابهة على تطاول العصور وكر الدهور ، وتغير المكان ، وتعدد الأقوام . يواجه
الضلال والعمى والطغيان والهوى ، والاضطهاد والبغي ، والتهديد والتشريد . ولكنه
يمضي في طريقه ثابت الخطو ، مطمئن الضمير ، واثقا من نصر الله ، متعلقا بالرجاء
فيه ، متوقعا في كل لحظة وعد الله الصادق الأكيد: وقال الذين كفروا لرسلهم لنخرجنكم من أرضنا أو
لتعودن في ملتنا . فأوحى إليهم ربهم لنهلكن الظالمين ، ولنسكننكم الأرض من بعدهم .
ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد . . موقف واحد
وتجربة واحدة . وتهديد واحد . ويقين واحد . ووعد واحد للموكب الكريم . . وعاقبة
واحدة ينتظرها المؤمنون في نهاية المطاف . وهم يتلقون الاضطهاد والتهديد والوعيد .
.
ثانيا:الحياة في ظلال القرآن
وفي ظلال القرآن تعلمت أنه لا مكان في هذا الوجود
للمصادفة العمياء ، ولا للفلتة العارضة: إنا
كل شيء خلقناه بقدر . . وخلق كل شيء فقدره تقديرا . . وكل أمر لحكمة . ولكن حكمة الغيب العميقة قد
لا تتكشف للنظرة الإنسانية القصيرة: فعسى
أن تكرهوا شيئا ويجعل
الله فيه خيرا
كثيرا . . وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ، وعسى أن تحبوا
شيئا وهو شر لكم . والله يعلم وأنتم لا تعلمون
. . والأسباب التي تعارف عليها الناس قد تتبعها آثارها وقد لا تتبعها ،
والمقدمات التي يراها الناس حتمية قد تعقبها نتائجها وقد لا تعقبها . ذلك أنه ليست
الأسباب والمقدمات هي التي تنشئ الآثار والنتائج ، وإنما هي الإرادة الطليقة التي
تنشئ الآثار والنتائج كما تنشئ الأسباب والمقدمات سواء: لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا . . وما
تشاءون إلا أن يشاء الله . . والمؤمن يأخذ
بالأسباب لأنه مأمور بالأخذ بها . والله هو الذي يقدر آثارها ونتائجها . .
والاطمئنان إلى رحمة الله وعدله وإلى حكمته وعلمه هو وحده الملاذ الأمين ، والنجوة
من الهواجس والوساوس: الشيطان يعدكم
الفقر ويأمركم بالفحشاء ، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ، والله واسع عليم . .
ومن ثم عشت - في ظلال القرآن - هادئ النفس ،
مطمئن السريرة ، قرير الضمير . . عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر . عشت في
كنف الله وفي رعايته . عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها . . أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ؟ . . وهو
القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير .
. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا
يعلمون . . واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه . . فعال
لما يريد . . ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب
، ومن يتوكل على الله فهو حسبه . إن الله بالغ أمره . . ما
من دابة إلا هو آخذ بناصيتها . . أليس الله بكاف عبده ويخوفونك بالذين من دونه . . ومن
يهن الله فما له من مكرم . . ومن يضلل الله فما له من هاد . . إن الوجود ليس متروكا لقوانين آلية صماء
عمياء . فهناك دائما وراء السنن الإرادة المدبرة ، والمشيئة المطلقة . . والله
يخلق ما يشاء ويختار . كذلك تعلمت أن يد الله تعمل . ولكنها تعمل بطريقتها الخاصة
؛ وأنه ليس لنا أن نستعجلها ؛ ولا أن نقترح على الله شيئا . فالمنهج الإلهي - كما
يبدو في ظلال القرآن - موضوع ليعمل في كل بيئة ، وفي كل مرحلة من مراحل النشأة
الإنسانية ، وفي كل حالة من حالات النفس البشرية الواحدة . . وهو موضوع لهذا
الإنسان الذي يعيش في هذه الأرض ، آخذ في الاعتبار فطرة هذا الإنسان وطاقاته
واستعداداته ، وقوته وضعفه ، وحالاته المتغيرة التي تعتريه . . إن ظنه لا يسوء
بهذا الكائن فيحتقر دوره في الأرض ، أو يهدر قيمته في صورة من صور حياته ، سواء
وهو فرد أو وهو عضو في جماعة . كذلك هو لا يهيم مع الخيال فيرفع هذا الكائن فوق
قدره وفوق طاقته وفوق مهمته التي أنشأه الله لها يوم أنشأه . . ولا يفترض في كلتا
الحالتين أن مقومات فطرته سطحية تنشأ بقانون أو تكشط بجرة قلم ! . . الإنسان هو
هذا الكائن بعينه . بفطرته وميوله واستعداداته يأخذ المنهج الإلهي بيده ليرتفع به
إلى أقصى درجات الكمال المقدر له بحسب تكوينه ووظيفته ، ويحترم ذاته وفطرته
ومقوماته ، وهو يقوده في طريق الكمال الصاعد إلى الله . . ومن ثم فإن المنهج الإلهي
موضوع للمدى الطويل - الذي يعلمه خالق هذا الإنسان ومنزل هذا القرآن - ومن ثم لم
يكن معتسفا ولا عجولا في تحقيق غاياته العليا من هذا المنهج . إن المدى أمامه ممتد
فسيح ، لا يحده عمر فرد ، ولا تستحثه رغبة فان ، يخشى أن يعجله الموت عنتحقيق غايته
البعيدة ؛ كما يقع لأصحاب المذاهب الأرضية الذين يعتسفون الأمر كله في جيل واحد ،
ويتخطون الفطرة المتزنة الخطى لأنهم لا يصبرون على الخطو المتزن ! وفي الطريق
العسوف التي يسلكونها تقوم المجازر ، وتسيل الدماء ، وتتحطم القيم ، وتضطرب الأمور
. ثم يتحطمون هم في النهاية وتتحطم مذاهبهم المصطنعة تحت مطارق الفطرة التي لا
تصمد لها المذاهب المعتسفة ! فأما الإسلام فيسير هينا لينا مع الفطرة ، يدفعها من
هنا ، ويردعها من هناك ، ويقومها حين تميل ، ولكنه لا يكسرها ولا يحطمها . إنه يصبر
عليها صبر العارف البصير الواثق من الغاية المرسومة . . والذي لا يتم في هذه الجولة
يتم في الجولة الثانية أو الثالثة أو العاشرة أو المائة أو الألف . . فالزمن ممتد
، والغاية واضحة ، والطريق إلى الهدف الكبير طويل ، وكما تنبت الشجرة الباسقة وتضرب
بجذورها في التربة ، وتتطاول فروعها وتتشابك . . كذلك ينبت الإسلام ويمتد في بطء
وعلى هينة وفي طمأنينة . ثم يكون دائما ما يريده الله أن يكون . . والزرعة قد تسقى
عليها الرمال ، وقد يأكل بعضها الدود ، وقد يحرقها الظمأ . وقد يغرقها الري . ولكن
الزارع البصير يعلم أنها زرعة للبقاء والنماء ، وأنها ستغالب الآفات كلها على المدى
الطويل ؛ فلا يعتسف ولا يقلق ، ولا يحاول إنضاجها بغير وسائل الفطرة الهادئة المتزنة
، السمحة الودود . . إنه المنهج الإلهي في الوجود كله . . ولن تجد لسنة الله تبديلا . .
والحق في منهج الله أصيل في بناء هذا الوجود .
ليس فلتة عابرة ، ولا مصادفة غبر مقصودة . . إن الله سبحانه هو الحق . ومن وجوده
تعالى يستمد كل موجود وجوده: ذلك بأن
الله هو الحق ، وأن ما يدعون من دونه هو الباطل ، وأن الله هو العلي الكبير . . وقد خلق الله هذا الكون بالحق لا يتلبس
بخلقه الباطل: ما خلق الله ذلك إلا
بالحق . . ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك ! والحق هو قوام هذا الوجود فإذا حاد عنه فسد وهلك: ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض
ومن فيهن . . ومن ثم فلا بد للحق أن يظهر
، ولا بد للباطل أن يزهق . . ومهما تكن الظواهر غير هذا فإن مصيرها إلى تكشف
صريح: بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه
فإذا هو زاهق . .
والخير والصلاح والإحسان أصيلة كالحق ، باقية
بقاءه في الأرض: أنزل من السماء ماء
فسالت أودية بقدرها ، فاحتمل السيل زبدا رابيا ، ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء
حلية أو متاع ، زبد مثله . كذلك يضرب الله الحق والباطل . فأما الزبد فيذهب جفاء وأما
ما ينفع الناس فيمكث في الأرض . كذلك يضرب الله الأمثال . . .
ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في
السماء ، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ، ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون .
ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار . يثبت الله الذين
آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة . ويضل الله الظالمين ويفعل الله
ما يشاء . .
أي طمأنينة ينشئها هذا التصور ؟ وأي سكينة
يفيضها على القلب ؟ وأي ثقة في الحق والخير والصلاح ؟ وأي قوة واستعلاء على الواقع
الصغير يسكبها في الضمير ؟
ثالثا:أثر الحياة في ظلال القرآن
من فترة الحياة - في ظلال القرآن - إلى يقين
جازم حاسم . . إنه لا صلاح لهذه الأرض ، ولا راحة لهذه البشرية ، ولا طمأنينة لهذا
الإنسان ، ولا رفعة ولا بركة ولا طهارة ، ولا تناسق مع سنن الكون وفطرة الحياة . .
إلا بالرجوع إلى الله . .
والرجوع إلى الله - كما يتجلى في ظلال القرآن -
له صورة واحدة وطريق واحد . . واحد لا سواه . . إنه العودة بالحياة كلها إلى منهج
الله الذي رسمه للبشرية في كتابه الكريم . . إنه تحكيم هذا الكتاب وحده في حياتها
. والتحاكم إليه وحده في شؤونها . وإلا فهو الفساد في الأرض ، والشقاوة للناس ،
والارتكاس في الحمأة ، والجاهلية التي تعبد الهوى من دون الله: فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم
. ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ؟ إن الله لا يهدي القوم الظالمين . .
إن الاحتكام إلى منهج الله في كتابه ليس نافلة
ولا تطوعا ولا موضع اختيار ، إنما هو الإيمان . . أو . . فلا إيمان . . وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله
أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم .
. ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها
ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون . إنهم لن يغنوا عنك من الله شيئا ، وإن الظالمين
بعضهم أولياء بعض ، والله ولي المتقين . .
والأمر إذن جد . . إنه أمر العقيدة من أساسها .
. ثم هو أمر سعادة هذه البشرية أو شقائها . .
إن هذه البشرية - وهي من صنع الله - لا تفتح
مغاليق فطرتها إلا بمفاتيح من صنع الله ؛ ولا تعالج أمراضها وعللها إلا بالدواء
الذي يخرج من يده - سبحانه - وقد جعل في منهجه وحده مفاتيح كل مغلق ، وشفاء كل
داء: وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين . . إن
هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم . . ولكن
هذه البشرية لا تريد أن ترد القفل إلى صانعه ، ولا أن تذهب بالمريض إلى مبدعه ،
ولا تسلك في أمر نفسها ، وفي أمر إنسانيتها ، وفي أمر سعادتها أو شقوتها . . ما
تعودت أن تسلكه في أمر الأجهزة والآلات المادية الزهيدة التي تستخدمها في حاجاتها
اليومية الصغيرة . . وهي تعلم أنها تستدعي لإصلاح الجهاز مهندس المصنع الذي صنع
الجهاز . ولكنها لا تطبق هذه القاعدة على الإنسان نفسه ، فترده إلى المصنع الذي
منه خرج ، ولا أن تستفتي المبدع الذي أنشأ هذا الجهاز العجيب ، الجهاز الإنساني
العظيم الكريم الدقيق اللطيف ، الذي لا يعلم مساربه ومداخله إلا الذي أبدعه
وأنشأه: إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم
من خلق وهو اللطيف الخبير ؟ . .
ومن هنا جاءت الشقوة للبشرية الضالة . البشرية
المسكينة الحائرة ، البشرية التي لن تجد الرشد ، ولن تجد الهدى ، ولن تجد الراحة ،
ولن تجد السعادة ، إلا حين ترد الفطرة البشرية إلى صانعها الكبير ، كما ترد الجهاز
الزهيد إلى صانعه الصغير !
ولقد كانت تنحية الإسلام عن قيادة البشرية حدثا
هائلا في تاريخها ، ونكبة قاصمة في حياتها ، نكبة لم تعرف لها البشرية نظيرا في كل
ما ألم بها من نكبات . .
لقد كان الإسلام قد تسلم القيادة بعد ما فسدت
الأرض ، وأسنت الحياة ، وتعفنت القيادات ، وذاقت البشرية الويلات من القيادات
المتعفنة ؛ و ظهر الفساد في البر والبحر
بما كسبت أيدي الناس . .
تسلم الإسلام القيادة بهذا القرآن ، وبالتصور
الجديد الذي جاء به القرآن ، وبالشريعة المستمدة من هذا التصور . . فكان ذلك مولدا
جديدا للإنسان أعظم في حقيقته من المولد الذي كانت به نشأته . لقد أنشأ هذا القرآن
للبشرية تصورا جديدا عن الوجود والحياة والقيم والنظم ؛ كما حقق لها واقعا
اجتماعيا فريدا ، كان يعز على خيالها تصوره مجرد تصور ، قبل أن ينشئه لها القرآن
إنشاء . . نعم ! لقد كان هذا الواقع من النظافة والجمال ، والعظمة والارتفاع ،
والبساطة واليسر ، والواقعية والإيجابية ، والتوازن والتناسق . . . بحيث لا يخطر للبشرية
على بال ، لولا أن الله أراده لها ، وحققه في حياتها . . في ظلال القرآن ، ومنهج
القرآن ، وشريعة القرآن .
ثم وقعت تلك النكبة القاصمة . ونحي الإسلام عن
القيادة . نحي عنها لتتولاها الجاهلية مرة أخرى ، في صورة من صورها الكثيرة . صورة
التفكير المادي الذي تتعاجب به البشرية اليوم ، كما يتعاجب الأطفال بالثوب المبرقش
واللعبة الزاهية الألوان !
إن هناك عصابة من المضللين الخادعين أعداء
البشرية . يضعون لها المنهج الإلهي في كفة والإبداع الإنساني في عالم المادة في
الكفة الأخرى ؛ ثم يقولون لها:اختاري !!! اختاري إما المنهج الإلهي في الحياة
والتخلي عن كل ما أبدعته يد الإنسان في عالم المادة ، وإما الأخذ بثمار المعرفة
الإنسانية والتخلي عن منهج الله !!! وهذا خداع لئيم خبيث . فوضع المسألة ليس هكذا
أبدا . . إن المنهج الإلهي ليس عدوا للإبداع الإنساني . إنما هو منشئ لهذا الإبداع
وموجه له الوجهة الصحيحة . . ذلك كي ينهض الإنسان بمقام الخلافة في الأرض . هذا
المقام الذي منحه الله له ، وأقدره عليه ، ووهبه من الطاقات المكنونة ما يكافئ الواجب
المفروض عليه فيه ؛ وسخر له من القوانين الكونية ما يعينه على تحقيقه ؛ ونسق بين
تكوينه وتكوين هذا الكون ليملك الحياة والعمل والإبداع . . على أن يكون الإبداع نفسه
عبادة لله ، ووسيلة من وسائل شكره على آلائه العظام ، والتقيد بشرطه في عقد الخلافة
؛ وهو أن يعمل ويتحرك في نطاق ما يرضي الله . فأما أولئك الذين يضعون المنهج
الإلهي في كفة ، والإبداع الإنساني في عالم المادة في الكفة الأخرى . . فهم سيئو
النية ، شريرون ، يطاردون البشرية المتعبة الحائرة كلما تعبت من التيه والحيرة والضلال
، وهمت أن تسمع لصوت الحادي الناصح ، وأن تؤوب من المتاهة المهلكة وأن تطمئن إلى
كنف الله . . .
وهنالك آخرون لا ينقصهم حسن النية ؛ ولكن ينقصهم
الوعي الشامل ، والإدراك العميق . . هؤلاء يبهرهم ما كشفه الإنسان من القوى
والقوانين الطبيعية ، وتروعهم انتصارات الإنسان في عالم المادة . فيفصل ذلك البهر
وهذه الروعة في شعورهم بين القوى الطبيعية والقيم الإيمانية ، وعملها وأثرها الواقعي
في الكون وفي واقع الحياة ؛ ويجعلون للقوانين الطبيعية مجالا ، وللقيم الإيمانية
مجالا آخر ؛ ويحسبون أن القوانين الطبيعية تسير في طريقها غير متأثرة بالقيم
الإيمانية ، وتعطي نتائجها سواء آمن الناس أم كفروا . اتبعوا منهج الله أم خالفوا
عنه . حكموا بشريعة الله أم بأهواء الناس !
هذا وهم . . إنه فصل
بين نوعين من السنن الإلهية هما في حقيقتهما غير منفصلين . فهذه القيم الإيمانية
هي بعض سنن الله في الكون كالقوانين الطبيعية سواء بسواء . ونتائجها مرتبطة
ومتداخلة ؛ ولا مبرر للفصل بينهما في حس المؤمن وفي تصوره . . وهذا هو التصور
الصحيح الذي ينشئه القرآن في النفس حين تعيش في ظلال القرآن . ينشئه وهو يتحدث عن
أهل الكتب السابقة وانحرافهم عنها وأثر هذا الانحراف في نهاية المطاف: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم
سيئاتهم ولأدخلناهم جنات النعيم . ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل وما أنزل
إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم
. وينشئه وهو يتحدث عن وعد نوح لقومه:
فقلت:استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ، ويمددكم
بأموال وبنين ، ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا
. . وينشئه وهو يربط بين الواقع النفسي للناس والواقع الخارجي الذي يفعله
الله بهم إن الله لا يغير ما بقوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم . .
إن الإيمان بالله ، وعبادته على استقامة ،
وإقرار شريعته في الأرض . . . كلها إنفاذ لسنن الله . وهي سنن ذات فاعلية إيجابية
، نابعة من ذات المنبع الذي تنبثق منه سائر السنن الكونية التي نرى آثارها الواقعية
بالحس والاختبار .
ولقد تأخذنا في بعض الأحيان مظاهر خادعة لافتراق
السنن الكونية ، حين نرى أن اتباع القوانين الطبيعية يؤدي إلى النجاح مع مخالفة
القيم الإيمانية . . هذا الافتراق قد لا تظهر نتائجه في أول الطريق ؛ ولكنها تظهر
حتما في نهايته . . وهذا ما وقع للمجتمع الإسلامي نفسه . لقد بدأ خط صعوده من نقطة
التقاء القوانين الطبيعية في حياته مع القيم الإيمانية . وبدأ خط هبوطه من نقطة
افتراقهما . وظل يهبط ويهبط كلما انفرجت زاوية الافتراق حتى وصل إلى الحضيض عندما
أهمل السنن الطبيعية والقيم الإيمانية جميعا . .
وفي الطرف الآخر تقف الحضارة المادية اليوم .
تقف كالطائر الذي يرف بجناح واحد جبار ، بينما جناحه الآخر مهيض ، فيرتقي في
الإبداع المادي بقدر ما يرتكس في المعنى الإنساني . ويعاني من القلق والحيرة
والأمراض النفسية والعصبية ما يصرخ منه العقلاء هناك . . لولا أنهم لا يهتدون إلى
منهج الله وهو وحده العلاج والدواء .
إن شريعة الله للناس هي طرف من قانونه الكلي في
الكون . فإنفاذ هذه الشريعة لا بد أن يكون له أثر إيجابي في التنسيق بين سيرة
الناس وسيرة الكون . . والشريعة إن هي إلا ثمرة الإيمان لا تقوم وحدها بغير أصلها
الكبير . فهي موضوعة لتنفذ في مجتمع مسلم ، كما أنها موضوعة لتساهم في بناء
المجتمع المسلم . وهي متكاملة مع التصور الإسلامي كله للوجود الكبير وللوجود
الإنساني ، ومع ما ينشئه هذا التصور من تقوى في الضمير ، ونظافة في الشعور ،
وضخامة في الاهتمامات ، ورفعة في الخلق ، واستقامة في السلوك . . . وهكذا يبدو التكامل
والتناسق بين سنن الله كلها سواء ما نسميه القوانين الطبيعية وما نسميه القيم
الإيمانية . . فكلها أطراف من سنة الله الشاملة لهذا الوجود .
والإنسان كذلك قوة من قوى الوجود . وعمله
وإرادته ، وإيمانه وصلاحه ، وعبادتهونشاطه . . . . هي كذلك قوى ذات آثار إيجابية
في هذا الوجود وهي مرتبطة بسنة الله الشاملة للوجود . . وكلها تعمل متناسقة ،
وتعطي ثمارها كاملة حين تتجمع وتتناسق ، بينما تفسد آثارها وتضطرب وتفسد الحياة معها
، وتنتشر الشقوة بين الناس والتعاسة حين تفترق وتتصادم: ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى
يغيروا ما بأنفسهم . . فالارتباط قائم وثيق
بين عمل الإنسان وشعوره وبين ماجريات الأحداث في نطاق السنة الإلهية الشاملة للجميع
. ولا يوحي بتمزيق هذا الارتباط ، ولا يدعو إلى الإخلال بهذا التناسق ، ولا يحول
بين الناس وسنة الله الجارية ، إلا عدو للبشرية يطاردها دون الهدى ؛ وينبغي لها أن
تطارده ، وتقصيه من طريقها إلى ربها الكريم . .
هذه بعض الخواطر والانطباعات من فترة الحياة في ظلال
القرآن . لعل الله ينفع بها ويهدي . وما تشاءون إلا أن يشاء الله .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire