توطئة
وقع بيدي كتيب صغير عنوانه: “علامات
قيام الساعة الصغرى والكبرى”، طبع لأول مرة عام 1892، منذ أكثر من مئة عام، تأليف
يوسف إسماعيل النبهاني، وأعيد طبعه عام 1987. في آخر فهرس بعناوين كتب أصدرها
المؤلف، كان أحدها “القصيدة الرائية الصغرى في ذم البدعة وأهلها ومدح السنة
الغرّا، وخصت بالذم من مبتدعة العصر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده المصري ورشيد
رضا صاحب جريدة المنار”.
وكان هؤلاء وقتها ما زالوا على قيد الحياة، حيث توفي الشيخ
محمد عبده، مثلاً، عام 1905.
والآن، وبعد مرور قرن من الزمان، أصبح
هؤلاء من أعلام النهضة الإسلامية، ويصنفون مع المصلحين الكبار، وذهبت التهم
الموجهة إليهم، مع من وجهوها، أدراج الرياح، فحضرني قوله تعالى: {… فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناي فيمكث في
الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد 16.
لقد توجه الانتباه في نهاية القرن
التاسع عشر إلى أن الإسلام بحاجة إلى تجديد، وتم ذلك على أيدي مصلحين كبار، أمثال
جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، في نهاية حياة الإمبراطورية العثمانية،
وفي ذروة الصراع بين العرب والمسلمين من جهة، والغرب من جهة أخرى. ومن أهم ما تم
طرحه في ذلك الوقت الإسلام وقضايا المجتمع. وكان من نتائجه قيام حركات سياسية
إسلامية على أساس الخلافة وإصلاح الدولة، وحركات قومية على أساس الاستقلال عن
الدولة العثمانية. وكانت هذه الحركات الإسلامية منها خاصة، أسيرة لمنطلقات ظنت
أنها من أساسيات الإسلام كدولة ومجتمع، وكان أهم هذه المنطلقات:
أ – الانطلاق من أن ما فعله الصحابة
بعد وفاة النبي (ص) هو من أساسيات الإسلام، علماً أنه اجتهاد إنساني بحت، وبالتالي
عدم التفكير بوضع أسس الدولة والمجتمع على أساس التنزيل الحكيم والاجتهاد الإنساني
المعاصر، مستعملين أدوات المعرفة والبحث المعاصرة.
ب – عدم التفكير بمراجعة أصول الفقه
والتشريع الإسلامي، ووضع أصول جديدة تختلف عن الأطر المعرفية التي تم وضع هذه
الأصول من خلالها، في القرنين الثاني والثالث من الهجرة.
وهذا المرض، ورد في قوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون}
– الزخرف 22. وفي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما
أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً
ولا يهتدون} – البقرة 170. ونحن حين ننظر إلى هذه الآيات نظن أنها تعني
مشركي العرب، وأنها لا تعنينا مطلقاً، علماً أنه سبحانه ذكر فيها داءً يصيب كل
الأمم قاطبة، مؤمنة وغير مؤمنة، أطلق عليه اسم داء الالفة الآبائية {ما ألفينا عليه آباءنا}. ولا أعتقد بوجود شعب في
الأرض، مصاب بهذا الداء المزمن، كإصابتنا نحن به، ظانين أننا نحسن بذلك صنعاً.
جـ – ربط الإسلام، من خلال السياق
التاريخي للدولة الإسلامية، بأشخاص، ولم يتم تحويله إلى مؤسسات. فالجيد مربوط بشخص
الحاكم، والإسلام في أذهاننا أسير شخص الحاكم، فإذا كان الحاكم جيداً فالأمور
بخير، وإذا كان شيئاً فالأمور عكس ذلك، كما لو أن المجتمع الإسلامي مجتمع هامشي
ليست له أية فعالية. والمثالان التاليان يوضحان معنى ربط الإسلام بشخص، ومعنى عدم
تحويله إلى مؤسسة:
أ – موقف عمر بن الخطاب (رض) عندما
أعطى اليهودي تعويض شيخوخة من بيت مال المسلمين. وهو موقف نفخر به حين نذكره
ونسجله لعمر كرأس الدولة. لكننا نرى اليوم، في نهاية القرن العشرين، دولاً غير
إسلامية تعطي إعانات لكل مولود على أرضها، ولو كان من أبوين لا يحملان جنسية هذا
البلد، ويحصل الأمر دون علم رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، ذلك لأن عملية
الإعانة هذه وباقي بنود الضمان الاجتماعي، تم تحويلها إلى مؤسسة، بحيث لا يدري بها
إلا الموظف المسؤول عنها. وبقي عمر بن الخطاب عندنا شخصية تاريخية، أما (عمرهم)
فتحول إلى مؤسسة، لاتهم معها موافقة رئيس الدولة أو عدم موافقته.
ب – مسلسلات (القضاء في الإسلام) التي
نشاهدها على شاشات التلفزيون، تدور حول فكرة واحدة، هي موقف القاضي ضد الوالي أو
ضد الخليفة للمحافظة على نزاهة القضاء. أما الآن، وبعد أم تم فصل السلطات عن بعضها
في القرن العشرين، فإن من المضحك أن يفكر الفرنسيون مثلاً، بأن قاضياً في باريس
يقف ضد رئيس الجمهورية أو ضد رئيس الوزراء، لأنه يتدخل في القضاء. أي أن القضاء
عندهم تم تحويله إلى مؤسسة، وأصبح استقلاله من نافلة القول، وليس موضع بحث، أي
أصبح من عاداتهم وتقاليدهم في شؤون الحكم. كل هذا أدى إلى أمور هامة هي:
- لم يقدم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات سياسية تضمن حرية الرأي والرأي الآخر (حرية المعارضة) وحرية التعبير عن الرأي، بحيث تستطيع أن تلفظ أي إنسان يحاول اختراقها والاعتداء عليها. فقاد هذا إلى غياب فرع هام من فروع التشريع هو الفقه الدستوري، الذي ينظم بنية الدولة وشرعيتها. لهذا أقول: لا تبحثوا في التراث العربي الإسلامي عن فقه دستوري، لأنه غير موجود. وهذا أدى إلى النقطة التالية:
- لم يقدم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات تشريعية، بل تم ربط الفقه بأشخاص وليس بمؤسسات. لهذا نجد مفهوم الانتخابات التشريعية، مثلاً، غريباً عن الإسلام التشريعي.
- لم يقم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية. بل قدم لنا عوضاً عن ذلك مواقف نبيلة لأشخاص قضاة ومعاناتهم.
فكانت النتيجة المنطقية لغياب هذه
النقاط الثلاث، وجود مؤسسة بديلة لها، هي مؤسسة الاستبداد السياسي، التي نعيشها
منذ قرون، ولم يصلنا غيرها. ولا أريد هنا تفصيل كيف دفنت الشورى في صدر الإسلام،
وكيف تم استبدالها بمؤسسة استبداد، فقد بحث ذلك من قبل العديد من المفكرين، وتطرقت
إليه في كتابي هذا، لكنني أود أن أبين ماذا فعلت مؤسسة الاستبداد السياسي بنا،
وكيف وصلتنا، وكيف صاغتنا وشكلتنا حتى صرنا إلى ما نحن عليه الآن، وكيف أن ما كتب
في الفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية حصل تحت ظلها، ووصل إلينا مطبوعاً
بطابعها. وأن هذه المؤسسة تحمل المواصفات التالية:
- عدم وجود الرأي الآخر. فالتصفية للمعارضة تتم بأبشع صورها جسدياً، وبأحسن صورها سجناً أو نفياً.
- الخليفة هو الحاكم المطلق، لا يخضع للمحاسبة أو المساءلة، والحكم وراثي. ثم تحول الخليفة في عصور الانحطاط إلى صورة كرتونية، وأصبح الحم بأيدي العسكر (الطاعة لذي الشوكة) وهذا واضح عند المماليك والعثمانيين، حيث نحن من نتائجهم المباشر.
- بيت المال تحت تصرف الحاكم، كما لو أنه ماله الخاص، والأمور المالية رهن مزاج الحاكم، فإذا كان نزيهاً (عمر بن عبد العزيز) فهنيئاً للناس، وإن كان غير ذلك، فليس لهم الصبر وانتظار الفرج دون معارضة.
لقد تم ترسيخ هذه المؤسسة في عهد
الأمويين، ثم تطورت واستمرت حتى يومنا هذا. فوضع الاستبداد بصماته على كل شيء في
حياة المواطن كفرد، وفي حياة الجماعة. حتى أنه وضع بصماته على العلوم التي من
شأنها أن تحتج على الاستبداد، وهي علوم الفقه والتفسير والحديث والعقيدة، والتي من
شأنها أيضاً إذا أرادت، أن تثير الناس على الاستبداد. فكيف وضع الاستبداد السياسي
بصماته على هذه العلوم؟
1 – لقد بدأ الاستبداد السياسي، أول ما بدأ، بوضع بصماته على
العقيدة، وذلك بتقديم تعريف القضاء والقدر. فلكي يبرر الأمويون استلامهم للسلطة
تبريراً شرعياً، طرحوا المقولة التالية:
لقد سبق في علم الله الأزلي أن بني
أمية ستحكم الدولة العربية الإسلامية، وبالتالي لا بد لهذا العلم من أن ينفذ.
فاستلام بني أمية الحكم هو نفاذ هذا العلم، وبالتالي فحكمهم هو القدر.
وأصبح تعريف القضاء والقدر بذلك كما
يلي:
1 – القضاء علم الله الأزلي.
2 – القدر نفاذ هذا العلم في عالم
الواقع.
وهذا التعريف للقضاء والقدر يضع المؤمن
في إطار الاستسلام لكل شيء، أي أن كل ما حصل لا بد من حصوله (مكتوب سلفاً). وما
زال هذا التعريف شائعاً إلى يومنا هذا، ولم يوضع تحت مجهر النقد.
فإذا أخذنا هذا التعريف، واستعرضنا
آيات التنزيل الحكيم كلها، سنجد أن القضاء فيها هو الأمر والنهي، كما في قوله تعالى:
{وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا …
الآية} – الاسراء 23.
فهذه الآية تقول أن الله قضى ألا نعبد
إلا إياه، كما قضى ببر الوالدين، ومع ذلك فنحن نرى أناساً لا تعبده، وأناساً لا
تبر والديها، ونفهم وجود احتمال بأن يكون قضاء الله غير نافذ.
إلا أن الآيات الأخرى تعطينا شرطاً
إضافياً لنفاذ قضاء الله، هو النفاذ من خلال كلماته كما في قوله تعالى: {… إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} مريم 35.
قضى أمراً —> يقول له {قول الحق} —> كن فيكون
(الكلمات)
فعندما قال تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه..} لم يتبعها بقوله كن
فيكون. ولهذا نرى بعض الناس لا تعبد الله، ولو قال كن فيكون، لأصبحت عبادة الله
أمراً لا مناص منه ولا خيار للإنسان فيه. والسؤال الآن: هل قضى الله سلفاً أن يحكم
هتلر ألمانيان ويسبب كوارث الحرب العالمية الثانية؟ وهل حكم المستبدين والطغاة من
قضاء الله؟ والجواب: كلا!! لأنها لم تخضع لقوله كن فيكون، كما خضعت ولادة المسيح
بدون أب كما في قوله تعالى: {ذلك عيسى بن مريم قول الحق
الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه، إذا قضى أمراً فإنما يقول
له كن فيكون} مريم 34 و35.
وكما في قوله تعالى: {.. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى
مريم وروحٌ منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة..} -النساء 171.
ونلاحظ هنا أن:
عيسى ابن مريم {قول الحق} {كلمة الله}
—> قضى أمراً —> يقول له كن
فيكون
ومن هنا نرى أن تعريف قضاء الله المطروح
أمامنا لا يمت إلى الذكر الحكيم بأية صلة، وأنه تعريف يسلب لإنسان كامل حريته
ويدعوه إلى الإسلام، وأنه تعريف يلائم تماماً استبداد السلطة وخضوع الناس، وليست
له علاقة بعلم الله الأزلي لا من قريب ولا من بعيد. وإلا فأين علم الله الأزلي في
قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله
ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمورهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً
مبيناً} -الأحزاب 36.
ولو كان القدر هو نفاذ هذا العلم
بالضرورة، لأصبحت الآية لا معنى لها، ولا ضرورة لإخبار زينب بأن لها الخيار في
الزواج قبل الآية وبعدها. فالآية تقول لزينب أنها إن رفضت تكون قد عصت حكم الله
ورسوله، ولكن احتمال الرفض قائم قبل الآية وبعدها، إذ لا يوجد فيها كن فيكون. وهي
على هذا أمر ونهي وليست كلمات. ولم تنزل هذه الآية إلا بعد أن رفضت زينب الزواج من
زيد.
فإذا انتقلنا إلى تعريف القدر، وأخذناه
كما يفسرونه أنه نفاذ علم الله الأزلي في الواقع، واستعرضنا التنزيل الحكيم بما
فيه من آيات ورد فيها ذكر القدر، نجده في أوضح أشكاله بقوله تعالى: {نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين} الواقعة 60.
فالموت قدرٌ قدره الله على الناس، والقتل قضاء. والطعام وجهاز الهضم قدر، والصوم
قضاء. ووجود الكف والوجه قدر، والصفع قضاء.
وإمكانية الكذب والصدق قدر، والصدق
والكذب قضاء. وإمكانية الجماع بين الذكر والأنثى قد إلهي، والزنا والعفة قضاء
إنساني. والانشطار النووي قدر، لكن صناعة أسلحة التدمير وتوليد الطاقة الكهربائية
قضاء. ولهذا، فقد جاء القدر في القرآن (النبوة)، وجاء القضاء في أم الكتاب
(الرسالة).
إن هذا التعريف للقضاء والقدر، هو
بصمة الاستبداد السياسي الخطيرة على العقيدة الإسلامية. وما زال راسخاً مع الأسف
إلى يومنا هذا، نكرره وكأننا لم نقرأ ونتدبر آيات التنزيل الحكيم.
لقد تم سفك الكثير من الدماء، في سبيل
ترسيخ هذا التعريف، حيث أقاموا بعد ترسيخه، حواجز وأسواراً للترهيب، حتى لا يعود
البحث فيه وتوضح الأمور في نصابها. أما في عصر جيل الراشدين الذي شهد النبي (ص)
فقد كان الناس بعيدين عن هذا التعريف. ونحن نسمع عمر (رض) يأمر الناس بالخروج من
المناطق الموبوءة بالطاعون، فيقول له أحدهم: أنفر من قدر الله؟ ويجيب عمر: نفر من
قدر الله إلى قدره. حيث كان عمر (رض) يعلم أن الله قدّر الصحة تماماً كما قدّر
المرض وأن الانتقال من أحدهما إلى الآخر هو من قضاء الإنسان.
3 – أثر الاستبداد على الناحية
العقائدية هذا، تبعته آثار أخرى متممة على نواح أخرى، فقد ارتسم أثره الثاني على
الفقه الإسلامي في الناحيتين التاليتين:
أ – بعد أن ربط الحاكم المستبد وجوده
بقضاء الله وقدره، لم تبق عند الناس حاجة إلى الاحتجاج على تصرفاته. حتى وصل بهم
الأمر إلى القول بأنه لا يعزل الحاكم والسلطان، وإن جار وظلم ولاط وزناً(1).
ورغم أنهم أعلنوا على استحياء أنه يكفي الحاكم المستبد أن يقول لا إله إلا الله،
ولا يعلن الكفر البواح بشتم الله ورسوله، ولا يمنع الناس من العبادات كالصلاة
والزكاة والحج، لكي يضمن طاعة الناس وخضوعهم، إلا أنهم أغلقوا باب الاحتجاج على
جوره وظلمه، الذي كان يعني القتل الفردي والجماعي لتصفية المعارضة بالسجن المؤبد
ودس السم، وأخذ أموال الناس، وصرفها كيفما يشاء متى يشاء وعلى من يشاء دون محاسبة
أو مساءلة، واسمع معي أبا جعفر المنصور يقول يوم عرفة خطيباً: أيها الناس، إنما
أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده. وحارسه على ماله، أعمل
فيه بمشيئة وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني
فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني(2).
لقد تم ترسيخ الاستبداد تحت اسم إجماع
العلماء (كذا)، فكان السبب الأساسي في منع تحويل التشريع إلى مؤسسة تشريعية، وفي
القضاء على الشورى تحت شعار أن الشورى غير ملزمة للحاكم. وما زلنا نعيش هذه
المأساة حتى يومنا هذا، فالسلطات التشريعية (المجالس) التي تعتبر حديثة نسبياً على
العرب والمسلين، لم تأخذ حتى اليوم دورها الفعال في البلاد التي توجد فيها.
ب – ظهر الفقه الإسلامي، كما قلنا،
والسلطة المستبدة حقيقة قائمة، فجاء خالياً من الفقه الدستوري الذي يحدد شرعية
الدولة، والعلاقة بين السلطة والمواطن، وحدود صلاحيات السلطة، وإقرار الحريات
الشخصية والعامة، ومبدأ الاختيار والتعبير عن الرأي. وظهر بدلاً منه مفهوم الطاعة،
طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، واعتبارها من الفضائل الدينية
والدنيوية على حد سواء.
كما ظهر فقه العبادات كالوضوء والصلاة
والحج والزكاة، حتى شمل هذا الفقه كثيراً من المجلدات، علماً أن العبادات جاءت
للعالم والجاهل واضحة وللعامة والخاصة مفصلة لا تحتاج إلى كل ذلك، وما زال يجري
التركيز عليها، بسبب داء الآبائية الذي وصلّنا بالوراثة. مما أوقع الفقه الإسلامي
في تناقض وجوب طاعة الحاكم الظالم الفاسق، مع الدخول في أدق تفاصيل العبادات من
وضوء وطهارة، بشكل أصبحت تبدو معه، وكأن الإخلال بواحد فقط من هذه التفاصيل
الدقيقة كافياً لأن يرمي بالصلاة فيوجه المصلي وبالصوم في وجه الصائم، ووصل الأمر
إلى أن أخذ المسلمون صورة مشوهة عن الله وعدالته، فأظهروه وكأنه حاكم مستبد يعدّ
على المؤمنين عثراتهم وهم يعبدونه، وكأن الملائكة موظفين في دولة بيروقراطية لا
يهمهم غير الشكل في الروتين، فهم بالمرصاد لصغائر ما يرتكبه الناس في الحياة
الدنيا، وهم بالمرصاد مع آلات التعذيب في القبر لاستكمال التحقيق برئاسة أنكر
ونكير وإغلاق الملف.
ويصورون الآخرة والحشر بما تقشعر له
الأبدان، من صور يغرقون في تفصيل رعبها وبشاعتها، فمن معلقات من شعورهن، إلى
مصلوبات بالخطاطيف من أثدائهن، إلى غير ذلك من مشاهد تحفل بها كتب كثيرة كثيرة(3).
وهكذا يعرض الوجود الإنساني بطريقة
إرهابية استبدادية منذ الولادة، وحتى نهاية الحساب. الأمر الذي نجد خلافه في
التنزيل الحكيم، فهو لا يذكر النار إلا ذكر معها الجنة، وحين يذكر الرحمن يذكرها
عامة واسعة، أما العذاب فمقصور مخصص، كما في قوله تعالى: {..
قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء..} الأعراف 156. وبالمحصلة
فقد ترك الفقه الإسلامي الحاكم الفاسق المستبد، وانصرف يشتغل في المرأة وحجابها!!
لقد خلط الفقه الإسلامي بين المعاملات
والأحوال الشخصية والعبادات والأخلاق، وجعل منها أمراً واحداً يضم الفروع الثلاثة،
وأفاض فيها لأنها لا تتعارض مع السلطة المستبدة. ورسم للناس كيف يتعاملون فيما
بينهم، ولهذا نرى أن المستوى الفقهي في هذه الأمور وصل إلى درجة رفيعة من
الاستفادة والشرح، بينما بقي الفقه الدستوري معدوماً أو هزيلاً يتناسب مع السلطة
المستبدة.
وكانت أزمة الناس دائماً هي أزمة
السلطة. فم يعيشون حياتهم اليومية، إلى أن يموت الحاكم فتتوقف الحياة، حتى تستقر
أمور الحاكم الجديد ويعلمون من هو، لتعود الحياة إلى مجراها العادي، لتتبع شخصية
الحاكم ومزاجه دون أي ضابط فقهي دستوري، فإن كان عادلاً فله الأجر وعليهم الشكر،
وإن كان ظالماً فعليه الوزر وليس عليهم إلا الصبر!!
3 – أما تأثير الاستبداد على الحديث
النبوي (السنة) فكان كالتالي: بما أن الاستبداد ليس له أي سند في التنزيل الحكيم،
بل العكس، فقد لعن الله الظالمين والمستبدين، وعبر عن الاستبداد فيه بالظاهرة
الفرعونية، التي أخذت حيزاً منه أكبر مما أخذت الأحكام كلها. لذا، كان لا بد من
سند عقائدي لتأطير أيديولوجيا الاستبداد، فكان هذا السند هو الحديث النبوي.
ففي صدر الإسلام، بعد وفاة الرسول
(ص)، كان ثمة عدد كبير من الصحابة ما زال على قيد الحياة، وكان من المستحيل على
أحد، حتى لو كان صحابياً، أن يقول: قال رسول الله.. وسمعت رسول الله.. دون أن
يعترضه معترض (انظر أخبار عمر مع أبي هريرة)، إذ كان في أذهان الصحابة وذاكرتهم،
ما سمعوه أنفسهم بلسان رسول الله نفسه:
- لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب
عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من
النار (صحيح مسلم، ج18، ص229).
- بلغ رسول الله أن أناساً كتبوا
أحاديثه، فصعد المنير وقال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم؟ إنما أنا بشر،
فمن كان عنده شيء فليأت به. يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأتلفناه، أو قال
فأحرقناه. (تقييد العلم للخطيب البغدادي، ص34).
ومع ذلك فنحن نجد أن بداية تدوين
الحديث النبوي جاءت في العصر الأموي، ومعها بدأ الانتحال على رسول الله، وخاصة
فيما يتعلق بأيديولوجيا السلطة والطاعة والجهاد. لقد نهى الرسول عن تدوين حديثه في
رأينا لأسباب:
أ – أن التنزيل الموحى هو أساس
الإسلام وعموده الفقري.
ب – أن طاعة الرسول تعني طاعة
الرسالة، والرسالة موجودة في التنزيل.
ج – أن الأمور التي أمر الله الناس
بطاعة الرسول فيها، كالصلاة والزكاة، قد بلغها الرسول إلى الناس ومارسها فعلاً،
ووصلتنا بالتواتر.
د – أما في الأمور التي وصلنا معظمها
بطريق الآحاد، حتى لو صحت، فإن تطبيقها نسبي وطاعتها في حياته فقط (طاعة الرسول
المنفصلة في حياته).
لقد بلغت الأحاديث المنقولة عن النبي
(ص)، باعتراف علماء الحديث، حداً يفوق الوصف، فقاموا بتصنيفها، وقسموها إلى متواتر
وآحاد. ويقوم علم الحديث في معظم معظمه على أحاديث الآحاد الظنية التي لا تقيم
ديناً ولا تبني حياة. وحيث أن أحاديث الحكم وتسويغ الاستبداد من الآحاد، فقد أخذ
هذه الأهمية، ورأيناه في علاقة عضوية متلازمة مع الفقه، بحيث أخذ بيد الفقهاء إلى
أزمة وورطة لم نخرج منها إلى اليوم. فقد كادت أحاديث الآحاد هذه أن تتقدم على
التنزيل الحكيم في مجال الحكم والاستبداد إن لم تكن قد تقدمته فعلاً. ورغم أنها في
الأصل غير ملزمة لأحد، إلا أن الإلزام والالتزام بها أصبح قسرياً، وأصبحت هي حجر
الأساس لدى المسلمين في استنباط الأحكام.
هـ – لقد كان من الضروري للاستبداد،
لكي يلزم الناس بطاعته، ولتأخذ هذه الطاعة شكلها العقائدي، بحيث يخرج من الإسلام
من لم يلتزم بها ويعدم، أن تندمج الطاعة المتصلة لله ورسوله بالطاعة المنفصلة لله
وللرسول، مع الطاعة لأولي الأمر، بحيث تصبح هذه الطاعات على مختلف وجوهها أمراً
واحداً هو الطاعة الدائمة لله!! فتم دمج {أطيعوا الله
والرسول وأولي الأمر منكم} لينتج من هذا الدمج أن طاعة أولي الأمر طاعة
الله تماماً، فندخل في الحق الإلهي بالحكم، وأن الحاكم ممثل الله في الأرض،
كالرسول تماماً، وأن عصيانه والخروج عليه يوجب غضب الله ورسوله.
إن الفرق بين الآيات في الطاعة واضح
بشكل لا نظن أن الفقهاء وعلماء الحديث لم ينتبهوا إليه، لكن وقفهم عنده سيوقعهم في
إشكالية أساسية هي التعرض لأطر السلطة. أي أنهم سيدخلون إلى الفقه الدستوري من
مدخل مغاير تماماً لما تريده السلطة ولما تم فعلاً. وكان من جراء ذلك كله أن أخذ
علم الحديث بأمور غير مقبولة منهجياً بمعظمها عند أي باحث علمي.
و – فقد أجاز علم الحديث أخذ الحديث
عن أطفال، كعبد الله بن عباس، الذي نقل البخاري عنه أنه قال: توفي رسول الله وأنا
ابن عشر سنين مختوناً. ويروي صاحب المنار أن له في مسند أحمد 1696 حديثاً. وكأنس
بن مالك، وكان عمره أقل من عشر سنوات حين وفاة الرسول، وعبد الله بن الزبير،
والحسن بن علي، والحسين بن علي … وغيرهم.
وعبد الله ابن عباس لم يعرف النبي،
ولا اجتمع به قبل الفتح، إذ كان يقيم في مكة مع أبيه الذي لم يهاجر مع من هاجروا
إلى المدينة. حتى بعد الفتح، عاد النبي إلى المدينة وبقي ابن عباس مع أبيه في مكة،
وهو ابن ثمان. فمن أين له أن يقول كما يروي البخاري: والله الذي لا إله إلا غيرهن
ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا
وأنا أعلم فيم نزلت(4).
ونحن اليوم لا نقبل شهادة طفل في هذه
السن، ببيع أو شراء دراجة، فكيف قبل المحدثون ذلك؟ لقد كان علماء الحديث حريصين
جداً على أمانة الراوي وعدالته، حتى أن البخاري رفض حديث رجل يكذب على دابته(5)،
ويرفضون في الوقت نفسه شهادة رجل كعمر بن الخطاب في رجل كأبي هريرة، حيث منعه من
رواية الحديث، واتهمه بالسرقة والرشوة في ولايته على البحرين.
ومع ذلك زادت أحاديثه في كتب الصحاح
والسنن على الخمسة آلاف حديث، كما يحكي ابن عساكر، رغم أنه كما يقول الشيخ رشيد
رضا: لو أحصينا ما انفرد به أبو هريرة من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلاً
جداً، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئاً، وأن الطعن فيه لو كان
صادقاً ما حط من قدر الشريعة شيئاً، ولو لم يخلق أبو هريرة لما نقصت الشريعة
شيئاً. (تفسير المنار، ج19، ص108).
من هنا يتم طرح أمور كثيرة على
المسلمين تحت شعار الإسلام، كلها من أحاديث الآحاد، دون أن يتعب المسلمون أنفسهم
في العودة إلى قراءة التنزيل الحكيم ودراسته دراسة مستفيضة، لما يحتاجونه في ذلك
إلى الوقت والجهد وتحمل مسؤولية وجرأة في الحق. فالقرآن كما يقول الشيخ محمد
الغزال: … خطاب الزمن كله، حتى يرث الله الأرض وما عليها، خطاب الأجيال والأجناس
والعلماء، والمستويات الحضارية المتفاوتة، ولا يمكن منطقياً بأي حال من الأحوال أن
نجمده عند فهم عصر معين(6).
لكن المسلمين، وكما يقول الشيخ
الغزالي مرة أخرى، تركوا الكتاب للسنة، ثم تركوا السنة لأقوال الأئمة، ثم تركوا
الأئمة للمتون.. فأصبح التراث حاجزاً يحول بين المسلمين وبين مصادرهم الأساسية(7).
4 – بعد أن رسخ الاستبداد بالشكل
الخادع الجبري، كما شرحناه، وزرع القناعات المسبقة لدى الناس عن أعمارهم وأعمالهم
وأرزاقهم، ونتج أن عمر الإنسان ثابت منذ الأزل، وأن رزقه مكتوب، مهما كان عمله،
فقد انعكس ذلك مباشرة على علم التفسير، وعلى شرح الآيات المتعلقة بهذه المواضيع.
وحين يقرؤ الإنسان قوله تعالى: {.. وما يُعمَّرٍ ولا
ينقص من عمره إلا في كتابٍ، إن ذلك على الله يسيرٌ} – فاطر 11. فهو يفهم أن
الحديث بالآية يدور حول شخص واحد، وهو محل فعل يعمَّر وفعل ينقص وهاء عمره. وفهم
أن عمر هذا الشخص الواحد، يطول في كتاب ويقصر في كتاب، وينظر حوله في الواقع ليجد
مصداق ذلك في علم الطب الذي يدرس هذه الكتب.
أما المفسر، فسيضطر بحكم الفكرة
المسبقة التي يحملها عن ثبات الأعمار إلى أن يلجأ للتخريجات. والتخريج هنا، أن فعل
ينقص يعود على شخص آخر غير المعمر الذي يطول عمره. ومع حمل الأفكار المسبقة، ومع
اللجوء إلى التخريج، لا يفيد التبحر في اللغة، ولا تفيد التقوى، ولا تفيد العبقرية.
لقد كان معظم المفسرين التراثيين لغويين، وأتقياء، وعباقرة، لكنهم كانوا يحملون
أفكاراً مسبقة يخرّجون على أساسها تفاسيرهم!!
ونضرب على ذلك مثلاً علمياً من عصرنا
الحاضر، هو ما حدث مع ألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبية، وعالم الرياضيات
والفيزياء الذي لا يشك أحد في عبقريته. فعندما كتب مجموعة معادلات النسبية، نتج
لديه أن الكون غير ثابت، وأنه في حالة اتساع دائم(8). لكن الفكرة
المسبقة التي كانت عنده بأن الكون ثابت، جعلته يلجأ إلى تخريجه، تسوغ ما وصل إليه
مع ما يحمله، بأن أضاف إلى المعادلات معاملاً هو (معامل الثبات) ليحول الكون من
متسع دائم إلى ثابت. الأمر الذي اعترف به بعد سنين، وقال إنها كانت أكبر خطيئة
ارتكبها في حياته. فانظر كيف أن الفكرة المسبقة غلبت الذكاء والعبقرية(9).
لقد انتصرت مدرسة الترادف تحت ظل
الاستبداد، على مدرسة عدم الترادف، حيث تؤدي الثانية إلى دراسة التنزيل دراسة
دقيقة، وتشير إلى الفروق بين الكتاب والقرآن والذكر، وبين الحكم والحكمة، وبين
الإمام المبين واللوح المحفوظ، وبين الرسالة والنبوة. وتقود إلى فهم أفضل للتنزيل
وفهم أفضل لمسائل القضاء والقدر والحرية والشورى والتشريع، وتؤدي إلى الأخذ بيد
مدرسة الرأي وترك مدرسة الحديث. لهذا نرى سيبويه وابن خلدون يقولان بالترادف،
فيؤخذان كمراجع أهم من ثعلب وأبي علي الفارسي.
كل هذا أدى بعلوم التفسير إلى أن
تقتصر على آيات الأحكام، وإلى أن تفسر بالحديث والسيرة، دون أن تقترب من آيات
الكونيات والقصص القرآني، فإن اقتربت، فمرجعها الإسرائيليات وأخبار القصاص في
المساجد إذ كان لا يوجد لديهم مراجع أخرى. أي أن كتب التفسير ليست أكثر من:
(فقه أحكام + سيرة نبوية +
إسرائيليات)
ومما زاد الطين بلة، منع الاجتهاد في
التفسير أو نقده، وبما أن النبي (ص) والصحابة جميعاً، لم يفسروا آيات القصص
القرآني والكونيات، ولم يفسروها هم أنفسهم في تفاسيرهم، فقد حذروا الناس من
الاقتراب منها، ودفعوهم بعيداً عنها، بوضعهم قاعدة أنك كلما اقتربت من السلف في
التفسير (أي المأثور) أصبت. رغم أن العكس صحيح، فكلما ابتعدت عن المأثور بالزمان
والمعارف اقتربت من فهم التنزيل.
لقد حاول أحد المفسرين المعاصرين، هو
الشيخ جوهري طنطاوي في كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” أن يجمع 750 آية من آيات
التنزيل في الكونيات، ويشرحها شرحاً علمياً معاصراً، فتصدى له مناع القطان في
كتابه “مباحث في علوم القرآن” يقول معلقاً على ص371، إن في تفسير طنطاوي كل شيء ما
عدا التفسير!! والحقيقة عكس ذلك، فقد سار الشيخ طنطاوي على المنهج العلمي في
التفسير، فأنكروا ذلك عليه.
لقد جاء القصص القرآني، ليس من أجل
الأخبار، كأي كتاب تاريخ، لكنه جاء ليشرح سنن التاريخ وحركته، وذكره فرعون 74 مرة
بشكل مباشر، وكون الآيات التي تحدثت عنه وعن هامان وقارون أكثر من آيات الأحكام
مجتمعه، لم يلفت نظر المفسرين ليقفوا عندها، بل قاموا كالفقهاء بشر نواقص الوضوء
ومفسدات الحج والصلاة، ومروا على الباقي مر الكرام، أو علقوا عليها في أحسن
الأحوال تعليقات لا معنى لها، ولو تركوها لنا دون تفسير لكان أفضل لنا وللمسلمين،
إذ سنعلم أن فهمها في هذه الحالة يقع على عاتقنا.
يقول الشيخ محمد الغزالي(10):
واضح أن الإسلام إطلاق للعقل لا حجر عليه، وإعمال له لا تعطيل لوظائفهن والقرآن
جاء دعوة إلى قراءة كتاب الكون، وتأمل أسراره، وسننه وحث الفرد على التأمل داخل
نفسه وخارجها للوصول إلى تعاون أفضل مع بني جنسه وفهم أتم لوحدات الكون وطبيعة
المادة، ولكن الإصابات التي أحدثت في ثقافتنا نمواً غير طبيعي من تضخم المرويات
الواهية، وتضخم الأحكام الفقهية في الفروع، والذبول في علم الكون والحياة بموت
المكتشفين والرواد والأوائل في الكيمياء والفيزياء والرياضيات، كل ذلك كان سبباً
في انحسار واضح في الجوانب الأخرى من الشمولية القرآنية”.
ويقول(11):.. لقد انتزعنا
مثلاً آية {والله خلقكم وما تعلمون} من سياقها
لنقول إن العمل الذي نؤديه هو من صنع الله، ولندل على مذهب أهل السنة في أن العمل
مخلوق لله. ونسينا أن هذا الكلام لو صح، ما كان عبدة الأصنام مسؤولين، لأنهم إذا
كانوا مخلوقين لله، وأعمالهم في شركهم ووثنيتهم مخلوقة لله، فما عليهم من ذنب!!.
(1) اقرأ ما فعله يزيد في
“تاريخ الخلفاء”، ص209، يوم الحرة في المدينة المنورة، حيث نهبها وافتض فيها ألف
عذراء. وانظر حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول قوله: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب
ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. (صحيح مسلم، ج12، ص238).
(2) انظر العقد الفريد، ج4،
ص186.
(3) وردت هذه الصور وغيرها في
كتب العامة حول قصة المعراج، التي اختُلف فيها وصدر حولها كثير من الآراء
المتباينة، علماً أن من الثابت قطعاً ورود قصص مشابهة لها في ديانات ما قبل
الإسلام.
(4) يجدر التنويه هنا إلى
أننا نستهدف ابن عباس كصحابي راوٍ للحديث طفلٍ، أما بعد أن بلغ أشده فقد غدا من
أبرز علماء الأمة في صدر الإسلام.
(5) وترك شعبة بن الحجاج حديث
رجل سمع شعبة في بيته صوت طنبور، وحديث رجل رآه يلعب الشطرنج.
(6) انظر “كيف نتعامل مع
القرآن”، دار الوفاء للطباعة والنشر،1992، ص164.
(7) المصدر نفسه، ص208.
(8) لك أن تقرآ {والسماء
بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} الذاريات 47- وتعتمدها دليلاً على أن العلم مهما اتسع
فلن يخرج عن الآيات الكونية في التنزيل.
(9) انظر “موجز تاريخ الزمن”
تأليف ستيفن هو كينغ ترجمة الدكتور أدهم السمان.
(10) كيف نتعامل مع القرآن-دار
الوفاء للطباعة والنشر 1992، ص88.
(11) المصر نفسه.
الدولة والمجتمع
الفصل الأول: الأسرة
كان الإنسان القديم في الفترة ما بين
آدم ونوح، ما زال قريباً من المملكة الحيوانية، من حيث المعاش والمأكل والمسكن
والسلوك، دون أي تشريع سماوي، إلا النذر. وهي ملائكة تأتي مشخصة لتنذر. وإنذاراتها
للدلالة فقط على وجود الله والتعريف به، دون أية تشريعات أخرى. وكان التجريد في
أوائله، حيث لم يظهر في أبسط صوره إلا في عهد نوح، حين اكتمل أول مجتمع إنساني
بلغة مجردة، وطبقات اجتماعية (الملأ، الكهنة، الأراذل).
في هذه المرحلة، التي كان السلوك
الإنساني ما زال فيها موحداً في كل أماكن الأرض {كان
الناس أمةً واحدةً فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ..} البقرة 213 حيث لا
توجد وسائل إنتاج، والمعاش هو الصيد، والسكن هو الغابات والكهوف، والانتقال على
الأقدام، لأن الأنعام لم تكن مذللة بعد، في هذه الفترة تمّ اكتشاف النار.
وبما أنه لم تكن توجد أية تشريعات،
فقد كانت الأمور الأسرية أموراً مشتركة بين الإنسان والبهائم، وخاصة العليا منها،
أي أن الأسرة كانت على أساس بهيمي بحت، الأم فيه هي ربة الأسرة، وذلك لعدم ظهور
محارم نكاح، فعند البهائم لا يوجد في المجال الجنسي اسمه المحارم(1)،
وبالتالي فقد كانت العلاقة الأسرية، من حيث النكاح، بهيمية، تظهر فيه المرأة كرب
الأسرة، وليس الرجل. فالمرأة هي التي تعرف أولادها، أما الرجل فدوره ينحصر في
الإخصاب كالبهائم.
لم يكن مفهوم الأخلاق في تلك الفترة
موجوداً، فأول مفهوم أخلاقي أسري ظهر عند الإنسان هو مفهوم أنه تعرّف على أمه
وأبيه، فخطا بذلك أول خطوة في الابتعاد عن المملكة الحيوانية، تمثلت في مفهوم بر
الوالدين، الذي لم يكن موجوداً في المملكة الحيوانية. فالأم ترعى أولادها بدافع
غريزة المحافظة على النوع، ولكن لم يكن يوجد العكس، بأن يبر الأولاد بالأم والأب.
كانت أسرة الأمومة، إذن، هي النواة
الأولى في المجتمع، ومع التقدم ظهر مفهوم أخلاقي معاكس للطبيعة الحيوانية، هو ظهور
أسرة الرجل. وكان لا يمكن لهذا المفهوم أن يظهر إلا بظهور تخصص بالعلاقات الجنسية
دون تشريع، وإلا بظهور وعي الأولاد لوالديهم. لهذا، نرى في الوصايا (الفرقان) أن
وصية {وبالوالدين إحساناً} جاءت مباشرة بعد قوله
تعالى: {ألا تشركوا به شيئاً}.
لقد جاءت النذر بمفهوم وحدانية الله،
في فترة الإنسان القديم (آدم – نوح) واستمرت بعدها (هود -لوط – إبراهيم) ففي نوح {ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين}
المؤمنون 24. وفي هود {واذكر أخا عادٍ إذ أنذر قومه
بالأحقاف وقد خلت النذر من بين يديه ومن خلفه ..} الأحقاف 21 وفي لوط {ولما جاءت رسلنا لوطاً سيء بهم وضاق بهم ذرعاً..} هود
77. وفي إبراهيم {ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى ..}
العنكبوت 31.
أما مفهوم بر الوالدين، كأول مفهوم
أخلاقي تم فيه التمييز المباشر عن البهائم، فقد ظهر أول مرة في تاريخ الإنسان عند
نوح {رب اغفر لي ولوالديَّ ولمن دخل بيتي مؤمناً ..}
نوح 28. وأما العلاقات الجنسية فكانت علاقات بهيمية مباحة، ولم يظهر مفهوم الزنا
إلاّ في وقت متأخر، حيث بدأ الله سبحانه بتحريم اللواط عند لوط، وبتحريم الفواحش
(الزنا) عن موسى، ثم أكمل موضوع الفواحش بتحريم اللواط والزنا والسحاق عند خاتم
الأنبياء محمد (ص)، فلو كان قبل موسى، مما نتبين معه بشكل قاطع أن تحريم اللواط
جاء قبل تحريم الزنا. ولكن كيف انتقلت الأسرة من الأمومة إلى الأبوة؟
لقد ظهر هذا الانتقال مع ظهور مفهوم
الملكية، أي مع ظهور الحاجة إلى الدفاع عن المجال الحيوي للأسرة، حيث ظهر التدخل
الحاسم للرجل في رئاسة الأسرة. فالحاجة الغريزية إلى الطعام والشراب والمأوى،
والجهد في الحصول عليها والدفاع عنها، جعل من الرجل رئيساً، لأنه الأقوى. فظهر
مفهوم رب الأسرة كرجل أولاً، ثم كرجل أقوى ثانياً. فكانت هذه بذاتها البذور الأولى
لظهور الدولة ورئاسة الدولة. ومع ظهور المجال الحيوي للمعاش، والدفاع عنه وعن
البقاء، ظهرت بذر الدولة. علماً أن الزراعة والأنعام المذللة لم تكن قد وجدت بعد
في هذه الفترة، والمجال الحيوي الوحيد هو مجال الدفاع عن البقاء والطعام الطبيعي
(خيرات طبيعية + الصيد المتوفر).
أخذ هذا المجال الحيوي بعداً إضافياً،
بعد اكتشاف الإنسان للنار، حيث استعمل الإنسان النار في الدفاع عن مجاله الحيوي ضد
الآخرين وضد الحيوانات، وأصبح قادراً على توسيع مجاله الحيوي على حساب الأسر التي
لم تستطع امتلاك هذا السلاح. ثم تطورت وسائل إنتاج النار بالاحتكاك، وظهرت تجمعات
إنسانية يرأسها الذكر الأقوى عضلياً، وليس فكرياً(2)، في الدفاع عن
المجال الحيوي وتوسيعه. وبدأ ظهور التمايز بين القوى والضعيف، فكانت الحياة للقوى
فقط، ويتم تبديل السلطة بظهور شخص يغلب الرئيس الموجود ويزيحه، وهذا لا يتم إلا
بالقتل، إذ كان مفهوم التزاحم ضعيفاً جداً، إن لم يكن معدوماً. فالحياة المادية هي
المسيطرة، دون أية قيم اجتماعية أخلاقية. ثم ظهر مفهوم التقرب من الآلهة،
بالقرابين المادية على شكل ذبائح حيوانات أو إنتاج طبيعي كالقمح والعسل. ثم تحولت
إلى ذبائح بشرية مع ظهور الوثنية، التي كانت عبادة مظاهر الطبيعة أولها.
أما من الناحية المعرفية، فكانت معارف
الإنسان تقليد ما حوله من أصوات الطبيعة والحيوانات، فكانت بداية اللغة المجردة،
التي أعطي آدم المصطفى معها القفزة الأولى بالتوبة والشعور بالذنب. واستمرت عملية
التجريد بشكل بطيء مع تنامي الحياة الاجتماعية (أسرة الأمومة فأسرة الأبوة) التي
أتاحت لبعض الناس فهماً بدائياً لقوى الطبيعة المباشرة (حيوانات مفترسة، رياح،
أمطار، برق، رعد، شمس، قمر) وتكرست لهذه الظواهر قوى خفية، ظهر معها مفهوم الوثنية
الطبيعية. والسبب الأساسي في ظهور هذه الوثنية، هو ربط ظواهر الطبيعة المباشرة
بالإحساسات الداخلية للإنسان (الخوف، الجوع، اللذة، الألم، المرض) فربط الرعد
والبرق مع الخوف، والشمس بالطعام … وهكذا. فكان الله يبعث النذر بشكل مادي للإنذار
بوجود الله الواحد. وتحول الناس الذين حاولوا فهم مظاهر الطبيعة المادية، وأعطوها
قوى خفية، وربطوها بالإحساسات الداخلية للإنسان إلى كهنة وعرافين.
وهكذا ظهرت طبقة رجال الدين بأبسط
صورها، وأخذ المجتمع ينقسم إلى ثلاث شرائح متمايزة بعضها عن البعض الآخر: الأولى،
السلطة السياسية، وتميزت بالقوة الجسدية والعضلية. الثانية، رجال الدين (كهنة
وعرّافون) وتميزت بالقوى المعرفية ولعبت الدور الاستشاري للشريحة الأولى (الحرب،
الطب، التنجيم). الثالثة، الأراذل (بقية الناس).
وكانت هذه الشرائح الثلاث تمارس
نشاطها ضمن ما يسمى بالمجال الحيوي للمجموعة. ونمت هذه المجموعة باندماج الأسر
بعضها مع بعض بالغلبة، فتوسع المجال الحيوي للمجموعة واتسع عددها، علماً أن
التشريعات الإلهية والمعارف ضمن هذا المجال، كانت أولية تتعلق كلها بالعالم المحيط
المباشر، وكانت معظم المعارف غيبية تُعرى إلى قوى غير مرئية انطلقت من عالم المشخص
(روح الشمس، روح البرق، روح الرعد). لهذا فقد مارس الكهنة في ذلك الوقت، مشاورة
رأس المجموعة والتطيب، وتم الحصول على الامتيازات. وكانت الشريحة الأولى (السلطة
السياسية) مع الشريحة الثانية (السلطة المعرفية) متضامنة متكافلة يدعم بعضها
بعضاً، تعيش على حساب عمل الآخرين، لأن الكهنة لا يعملون.
تطور الأسرة وظهور
المجتمع
قلنا إن بداية الأسرة كانت امومة، ثم
أبوة. ثم وعي الأم والأب للأولاد، أي ظهور المحارم في النكاح، ثم وعي الأولاد للأم
والأب، دون ظهور مفهوم الفاحشة، وقد جاءت كل هذه المراحل في آيتي النكاح:
1 – {ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء
إلا ما قد سلف، إنه كان فاحشةً ومقتاً وساء سبيلاً} النساء 22.
2 – {حرمت
عليكم أمهاتكم وبناتكم وأخواتكم وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت وأمهاتكم
اللاتي أرضعنكم وأخواتكم من الرضاعة وأمهات نسائكم وربائبكم اللاتي في حجوركم من
نسائكم اللاتي دخلتم بهن فإن لم تكونوا دخلتم بهن فلا جناح عليكم وحلائل أبنائكم
الذين من أصلابكم وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف إن الله كان غفوراً
رحيماً} النساء 23.
يكمن في الآيتين المذكورتين آنفاً سر
نشوء المجتمعات الإنسانية، ويعكس تطور الأسرة. فالتسلسل في الآية 23 هو تسلسل
تاريخي، يعكس تطور المجتمعات الإنسانية الواعية، والعلاقة الواعية بين الأفراد
التي تشكل فهم الأسرة كبنية تحتية أولية لأي تجمع إنساني. فسار التطور الإنساني
باتجاه توسيع دائرة المحارم في النكاح، وبالتالي توسع دائرة الأسرع.
إذ أن أي زيادة في المحارم هي تطور في
اتجاه الحضارة وليس العكس. وكما قلت في نظرية الحدود(3)، أن الآيتين
هما الحد الأدنى للمحارم، ويمكن للإنسان الزيادة عليهما اجتهاداً، بدلي ما فعله
النبي (ص) حيث زاد في عدد المحارم بقوله: {لا تجمعوا بين
البنت وعمتها}. وهنا نلاحظ أن حركة النبي (ص) كانت صعوداً ضمن حدود الله،
وهذا تعليم لنا بأن نتيجة صعوداً، لا أن نقف عند الآية فقط.
فإذا ألغينا الآيتين السابقتين من أي
مجتمع إنساني، فإنه يعود مباشرة إلى المملكة الحيوانية في المشاعية الجنسية
ومشاعية النسل، مما يؤدي إلى انهيار المجتمع بأكمله، ولا يمكن أن نطلق عليه مصطلح
مجتمع إنساني لأن كلمة الأسرة تتلاشى ليحل محلها قطيع. وفي هذه الحالة لا تفيد
المجتمع الدبابات والأسلحة النووية والتقدم العلمي والتقني. ولو بدأنا بالمحارم
بالترتيب الذي وردت عليه في الآية 23 لوجدنا:
1 – الأم: هي أول المحارم التي بدأ مجتمع
الأمومة بها، لأنها هي التي تلد، وقد تشكلت الأسرة الأولى من وعي الأولاد للأم
أولاً، لذا فقد كانت هي ربة الأسرة، استمراراً لما هي عليه المملكة الحيوانية، مع
فارق أن الحيوان، في مرحلة معينة، يترك أمة، ولا يتعرف عليها بعد سن الحضانة (تصرف
غريزي)، أما في الإنسان فالابن يتعرف على أمه حتى بعد سن الحضانة. فتشكلت بداية
الأسرة مع امتناع الابن عن معاشرة أمه جنسياً لوعيه لها، وهذه علاقة إنسانية واعية
غير غريزية، فكانت الأم أول المحارم.
2 – البنت: هي المرحلة الثانية للمحارم. ونلاحظ
هنا أن الخطاب موجه للذكر، بعكس الآية 31 من سورة النور، التي تخاطب الإناث
المؤمنات. ويجب، في هذه الحالة حتى يستوعب الذكر الخطاب، أن يكون وعي الأب لابنته
موجوداً. وبما أن الكلام عن النكاح، وجب أن يكون الأب واعياً لابنته المؤهلة
للإخصاب (الناضجة جنسياً). لكن هذا الوعي جاء متأخراً عن وعي الأولاد لأمهاتهم،
فعندما وعى الأولاد أمهم بادئ ذي بدء، كانت علاقة الأب الذكر بابنته غير محرمة، ثم
جاء وعيه لابنته فدخلت التحريم.
3 – الأخت: هذه المحرمة الثالثة أكملت الركيزة
الأساسية في المحرمات، التي اكتملت بها الأسرة الإنسانية، خلية المجتمع الأولى في
أبسط أنواعها، متميزة عن الأسرة الحيوانية، فاكتمل بوعي الأخت الناضجة جنسياً، هذا
الثالوث من الوعي.
كانت هذه المحرمات الثلاث الركيزة
الأساسية في تشكيل وحدة المجتمع الإنساني الأولى، وهي الأسرة بأصغر أشكالها.
وباكتمالها كان الإيذان بانتقال أسرة الأمومة إلى أسرة الأبوة، حيث الذكر لا ينكح
أمه ولا ابنته ولا أخته، وبالتالي فهو يعي أمه وأخته وابنته، وبدون هذا الوعي لا
يمكن كما قلنا لأسرة الأبوة أن تتشكل.
كانت المحارم الثلاث موجودة في مجتمع
نوح، باعتبارها الحد الأدنى لقيام مجتمع إنساني، لذا كان مفهوم بر الوالدين الوصية
الوحيدة بعد التوحيد، في رسالة نوح، علماً بأن وعي الوالدين حصل عند الإنسان قبل
نوح، لقوله تعالى على لسان نوح: {رب اغفر لي ولوالدي
ولمن دخل بيتي مؤمناً وللمؤمنين والمؤمنات ..} نوح 28. فقد بينت هذه الآية
وعي الأبناء للآباء. ولقوله تعالى على لسان نوح أيضاً: {قال
نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ما له وولده إلا خساراً} نوح 21،
فأوضحت هذه الآية وعي الآباء للأبناء، أي الوعي المتعاكس بين الآباء والأبناء. ولا
يوجد في قصة نوح ما يدل على الرق في المجتمع (مجتمع العبيد) بل كان مجتمع الأسرة
الأولية ومجتمع الطبقات الثلاث: الملأ، الكهنة، الأراذل.
أما المحارم فإنها أتت متأخرة، بعد أن
كانت العلاقات الجنسية مفتوحة ومتروكة للأعراف، إذا كانت هناك أعراف. وأما الزنا
كفاحشة فلم يكن موجوداً.
ويخبرنا القصص القرآني بأن أول ما حرم
الله من الفواحش، بعد اكتمال الأسرة الأولية، هو اللواط. كما ورد على لسان لوط {إنكم لتأتون لفاحشة ..} العنكبوت 28 علماً بأن نكاح
النساء من غير المحارم الواردة أعلاه، كان وقتها لا يعتبر فاحشة، كما جاء على لسان
لوط في قوله تعالى: {قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم
فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي ..} هود 78. تُرى هل كان يعرض عليهم الزواج
ببناته، وهل كان عنده عدد من البنات يساوي عدد الذكور في قومه لنفعل هذان أم كان
يعرض عليهم الإناث عوضاً عن الذكور؟
ويخبرنا القصص القرآني كيف صرف الله
سبحانه الفاحشة عن يوسف، بنكاح امرأة العزيز في قوله تعالى: {ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه
السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} يوسف 24. ترى هل كان يقول ذلك لو
كان يوسف يعلم أن نكاح امرأة العزيز من الفواحش؟ هنا سمى الله نكاح المرأة الغريبة
لأول مرة فاحشة في عهد يوسف، إلا أن الزنا لم يحرم بشكل قطعي إلا في كتاب موسى.
أما بقية المحارم الواردة في الآية 23
في سورة النساء: وعماتكم وخالاتكم وبنات الأخ وبنات الأخت، فقد جاء حلقة في توسيع
دائرة الأسرة الأولية، حصلت مع تطور الإنسان، ومع توسع وعي الأسرة، حتى شمل هذا
الوعي العمة (أخت الأب) والخالة (أخت الأم) وبنت الأخ (مفهوم العم أخ الأب) وبنت
الأخت (مفهوم الخال أخ الأم). هذا التوسع أدى إلى نشوء مفهوم الأسرة الكبيرة، التي
سميت فيها بعد العشيرة، وتطورت من ثمّ إلى القبيلة. لقد حصل هذا التطور ضمن أعراف
محلية، ثم بشرائع سماوية متنامية، بدليل أننا لا نجد نكاح بنت الأخ وبنت الأخت
موجوداً ضمن المحارم في كتاب موسى.
لقد وسّعت الآية 23 من سورة النساء
المحارم، حتى شمل عددها (13). وهذا هو الحد الأدنى من المحارم. ونلاحظ، كما
أسلفنا، أن الرسالة المحمدية ضافت إضافات لم تكن محرمة في الجاهلية هي: الأم من
الرضاعة، الأخ من الرضاعة، الجمع بين الأختين، امرأة الأب. وتأتي خاتمة الآية {وكان الله غفوراً رحيماً} ليشير إلى أن نكاح المحارم
المذكورين فيها، قد سلف خلال التطور التاريخي وأن الله قد غفر ما سلف.
وهكذا نرى الإنسانية، من زاوية
العلاقات الجنسية، تسير إلى الأمام، لتبتعد في سيرها عن المملكة الحيوانية. وقد
أظهر القصص القرآني هذا الاتجاه بكل وضوح. ودعمته الأحداث لتاريخية والمكتشفات
الآثارية. نسوق هنا أمثلة تبين هذا التطابق، وكيف نفهم صدق الخبر القرآن في ضوء
التاريخ والمكتشفات:
1 – لقد كانت ظاهرة اللواط في قوم لوط
ظاهرة علنية، دخلت في بنية العلاقات الاجتماعية، حتى أصبحت جزءاً مميزاً لحضارتهم
في شكل طقس تعبدي ولهذا جاء ذكرها في التنزيل الحكيم {ولوطاً
إذ قال لقومه أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحدٍ من العالمين} الأعراف
80. {أئنكم لتأتون الرجال وتقطعوا السبيل وتأتون في
ناديكم المنكر، فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من
الصادقين} العنكبوت 29. ونلاحظ ثلاثة أمور في آية العنكبوت:
أ – تأتون الرجال.
ب – تقطعون السبيل.
جـ – تأتون في ناديكم المنكر.
فإتيان الرجال يصرف عن إتيان النساء،
ويقطع لنسل بالانصراف عن سبيل النسل، ولما كانت سبيل النسل واحدة فقد جاءت في
الآية معرّفة.
أما إتيان المنكر في النوادي
والمنتديات، فإشارة واضحة إلى أن الممارسة علنية وأن اللواط ظاهرة اجتماعية عند
قوم لوط. يوضحها أكثر قوله تعالى: {.. قال يا قوم هؤلاء
بناتي هنّ أطهر لكم ..} هود 78. وقوله تعالى: {..
أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون} النمل 56.
2 – لقد أظهرت الحفريات في منطقة
عمريت (جنوب طرطوس على الساحل السوري) أن العلاقات الجنسية من الممارسات التعبدية
فيها. فإذا وهبت امرأة نفسها للمعبد، كان لكل من يدخل المعبد أن يطأها. ونجد أن
الحفريات مئات التماثيل الفخارية المصغرة والمكبرة لأعضاء الذكورة. كما نجد أن
النصب الكبير للمعبد في عمريت، تمثال مكّبر لعضو الذكر التناسلي. مما يدلنا بوضوح
على الشبكة الكبيرة بين حضارة عمريت وقوم لوط، مع فارق أن الجنس في عمريت كان بين
ذكر وأنثى، بينما هو عند قوم لوط بين ذكر وذكر.
كما يدلنا بوضوح على أن الإنسانية
تسير في حضاراتها برقي متصاعد بعيداً عن المملكة الحيوانية. فنحن لا نجد اليوم ولا
حضارة ترفع مكبّرات الأعضاء التناسلية على أنصاب، وتفتح لها المعابد، وتفرد لها
الطقوس والشموع. على عكس ما ينثره البعض على رؤوسنا في المناسبات، أن الكون
والإنسان يسير إلى الأرذل والأسوأ.
3 – لقد ذكر الله سبحانه مريم بنت
عمران في تنزيله، وامتدحها بقوله: {والتي أحصنت فرجها
فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين} الأنبياء 91- فأخبرتنا
الآية أنها وصلت إلى سن النضوج الجنسي وهي عذراء محصّنة لم يمسسها بشر، وهذا في
مقام المديح.
فإذا جاءنا اليوم في القرن العشرين
شخص يقول إن فلانة من الناس، وصلت إلى سن العشرين مثلاً، وما تزال عذراء محصنة،
فلن نرى أية غرابة في هذا الخبر، لأن مثلها بيننا كثير. لكننا إذا رجعنا إلى
التاريخ، نرى أن مريم عاصرت الحضارة الرومانية، التي اشتهرت بالدعارة، والإباحة
الجنسية العلنية، فنفهم أن ظاهرة الحصانة والعذرية في مثل ذلك المحيط، أمر يستحق
المديح والتخليد.
ثمة نبي آخر، عاصر وصفاً ممثالاً، هو
النبي يحيى (ص)، كان عليه أن ينجو م الفسق في وقته، فجعله الله حصوراً، أي غير
مؤهل للعلاقة الجنسية (محصوراً عن الجنس). فهل في حضارات اليوم ممارسات للجنس
تماثل التي كانت في عهد السيد المسيح؟
4 – في ذروة الحضارة العربية
الإسلامية (دمشق، بغداد، القاهرة) كان يتم جلب آلاف الإماء إلى أسواق النخاسة، حتى
طغى عددهن على عدد الحرائر، فهل يستطيع القارئ تصور العلاقات الجنسية التي سادت
وقتئذٍ فأدت إلى أن ترتدي الحرائر لباساً خاصاً يميزهن عن الإماء، من بينة غطاء
الوجه، الذي ورثناه باسم الحجاب الشرعي … هكذا نرى أن الإنسانية والحضارات، كما
قلنا، تسير إلى الأمام في أمور العلاقات الجنسية، وليس إلى الوراء، كما يطيب للبعض
أن يصوّر لنا الأمور معكوسة.
(1) إذا أثبت العلم وجود
بهائم من فصائل عليا لا تنكح أمهاتها، فهذا يدل أولاً على اشتراك البشر والبهائم
في النفور من نكاح الأم مما يعني أن تحريم نكاح الأم فطري وليس مكتسباً. ويؤكد
ثانياً أن أول المحارم في النكاح هو الأم وأن تسلسل التحريم في الآية فطري ثم
أنتروبولوجي.
(2) نؤكد هنا على مفهوم
الأقوى، وليس مفهوم الأدهى أو الأحنك، لأن مفهوم الدهاء والحنكة ظهر بعد أن تعقدت
الحياة الاجتماعية وزادت الشهوات الإنسانية.
(3) انظر الكتاب والقرآن /
قراءة معاصرة، ص(453).
الفصل الثاني: الأمة
قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة فبعث الله
النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا
فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم، فهدى
الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراط
مستقيم} البقرة 213.
ونرى في هذه الآية أن مفهوم الآية أن مفهوم
الأمة وجد قبل أن يبعث الله أي نبي ونراها تؤكد، بما لا يقبل الرد، على أن آدم ليس
أبا البشر، وليس نبياً. فأول نبي رسول ذُكر في التنزيل الحكيم هو نوح عليه السلام.
وفي عهده وصل الإنسان إلى أبسط لغة مجردة، وشكل بالتالي مجتمعاً واعياً. وقد أطلق
التنزيل الحكيم مفهوم الأمة، من ناحية، على التجمعات الإنسانية الأكثر بدائية قبل
نوح، كما أطلقه، من ناحية أخرى، على البهائم في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر
يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم، ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يُحشرون} الأنعام 38.
كما استعمله من ناحية أخرى على التجمعات
الإنسانية الحديثة في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن
المنكر، وأولئك هم المفلحون} آل
عمران 104 وأخيراً استعمله للفرد في قوله تعالى: {إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله
حنيفاً ولم يكُ من المشركين} النحل
120. فلماذا استعمل مفهوم الأمة هذا الاستعمال الأساسي، وبدأ بها أمر الناس؟
جاء مصطلح الأمة من (أم) ولهذا الأصل في اللسان
العربي معانٍ عدة:
1 – فمنه جاء (الإمام) وهو الذي يقود الناس
فيتبعونه في سلوكه وفي مقالته، كما في قوله تعالى: {.. واجعلنا للمتقين إماما} الفرقان 74 وقوله تعالى: {يوم ندعو كل أناس بإمامهم ..} الإسراء 71 وقوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر ..} التوبة 12 وقوله تعالى: {وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا ..} الأنبياء 73.
2 – ومنه (الأمي)، وهو ما أطلقه اليهود على
مجموعة الناس التي تجهل تعاليم الدين اليهودي، ثم عمموه على كل الناس من غير
اليهود، فقالوا عنهم أميين. وانظر معي كيف استعمل العرب لفظة الأمي، كما وردت في
التنزيل الحكيم تماماً، في آل عمران 20 و75، وفي سورة الجمعة الآية 2(1).
فعندما هزم الفرس الروم ودخلوا بيت المقدس، قبل
الهجرة، وكانت عواطف المسلمين مع الروم، وعواطف المشركين من قريش مع الفرس، قالوا
المشركون للمسلمين: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن والفرس أميون(2).
3 – ومنه (الأمة) وهي الفترة من الزمن كما في
قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} يوسف 45.
4 – ومنه (الأمة) بمعنى السبيل والطريق والأثر
كما في قوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون} الزخرف 22.
فاستعمال التنزيل الحكيم مصطلح الأمة على هذا
النحو الواسع، يدل على أنه استعمال أساسي، وأن له معنى هو القاسم المشترك لكل هذه
الاستعمالات. فإذا عدنا إلى (الإمام)، الذي أتم الناس في سلوكه، وبيده توجيه
السلوك المشترك عند الناس، فإذا قام قاموا، وإذا قعد قعدوا، نفهم لماذا استعمل
مصطلح (الأمم) للناس والبهائم معاً. فهناك سلوك مشترك عند النمل والنحل والقرود،
وهو ما يدرسه علم سلوك الحيوان، ومن هنا قال تعالى (أمم أمثالكم)، أي من زاوية
السلوك.
لقد كان الناس ضمن المملكة الحيوانية، ثم
تأنسنوا، وبدأوا بالابتعاد عن هذه المملكة، لكن بقي عندهم سلوك مشترك قريب من
المملكة الحيوانية، لم يتطور في تلك الفترة التي سميناها فترة ما قبل التاريخ،
ليشكل اختلافاً في السلوك الواعي بين أمة وأخرى، ولهذا قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة}.
إن فترة ما قبل التاريخ هذه، فترة ما قبل نوح
وما قبل الأنبياء: هي الفترة الانتقالية بين آية {وما من دابة في الأرض ولا طائر
يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} وبين
آية {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين}. إذ بدأت المجتمعات الإنسانية، بعد هذه الفترة، بالتشكل،
وظهرت المعارف بالنبوات والتشريع بالرسالات، وبدأت مرحلة اختلاف الثقافات والسلوك،
وهي مرحلة {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزاولون مختلفين} هود 118، هذه المرحلة التي استمرت إلى يومنا هذا،
وسيستمر فيها اختلاف الثقافات وتباينها إلى نهاية التاريخ.
الأمة مجموعة مخلوقات عاقلة من الإنس لها سلوك
موحد، كما في قوله تعالى: {كان الناس أمةً واحدة ..} البقرة 123، أو من الإنس والجن كما في قوله تعالى: {قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من
قبلكم من الجن والإنس ..} الأعراف 38
أو مخلوقات غير عاقلة كما في قوله تعالى: {وما من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ..} الأنعام 38. ومع التطور التاريخي، تغيرت السلوكيات بين
الناس والتجمعات الإنسانية، بتطور المعارف والشرائع والعادات، فأصبح الناس أمماً،
وهذا من نواميس رب العالمين {وما كان الناس إلا أمةً واحدةً فاختلفوا ولو كلمة سبقت من ربك لقضي
بينهم فيما يختلفون} يونس 19.
والأمة هي ما نطلق عليه بالمصطلح الحديث
(الثقافة)، وهي حلقة في سلسلة متوالية على امتداد عصور التاريخ القديم منها
والمتوسط والحديث، وهي ما أشار إليه تعالى في قوله: {كذلك أرسلناك في أمةٍ قد خلتْ
من قبلها أممٌ …} الرعد 30.
وانظر في تعريف الثقافة ما ورد عند الدكتور معن زيادة واقتطفنا منه بعض الفقرات في
نهاية هذا البحث(3).
فإذا أخذنا الآيات التي ورد فيها مصطلح الأمة في
التنزيل الحكيم، نراها لا تخرج عن هذا المعنى إلا في الآيات التي يأخذ فيها
المصطلح معنى الفترة الانتقالية أو معنى السبيل والطريق (يوسف 45 والزخرف و23}(4). فالحساب يوم
القيامة يقوم على أساس السلوك والعمل، لهذا فقد دمج سبحانه مجموعة الناس ذات
السلوك المشترك، بغض النظر عن اللغة، في مصطلح الأمة، بقوله عن مشاهد يوم القيامة {ويوم نبعثُ في كل أمةٍ شهيداً
عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ..} النحل 89. وبقوله تعالى: {ويوم نبعث من كل أمةٍ شهيداً لا يؤذنُ للذين كفروا ولا هم يُستعتبون} النحل 84، وبقوله تعالى: {ونزعنا من كل أمةٍ شهيداً فقلنا
هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق لله ..} القصص 75، وبقوله تعالى: {وترى كل أمةٍ جاثيةً، كلٌّ أمةٍ تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما
كنتم تعملون} الجاثية 28، وبقوله
تعالى: {قال ادخلوا في أممٍ قد خلتْ من قبلكم من الجنِّ والإنسِ في النار،
كلما دخلت امةٌ لعنت أختها …} الأعراف
38.
وبما أن الاختلاف في الشرائع والمعارف والعادات
والسلوك بدأ منذ أن بعث الله النبيين، أي منذ نوح، فقد قال تعالى {قيلَ يا نوحُ اهبط بسلامٍ منا
وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن معك، وأممٌ سنمتعهم ثم يمسُّهم منا عذابٌ أليم} هود 48.
وحين بُعث محمد (ص) كانت ثمة أمم سبقت،
واختلافات في الشرائع حصلت، فقال تعالى {ولقد أرسلنا إلى اممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم
يتضرعون} الأنعام 42، وقال
تعالى: {… لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً
…} المائدة 48 ونلاحظ هنا الربط المباشر بين
الشرع والمنهاج والأمة.
وليبين وحدة الألوهية واختلاف السلوكية بين
الناس في تعظيم هذه الألوهية، قال تعالى: {ولكلِّ أمةٍ جعلنا منسكاً هم ناسكوه، فلا ينازعُنك في الأمر، وادعُ
إلى ربك، إنك لعلى هدى مستقيم} الحج
67 ونلاحظ هنا الربط بين المنسك والأمة.
وعندما يلوم سبحانه الناس في اتباعهم للسلف على
أساس السلوك والعقيدة والنظرة إلى الكون، فهو يلومهم كأمم، كما في قوله: {… إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ
وإنا على آثارهم مقتدون} الزخرف 23
ونلاحظ أن الأمة هنا هي الطريقة في النظر إلى الكون والحياة والسلوك.
ولبيان أن الحرية الإنسانية والاختلاف بين الأمم
من نواميس رب العالمين وقوانينه فقد قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمةً
واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقُفاً من فضةٍ ومعارج عليها يظهرون} الزخرف 33 ونفهم أن الله لو أراد للناس أن يكونوا أمة
واحدة ذات سلوك واحد ونظرة واحدة إلى الكون، لما استطاع المخالف أن يخالف نواميس
رب العالمين، واستعمل سبحانه في الآية مصطلح (الرحمن) ليؤكد على أن هذا القانون
مادي عام.
وعندما يطلب الله سبحانه وتعالى من الناس القيام
بعمل مشترك، والأخذ بقناعة مشتركة، يطلب ذلك على أساس الأمة، كما في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى
الخير …} آل عمران 104 وفي قوله
تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجتْ للناس تأمرون بالمعروفِ وتنهون عن المنكر
وتؤمنون بالله ..} آل عمران
110.
وعندما يذكر الله سبحانه التطور التاريخي، يذكره
في قالب تطور العبادات والسلوكيات والشرائع، والاختلاف بينها، واندثار أمم وظهور
غيرها، واندثار ثقافات وظهور ثقافات أخرى جديدة، كما في قوله تعالى: {تلك امةٌ قد خلتْ، لها ما كسبتْ
ولكم ما كسبتم، ولا تُسألون عما كانوا يعملون} البقرة 134 و141، وفي قوله تعالى: {ولكلِّ أمةٍ أجلٌ، فإذا جاءَ
أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون} الأعراف 34.
وعندما يميز سبحانه قوم موسى، يميزهم على أساس
الأمة، كما في قوله تعالى: {وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً أمماً …} الأعراف 160، ونلاحظ هنا كيف حدد أن قوم موسى واحد،
ولكن عدة أمم. وفي قوله تعالى: {ومن قومِ موسى أمةٌ يهدون بالحق وبه يعدلون} الأعراف 159، ونلاحظ هنا كيف سمّى مجموعة من قوم موسى
أمة، أعطاها صفة مشتركة في الهداية بالحق والعدل به.
وعندما يطلب سبحانه من الناس الالتزام بالعبودية
له، والالتزام بتقواه، يطلب ذلك منهم على أساس الأمة، كما في قوله تعالى: {إن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا
ربكم فاعبدون} الأنبياء 92، وفي قوله
تعالى: {وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون} المؤمنون 52، مبيناً أن العبودية والتقوى مطلوبتان من
كل الناس، والناس متساوون فيهما أمام الله تعالى.
وعندما استعمل سبحانه مصطلح الأمة للفرد،
استعمله مع إبراهيم، إذ شذّ عن قومه، وشكل قناعات وسلوكيات كان فيها رائداً مفرداً
(التوحيد والحنيفية) فقال تعالى {إن إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين} النحل 120.
وعندما هرب موسى من فرعون، اتجه شرقاً نحو مدين،
فوجد مجموعة من الناس تقوم بعمل مشترك هو السقاية، فقال فيه تعالى {ولما وردَ ماءَ مدينَ وجدَ عليه
أمةً من الناسِ يسقون ..} القصص 23،
ونلاحظ كيف سمى مجموعة الناس أمة بدلالة العمل المشترك الذي يجمعهم على السقاية،
ولو وجد مجموعة من الغزلان تشرب لقال: أمة من الغزلان يشربون.
نخل إلى أن مفهوم الأمة مفهوم عام شامل، كان مع
الحيوان في وحدة السلوك الغريزي، ثم انتقل إلى الإنسان كبشر، ثم أخذ مفهوم السلوك
الواعي في مرحلته الانتقالية من المملكة الحيوانية إلى التجمعات الإنسانية، مع
نشوء الأسرة ونشوء المجال الحيوي. ثم اختلفت السلوكيات الواعية من ثقافات وشرائع
وعادات وتقاليد، فكانت بداية وجود مجتمع إنساني (منذ نوح)، ثم تطورت هذه
الاختلافات مع مجيء باقي الأنبياء الآية: كان الناس أمة واحدة .. ويتمها بقوله:
فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ثم اختلف الناس فقال تعالى: وأنزل معهم الكتاب
بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
ثم أوضح أن هذا الاختلاف هو محاولات من بعض
المجموعات للسيطرة على المجموعات الأخرى فقال: وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من
بعد ما جاءتهم البينات. ونلاحظ هنا أن قوله البينات يعني النبوات، في ضوء قوله
تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق.
وقد انعكس هذا التسلسل في النبوات والرسالات بما
تحمله من بينات وتشريعات على أهل الأرض جميعاً، وعلى معارفهم وقيمهم الأخلاقية،
فأصبحوا أمماً، أما اختلاف الثقافات وتطورها بين الأمم، فنرى له سببين:
1 – العلاقة الجدلية بين حرية الفكر وانطلاقة
العقل، وبين الأطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة ضمن مجتمع ما. وهي
علاقة داخلية ضمن الأمة الواحدة.
2 – علاقة التأثير المتبادل بين الثقافات
المتعاقبة والمتزامنة. وهي علاقة داخلية في الثقافة الواحدة بحالة التعاقب الزمني
والتاريخي، وخارجية في التلاقح بين الثقافات المتزامنة التي يعاصر بعضها بعضاً.
لقد
قلنا أن تعريف الأمة هو في السلوك الغريزي للحيوان، ثم في السلوك الواعي للإنسان
وهي ما يدعى بالثقافة. نورد بعض التعاريف للثقافة كما وردت في كتاب: (معالم على
طريق تحديث الفكر العربي / د. معن زيادة / سلسلة عالم المعرفة العدد 115 تموز
1987).
ص30- عندما طرح سؤال “ما هي الثقافة؟” في النصف
الثاني من القرن الماضي “كانت أشهر الإجابات وأكثرها تكاملاً إجابة أدوار ب.
تايلور في كتابه “الثقافة البدائية” عام 1871، جاء فيه: الثقافة هي ذلك المركب
الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف
والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.
ص31- أما ك. رايت فيعرفها بأنها “النمو التراكمي
للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب يعيش في حالة الاتصال المستمر بين
أفراده، وينتقل هذا النمو التراكمي إلى الجيل الناشئ عن طريق الآباء، وعبر
العمليات التربوية.
إلا أن هذا التعريف لم يتمكن من التخلص كلية من
الطابع الوصفي الذي أخذ على تعريف تايلور. ولا يتضمن الدور الذي يمكن أن تلعبه
الثقافة في توجيه سلوك الإنسان، وفي صنع حاضره ومستقبله. ومن هذا القبيل تعريف
مالينوفسكي الذي يؤكد أن الثقافة:
“جهاز فعّال ينتقل بالإنسان إلى وضع أفضل، يواكب
مشاكل الطموح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في بيئته وفي سياق
تلبيته لحاجاته الأساسية”.
ص32- وقد اهتمت الدراسات الأنتروبولوجية بشكل
خاص بمحاولة فهم العنصر أو العناصر التي تشتمل عليها الثقافة، وتجعلها حيّة
متحركة، إلا أنها تحت تأثير الدراسات النفسية والنفس-اجتماعية اتجهت إلى اعتبار
الثقافة ضرباً من السلوك دون أن تكون سلوكاً .. إنها البناء أو التركيب أو التجريد
الذي ينتقل من الآباء إلى الأبناء عبر الروابط الاجتماعية لا عبر الروابط
البيولوجية كما هو الحال عند الحيوان. ومن هذه التعريفات تعريف ادوارد هيريو
القائل “إن الثقافة هي ما يبقى في ذاكرتنا عندما ننسى كل شيء”.
ص33- إلاّ أن ثمة مآخذ متعددة يمكن أن تؤخذ على
هذا التعريف. إذ لا معنى للبناء المنطقي أو الأفكار المجردة أو تجريد السلوك إلا
عندما يعبر عنها الإنسان سلوكياً بالكلمات أو بالأفعال … والواقع أن ما هو بيولوجي
يدعم ما هو ثقافي وبالعكس، كما يؤكد ب. ف. سكينر: “ينهار التوازن بين التطور
البيولوجي والثقافي عند نقطة النقل” أي عند نقطة انتقال الممارسات المكتسبة من جيل
إلى جيل.
ص34- … نستطيع أن نقول إن الثقافة هي ما يختص به
الإنسان، ليس لأن الثقافة ليست سلوكاً بل لأن سلوك الحيوان لا يرقى إلى أن يشكل
ثقافة. أضف إلى ذلك أننا نستطيع أن نميز السلوك عن الثقافة فنجعله موضوعاً لعلم
النفس دون أن نخرج السلوك من عداد الثقافة … فالثقافة كانت وما زالت وستبقى ظاهرة
إنسانية صرفة. وما يجعلها كذلك قدرة الإنسان على الترميز، أي التعبير عن أفكار
ومعان وعلاقات وغيرها عبر الرموز.
(1) {فإن حاجوك فقل أسلمت
وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد
اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} آل عمران 20. {ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك
ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا
ليس علينا في الأممين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون} آل
عمران 75. {هو الذي بعث في الأميين
رسولاً منهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمون الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل
لفي ضلال مبين} الجمعة 2.
(2) انظر “العقل العربي
السياسي” للدكتور محمد عابد الجابري.
(3) “معالم على طريق تحديث
الفكر العربي” مجلة عالم المعرفة، العدد 115.
(4) {وقال
الذي نجا منهما واذكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} يوسف 45. {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على
آثارهم مهتدون} الزخرف 22. {وكذلك
ما أرسلنا من قبلك من قريةٍ من نذيرٍ إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ
وإنا على آثارهم مقتدون} الزخرف 23.
الفصل الثالث: القومية
لقد ورد القوم في التنزيل الحكيم
كمفهوم أعلى من مفهوم الأمة، وجاء بعدها زمانياً، فقد ذكر التنزيل القول بالمفاهيم
التالية:
1 – جمع امرئ، كما أن النساء جمع امرأة. وجاء بهذا المعنى في قوله
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى
أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنِّ خيراً منهن …}
الحجرات 11.
كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: {وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال يا
قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجلٌ رشيد}
هود 78، وتجدر الإشارة هنا إلى أن (قومه) و(قوم) كما وردت في الآية الشاهد تعني
حصراً جمع الذكور، إذ ختم الآية بقوله: {أليس منكم رجل
رشيد}، من جهة ثانية، فموضوع الآية يدور عن اللواط، واللواط للذكور، كما
جمع في قوله تعالى: {قال إنكم قومٌ منكرون} الحجر
62.
2 – مجموعة من الناس العاقلين، ذكوراً
وإناثاً، في بيئة اجتماعية معينة، وقد ورد هذا الخطاب ابتداء من نوح بقوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم
عذاب أليم} نوح 1، وفي قوله تعالى: {قال يا قوم
إني لكم نذيرٌ مبين} نوح 2.
بدأ استعمال مصطلح “القوم” مقترناً
بفعل “قال” ابتداءً من نوح، وقد قلنا أن البلاغة في القول، فعندما تتحول الكلمات
المنطوقة إلى معنى في الذهن تصبح قولاً، مما يدل على وجود لغة مشتركة بين المتكلم
والسامع (لغة مجردة بأبسط أشكالها).
ومن هنا أسبغ التنزيل الحكيم مصطلح
القوم على المجموعة العاقلة، لوجود لغة تفاهم، وهذا يقودنا إلى المعنى الثالث.
3 – مجموعة من الناس العاقلين لهم لغة
مشتركة (وحدة اللغة). وبما أن الناس قبل نوح كانوا أمة واحدة ولم تظهر القوميات
بعد، إذ تحدد ظهورها في التنزيل بظهور لغة تفاهم مجردة بين متكلم ومخاطب، فقد ظهرت
القوميات مع اكتمال مجتمع بأبسط صورة التي ذكرناها في بحث الأمة (مجتمع نوح) ولما
كان نوح أول نبي رسول من البشر، وأراد الله تعالى أن يبين وجود ألسنٍ بين المتكلم
والمخاطب، وليس لساناً واحداً، فقد قال: {وما أرسلنا من
رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم …} إبراهيم 4.
هنا نلاحظ كيف حدد القوم باللسان،
وكيف عرف البيان بأن وظيفة اللسان.
هذه هي المعاني الثلاثة للقوم، كما
رأيناها جاءت في التنزيل الحكيم. ولو دخلنا في تفصيل المعنى الثاني والثالث، أي أن
القوم مجموعة من الناس العاقلين لهم لغة (أداة تفكير وتعقيل الحكيم يستعمل دائماً
(قال) مع مصطلح (قومه) وليس مع مصطلح (أمته)، مما يدلنا على أن القول بين المتكلم
والمخاطب يقصد به البيان، فهو يحتاج إلى لسان، واللسان صفة خاصة بالقوم(1).
كما يدلنا على أن الدعوة تبدأ دائماً بفعل الأمر، بدءاً من نوح:
– {إنا
أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك ..} نوح 1، لاحظ فعل “أنذر”.
– {قال يا
قوم اعبدوا الله …} (1) لاحظ فعل “اعبدوا”.
فصيغة الأمر صيغة بين متكلم ومخاطب،
لا وجود فيها للشخص الثالث الغائب.
وهذا يقودنا إلى أن الناس كانوا أمة
واحدة، فأصبحوا أمماً في الثقافات (معارف وتشريعات) المختلفة، وبما أن الثقافة
تحتاج إلى لغة، فقد أصبحوا قوميات في الألسن، وبما أن الألسن، كصيغة للتفكير
والتعقل والبيان، من صفات العاقل الذي يملك لغة مجردة، فقد استعملها التنزيل هذا
الاستعمال الواسع.
لقد حفل التنزيل الحكيم بالصفات التي
أطلقها على مجموعة من الناس هم القوم، بغض النظر عن مسألة اللسان الواحد والألسن
المختلفة، في مجال التفكير {لقوم يتفكرون} والعقل
{لقوم يعقلون} والإيمان {لقوم
يؤمنون} والتذكر {لقوم يذكرون} والتقوى {لقوم يتقون} والعدل {لقوم
يعدلون} وغيرها كثير. ونلاحظ أن هذه الصفات تنطبق على كل مجموعة عاقلة، بغض
النظر عن نوع اللغة، وأن هذه المجموعة تملك بالضرورة لغة تفكر وتدبر وتعقل، وأن
هذه الصفات من صفات العاقل.
لقد بينا صفة البيان في اللسان، كما
في قوله تعالى بالآية 4 من سورة إبراهيم، وتبين لنا أن مفهوم الأمة مفهوم تحتي
لمفهوم القومية، ضمن المرحلة التي ما زال الناس فيها أمة واحدة كبشر، وأمماً
كإنسان. وانتقلنا إلى أن الأمة سلوك بهيمي غريزي (طبائع البهائم) ثم سلوك عاقل واع
(ثقافة الناس). كان الناس أمة واحدة عندما كانوا في المملكة الحيوانية، ثم بدأوا
بالابتعاد عنها، ثم تنوعت الثقافات فأصبحوا أمماً، وتنوعت الألسن فأصبحوا قوميات.
والواقع أن الأمة والقومية الآن
مفهومان متداخلان، فقد توجد أمة واحدة ذات ثقافة مشتركة وسلوك مشترك، تتألف من عدة
قوميات (ألسن مختلفة)، وقد توجد قومية واحدة (لسان واحد) فيه عدة ثقافات (أمم).
لذا جاءت صيغة الخطاب في التنزيل للقوم، وصيغة الحساب للأمة (لاحظ الدقة في
استعمال مصطلح الأمة والقومية) وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرر ما يلي:
بنو هاشم – – – – > أهل محمد (ص).
قريش – – – – > قوم محمد (ص)
مسلمين وغير مسلمين لأن القرآن عربي والأحكام عربية والخطاب عربي.
المسلمون – – – – > أمة محمد (ص)
وهم من قوميات مختلفة.
والسؤال الآن كيف ظهرت القوميات؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من أن نرجع إلى نشأة الكلام الإنساني، لأن مصطلح
القوم استعمل للعاقل حصراً بصيغة التفكير أو البيان، وهذا يقتضي وجود لغة مجردة في
الفترة الواقعة بين آدم ونوح، حيث كان عند نوح كما أسلفنا لسان مجرد بصيغ بدائية،
ومجتمع بوحدته الأساسية، الأسرة الأولية (الوالدان – الأولاد) وهيكله الأساسي
الملأ – الكهنة – الأراذل.
يخبرنا القرآن بأن نشأة القوميات
واختلاف الألسن ظهرت، بعد قفزة التجريد الأولى، من اختلاف الشروط الطبيعية، وأن
تأثير هذه الشروط على الإنسان هو الذي أدى إلى التأثير على تنوع اللغات فكانت
بداية اللغات هي:
1 – الكلمة الجملة، التي نسميها اسم
الفعل، وهي ذات مقطعين صوتين مثل (آمين) أي يا رب استجب، الموجودة في معظم لغات
أهل الأرض، مع أنها غير موجودة في التنزيل الحكيم، أو ذات مقطع صوتي واحد، مثل
(آه، مه، صه، عو، نو، فع) أو ذات مقطع صوتي واحد مكرر، مثل: (هاها) التي تطورت إلى
هيهات، كما في قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون}
المؤمنون 36، ثم انتقلت الكلمة الجملة بعد التجريد (أي بعد انتقال العلاقة
الطبيعية بين الصوت والمدلول إلى علاقة اصطلاحية) إلى كلمة جملة بوجود الضمائر
المتصلة والضمائر الغائبة مثل (قالتا) و(أكلت).
2 – بعد بداية التجريد كان هناك تأثير
متبادل بين الطبيعة والإنسان في عملية التجريد، وقد وضع القرآن في آية واحدة
اختلاف الألوان والألسن وخلق السموات والأرض بقوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات
للعالمين} الروم 22، أي أن اختلاف الألسن والألوان للناس خضع لقوانين
طبيعية رحمانية كخلق السموات والأرض، وأن القوانين التي أثرت على اختلاف الألوان
بين الناس هي نفس القوانين التي أثرت على اختلاف الألسن أي قوانين التكيف
(الزوجية)، فتأثير الطبيعة، مثلاً في المستوى اللغوي ممثلاً بمفردات اللغة
العربية، عن الثلج والحيوانات القطبية ومواصفاتها، أقل بكثير من المفردات الموجودة
في لغة سكان ألاسكا الأصليين عن الثلج والحيوانات القطبية.
ومفردات الصحراء وحيوانات الصحراء
كالجمل، أكثر بكثير في اللغة العربية منها في لغة الأسكيمو، والأصوات الشائعة في
لغات أهل الغابات أكثر من الأصوات نفسها في لغات أهل الصحراء.
نعود إلى تعريف القوم، بأنه مجموعة من
الناس العاقلين يحملون أداة تفكير وأداة اتصال وبيان مشترك، ومن هنا جاءت القومية.
وباختلاف ألسن الناس، ظهرت القوميات المختلفة، مقتصرة بالضرورة على العاقل الذي
يملك أداة التفكير وأداة الاتصال.
فالقومية صفة ذاتية ملازمة لتجمع من
الناس العاقلين، لأن هذا التجمع لا يوجد بدون أداة اتصال وأداة تفكير هي اللغة.
فلا يوجد عرب بدون قومية عربية، ولا توجد قومية عربية بدون لسان عربي. أما العروبة
فهي شعور واعٍ بالانتماء إلى القومية العربية والتعصب الإيجابي لها. فالقومية
العربية من هذا المنظور، وجود حقيقي غير وهمي، شأنها في ذلك شأن القوميات الأخرى،
التركية والكردية والإنكليزية. فلا أفضلية في الوجود لأية قومية على قومية أخرى،
لكن الأفضلية تأتي من مميزات أخرى تكتسبها قومية ما عن جدارة واستحقاق، وبجهد
أفرادها وسعيهم، لا بمجرد أنهم عرب أو أتراك.
فإذا قلنا بأن الوجود القومي لمجموعة
من الناس مهدد، فهذا يعني أن هذه المجموعة أكرهت على تغيير لسانها، أما بغزو ثقافي
من ثقافة أخرى قومية، كما حصل عندما غزا العرب الأندلس، وكانت الثقافة العربية
قوية إلى حد غزت معه اللغات المحلية، وأما بغزو تقليدي باحتلال البلاد من قبل
آخرين فرضوا لغتهم وثقافتهم، وهو ما حاولت فرنسا فعله في الجزائر، وما حاولت
الدولة العثمانية فعله عند العرب، وإما بطرد مجموعة من الناس، تحمل لغة معينة، من
قبل محتل أجنبي أخذ أراضيهم وأقام مجتمعه الخاص ولغته الخاصة، وهذا ما حصل في
الحروب الصليبية، وفي الغزو الصهيوني لفلسطين.
في هذه الحالات يمكن أن نقول أن
الوجود القومي مهدد بالنسبة لمجموعة من الناس تعيش على بقعة ما من الأرض، وفي هذه
الحالة تصبح المعركة التي يخوضها الإنسان معركة قومية وليست أممية من أجل عقيدة
(ثقافة) أو من أجل مكاسب اقتصادية. وربما يكون الغزو بسبب مكاسب اقتصادية، أما
الدفاع من قبل السكان في هذه الحالة فهو ليس اقتصادياً وإنما قومي وسياسي.
ولنُزيل بعض المفاهيم الخاطئة عن
القومية العربية، وعن أصل العرب، نقول إن العرب كما نرى، هم مجموعة من الناس عاشت
ضمن مجال حيوي معين، ولنقل أنه أرض شبه جزيرة العرب، وتكلمّت اللسان العربي. وهذا
المفهوم لا يحمل أي صفة عرقية خاصة، فالعرب ليسوا كلهم من سلالة إسماعيل.
ثمة عائلات عربية من سلالة إسماعيل،
ومن هذه العائلات كان النبي (ص)، لكن إذا كان النبي من سلالة إسماعيل وإبراهيم
وآدم، فهذا لا يعني أبداً أن العرب كلهم من سلالة إسماعيل وإبراهيم وآدم، لأن الله
اصطفى آدم، وخص من ذريته سلالات من بين كل البشر، هذه السلالات هي نوح وآل إبراهيم
وآل عمران، والنبي (ص) كان من آل إبراهيم.
فعروبة عنترة بن شداد وامرئ القيس، لا
تقل أبداً عن عروبة النبي (ص)، لأن كليهما ينتمي إلى قوم واحد له نفس اللسان،
إضافة إلى أن النبي (ص) ينتمي إلى إبراهيم عليه السلام، أما الباقون لهم بالضرورة
هذا الانتماء. وهذا يؤكد أن العروبة، وهي الانتماء الواعي إلى القومية العربية
والتعصب الإيجابي لهذا الانتماء، ليست نظرة عرقية، وإنما هي نظرة إنسانية صرفة،
والتعصب الإيجابي لها يتطلب من العرب الجد والسعي والمشاركة الفعالة في صنع
الحضارة الإنسانية مع بقية القوميات.
لنطرح السؤال التالي: هل للقومية
العربية خصائص خاصة بها غير اللغة؟ وأقول: كلا يوجد. لأن الأخلاق صفة شمولية،
فالصدق وعدم الحنث باليمين، وعدم شهادة الزور، والالتزام بالوفاء بالكيل والميزان،
وبر الوالدين، هذه كلها من الأخلاق، ولكنها ليست عربية وإنما هي إنسانية صرفة. فلا
يوجد شيء اسمه الصدق العربي، وشيء اسمه الصدق الإنكليزي، وشهادة زور عربية وأخرى
فارسية، كما لا يوجد شيء اسمه الأخلاق العربية والأخلاق التركية. وتلتبس هذه الأمور
على الإنسان عندما يخلط بين الأخلاق والعادات، فالأخلاق من الصراط المستقيم، أما
العادات فهي من الأعراف، وقد أقر الإسلام كليهما، ولكن شتان ما بينهما.
أما الأعراف (العادات والتقاليد)،
فهناك عادات وأعراف عربية وأخرى تركية، وهذا صحيح. وتتأثر الأعراف بمؤثرين أساسيين
هما البيئة (صحراوية، حارة، باردة، جبلية، غابات) والإنتاج (المستوى الاقتصادي
وطرق المعاش). وفي هذا تختلف العادات العربية نفسها بين منطقة وأخرى عند العرب
أنفسهم (بدو، حضر، سكان ساحل، سكان مناطق داخلية …)، كما تختلف العادات العربية عن
عادات القوميات الأخرى.
فمفاهيم الشهامة والنخوة والكرم،
مثلاً، وهي كلها من العادات والأعراف وليست من الأخلاق، تختلف بين البدو والحضر،
وبين المزارعين والصناعيين. وعلينا أن نقبل هذا على أنه من قوانين رب العالمين في
خلقه. وعلينا أن نعيد النظر بمصطلح الأخلاق العربية لأنه مصطلح وهمي، ونستعمل
بدلاً منه مصطلح العادات والأعراف العربية المتغيرة من مكان لآخر ومن زمان لآخر.
أما خصائص اللسان العربي التي تميزه
عن كثير من الألسن فهي: الأصالة، وهي الايغال في القدم (الجذور)، وهو العنصر الأول
للأصالة، والثمار، أي أنه ما زال مثمراً حتى يومنا هذا، وهو العنصر الثاني
للأصالة. ويتجلى العنصر الأول في الصفات التالية:
أ – الكلمة الجملة، وهي مرحلة أولية
من مراحل نشأة الألسن، وتتجلى بوجود الضمير المتصل والضمير الغائب، كقولنا (قالتا)
وبأسماء الأفعال، فكثير من الأفعال العربية ما زال يحاكي الطبيعة حتى يومنا هذا
(عواء، مواء، فحيح، نقيق، صهيل، خرير).
ب – التطابق بين الحركة الصوتية للفظ
الحرف، وبين مدلول الحرف مثل (ف)، فعند لفظها يفتح الفم (الشفتان) فترى الأفعال
التي تبدأ بها: (فتح، فرق، فخت، فك، فض، فقر) تدل على فتح. والميم بلفظها عبارة عن
ضم الشفتين، فنرى أن كل التحام بين اثنين يبدأ بالميم (مبارزة، مقاتلة، منافسة)،
ومكان تجميع الأشياء تبدأ بالميم: (مكتب، ملحمة، متجر، مدرسة)، فإذا جمعنا الفاء
والميم، نتجت لدينا كلمة (فم) وهو عضو الفتح والضم، كفم الإنسان وفم المعدة، أما
عضو الفتح بدون ضم فهو (فوهة) فوهة البندقية وفوهة البركان، ولا نقول فم البندقية
أو فم البركان(2).
جـ – كثرة الصفات (النعوت) للاسم
الواحد. فللسيف اسم واحد ونعوت كثيرة، فالمهند هو السيف المصنوع في الهند (بلد
المنشأ) وهذه تعكس مرحلة من مراحل تطور الألسن حين لم يكتمل التجريد.
بهذا نرى أن اللسان العربي يعكس كل
مراحل تطور نشأة الكلام الإنساني في منطقة الشرق الأوسط. وعليه نستطيع القول أن
جميع الألسن، التي كانت في هذه المنطقة واندثرت، ما هي إلا مراحل لتطور هذا
اللسان، الذي وصل إلى مرحلة اللسان العربي المبين عند نزول الوحي، وأن سكان هذه
المنطقة هم عرب بالمفهوم التاريخي لا بالمفهوم القومي. إذ لا يوجد شيء اسمه
القومية السامية، لأن القومية يحددها اللسان. فما هو اللسان السامي؟ والقول
بالسامية وهم من وجهة نظر القرآن. والذي يدعي أن اليهود ينتسبون إليها (سام بن
نوح) وأهم أيضاً، لقوله تعالى عن بني إسرائيل أنهم {ذرية
من حملنا مع نوح ..} الإسراء 3.
لقد خضع اللسان العربي لقوانين التطور
(الجدل الداخلي والخارجي). أما الجدل الداخلي فهو التناقضات التي كانت تفرزها
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، انعكست كتناقضات في اللغة الواحدة (هل
تفيد هذه اللفظة المعنى المطلوب أم لا تفيده، وهذا القانون هو أم قوانين التطور
اللغوي الداخلي). وقد انعكس في قوانين الصرف في اللغة الواحدة، وفي تنوع لهجاتها
(اللهجات المختلفة في اللغة الواحدة) وفي تنوع اللغات وتشعبها.
أما الجدل الخارجي فهو التأثير
والتأثر المتبادل (قانون الزوجية / التكيف) فقد انعكس في مستويات، لأن قانون
الزوجية يعمل في مستويات مختلفة، لا في مستو واحد. الأول منها داخلي، وذلك في ظهور
الإسناد (مسند ومسند إليه) بعلم النحو. والثاني، تأثير الطبيعة على المفردات
اللغوية. فأهل الصحراء عندهم مفردات كثيرة عن أحوال الصحراء وحيواناتها، بينما لا
يملك أهل أوروبا هذه المفردات، والعكس صحيح. والثالث، التأثير والتأثر المتبادل
بين لسانين مختلفين تماماً، أو بين لهجتين للسان واحد، وهو تلاحم ثقافي بين ثقافات
مختلفة.
فمثلاً هناك مفردات في اللسان العربي
أصلها فارسي (استبرق، سندس) استعملها القرآن ليبين لنا أن قانون الاستعارة بين
لغتين مختلفتين، قانون طبيعي لا عيب فيه، وأن الألفاظ في الاستعارة من لغة إلى لغة
أخرى، تدخل ضمن قوانين النحو والصرف للغة، أي ضمن بنيتها الخاصة. ومن هنا نرى أنه
لا عيب في أن يطلق الأوروبيون لفظة (COTTON) على القطن وهي
لفظة عربية، وأن يستعمل العرب لفظة (إليكترون، وتلفزيون، وتلفون) وهي مفردات
غربية. لأن ذلك جرى ضمن قوانين التكيف (الزوجية) ولم يفرض بالقوة، وهذا حق طبيعي
للذي اكتشف الإليكترون أن يسميه كما يريد، وأن يستعيره الآخرون منه كما هو.
وهذا يوضح التبادل الثقافي الطبيعي
بين اللغات. لذا، فمهما استعارت اللغة العربية من مفردات أجنبية لأشياء اكتشفها
الأجانب، فهذا لا يؤثر في بنيتها، وتبقى عربية. لكن العيب الوحيد هو في العرب
أنفسهم لا في اللسان العربي، لأنهم تخلفوا في مضمار العلم، وبالتالي في مضمار
المصطلحات العلمية العربية. ومنتج المعرفة هو صاحب الحق في وضع مصطلحاتها، وليس
مستهلك المعرفة. أما المستوى الرابع والأخير، فهو تكيف اللهجات المحلية بلسان
واحد، وذلك من خلال التأثير المتبادل بين المناطق التي تتكلم نفس اللسان، فنرى أن
مصر الآن هي المنتج الأول للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية وللمسرح،
ونرى أن اللهجة المصرية هي لهجة مألوفة عند كل العرب أكثر من اللهجة اليمنية
مثلاً، ولا عيب في ذلك، لكن هذه كلها لهجات للسان واحد، ولا يمكن أن نقول أن
اللهجة المصرية هي اللهجة النموذجية الصحيحة.
ولا بد من الإشارة إلى مقياس اللفظ
اللغوي السليم، ففي كل لغة من لغات الأرض لهجات لفظية مختلفة ضمن نفس اللغة للكلمة
الواحدة (القراءة)، لهذا نرى في اللغات العالمية لفظاً قياسياً للغة المنطوقة،
يقاس اللفظ السليم إليه (STANDARD) هو الذي نقول
عنه اللغة الفصحى. فاللغة الفصحى لا تعني سلامة النحو والصرف فقط، وإنما تعني
قياسية اللفظ اللغوي، وخلوه من اللهجات والعيوب النطقية مثل الثأثأة والفأفأة
واللثغة.
هناك مثلاً لغة إيطالية، ولكن اللغة
الإيطالية الفصحى التي نسميها من راديو روما، من مذيع الأخبار بالإيطالية، هي لهجة
أهل فلورنسا، التي تعتبر المقياس الذي تقاس به سلامة النطق اللغوي. والقياس الفصيح
في الإنكليزية هو لغة الملك (KING LANGUAGE)، وفي الفرنسية
لغة أهل باريس. فما هي اللغة القياسية الفصحى عند العرب؟ وهل وصلتنا هذه اللغة
القياسية (من حيث اللفظ)؟
لقد وصلنا اللسان العربي المبين، من
حيث المبنى، في التنزيل الموحى إلى محمد (ص) أما المعنى فهو نسبي إنساني، يشارك
السامعُ المتكلم في صنعه. هذا اللفظ الفصيح وصلنا من النبي (ص) في قوله إن صح (أنا
أفصح العرب بيد أني من قريش)(3) والفصاحة في اللسان (اللفظ). فهو يبين
هنا، أن قريشاً ليست فصيحة، وأن النموذج الفصيح للتنزيل الموحى، هو نطقه (ص)، وبما
أن النبي (ص) كان أمياً بالخط، وجاءه التنزيل منطوقاً لا مخطوطاً، فنطقه (ص) هو
اللسان العربي الفصيح، علماً بأن نطقه للتنزيل كما نطقه هو (ص) ليس له علاقة بنطق
قريش للسان العربي، وهذا النطق وصلنا إلى اليوم عن طريق تواتر الحفظة لنطق التنزيل
كما سمعوه من النبي (ص).
نستنتج مما سبق، أن القومية صفتين
أساسيتين، أولاهما الصفة الذاتية، وهي أنه لا بدّ للسان، حتى يصير لساناً، من وجود
مجموعة من الناس تستعمله كأداة للتفكير وأداة للاتصال، والصياغة الثقافية لهذه
المجموعة تتم بواسطة هذا اللسان. وثانيتهما الصفة الموضوعية، أي عندما نضع صيغة
المضاف إلى القومية كأن نقول: القومية العربية، فهذا وجود موضوعي حقيقي لمجموعة من
الناس تتكلم العربية، وأنتجت ثقافتها بهذه اللغة، وهو وجود موضوعي بالنسبة لقوميات
أخرى، فالقومية العربية وجود موضوعي بالنسبة للقومية التركية، واللسان العربي وجود
ذاتي بالنسبة للعرب، وإلا لما سمينا هذا التجمع الإنساني باسم العرب.
فإذا أردنا أن نفرق بين الذاتي
والموضوعي إن الذاتي هو الذي يستمد وجوده من إدراكنا له، أما الموضوعي فهو الذي
نستمد إدراكنا من وجوده، أي أن العلم يتبع المعلوم في الوجود الموضوعي، لا في
الوجود الذاتي. فالكون وجود موضوعي خارج الذات الإنسانية، والأخلاق لها وجود ذاتي
غير منفصل عن الإنسان. فمعلوماتنا عن الكون تستمد وجودها من الكون نفسه، لأن الكون
منفصل عن الإنسان، أما الأخلاق والصلاة والعبادات فتستمد وجودها من عينا لها، وهنا
نلاحظ مرة أخرى الفرق الجوهري بين النبوة والرسالة(4).
من وجهة النظر الموضوعية، إن للقومية
العربية وجوداً يرتبط بمجموعة من الناس لها وجود موضوعي بخصائص ذاتية (اللسان
كأداة تفكير واتصال) هذا الوجود لا يتميز عن أية قومية أخرى صغرت أم كبرت، وفي هذا
المجال لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالخصائص الذاتية (الأخلاق، العلم، التشريع
“التقوى”) لذا فالعربي ليس بالأب والأم، وإنما الذي اتخذ اللسان العربي وسيلة
للتفكير ووسيلة للاتصال والتعبير عن الثقافة (معارف وتشريعات) ولا فرق في هذا
المجال بين عروبة محمد (ص) وعروبة عنترة وعروبة المتنبي.
أما من ناحية النسب (الدم) فمحمد (ص)
ينتسب إلى إبراهيم، بينما عنترة لا ينتسب إلى إبراهيم. وفي هذا المجال أيضاً، يمكن
أن نعرف العرب بأنهم مجموعة من الناس عاشت في مجال حيوي معين (شبه جزيرة العرب –
منطقة الشرق الأوسط) فكان منها اللسان العربي، في مختلف مراحل تطوره التاريخي حتى
وصوله إلى درجة اللسان المبين حين نزول القرآن.
أما فيما يتعلق بالعروبة، فالعروبة
شعور بالانتماء (العصبية) إلى القومية العربية. وهي صفة ذاتية صرفة، قد تأخذ شكل
التعصب المتطرف أو التعصب المعتدل. فقد كان تعصب النبي (ص) إلى العروبة تعصباً
معتدلاً باعتبار العرب قومه، والتنزيل جاء باللسان العربي المبين، وكان تعصبه
شديداً حين تلزم الشدة فقط، وظهر في حرصه الشديد على قومه، كما جاء بقوله تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة 128.
لهذا، كحان التعصب القومي الذي يظهر
في الحرص الشديد من الإنسان على قومه تعصباً، ظهر أول ما ظهر عند محمد (ص) على
العرب وغيرهم. ثم وضح في سلوك الصحابة بعد النبي (ص) حين فرض عمر بن الخطاب ضرائب
مزدوجة على بني تغلب، العرب المسيحيين(5)، ليدخلهم في الإسلام بدافع من
حرصه الشديد عليهم كعرب، ليأخذوا دوراً رائداً في بنية الدولة الإسلامية.
ولهذا، فنحن نعتبر القومية العربية
خامة الإسلام الأولى، والتعصب لها تعصب مشروع من باب الحرص عليها، ونعتقد أنه لا
تناقض بين العروبة والإسلام، إذ جاءت آية سورة التوبة لتصهرهما في آخرها صهراً
مباشراً في قوله تعالى: {… بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
من هنا كان للقومية وجود مادي موضوعي، اعتبرها الإسلام الخامة الأساسية، لكون
الإسلام مبادئ إنسانية (نظرة إلى الحياة والكون والإنسان) جاءت للعرب ولغير العرب،
إلا أنّ تطبيقه الأول (العملي والتاريخي) كان على العرب. ومن هنا جاء هذا الصهر
المباشر بينهما، فالإسلام دين أممي تم تطبيقه على خامة قومية هي (القومية
العربية).
وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم الالتباس،
مثلاً، فيما يسمى بالحجاب الشرعي، من حيث هو تعصب للعروبة في القرن السابع لا
للإسلام. أي أنه تعصب لزي المرأة العربية في القرن السابع، يعبر عن عصبية (عروبة)
لا عن سلوك إسلامي (أممي)، صالح لكل قوميات أهل الأرض في كل زمان ومكان.
وهنا لا بد لي من التذكير بأن للعروبة
أيضاً مفهوماً معاصراً، فهل يجب علينا كلما ذكرنا القومية العربية والعروبة، أن
ننظر إلى الوراء دائماً؟ أي: هل من الواجب ضرورة، عندما نضع العروبة على خشبة
المسرح، أن يكون الممثلون امرؤ القيس وعنترة وزهير وعمر والصحابة من قريش
والأنصار؟ بمعنى آخر، ما هو التعصب الواعي للقومية العربية (العروبة) في القرن
العشرين؟ بما أن السنة النبوية أظهرت الإسلام على أرض الواقع في شبه جزيرة العرب
في القرن السابع الميلادي (أي قومية عربية + إسلام) وكانت الثمرة الأولى هذه
الانطلاقة الجبارة، ألا يمكن أن تكون ثمة قومية عربية (عروبة + إسلام) في القرن
العشرين، وتكون هناك ثمرة أخرى ناضجة وفعالة؟
إنه لمن الممكن، بقراءة معاصرة، أن
نفهم الكتاب والقرآن في القرن العشرين (النبوة والرسالة)، أفلا يمكن أن نصوغ
مفاهيم حديثة فيها التقطع والاستمرار، التقطع في المفاهيم والطروحات القومية
والتعصب والاستمرار في التاريخية؟ أعتقد أن ذلك ممكن، وأرى أن نعبر عن العروبة في
القرن العشرين بالتعصب للقومية العربية تعصباً معاصراً، بتعريب الثقافات ونقلها
إلى العربية، ليتاح للعرب قراءة كافة الثقافات الأخرى، وترجمة النتاج العربي خاصة
الأدبي إلى لغات حية أخرى، وتعريب الحاسوب الإلكتروني كلية، وتحديث الشعر والقصة
والمسرح وطرق التعبير، وتشجيع ثقافات ولغات الأقليات القومية في الوطن العربي،
وتشجيع ترجمتها إلى العربية، وتشجيع هذه الأقليات على الكتابة والتكلم بلغتها،
ليصبح التلاقح بينها وبين اللسان والأدب العربي فعالاً مثمراً، وإعادة النظر
جذرياً في طرق تدريس اللسان العربي، ووضع قواعد نحو وصرف جديدة، وعدم التحرج من
الاستعانة بمفردات غير عربية، كالتلفزيون والتلفون، وإدخالها إلى اللغة العربية،
بعد أن علَّمنا الله في التنزيل الحكيم أن استعارة مفردات لغة من لغة أخرى هو من
باب التأثير والتأثر المتبادل. وهذه من سنة الله في ألسن أهل الأرض.
وبهذا المجال لا بد من الاهتمام
بتطوير قواعد اللغة العربية، باعتبار أن التطور هو العمود الفقري للعقيدة
الإسلامية، وهو العمود الفقري للرسالات كلها، وقد بيّن سبحانه في آية النسخ كيف
تتطور الرسالات .. فهل يمكن تطبيق هذا القانون على قواعد اللغة العربية؟
لقد وهم الكثيرون، حين ظنوا أن التنزيل
الحكيم ثبتَ اللغة العربية ضمن إطار دائم أبدي، فنتج من وهمهم هذا، أن قانون تطور
الخلق شمل جميع لغات أهل الأرض، وتوقف في اللغة العربية، علماً أن قانون التطور
عام شامل.
وقد يقول قائل، بأن تطبيق قانون
التطور على اللغة العربية، يفصل بين اللغة وأهلها من جهة، وبين التنزيل الموحى
بلسان عربي مبين من جهة ثانية. ومن هذه النقطة بالذات، حصل الفصل بين النحو
والدلالة، ليصبح النحو عبئاً على العرب، غدا معه العرب أنفسهم يدرسونه كمن يدرس
الطب أو الفيزياء النووي، كما لو أنه ليس له أية علاقة بنمط تفكيرهم.
وقد قاد هذا الوهم، إلى وهم آخر عند
البعض، حين سعوا لتطوير اللغة العربية باتجاه اللغة العامية المحكية. ففي هذه
الحالة سيأتي يوم على العرب، لا يستطيعون فيه، بمعظمهم على الأقل، قراءة آي الذكر
الحكيم. فكيف نحل هذه المشكلة؟ بمعنى آخر، كيف نطور اللغة العربية، دون أن نخرج عن
اللسان العربي المبين، ودون أن يأتي يوم يسحبنا فيه مدّ التطور إلى حيث لا نعود
نفهم معه التنزيل الحكيم؟
هذا لا يمكن .. إلا إذا فهمنا أولاً،
أن التنزيل الحكيم نفسه قد طوّر اللغة العربية، بمعنى أنه نزل بلغة ليست هي لغة
الجاهلية وما قبل الإسلام، وضمن دلالتها ومدلولاتها حصراً. فلغة التنزيل ليست نفس
لغة الأدب الجاهلي، أي أن فهمنا للأدب الجاهلي كله شعراً وخطابة لا يعني أننا
فهمنا التنزيل الحكيم. إلا أننا نلاحظ أن التنزيل نفسه، أعطانا الاتجاهات التي
يمكن للسان العربي أن يتطور في هديها، ومنها الاتجاه من الأصعب إلى الأسهل.
من هذه الزاوية، فنحن نرى أن سيبويه
لم يضع قواعد اللغة العربية، كما يتوهم البعض، بل قام بمجرد توصيف العربية، كما
كانت في زمانه، وقبل زمانه. أي أنه قام بعملية جرد إحصائي لمخزون اللغة العربية
المتراكم حتى عصره، ثم قام بتبويب وضم وتجميع المواضيع المتشابهة بعضها مع بعض،
فخلص بعد ذلك كله إلى قواعد يندرج تحتها (معظم) الكلام العربي، وترك الأخذ بما لم
يندرج، معتبراً أنه من الشواذ، أو من الغريب.
ولما كان التنزيل الحكيم، على رأس
كلام العرب، الذي تم وضع القواعد في هديه، فقد ظهر معظمه تحت هذا التقعيد، وظل
بعضه خارجه، وبقيت هناك حالات شاذة، كتب فيها أهل التعقيد الكثير من المجلدات
لتبريرها، لكنها بقيت عندهم في المحصلة شاذة، أي شاذة عن قواعد سيبويه!!
وانظر في قوله تعالى:
– {هذان
خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نارٍ يُصب من فوق رؤوسهم
الحميم} الحج 19.
– {وهل أتاك
نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان
بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا
أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب}
ص21، 22، 23.
– {ولقد
أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون}
النمل 45.
نجد أن الضمائر بصيغة المثنى (خصمان –
خصمان – فريقان) والأفعال بصيغة الجمع (اختصموا – ربهم – الذين – كفروا – لهم –
رؤوسهم – تسوروا – دخلوا – منهم – قالوا – بيننا – واهدنا) وفي هذا كله خلاف
لتعقيد سيبويه.
لكن آيات التنزيل، كما هو واضح
أمامنا، تدلنا على أننا نستطيع:
1 – حذف صيغة المثنى في الأفعال،
وتبقى صيغة المفرد والجمع.
2 – لإبقاء على صيغة المثنى في
الأسماء، وأسماء الإشارة، وجواز الإبقاء عليها في الأسماء الموصولة.
3 – الغاء صيغة المثنى من الضمائر،
كما في قوله: {ربهم} عوضاً من ربهما.
واسمع معي قوله تعالى:
– {لكن
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر، أولئك سنؤتيهم
أجراً عظيماً} النساء 162.
– {يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً .. }
الممتحنة 12.
ونحن في آية النساء أمام واو عطف تعطف
المنصوب(6)، {المقيمين الصلاة} على
المرفوع {الراسخون}. ونحن في آية الممتحنة أمام
فعل ماض {جاءك} عائده مفرد مذكر غائب، وأمام فاعل
للفعل {المؤمنات} جمع مؤنث سالم. وهذا كله مرة
أخرى مخالف لتعقيد سيبويه، ولو جاء به أحد طلاب الثانوية في امتحان اللغة العربية،
لنال عليه صفراً ثلاثياً من الدرجة الأولى.
ونلاحظ أخيراً أن صيغة المثنى في
اللغة العربية، موجودة في المخاطب والغائب، (أنتما، هما)، لكنها غير موجودة في
المتكلم، فإلى أي مدى نستطيع أن نجعل من هذه الملاحظات أساساً لتطوير يسهّل
العربية على العرب، وتقعيد العربية عليهم، ضمن إطار التنزيل الحكيم، وأن نعبرها
إشارات خضراء، أقامتها لنا الله سبحانه في تنزيله، دليلاً وهداية ورشداً، نحو
تطوير النحو العربي ..
إننا إذ نأمل من أهل الذكر، وهم هنا
علماء اللغة واللسانيات، أن يتدبروا قولنا هذا، بعيداً عن قدسية المأثور من الأطر
القواعدية، وبعيداً عن العبادة الآبائية، وعن التعصب الذميم لما وجدنا عليه
آباءنا، نرجو ألا يكون ردهم في المحصلة، إقفال الطريق على من يود أن يتجاوز
سيبويه، دون أن يتجاوز التنزيل الحكيم، وألا يقولوا أن الأصل هو قواعد سيبويه، وما
نراه في التنزيل مجرد حالات شاذة، علماً بأن عدد هذه الحالات الشاذة في التنزيل
الحكيم غير قليل!! وبهذا نكون قد وضعنا أيدينا على أحد معاني {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وعلى أن الله أعطانا خط
تطور اللغة العربية مع مصداقية قوله تعالى: {إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وعلى مصداقية أن قانون التطور يسري على كل
شيء بما فيه اللسان العربي المبين الذي صيغ به التنزيل الحكيم. وأن التنزيل الحكيم
حوى مراحل تطور اللسان العربي السابقة وأعطى خطوطاً لمراحل تطوره اللاحقة والله
الموفق.
(1) انظر سورة الأعراف الآيات
(59، 60، 61، 65، 66، 72، 75، 79، 80، 85).
(2) لمزيد من الإفاضة، راجع
“الخصائص” لابن جني. و “العبقرية العربية في لسانها” لزكي الأرسوزي / المجموعة
الكاملة المجلد الأول، ص71 – 82، مطابع الإدارة السياسية 1972.
(3) ذكره القاضي عياض في
“الشفاء” وروى نحوه الطبراني مرفوعاً.
(4) راجع كتابنا “الكتاب
والقرآن قراءة معاصرة”، ص103 – 111.
(5) انظر “العرب النصارى”،
حسين العودات، دار الأهالي.
(6) أوجد الإمام السيوطي في
الدر المنثور “تخريجه” لها، فقال: هي منصوبة على المدح .. ونحن نقول: لا محل لهذه
التخريجة فالمؤمنون في الآية أجدر من مقيمي الصلاة بالمدح.
الفصل الرابع: الشعب
كيف ارتبط مفهوم الشعب، كمنظومة
سياسية، تحتوي بنية اجتماعية اقتصادية، بمفهوم الوطن والوطنية، وكيف أن القومية
(القوم) والأممية (الأمة) تختلفان عن مفهوم الوطن، المرتبط بتشكيل الشعوب
والقبائل؟ لا بد للإجابة على هذا، من شرح كيف عبرت قوانين الجدل، بما فيها جدل
الإنسان، عن نفسها في تشكيل الشعوب.
لقد رأينا كيف بدأ التجمع الإنساني
بالابتعاد عن المملكة الحيوانية، بوعي الأولاد بعد النضوج الجنسي للوالدين، وبوعي
الوالدين للأولاد، وكان هذا الوعي موجوداً في مجتمع نوح، أي في بداية الإنسان
الحديث، وكيف كانت آية محرمات النكاح هي المفتاح في تطور الأسرة وتشكلها، وكيف
كانت الأم أول المحرمات، وبها تشكل مجتمع الأمومة، ثم البنت مع الانتقال إلى مجتمع
الذكورة، ثم الأخت لتكتمل الحلقة الأساسية للأسرة، ثم تبعتها العمة والخالة وبنت
الأخ وبنت الأخت، فاتسعت بذلك دائرة الأسرة الأولية، لتشكل العشيرة مع أسر أولية
أخرى، ثم اتسع مجال العشيرة بانضمام عدة عشائر لها صلات قربى لتشكل القبلية، ثم انتسب
أناس غرباء هاربين من أماكن أخرى إلى القبيلة للحماية، فكانوا الموالي، وكانوا
مواطنين من الدرجة الثانية.
كان مكان عيش العشيرة، ومن بعدها
القبيلة، هو المجال الحيوي، الذي دفع أفراد القبيلة لتتحد من أجله، وتدافع عنه في
أيام الحروب والقحط، كما في جزيرة العرب، وفي أماكن فساد الدورة الزراعية بسبب سوء
استعمال الأرض. وكانت الهجرات تحصل بسبب هذين العاملين (الحروب وبوار الأرض)،
فتسبب حروباً طاحنة بين السكان الأصليين والمهاجرين، وكان الدفاع عن المجال الحيوي
هو السبب الكامن وراء تشكل العبيد والعبودية والإماء، وبيع الناس كالسلع، وكان ذلك
بعد تذليل الأنعام واكتشاف الزراعة والبناء، حيث كان الناس بحاجة إلى يد عاملة
مجانية لا تقدر أن تدافع عن نفسها، إذ كان الخيار بعد العبودية أو القتل. هكذا
تشكلت الشعوب والحضارات القديمة في الأماكن الخصبة (أرض زراعية، مياه، حرارة) كما
في وادي النيل وما بين النهرين وحضارات الصين والهند. وذلك حسب الترتيب التالي:
1
|
القبيلة
(القومية)
|
←
|
الدولة
(نظام سياسي واقتصادي على أرض المجال الحيوي، الوطن)
|
2
|
القبيلة
(القومية)
|
←
|
الدولة
(نظام سياسي واقتصادي على أرض المجال الحيوي، الوطن)
|
3
|
القبائل + عبيد
(من قوميات أخرى أو من نفس القومية)
|
←
|
الدولة
(نظام سياسي واقتصادي على أرض المجال الحيوي، الوطن)
|
4
|
الشعب
(قوميات مختلفة يمكن أن تحوي أمماً مختلفة)
|
←
|
الدولة
(نظام سياسي واقتصادي على أرض الوطن، كالهند وأمريكا)
|
5
|
الشعب
(قومية واحدة يمكن أن تحوي أمة أو أمماً مختلفة)
|
←
|
الدولة
(نظام سياسي واقتصادي على أرض المجال الحيوي، كاليابان)
|
من هذا التطور التاريخي نشأت العبودية
والعلاقات الاقتصادية البدائية، وكان الغزو من أسرة إلى أخرى أو عشيرة إلى أخرى أو
قبيلة إلى أخرى، لتوسيع المجال الحيوي، أو للاستبدال بمجال حيوي آخر أكثر خصوبة،
مما كان يستدعي قتل المهزوم لتوفير الغذاء للمنتصر، ثم انتقل القتل إلى العبودية.
أي أن ظهور العبودية كان تطوراً إيجابياً من الناحية التاريخية، حلت فيه العبودية محل
القتل الجماعي أو الفردي.
إلا أن القتل بدأ عند ظهور الملامح
الأولى للأسرة (وعي الأم) بقتل الأولاد لتوفير الغذاء، وهي ظاهرة بهيمية صرفة، لذا
جاءت الوصية الثالثة في الفرقان بعد الوالدين، بعدم قتل الولد بسبب قلة الغذاء، في
قوله تعالى: {… ولا تقتلوا أولادكم من إملاق ..} الأنعام
151 – ولاحظ كيف قال: {.. من إملاق..} أي أن قلة الغذاء موجودة. هذا من الناحية
التاريخية الصرفة، أي أن الوصية الثالثة كانت بتحريم القتل المباشر للولد، ثم
تطورت مع الزمن حتى أصبحت الآن تعني الإجهاض، فجاء تحريم قتل الولد قبل تحريم قتل
النفس، إذ لم يحرم الله قتل النفس إلا في رسالة موسى.
إن أول ما نلاحظه في المجتمعات
القديمة، هو خلوها من الثورات الداخلية الفعالة. فالثورات الداخلية لم تكن أبداً
سبباً في هلاك هذه الدول، كما لو أن قانون التناقضات الداخلي كان عاطلاً عن العمل،
أو غير موجود. أي أن أسباب القضاء على دول المجتمعات القديمة تكاد تكون كلها
خارجية. لكن قانون جدل الأضداد يظل يعمل في الظواهر الطبيعية وفي ظواهر المجتمعات
القديمة والحديثة، لكونه المعبّر عن القانونين الأساسيين للجدل المادي، ولجدل
الإنسان. ففيه يوجد الغني والفقير، والحرية والعبودية، التي هي وليدة هذين
القانونين، اللذين يعملان في المجتمعات منذ أن تشكلت.
فقانون صراع المتناقضات موجود في
الشيء الواحد، والشيء هنا هو المجتمع نفسه (الأسرة – العشيرة – القبيلة – الشعب)
أي التجمع الإنساني ذو العلاقات الواعية، التي تطورت مع الزمن. أما قانون الزوجية
(التأثير والتأثر المتبادل) فهو هنا في علاقة الأسرة بغيرها من الأسر، والعشيرة
بغيرها من العشائر، والقبيلة بغيرها من القبائل، وفي علاقة الشعب بغيره من الشعوب
(التكيف). هذه العلاقة التي تتجلى:
أ – إما في علاقة المجتمع مع الطبيعة
والظروف الطبيعية (أرض، مياه، صيد، ثروات، كوارث).
ب – أو في علاقة المجتمعات الإنسانية
بعضها مع بعض، أسر وعشائر وقبائل وشعوب.
وبدأت علاقة التكيف (قانون الزوجية –
التأثير والتأثر المتبادل) بعلاقة الإنسان مع الطبيعة وتكيفه معها، ولما كان
الإنسان جاهلاً بكثير من قوانين الطبيعة فقد فرضت الطبيعة نفسها عليه، بحيث أصبح
هو متكيفاً معها، قبل أن يستطيع تكييفها لصالحه. ثم أصبحت المعرفة بالقوانين
وأدوات الانتاج العامل الحاسم في هذه العلاقة، فانتقى الإنسان أماكن سهلة للعيش،
ثم اختار مجاله الحيوي، فانتقى الأماكن ذات الصيد الوفير والمياه غزيرة، وسكن
الكهوف للحماية، وفي هذا الوقت اكتشف النار، فأعطاه ذلك بعداً إضافياً في السيطرة
على الطبيعة، وعلى التجمعات الإنسانية الأخرى. وكانت وسائل الانتاج هي الأحجار
(العصر الحجري) ثم تطورت بتذليل الأنعام واكتشاف البناء (المدماك)، فاستقر في
مواطن الاستقرار (تربة زراعية – مياه – أنعام – حرارة + بناء). وتشكلت أول حضارة
إنسانية مستقرة للإنسان الحديث، وامتلك الإنسان لغة مجردة.
لقد شرحنا مفهوم الأمة ومصطلح القوم
كما جاء في التنزيل الحكيم، وأوردنا الآيات الشواهد في معرض التوضيح، وتعمدنا ألا
يرد مصطلح الشعب في البحث أو الشاهد رفعاً للالتباس. إلا أن مصطلح الشعب، ورد
بدوره في التنزيل الحكيم، كما في قوله تعالى: {انطلقوا
إلى ظل ذي ثلاث شعب} المرسلات 30.
الشعب جاءت في اللسان العربي من فعل
“شعب” وهو من أفعال الأضداد، ويعني التجمع والفرقة. وقد جاء بمعنى الفرقة في الآية
السابقة، ويأتي بنفس المعنى في قولنا “تشعّب الأمر”، أي تفرق إلى عدة نواح، وقد
يأتي بمعنى التجمع والفرقة كما في قوله تعالى: {يا أيها
الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند
الله أتقاكم إن الله عليم خبير} الحجرات 13، فأورد سبحانه هنا الشعوب والقبائل،
وأغفل الأمم والقوميات، لكنها جاءت متضمنة في الشعب والقبيلة.
فالشعب مجموعة من الناس {يا أيها الناس} العاقلين، وبالتالي فإن لهم لساناً، وينتسبون
لقومية أو قوميات، ولهم سلوك متماثل بالغرائز ومختلف بالثقافات. والشعب، من حيث
فيه أمة أو أمم، أعم من مفهوم الأمة والقومية لأنه يتضمنها معاً، ويحتوي، إضافة،
على معانٍ ليست موجودة في الأمة والقومية. ففي الخلق قال تعالى: {ذكر وأنثى} ثم
حصل تغير في صيرورة هذا التجمع (الناس) فأصبح شعوباً وقبائل على سلم التطور،
فكانوا أمة واحدة ثم أصبحوا أمماً. وكما بدأوا بتقليد أصوات الطبيعة والحيوانات
(لغة طبيعية)، فقد أصبحوا قوميات بعد أن امتلكوا لغة مجردة.
ولكي نفهم مفهوم الشعب، لا بد أن
نربطه بمفهوم متقدم جداً، هو النظام السياسي والاقتصادي. ولا بد من تحديد كيف
اجتمعت الفرقة والتجمع في مصطلح الشعب، وكيف احتوت الأمة (سلوك) على قوميات
مختلفة، وكيف يمكن للقومية (كأداة اتصال وتفكير) أن تحتوي على أمم مختلفة (ثقافات
مختلفة).
أما التجمع والفرقة، فقد جاء من أن
كيان الفرد موجود منفرد، ومحافظ عليه في الحرية الشخصية، ومن أن الكل يعيش ضمن
قوانين اجتماعية واقتصادية وحقوقية، وبالتالي، فهو يضم مجموعة من الناس بمختلف
ثقافاتهم (أمم) وباختلاف ألسنتهم (قوميات). من هذين المفهومين المتضادين في مصطلح
الشعب، ينتج الفرق بينه وبين المجتمع البهيمي، الذي تحكمه قوانين غريزية، ولا وجود
فيه للأنا، ذلك لأن الشعب، بالمفهوم الإنساني، مجموعة من الذوات المتعددة (الأنا)
المنفردة والمتميزة التي لا تنصهر في الكل، ولولا هذه الخاصية لأصبح الفرد مجرد
عدد في مجموعة، لا يتميز عن غيره كالبهائم تماماً.
أما في المعنى المقابل المضاد وهو
الجمع، فالشعب مجموعة من الذوات المتعددة المتميز بعضها عن بعض، تجمعها علاقات
واعية، وتربطها المصالح المشتركة التي يعبر عنها بالمنظومة التشريعية والقانونية،
على أرض هي المجال الحيوي تسمى الوطن، وينظم العلاقات بينها سلطة تسمى الدولة،
سيطرتها تشمل حدود الوطن.
أما أداة هذه العلاقة الواعية فهي
اللغة، لأنها أداة تفكير وأداة اتصال. ومن هنا نرى أن القومية عنصر أساسي مميز
مكون للأمة والشعب. وباختلاف الألسن تميز الناس إلى مجموعات على أساس اللغة
(القومية). فإذا وضعنا القومية، كأحد أسس بناء الدولة (الشعب)، نكون قد وضعنا
قانوناً موضوعياً استثمرناه في خدمة إنشاء الدولة.
لقد وضع القرآن القبيلة والشعب معاً،
ولم يضع القومية والشعب، أو الأمة والشعب، وذلك من باب التجانس. فالعرب كانوا
قبائل متعددة، مع أنهم من قومية واحدة. فالقبيلة تضم عدة عشائر، والعشيرة عدة أسر،
لها مجال حيوي تعيش فيه وتدافع عنه، وتتعدى عند الشح والأزمة الاقتصادية على مجال
قبيلة أخرى، فتحصل الحروب بين القبائل مع أنها جزء من قومية واحدة، لها رأس
ومدافعون وجهاز كامل بدائي، لكنه يعبر عن منظومة السلطة والمجال الحيوي لهذه
القبيلة ووطنها. وعندما تتحد مجموعة قبائل، طوعاً أو كرهاً، وتضم مجالاتها الحيوية
بعضها إلى بعض، فإنها تشكل شعباً يعيش في مجال حيوي له حدود هو الوطن، فالوطن
والشعب مرتبطان ارتباطاً عضوياً لا انفصام فيه، والقومية والأمة عنصران متضمنان (SUBSTRUCTURE) في مفهوم
الشعب.
كان العرب قبائل، بعث فيها النبي (ص)،
وأسس الدولة العربية الإسلامية في المدينة المنورة، فكل أرض شبه جزيرة العرب، التي
كانت تحت سيطرة الدولة، وعاصمتها المدينة المنورة، هي الوطن. وكل الذين يعيشون في
هذه الأرض تحت سيطرة هذه الدولة هم الشعب، بغض النظر عن قوميتهم وعن دينهم (قوميات
وأمم)، يعيشون في وطن واحد، له حدود واحدة، وفيه نظام اجتماعي واقتصادي وسياسي
واحد. والعلاقة التي تربط أفراد الشعب، بغض النظر عن أممهم وقومياتهم، هي علاقة
المصلحة المشتركة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، التي ينشأ عنها النظام السياسي
(الدولة).
إن علاقة الجدل بين الكل والأنا
(المجتمع والفرد) في التأثير والتأثر المتبادل، علاقة واضحة في مفهوم الشعب، فماذا
يحصل في حال حدوث خلل في هذه العلاقة الجدلية؟ هذا ما نراه في الأحكام الدكتاتورية
عندما تطغى الأنا الواحدة على الكل، وتصبح هي المفوضة عن الكل بالكلام واتخاذ
القرارات، ويصبح الكل في هذه الحالة مسخراً لأنا واحدة ولرغباتها. ولكن هذه الأنا
تبقى إنسانية {إنك ميتٌ وإنهم ميتون} الزمر 30 – وبما
أنه لا يوجد إلا أنا واحدة باقية، مسيطرة على هذا الوجود، هي الله، فالمجتمع يقع
في ظاهرة الشرك في أوضح صوره إلا إذا كانت هذه الأنا غير قابلة للموت، وهذا غير
ممكن، كما نراه في الظاهرة الفرعونية بادعاء الربوبية. فلكي تكون هذه الأنا مطاعة
الأوامر (الألوهية) يجب أن تتملك الدولة كلها بكل مقاليدها، ليصبح الشعب مجرد عدد
لا أكثر ولا أقل، مسخراً لهذه الأنا. وهنا نقع في شرك الألوهية والربوبية معاً.
أما إذا حصل العكس، وهو سيطرة الكل
على الأنا، كما نراه في كثير من الادعاءات حول سيطرة الكل وإلغاء الأنا، فهذا مجرد
ادعاؤء، لأنه غير قابل موضوعياً للتحقيق. والسبب هو الاستحالة الموضوعية في إزالة
الفرق بين الكل والأنا، حتى ولو طبقت كل وسائل القمع والإرهاب في سبيل هذا الشعار،
الذي قد يراه البعض جميلاً للوهلة الأولى، إلا أنه في الحقيقة رجوع إلى المملكة
الحيوانية (القطيع) لتساوي أفراده ولغياب الأنا فيه.
لكننا من خلال تطبيق هذا الشعار، نصل
إلى النتيجة الأولى، وهو سيطرة الفرد (الأنا)، أو مجموعة يرأسها فرد، على المجتمع،
فينتج لدينا نظام ديكتاتوري تتجلى فيه الظاهرة الفرعونية بأعلى صورها. (الربوبية
ثم الألوهية). أي أن هذه المجموعة التي يرأسها فرد (وغالباً ما يكون هذا الفرد ليس
الأول بين متساوين) لا بد أن تمتلك كل مقاليد الثروة (الاقتصاد) والحكم (الألوهية)
حتى تطاع بالقمع على أساس الملكية (الربوبية).
أما الحل الحقيقي لهذه المعضلة، بين
الأنا والكل، فهو في الوسط، وهو هنا ليس الانتهازية، بل الديموقراطية (الشورى).
الذي نفهمه على نسق ما نفهم المثال التالي: الكرم هو الوسط بين البخل والتبذير.
وكما نفهمه من قوله تعالى: {ولا تجعل يدك مغلولةً إلى
عنقك ولا تبسطها كل البسطِ فتقعد ملوماً محسوراً} الإسراء 29.
فإذا ما عدنا بعد ذلك كله، إلى الطرح
الحالي ضمن المفهوم الحاضر لمصطلح الشعب العربي، نجد أنه طرح خاطئ، فالشعب يحمل
مفهوم الدولة والنظام السياسي، ومع أن الوطن العربي فيه قومية واحدة عربية، وأمة
واحدة عربية، وأمة واحدة إسلامية، ثقافتها إسلامية، إلا أن فيه أكثر من عشرين
دولة، وبالتالي أكثر من عشرين شعباً، فنفهم أن الغاية الوحدوية هي تشكيل شعب عربي
(دولة واحدة) من خامة قومية، ومن منطلق أممي إسلامي معاصر.
من هنا نرى كيف فهمت السيرة النبوية
هذه المصطلحات. فقد بدأ النبي (ص) بطرحه الأممي في مكة (يا أيها الناس) من نظرة إلى
الكون والحياة والإنسان موجهة إلى كل الناس على الأرض، لكن الممارسة اليومية لهذا
الطرح الأممي كانت مع العرب، في شبه جزيرة العرب. لذا كانت القومية العربية الخامة
الأولى للطرح الأممي الإسلامي، فكان المظهر الأول للإسلام مظهراً وقالباً عربياً.
وعندما توفي النبي (ص)، أصبحت الدولة الإسلامية دولة عاصمتها المدينة المنورة،
وحدودها شبه جزيرة العرب، بكل سكانها مسلمين وغير مسلمين، عرب وغير عرب، وأصبح
هؤلاء السان كلهم هم الشعب، وأصبح الشعب أعلى مستوى من التشكيل، حوى الأمة
والقومية والدولة والوطن في وحدة كاملة.
ولهذا نقول إن الممارسة الفعلية للنبي
(ص) كانت قمة الإنجازات في الطروحات الأممية والنشاط القومي. وعلى هذا الأساس،
نستطيع أن نقول إن ثمة شعباً واحداً في دولة واحدة، له ثقافة واحدة ولغة واحدة هو
الشعب الفرنسي، تندمج فيه مفاهيم الشعب والأمة والقومية معاً، ولو كان ذلك متوافراً
عند العرب، لاستطعنا تسميته الشعب العربي، لكنه غير متوفر حالياً. كما نستطيع أن
نقول إن ثمة شعباً واحداً، هو الشعب الأمريكي، فيه قوميات مختلفة، وأمم مختلفة،
على أرض وطن واحد، وفي دولة واحدة. وهذا بدوره غير متوفر حالياً للعرب.
إن ثمة اليوم ثقافة إسلامية، سائدة
عند مجموعة من الناس، غالبيتها تتكلم العربية، على رقعة من الأرض تسمى الوطن. ورغم
أن الأمة والثقافة واحدة، لسانها هو العربية، مع وجود قوميات أخرى، إلا أن القومية
العربية والعروبة، والقومية العربية والإسلام، لا تشكل دولة واحدة. ولهذا لا يوجد
شيء اسمه الشعب العربي، وإن وجد فليس أكثر من مشروع طموح للعرب لتحديد مستقبلهم
السياسي، ولإيجاد مكان فعال لهم في صنع الحضارة الإنسانية.
قوانين الجدل والوصايا
قلنا في حديثنا عن الشعب إن الجدل
بشقيه (الإنسان – الطبيعة) و(الإنسان – الإنسان) هو المسيطر على تطور المجتمعات.
وقلنا إن أسباب القضاء على المجتمعات القديمة تكاد تكون كلها خارجية، كما لو كان
قانون التناقضات الداخلي عاطلاً عن العمل، لكننا أضفنا أن قانون جدل الأضداد بشقيه
يبقى موجوداً ويعمل. والأمر أشبه بمريض مصاب بجملة أمراض أدّى أحدها، ربما لأنه
أقواها، إلى موته، لكن موته بهذا السبب لا يعني أبداً خلوه من الأمراض الأخرى.
وتأتي روعة القصص القرآني في تفصيلها
الوافي، لتؤكد ما نذهب إليه. ونبدأ مع ما بدأ به التنزيل الحكيم في قصصه، بقصة نوح
مع قومه. فكيف تم إهلاك قوم نوح؟ يقول تعالى: {قالوا يا
نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا…} هود 32 وهذا يدلنا على وجود تناقضات داخلية، تقوم
عليها القصة – الحادثة التاريخية، إلا أنها كنهاية تنتهي بالطوفان (كارثة طبيعية).
ثم تأتي قصة هود: لنراها تقوم بدورها
على جدل داخلي، كما يدلنا قوله تعالى: {.. أتجادلونني في
أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ..} الأعراف 71. لكنها تنتهي بجدل خارجي، إذ يتم
إهلاك المشركين ليس بثورة المؤمنين عليهم، وإنما بريح عاتية (كارثة طبيعية).
ولبيان أن قوم هود كانوا واعين لكارثة قوم نوح، أنهم شيدوا الأبنية في الأماكن
المرتفعة، كما في قوله تعالى: {أتبنون بكل ريعٍ آية تعبثون * وتتخذون مصانع لعلكم
تخلدون} الشعراء 128 و129، ثم ربط البناء بالأنعام في الفترة الواقعة بين نوح وهود
في قوله تعالى: {واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعامٍ وبنين} الشعراء 132
– 133. وذلك لقناعة قوم هود بأن الطوفان لا يؤثر على الأماكن المرتفعة، فأرسل الله
ريحاً تؤثر على الأماكن العالية أكثر من الأماكن المنخفضة {عذاباً نكرا} أي هلاكاً
لم يعهدوه من قبل.
ثم يأتي صالح وقوم ثمود، فكان الجدل
الداخلي بينه وبين قومه حول التوحيد والظلم، لكن القصة تنتهي بكارثة طبيعية
(الصيحة، الرجفة). وتأتي بعدها قصة شعيب، فيقوم الجدل الداخلي حول بخس الناس
بأشياءهم وعدم الوفاء بالكيل والميزان (لاحظ تقدم العلاقات الاقتصادية وتبادل
السلع منذ شعيب، بوجود الكيل والميزان، وبوجود تقييم لما يملكه الناس)، ثم تنتهي
القصة بإهلاك القوم بكارثة طبيعية.
ونقف بعد ذلك كله، أمام قصة موسى،
التي تقوم على جدل داخلي بين فرعون وعبودية بني إسرائيل، ويقود موسى وهارون تخليص
بني إسرائيل من الفراعنة (جدل داخلي)، ولكن إهلاك القوم، ينتهي أيضاً بالغرق (جدل
خارجي – كارثة طبيعية).
فإذا استعرضنا التاريخ القديم، لا نجد
فيه دولة قضي عليها بثورات داخلية، إذ أن هذا القانون يكمن في تحريك المجتمع، وفي
ظهور دعوات وحركات تنتهي بالجدل الخارجي المباشر (كارثة طبيعية) أو بهلاك للدولة
على يد عدو خارجي (الحثيثون – الكلدانيون – الكنعانيون – الآشيوريون – اليونان –
الرومان) وذلك لعجز الإنسان عن امتلاك أداة التغيير. صحيح أنه ظهرت بعض حركات
التغيير العفوية ضد العلاقات السائدة في بعض المجتمعات القديمة، ولكنها فشلت (ثورة
سبارتاكوس في الإمبراطورية الرومانية).
حتى جاء الإسلام، فغلب فيه الجدل
الداخلي الجدل الخارجي (علاقات تأثير وتأثر متبادل) لأول مرة، وتم تغيير المجتمع
العبي من الداخل (ثورة داخلية) لا من الخارج، ولا بكارثة طبيعية. وهذا ما يميز
محمد (ص) عمن قبله من الأنبياء كدعوة ومنهاج وعمل، تم بموجبه تغيير المجتمع
وعلاقاته، وتم تحرير البلدان المجاورة، طبقاً لقانون صراع المتناقضات الداخلي لا
لقانون الجدل الخارجي. أي أن الإسلام مر بمرحلتين أساسيتين:
1 – مرحلة تناقضات داخلية، تمت في عهد
النبي (ص) بتوحيد شبه جزيرة العرب في دولة واحدة عاصمتها يثرب، وبداية تحويل
القبائل إلى شعب.
2 – مرحلة التأثير والتأثير المتبادل،
تمت بعد النبي (ص)، وتجلت في الفتوحات العربية الإسلامية الكبرى (بلاد الشام – مصر
– العراق – شمال أفريقيا) علماً بأن قانون التناقضات الداخلي عمل في المرحلة
الثانية.
ولقد كان قانون التناقضات الداخلي
السبب الكامن وراء حروب الردة، ومعركة الجمل، ومعركة صفين، حتى تأسيس الدولة
الأموية، التي تجلّت التناقضات فيها بـ (عرب – موالي) و(غني – فقير) و(قوي –
ضعيف)، فتولدت حركة المعارضة السرية بقيادة أبناء علي وأحفاده، ثم الثورة
العباسية، التي كانت ثورة بكل الأبعاد، لعب فيها تناقض (العرب – الموالي) و(الغني
– الفقير) الدور الرئيس بالقضاء على الأمويين، كما كان هذا القانون هو السبب
الكامن في ظهور المذاهب الإسلامية، وأسلوب الحكم، وشكل الدولة، وصلاحياتها(1).
أما فيما يتعلق بجدل (الإنسان –
الطبيعة) فقد انعكس في النبوات والرسالات، النبوات في تطور المعارف، والرسالات في
تطور التشريع والقيم الأخلاقية للمجتمع، كان فيه النبي هو البديل للعراف والمنجم
(الجانب المعرفي)، وكان الرسول هو البديل للكهنة على صعيد التوحيد، وما ينجم عن
ذلك من قيم أخلاقية وتشريع حسب تطور المجتمع.
كان التوحيد القاسم المشترك بين كل
الأنبياء والرسل (ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك
ولتكونن من الخاسرين} الزمر 65 وجاءت الوصية الأولى من الفرقان في قوله تعالى: {… ألا تشركوا به شيئاً ..} الأنعام 151، لبيان أهمية التوحيد
(قانون التطور ونفي النفي، وتغير صيرورة كل شيء ما عدا الله)، ولبيان أهميته
التاريخية أيضاً، لكونه جاء على رأس الوصايا كلها.
إننا نرى في تسلسل الوصايا، أهمية
تاريخية يجب الوقوف عندها، ونرى في تسلسل المعارف كما وردت عند الأنبياء، أهمية
تاريخية تشرح لنا بالتفصيل تطور هذه المعارف في المجتمعات القديمة، كما نرى في
تسلسل الرسالات كما جاء بها الرسل، أهمية تاريخية لتطور التشريع والأحكام والقيم
الأخلاقية. أما المعارف في النبوات، فنراها عند نوح في الفلك (اجتياز العوائق
المائية) وفي التبشير بالبنيان، ونراها عند هود في تذليل الأنعام وربطه بالبنيان،
ونراها عند شعيب في الكيل والميزان وأسس تقييم الأشياء.
أما التشريع والأحكام في الرسالات،
فنراه في التوحيد عند نوح وعند جميع من لحقه من أنبياء ورسل. وفي بر الوالدين وعدم
قتل الولد عند نوح، وبالوفاء في الكيل والميزان عند شعيب، وظهور مفهوم الفاحشة في
اللواط عند لوط.
إن عظمة القصص القرآني، لا تقف عند حد
الترويج عن النفس، بل في هذا التسلسل التاريخي الطافح بدلالات تطور وتراكم المعارف
والتشريعات، وما فيها من أغراض تهم كل المجتمعات الإنسانية، كقصة أهل الكهل، وذي
القرنين، وموسى والعبد الصالح، التي سنعرض لها بالشرح لاحقاً.قد جاءت الوصايا في
ثلاث آيات من سورة الأنعام، خمس في الآية 151، وأربع في الآية 152، والعاشرة في
الآية 153. حيث نجد التسلسل في الآيات يسير من المشخص في العلاقات الاجتماعية، إلى
المجرد. كما نرى الآية 153 تدمج المشخص (علاقات أخلاقية لمجتمعات بدائية) مع
المجرد (علاقات أخلاقية لمجتمعات متحضرة). أما الوصايا الخمس الأولى في الآية 151
فهي:
1 – {ألا
تشركوا به شيئاً}.
2 – {وبالوالدين
إحساناً}.
3 – {ولا
تقتلوا أولادكم من إملاق}.
4 – {ولا
تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن}.
5 – {ولا
تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}.
ونرى أن لها علاقة مباشرة بالمجتمعات
القديمة، وظلت سارية المفعول حتى المجتمعات الحديثة، وستبقى سارية إلى قيام الساعة.
أما الوصايا الأربع التي تليها في
الآية 152 فهي:
6 – {ولا
تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده}:
وهذه الوصية، لا يمكن أن تكون سارية
المفعول، إلا إذا كان هناك قانون أخلاقي وتشريعي قبلها، وهو تحريم قتل الولد لسبب
اقتصادي، وتحريم قتل النفس إلا بالحق. فالمجتمع الذي لا يعني بقتل الولد والنفس،
أولى به ألا يعني برعاية اليتيم والحفاظ على ماله. وهذا يدل على علوٍ في سلم
الحضارة الإنسانية للمجتمع، أي على رقي في العلاقات المجردة (الروحية).
7 – {وأوفوا
الكيل والميزان بالقسط}:
وتدل هذه الوصية على تقدم العلاقات
الإنتاجية، وتبادل السلع، التي تحتاج إلى قانون أخلاقي هو الوفاء بالكيل والميزان.
8 – {وإذا
قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى}:
هذه الوصية تحتاج إلى تجريد ورقي في
العلاقة الاجتماعية والسلم الحضاري، مما يستدعي بالإنسان أن يشهد ضد أخيه أو والده
أو ابنه، وتدل على تجاوز عصبية الأسرة والعشيرة والقبلية.
9 – {وبعهد
الله أوفوا}:
وتحتاج هذه الوصية لتطبيقها إلى رقي
أكبر في المستوى الحضاري، هو الالتزام الشخصي باليمين أو ما يسمى باليمين
القانونية أو الدستورية أو القضائية أو المهنية، حيث يقف الإنسان أحياناً ضد
رغباته الشخصية البحتة.
كما نرى أن الوصايا من 6 – 9 شائعة في
الدول المتحضرة المتقدمة، أكثر بكثير منها في الدول المتخلفة، حيث نجدها ضعيفة
التأثير جداً في العلاقات الاجتماعية وفي السلوك الشخصي (الضمير الاجتماعي والضمير
الفردي). أي أنه ما زالت هناك مجتمعات إنسانية لم ترق إلى مستوى هذه الوصايا حتى
يومنا هذا، ولهذا انتهت الآية 152 بقوله تعالى: {لعلكم
تذكرون}، أي من باب التذكير والتأكيد لكونها وصايا يمكن أن تنسى. أما الآية 151
قبلها فانتهت بقوله: {لعلكم تعقلون} لأنها تدخل في العقل قبل الضمير.
ثم تأتي الوصية العاشرة {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ..} منفردة في الآية 153،
لتشي إلى أن الصراط المستقيم هو في اتباع الوصايا التسع، وتطبيقها كاملة غير
منقوصة، ولتبين أنها تشكل الهيكل الأخلاقي الأساسي النهائي لأمم الأرض، بغض النظر
عن ثقافاتها وعباداتها، إلى أن تقوم الساعة.
العدل الإنساني والعدل
الإلهي
تعتبر قصة موسى والعبد الصالح كما
جاءت في سـورة الكهف، من أكثر القصص خطورة إذا أسيء فهمها، لأنها توقع الإنسان في
الأوهام والفوضى الفكرية والاجتماعية إذا تم فهمها سطحياً، فهي لم تأت للتسلية
والتطمين، كما ذهب بعض المفسرين، أو كما فهمها بعض المتصوفة المشعوذين، واستنتجوا
منها علماً أطلقوا عليه مصطلح (العلم اللدني) حسب زعمهم، من قوله تعالى: {فوجدا عبداً من عبادنا آتيناه رحمةً من عندنا وعلمناه من لدنا
علماً} الكهف 65، بل لتعلمنا كيف نتصرف ونسلك تجاه القوانين الكونية والاجتماعية،
بالأمثال والشواهد التي ساقها الله لنا، كما في قوله تعالى: {ولقد صرفنا في هذا
القرآن للناس من كل مثل ..} الكهف 54.
من هذه الزاوية، زاوية أن نتعلم من
الأمثال في القصص القرآني، ننظر في قصة موسى والعبد الصالح كما وردت في التنزيل
الحكيم، أما إطلاق اسم “الخضر” على العبد الصالح، والادعاء بأنه حي دائماً، ووصفه
بصفات أدونيس وعشتار، وربطه في أخبار القديسين بسيرجيوس وجاورجيوس قاتل التنين،
مما لم يرد له أي خبر في الذكر الحكيم، فلا محل له عندنا.
لقد وقعت أحداث القصة منذ 3000 عام
على الأقل، وما زالت وستبقى، درساً في الفرق بين التشريعات البشرية الإنسانية
لتحقيق العدل الإنساني، وفي التشريعات الإلهية الموحاة لتحقيق العدل الإلهي.
فالإنسان وضع التشريع للأفراد لينظم حياتهم بعضهم مع بعض، وللجماعات لبناء الدول،
فالمجتمعات تقوم على التشريعات، وهذه التشريعات لها محدودية التنظيم الاجتماعي
بحيث لا يمكن أن تغطي علاقة كل فرد على حده مع الآخر.
وقد مثّل هذا الطرف موسى عليه السلام،
كرسول يحمل رسالة تشريعية، ورغم أن فيها شمولية اجتماعية وإنسانية لا يمكن لأي
مجتمع التنازل عنها وإلا فإنه سيدمر نفسه بنفسه، إلا أنها لا تحتوي على العدل
الإلهي المطلق، حتى ولو كانت تشريعات إلهية، بل تنظم طريقة التعامل بين الإنسان
وأخيه الإنسان، وتنظم علاقة مجموعات من الناس بعضهم ببعض، تماماً كما تنظمها
التشريعات والقوانين الإنسانية.
فتطبيق العدالة أمر نسبي يتم طبقاً
للبينات المتوفرة، أي أننا لا نستطيع كمجتمع أن نطبق عقوبة الجلد على الزاني، إلا
إذا توفرت البينات المطلوبة لإقامة الحد. وكذلك لا نستطيع أن نطبق عقوبة القتل على
القاتل، إلا إذا توفرت البينات المادية فعلاً. لذا فإننا حين نقول بأن الشرائع
السماوية والإنسانية لا يمكن تطبيقها بدون بينات، نقول بأن هذه الشرائع تحمل العدالة
النسبية في التطبيق، وتحمل الشمول لتطبيقها على مجموعة من الناس، ولا تحمل العدالة
الفردية لكل إنسان على حده.
وبما أن التشريع الإلهي الموحى
والقانون الإنساني الموضوع يحملان صفة الشمول الاجتماعي والعدالة الاجتماعية
الكلية لا الفردية، ويحتاج تطبيقها إلى بينات موضوعية، أي إلى شروط ظرفية وبينات
مقدمة تبرهن على أن هذا حصل فعلاً لا افتراضاً، فإن دور التشريع بعد ذلك يأتي
ليقوم بمهمته. فما هو إذن الميزان الذي يطبق العدالة المطلقة لكل فرد على حده،
ويعطيه حقه، أو يقتص منه عندما يعجز الدليل عن تقديم بينات لتطبيق التشريع؟
هذا الميزان هو العدالة الإلهية
المطلقة، التي تعمل خارج التشريع والقانون، والتي لا يمكن لأي إنسان أو مجتمع أن
يحيط بها وبظروفها. هنا يجب أن نميز بين مصطلحين هامين يتعلقان بالعدل الإلهي
المطلق، فالعدل من صفات الله وأسمائه الحسنى، وهو أزلي، أما تطبيقه فهو تطبيق
نسبي، منسوب إلى الظروف التي يتم بها هذا العدل المطلق، ويدخل تحت إرادة الله
الظرفية، أي لها علاقة بظروف كل فرد على حده، وعلاقته ببيئته ومحيطه. وبدون هذا
التفريق نقع في أن الله كتب منذ الأزل على الإنسان كل شاردة وواردة، وأن الإنسان
دون إرادة نهائياً، تارة تحت اليأس، وتارة أخرى تحت التسليم المطلق. أما إذا فهمنا
أن العدل الإلهي المطلق أزلي، منسوب تطبيقياً لكل إنسان على حده في علاقته مع
ظروفه ومع الآخرين، فإن الأمور تتوضع في نصابها.
وهذا الجانب الآخر الذي يمثله العبد
الصالح هو الذي تنكشف لنا جزئياً بعض جوانبه أثناء سير حياتنا كأفراد أو مجموعات،
ولكي تتحقق العدالة في التشريع جاءت التشريعات الإلهية حدودية (حنيفية) لكي تحنف
نحو العدالة ما أمكن في كل حالة على حده، ولا يمكن أن تكون غير ذلك. أي هي تحقيق
إنساني لإرادة الله في الاقتراب من تحقيق العدل الكامل.
ولكي يفهم مغزى كلامي، أضرب الأمثلة
التالية:
1 – إذا قتل زيدٌ عمراً، وقال في
التحقيق أنه فعل ذلك لأن عمرواً بعد خمس سنوات سيخون بلده ويبيع أسرارها للعدو،
فلن يوجد محقق أو قاضٍ في كل الأرض يقبل هذا الكلام، حتى ولو كانت عقوبة الخائن
الإعدام، وسيحاكم زيد ويعدم أو يسجن كقاتل، مع احتمال أن ما قاله صحيح.
2 – إذا جاء زيد ليقتل عمرواً ودهسته
سيارة عندما وصل وشاهد عمرو حادثة الدهدس، وهو لا يدري أن الله أنقذه من القتل،
فسيحاول أن يقبض على سائق السيارة ويسلمه إلى الشرطة، لأنه دهس زيداً. أما إذا علم
أن المدهوس جاء ليقتله، فسيطلب من الشرطة أن يتركوا سائق السيارة، ولن تصدق الشرطة
روايته، حتى لو قدم البينات، وسيعاقب السائق لأن الدهس حصل فعلاً، والقتل لم يحصل
فعلاً.
3 – أراد إنسان أن يسافر بالطائرة،
وحصل معه طارئ فاتته معه الطائرة، فإنه سيحزن لهذا حزناً شديداً. فإذا علم بعد ذلك
أن الطائرة تحطمت، وقتل جميع ركابها، فسيأخذ موقفاً معاكساً، ويحمد الله على هذه
النعمة، ويشكر الطارئ الذي منعه من السفر بعد أن كان ناقماً عليه. ويورد بعض الناس
هذا المثال للدلالة على ثبات الأعمار وهذا غير صحيح.
قد يقول البعض إن هذه هي الصدفة، فيقع
في تناقض، لأن القانون والصدفة لا يتلقيان. فالصدفة موقف معرفي إنساني، أما في
الطبيعة فلا يوجد صدف، بل يوجد قوانين حتمية في الكليات وقوانين احتمالية في
الجزئيات، أي أن الحتمية هي اليقين في الكليات، والاحتمالية هي اليقين في الجزئيات.
وهكذا نفهم عدل الله المطلق اليقيني في الكليات، وكلية الإحتمالات في الجزئيات.
فالكلية موجودة في الكلي والجزئي، لكن القانون في الكلي صارم، وفي الجزئي احتمالي.
وهكذا نرى ملايين الاحتمالات في عدل الله المطلق في الجزئيات، أما كلية الاحتمالات
فمجموعها يساوي الواحد (الحتمية). وعلى هذا الأساس نشرح قصة موسى مع العبد الصالح.
يمثل موسى الشرائع والقوانين الكلية،
التي جاءت لتطبق على كل الناس بدون استثناء، وبغض النظر عن كل الاحتمالات التي
تحيط بكل فرد على حده، وبما أن عدد سكان الأرض 5 مليارات، وهناك آلاف الاحتمالات
لكل منهم في علاقته مع مجتمعه في المنزل والجيران والعمل، يصبح لدينا احتمالات لا
يمكن الإحاطة بها من خلال التشريع والقانون. من هنا نرى أن التشريع الإلهي
بالرسالات، والتشريع الإنساني بالقوانين جاء عاماً، بمعنى أنه لا يضع لكل احتمال
وظرف ولكل شخص على حده نصاً خاصاً به، وإلا احتجنا إلى آلاف مجلدات التشريع الإلهي
والوضعي، بحيث يعجز الإنسان عن مجرد قراءتها.
لهذا، أمرنا الله سبحانه في تشريعه أن
لا نتصرف إلا إذا حدثت الواقعة فعلاً، أو توافرت كل الظروف لحدوثها، وثبت يقيناً
أنها ستحدث. ولما كان هذا المنهج عاجزاً عن تحقيق العدالة المطلقة، بمفهومها
الاحتمالي، تأتي عدالة رب العالمين {والسماء رفعها ووضعه
الميزان} (الميزان الإلهي).
يمثل العبد الصالح العدل الإلهي، الذي
لا يحق للتشريع الإنساني أن يتدخل فيه لأنه عاجز عن ذلك، فإن تدخل فيه، أدى ذلك
حتماً إلى دمار المجتمع تدميراً كاملاً، وأرجعنا إلى قانون الغاب، لأن العدالة
الإلهية في قانون الغاب مطلقة، والغاب عبارة عن حيوانات بعلاقات غير واعية، تنطبق
عليها قوانين الطبيعة الربانية، وهذه القوانين لها صفة الموضوعية، فهي تحمل الصدق
والعدالة {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً لا مبدل لكلماته}.
وبما أن العلاقات الواعية لا تستطيع
أن تحيط بمليارات الاحتمالات، فقد وضع لها رب العالمين، ووضعنا لها قوانين سلوك
واعية، عامة التطبيق على كل الأفراد. من هنا قال موسى للعبد الصالح {.. هل أتبعك على أن تعلمني مما علمت رشدا} الكهف 66، فأجاب
العبد الصالح {.. إنك لن تستطيع معي صبراً * وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً}
الكهف 67 و68.
تبدأ القصة بالآية 66، حين يطلب موسى
من العبد الصالح المرافقة بهدف التعليم. فيجيبه في الآية 67، إنك لن تستطيع صبراً
على ما أقوم به، رغم أنك رسول. وسبب عدم الصبر كما تشرحه الآية 68 هو قلة الخبرة،
فعدم صبر الإنسان على شيء لا يعرفه سلوك طبيعي، والإنسان عدو ما يجهل حتى لو كان
رسولاً، وننتقل الآن مع الآية 71 إلى الحالة الأولى حالة السفينة {فانطلقا حتى إذا ركبا في السفينة خرقها قال أخرقتها لتغرق
أهلها لقد جئت شيئاً إمراً} فنرى فيها ثلاثة عناصر:
أ – ركوب السفينة.
ب – خرق السفينة.
جـ – استنكار موسى.
لقد استنكر موسى خرق السفينة لأنه
يخالف الشرائع، وهو كرسول لا يستطيع ولا يمكن أن يقبل بذلك. فالعدل الاجتماعي الذي
ينظم علاقة الإنسان مع المجتمع كلي ولا يقبل الاستثناءات. وموقف موسى هنا يمثل
موقف الدولة والقانون والقضاء. أما العبد الصالح الذي يمثل العدالة الإلهية
المطلقة في الجزئيات، فقد أفسد السفينة لإنقاذها من الحجز، ولكن ذلك أمر لا تستطيع
الشرائع والقوانين الوضعية أن تتدخل فيه، أو تأخذه بعين الاعتبار لجهلها به أولاً،
ولأنها تدمر نفسها بذلك ثانياً، علماً أننا إذا أخذناه من الناحية الاجتماعية نرى
العدالة الإلهية تعمل بشكل يومي مع كل الناس، فالبعض يسميها “الحظ السعيد” والبعض
يراها “صدفة” والبعض يراها جزئياً، ولا يستطيع استيعابها كلياً لكثرة عناصرها.
وتأتي الآية 74 لتقف بنا على الحالة
الثانية، حالة الغلام {فانطلقا حتى إذا لقيا غلاماً
فقتله قال اقتلت نفساً زكية بغير نفسٍ لقد جئت شيئاً نكراً}، ونرى مرة أخرى
العناصر الثلاثة:
أ – الغلام واللقاء به.
ب – قتل الغلام على يد العبد الصالح.
جـ – استنكار موسى.
لقد استنكر موسى قتل النفس بغير نفس
لأن كل الشرائع السماوية ابتداءً من موسى وكل الشرائع الأرضية جاءت بتحريمه في
قانون كلي. أما العبد الصالح فقد قتله لأن الشروط الموضوعية القائمة، وعلاقة
الغلام بوالديه وبالمجتمع ستوقع الغلام بالكفر، وسيسيء إلى والديه المؤمنين، حتى
يتمنيا لو أنه مات صغيراً. وقتل الغلام سلفاً تحقيق لأمنية سيضطر الوالدان
المؤمنان إلى طلبها من الله تعالى، وهذا حق لله تعالى وحده، وليس لأحد أبداً أن
يتخذ قراراً بذلك. وهذا ما نراه في المجتمعات اليوم، فالدولة بتشريعاتها تعاقب
القاتل بغض النظر عن أن المقتول سيكون مجرماً أو عاصياً أو خائناً أو غير ذلك.
من هنا كان موسى يمثل الدولة التي
تقوم بتنفيذ القانون على الناس سواسية، طبقاً للبينات المتوفرة، والبينات في
حالتنا هذه حصراً هي هل قتل الغلام أحداً أم لا، أي (النفس بالنفس) وتقف عند هذا
الحد. فقال: {أقتلت نفساً زكية بغير نفسٍ} وهذا يحصل
عندما يموت لإنسان طفل أو شاب عزيز عليه، فإن حدود الدولة (الشرع والقانون) تقف
فقط عند معرفة أن الوفاة حصلت نتيجة لحادث طبيعي ووفاة طبيعية، أي لا يوجد عزاء
لهم غير ذلك شاؤوا أم أبوا، فمن يقبل بالعدل الإلهي، يستطيع أن يتغلب على بلوائه،
ومن لا يقبل به يموت كمداً وحزناً.
ثم تأتي الآية 77 بالحالة الثالثة
والأخيرة، حالة الجدار {فانطلقا حتى إذا أتيا أهل قريةٍ
استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فوجدا فيها جداراً يريد أن ينقض فأقامه قال لو
شئت لاتخذت عليه أجراً} ونرى العناصر التالية الثلاثة:
أ – الجدار الآيل للسقوط.
ب – إصلاح الجدار بدون أجر.
جـ – استنكار موسى.
لقد استنكر موسى القيام بعمل دون أجر،
وهو قانون كلي ينظم العلاقات العامة للناس بعضهم مع بعض، وهذا ما تسعى إليه الدول
في شرائعها وقوانينها، فلا يحق لإنسان أن يستخدم إنساناً آخر بدون أجر، ضمن الحد
الأدنى للأجور. حتى ولو تبرع بذلك اعتبر ظاهرة غير طبيعية تخالف الشرائع والقوانين
الناظمة للمجتمعات. أما موقف العبد الصالح فقد جاء ليبين قانوناً إلهياً، بأن
الإنسان يؤجر ويثاب على العمل الصالح حتى في ذريته، فهنا الوالد ميت والأولاد
أيتام، ولا خوف من أن يرهق الأولاد الوالدين بكفرهم، أما في الحالة الثانية
فالغلام غير يتيم، فحفظ الله لهم الكنز دون مقابل (بناء الجدار بدون أجر) حتى إذا
بلغوا سن الرشد أخرجوا الكنز فانتفعوا به.
لقد رأينا أن الله سبحانه، في الحالات
الثلاث، رحيم بعباده، ولا يقبل الظلم من أحد على أحد، وعندما يعجز الإنسان كفرد عن
أن ينال حقوقه بنفسه، أو تعجز القوانين عن أن تحصل له حقوقه، فعليه أن يثق بعدل
الله سبحانه ورحمته، وعليه أن يثق بميزان رب العالمين الدقيق الذي لا يترك شاردة
ولا واردة.
لقد شمل عدل الله سبحانه، في الحالات
الثلاث، الأزمنة كلها. ففي حالة السفينة شمل عدل الله الزمن الحاضر، أي السفينة
موجودة والمساكين موجودون والملك موجود والخرق حصل فعلاً. وفي حالة الغلام شمل
العدل الحاضر والمستقبل بدون الماضي، فالأبوان المؤمنان موجودان، والغلام موجود،
والمستقبل هو الخشية من طغيان الغلام على الأبوين وإرهاقهما بالكفر. أما في حالة
الجدار، فقد ربط العدل الإلهي الحاضر بالماضي والمستقبل. فالمتوفى كان صالحاً
بالماضي، وبناء الجدار تمّ في الحاضر، واستخراج الكنز سيتم في المستقبل.
ونفهم، حين نلاحظ عدم وجود حالة تقتصر
على الماضي فقط، أن علينا أن نهتم بالحاضر، ثم بالحاضر والمستقبل، ثم بالماضي بعد
ربطه بالحاضر والنظر إلى المستقبل.
ونفهم أن لو وافق موسى ولو مرة واحدة
على عمل العبد الصالح، لنسف بذلك كل شرائع وقوانين الدنيا، ولزالت الدولة من
الوجود، وأعطى الحق لكل إنسان بأن يمثل العدل الإلهي فيما يفعل، ولقضى على بنية
الدولة الأساسية في التشريع في الكليات، أي مساواة الناس أمام التشريع والقانون،
ولسادت الظلامات تحت اسم العدل الإلهي الموجود فعلاً، ولقضى على حق كل إنسان
بالمطالبة بحقوقه الواضحة، وأعطى مجالاً لقبول الناس بكل شيء تحت شعار “هذا مكتوب
علينا” و”هذه إرادة الله”. ولكن موسى احتج، مما يعني أن الإنسان يجب أن يحتج على
الظلم، وعلى الأمور التي تخالف القوانين والشرائع.
إن عدم الاحتجاج على مخالفة الشرائع
والقوانين، أي اغفال جانب موسى، يوقع الناس بالفوضى والذكر، والظلم العلني،
والتدجيل والشعوذة. وإن عدم الثقة بالعدل الإلهي الذي يمثله العبد الصالح، يوقع
الناس في اليأس والقنوط. لقد سمى المتصوفة المغالون علم العبد الصالح بالعلم
اللدني، وقالوا بأنه من علوم أهل الله (العرفان) وأن الله يعطيه للأولياء، ونحن
نقول أن الله لو أعطى هذا العلم لأحد من هؤلاء، فهذا يعني أنه سمح له بتدمير
المجتمعات الإنسانية وتدمير الدول، ولقد ساهم من ادعى هذا العلم بتدمير مجتمعه.
لقد طرحوا العدل الإلهي تحت شعار (هذا
مكتوب عليكم) فحولوا الناس إلى أشباح تقبل الظلم بكل أنواعه ولا تحتج، وجعلوهم
يقبلون التصرفات الشاذة تحت شعار العلم اللدني الذي يحوزونه كما العبد الصالح، لكن
الله تعالى يقول في نهاية القصة بشكل لا لبس فيه، بأن ما فعله العبد الصالح كان
وحياً إليه من الله تعالى {.. وما فعلته عن أمرئ، ذلك
تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} الكهف 83، لقد انقطع الوحي نهائياً بعد الرسول
الأعظم، ولا يحق لأي إنسان أن يدعي ذلك تحت أي شعار.
لهذا، لا يجوز أن نقيس العدل الالهي
بمقاييس العدل الإنساني، وإلا كنا كمن يطبق قوانين نيوتن على مجالات ميكانيك الكم،
فيقع في تناقض، حيث لكل منظومة معرفية مجال توظيفها الخاص، وتأتي مصداقية التوظيف،
في طواعية القوانين لإرادتنا، أي في التسخير. وحين يطبق الإنسان مقاييس العدل
الإنساني على العدل الالهي، يصل إلى الاستنتاج بأن الله غير عادل.. سبحانه وتعالى
عما يقولون علواً كبيراً.
وهذا التناقض يقع فيه حتى المؤمنين
أنفسهم، ولكي يحلّوا هذا التناقض، يلجأون إلى “تخريجه”، هي أنه إذا مرض الإنسان،
فالمرض عقوبة له على الإساءة الفلانية في المكان الفلاني، أما وهو غير مسيء،
فالمرض ابتلاء وامتحان!! وكأن هم الله عقوبة الناس وابتلاءهم، وهذا من بقايا
الوثنية.
أما إذا طبقنا مقاييس العدل الإلهي
على العدل الإنساني، ينهار الشكل، وتعم الفوضى، وتبطل الحدود، ولا يبقى ثمة معنى
للثواب ولا للعقاب، وهذا هو سر قصة موسى والعبد الصالح في التنزيل كما نراه. ومن
هنا فنحن حين نناقش سلوك الصحابة، أو نستعرض للعبرة والتقييم أحداث تاريخهم، رضي
الله عنهم أجمعين، بمقاييس العدل الإنساني، فهذا حقنا، ولا نستطيع في واقع الأمر
أن ننظر إليهم إلا من منظور هذه المقاييس حصراً، لكن ذلك لا يعني أننا نحتج على
العدل الإلهي، وإذا كان هناك صحابي مبشر بالجنة (عدل إلهي) وانتقدناه، فهذا لا
يعني أبداً أننا نريد إرساله إلى النار، فالجنة والنار من اختصاص رب الجنة والنار،
وادخال الناس إلى إحداهما، يحصل بقرار منه وحده سبحانه، وليس من اختصاص أحد من
العالمين.
(1) انظر “العصبية القبلية”
للدكتور إحسان النص، حيث أسند الأسباب كلها إلى العصبية مغفلاً الجانب الاقتصادي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire