vendredi 9 mai 2014

المسيحية(1) بسم الآب والابن والروح القدس الآلة الواحد


ــابُ المسائِلَ وَالأجوبَة فهرس الكتاب
المحتويات
كتاب المسائل والأجوبة
الجزء الأول


المقالة الأولى: في تثبيت قدم الخالق ووحدانيته وإثبات حدوث العالم
93
وفيه ثمانية وعشرون مسألة
128
الفن الثاني: في تثبيت الإنجيل المقدس. وهو أربعة عشر مسألة
148
الفن الثالث: في تثبيت وحدانية الخالق بثلثه اقانيم. ع مسائل
178
[ المقالة الرابعة: في سبب تجسد الكلمة وما يتبعه، " في الاتحاد والموت والبعث. وهو إحدى وخمسون مسألة]

بسم الآب والابن والروح القدس الآلة الواحد
الجزء الأول من كتاب المسائل والأجوبة
تأليف عمار البصري في الاحتجاج لتصحيح وحدانية الباري وربوبيته، جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه وتعالى
وهو ثلثه مقالات
المقالة الأولى
في تثبيت قدم الخالق ووحدانيته وإثبات حدوث العالم
وهي ثمانية وعشرون مسألة
[ المقدمة](1)
// أدام الله لأمير المؤمنين بهاء العزّ وجماله، وأكمل له سناء الشرف وجلاله، واسبغ عليه توالي النعم، وبارك له في جزيل القسم، وتولاه فيما يحاول ويديّر ممّا أكرمه الله وقلّده من خلافته وسلطانه بنصره وتأييده، وأحسن في الأمور كلها توفيقه وتسديده.
فإن الذي الهم الله أمير المؤمنين ووفّقه له من العناية بأمر دين الله ولاجتهاد في تقويته وتصحيح معرفته وتثبيت الحجة على من جحد الردى بضلال عقولهم، حتى صار إلى بسط المسلمين في ذلك والجمْع بينهم والتصفح لأراضيهم والتميز لما يجري على سمعه من مخارج كلامهم ومعاني احتجاجاتهم بميزان عقله الذي فضّله الله به والموهبة التي أعطاه فيما خصّه به من براعة الفهم ولطافة العلم وعرّفه من الحق ودلّ عليه من طريق الصواب وأيّده من الرشد والتوفيق وجنّبه من ذلك سوءَ الرأي وزيغ الهوى، عدلاً وإنصافاً نصف ظلامتهم على صوابه إذا أصاب وبيردّه إلى أنهج سبله إذا حاد لينعش الله به العاثرين من عثرتهم ويستفيذ، بمعاناته ما يعاني به من ذلك، المتهورين في حيرة الضلال من حيرتهم، رغبةً منه في القربى إلى الله بذلك والحظوة عنده والاستجاب لجزيل ثوابه عليه-، بسطَ مثلي، مع لزوم الضعف لي واقراري بالعجز والتقصير، إلى محاولة ما يصغر عنه قدري وتقصر دونه روّيتي من تكلّف ما تكلفت من هذا الأمر وإنهائه إلى أمير المؤمنين اعزّه الله طمعاً في إدراك الضمان أن وُفقّت له واستعارته(2) منه، أكرمه الله، إذ قصرتي// تعجز عن إدراكه وبلوغه، بعد أن رجوت في ذلك عون الذي وعد المتوكلين عليه تلقينهم حجتهم إذ قال: " لا تهتموا لأنفسكم ماذا تقولون(1) وإذا سُئلتم ماذا تجيبون فإنكم ستُلهمون حجتكم في الساعة التي تحتاجون إليها(2)". وأمّلت مع إخلاصي لديني أن يكون فيه بلوغ شفاء من كان باري(3) البيانَ مستشفياً.
فإن يقع ذلك بحيث أمّلت ورجوت فالشكر فيه لذي الأبد العظيمة والنعم الجسيمة والمنن الطاهرة. وأن يقصّر بمن لا نهوض له إلى استقصاء أمور الحليم اللطيف أحرى، وأمير المؤمنين، اكرّمه الله، بالتقوية فيه والإرشاد أولى.
والذي سلكت فيه، أعزّ الله أمير المؤمنين وأبّده، في هذا الكتاب، الاحتجاجُ(4) في أمر الخالق تبارك وتعالى ، والقولُ في تصحيح وحدانية ربوبيته جلّ ثناؤه وتقدست أسماؤه، وأقامةُ الحجة به على أهل الجحود له، والتسليُم لتدبيره ببرهان لا يُدفع صدقُه وقياسٍ لا يبطل حقّه، فحصلت ابتداء المسألة منهم في إنّكار الخالق سبحانه، ليوجب عليهم ما اضطّرت إليه العقول من وجوده، وبه التوفيق والإرشاد.

المسألة الأولى

إن سال سائل من أهل الجحود وقال: ما الدليل على حقّ ما قد قلتم من وجود خالق، وعلى أن العالم مخلوق من صنعته؟ قلنا: الدليل على ذلك وجودنا. العالم دار مؤلفة من أركان متضادة ومتفاوته، أعني الأرض والماء والنار والهواء.
فأول دليلنا عليها أنها مصنوعة وان لها صانع، ما نرى من تأليف هذه الأركان واعتدال قواها مع اختلاف// طبايعها وتضادد جواهرها، لكي عندما يُرى من تآلفها وتشابكها مع تقاومها وتناصبها، لم تشتبك، بتضادد آرايها ولم تتآلف من تلقاء أنفسها، قوةٌ على اتفاق عالمٍ واحد دون قوة مؤلّفٍ قهرها على الاشتباك وذلّلها بالائتلاف.
وهو بقدرته عامدُها وممسك تشبيكها وحاسم كل واحد لها عن مقالتة صاحبة ومفارقته.ولو توهمتَ في عقلك تخليةَ ممسكها عنها مقدار لمح بصر، لأوهمتْك أنها غير ثابته على تآلفها وتماسكها دون انحلالها وانتقاصها، مقدار طرفه عين.لإنك إن أبطلت الأرض في وهمك، لم تجد الماء بعدها ثابتاً، فإنه لا قوام للماء إلاّ بجمادٍ تستقرّ عليه. ثم أن عدمت الماء بوهمك، لم تجد للعالم وأهله، مع تبيين النارً وحرّها، ثباتاً. كذلك أو أبطلت النار في وهمك، لم يكن لشيء من الطبايع، مع رطوبة الماء وبرودته، قوام(1).
ولو أعدمت الهواء في عقلك لم يمكنك إخطار ذات العالم على بالك. فقد تستدل العقول بهذا على أنه لا وجود للعالم إلا بائتلاف هذه الطبايع الأربع وتماسكها. ثم تستدل، من تمساكها وتآلفها وتناصبها، على أن لها مؤلفاً أصلح تقاومها وعدّل اختلاف ماهيتها وما نشأ منها وأدامها به روحاً كاملة...(2) وجعلها مسكناً لما أنشأه منها.
ومع هذا فإن لك في تبيين جسمك وتأليف اوصالك وتركيب أعضاءك لدليلاً شافياً فيك ما يحوجك إلى اعتبار ما هو نابذ عن ذاتك يَشهد على أن لك صانعاً بارياً أحكم تأليفك وأتقن تركيبك من هذه الطبايع الأربع التي منها أنشأ سائر// العالم.
وأول وجود ذلك في بنيتك(3) الجو(4) الباطن المحتوية على أضلاع جنبك وجلده بطنك ثم قحف رأسك الذي جعله صانعك معدناً حصيناً لدماغك وسائر الحواس والمسالك التي بها تخبر(5) معرفة الأشياء إلى فسك وعقلك، أعني العينين والأذنين والفم والمنخرين وغير ذلك من الأعضاء المجوفة المركّبة فيك ظاهرَ بدنك وباطنَه.
فهذا ما تجده من طباع الجو في ذات بينك، ثم تعلم حاجتك من بعد إلى دوام فسحته لنسمتك واستنشاقك وسائر تقلبك في أحوالك من التمني والانبساط والقيام ولإقعاد وما أشبه ذلك من حركاتك. ثم لا يجحد عقلك أيضاً ما يّرى من الرطوبة المنتسجة في لحمك ودمك ممن طباع الماء، وفلّة غناك(6) عن ما تشربه منه وتطفي به سورة النار المتسكنّة في باطنك في الحالات والأوقات.
ولا تنكر أيضاً طبيعةََ النار الكائنة فيك، إذ تحسّ بها من حرّها وعنف أفعالها في أوصالك، أوقات فقدها لقلة الماء وبرودته، وما تجد من دوام محسّها في بدنك مهما دمت حيّاً.
ثم تجد غلظ طباع الأرض التي منها صوّرت خلقتك أنها فيك. وتستدل، من قبول جسمك للنماء وجثّتك للفطم بعد الصغر والطفولية مما تعتذية من نباتها وقوة أعشابها، على أنك عليها صُوّرتَ ومن تربتها جُبلتَ. ثم تعلم أن لا قوام لك ولا وجود لك إلا بها وفيها وعليها.
فهذه الأربعة الأركان التي منها أُلّفتْ دار العالم موجودة في بنية بدنك لا ينكرها عقلك. فلا دليل تحتاج إليه على وجود خالقك أوضح وأظهر من شواهد العقل من تأليف بدنَك من هذه الطباع المتضادة المتقاومة وإنشائه(1) بنفسٍ علاّمةٍ ركّبها فيه بقدرته وحكمته.
المسألة الثانية
فن أقرّ السائل عند هذا البيان بأن العالم والإنسان جميعاً مؤلفان من هذه الأركان، ثم قال: وما الدليل على أن قوى هذه الأركان من الحرارة والبرودة والرطوبة واليبوسة مكوّنة مخلوقة؟ قلنا:
الدليل على ذلك تذلّلها وانقيادها لما أحدث فيها من التأليف والتسلسل(1) والامتزاج، ثم قبولها لما عرض لها في ذلك من الغيار والتنقل من حال إلى حال.
ولم يكن أنجع(2) الدريان والغيار في أعيانها إلا وهي محدثة مصنوعة. وذلك أوضح دليل على ما كان من تأتّيها واجابتها إلى حدوث الكون بدياً. وكذلك قبول الكون ما أنشئ منها من الطبايع الأربع للحدثان والأعراض يشهد على حدوثها وابتداء كونها اضطراراً.
كما أنك تعمد إلى الأرض فتنقيها وتحرقها وتفرق بين البعض والبعض منها وتحدث الفساد في جوهرها من خرق وإبادة وغير ذلك. ثم تعمد إلى الماء فتحتوي منه على ما أردت من القليل والكثير فتحول بين البعض منه والبعض ولا تجد للامتناع من ذلك محيصاً. ثم أن الماء والنار جميعاً منقادّين لتستعملهما أنّى شئت وكيف أردت، فتسخّرها لك عندما تحدث فيها وتستعملها بذلك على أنها محدثة مكونة، لا شك لمن له عقل في ذلك ولا امتراء.
ومن هذه الجهة تبطل دعوى المدعي الهبولي الأزلية الذي زعموا أن منها أنجع(3) الصانع أنواع الجواهر وقدّر أشكال الصور. وذلك إن حكمَ ما لم يزل قائماً أزليّةُ الاعتلاء والامتناع من قبول الحدثان والاستحالة من حال إلى حال.
فإن أبوا الإقرار// بذلك وقالوا: كلا ما حكم ما لم يزل الاعتلاءَ والامتناعَ من قبول الحدثان، راجعناهم سائبين فقلنا:
فما حجتكم على من أنكر أن يكون لدى الخالق مادة أفتعل منها شيئاً؟ فقال: بل إذا لم يكن في قدرته وقدم إمكان لخلق الجواهر لا من شيء(4)، فإنما أنشأها من طباع نفسه وأنتجها من ذات جوهره، هل ثبت(5) لكم في أبطال ذلك حجّة دون إحالة دعواهم في نفسها، إذا أوجب إنكار دخول الأعراض على الذات التي لم تزل. فإن كان حكم ما لم يزل الاعتلاء والامتناع من قبول الأعراض طبيعياً، كذلك حكم ما ألفي لحدثان الأعراض قابلاً حدوث الكون والخلق اضطراراً. أو أي سهم يوجد في قدم الهيولي في قدم الأزلية عند زعمهم أنها منقادة مقهورة لدى من فصّلها وبعضّها وأحدث الأعراض فيها من تقدير الأشكال والإحالة من حال إلى حال. ومن الذي فوّض إليهم هذه الحكومة ليقضوا على اثنين أزليين يُلفى أحدهما قادراً مستطيعاً(1) والآخر منقاداً ذليلاً.
فإن قالوا: أن الهيولى لم تتغيّر عن ذاتها، بل إنما قبلت الأقدار والأشكال من غير أن يكون دخلَ على ذاتها غيار وفساد(2): كما أن صاحب الفخار، وأن عمل من الطين أنواع الآنية وضروب الأشكال، لم يداخل ذات الطينة من ذلك فساد ولا غيار، قلنا:
ما تشبه لعمري قضيتكم هذه بالأولى؟ وأي قياس بين زعمكم أنها أنتجتْ من لا جسمٍ أجساما ومن لا روحٍ أرواحاً ومن لا حياةٍ حياة، وبين طينة صاحب الفخار التي، أن هو أهمل طينة الأشكال التي منها صوّر آنيته// على حالها، ثبتت للدهر طيناً، وان حرقها بالنار فأزال الرطوبة المعترضة فيها عنها ونقلها بذلك عن جوهرية الطين وصارت فخارّاً. فبأي الأمرين تقضون(3) على صاحب الهيولى أن يكون عمل هي ولاءه. فإن زعمتم أن جميع ما انتج منها لم يتغّير عن أصلية هيولانيته. فإذن لم يوجد فيما أنتج منها جوهر ولا روح.
وأن قلتم بل قد أحالها بإعراض أدخلها عليها إلى غير الهيولية، أوجبتم بذلك دخول الحدثان والفساد على الهيولى، وألزمتم إمكان الغيار والفساد [ على](4) ذات كل ما لم يزل ولم ينتقص(5)، فيما عبتم من دعوى من زعم أن الصانع الأزلي أدخل الأعراض على ذات جوهره فأنتج منها هذه الطبايع والأشكال والصور. أو ترجعون من ذلك هرباً إلى الإقرار بإن الأشياء أُنشئتْ أو أُبديتْ حديثاً لا من هيولى.
فإن قالوا: بل نزعم أن الهيولى محدثه مخلوقة وليست بأزلية قديمة. قلنا: أن كنتم إنما تعنون بأن الهيولى المحدثة المخلوقة المتقدمة هي هذه الطبايع التي بدأنا بذكرها فأثبتنا أن الخلايق أُنشئت منها، ساعدناكم على معناكم لما نشاهده منها ولم نعاندكم، وان كنتم تعنون بها ذاتاً(1) أخرى غيرها متقدمة لها.
قلنا: فأوجدنا حق ذلك ببرهان واضح كما أوجدناكم ذوات الطبايع الأربع وحدوث كونها ونشوء الخلايق منها بشهادات العقل والحواس جميعاً. فإن قالوا: برهان ذلك ما حكمت به العلماء بأنها متقدمة لجميع الخلايق، ومن قِيَل علمنا أنه لا يكون شيء إلا من شي، قلنا: فقد أقررتم أن الهيولى محدثة مخلوقة وهي // عنصر الطبايع، وحادثُها من أي شيء جعل الهيولى،أمن مادة أخرى تقدمتها؟ أو كانت من متقدمة أيضاً قبلها، فتحيلون(2) ذلك إلى السرمد الذي لا انتهار له.
وإن قالوا فإن أوجبتم أن الأشياء كلها المحسوسة والموهومة مخلوقة محدثة جميعاً، فما الدليل على أن خالقا ومحدثها واحد لا اثنان متضادان، على ما نرى من تضادّها في العالم من الحياة والموت والصحة والسقم والغنى والفقر والخير والشر والضياء والظلام والمنافع والمضار؟
قلنا الجواب: أن الذي(3) نرى من تعاون هذه الخلائق المتضادة والزمان المتقاومة والأمور المختلفة فيما يؤول إلى مصلحة شأن العالم وأهله، هو الدليل على ان خالقها ومدبرها واحد مقتدر حكيم، لا اثنان متقاومان، على ما نرى من قوام دار العالم باعتدال هذه الطبائع المتضادة من الماء والنار والهواء والأرض، وفيما نشاهد من دوام البرد وتتابع الأندية وتتواتر المطار أوان الشتاء على ما يفوت أهله من الأعشاب في الأرض وينبت ما يُبذَر فيها. فلا يزال ذلك دائماً عليها حتى يستحكم ما يخرج من ثمارها. ثم يأتي عليها بعدُ زمانٌ يقاوم ذلك، من حرّ ويبس وسمائم وحرور تنشّف الأندية من طبائعها ويمكن المغتذي منها العيش بها.
ذلك معما في اختلاف هذه الأزمان من يبوسة الصيف وحرّة بعد رطوبة الشتاء وبرده، وجمود دول النهار من صلاح أبدان الأنس واجسام الحيوان// وراحتها، ما لا تخيّله عقل. ولو أن أيام الدهور اتّسعت على دوام البرد وإدمان الأندية والأمطار، لَعفنتْ الثمار التي تصلح بسلطان حرّ القيظ وشمس النهار ويبسها.
وكذلك كانت أبدان الأنس والدواب تفسد وتعفن لا محالة. ثم قد كان الحكيم الواعظ في تدبيره أحياناً من مضرّة تقديم الحر والبرد وتأخيرها عن أوقاتها، ما يستدّل به ذوو العقول والعبّر على أنه لا صلاح لشأن معايشهم ولاقوام لطبائع أبدانهم إلاّ بتضاد هذه الأوقات واختلاف هذه الأزمان الجارية عليهم. ولو كان تضادّها من قَل مدبّرَين متقاومَين لكان، بدل ما يُرى من صلاح عواقبها، تضاددٌ وفساد.
وأما اختلاف حالات أهل العالم في الغنى والمسكنة، فذلك أيضاً أوضح دليل على وحدانية الواحد الحكيم، بل إدراك ذلك بالعرف، بعد أن عرّف بحكمته ما يصلح لكل أمر منهم من المنزلة التي أنزله إياها، تحرّياً لإقامة شأنهم وصلاح معاشهم أجمعين. فإنه لو لم يسسْهم من ذلك بمراتب مختلفة فجعل بعضهم ملوكاً وبعضاً للملوك أعواناً، وبعضهم أغنياء وبعضاً(1) إلى الأغنياء محتاجاً، لم يمكنهم الإقامة في هذه الدار على هذه الهيئة أحياء. فإنه إذ خلقهم على هذه البنية المضطرة إلى ما يقيمها من الطعام والشراب واللباس وغير ذلك لأسباب سنبيّن عنها فيما يستقبل من كتابنا، لم يستقم(2) لهم العيش إلا بمعونة بعضهم بعضاً.
فلذلك جعل بعضهم غنياً وبعضهم محتاجاً، ليضطر أهل الفقر والحاجة إلى ما في يدي الأغنياء فيعيشوا لذلك بما يقيم بشأنهم وشأن// أنفسهم، فيكون بعضهم زراعاً وبعضهم بقّالاً وبعضهم تجاراً وبعضهم حداداً(3) وأصناف من الأعمال التي لا غنى للعامة عنها.
فإنه لو استوت حالهم في أرض اليسار جميعاً، لضاق ذرعهم في كلفة ما يقيم ذات حياتهم منه، لأنه لم يكن كل واحد منهم أن يتكلّف لنفسه ما فيه قوام حياته فيكون زراعاً بقالاً(4) نجاراً نسّاجاً خياطاً يقوم لنفسه بكل ما يحتاج إليه دون معونة غيره. بل إنما استقام أمرهم وصلحت حالهم لِمَا اختلفت حالات في المنزلتين فتعاونوا على ما فيه قوام أمرهم.
ولو كان الغني والفقير أرادهما(1) فعلُ صانعين متقادمَين ومدبَرين متناصبين، لأدّت حال الغني والفقير إلى العدواة الفادحة(2) بين الفاعلّين اللذين ذُكرا(3) إلى التناقض والفساد لا إلى التعاون والإصلاح.
وأما اختلاف ما في العالم من الحياة والموت والمنافع والمضار، فنبدأ ونشرح من أسباب ذلك ما نستدل به على أبطال قول الذين زعموا أنها ممن قبل مدّبرين صانعيّن متقاوميّن. ونبدأ بذكر ذلك ما نستدل من المسألة الحادية عشر أن شاء الله جلّ وعلا.
المسألة الرابعة
فإن قال: فما الذي أنكرتم أن يكون من خلق أثنين متوافقين متعاونين لا متضادين متقاومين، وكل واحد منهم خلق من أنواع الخلايق ما فيه صلاح العالم وأهله، وكذلك تعاوناً(1) في تدبير واحد متفق، على ما نرى من صلاح عواقب الأمور كما وصفتم.
قلنا: أنكرنا ذلك من حيث إيقنّا بأن الذي قدر بقدرته أن يخلق الخلائق //لا من شيء قدير أن لا يكون جهل أم عجز عن ان يخلق خلائقه تامة كاملة لأسباب معقولة نافعة. أفرأيت أن كان أحدهما خلق السماء أم الأرض أم شيئاً من هذه الأركان الموصوفة، هل أراد بذلك خلق هذا العالم؟ أم إنما أراد به غير الركن الذي خلق فقط؟ فإن كان أراد غير الركن الذي خلق فقط، فإنّا لا نتوهم شيئاً من هذه الأركان على انفراده يصلح لشيء ولا ينتفع به منتفع دون وجودها وائتلافها جميعاً معاً على ما تقدم من قولنا. كما أن الأرض لا نفع فيها ولا قوام للحيوان فيها ولا معاش لها منها إلاّ مع الحرّ، كذلك الحر مع النار، وكذلك النار مع الماء، وكذلك الماء مع الأرض.
ليس افتعال ما لا نفع فيه من شأن القادر الحكيم ولا من خلقته. وأن كان تعمد بخلق ذلك أراده(2) خلق دار العالم كلها جملاً(3) فخلق منها بعضاً(4) وأهمل خلق بعض ليتمّه غيره، فذلك من جهل أن عجز لا محالة.وليست أيضاً هذه من صفات من قدر بحكمته على ابتداع طرف من الخلايق لا من شيء.
المسألة الخامسة
فإن قال: فما أنكر أن يكونا متعاونين في صنعة جميع الخلايق؟ قلنا الجواب: أن التعاون في الأفاعيل على ضروب شتى: إمّا فاعلٌ شيءاً بجوارحه، كالمستقلْ من الأرض شيء ثقيلاً تعجز جوارحه عن حمله فيستعين بغيره في حمل ذلك، أو كباني بناء يحتاج إلى عون يعاونه في بنائه، ونحو ذلك من الأفاعيل التي يحتاج فاعلها إلى استعمال الجوارح في صنعتها: وهذه نعوت من كان ذا أوصال مركبة وأعضاء مؤلفة، وليس التأليف والتركيب// من صفات ما لم يزل، بل ذلك صفة من كان مؤلفاً محدثاً وله مؤلف محدث. وإما تعاون في الأمر والنهي، كما يستعين الوالي بشرطه وأعوانه إذا امتنعت عليه البقية وعجز عن قهرهم بنفسه على طاعته: فهذه صفة خائب مهين يصول بعزّة غيره في أموره ولا يستحق أن يوصف بالقدرة على خلق الأجسام مع عجزه عن إنفاذ أمره فيما أراد.
المسألة السادسة
فإن قال: فلعلّ تعاونها وتضادها من قبل المشيئة والإرادة المكتوبة الباطنة، لا من قبل الأمر والنهي الظاهرّين منها، الجواب قلنا:
وكيف يمكن أن تكون إرادتان في إحكام صنعة ما نرى في هذه الخلايق؟ أوَليس التعاون نفسه يدل على عجز المتعاونيين وضعفهما جميعاً أو عيّهما وجهلهما، إذ كل واحد منهما يكلف معونة صاحبه لا من حاجة كانت إلى معونته؟ أو كيف تأتّي اتفاق هذا الخلق وإحكام هذه السياسة بمشيئة متكلّفين عاجزين ضعيفين؟ أو ليس الجهل بمن أدّعى تعاون الإرادات والمشيئات في صنعة الأشياء لا من شيء أولّي؟
انتهي القول في هذا الوجه واضطرت العقول عند هذا القياس إلى أن صانع هذه الخلايق واحد قادر حكيم لا عوناً له في صنعتها ولا مؤازراً له في إحداثها، بل هو الواحد باريها ومتقنها ومحكم سياستها، لا ندّ له ولا ضدّ له ولا عوين ولا شريك.
المسألة الرابعة
فإن رجع السائل من بعد فقال: فما الذي دعا الواحد إلى خلق هذه الخلايق؟ أحاجه كانت منه إليها، أو عبثاً وولوعاً؟ فإن كانت حاجة عرضت// له بها، الحاجة عن نفسه، وعجزّ عن الامتناع، من زوال الغنى(1) عن جوهره بحريٍّ(2) أن يقوى على صنعة شيء لا من شيء، بل إن عجز عن استكثار(3) نفسه، فهو عن تكلف ما هو الأصعب من ذلك أعجز، وأن كان خلقها عبثاً وولوعاً، فالعبث والولوع ليس من صفات من زعمتم أنه كامل الحكمة في ذاته في تأليف الخلايق وتقدير الأمور، على ما نرى من اتفاق هذه الطبائع وإحكام نظامها.
فنقول: أما الحلّتان من الحاجة والعبث فهما لعمري منتفيتان عن التقديم القادر الحكيم جل جلاله، بل خلق هذه الخلائق تفضلاً وجوداً وإنعاماً، ذلك لجودته وصلاحه وكرمه وسماحته.
المسألة الثامنة
فإن قال قائل: وعلى من تفضّل وجاد، ولم يكن معه بزعمكم قبل الخلائق أحد يجود بخلائقه عليه؟ الجواب نقول:
أنه لم يكن معه في قدم أحد يجود بخلائقه عليه. ولكن سواء عليك، إذ أجاد بنعمائه وسمح بفضائله، قدّم خلقّ من جاد بها عليه أم أخّره. بل يحق أن يكون تحرىّ من ذلك أشكل(1)الأمرين بفضله وأشبه الخصلتين بحكمته. فبدأ بخلق جميع ما يصلح ممن أراد أن ينعم بخلائقه عليه، ثم خلقه من بعد فأكرمه بها. كما أن الحبيب(2) ذا(3) الكرم والفضل، إذا أراد إكرام حبيبته وإكمال بره، بدأ فأعدّ ما يصلح له وهيّأ له ما يقيم بشأنه وكرامته ثم ساقه من بعد إلى ما هيّأ له، لا أنه يتكلف له أنه يتكلف له ذلك بعد إدخاله منزلة.
فلذلك بدأ الجوّاد// بكرمه وبحكمته فهيّأ لعبادة دار العالم وما فيها قبل خلقه إياهم، ثم خلقهم فيها وجاد بها عليهم. فأية نعمة أفضل وجود أعظم من تكوينه إياهم خاصة على هذه الهيئة الشريفة من الحياة والعقل والنطق والفهم والاستطاعة والاختيار بعد أن لم يكونوا شيئاً.
المسألة التاسعة
فإن جهل فضيلة هذه النعمة وقال: فإنّا لا نفرض(4) له في تكويننا خاصة موضع جودٍ ونعمة، لأنّا، إذ لم نك شيئاً، لم نوجد لدينا كراهة العدم. وإنما يُعرّف السرور عند المكارة، فلا مكروه كان علينا، إذّ لم نك، أن لا نكون(5)؟ قلنا:
أيها الجاهل الجاحد نعمة صانعه، فهل يجب اليوم، إذ كنت شيئاً موجوداً، أن تعود عدماً لا وجود لك؟ فإن قال: وما أكرهُ ذلك، فقد كابر علمَ العقول وأخبر بخلاف ما يصير عليه ضميره، لأن حكمه في طباعه حكم جميع جواهر الحيوان، لا امتراء(6) لذي لبَّ فيه ولا شك.
وأن قال: فقد أكره اليوم ذلك بعد أن كنت، فقد أوجب لباريه ومتقنه حيّاً سليماً شكرَ نعمته والحمدَ على ما أبدأ وأعقب من وجوده وإحسانه في تكوينه وإثباته على الحياة.
المسألة العاشرة
فإن قال: فما باله، إذ كان قادراً جواداً(1) وقد علم عظيم قدر إحسان في خلقه إياهم، لم يقدّم ما أراد من خلقه قبل الوقت الذي فيه خلقهم بعشرة ألف سنة. قلنا:
أما في جملة حكم العقول، إذ خلقهم بنعمته وجوده لا لحاجة كانت به إليهم، فأحرى أن لا يكون// فيما يمكن من غاية الأنعام عليهم ومنتهى الإحسان إليهم. ولا شك أن قد كان لم يزل بجوده مزمعاً أن يخلق وقتاً(2) فينشئ فيه خلقهم، ولم يكن ليمكن ذلك إلاّ بحدوث فعل وابتداء صنعة. فلو كان في سابق علمه جلّ اسمه أنه قد كان يمكن أن يتأتَى وقت يكون خلقهم فيه أصلح لهم وأعْوَد عليهم من الوقت الذي ابتدعه لينشئ فيه خلقهم، لكان أجدى(3) العلم عَنْيَه بهم أن يعتمد لخلقه في ذلك الوقت دون ذلك الوقت الذي فيه أنشأهم ولو كان متقدماً(4) له بعشرة آلاف عام، ولا يضن بذلك عليهم.
وبعد، فكما لا نقصّ بالآخرين عن الأولين فيما قدّم من خلق الأولين قبلهم بنحوٍ(5) للأولين على الآخرين فيما أخر من خلق الآخرين بعدهم، إذ عدلت نعمة الوجود بالتسوية بينهم، كذلك لا ضير على أجمعهم في عشرة آلاف عام لو تأخر دونها خلقهم، إذ شملت فضيلة الوجود أولهم وأخرهم.
ثم نعلمك مع ذلك أن مسألتك تستحيل، لما يحول فيه القول كلما لا نهاية له. وذلك أن كان جاز لك أن تقول ما باله لم يخلقهم قبل الوقت الذي خلقهم فيه بعشرة آلاف عام، جاز لك أن تقول: وأولاً(6) قبل العشرة آلاف عام بماية ألف عام، ثم تقول أيضاً بعد ذلك بمائة ألف عام واكثر من ذلك، إلى أن تقول في منتهى مسألتك أن الخلائق أزلية لا بدوء لها، وذلك الجهل المبين المحال الممتنع أن يصير ما أحدث خلقَه وأبدأ صنعتَه أزلياً لم يزل.
المسألة الحادية عشرة
// وأن قال/ فإن كان قادراً حكيماً جوّاداً وصفتم، فلماذا خلقهم آلمين متوجعين مضرورين مأووفين(1)، ثم ختم أمرهم بالموت أجمعين، ولم يخلقهم كاملين غير آلمين مأووفين ولا مائتين؟ قلنا:
لو خلقهم على هيئة معتلية عن اللم والآفات، إذن لم ينلهم(2) الموت ولا الغيار. بل إنما خلقهم على هذه الهيئة القابلة للإيثار لما هم به من نقلهم بالموت من هذه الحال وهذه الدار إلى حال ودار أفضل منهما. وذلك أن قدرته على كونهم وكون الطبائع التي منها كوّنهم لا من شيء، تشهد بأنه لا يعجز عن أن يخلقهم لا مائتين، فخلقهم مائتين. وما دعاه من جود لن يخلقهم تفضلاً وإنعاماً لا لحاجة كانت به إليهم، يشهد بأنه لا يبخل، بل بأن لا يجبلهم لا متألمين جبلهم متألمين.
وحكمته فيما ولّي من إتقان تأليف أبدانهم وإنعاشهم بأنفس علاّمةٍ، تدل على أنه لا يبخل بإبقائهم على الحياة، جعلهم مائتين فانيين. لكّن ما أظهر من فضائل هذه المناقب في فعاله بهم، فقد تصرّح للعقول بأنه لم يكن غرضه فيهم هذه البنية الفاسدة ولا إنزالهم هذه الدار الدنية الزائلة. بل ما أبدأهم به من جوده في يؤسهم وأعلن لهم من قدرته في إنعاشه إياهم وأظهر لهم من حكمته في تأليف أنفسهم بأبدانهم، قد يخاطب العقول جهراً، عند بذله أياهم للموت والفناء،بأن له فيهم عودة أخرى يبعثهم لها، فيثبت فيهم ما ابتداهم من جوده ويكمّل لديهم ما أولاهم من نعمته وإحسانه.
المسألة الثانية عشرة
// وأن قال/ فإذا لم يرضّ لهم هذه الحال وهذه الهيئة، فما دعاه إلى أن خلقهم فيها على حالهم، ولم يخلقهم على الحال التي أزمع يحيلهم ثانية عليها في الدار التي همّ ينقلهم من بعد إليها؟ قلنا:
أراد بنا ثلاثَ خصال، فضلُ منفعتها لهم ظاهرة غير مجهولة، أما الأولى فإنه بدأ فجبلهم على هذه الهيئة الذميمة وهذه البنية السقيمة وفي هذه الدار الدنّية، لكي إذا جبلهم بعدها على تلك البنية المتقنة عرفوا ما أصارهم إليه على حال ما كانوا أول مرّة عليه، فيعظم باعتلاء جوهرهم على الحال الدنية الخسيسة إلى الحال الشريفة العالية حيث يكون سرورهم وبهجتهم.
والثانية، أنه، إذ(1) أراد أن يُسرّهم برفعه إياهم عن هذه الحال ومن هذه الدار إلى تلك الدار، فعلم أنه لا يكمل سرورهم بذلك ولا تعظم به بهجتهم إلا باكتساب منهم له واستحقاق منهم إياه، بدأ فجبلهم في هذه الدار فجعلها سوقَ متجرّهم، وأيّدهم بقوة الاستطاعة وأنار قلوبهم بمصابيح العقل والفهم.
ثم أطلقهم للتقلّب في ساحاتها بإعمالهم، حتى إذا هم استوجبوا فضائله بحسناتهم كانوا في فرحهم وفخرهم بما نالوا منها كالظافرين بالملك الجسيم عن شجاعة وجلد ومجاهدة(2).
والثالثة أنه إذ أراد أن يكونوا هم المكتسبين تلك الفضائل بأعمالهم لتكمل بذلك غبطتهم وسرورهم، جبلهم على بنيةٍ قابلة الآلام واللذات جميعاً. ثم ملأ دار مولدهم، التي قدّم فيها خلقَهم، أمورَ المنافع والمضار، لكي إذا تجشّموا له الشدائد في أبدانهم الآلمة استحقوا لها منه المكافأة عليها، ولكي إذا تدّربوا // أيضاً بما يمسّهم من لذاتها وأوجاعها، فعرفوا بذلك ماهّية السرور والمكارة، استدّلوا على كيفيّة ثواب ربهم وعقابه، فاجتهدوا في مرضاته رغبةً في ثوابه واجتنبوا مساخطه خوفاً من عقابه. ولو لم يقدّر لهم في هذه الدار أمور المنافع والمضار وصيّرهم قابلين لها جميعاً. لم تُوجد فيهم علةُ الاكتساب، ثم لم يعلموا ما الثواب وما العقاب،فلم يعلم مَن رغب(3) في ثوابه خيراً ولم يجنب مَن حذرَ عقابَه شراً.
لكنهم، لَما اتعظوا أيضاً بما نالهم من مضار هذه الدار ومنافعها، ثم علموا أن لهم خالقاً حكيماً قوياً عدلاً ترضيه منهم أعمالٌ وتُسخطه أخرى، أيقنوا بأنه يكافئهم على ما استحقوا بالأمرَين جميعاً فاجتهدوا لذلك في اكتساب مرضاته ونكبوا(4) له ما يوجب عليهم سخطه. أوَليس إذ كان جلّ توخّي خلقهم على هذه البنية القسيمة كمال سرورهم بها بما أزمع به من خلقهم بعدها على بنية كاملة.
فمهما اجتهدوا هم أيضاً في بلوغ الأضرار بأبدانها، فإنما يسمعون من ذلك في خطّ أنفسهم، كالساجد طاعةً بتقديم الجوع والعطش تحرّياً لاستكمال لذة الطعام والشراب.
وذلك من لطائف نِعمَ الكريم الجوّاد، إذ صيّر عاجلَ ما قاسوا من تعب صلواتهم ودروب صيامهم ورفضهم نعيمَ دنياهم مع ما أزمع من أن يحرّك عليه ثوابهم، تجويداً لأجل سرورهم وغبطتهم.
ثم انظر أيضاً إلى هذا الحكيم وفضل جود هذا المُنعم الجوّاد، انه إذ أراد أن يُهنيهم بما يؤتيهم من فضائله، ويكمّل غبطتهم بما ينيلهم من ثوابه، طبَعَهم على هيئةٍ كأنه أراد بها رفعَ منّتهِ عنهم، فخلقهم هو فإنين عريانين(1) وصيّرهم هو جاهلين آلمين ليكونوا هم الذين يصيّرون أنفسهم// بحسن فعالهم عالمين غير آلمين، فجعلهم هو ناقصين محتاجين. كذلك بدأ هو فأنزلهم هذه الدار الدنية الخسيسة، ليكونوا هم الذين بيدهم وصلاحِ أعمالهم يستحقون نزول تلك الدار الشريفة، كالمتطلف المحتال المسرور حبيبه(2) بأمور لا توجب لنفسه عليه فيها منّة(3) ينقصه بها سرورَة، ثم استودعه كندّ(4) الموت الواسط بين الحالين والدارين لئلا يشعروا (5) بطول الزمان الجاري عليهم إلى انقضاء مدة أخرتهم، فيكربهم ويقلقهم تأخيرُ ما استحقوه من الزلفى والنعيم المعَدّ لهم عنهم فناء الدهور الأنية على أجمعهم. بل أجملهم محمودَ الموت تحنتاً عليهم وتحرّياً لدفع المكروه عنهم، وصيّرة لديهم بلطفه ورأفته كالبرق الخاطف بين رقدتهم ونهيهم(6). فالموت أيضا، دون مصيرهم إلى ما أعدّه لهم خيره، منفعةٌ (7) وصلاحٌ لأجمعهم.
المسألة الثالثة عشرة
فإن قال قائل: فما الذي منعه بأن يجري بإنزال الموت بهم تخفيفَ طول الدهور عليهم وتقريبَ ما استحقوا من النعيم منهم، من أن يرفع الموتَ أصلاً من بين أعمالهم وثوابهم، فيصرف من استحكم منهم أعمالَه واستكمل مدتَه(1) إلى دار النعيم، دون أن جرّعة بشاعةَ هذا الموت النازل بأولهم وأخرهم.
قلنا: منعه من ذلك إنصافه لهم وعدله على إبرارهم وفجّارهم. فإنه لو صرف من استقصى منهم أعمال واستكمل مدته إلى دار الجزاء دون صرفهم أجمعين في وقت واحد، لكان في تقديمة الأولين قبل الآخرين إلى ما استحقوا من الثواب والعقاب بالدهور الجارية بينهم، تقصيراً بأهل الصلاح// من أخريهم(2) وحيفاً على أهل الطلاح من أوليهم(3)، إذ ينعم أخيارهم ويألم إسرارهم ألوفاً(4) بعد ألوف سنين قبل الآتين بعدهم. ثم لم يكن بيان حيف ذاك(5) في عاجل الكون والخلق المتقدم أيضاً فقط، إلا إنما أوجب(6) العدل في تقديم خلق الأولين وتأخير خلق الآخرين، لَمَا نال الآخرون(7) من حظّ الكون والفناء أخيراً مثل الذي ناله الأولون من حظّها بدياً، فتكافوا في سرور الوجود ومكروه العدم بالسويّة جميعاً. بل بو قدّم بعضَهم إلى ذلك المصير بلا موت دون بعض إلا ولُقي تقديمُ الأولين لتعجيل مصيرهم إلى الآخرين(8) غيرَ مشاكل لسعة عدله وعموم إنصافه.
المسألة الرابعة عشرة
قإن قال: فما الذي منعه، إذ لم يصرف بعضهم دون بعض إلى ما استوجبوا عدلاً، من أن يبقي أوّليهم إلى انقضاء مدة أخريهم في هذه الدار أحياء، ثم يصرفهم إلى ما استحقوا جميعاً معاً؟
قلنا: منعته من ذلك رأفته وشفقته على خاصّة أهل طاعته، لأنه لو أبقى(9) الأولين منهم إلى انقضاء مدة الآخرين على ما ألزموا له أنفسهم من دوام العبادة وتعب الأعمال واحتمال الشدائد ليصرفهم جميعاً في وقت واحد، إذن لكان يحمّل الأولين من كدّ العبادة وتعب الأعمال ما يدرك الآخرين من كلفة ذلك أخيراً، وكان ذلك ملائم لرأفته بهم وعدله عليهم.
المسألة الخامسة عشرة
فان قال قائل: أو لم يكن قادراً على أن يفعل بهم ما يلائم عدله ورأفته من غير أن يميتهم، فيرفع عنهم مؤونة العبادة بعد زمن عيشهم ثم يبقيهم على هذه // الحال الدنيانيّة بلا عبادة.
الجواب قلنا: فلو فعل ذلك بأوّليهم كانوا عثرة لآخريهم وفساداً للآتين بعدهم، إذا رأوا آباءهم وقدماءهم يأكلون ويشربون ويتنعّمون ولا يصلّون ولا يصومون، فلا ينصبون ولا يكتسبون وكان البنون بلا شك يقتدون بسير آبائهم ويحذون حذو أعمالهم، فكان وشيكاً في ذلك أن يدرس ذكر العبادة عن قليل من صدورهم. ثم كان جديراً أن يؤول إغفالهم عن عبادة خالقهم إلى إبطال معرفته أصلاً من قلوبهم، فيكون بدل ما توخّى من تقديم
خلقهم في هذه الدار لاكتساب ثوابه بأعمالهم بصيّر خلقَه فيها وبالاً وشرّاً وفساداً عليهم. فالموت على الحالات كلها، دون مصيرهم إلى دار قرارهم، نعمةٌ ورحمة على تقديم من تقدّم ومن تأخر منهم.
المسألة السادسة عشرة
فان قال: فما الذي منعه، إذ علّم أن يكون بقاء الأولين على ترك العبادة عثرةٌ وفساداً للآخرين، من أن يخلقهم جميعاً في وقت واحد معاً، حتى إذا استقصوا أعمالهم، صرف مَن استحق منهم النعيمَ إلى النعيم ومَن استوجب العقاب إلى العقاب. ولا يفجعهم دون ذلك بفقد الحياة؟.
قلنا له: منعه من ذلك خصلتان. إحداهما(1) شفقتُه على خاصة أهل طاعته منهم. والثانية حسنُ نظرة في الجملة لأجمعهم.
فأما ما أبان به من شفقته على أهل طاعته منهم، فإنه إذ سبق في علمه بأنهم ليس كلّهم في وقت واحد يُصلحون أعمّالهم، وأن منهم من يصلح عمله بعد دهر طويل من عمره، ومنهم من// بعد زمن يسير لِمَا يرى من فضله وكرمه، إذ يرتب(2) من أصلح سبيله وأكمل إلى آخر الدهور التي يرجع فيها جميع المزمعين بالتوبة إليه عن سيئاتهم، فيعذبون بطول الأزمان الحائلة بينم وبين نعيمهم، ولكانوا أجدر، من ضعف طبائعهم والاستطالة المجبول ليها جوهرهم إلّم يطل(3) به الزمان على عثرة الأشرار، ان يميل بأكثرهم طلبُ الشهوات إلى شرور أعمالهم وركوب المعاصي بعد الذي قدّموا من حسناتهم، ولكانوا خلقاء(4) من بعد، لو لم يعاينوا الموت بأحداثهم(5) صباح ومساء، فحذّرهم ذلك، بغياب(6) نزوله بهم، إلاّ يتوب واحد منهم بعد هبوطه من مرتبته وصلاحه عن شأنه أبداً.
أولسسنا نرى وترون أن أهل التقى إنما تخلّوا عن السيئات ورغبوا في تقديم الحسنات لِمَا اتَعظوا من مصائب السالفين قبلهم ولِمَا لقيت الأحقابُ المتقدمة عند معاصيهم من إنحاء(7) النقم التي أنزلها بهم ربهم. فلو كان ولي خلقَهم أجمعين في وقت واحد، إذن لِمَا اتعظ أحد منهم بأحد ولا لزموا من حسن الطريقة ما حثّهم عليه المواعظُ والعِبَر(1).
فقد بانت بهذا فضيلة ما خالف بين أزمان خلقهم وأوقات موتهم، بذلك حسم(2) أسباب المنافع والرشد عنهم(3) أذن، لو ولي في حركة واحدة خلقَ جملتهم وفي وقت واحد صرْفَ أجمعهم.
والثانية التيب تعمّد بها صلاح جميعهم، فإنه إذ سبقَ علمُه بأنه با يكمل سرورهم وغبطتهم بما ينيلهم من ثوابه إلا باكتساب منهم له واستحقاقٍ منهم أياه من علم أنه لا ينساغ لهم اكتساب ذلك إلا بتقديم الحسنات من صالح الأعمال، فحبّب لهم// جلّ حسناتهم بسهولته وأفاض(4) صالح أعمالهم بسعة فضله إحسانهم إلى أهل جوهرهم من عطف بعضهم على بعض وصفْح بعضهم عن بعض، ثم أحب بلطفه أن تجري بينهم هذه الفضائل جريرةٌ تدعوهم إليها وتحثّهم عليها. فعرف بسابق علمه أنه لا ينساغ لذلك سبب أدعى إليها ولا أحثَ لهم عليها من المودة والمحبة بعضهم لبعض.
ثم شاء أياً بلطفه أن يُنشىء لإجراء(5) المحبة بينهم سبباً يجبرهم(6) به إليها، فلم يرَ(7)
لذلك جريرةٌ أجلّ(1) لها ولا أدعى من تواصل القرابة. ثم أراد أيضاً أن ينشئ للقرابة بينهم سبباً يلحّها(2) به بينهم ويجريها به في طبائعهم، فلم يجد لذلك سبباً أولى بها ولا أدعى إليها من تناسل المواليد.
وكان إذ أراد بجوده وفضله أن ينشئ خلقهم ويُجري سبب التناسل بينهم، فعل كالذي (3) يليق بحكمته فخلق منهم في البد(4)ي زوجاً واحداً فغرسَ في طبائعها إمكانّ التناسل والتوالد. ثم أنشأ منهما أولاداً ذكوراً وإناثاً. ثم أولدهم نسلٌ من نسل، إلى محبة بعضٍ لبعض، وعطف بعض على بعض، كالذي(5) نرى من بذل نفس المرء وماله في ردّ المكروه عن أبيه وأمه وأخيه وأخته وابنه وابنته وقومه وعشيرته، حباً لهم وتحنناً عليهم.
وأن كانت العداوة ربما عرضت بين الأخوة والقرابة للتزاحم في هذه المعايش الخسيسة، فليس ذلك ممّا يُبطل حجّتنا في العامة من جمهورهم، معما تشاهد العقول من تجالب الصلح والسلام والشفقة والعطف بين الأقربين والاقربين من أنسال أصنافهم.
ولو كان بدل التناسل// الجاري بينهم، أنشأ خلقَ كل شخص منهم على حالهمن الأولاد، لكان جديراً، مع تكالبهم على هذه الرغائب الدنيانية، أن لا تبطل الحروب ولا تُرفع الشحناء من بينهم دون أن يفني بعضهم بعضاً، على ما نرى من دوام الحروب بين الأعدين من اجناسهم، وكان بدل ما أنشئوا في هذه الدنيا لاستحقاق الفضايل بصلاح أعمالهم، يصير إلى سوء العذاب محشرُ أجمعهم.
لقد قصد بهم الحكيم(6) اللطيف، فيما أولدهم نسلاً وأخرجهم عقباً من عقب، وفيما أنشأ الكثير منهم من القليل والقليل من أقلّ من ذلك،حتى تناهى تناقصُ ذلك إلى الزوج الواحد الذي كان أقلّ قليل ما أمكن به أن يولدهم في سبيل الرشد ومسلك النجاح، ولو لم يُجر هذا التواصل بينهم لم تجر المحبة بينهم.
ولو لم تجرِ المحبة بينهم لم يعطفوا على أحدهم. ولو لم يعطفوا على أحدهم لم يستوجبوا الثواب من ربّهم. ولو أنيلوا بلا استحقاق شيئاً من فضل ربهم لم يكمل بما نالوا منها سرورُهم وغبطتهم. بل إنما اغتبطوا لما استحقوا،واستحقوا بما يكمل بما نالوا منها سرورُهم وغبطتهم.
بل إنما اغتبطوا لما استحقوا، واستحقوا بما اكتسبوا، واكتسبوا بالذي تعاطفوا، وتعاطفوا حين تحايبوا، وتحاببوا بما تواصلوا، وتواصلوا إذ تناسبوا، وتناسبوا حيث تناسلوا. فكانت جريرةَ هذه الفضايل جميعاً تناسُلهم هذا الذي من أجله لم ير الحكيم(1) أن يلي في دفعة واحدة خلقَ جميعهم.
المسألة السابعة عشرة
فإن عاد فقال: فإذا كان إنما حمله على إنزال الموت بهم ما أراد من تقريب الدهور على أهل الطاعة منهم، فلماذا أنزله بأهل المعاصي والشرور// أيضاً، بل قد كان يحقّ له، إذ كان الأمر على ما وصفتم، أن يزويه عنهم ولا ينزله بهم.
قلنا: أما فيما استوجبوا منه بعصيانهم فقد كانوا مستحقين أن يقرّب به أيضاً عقابه منهم كما قّرب به نعيمَ أهل النعيم من أهله. ولكنه تأبّى(2) لرحمته وكرمه أن يفعل ذلك لذلك، ولا يتفضّل عليهم أيضاً بشفقته ورأفته، فجلّ(3) ما دعاه إلى إهمال نزوله الموت في وقت نوله بهم، أراد أن يحول ذلك بينهم وبين الأزمان من معاصيهم، فإنه لو أدام الدهرّ كله رفْعَ الموت عنهم، على ما علم من نباتهم على معاصيهم، إلى منتهى أيام الدنيا، إذ يحمّلون(4) أكتافهم منها أضعاف ما حمّلوا جسمهم من ذلك بإهمال نزول الموت بهم، نظراً لهم وتفضلاً بإشفاقه عليهم.
ثم أنه لو أبقى الأشرار على الحياة دون الأخيار وأمات الأخيار دون الأشرار، أذن لكانت حياة الأشرار يقوى(5) عليها فسادهم ووبالاً على جميع أهل الفريقين منهم، فإنهم كانوا جُدَراء، لرغبتهم في عاجل الحياة، أن لا يهمّ واحد منهم بخبر في نفسه، فضلاً عن العمل به، ما عاش في الدنيا، بل كانوا، للمنازلة في المعاصي رغبةً في الحياة والتسارع إلى الفجور وفرار من الموت، اخلق(6). فقد بأن بهذه الخصلتين صلاح الموت وقد عمّ أخبّارهم وأشرارهم.
المسألة الثامنة عشرة
فأنه قال: فإَلا، إذ كان رحيماً شفيعاً رؤوفاً بالفريقين جميعاً، لمَ لا أمات مَن علَم أنه يكون عند بلوغه عاصياً شريراً في طفولته وصباه، واستحيا(1) مَن سوى ذلك، لئلا يكون في خلقه من يستوجب عقابه؟//(2) الجواب نقول: أنه ليس المؤمنون والأخيار كلهم أولادَ المؤمنين الصالحين بكل أمثالهم، أكثرهم أولاد الأشرار وأهل المعاصي، ولا شك، على ما نرى من مسارعتهم إلى أبواب الفساد وميلهم إلى ركوب الشهوات، أن قد كانوا في كثيرين(3) من دهورهم تأتي عليهم أزمان يُعدم الصلاح والبر أصلاً من بينهم ولا يوجد على الأرض بشري صالح منهم.
ثم لا شك أيضاً، على ما نرى من رجوع كثير منهم عن معاصيهم، أن قد كان أخلافُ أولك الماضين في كل حقب من دهورهم ربّما اتعظوا بآداب ربّهم تعالى ورجعوا تائبين عن سيئاتهم، وعلى منهاج ذلك لم يزالوا يتداولون طرقَ الصلاح والفساد تارة تارة، منذ أبدأ على الأرض خلقَهم.
فلو كان جلّ ثناؤه تعمّد إماتة مَن علم أنه كافر شرير(4) في طفوليته وصباه، إذاً لكن التوالد قد بطل، والأعقاب قد انقرضت منذ إنشاء خلق أوائلهم، ولكنه إذ عرف بحكمته وسابق علمه أن الطالح قد يُولد منه الصالح والصالح قد يولد منه الطالح والصالح وعلى ذلك ينقلبون بحرية طباعهم، علم أنه لا مَخْلص إلى رفعة الأشرار من وسطهم إلاّ بإبطال سبيل التوالد أصلاً من بينهم، فأهملهم لذلك على ما طبعهم عليه من العقل والفهم وما جعل له به السبيل إلى فعل الخير والشر، فلم يمنع الموتَ لذي الشر، ولا خلّد البارَ على الحياة، دون الشرير، لبّره.
المسألة التاسعة عشرة
فإن قال: فأَلأ أمات منهم في طفوليته وصباه مَن علمَ أنه يكون عاصياً // شريراً ولا يكون منه أولاد ونسل؟
قلنا: لو أمات واحداً(6) لهذه العلة طفلاً، لوجب عليه لعدله أن يميت جميع مَن علم انه يكون عاصياً شريراً طفلاً صغيراً.
ولو أجراهم على هذه السنّة أجمعين، لعاد الأمر إلى انقطاع سبيل التناسل عنهم أصلاً، ولم يكن ليجب على المنعم الشفيق بعض حق أعدائه الكافرين العاصين لأمره من حق بعضٍ، أن يجري لهم على نفسه سنّةً يؤول أمرها إلى بطلان خلق جميع أهل جوهرهم.
أو لا تعلم انه، إذ خلقهم على أن ينشئ بعضهم من بعض للعلة التي قدّمنا ذكرها آنفاً، إنما صيّر بعضهم وديعةً لذي بعض، فلم يكن بمنعة إفسادُ مستودع الوديعة نفسه من استخراج وديعته منه كيفما تصرّفت من حالاته.
المسألة العشرون
فإن قال: وكيف زعمتم انه لو أنزل لموت بواحد في الأطفال لعلمه بما يكون من شرّه، لوجب عليه بعدله أن ينزله بجميع مَن علم أنه يكون عاصياً شريراً في طفوليته وصباه.
وهذا ما قد نرى بنزول الموت ببعض الأطفال دون بعض، ولا تحسبون ذلك من فعله جوراً. فإنه بحذاء(1) منزلتين: إما أن يكون قد علم أنهم إذا كانوا أحياء يكونون أخياراً(2) صالحين، فقطَعَهم بذلك عن سبيل الاكتساب الذي به يكمل سرورهم بما يؤتيهم، وإما أن يكون قد علم أنهم يكونون كفّاراً(3) عصاة، فكان يحق لعدله أن يُلحق بهم جميع من علم انه يكون عاصياً شريراً.
قلنا: ومتى زعمنا لك أن جميع أسباب الموت هو الذي يلي إنزالها بهم. أوليس // إذ أخبرناك في أعلا كتابنا انه إذ خلقهم جميعاً(4) على بنيته قابلة للآفات والأعراض ولم يعقل ذكر الأعراض وأمور المضار المنبثّة في دار مولدهم المطلقة على طبائع ابدانهم، بل نعلمك ثانية أنه إذ خلقهم على هذه البنية الضعيفة المتضعضعة، لم يحجب كثيراً من الآفات المؤذية والأمور الضارة عن طبائعهم ليلتقوا أجدر بانبعاث الموت من قِبَلها من كثير عن نشأتهم(5)، وليحثهم ذلك أيضاً على التسارع إلى ما يحسن عليه من صالح الأعمال ثوابهم، وأعلمهم، بما أمكنهم من التحرر منها في كثير من حالاتهم، انه كما خلقهم مستطيعين لإتيان ما يصلحهم ويفسدهم من العمال، كذلك أطلق أبدانهم لتناول ما يضرّهم وينفعهم من الأمور.
أعني بما ينفعهم من منافع الاقتصار في المطعم والمشرب وغير ذلك من التقلب فيما تعدل عليه أبدانهم وتهدأ عليه طبائعهم، وأعني لمضّار ما ضادّ ذلك وخالفه من الإسراف في الطعام والاستكثار ممّا يوهن الطبائع ويسقم الأبدان ويورثها الموت والغيار.
وكذلك أطلق أيديهم لفعل هذه الأمور بمن أمكنهم من الناس، سيّما في أولادهم من الأطفال، ولو لم تكن أيديهم في ذلك مطلقة، لم يوجد فيها حرّية الاستطاعة التي بها يكتسبون فضايل الدار الآخرة. فجلّ ما يعتري الأطفال خاصة من الأسقام ويعرض لهم من الموت إنما ذلك من جريرة آبائهم المربّين لهم. وأول ذلك فساد المزاج الذي يتولد عن اختلاف رَعي أبويه(1) في مبتدأ خلقه.
فإن هو خلص من ذلك كان وشيكاً لعوارض الرحم المحمول فيه من إحجاب الحرارة واليبوسة ومن عفن الرطوبة وفيض البرودة أو من ضيق المكان عليه في نمائه // وتربيته هناك، أو فساد القوة التي تصل إليه من غذاء الأمّ الحاملة له. فهو من هذه المنازل دون ظهوره إلى فضاء العالم على شرف الأسقام وشرَع الموت(2).
فإن هو سلم من ذلك أيضاً وطلع إلى هذه الدنيا سليماً، لم يأمن(3) نفور طباعه ما هجم عليه من غلظ الحرّ وخشونة الرياح واستبدال الرضاع بالقوة اللطيفة التي بر بها(4) في البطن قبل ظهوره.
ثن إذا شبّ عن ذلك أيضاً فأُجري(5) على أكل الطعام وشرب الشراب، إن قصّر به فيهما دون كفافه، أنحلّ ذلك جسمَه وأسقم بدنه. وان حمل عليه فوق الكفاف من حاجته، أوشك أن يبشمه ذلك ويمرضه وينتهي به إلى الموت.
فليس من خلّة تسمو إليها حاجته دون البلوغ إلى القيام بشأن نفسه، إلاّ وهو من خطرها يُعَّرض للتلف. فجلّ ما ينوب هؤلاء الأطفال من الموت كما وصفنا، إنما هو سوء التدبير في أغذيتهم. وأن كانت الأعراض والآفات الجالبة للموت لم يعْرَ(6) منها رجالهم ونشأهم بجريرة أنفسهم، فإنها، إلى أطفالهم لضعف طبائعهم عن احتيال الحوادث التي لم تتقدم منهم لها عادة من قبل، أسرع. مع أنا نعلم ولا ننكر أن اله قد ينزل الموت بهم بخصال أخرى كثيرة لا يطّلع عليها ويعرف أسبابها غيره.
ولكنا نوقن في الجملة، لِمَا استبّربنا من عدله الدائم فيهم وصلاح جلّ الأشياء التي تليهم أجمعين بها لهم، أن تلك الجهات التي يطلع عليها من أسباب موتهم وأن خفيت علينا، قدّرها وسبّبها بعدله وحكمته لصلاح من مضى ومن تقضّى(7) منهم، كذلك لا شك أيضاً في تعمّده صلاح العامة في بقاء من بقي(1) من رجالهم ونسائهم، وليس، إذ لم نعلم كنة تدبيره في هؤلاء وهؤلاء// من الأمّرين والآفات الحالة بهم وبأطفالهم، كما أنّا إذا علمنا ضرورةً أن الله خلق الدنيا وما فيها وخلق أبداننا وركّب فيها أرواحاً(2) ثم سٌينزل الموت بكل واحد منا لا محالة إلى يوسنا هذا، ولا نعلم كيف خلق الدنيا ولا كيف ركّب الأرواح في أبداننا ولا متى يحلّ الموت بواحد منا- ، فليس ذلك يبطل علمنا بخلقه إياها وتدبيره لها وتصريفه إياها فيما فيه صلاح جميعنا، لأنا معشر البشر، إذ لم نُؤتَ(3) علم الأشياء كلها جملاً، لم نجتزم أيضاً معرفتها جميعها.
المسألة الحادية والعشرون
فإن قال: أفلا تخبروننا(1) عن هذه الآفات والأعراض التي تصفونها؟ مَن الذي خلقها؟ ومضن الذي أنزلاها بالأطفال وغيرهم؟ هل من خالق آخر يخلقها سواه، ومن منُزل ينزلها بهم غيره؟
قلنا: أن الأعراض والآفات ليست بخلائق مخلوقة. وليس الخالق أنزلها جميعاً بعباده. بل الذي تعمدّ هو، من فعله بهم، جبلةٌ(2) جوهرية على هذه البنية المضطرة إلى القيام على قصد الاعتدال.
وجعل فيهم مكانا(3) لقبول فساد الزيادة والنقصان للعلة التي من أجلها أبدى جبلتهم على هذا البيان، وخلق لهم ما يقيم أبدانهم من الطعام والشراب. وجعل(4) لهم عقولاً يعرفون بها ما يصلحهم ويصلح أطفالهم من الاقتصاد وما يفسدهم من النقص فيها والازدياد.
فإن هم قصّروا فيما يصلح أبدانهم دون الكفاف من حاجتهم، أجحفوا بها وعرّضوها للهلاك. وأن حّملوها فوق كفافها، أعطبوها وأسلموها للفساد. لم أعنِ بالكفاف من حاجتهم// شيعَهم وربّهم، فإن الأبدان قد تبقى على دون تلك من كفافها، بل أعني أقلّ قليل القدر الذي تقوم عليه أبدانهم وتحيا عليه أجسادهم، وتهلك أن قصروا دون ذلك في أغذيتهم.
كذلك قولنا في الإطعمات والإشرابات التي خلُقت لمنفعتهم وصلاحهم لا لضّرهم وفسادهم، وغنما تقوم، بحسب صلاحها وفسادها عند من صرفهم إياها في الاقتصاد والإسراف على ما ذكرنا من حالهم بهم، واجبةً غير مدفوعة.
المسألة الثانية والعشرون
فإن قال قائل: أفليس بدل ما صار خلق الأطفال والأخيار لهم سعادةً وصلاحاً وصار خلق الأشرار عليهم شقوةً ووبالاً، فكيف لم تمنعه رحمته ورأفته من خلقهم، وقد علم ما هم إليه من عيب أنهم صائرون؟
قلنا: ان مسألتك تستحيل عندما أخبرناك من العلة التي من اجلها لم يستقم(5) رفعُة الأشرار من بين الأخيار. وذلك أنه لو كان وليَ خلقَ ملّ بشري منهم على جبلته شخصاً مفرداً لَعسى كان ذلك، إذا رأيت بعضهم أخياراً وبعضهم أشراراً، أدّى[ إلى](1) مقال وسؤال: أي لمَ خلق مَن علمّ أنه يستوجب عقابه، إذ هو رحيم جواد.
فأما إذا كان الأمر على ما يشهد عليه منهاج نشوء كثيرهم من قليلهم من إبدائه الروح الواحد الذي كان أقلّ قليل ما أمكن به إقامة جوهرهم، ثم جعل في طباعها وطباع نسلها أمكان التوالد والتناسل والاستطاعة والسبيل إلى المزاوجة والمباضعة كيف أحبّوا، والامتناع عن ذلك إن كرهوا.
ثم أطلقهم بحرية طباعهم ينقلبون(2) بأعمالهم كيف أرادوا، والامتناع من غير أن يجبرهم(3)// ذلك على ما أحبوا أو كرهوا، فإي لوم عليه في خلقه مَن ذكرت من إبرارهم وفجّارهم، إذ كانت الطبيعة المهملة أدّتهم إلى الكون والاستطاعة الحَرِيَة(4) فأدّتهم إلى الفجور.
أو هل من حالٍ جلب عليهم هذه الشقوة إلا أنفسهم، ألم يعطهم عقولاً يميزون بها ما يصلحهم ويفسدهم؟ ألم يجعل لهم السبيل إلى إتيان ما ينفعهم واجتناب ما يضّرهم.
ألم يحلم عنهم إذ كفروا به فأطال مهلهم. ألم يسّهل لهم السبيل إلى التوبة من سيئاتهم. فما الذي بقي من الإحسان إلاّ وقد فعله بهم.
فإن كان حملهم شرهُ أنفسهم على أن آثروا شهواتهم على خلاف صانعهم فاستوجبوا منه بذلك حرمانّ ما استحقه العاملون الجاهدون بكدّهم وسعيهم، وكيف لهم السبيل، مع العدل البسيط بينهم، إلى أن تصير لهم بهم أسوةٌ فيما استأهلوا من ثواب ربهم.
المسألة الثالثة والعشرون
فإن قال: فإذ لم يستقيم أن يؤتيهم ثوبَ بكدّهم وسعيهم، فما راحته في عذابهم والانتقام منهم؟ بل يحق له، إذ كان جواداً(5) كريماً حليماً(6) كما وصفتم، أن يصفح ولا يعاقبهم على ما فرط من سيئاتهم.
الجواب نقول: ألا أنه، كما لا خوف عليه فيما يولي أهل الثواب من ثوابهم، كذلك لا راحة له فيما يُنزل بأهل العقاب من عقابهم. ولكن كيف لهم، إن هو تفضل عليهم بعفوه ومغفرته فلم يُنزل ما استوجبوا من عذابه، إلاّ يتعذلوا(1) هم في أنفسهم لهفاً وحزناً وأسفاً واكتئاباً على فوت ما ناله الفائزون(2) من ثواب ربهم، فيحلّ(3) ما ينكشف من مستور فصائحهم وعورات// خطاياهم.
المسألة الرابعة والعشرون
فان عاد فقال: فأي خسران كان عليه وعلى أهل طاعته لو رفعهم بفضله عليهم وبمغفرته وعفوه إلى منزلة الذين أطاعوه وأرضوه بسعيهم وصلاح أحوالهم؟
قلنا: ما كان عليه ولا عليهم في ذلك خسران لو استقام فعله. ولكن ما يدلنا(4) ما عرفنا من وفائه وكرمه على انه لو فعل ذلك بالعصاة منهم، استحق الصالحون منه الزيادة على ما أنالهم.
ومهما رفع حالهم مرتبةً فألحق بهم العصاة فيما استحقوا هم منه، لفضله بلائهم وتقادم حسناتهم، الارتفاع عنها إلى رتبة أعلى منها، فتحّول ذلك إلى السرمد الذي لا نهاية له.
بل يحق لكرمه وعدله أن يفضل بينهم وبين العصاة فيها بمنزلة عالية، لو لم يتعذب العصاة من دونها إلاّ باللهف والحزن على ما فاتهم من جسيم خطرها لكفاهم بذلك شقوةً وعذاباً.
هذا إن هو تفضّل عليهم بما لا يُطمَع لهم فيه عنده من الصفح عمّا استحقوا من عقابه(5).
المسألة الخامسة والعشرون
فان قال: فإذ لم يستقم(6) بلوغ الأشرار إلى مرتبة الأخيار كما زعمتم، فهل بين الفريقين في تلك البنية العالية التي وصفتم وفي ذلك العالم الكامل الذي ذكرتم وفي المصير إلى دار منقلبهم، من فرق واختلاف؟ فإن كان لا فرق ولا اختلاف بينهم في شيء من هذه الحالات فقد لحق أشرارهم بأخيارهم لا محالة في أشرف حالاتهم.
قلنا: أما البنية الباقية والعالم الكامل فقد يستوون فيها جميعاً غير أنها// يكونان غبطة وسروراً(1) لأهل الصلاح وآفةً وشقوةً على أهل الطلاح.
لأن البقاء في النعيم والعلم بدوامه غبطة لأهله وسرور، وطول البقاء في العذاب ويقين العلم بدوام العقاب شقوة على أهله ووبال.
فإما المصير إلى موضع منصرفهم فلا يحق أن يساوي العدل الحكيم فيه بينهم، لأنا نجد له أماكن تتفاضل وتختلف حالاتها كالسماء(2) بشرف علّوها، ومنها كالأرض بدنأة(3) سفالتها. بل لا شك في رفعه أهل الصلاح إلى أعلى المواضع وأشرفها، وتصييره أهل الطلاح إلى أخسّ الأماكن وأدناها.
المسألة السادسة والعشرون
فإن قال: فما الذي منعه، إذ(4) أراد أن يكون ما يؤتيهم من ذلك النعيم هناك باستحقاق منهم له، من أن يخلقهم صالحين أخياراً(5) يستحقونه بصلاحهم وبرّهم، دون خلقهم مستطيعين لأعمال الشرور، فأوجب على مَن عمل منهم شرَّ عقابه؟.
قلنا: منعته حكمته من تكلف ما لا يمكن كونه، والذي سألت عنه من هذا هو المحال بعينه ومحضه. وذلك أنه لا يستحق اسمَ الصالح والطالح إلاّ من كملت فيه الخصال الثلاث: الاستطاعة والعقل والاختيار جميعاً. ومن يُجري طاعةَ خالقه بعقلٍ واختيار واستطاعة، إذ أتخذ إلى الطاعة سبيلاً، فذاك يُعَدّ باراً صالحاً.
فأما من تجبل على أمر...(6) وطُبعت عليه بنيته، فلا يجد إلى تعدّي ما طُبع عليه محيصاً،فلم يُسَمَّ(7) صالحاً ولا طالحاً ولا تحسب له أعماله برّاً ولا فجوراً، ثم لا يستحق بها أيضاً ثواباً ولا عقاباً. كما أنه إذ جبل طبيعة الذئب على المرادة والنُكر(1)// وطبيعة الحروف على اللين والسكون ولا يجدان إلى خلاف ما جُبلا عليه من تقلّبهما محيصاً، لم يُحسب ين الحروف له برّاً ولا مرح الذئب له فجوراً. ولا أيضاً يستحقان بما أحدثت(2) عليه غرائزهما ثواباً ولا عقاباً. كذلك فليكون(3) فيما دل ممّا سالت.
وأعلم أنه لو طبع جوهر الأنس على طريقة، لا يجدون سبيلاً(4) إلى غيرها بعد طريقتهم صلاحاً ولا طلاحاً، ولا كان يوجد فيهم إمكانٌ لاكتساب الثواب رأساً. بل إنما نُسب الناسُ خاصةً إلى البر والفجور من بين جميع الخلائق، إذ خلٌقوا مستطيعين لاختيار الأعمال بعقل وتمييز فاختاروا لأنفسهم ما اختاروا.
وقد كانوا مستطيعين لاختيار خلاف ما اختاروا، ولذلك حسبَ لهم طاعتَهم براً وثوابهم مكتسباً، فكمل سرورهم بما نالوا وعظمت بهجتهم بما استوجبوا.
المسألة السابعة والعشرون
فإن قال: فما بالهم، إذ استوى[ما] (5) بينهم في الاستطاعة والعقل/ لم تستوِ(6)آراؤهم في اختيار الأعمال، وإنما صيّر فيهم الاستطاعة والعقل بزعمهم ليختاروا سير الفضل والإنصاف، ولا نرى ذلك نفعَهم عند اختلاف آرائهم شيئاً.
قلنا: أما الذي كان يحقّ لفضله ويليق بحكمته من أن يفعله بهم فقد فعله وأكمله، أعني ما طبعّ جوهرّهم عليه من معرفة الخير والشر والاستطاعة والسبيل إلى اختيار فضائل الحسنات وأتباع صالح الأعمال. ولكن هم اللذين تعدّوا ألحق بشرَه أنفسهم والركون إلى شهوات أبدانهم.
وكان مفتاح ظلمهم وجورهم أن أرادوا السلامة والإنصاف من غيرهم لأنفسهم، واستحسنوا التطاول والعدوان من أنفسهم إلى// غيرهم. ولاختيارهم ذلك غالطوا عقولهم واستمروا على تمويه ما خالف ألحق اللازم.
المسألة الثامنة والعشرون
فإن قال: فإذ وقع بعد هذا الغلط بينهم وصلّت عن سبيل الرشد آراؤهم، فلا حجة تجب لخالقهم عليهم في تركهم الحق واختيار ما خالفه لأنفسهم.
قلنا: لا لعمري أن الحجةََ حجتّه، فيما ألزمهم دون ما اختاروا لأنفسهم، لقائمةً عليهم غير مدفوعة. وذلك أنه، إذ أشبع عقولهم علماً بجميل ما أولاهم من تقادم إحسانه إليهم وسوابق عدله عليهم، لزمهم التعامل بالخلّتين جميعاً كما عاملهم. أي كما تفضّل بنعمته بدياً فجاد بخلقهم، ثم عدل عليهم من بعد فوفّى(1) لهم بما تكفّل لهم به من أرزاقهم، كذلك أوجب عليهم أن يتعاملوا(2) بالتفضّل والوفاء والعدل والإنصاف فيما بينهم. وإذ سرّهم إحسان خالقهم إليهم، حقّ لهم ان يحسنوا هم إلى أخدانهم.
وإذ سرّهم أن لا يتجبّر بهم أحد، حقّ لهم أن لا يتجبّروا بأحد. وإذ أحبّوا إلاّ يُسرَفوا، وجب عليهم أن لا يسرقوا. وإذ أحبوا أن لا يُظلَموا، وجب عليهم أن لا يظلموا.
هذه سبل الحق التي قام الله بها دينه، وعليها أسّس في هذه الدار بنيانَ خلقه، وإياها رضي لعباده. فمن عمل فاز وظفر ومن حاد عنها خاب وخسر. والمجلد للثالوث المقدسة من الآن والى الآباد آمين.
كمل الفن(3) الأول في الاحتجاج لتصحيح وحدانية الباري وربوبيته بحمد الله ومنّه.
الفن(1) الثاني من كتاب عمار البصري
في تثبيت الإنجيل المقدس
وهو أربعة عشر مسألة
المسألة الأولى
فإن رجع المسائل من بعد فقال: أفلا(2)، إذ كان هذا الخالق متفضلاً جواداً رحيماً شفيقاً كما تصفون، ثم رأى غفلةَ خلقه عن طرفة وزوغانَهم(3) عن سبله، فلمَ لم ينّبههم بلطفه ورأفته؟ وما منعه أن يُواتر رسلَه بذلك إليهم ويدمن؟
الجواب قلنا: بل قصد تفضّل عليهم ونبّههم لها بعهدٍ منه إليهم يتوارثه أعقابهم باختلاف لغاتهم، وذلك لعدله البسيط على جميعهم، يحثّهم فيه على جميع ما أغفلتْ من الحق عقولهم. فأوجب قبولَه عليهم بإظهاره آياته على يدي حامليها إلى بلدانهم.
المسألة الثانية
فإن قال: فما منعه أن يواتر رسله بذلك إليهم ويدمن إظهار آياته على يدي رسله فيما عهد إليهم، لئلا يجدوا رخصةٌ في ترك ما أفرض عليهم فيه واختيار ما خالف ذلك لأنفسهم؟
الجواب قلنا: منعه من ذلك ما اخبرنا بدياً من تعمّده جزيل ثواب أهل العناية والبحث السالكين سبل الحق. فإنه لو أدمن تنبيههم في كل حين برسله وآياته على ما هو موجود في عقولهم من إمكان درك معرفته وإتّباع فضايل سبله، إذاً كان ذلك يقوم مقام ما كرهه لهم أولاً من حمْلهم على أضرار معرفته وجبْرهم على لزوم طاعته وتصييرهم بذلك إلى حدّ// البهائم التي لا حمد لها مع دوام ضرب العصاه على الانقياد لما فُسرت عليه من الأعمال.
لكنه أظهرها لأهل العصر الذين أنزل عهدَه عليهم، لمّا لم تكن عليهم إذ ذاك حجة متقدمة يستدلّون بها دون الآيات على تحقيق ما أنزل إليهم. ثم منع ذلك من أعقابهم من بعد، لِمَا أراد من إنجاب الثواب لمكتسبي معرفة عهده بحثّهم، وسالكي سبله بطاعتهم وسَنّة أنفسهم. وذلك بعد أن سهّل سبلهم إلى درك معرفته. وآتاهم القوة على القيام بما عهد إليهم فيه.
المسألة الثالثة
فإن قال: فأيّما عهدُه الذي رضي به الحق لدينه وعرّفهم فيه طاعته وسبله؟
وكيف السبيل لأهل هذا الدهر إلى وجوده ومعرفته ليعلموا بما افترض عليهم فيه؟
الجواب: قلنا: عهده ذلك الذي يشاكل عدَله ويلائم فضله، أعني إنجيله المفسور وكتابه المنشور المبثوث منه في أيدي الأمم والشعوب.
المسألة الرابعة
فان قال: فما حجته أذن فيما أنزل من إنجيله هذا على من لم يشاهد رسله ولم يعاين ما أُجري على يديهم من آياته وإعلامه؟
الجواب قلنا: حجته اليوم لازمة لمن لم يشاهد آياته كما لزمت مضن شاهدها إذ ذلك وعاينها. وذلك في خصال شتّى:
فالأولى وجود شرائع دين الحق الملائمة لسنن المنعم الجواد فيه جملاً(1) ، دون ما ابتدع أئمة الضلالة من شرائعها الزائغة فيما افتعلت من كتبها وأديانها، كالذي(2) سمعت من تحضيضه(3) على أمور التفضّل في قوله للناس عامة:" أحبوا أعداءكم وباركوا// على من لعنكم واصطنعوا الخير إلى من أساء إليكم وصلّوا على الذين يحلونكم عن بلدانكم ويطردونكم عن مواطنكم"(4). وكقوله في جملة أمور العدل: " كما تحبّون أن يُصطنّع إليكم كذلك فاصطنعوا أنتم إلى جميع الناس"(5). ففي التمسك بهاتين الوصيتين مجانبة جميع الفواحش من القتل والزنا والسرقة والغضب والحسد والكذب وشهادة الزور ومنع الاستكثار من النساء والترخيص في مفارقة الأزواج وما أشبه ذلك من سبيل الفساد، إلى المودة التي تحشم المرء عن قتل صاحبه وعن تناول حرمَةِ وعن سرقة ماله وعن حسده على ما ملكتْ يداه وعن اغتنامه في معيشته وعن شهادة الزور عليه وعن ظلمة وغضبه ومساسه(6) في شيء من أموره.
ثم يمنعه عن مفارقة زوجته وعن ان تُثيره إلى غيرها نفسُه، وعن كل هفوة يسخط عليه فيها خالقه.
المسألة الخامسة
فان اعترض ههنا وقال: لعلّ الذين قبلوا هذا الدين وهذا الكتاب غنما أثبتوا هذه المجالس فيه وزخرفوه بها من تلقاء أنفسهم ليستميلوا بها الناس إلى أمورهم وطاعتهم، من غير أن يكون الله انزل ذلك إليهم وامرهم بالدعوة إليه.
الجواب قلنا: ارتفعت العلل عن ذلك وبطل الشك فيه الخصال ظهرت فيها شهاداتُ حقّه وعلامات صدقه.
وأول ذلك ما أخبرنا من استبداده وتفرده بهذه الخصائل دون من خالفه. فإذا كان هو المستأثر وحده بجميع الفضائل كلها دون غيره، فحسبت(1) العقول بذلك دليلاً على نزوله من لدن الكريم الجواد الذي أنشأ الخلق بنعمته تفضلاً عليهم وجوداً (2) ثم وفّى(3) بما تكفّل من أرزاقهم عدلاً وإنصافاً.
والثانية: ما أظهر هذا الحليم(4) من عدله البسيط على جميع خلقه في بثّه أياه فيهم باختلاف لغاتهم، ولم يُكلَّف أحد من أهل اللغات المختلفة قبولَه بلغة سوى المعروفة لديه من لغته ولسانه.
والثالثة: ما تشاهد العقول من نفاذ ما رسم فيه علاّم الغيوب من خفيّات الأمور ومكتومات السرائر كقوله إذ يقول:تشبه ملكوت السموات، ويعني بذلك دينه، حبّة الخردل التي هي أصغر الحبوب كلها وألطفها جميعاً. فإذا نبتت صارت أعظم البقول في البحر فغرفت من كل أجناس السمك، أو يقول: يشبه هذا الدين خميرةٌ لطيفة عُجنت من ثلثه إصبع(5) من دقيق فخمرته أجمع. وإذ يقول: تشبه هذه الدعوة وليمةٌ عملها ملك لابنه ودعا إليه(6) أهل خاصته فامتنع القوم نن إجابته، فلما رأى امتناعهم أمر عبيده أن يعترضوا الصكك(7) فيُدخلوا عليه من لقوا من أشرار الناس وأخيارهم.
فهذه أمثال قد برهن بها لسانه ثم صوّرها في عهده ورسمها في كتابه وأنبأ للناس فيها بالكائن من أمر دينه. وأما ما تمثّل به من حبة الخردل في ألطافها وعظم قدر نباتها، به خفوض دعوته ثم ارتفاع شأن دينه واعتلاه وظهوره على جميع ما احدث في الأرض من اختلاف الأديان سواه، كنبات حبة الخردل التي تعلو أنبات البقول كلها. وكذلك يبدأ في الناس بشراه فيتآلف إليه سامعو ذكره كالخمير// التي تجتذب العجين الكثير إلى الاختمار.
وكذلك يحتوي دينه أجناس الشعوب كما تحتوي الشبكة ضروب أجناس السمك.
وأما قوله في امتناع خاصة الملك من إجابته دعوته، فيعني به امتناع الشعب العاصي المختص كان بمعرفة الله قديما(1) من إتباع طاعته وقبول دعوته. وأما آمر عبيده أن يدعوا(2) الأخيار والأشرار فهو الذي(3) يخبر كتابه من أمره لرسله بدعوة الشعوب من عبدة الأوثان المنهمكين كانوا(4) ي طاعة الشيطان دعوةٌ خالصة لا يشوبها رهبة سيف ولا رغبة مال، كالذي تقدم إليهم في النهي عن ذلك فاستجابوا لدعوته وتمّ فيه سابق نبوءته(5).
والرابعة: فالدلائل الواضحة من الآثار القديمة على ما سلف من ظهور الأعلام ونزول الآيات على يدي الداعين إليه، فإنه كما أن النار- وكفى(6) بها فيما نصِفُ من هذا الشأن قياساً- إذ خُلقت لقوام العالم ولتُصلح وتفسد وتنضج وتحرق، وكانت آثار أعمالها من الاحتراق والرماد والدخان والبخار دلائل للعقول على وجود عينها وحضورها أينما أثّرت أعمالها، وأن عُدمت عن إبصار الناظرين من بعدِ ما أثّرت آثارُها، كذلك، إذ كان الحكيم جلّ ثناؤه إنما أرسل رسله وأجرى على أيديهم آياته وإعلامه ليقيم بها تفريق المشتّتين، فحبه بما تشاهده العقول من ائتلاف القبايل وطننا(7).
فإنا إذ جعلنا القياس فيما اختلفنا فيه بيننا حكماً، فليس لنا أن نتعدّى حكمه في كل ما لزمنا، ثم ننظر في الأسماء // والصفات المذكورة من صانع الخلائق أيضاً فنصفها بعقولنا وتميّزها بأوهامنا، ثم نلزم كلَّ شيء اسمَ جهته وكلّ نعتٍ معناه.
وإذا ما ذُكرتْ من صفاته الحياة والحكمة أوجبناهما جوهرين من جوهره لا فعلين من أفعاله ولا جارحتين عنه لذاته. وإذا ما(1) ذُكرتْ منه القدرة والقوة عز جلاله، لم نتوهمهما(2) قوة وقدرةً جسمانية جسدانية كقوة البعير والفيل والأسد والثور وما أشبه ذلك من الحيوان، بل يحق لنا أن نوقن بأنها قدرة روحانيية حكمانية لا جسدانية جسمانية، ونعلم أنه جلّ ثناؤه إنما لطف بخلق هذه الطبائع وتأليف هذه الجواهر وتقدير هذه الأشكال وتدبير هذه الأمور بحكمته التي هي قدرة لا بقدرة سوى حكمته، فقد يضطرنا القياس من شواهد أعماله إلى أن نقضي بأن قدرته هي حكمته، ولا تغني(3) أيضاً بحكمته حكمةً مكتسبة كحكمة المتعلمين لأعمال اللطفا.
فإنه لم يكن في قدم أزليته جلّ ثناؤه من حكمته صفرّاً ثم اكتسبها لنفسه من بعد اكتساباً ، بل نعني بها كلمته الأزلية التي لم تزل له خاصية جوهرية من عين جوهره وذات طباعه.
مع أن الأسماء قد تختلف على هذه الخاصة الواحدة التي لا اختلاف في ذاتها على أنحائها، وذلك لاختلاف الأمور التي من أجلها احتاج العباد إلى أن تخالفوا بين أسمائها لأنهم، إذ(4) أرادوا أن يصفوه بما أحكم من تأليف من ألّف وتقدير ما قدّر، سّموها حكمته، وإذ(5) أرادوا أن يصفوه بالأمر والنهي والكلام والقول سمّوها// قوته.
وهذه كلها راجعة إلى جوهريته التي لا يمكن توهمها عند الحقيقة إلا خاصة جوهرية من عين الجواهر وذاته. فلا يتعاظمنك أيها السامع قولنا أن الأسماء قد تختلف على هذه الخاصية الواحدة.
فقد تسمع واصف النفس الروحانية يصفها بنفسٍ علاّمة ونفس منطقية(1) ونفس عاقلة ونفس مروية(2) ونفس حكيمة، يريد بذلك وصفها بما لها من طبيعة النطق وجوهرية الكلمة.
وكذلك يحق لنا: إذا نحن ذكرنا أرادته ومشيئته، أن نعلم أيّ الوجهين ينبغي أن نتوهمهما(3): أطبيعيّة باضطرار، كإرادة الحيوان التي تضطرها طبائعها إلى طلب ما يقيمها، أم حكمانية باختيار، كالمريد الذي الشيء يتوخّى بها صلاح غيره.
فلعمري لئن ظننت(4) أن الأمور التي شاء أن يبدعها والخلائق التي أراد أن ينشئها، إنما تعمّد بها صلاح شأن نفسه وقوام ذات جوهره، كالطبائع التي ذكرنا، أذن لاستقام أن تقول عسى أرادته لم تزل أراده اضطرار(5) لا إرادة اختيار(6).
ولمن إذا الفيَ جلّ ثناؤه لم يرد شيئاً فقط ولن يريده أـبداً لعلو جوهره عن الحاجة والاضطرار إلاّ ما فيه صلاح غيره تفضلاً وإنعاماً، فحسب العقول بذلك دليلاً على أن مشيئته مشيئة اختيار لا مشيئة اضطرار.
فإنك لن تعقل منهما بالسماحة والجود إلا ناطقاً حكيماً، ولا مزمعاً بالتفضّل والأنعام إلاّ مميّزاً عليماً.
وإذا ما ذُكرتْ منه النعمة والجود بعينهما(7)، أي بفعلهما، ثم الرأفة والرحمة والعدل والمغفرة وما أشبه ذلك، أيقنّا بأنها إنما ذُكرتْ فيه وقبلت(8) عليه من//(9) قبل الأمور التي عامل في وقت البلاء سًمّى حناناً رؤوفاً، وإذ وفا لهم بما تكفّل به لهم من أرزاقهم سُمي عدلاً وفياً. وكذلك كل ما كان بذلك شبيهاً.
وهذا أيضاً أجمع مضاف(1) إلى جوهرية النطق التي عنها تتولد هذه الأمور كما ذكرنا، فإنه لا جوادَ منغمَ إلا منطبق(2)، ولا عدلَ منصفَ عاقل حصيف.
وأما ما أضيف إليه من السمع والبصر فإن ذلك لقلة معرفة العامة منهم بعلوّ جوهره عن صفات الجوارح والأعضاد المركبة المولفة، وجهلهم بالسبب الذي من أجله وصف نفسه ووصفه أولياؤه سميعاً بصيراً(3).
بل ذلك لنهم إذ وجدوا أنفسهم لا يدركون الأصوات إلا بآذان ومسامع ولا يميّزون بين الأجرام والألوان إلا بعيون وأبصار، فحسبوا بضعف آرائهم أن صانعهم لا يدرك معرفة الأشياء إلا من طريق ما أدركوا، فسمّوه لذلك وسّمى نفسه سميعاً بصيراً.
فأما في الحقيقة الواجبة فإن جوهره يتعالى عن السمع والبصر، كما اعتلى عن الشر والذوق، لأن هذه جوارح ومشاعر ركبت في أشخاص الحيوان ليلتمسوا بها معرفة الأشياء إذ جبُلوا على بنيةٍ نعجز عن درك معرفتها دون اللمس والبحث عنها.
بل هو جلّ ثناؤه الغني بروحه المستغني بحكمته عن الجوارح التي بها يدرك أهل الجوارح الضعيفة الهيئة(4) المكوّنة بعينهم، ولا يُوصف في الحقيقة سميعاً بصيراً، كما لا يُوصف شموماً ذّووقاً حَسوساً.
بل قد نرى بأنه عالم باختلاف // الأصوات المسموعة بآذان الخلائق لا بآذان الخلائق لا بآذان ومسامع.
ويعرف كنه الصور التي تدركها أبصار الناظرين من إشكال الأجرام التي خلق، ويرى(5) لا بعين وبصر.
ويعلم كيفية أطعمة الاطعمات في اللهوات لا بحنك ولسان. ويعلم كيفية الارائح(6) في الخياشيم والمناخر لا بخيشوم ومنخر.
ويعلم كيفية الخشن واللبن تحت الملامس لا يكفّ ولا ملمس، بل قاهر، على اجتماع الشعوب المتشتتة وائتلاف الأمور المختلفة واتفاق الأهواء المتفاوته، على قبول ما أنزل عليهم من كتابه ودعاهم إليه من شرائعه وسبله حجةً عليهم وبرهاناً(1) على اختلافهم عليه فيما سلف من إظهار الآيات وإنزاله الأعلام على أيدي الداعين
المسألة السادسة
فإن قال: وكيف لنا بالفرق بين الائتلاف ولاتفاق اللذين كانا عن الآيات والبرهان وبين الذين كان عن افتعال الناس بغير آيات وبرهان، وقد نرى أقواما(2)،متشتتين يتدينون بأديان متفاوته وفي أيديهم كتب مختلفة من أمرٍ ونهي وشرائع وفرائض وذكر بعث ونشور وثواب وعقاب يدّعي كل حزبٍ منهم أن كتابهم هو عهد الله إلى خلقه أتاهم به وسلُه واظهر على أيديهم بذلك آياته وبرهانه.
قلنا: أن عنيتَ بالبحث وناصحت(3) في القيام والنظر، استبان لك الفرق بين وقد يحق لك ان تعلم أولاً أنه ليس من كتاب دينٍ وشرائع افتعله أهل الأرض(4) // فانقادت لقبوله طائفةُ من الناس، دون إحدى ست خصال نسميّها لك:
إمّا الاستحسان بما جُمع فيه من زخرفة كلام المدعين(5) في إثبات شركٍ أو توحيد أو غير ذلك، نحوَ ما اخترعته عقول اليونانية الأولين من اللطائف التي أبهرت العقول وافتنت(6) القلوب، وكتوحيد المستدير(7) باسم النوحيد، وكقول أهل الدهر الذين زعموا أن الأشياء لم تزل بل تنشو وتضمحل على ما نرى من حالاتها، وكقول زرادشت وماني وابن ديصان ومرقيون وأشباههم في إثبات الصانَعين القديّمين والأصلَين المتزجَين، فاستغفلوا(8) بشهادات أقاويلهم الموَّهة كثيراً(9) مّمن نابهم(10) به لفساد حجتهم وردود دعواهم.
وإمّا الترخيص في الشرائع والتسهيل في الفرايض، على ما نرى من مسارعة ناسٍ كثير إلى ما رُخّص فيه لنيل اللذات وركوب الشهوات، كالملة التي أسّستْ على إيثار الأمهات والبنات والجواب مع(1) إباحة كلما اشتهته الأنفس ولذّته الأبدان.
وإمّا لسيفٍ قاتل أو لسطانٍ قاهر أُكره الناس به على ما كرهوا فانقادوا له خوفاً ورغباً.
وإمّا المواهب وعطايا من رغائب الدنيا، فسارعت القلوب إلى ما دُعيت إليه من خلف الحق وخلاف ما لم تزل عليه من ضروب أديانها، رغبةً في سعة المعيشة وهرباً من الضرورة والحاجة.
وإمّا لحميّة وتعصّب كمن يتبع يدة وقومه ورئيس عشيرته، على ما يتقرر زوره وفساده، تعصباً وجميّة.
وإمّا لمعاينة خيال وتشابيه من السحر كالذي رأيت أو يبلغك من أعمال السحرة.
فهذه الخصال(2)// االستُ في جميع المبطلين في اجترار الناس إلى قبول ما افتعلوا من كتبهم وأنشأوا من أديانهم.
وليست لأحد من الخلق في ذلك حيلة سوى ما ذكرنا(3). كما لو أن أمة من الأمم الضالة بارزت رجلاً واحداً من أهل الأديان فراودته على أن تنقله عن دينه إلى دينها دون إحدى الخلال التي ذكرناها، لمَا وصلت إلى ذلك منه أبداً.
وانا لنرى مملكات كثيرة وشعوباً(4) مختلفة وأجناس أممٍ متشتتة وأهل لغات متفاوته، أعني الروم وفرنجة وأبروا(5) والبربر والحبشة والنوبة ومرار(6) والديلم واللان(7) وحيلان وجميع بلدان العرب والجزيرة والشام وغير ذلك من أفناء(8) القبائل العرب وأبناء فارس وغيرهم من أصناف الناس يتدينون بهذا الكتاب ويطنبون في تعظيمه وتبجيله،فأستبْن(9) بهذا، يا هذا، وانظر لأيّة(10) هذه الخصال ائتلفت عليه ودانت به.
فإن وجدت ذلك يمكن أن يكون لخصلة من هذه الخصال الستة التي ذكرناها، فأيقنْ بلا شك أنه باطل من افتعال الناس.وإن وجدته منفيّاً عنها جميعها(1) أصلاً، فأعلم يقيناً أنه كتابُ الله المنزل من عنده وعهدُه البالغ منه إلى خلقه المقبول من إيدي رسله بآياته وإعلامه. فمن جهة هذه الشعوب القابلة له تستدل(2) على الوجه الذي منه بدأ وظهر وعلى العلة التي من أجلها ثبت وقبل.
المسألة السابعة
فإن قلت أو قال قائل: لعل قبول هذه الشعوب كان لاستحسان ما جُمع فيه من الأمور التي تميل إليها القلوب كتوحيد الموحدين وكحجج زرادشت// وماني وابن ديصان ومرقبون، وكاللطائف من قول اليونانية الأولين.
قلنا: أنه لعمري ليس بمنكر أن ينجذب أناس كثير لأمور زُخرفَ ظاهرُها ومُوّه باطنها وزُيّنت عيوبها وغُطّيت عوارها بالتششابيه اللطيفة استحساناً لها.
ما استُسمج ظاهرُه واسُتقبح خبره ونفرت العقول من شناعته وذثعرت القلوب من وضاعته، فلا سبيل إلى تهمة قابلية بالانقياد لقبوله بالاستحسان له.
فهل نتلو(1) عليك ما دُعيت إليه الشعوب إلى التصديق به من أخبار هذا الكتاب، فانظر هل تجد فيها خبراً(2) يُستحسن من ذي عقل قبوله والتصديق به استحساناً له، فيقول في ابتداء كلامه.
ان جارية يتولا(3) عذراء أُلفيت حبلى وولدت غلاماً من غير زوج. ثم يخبر أن المولود من العذرى كان ابن الله. هذا ويقول بعد أنه صُلب وقتل، وأنه من بعد صلبه وقتله ودفنه أنبعث وقام حياً. ثم يقول انه من بعد إنبعاثه وقيامته صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله وفوق الملائكة والكروبيم والسارافيم. ثم يقول أنه أوتي ملكَ الخلايق كلها وعبدت له الملائكة والناس أجمعين.
ثم يقول أنه عائد إلى الأرض ولإقامة الأموات وبعث من في القبور. وأنه يحاكم الملائكة والناس يوم القيامة، فيصرف الأبرار إلى النعيم ويخلّد الفجّار في الجحيم.
ثم يقول إنه أرسل رسلاً أمَرهم بدعوة الناس إلى الإيمان والإقرار بالآب والابن والروح القدس، إله واحد خالق واحد رب واحد.
ثم يدعو الناس من بعد هذه الأمور إلى خلع الدنّيا ورفض نعيمها، ولا يخبر عن ثواب المصدّقين به بأكثر من أنهم يكونون// في السماء مثل الملائكة.
فهذه العشرة أخبار عمودُ ما يدعو إليه هذا الإنجيل والتصديق به. فلأيّهما يزعم الزاعم أن الشعوب انقادت له وقبلته استحساناً له؟ أوَليس قد بان لكل ذي لُبّ أنها للاستشناع والاستكثار والاستثقال والتزوير والتكذيب أخلق.
المسألة الثامنة
فإن قال: فلعلّ ذلك لِمَا رُخّص لها فيه من إيثار الشهوات ونيل اللذات، ولِمَا خفّف وسهّل عليها من فرائضه وشرائعه؟
قلنا: قد علم كل ذي عقلٍ أيضاً أن رأس ما ترغب الناس فيه من الترخيص(1) في قضاء شهواتهم وركوب لذاتهم في شأن النساء والاستكثار منهنّ. ثم ما يتبع ذلك من إدمان النعيم في الأكل والشرب واللهو وما أشبه ذلك.
ثم قد نعلم أنه لا سبيل إلى نيل هذه الأمور إلا بمقدرة ذات اليد من قنية الأموال وذخائر الكنوز.
فالذي يأمر به هذا الكتاب وبحث الناس عليه خلافُ ذلك أجمع، إذ يقول: ومن طلّق امرأته وأخذ أخرى غيرها فقد زنى، ومن خلّى زوجته من غير فاحشة فقد فجر"(2): جزم في ذلك وأوضح أنه محرّم على المرء أن يتخذ سوى زوجته الواحدة فقط.
ثم يقول: بيعوا ما اقتنيتم في الأرض كلَّه واصرفوه صدقات في المساكين، وتشبّهوا بطير السماء التي لا تتعب ولا تدّخر لها لغدها، كذلك ولا تهتموا انتم لغدكم فتقولوا ماذا نأكل وماذا نشرب وماذا نكتسي(3): ففي أمره بالاقتصاد على زوجة واحدة وتحريم طلاقها، ثم تحضيضه(4) على تفريق الأموال في// المساكين والتشبه بطائر السماء، حسمَ جميع لذات الدنيا وشهواتها.
ذلك أيضاً مع التحضيض(5) على التواضع واحتمال الضيم والصبر على الأذاء وإدمان الصلاة والصوم. ويهدّد شاتمَ أخيه(6) أو لامحَ امرأة بعينٍ شهوةٍ بعذاب جهنم. فحسبك من هذا من كل ترخيص وتستميلَ به أهل الغرور إلى أديان الضلالة.
المسألة التاسعة
فإن قال: فلعلّها خضعت لقبوله لِمَا قُهرت عليه من سلطانٍ أو سيفٍ.
قلنا: وهذا أيضاً غير ممكن مع إقرار الداعين فيه بما أوصاهم مرسلهم إذ قال: " إني مرسلكم كالحملان بين الذئاب. فانطلقوا ولا تتخذوا على دعوتكم مقرعة ولا عصاة"(1).
فلو هّموا بأن يقهروا الناس بسيف لمّا أقّروا بما نهوا عنه من اتخاذ المقارع والعصيّ. بل إقرارهم بذلك يشهد على انهم لم يستعملوا على دعوتهم سيفاً ولا ضربوا بمقرعة.
المسألة العاشرة
فان قال: فعسى قبلته لِمّا بذل عليها من الأموال(2) والرغائب؟
قلنا: والذي أثبت القوم فيه أيضاً من إقرارهم بوصية مرسلهم إذ قال:" لا تقتنوا ذهباً ولا فضة ولا نحاسً"(3)، يشهد على أنهم لم ينالوا أحدّا(4)ً؟ يبذل مال ولا إعطاء رشوة.
المسألة الحادية عشرة
فإن قال : فلعلّها قبلته تعصباً وحميةٌ لمن نسيت الكتاب إليه ودعت(5) إلى عبادته؟
قلنا: لعمري لو أن الذين قبلوا ذلك عنه كانوا من قومه وعشيرته فقط، لجاز لك أن تقول عسى دعاهم إلى ذلك التعصّبُ// والحمية. فأما أن تكون أمم مختلفة وشعوب متشتتة وأجناس أممٍ ومملكات متفاوته اجتمعت بأسرها على التعصب والخضوع لعبادةِ قتيلِ يهود، معماً بينهما وبين اليهود خاصةٌ من السبب والبغضة والحروب والشحناء، فهذا ما لا يتوهمه عاقل ولا جاهل.
المسألة الثانية عشرة
فغن قال: فلعلّ ذلك لِمَا رات من سحر الداعين(6) إليه.
قلنا: وكيف يمكن ذلك أيضاً، معما رهنوا به ألسنتهم وأحالوا تجاه الجموع على أنفسهم من وعد مرسلهم أياهم بإظهار الإعلام الواضحة والآيات الصادقة على يدهم، إذ قال:" انطلقوا فادعوا الشعوب إلى هذا الدين واطردوا الشياطين واشفوا الأسقام وأبروا البْرصَ باسمي، وأن أُسقيتم السمّ القاتل من أجل اسمي لن يضرّكم شيئاً(1).
فلا شك أن قد كان فيمن سمع مقالةَ القوم وأجابهم إلى دعوتهم أدنى رأي وعقل، طالبَهم تجاه الجموع بتحقيق ما ادّعوه ممّا وعدهم مرسلهم من إظهار الآيات التي وصفوها على يديهم.
فلو كان تكشّف أمَرهم عند تلك المطالبة على خلاف ما أدّعوا في أنفسهم، لانتبهت الجموع لكذبهم ولم يجب أحد من الناس لدعوتهم. وكيف، وإنما وردوا على صناديد الملوك وفلاسفة الأمم وعقارب الشعوب الذين منهم فاضت أنواع العلوم من صناعة الطب وحكمة الفلسفة ودقائق الحساب وانقادوا لطاعتهم، إلا يكون ذلك دون الاستقصاء منهم ومطالبتهم بكل ما أحالوه على أنفسهم، ذلك معما تتلو(2)// كتبهم الواردة على الشعوب من باطل السحر وشبهة، وتنبيهها(3)، وإن كانت جهلتْه لاستقصاء مطالبتهم بالأعلام الصادقة، دون الرضا منهم بخيال السحر أو انتفاء مخالف، ما ضمنوا على أنفسهم ومرسلهم بإقامة الحق.
المسألة الثالثة عشرة
فان قال: فلعلّ الشعوب صدّقت مقالتهم وانقادت لدعوتهم من غير أن تطالبهم بشيء من ذلك، ولو سَبرتْ ما عندهم لاستدلّت على كذبهم وزور دعواهم فلم تصر إلى دينهم.
قلنا: وكيف يمكن اتفاق ثلثين مملكة على قبول هذه الأمور المستصعّبة المستفظّعة وتغفل مطالبة الداعين(4) إليها بما أحالوا على أنفسهم.
وأنت لم تسمع ولم تَر (5) برجلٍ واحد من أهل الدنيا انتقل عن ملّة نشأ عليها إلى ملّة أخرى سواها دون إحدى(6) الخلال التي ذكرناها.
وهيْها سامحتْهم في قبول كتابهم وصدقتهم مقالتَهم دون ان تسألهم البرهان على دعواهم، فما كان في كل بلدة من بلدانهم مَن به أدنى آفةٍ أو زمانةٍ أو خيْطةِ شيطانٍ يرغب في الشفا من سقه فيأتيهم أو يؤتى(1) به إليهم ويستبرىء بذلك ما عندهم. أوَلا هي تحثّ(2) النظر إلى أعجوبة تُدعى(3) إليها، كمن يتبع العاب(4) وأصحاب الحروز وأصحاب الترنجات(5) فيلمس ضريراً أو مقعداً أو اعثم(6) فيمتحن به دعوة القوم بحضرة الملاء.
فإذا تبيّن عجزهم عمّا رهنوا به أنفسهم، استدّلت الجموع بذلك على كذبهم ورزر دعواهم، فلم يرتفع بعد ذلك شيء(7) من قولهم، ولم يُصدَّق بحرف واحد من كتابهم. ولكن إذا ما رأيت هذه المملكات العظيمة// والأمم الجسيمة متفقة بأجمعها على التدين بكتابهم، على ما فيه من تأكيد القوم على الإحالة بما أحالوه على أنفسهم ومرسلهم، إلا توقن اضطراراً بأنها قد استقصت ما عندهم بأشدّ التعنيت وأصعب المطالبة، فظهر لهم منها أضعاف ما خبّروا عن أنفسهم ومرسلهم، وأنها لذلك خضعت لطاعتهم وانقادت لدعوتهم.
المسألة الرابعة عشرة
فان قال: فما أمنْتم من أن يكون القوم في مبتدأ دعوتهم عاملوا الناس بجميع ما نفوه عنهم من بذّل الأموال واستعمال السيف وغير ذلك، فلمّا انقادت لهم الشعوب وخضعت لهم الأمم، أمسكوا عن تلك السيرة ثم افتعلوا لها هذا الكتاب لينفوا عن أنفسهم، بما أقرّوا به من نهي مرسلهم إياهم عنها، تهمةَ الأعقاب من بعدهم بما عاملوا الناس به منها.
قلنا: نحن أمّنّا من ذلك لخصلتين بأن فيهما براءةُ القوم من التهمة بخلاف ما أقّروا به في كتابهم:
أما الواحدة: فلو أنهم عاملوا الناس بشيء من هذه الخصال التي نفيت عنهم ثم أرادوا إثبات الأعقاب من بعدهم على دينهم، لافتعلوا كتابهم في بدء(1) أمرهم موافقاً(2) لسيرتهم مادحاً لأعمالهم يدّون فيه تخضيض مرسلهم إياهم على العمل. وكان ذلك لعمري، لِمَا أرادوا من إثبات شأنهم في الأعقاب وإقامة دينهم في الإخلاف، أحرى بإقرارهم على أنفسهم بمخالفتهم(3) كانت بدياً منِ خالقهم وتعدّيهم وصية مرسلهم.
بل إذا رأينا إقرارهم بما أوصوا وتقدّم فيه إليهم، ثم رأينا// ثبات الشعوب من بعدُ على ما قبلتْ بدياً من أيديهم، أيقنت أنفسنا بأن إعمالهم كانت مشاكِلةٍ لما اقرّوا به في عهدهم. ولو كان إقرارهم كما زعمتَ مخالفاً لما تقدّم من أعمالهم، أذن لمَا قبل الناس كتابهم ولا ثبتت الإخلاف من بعدهم على دينهم.
والثانية: فلو أن هذه الشعوب القابلة كتابهم كانت بأسرها دوابّ وبهائم لفهمتْ وعرفت من هذا ما فيه صلاحها وفسادها، ولكانت-، إذ رأت كفّ السيف، عمّا زعمتَ، عنها ومنعَ الأموال إياها، وقد عملتْ ما عملتْ به القوم في حملها على ما كرهت أولاً، ثم إقرارهم بما حُرّم عليهم من استعمال السيف وقنية الأموال أخيراً(4)، - انتبهت لفق القوم وباطل شانهم فانتفت من دينهم ورفضت كتابهم وتبرأت من عار مصلوبهم وتخلّت(5) من صعوبة شرائعهم، ثم رجعت إلى ما كانت عليه أولاً من مِلّلِها وسهولة شرائع آبائها.
وليس يمكن العقول أن تجهل براءة القوم ممّا يُتَّهم كل غاصب ومسيء وخادع ومفضّل، وقد تمت لهم السعادة بإظهار الآيات والعجائب إذا ما رأت صناديد الشعوب وفلاسفة الأمم باختلاف أجناسها وتفاوت لغاتها وتباعد بلدانها ملازمةً لكتابهم بهذا الثبوت في شرق الأرض وغربها، منذ يوم قبلتْه من أيديهم إلى يوم الناس هذا.
مع أن الكلام في هذا عندنا تستدل به العقول من لزوم كل أمة من أصناف الأمم بكتابِ مبيّن دينها.
على أنه لم تكن سيرته وأعماله مخالفةٌ لما دعا أمته إليه لعباً وعبثاً(1) لأنها لم تكن لتأمن(2) كتابَه وتوّابَه أعقابُها، وكان الظاهر من سيرته خلاف ما دعا إليه.
بل ذلك أوضح دليل على أن سيرته كانت مشاكلة// لما دعا إليه أمة كتابه. كما لا نشك في الداعي إلى التوارة، إذ ألْفِيَتْ أمتُه مقيمةً بأجمعها على التدين بتوراته، انه منذ أتبعة لدعوة أمته إلى دينه لم يظهر من نفسه خلاف ما دعاها إليه من التوحيد والشرائع المثبتة في توراته. ولو خالفت أعمالُه وإيمانُه دعوتَه وشرائعَ كتابه، إذن لما قبلتْ أمتُه على ذلك دينَه ولا دانت بكتابه.
وكما لا شك في داعي كتاب ماني، إذ أُلفيتْ أمته مقيمةً بأجمعها على التدين بكتابه، انه منذ انبعث للدعوة إلى دينه لم يظهر من نفسه خلاف ما دعا إليه من الشرك المتبيّن في كتابه. ولو خالفت أعمالُه وإيمانه دعوتَه وشرائع كتباه، إذن فلما قبتْ أمته على ذلك قوله ولا دانت له بكتابه.
وكذلك كما لا شك في منشىء كتاب ذرادشت(3)، إذ أُلفيتْ أمته مقيمةً بأجمعها على التدين بكتابه، انه منذ أنبعث لدعوة لناس إلى دينه، لم يظهر من نفسه خلاف ما دعا(4) إليه من الشرك والشرائع المثبتة في كتابه. ولو خالفت أعماله وإيمانه دعوتَه وشرائع كتباه، إذن لما قبلت أمته على ذلك دينه ولا دانت بكتابه.
وكذلك لا شك في منشئ كتاب القرآن، إذ امته مقيمة بأجمعها على التدين بقرآنه، أنه منذ أنبعث لدعوة الناس إلى دينه، لم يظهر من أعماله وإيمانه خلاف ما دعا إليه من التوحيد والشرائع المثبتة في قرآنه. ولو خالفت أعماله وأيمانه دعوته وشرائع كتابه، إذن لما قبلت منه أمته على ذلك دينه ولا دانت بكتابه.
وكذلك بشأن من مضى ومن بقي ومن يأتي من أصناف الأمم. أن نحن راجعناكم بعد الإقرار منكم لأهل كتابكم(1) فقلنا: بل أنتم المّحرفون كتابكم.
المدّعون(2)// فيه هذه الدعوى عن تواطؤ أئمتكم. هل كان فيما تكافينا فيه من دعوانا ودعواكم مخرج(3) تبينون(4) به حق دعواكم من باطل دعوانا.
فإن لم تأتونا من ذلك بمخرج تظهرون يه علينا، كنا، لإقراركم تنزيل كتابنا وإنكارنا تنزيل كتابكم، أظهر.
وأن سألتمونا على إبطال الدعوتين من التحريف جميعاً إذ نجمع، غبّ مسالمتكم أيضاً، لما تقدّم من إقراركم بتنزيل ما في أيدنا، إلى انفتاح(5) جميع ما في أيديكم، إذن(6) كان ما في أيدينا يثبت ما يجحدون ويجحد ما تدّعون، فكان في كل إنحائه ضداً(7) لجميع ما تصفون. وإن أثبتّم المسألة أيضاً فقلتم: بل أن اتفاق النسخ المنتشرة من كتابنا في البلاد هو الدليل على امتناعه من التحريف والتعبير عن الأصل الذي عليه أنشئ وأُبدي(8)، كنا نحن المبادرين(9) في إثبات هذه الحجة إلى التسليم بحكمكم، وقلنا: الحق قلتم. وكذلك أيضاً تمتنع الكتب المنتشرة في أيدي الأمم المنبثّة في البلدان التي للشعوب المتفاوته من التحريف والتغيير(10) على الاتفاق الموزون من قبل قبول الشعوب لها بالآيات والإعلام. ثم لزمكم بذلك قبولها لا محالة لإقراركم في الأصل بتنزيلها.
كمل الفن الثاني
بعون الله ومنّه وله الحمد
في تثبيت الإنجيل المقدس
الفن الثالث من كتاب المسائل والأجوبة لعمار البصري
في تثبيت وحدانية الخالق بثلثه أقانيم
وهو سع(1) مسائل(2)
ونستفتح كلامنا منه بشرح ما استفظع أهل الخلاف من وصفنا وحدانية الباري ذات الخالق جلّ ثناؤه بجهات ثلاث، وأن كان ذلك، بعد تثبيتنا صدق الكتب الناطقة بذلك، عنا مرفوعاً. كما أن لو خصمين تنازعا إلى بعض الحكام في دار أو عقار فأقام أحدهما بينّةً على أن الدار بحدودها وحقوقها له دون سؤاله إياه البيّنة على بابٍ بابٍ ولبنةٍ منها.
كذلك أنّا إذا نحن أوجبنا تحقيق الكتب الناطقة بهذه الأشياء بما أقمنا من براهين الحق على صدقنا، لم يلزمنا إقامة الحجة على حرفٍ حرفٍ وكلمةٍ منها. ولكنا سنفضّل شرح ما سُئلنا عنه تحرّياً لمنفعة من ألتمس معرفةً ذلك بقلب سليم ونية صادقة.
المسألة الأولى
أن سأل سائل من المخالفين فقال: ما الدليل على صدق ما تدعون من تثليث وحدانية الخالق. وكيف يمكن أن يكون الواحد ثلثة أو الثلاثة واحداً(3)، معما ابتداتم به أيضاً من تثبيتكم وحدانية وإقراركم بأنه واحد ليس له مثل ولا شبه ولا نظير.
قلنا: أما أن كون الواحد ثلاثة والثلاثة واحد، فذاك لعمري لا يمكن كونه، وذلك ان العدد الواحد لا يكون العددَ الثلثة. فأما المعنى الذي إليه تقصد في قولنا، فإنّا نعني أن ذلك الجوهر الواحد القديم لم يزل موجوداً(4) بثلث خواص// جوهريات غير متباينات ولا مفرقات.
وجميع الثلث الخواص هو ذلك الجوهر الواحد القديم الذي- أي ليس هو ثلثة بمعنى خاصة- لا يتبغض ولا يتجزأ بعينه وكماله، ولا هو ثلثة، بمعنى ما هو واحد،- واحدة، بل ثلاث خواص. فهذا هو مذهبنا في وحدانية جوهره وبتثليث خواصه جلّ وعلا.
فأما ما استدللنا على تعبيرنا ما وصفنا من ذلك، فمن حيث أيقّنا به واحداً في ذاته متفرداً(1) بطباعة وإزليته، فلا نظير له في جوهره ولا شبه بين أفعاله وأفعال خلقه.
وذلك أنا وجدنا كلّ صانع شيء وفاعله من المخلوقين لا يخلو عنه صعته ذلك الشيء من تحريك أعضائه واستعمال جوارحه، وكانت حركاته تدلّ على حدوده، وجوارحه تدل على تركيبه وتأليفه، وأن تأليفه وتركيبه يدلان على مؤلفٍ مركِّبٍ متقدمٍ له ألّفه وولّي تركيبه.
فوجب أن تعلم بضرورة لا تُدفع أنّ صنعة من لا صانع له وأفعالَ من لا جوارح له لذاته، وأمال من ليس بجسمٍ ولا حركاتٍ لطباعه، ليست كصنعة من وصفنا من ذوي الأعضاء والجوارح والحركات. بل بحق نعلم، إذ وجدنا ذاته متعالية عن هذه الصفات ثم وجدنا له خلقاً حادثاً أحدثه وكونّه، أنه غنما أحدث ذلك أمراً وحكماً دون حركة وعلاج او مشيئة أو إرادة دون كلفة ومؤونة.
ولن يمكن توّهم المشيئة والإرادة والقضاء إلا لذي كلمة أي ذو نطق. ولا يُتوهَّم النطق إلا لذي حياة. فمن هذه الجهة وجب تحقيق قولنا أن يُعْدَ الشبه بين جوهر الخالق وجواهر خلقه وبين صنعته وصنائع لقه هو الدليل على تثليث خواصه ووحدانية جوهره، أي جوهر العين، المضاف إليه حياته وكلمته التي هي عين حكمته، وحياته التي هي عين روحه، واحدٌ(2) لم يزل.
ومما استدللنا أيضاً به على وحدانية ذلك الجوهر وتثليث حواصه،// أنّا، إذا قدمنا وفحصنا عن شأن هذه الخليقة، انتهت بنا الرؤية إلى وجود عين متقدمٍ لها هو أحدثها وأنشأها،ثم أناّ رأينا في هذه الخلائق المحدثة الموّاته خلائق تبدي من طبائعها أفعالاً خواص أشياء ما، كالأرض التي تنشئ وتُبلي وكالنار التي تُحرق وتُنضج وتُصلح وتُفسد، وأشباهها من الطبائع الفاعلة خواص أفاعليها طبيعياً، فقلنا: هل يجوز أن يكون صانع هذه الخلائق كهذه الجواهر الموّاته العديمة الحياة.
ونقول: عساه خلق هذه الخلائق اضطراراً طبيعياً بلا تعمّد منه لصنعتها ولا قدرة على الامتناع من إحداثها، فوجدنا أنواع خلقه مبتدعاً على ما تشهد عليه أشكال الخلائق من حدوثه كونها، ونتدل على بارئ متقدم لها، علماً بأنه كوّنها تعمّداً واختياراً لا غريزاً اضطراراً، وذلك أن الطبائع الفاعلة أفعالها أوقاتاً والإمساك عنها أحياناً، كما لا سبيل للنار إلى ترك الإحراق معما صادقت حطباً فتكون محرقةً أحياناً وغير محرقة أحياناً، وكذلك جميع هذه الطبائع المعروفة بخواص أفعالها.
فلو كان أفعالُ الخالق جلّ ثناؤه على جهة أفعال الطبائع التي ذكرنا، إذّاً لما كان له السبيل إلى الإمساك عن أفعاله قديماً، أو أن أذّاك(1) ممسكاً ممتنعاً ومن بعد صانعاً(2) فاعلاً، ولم يوجد لديه في قدم أزليته حائل يحول بين طباعه وبين ما انشأ من الخلق أخيراً.
وأن قلنا: بل لم يزل الخلائقه محدثاً مكوّناً كالطبائع الفاعلة أفعالها طبيعياً أبداً، استحالت الدعوى(3) وتناقضت في نفسها.// لأنّا إذا قلنا لم يزل لخلائقه محدثا، أوجبنا للخلائق اسم الأزلية والحدوث جميعاً، وسواء على القائل أن يقول لم يزل الخالق يحدث خلقاً، ام يقول لم يزل المحدث موجوداً أزلياً.
فقد بأن للعقول بهذا انه قد كان لم يزل في قدمه عن خلقِ ما أحدث من خلقه ممسكاً ممتنعاً، ثم أنشأ منها بطَوْل واقتدار على كونها والامتناع لو شاء من صنعتها. فقدَمُ إمساكِه كما اخبرنا عمّا احدث هو الدليل على أن إمساكه قديماً مان بمشيئته وإرادة، وإحداثَه ما احدّث أخيراً تعمداً واختياراً. فالحياة، لمن أمسك عمّا استطاع فعلَه بإرادته ومشيئته، ثم أبدأ الذي أبدأ تعمداً(4)، وقدرة، واجبةٌ بحق لا محالة.
ثم أنا أيضاً رأينا في هذه كثيراً(5) من أنواع الحيوان تفعل أفعالاً عجيبة، كالذرة التي أحقر الحيوان وأدناها جميعاً، فيكفي فيها دون الحيوان مثلاً واعتباراً فيما تدمن من سعيها ونقلها وجمعها من الذخائر التي تعدّها لما استقبلت من الأيام في إصلاح معاشها. وكذلك جميعُ أجناس المواشي من البهائم والسباع وأنواع الطير وزحّافه الماء ودواب الأرض تسعى خلف ما يقيم طباعها ولا تسمو(6) إلى غير ما جُبلت عليه من طلب كفافها.
فقلنا: هل يجوز التوهّم على ذلك الجوهر الحي القديم صانع الخلائق ان تكون طبيعته حملتْه على خلقه إياها التماساً لقوام(1) شأن طباعه وإصلاح ذات نفسه، كهذه الحيوان المجبولة على لزوم سبل طبائعها، المحمولة على التزام ما يقيم ذات حياتها، فوجدنا قدّم غناه عمّا أحدث منها أخيراً، واعتلاءه عن الحاجة إلى ما انشأ منها حديثاً، يشبع(2)// القلوبَ يقيناً بأنه قدرها بهمّةٍ رفيعة ثم أنشأها بعينٍ علاية ليجود بها على غيره ويُنعم بها على مَن من(3) أجله أنشأ خلقه، لا ليسّد بها حاجة نفسه أو يقيم بها شأن طباعه.
فلما استقر في عقولنا أنه، إنما يُجري بخلقه الخلائقَ الإحسان إلى غيره، تفضّل وتوخّى(4) به صلاحَ بعض خلائقه جوداً وإنعاماً، أيقنت عقولنا بأنه لن تبدو(5) فضائل الجود والنعمة غلا من عقلٍ أو حكمةٍ، وذلك لسابق همته المتقدمة بما أزمع به من الإحسان والنعمة.
ثم قد يدلنا ما نرى من عجيب هذا الخلق وإتقان هذا النظام وتأليف هذه المتضادات وإحكام هذه السياسة على ان باريها ومؤلفها ومدبّرها معدنُ كل علمٍ وينبوع كل حكمة.
فإنه كما أن الشواهد من أشكال الخلائق اضطرت العقولَ في الفحص الأول إلى وجود إثباتِ جوهرِ أحدثها وأنشأها، والفحص الثاني(6) من تبرّعه بصنعتها بعد إمساكه قديماً عن خالقها إلى إيجاب(7) الحياة له أزلياً، كذلك ما دلّ الفحص الثالث من إحكام سياسته لها وما تقدم من سابق همته بأن يجود على غيره بها، يشهد(8) على جوهرية كلمته وأزلته حكمته اضطراراً، وكيفما صرّفت فكرك في هذه الخلايق يضطرك الرأي إلى اليقين بأن باريها وسائسها متوحّدٌ في جوهره مثلَّثٌ في خواصه لا محالة.
المسألة الثانية
فإن قال: فما لنا فيما نرى من إتقان صنعة هذه الخلائق وإحكام هذا النظام دليلاً في الجملة على أن صانعها وباريها وسائسها واحد حي حكيم(1)، حتى نخادع أنفسنا بالفكر الباطلة فنثبت وجوده أولاً ثم نثبت// له الحياة ثانية والحكمة ثالثة، ونحسب ذلك تثليثاً بإيعاض وإجزاء؟
قلنا/ أما الأجزاء والابعاض فليس من صفات ما ليس بجسم بل(2) ما لم يزل موجوداً بأزليته, بل ذلك من صفات الأجسام المحدّثة المؤلَّفة المركَّبة, فأما قولك، بأن إتقان هذا الخلق وإحكام هذا النظام دالّ(3) على خالقٍ واحد حيّ حكيم فغير مردود عليك، وقد أخبرناك آنفاً بأن الذي خلق بكلمته، وروحه لا محالة واحد في جوهر منفرد بطباعه لا يدركه تبغيض ولا يناله تجزئ. ولكن كيف العقول أن تعتقد، مع يقينها بأنه جوهر متعالي عن التدزي والتبغيض، أن معنى قول القائل لم يزل حياً هو معنى قوله لم يزل حكيماً.
وقد نرى عناصر كثيرة قائمة بأُنّبّتها وذواتها وهي عديمة الحياة. ثم نرى أنواع الحيوان جميعاً موجودة بأنّيتها وهي عديمة النطق. فلو كان معنى الانية الموجود هو معنى الحي ومعني الحيّ هو معنى الناطق، أذن لكان كل عنصر موجود بأثنيتّه لا محالة حياً ناطقاً، وكانت الصخور والحجارة والحديد لوجود أنيتها مستوجبة أن تُوصف أحياناً ناطقة أيضاً.
ولكنها، إذ وجدت قايمة بأُنيتها وعناصر ماهيتها وكانت عديمة الحياة والنطق، استحقت أن تُسمّي مواتاً.وكذلك ذوات الحركات من سوى الناطقين موجودة بأُنيتها وقائمة بحياتها وكانت عديمة النطق، استحقت أن تُسمى(4) بهائم ودواب، وذلك لعدمها معنى موجودٍ جوهري موجودٍ في جوهر الناطقين دونها.
لذلك إذ أُلفي خالقُها لم يزل حياً، حقّ لنا أن نوجب له الحياة والنطق اضطراراً. ولت أدري لمَ انكر// هؤلاء المنكرون، إثباتاً للصانع الأزلى، حياةً أزلية وحكمة جوهرية. أيحسبون أن ذلك يُوجب في جوهره أجزاءاً وايعاضاً، فإن ظنوا ذلك فليبطلوا ظنهم ويعلموا أن ما لم يكن جسماً فلا إمكان للتجزي والتبعيض فيه أصلاًَ.
وأن ظنوا أن ذلك يوجب فيه تركيباً وتأليفاً، فقد أوضحنا انه لا تركيب(5) ولا تأليف لما لم يكن جسماً وما لم يكن له مؤلِّف مركِّب.
وأن كانوا إنما ينكرون ذلك لأن حواسهم لم تدرك أن يكون جوهر ذو حياةٍ ونطق إلا مخلوقاً مصنوعاً، فلنا فأنكروا أيضاً أن يكون موجوداً (1) حياً حكيماً، لأن حواسهم لم تدرك موجوداً(2) حياً حكيماً إلا مكوَّناً مخلوقاً،وأنكروا أن يكون صانعاً فاعلاً، لأن حواسهم لا تدرك صانعاً فاعلاً إلا محدَثاً مصنوعاً، وأنكروا أن يكون ملكاً قوياً وقادراً، لأن حواسهم أن تدرك ملكاً قوياً قادراً إلاّ مكوّناً مخلوقاً.
أو تعلمون(3) أن الاتفاق بين الخالق وخلقه في هذه الأمور إنما كان من قبل اشتراك الأسماء فقط. فأما المعاني فلا شبيه فيها بين الخالق وخلقه ولا اتفاق. وكذلك لا شبيه بينهم وبينه في الحياة والنطق ما خلا الاشتراك في الأسماء فقط.
وقد يجب أن نراجع هؤلاء المنكرين علينا ونسألهم عن معبودهم الذي يعبدونه: هل يقرون(4) بأنه لم يزل حياً حكيماً، فلا شك انهم يقولون نعم، فنقول لهم: فأخبرونا عن معنى قولكم لم يزل حياً هو(5) معنى قولكم لم يزل حكيماً. فإن قالوا كلاّ اللفظتين المختلفتين معناها(6) واحد، قلنا: فإذن قد أوجبتم ههنا ثلثة معاني لم تزل: الصفتين المختلفتين(7) والموصوف بهما واحداً(8)، فدخلتم من ذلك فيما عبتم.
وإن قالوا بل// جميع اللفظتين معناهما واحد لا اختلاف، فقد خرجوا من حدّ العقول ثم أوجبوا أن يكون مع ذلك(9) كلّ حيّ حكيماً، لا محلة. فالدواب والبهائم، إذ وُجدت أحياء، فهي لا محالة حكيمة أي ناطقة.
وان قالوا: بل إنما نجيز بأن المعنيين واحد في الأزلي خاصة دون ما سواه، قلنا: فلأنكم إنما أردتم بذلك تكريرَ القول فيه بأنه حي(10) ليس إلاّ، فإذن أنتم توهمون السامعين بقولكم خلاف ما تعتقده ضمائركم، لأن عقول السامعين أن تتوهم عنكم أن معنى الحي ومعنى الحكيم واحد.
فإن قالوا: بل إنما نريد، بقولنا حياً حكيماً، نفْيَ الجهل والموت عنه،لا لنوجب له حياةٌ وحكمة كما أوجبتم، قلنا: فألا، إذ سميتموه(1) حياً حكيماً لتنفوا عنه يزعمكم الموتَ والجهل، سميتموه(2) أيضاً، لمّا نفيتم عنه الحياة والحكمة، جاهلاً موّاتاً.
ولا فرق بين ما نفيتم عنه من الموت والجهل فسميتموه(3) لذلك حياً حكيماً وبين ما تنفون(4) عنه الحياة والحكمة فتسمونه(5) لذلك جاهلاً مواتاً.
فإن قالوا: بل يحق لنا أن نّسميه بامدح الأسماء وأشرفها لا بأهجنها واخسّها وأدناها، قلنا: فأذ صار اسم الحي الحكيم لديكم أفضل الأسماء التي يستحقها الازلي الذي ليس بذي حياة وحكمة عندكم من أجل أنهما كانا للإنسان الذي هو نوع من أنواع الخلائق مدحاً(6)، فألا مدحتموه أيضاً بكل ما كان للإنسان شرفاً ومدحاً.
فقد يمدح الإنسان بأن يُوصف حسناً جميلاً نظيفاً(7) بهياً نبيلاً بزيغاً(8) صبيحاً مليحاً وما كان بذلك شبيهاً، فامدحوه أيضاً بهذه المدائح كلها،وانتفوا عنه بها ما كان له// ضداً وخلاقاً.
أو ما بالكم تمدحونه بما يُمدح به الإنسان خاصة من بين الخلائق جميعاً، وقد تجدون كثيراً من أنواع الخلائق الموات تُمدح بأشياء شتّى كالشمس الممدوحة بجمال ضوئها وبهاء نورها وشرف هيئتها، وكالنار بلطافه جرم جوهرها وسلطان حرّا ومحامد آثارها.
فسمّوه لذلك جرماً مضيئاً نيّراً بهياً محرقاً منضجاً، أو تنبذوا عنه العلل الباطلة وتقرّون بأنكم لم تخصّووه باسم الحكيم الحي، دون كبير من النعوت التي تُمدح بها الخلائق والحيوان الموات، إلاّ لوجود المعنّيين وثبات الخاصتين من الحياة والحكمة في جوهره دون ما سواهما اضطراراً.
فإن راجعونا سائلين فقالوا: فلستم تقرون ، مع قولكم أنه حي حكيم، بأنه سميع بصير قادر رجيم جواد كريم(1)، كما أوجبتتم له حياة وحكمة أي روحاً(2) وكلمةً جوهريّين عند تسميتكم إياه حياً حكيماً. فأثبتوا له أيضاً معاً وبصراً وقدرةً وجوداً ورحمة وكرماً جوهرية عند تسميتكم إياه سميعاً بصيراً قادراً رحيماً جواداً كريماً، وكذلك بكل ما كان بذلك شبيهاً. ولا تخصّوه بالتثليث الذي وصفتم دون تربيع وتخميس وتسديس وأكثر من ذلك على ما وصفنا.
قلنا: لا لعمري، لو كان الأمر فيه كما ذكرتم لكان الحكم فيه على ما قضيتم. ولكن هل عرفتم الفرق بين الأسماء والصفات التي تستحقها من قِبَل خواص جوهره، والأسماء والصفات التي اشتُقّت له من قبل خواص هِمَه وصنعائه التي قبلت عليه عبارات لاسبابٍ(3)// سنين عنها لا لأنها واجبة له ولا موجودة في جوهره. فإن كنتم بذلك عالّمين، فلماذا كانت القضية منكم، على ما هي عليه من إخلافكم، واحدةً بالسويّة.
وإذا كان ذلك منكم تجاهلاً وتعامياً لتدفعوا ما يلزمكم الإقرار به، فقد تعلمون أن غبَّ التعامي والتجاهل عن الحق راجع على أهله. وأن كان ذلك، لأنه لا فرق لديكم جهل(4) بها وعمىّ، فما ننكر لعمري أن الجهل يورّط أهله في اعظم ممّا أورطكم فيه من الخطأ والغلط.
أما نحن فسنبيّن عنها بفصول معروفة لا تغيا على ذي عقل. فليحسن فهمكُم لِما يرد عليكم من قولنا. ولا يثقلنّ عليكم إن بدأنا بمدرجةٍ مقدمةٍ ندرج بها قلوبكم إلى فهم ما نريد(5) إفهامكم من ذلك.
وأعلموا أولاً يا قوم أنه لن تكون الفصول الجوهرية بين أنواع الجواهر في اختلافها من قِبَل السمع والبصر والقدرة والرحمة وما أشبهها. لأنّا قد نرى ونعقل جواهرَ مختلفة بالفصول المخالفة بينها كلها سميعةً وبصيرةً، لجوهر الأنس وأجناس البهائم وأصناف الطير المتفقة بأجمعها في السمع والبصر ولا اتفاق في الذات والجوهر.
ثم قد نرى أهلَ جوهرٍ، منهم السميع [ ومنهم غير السميع](1)، ومنهم البصير ومنهم غير البصير، منهم القادر ومنهم العاجز، ومنهم الرحيم ومنهم القاسي.
أعني الناس المختلفين باختلاف هذه الأحوال، وجوهرهم واحد لا اختلاف فيه. ولاا يُتَوهَّم أهلُ جوهرٍ واحد بعضهم أحياء وبعضهم أموات، وبعضهم ناطقون(2) وبعضهم لا ناطقون(3)، أعني بالنطق النفساني الجوهري لا الألفاظ المعبَّرة بالشفتين واللسان.
فإنه ربما توهم علينا السامع إذا قلنا: لا إنسان إلا حيّ ناطق ميت، أنّا نفينا الخُرسْ من جوهر الإنسان// إذ عُدموا قوةَ عبارات همهم من الشفتين.
بل نعني بذلك جوهرية النطق المطبوعة في ذات أنفسهم. فقد عُلم معروف جوهري. ثم تباينت جواهر الحيوان من بعدُ بالنطق الذي هو فصل(4) معروف جوهري أيضاً.
وذلك أن الحياة والنطق من خواص بنية الجوهر وماهية اللذات والطباع. فأما السمع والبصر فلا بنية لها في ذات الطباع ولا نصيب في مائية(5) الجوهر. بل إنما جعلنا البينونة للجوهر، وأما القدرة والقوة والاستطاعة فإن لها علتين مختلفتين، إحداهما جسمانية جسدانية وهي القوة المطبوعة في أجسام الحيوان كما قد نرى بعيراً يحمل ألف مناء(6) وفيلاً يصرع بقوته بعيراً وأسداً يفترس بقوته ثوراً، ونحو ذلك من الأفاعيل التي تنُسب(7) إلى قوات الأجسام، والأخرى(8) نفسانية روحانية أعني العقل الذي هو قوة النفس المخترع هذه الطائف التي نرى من صنعه(9) الأجرام وتصوير الأشكال وتأليف البنيان ونحو ذلك من الصناعات المقدور عليها بحكمة النفس وروية العقل.
وكذلك الإرادة والمشيئة تكون على جهتين: إحداهما(1) طبيعية باضطرار، كإرادة البهائم والدواب وما أشبهها من الحيوان المريدة ما يقيم طباعها من الأغذية والطعام والشراب، والأخرى عقلانية برويّةٍ واختيار، كالموطّد أموراً (2) يتأمل منافع عواقبها، وكالمتوهم أمراً(3) يُجري به منفعة غيره وصلاحً آخرين سوى نفسه، تفضلاً عليهم وإنعاماً.
وأما الرحمة والرأفة والعدل والحلم والجود والنعمة وما أشبهها، فإنها// معلومات تبدو(4) عن الجواهر الناطقة المروية خاصةً لا عن شيء من الجواهر العديمة العقل والنطق.
فإنك لن ترى حماراً رحيماً ولا فرساً رؤوفاً ولا جملاً عدلاً ولا أسداً منصفاً حابضاً(5)، ولا شيء من أنواع الحيوان، ما خلا الناطقين، يوصف بشيء من هذه الصفات أصلاً. وذلك لعدمها جوهرية لعلة التي منها تتولد هذه المعلومات التي ذكرنا. وليس شيء من هذه المعلومات أيضاً يقوم مقام النطق في بنية الجوهرية. وذلك أن المعلومات المتولدة عن العلة لا تقوم مقام العلة الأصلية.
فعلى هذا المثال فنمض(6) حكمّنا في كل ما أدركته الأوهام والحواس جميعاً، ولا تجاوز حكم الحق من سبيل القياس الذي جمع ذلك علماً بذات كلمته وروحه، لا شيء سواهما.
المسألة الثالثة

فان قال: فهل هو محتاج إلى كلمته وروحه أم هو غني عنهما؟ فان زعمتم أنه إليهما(7) محتاج وصفتموه إلى الاضطرار ولعجز والنقصان، وان زعمتم انه غنّي عنهما، فانفوهما أذن عنه كما نفيتم عنه ما كان عنه مستغنياً كالسمع والبصر وغيرهما.
الجواب قلنا: إنما تُباحثُ أهلَ العقول واللباب لا البهائم والدواب. قد أخبرناك انه لا يمكن توهّمُ الروح والكلمة عند ذوي العقول إلا جوهريّين(8) في الجوهر، فكيف جاز لم أن تسأل، ود أيقنت ذلك: أمحتاج الأزلي إلى ما هو له الجوهري طبيعي؟ أو ماذا تقول لو سألك سائل: هل تحتاج النار إلى حرّها ويبسها، وهل يحتاج الماء إلى برودته ورطوبته؟ أو لا تعلم أنّ هذا عضنْتٌ من القول، هذيان من السؤال،// إذ تعلم أن سوس جوهر النار حرارتُه ويبوسته، وإنما صارت ناراً(1) بحرّها ويبسها، وسوس جوهر الماء وبرودته ورطوبته، وإنما صار ماءً برطوبته وبرودته.
بل إنما يجوز لك أن تسأل: هل تحتاج النار في ظهورها وإظهار فعلها إلى خبز وحطب، وهل يحتاج الملء في استقراره وركونه إلى أرض ويبس، وما أشبه ذلك ممّا هو خارج عن ذات الشيء وطباعه.
كذلك يستحيل سؤالك: أيحتاج ذلك الصانعُ الأزلي إلى ما هو له جوهري طبيعي؟ وسواء عليك سألتَ هل يحتاج الأزلي الناطق إلى روحه وكلمته، أم قلت: هل تحتاج النار إلى حرّها ويبسها، أم قلت: هل تحتاج النار إلى طباعها وذاتها.
بل إنما يجوز لك أن تسأل هل يحتاج الأزلي الحي الناطق إلى مكانٍ أو موضعٍ أو سمعٍ أو بصرٍ، أو إلى شيء ممّا خلق وبرأ، فيُقال لك: نعوذ بجلاله أـن يكون إلى شيء من هذه محتاجاً.
فهذا منتهى مكنتنا في إيضاح حق وحدانية جوهر وتثليث خواصه بالقياس المعقول . وقد يجب مع ذلك أن لا تدع ذكرَ ما لنا من الشهادات المتقدمة في كتب الله المنزلة بتثبيت ما اضطرا عقولُ ذوي العقول إليه من ذلك.
ولا سبيل لملتمسِ عيبِ ديننا إلى تعظيمنا(2) بافتعال الباطل في كتب الله وبزعم(3) أنّا واليهود أعداؤنا اتّفقنا وتصادرنا جميعاً على افتعال هذه الكتب وتحريفها على ما يوافق ديننا.
فافهم أيها السامع ما يتلو نبي الله موسى في كتابه ويقول: أن الله لما أراد خلْقَ آدم قال:" تخلق بشراً بصورتنا ومثالنا"(4)، ولم يقل بصورتي ومثالي ولا بصورنا ومثالنا، بل بصورتنا ومثالنا: يومي بذلك إلى توحيده// وتثليته في قوله واحد. ويقول في مكان آخر:" هلمّوا ننزل ونقسم هناك الألسنَ"(1).
ونبيّ الله حزقيال يقول في مكان آخر:" أن في ذلك المان أعرّف بني إسرائيل قوّني وجبرؤتي من أجل أن الرب أسمانا" . دانيال يقول:" أن الله أسمعَ بختنصّر صوتاً عن نفسه" نقول لك يا بختنصّر". وإن هذه الألفاظ في قوله تبارك وتعالى:" نخلق" و" نقسم" و" قالوا" و" اسمانا"و" صورتنا ومثالنا"، لم يجوّزه أحد من أهل اللسان السرياني والعبراني واليوناني، إلاّ عن ذوي عدد تجاوز عددُهم الواحدَ والأثنين. ولا أحسب العرب أيضاً تجوّز قولَه:" و" هلموا" في الواحد المنفرد بنفسه لنفسه خاصة.
ولست أخال ذا عقل أيضاً يزعم أن الله عنى(2) بقوله" هلموا نقسم هناك الألسن" الملائكةَ والأشياءَ من خلائقه، استغاثةً بهم فيما أراد من تفريق الألسن.
ويقول: أنه لما أكل آدم من الشجرة التي نهاه الله عنها قال الله:" أن هذا آدم قد صار مثل واحد منا"(3)، ولم يقل مثلنا، فيزعم القائل أنه قد يجوز للواحد أن يقول " نحن" و" مثلنا" و" خلقنا" و" أنزلنا" و" رزقنا" و" رفعنا" و" فعلنا"، ويعني بذلك نفسه خاصة. بل قال" مثل واحد منا" تبييناً بلا شبهة لما تجاوز عددّ الواحد والاثنين.
ويقول أيضاً في مبتدأ الوصايا:" اسمع يا إسرائيل أن الرب ألهك، الرب هو واحد" ينّبههم بذلك إلى أن المثلَّث في خواصه واحدً في جوهره.
ويقول أيوب: " روح الرب خلقتني". وقال نبيّ الله دواد:" بكلمة الله تكونت للسماء وبروحِ فيه جميع جنودها". ويقول في موضع آخر:" أن الرياح والعجاج خَل~قُ كلمته". وقال:// داود أيضاً: " لكلمة الله أسبّح".
وقال في موضع آخر:" أنه أنزل كلمته فشفتْهم وانقذتْهم من الفساد". ويقول داود أيضاً:" إنك ترسل روحك فتخلقهم". أشعيا النبي قال:" أن الله أرسلني وروحه".
فهو ذات لاهوتٍ واحد جوهرٍ وحد خالقٍ واحد. وأن ما(1) ذكروا نها، سمّوه آلهاً خالقاً أزلياً معبوداً، وأن كان بعضهم قد وصف الله جلّ ثناؤه بالعينين والأذنين واليدين والرجلين على جهة العبارة والمجاز، فإنهم لم يصفوا ذلك على جهة وصفهم كلمتَه وروحَه في خلق الخلائق وتدبير الأمور، ولا قال أحد منهم إن الله خلق الخلق بسمعه ام ببصره أم بأذنيه أم بعينيه أم بيديه أم برجليه أم بشيء سوى كلمته وروحه.
وأن كان الله عّ جلاله قد ذكر في بعض كتبه انه خلق خلقاً أو فعل فعلاً بيده أم بذراعه، فإنك إذا تبيّنت قولَه فوجدته يعني بذراعه وبيده أمره ونهيَه وإرادتَه المتولَّدين(2) عن كلمته وروحه، لا ذاتَ كلمته وروحه. فإما كلمته فحيثما ذُكر واحدٌ منهما(3) سمّاه خالقاً معبوداً دون جميع الصفات التي وصف نفسه بها.
المسألة الرابعة
فان قال: فلمَ سّميتم هذه الثلة خوصٍ ثلثه أشخاصٍ فأوهمتم السامعين فولَكك أنكم تقيمون ثلثة آلهة.
قلنا: لم نسّمها ثلثة أشخاص، ولا يتوهمن أحد علينا أنا سميّناها أشخاصاً(1)، لأن الشخص عندنا كلُّ جسمٍ محدود بأقطاره وجوارحَ تفصل بينه وبين ما سواه من الأجسام. بل سميناها بلسانٍ سرياني ثلثة أقانيم. وتلك أضاً لغة سنخبر بها بعد// أن نبيّين عن معنى القنوم وما هو. فأفهم عمّا تخبرك به واعلم أنه ليس شيء تسمّيه بلسانك أو تُخطره على قلبك إلاّ وهو أحد أربعة أشياء نصفها لك"
إمّا جوهر، فهو كالإنسان الكلي والنار والماء وما أشبه ذلك. وإمّا قوة من قوى الجوهر، فهو كالنطق من الإنسان والحرارة من النار والرطوبة من الماء ونحو ذلك ممّا يُقيم ذاتَ الشيء وماهيتَه. وغمّا عرض في الجوهر، فهو كالبياض في الثلج والسواد في لقار والطور والعرض والقصْر وما كان بذلك شبيهاً. وأما قنوم من الجوهر، فهو كعبد الله بنفسه وبدنه من الأنس، وكجبرائيل الملاك بخاصة قنومه من الملائكة، وما أشبه ذلك من الأقانيم الروحانية والجسدانية.
فهذه الأربعة أشياء محيطة بكل ما(2) هو موهوم ومحسوس، وليس شيء يُدرك بوهمٍ وحسٍ إلاّ وهو داخل في هذه الأربعة معاني لا محالة. فاثنان(3) منها يقومان بأنفسهما وهما الجوهر العام والقنوم الخاص، واثنان(4) لا يقومان بذاتهما ولا يوجدان إلا في غيرهما وهما القوى البسيطة والأعراض المعترضة في الأجرام والأعيان. فالقنوم منها لفظة سريانية كما أخبرنا ومعناها العين الخاص الكامل المستغني بنفسه المنفيّ عنه الاضطرار إلى غيره في قوام ذاته.
فكان إذ نظرت الأئمةُ الذين أبانوا عن هذه الأمور الإلهيات قديماً أن لهذه الخلائق المحدثة صانعاً واحداً فأرادوا إثبات وجوده ذاته عند من جهل وحدانيته ووجوده، لم يجدوا في الأشياء المدروكة شيئاً المدروكة شيئاً أكمل في ذاته ولا أعلى(5) // في ماهيته ولا أغنى بنفسه عن الضرورة إلى غيره في قوام ذاته من الجوهر، فسمّوه لهذه العلة جوهراً. ثم أن لمّا رأوا في هذا الجوهر الواحد خواصاً معروفة كالذي(1) اخبرنا من عين العلَّة الأصلية الخلاقة وروحها وكلمتها، فلم يجدوا عن أن يخصّوا كلَّ واحد منها أيضاً باسمٍ من هذه الأسماء الأربعة التي وصفنا محيصاً(2) فألْفَوها ممتنعةً عن أسماء القوى والأعراض، لعلّوها عن الأجزاء والابعاض والنقصان والاضطرار. ثم لم يكن كلّ منها أيضاً يقوم مقام الجوهر الجامع لاقانيم أشتاتٍ(3) فتستحق لذلك اسمَ الحوهر العام، لم يجدوا لها اسماً(4) من الأسماء المذكورة أولى بها وأشكل(5) بكمالها من الاقانيم، فسمّوها لهذه العلة اقانيم.
وذلك بعد أن وجدوا من قول المسيح إلى مساغاً(6) في تسميته إياها اقانيم، حيث يقول:" إذ(7)كان للآب الحياة في قنومة، كذلك أفاض الحياةَ إلى الابن فكان حياً في قنومه". فإذ أوجب للأب قنوماً وللابن قنوماً.، فقد أوجب للروح أيضاً لا محالة قنوماً. والعجي لعقول استنكفوا له من أن يسّموه جوهراً يعم(8) أقانيم خواصاً كما(9) رأوا، ولم يستنكّفوا من وصفهم إياه بواحديّ المعنى في كل إنحائه، إذ رأوا أدنى(10) حالٍ ما كان واحديَّ المعنى، كالقوى البسيطة والأعراض المضطرة التي لا تستغني بأنفسها عن الأجسام المختلفة لها ولا يوجد فيها معاني سوى وحدانية معانيها كالحرارة المعروفة بوحدانية الحرارة وكالرطوبة المخصوصة بوحدانية الرطوبة وكالبياض المتوحد بوحدانية البياض// وكالسواد المنفرد بوحدانية السواد.
فلعمري لئن كان وصفنا إياه بالتوحيد والتثليث زوراً وباطلاً لأن بعض خلائفه موجد كذلك، فإن وصفهم بالوحداني المعني، إذ كانت القوى المضطرة والأعراض الدنية موجودة كذلك، زورٌ وباطل(11).
وان كان جميع القولين يقصران عن حقيقة كنّة ما هو عليه في عظمة ذاته وجلال(2) ماهيته، فلقد لعمري آثرناه بأفضل ما يوجد السبيل إليه من الأسماء والصفات دونهم(3). بل الحق فيما وضعنا، إذ عزونا الذي به عزونا(4)، والزور فيما وصفوا إذ جهلوا ما(5) قالوا ولم يعقلوا فساد ما نعتوا(6).

المسألة الخامسة

فان قال: فلمَ سميتم هذه الأقانيم الثلثة التي وضعتم أباً وابناً(7) وروح قدس؟
قلنا: سمّاها بذلك من كان أولى بتسميتها ومعرفتها بما هي عليه من حقِّ ماهيتها، أعني الرسلَ المختارين الموكّلين بإعلان سرائر ذات العالمين.
وهم الذين رسموها كذلك في إنجيله المجيد حكايةً لقول(8) مرسلهم إلى الأمم والشعوب إذ قال:" انطلقوا لاجتذبوا جميع الشعوب واعمدوهم بسم الأب والابن والروح القدس"(9).
وكان، إذ وصفها متّى السعيد كاتبُ الجزء(10) الأول فيما تولّى من من كتابه، ما كتب منه بهذه النعوت، مبهماً(11)، وختمَ كلامه بهذه المعاني مجملاً، رأى الفائز الهبوط يوحنا، كاتب الجزء(12) الرابع، بالحكمة السمائية التي أوتيها، أن لا يدع الناس، ممّا ذكره البشير الأول من إبهام ذكرها، في عماءٍ حذراً// من ان يظن أحدٌ ممّن ورد عليه جملةُ فول البشير، إذ ذكر أباً وابناً، انه عنّي بهما أبوةً كالأبوة الجارية بين الحيوان في توالدها وتناسلها: كالمُسارع إلى إيضاح ما تخّوف من إمهاله غائلة الفساد نظراً واشفاقاً، فجعل مفتاح كلامه تفسير ماهية الابن الذي ختم بذكره البشيرُ الأول كلامَه آنفاً.
فقال:" في البدي كان الكلمة والكلمة كان عند الله والله هو الكلمة ولم يزل ذلك موجوداً عند الله. وكل شيء به كان وبغيره ودونه لم يكن شيء(1) من الخلائق".
ثم ساق كلامه إلى أن سّمى(2) الكلمة ابناً وقال بتصريح وبيان:" إن الله لم يره أحد قط، ابنه هو الذي أخبر بذلك"، وإن الله الكلمة الذي هو الابن، وكان مع لباسه مسيحاً، هو الذي خاطب الناس وأخبرهم بعلوّ ذات الله عن درك الإبصار.
ثم شهد الابن مِن فيه بأنها هي الروح روح الحق الذي هو فائض من ذات الأب، هو يلهمكم ويذكركم ملّ شيء قلت لكم، وهو يسوسكم في جميع سبل الحق لأنه يكون معكم وتحلّ قوته فيكم، ولا يراه أهل العالم لأنهم لا يستطيعون معاينته(3).
فهذا ونحوه ما يخبر إنجيلهم في التجميل والتفصيل في تسميتهم الأزلي الحيّ الناطق أباً، وكلمته القديمة وحياته الأزلية روحاً.
وليت شعري لمَ استفظعً هؤلاء الخالفون(4) تسميةَ الكتاب هذه المعاني أباً وابناً وروحَ قدس؟ أمن أجل أنهم لا يعقلون(5) أباً وابناً إلا بمباضعة وجماع ثم تباين في الأوقات والحالات، كما عقلوا من// من أباء المخلوقين وأبنائهم وتباين أشخاصهم واختلاف الأوقات الأزمان بينهم فإن كان ذلك قلنا لهم: : فأنكروا وصفَكم وتسميتكم إياه رؤوفاً رحيماً، فلا نحسبكم تعقلون رحمةً ورأفة إلا عرضاً(6) لما يضمر القلب ويرمض(7) الفؤاد، وأنكروا وصفكم إياه جباراً فهّاراً، فإنكم لم تعقلوا جباراً قهّاراً إلا ظلوماً غشوماً مذموماً، وأنكروا وصفكم إياه عظيماً جليلاً كبيراً، فإنكم لن تعقلوا عظيماً كبيراً إلا جسيماً كثيفاً غليظاً؟ واستنكفوا له من وصفكم إياه غضوباً سخوطاً. فإنكم لا تعقلون غضوباً إلا متغّيراً متنقّلاً من حال إلى حال.
أو يراجعون عقولهم فيعلمون(1) أنه، وأن كانت صفات المخلوقين ربّما وافقت صفات الخالق في بعض أسمائها، فإنه لا اتفاق بينها في ذات معانيها أصلاً.
كذلك أيضاً، وان كانت صفات الحيوان المخلوقة وافقت خواص جوهر الخالق جلّ وتعالى في اسم الأبوة والبنوة، فإنه لا اتفاق بينهم في ذات المعاني بنحوٍ من إنحاء الأمور جميعا(2).
بل لو قسنا أبعد ما يكون يمكن العقول دركه، من التضاد والخلاف بين شيئين مختلفين متضادين، إلى الخلاف بين أبّوة الأزلّي وبنّوته وبين المخلوقين وبنوتّهم، لكان الخلاف بين الأبَّوتين والبنوّتين أعظم وأبعد من أبعد ما يكون الخلاف بين الشيئين المتضاددين المختلفين، بإضعافٍ وأضعاف لا يُحصى عددها.
فكيف يجوز لذي عقل أن يتوهم على كتاب الله، إذ يذكر اسمَ الأب والابن، انه عني بها أبوةً من المخلوقين وبنوتّهم، بل هذه معاني لم تزل موجودةً ثابتةً في جوهر الخالق جل ثناؤه دون // ما سواه من جميع الأشياء كلها. غير أنها لم تُذكر لأهل الدهور الماضية في الكتب السالفة بتصريح وبيان على ما ذُكرت في الإنجيل وما بعده من كتب لله حديثاً. وذلك ليعلّم الحكيم جلّ ثناؤه بضعف عقول الأولين عن عرفهم ما ماهيتها ونفور عقولهم، إذ لو كُلفوا الإيمان والإقرار بوحدانية إله(3)مع أنّا نخبرك أنه لم يخصّص(4) في سالف دهور الأعقاب الماضية قبل الإنجيل علةً(5) احتيج لها إلى إعلان ذكرها، حتى ظهر الابن متجسداً فأحتاج أهل عصره حينئذ إلى أن يخاطبهم ويخبرهم بعظيم نعمته عليهم في تجسيده بشراً(1) من جوهرهم، ويعلن لذلك بنوته لأبيه وأبّوة أبيه وأزلية الروح الفائضة من ذات أبيه لهم.
فلولا أن الابن جلّ ثناؤه سّمى(2) هذه الأقانيم الثلثة أباً وابناً وروح قدس ورُسمتْ عن أمره كذلك فيما ورث الأعقابُ من إنجيله المجيد- لم يحترِ الناس على أن يسموها(3) بذلك آراء أنفسهم.
كما أنك لو فحصت عن الأسماء والصفات التي سمى ووصف بها العبادُ ربَهم، لوجدتها إنما أنتجت واستوحيت(4) جميعها من كتب الله المنزلة التي فيها اخبرهم بما أختار من أسمائه وصفاته لنفسه، لا أن الناس اخترعوها له من تلقاء أنفسهم.
وكتسمية نفسه في التوراة وغيرها من كتبه وحنان واهياً وشراهياً واسا وماريا وايل وبَهْ وصاووت(5) وأشباه ذلك من أسمائه التي أفضى ذكرها على عباده في أوقات مختلفة: كالذي(6) قال لموسى" انم سألك فرعون وقال لك ماذا أسمه، فقل:
له أهيا شراهيا"(7). وكما قال موسى أيضاً،إذ ناداه من الفقر// قايلاً: يا موسى:" أنا الرب الذي استعلنتُ(8) لإبراهيم وإسحق ويعقوب باسم ال شدّاي(9) الله، واسم الرب لم أطلعكم(10).
وهذا قد تراه يبين لك في قوله هذا إنه هو المفضي إلى أوليائه وأنبيائه بما(11) اختار من أسمائه المكنونة لنفسه. وهو المنفرد باختيار ما شاء منها لذاته دون خلقه، ومطلعهم عليها في أزمان مختلفة اسمٍ بعد اسمٍ، بإرادته ومشيئه، لا أن العباد اجتروا(12) على ان يختاروا له الأسماء ويضيفوها من تلقاء أنفسهم له، وأن كان قد أهمل العبادَ بفضله ونعمته أن يتسموا بعضٌ ببعض ما اختار لنفسه(1) من عاليات أسمائهم(2).
فإنه سمى نفسه ملكاً، وسُمّى فرعون وبختنصر ملوكاً وداود وسليمان ملوكاً. سمّى نفسه ألهاً، وسُمى موسى عبُده ألها. سمى(3) نفسه رباً، وسمى الناس بعضهم بعضاً أرباباً. سمّى (4) نفسه جباراًً، وسُمّى شمشوم جباراً. سمى نفسه حكيماً، وسُمىسليمن حكيماً. مع أسماء أُخرَ كثيرة(5) لا يُحصى عددها. فليست، وإن وافقها في الأسماء، أنها موافقة له في المعاني أيضاً كذلك.
فلا يذعرّنك أيها السامع إذا سمعت كتبَه تسمى هذه المعاني أباً وابناً وروح قدس، فتظن أنها كالأبوة والبنوة اللتين بين المخلوقين من قبل تناسلهم. بل كما أن له الملك والسلطان والإلهية والربوبية والجبروت الحكمة، على ما سمّى نفسه ووصف بها نفسه بالحقيقة، الواجبة، لا لهم (6)كذلك أيضاً له الأبوة والبنوة والروح القدس الأزلية، كما سمّى ووصف بها خواص جوهره على الحقيقة الواجبة، لا لهم(7).

1)) " المقدمة" من الناشر لا في النسخة. أما في المخطوطة هنا فقد زيد في أعلاها بخط مختلف محدث: "ابتدى فتوح(؟) سؤال لأمير المؤمنين مشتمل على الكرم والبخل".
2)) " واستعارته"، أو" واستعادته" أي" الضمان".
1)) في النص: " تقولوا"
2)) إنجيل لوقا، 21: 14-15.
3)) في النص" باري" ، أي من طلب الشفاء ممن هو بارئ البيان الذي وعد بإعطاء الحجة في ساعة المحاجة.
4)) أي أن مضمون كتابي هو الاحتجاج إلخ... يستعمل عمار البصري" الذي" بمنى" ما" في مواضع عديدة.
1 )) في النص:" قواماً".
2 )) هنا كلمة غير مقروءة.
3)) في النص" بيتك" ، ولعلها في" ذات بينك" كما وردت أدناه.
4)) " يحو" في النص، وهي" الجو" ، على رغم قلق الجملة، استناداً إلى ما ورد أدنا:" فهذا ما تجده من طباع الجو في ذات بينك".
5)) " يحير" ، أهي" تجيز" أي تجوز؟
6)) "عناك"
1)) " وانشاه".
1( ) في النص" والتسسل".
2( ) في النص" اسجع"، ونظنها" أنجع" أي" نجع" بمعنى أثّر، نفع.
3)) راجع الحاشية السابقة.
4)) في النص:" لا في شيء".
5)) قرأنا " ثبت" افتراضاً، ويمكن ان تكون هذه الكلمة الممحوة" كانت" أو " بانت".
1)) في المخطوطة" مستطيلاً"، وهي دون شك" مستطيعاً"
2)) في النص:" غياراً وفساداً".
3)) في النص" تقضوا".
4)) " على" ساقطة من النسخة.
5)) " ما لم يزل" أي الأزلي،،" ولم ينتقص" أي الكامل.
1)) في النص" ذات".
2)) " فنحلون".
3) ) " الذي" بمعنى" ما".
1)) في النسخة :" وبعض".
2)) في النسخة:" يستقيم".
3)) في النسخة:" حداد".
4)) في النسخة:" نقالا".
1)) " اراوهم" في النسخة، أو " أرادهم".
2 )) في النسخة:" القادحة".
3 )) " ذكروا" في النسخة.
1) ) " تعاونوا" في النسخة.
2) ) المعنى غامض والنص غير مقروء: " بعمد بخلق ذلك اراده".
3) ) " كلها حملاً" قراءة غير مؤكدة،" حملا" أي جملةٌ ، إذا صح تقديرنا للمعنى.
4) ) في النسخة:" بعض".
1)) " الغنى" أو" الغي" أي عجز عن الامتناع عن الخلق لأنه لم يكن مستغنياً عنه.
2)) في الأصل:" بحدي".
3)) استكثار أو استئثار أو سوى ذلك، والأولى أصح، أي أن يكثر نفسه بالخلق من جوهره لا من غيره.
1)) " أشكل" الأمرين بفضله، يعني ما هو أشبه بفضله، إلى شاكله فضله.
2)) في النص:" الخصيب".
3)) في النسخة:" ذو".
4)) في النص:" نعرض".
5)) " يكون" أو " تكون" " نكُ" أو " تكُ"، " إذ" أو" أن" حروف دون نقاط. هكذا قرأنا ، والمعنى لم يكن فينا كراهة العدم، إذ نحن غير موجودين.
6)) في الأصل المخطوط، " امتزى".
1 )) في النص:" قادر جواد".
2)) " وقت" في المخطوطة.
3)) " إحدى".
4)) في المخطوطة:" متقدم".
5)) قراءة غير أكيدة.
6)) هكذا، أي ولم لا.
1)) مأووفين، من فعل" آف" ، أي صاروا آفة، أي عاهة وفساد.
2( ) في النسخة:" ينالهم".
1)) " إذا" في النسخة.
2)) في النسخة:" ومحامدة".
3)) في النص" رعب".
4)) نكبوا أي طرحوا.
1)) في النص: " فانيين عريانيين".
2)) أي: الذي يجعل حبيبة مسروراً.
3)) أو" منه" كما في النص وهو مضطرب.
4)) والأصح" ذكد" .
5)) في النص:" يشعرون".
6)) في النص:" وينهيهم".
7)) في النص:" ومنفعة".
1)) " مدتهم" في النص، وهو سهو.
2)) " آخرتهم" في النص.
3)) " أولهم" في النص.
4)) " ألوف" في النص.
5)) أو" دالّ" .
6))" اوجبا".
7)) " الآخرين".
8)) " الأمرين".
9)) " أنفى".
1)) " احداتهما" في المخطوطة.
2))" درتب" هكذا.
3)) " يطول": قد يكون المعنى: جوهرهم الضعيف يميل إلى الشر، إذا طال الزمان به.
4)) " حلقا".
5)) " بإحداهم".
6)) "يعاي" أي لو لم يعاينوا الموت لما تابوا.
7))" اـحا" .
1))أو: " والقبر".
2)) " حسيم".
3)) في النص" عنه" وقد فهمنا الجملة هكذا: لو خلقهم وأماتهم جميعاً في وقت واحد لكان قطع عليهم أسباب الانتفاع والإرتشاد والاتعاظ.
4)) " وأفاضل"
5)) " لا جرى".
6)) " يحيرهم" يجيرهم أي يميلهم.
7)) " نري".
1( ) " أجلت"
2)) " يليحها" أو " يلجئها".
3)) " أي كما"
4)) . أي النسب
5)) أي " كما".
6)) " الحليم".
1))" لم يري الحليم".
2)) " تابا" في النص.
3)) في النسخة،" فحل".

4))” "يحملوا
5)) " يقوا".
6)) في النسخة:" اجلو".
1)) " استحيا" أي وفر الحياة لمن.
2)) ابتداء من هنا يوجد اضطراب في ترقيم الصفحات مرده إلى تجليد المخطوطة.
3)) أي في كثير من دهورهم، وقد استعمل جمع الأشخاص للأشياء، كما ورد من حين لآخر في كتابه.
4)) " كافراً شريراً" ، في النسخة.
6)) " واحد".
1)) في النص هكذا:" يحدى" بإحدى؟ تحدي؟
2)) " أخيار".
3)) " كفار".
4)) " جميع".
5)) أو " شأنهم".
1)) " أبواه".
2))أي على مشارفة الأسقام والشروع بالموت.
3)) " يؤمن".
4)) " يريها"؟ هكذا، ولا سبيل إلى قراءة الكلمة: " شربها" ؟: تربى بها"؟ " برأيها"؟
5)) " فأحرى".
6)) " يعر"؟ يفرَ"؟" يفز".
7)) أو" تقصى".
1)) " بقا".
2))" أرواح" في النص.
3)) " دوب" في النص.
1)) " فالا تخبرونا".
2)) أي: أن ما تعمد هو من الخلق هو هذه الجبلة...
3))" مكان".
4)) " وجهل".
5)) " يستقيم".
1)) " ادى" ؟ [ إلى] زيادة من الناشر، ولعل التركيب هو التالي: لعسى كان ذلك أدى إلى سؤالك...، والمعنى أنه لو كان خلقهم أفراداً منقطعين عن التفاعل والبعض أخيار والآخرون أشرار، لصح سؤالك.
2)) " ينقلبوا".
3)) " يخبرهم".
4)) " الحرية" هكذا، " الحرية"؟ أو " الحرية"، أتكون الكلمة التالية" قادتهم".
5) ) " جواد".
6)) أو: حكيما.
1)) " معذبقون".
2)) " الفائزون".
3)) " فيحل".
4)) " بدلنا"، أي: أن ما يدّلنا هو ما عرفنا...
5)) أي: ولو افترضنا أنه وهب الأشرار صفحاً لا يمكن أن يأملوه، فلا بد من الفصل بينهم وبين الأخيار في المنزلة، وهذا وحده كاف لعذابهم.
6)) " يستقيم"
1)) " وسرور".
2)) هنا كلمة مزادة في الهامش ممحوة، ولعلها" منها".
3)) " بدناه".
4)) " إذا".
5)) " أخيار".
6)) كلمة مزادة في الهامش غير مقروءة.
7)) " يسما".
1)) أو: " المنكر".
2)) " احداثا".
3)) كذا.
4))" سبيل".
5)) " ما" ناقصة في النص، زدناها ليستقيم المعنى.
6))" تستوي".
1)) " فوفا".
2))" يتعاملون".
3)) " الفن"، أي الفصل، المقالة.
1)) الفن أي الفصل.
2)) قالا.
3)) وروغانهم.
1)) كذا.
2)) الذي بمعنى ما.
3)) أي حضه.
4) ) إنجيل لوقا، 6: 27-28.
5) ) إنجيل لوقا، 6: 31.
6) ) " ومسانه"(؟).
1) ) " فحست"،" فحسبت" أي فاستنتجت، يعني بما أن هذه الفضائل والخصال تخصه دون سواء، فإعلانها في الخلق دليل على أنها موحاة منه في " عهده" أي الوحي الجديد.
2)) .هذه الورقة مرقمة وموضوعة في غير محلها من المخطوطة
3)) " وفا".
4)) أو " الحكيم".
5))" اصع"."
6)) " إليه" أي لعنده إلى الوليمة.
7))كذا، والأصح " الصُكّ" أي الأقوياء من الناس.
1)) أي: الذي كان مختصاً بمعرفة الله قديماً.
2))" يدعو" في النص.
3)) أي: فهو ما.
4))أي: الذين كانوا منهمكين...
5)) في النص" بنوته".
6))" وكفا".
7)) كذا.
1)) " واما" في النص.
2))" تتوهمهما".
3)) " تغن".
4))" إذا".
5))" إذا".
1)) كذا.
2)) كذا، ولعلها بمعنى" رأيته" بالنظر، أي نظرية.
3)) في النص" نتوهمها".
4)) في النص" طسا".
5))" اضطراراً".
6))" اختياراً".
7))" بعينها".
8))" وأقبلت".
9)) هذه الورقة مرقمة بعدد 65 كالورقة السابقة.
1)) " مضافاً" في النسخة.
2))" منطبق" هكذا ، أي صاحب نطق.
3))" سميع بصير" في النسخة.
4)) في النص " الهيبة"، أو " المهيبة"، أو" المهينة".
5)) " وير".
6))يعني" الروائح".
1)) " برهان" في النص.
2)) " أقوام".
3)) كذا.
4)) الجملة" انه ليس من كتاب..." مكتوبة مرتين لسهو من الناسخ.
5)) " المدعين"، في النص.
6))" وقلب".
7)) " المستدير " المستدير؟ قد يكون في هذا تلميحاً إلى نبي الإسلام.
8)) فاستغفلوا كثيراً، او فاستغفل كثير، وفي النص " كثير".
9)) نفس المصدر السابق.
10)) نابهم او نالهم.
1)) أي والتجاوب مع...
2)) " خصال".
3)) أو" دبرنا".
4)) في النص" شعوب".
5)) كذا.
6))كذا.
7))كذا.
8))" أنا".
9))" فاستبين" في النص.
10))" لايت".
1)) أو: " جميعاً".
2)) تستدل أو يستدل.
1)) " يتلوا".
2)) وفي النسخة:" خيراً".
3)) " بتول".
1)) أي" هو في قضاء..."
2)) إنجيل لوقا/ 16: 18، إنجيل مّى، 19: 9.
3)) إنجيل متى، 5: 25 وما يليها.
4)) " تحضيضة"، أي" حضة" على... وفي النص" تخصيصه".
5)) " التخصيص" في النص، ولعلها التحضيض بمعنى الحض على...
6)) " أخاه" في النص، وهي جائزة.
1)) متى، 10: 9-16.
2)) " الموات" في النص، سهواً من الناسخ.
3)) متى، 10: 9.
4)) " أحد".
5)) " ودعيت".
6)) " الداعيين" في النص.
1)) إنجيل مرقص، 16: 15-18( بتصرف).
2)) " يتلوا" في النص.
3)) قد تكون الكلمة: " وتنبئها"، أو" وتنبيهها"، في النص: تنبيها.
4)) " الداعيين".
5)) " ترى".
6))" أحد".
1)) " يوتا".
2))" أولاهي تحت" ، كذا.
3)) " يدعا".
4))" لعاب"
5))" البربحات".
6( ) في النص" اعشماً"، والأعشم هو اليابس الذي لا يستطيع الحراك.
7))" شيئاً".
1))" بدو".
2))"" موافق".
3)) قد تكون هنا كلمة ناقصة/ مثل: وصية، شريعة.
4)) " ولكانت... انتبهت"، وبين الكلمتين جملة اعتراضية متشابكة طويلة، معناها: لو أن الشعوب رأت كيف أن القوم، أي الرسل، منعوها من استعمال السيف ادعوا تحريمه بعد أن أكرهوها به على الإيمان، لكانت انتبهت.
5)) " وتخلات" في النص.
1)) " لعب وعبث" في النص.
2)) في النص" ابانمن"، قرآناها" لتأمن" أو تأمن" ليستقيم للجملة معنى.
3)) " دراشيت".
4)) " أدعا".
1)) وقد يكون الأصح" كتابنا" ، وحجة عمار هي التالي: بما اننا متفقون وإياكم ان منشئ كتابكم وكتابنا لا يمكن أن يخالف بإعماله شرائع كتابه، وبما انكم تقرون بتنزيل كتابنا، فكيف تدعون علينا بتحريفه، الأصح أنكم إنتم المحرفون لكتابكم بتواطؤ من أمتكم.
2)) " الدعوون".
3))" مخرجاً"، في النص.
4)) " دسون"، في النص"تبينون" أو" تثبتون".
5)) أو " انفساح".
6)) في النص" إذ" قرأناها" إذن" ليصح للجملة معنى كما فهمناه، أي: إذا وافقتم على أن الكتابين غير محرفين، فكتابنا الذي يناقض كتابكم يدل على عدم صحة كتابكم.
7))" ضد".
8))" السى والبدي".
9)) في النسخة" المبادرون".
10)) في النص:" والتعبير".
1)) في النسخة" تسعة".
2)) بدل " تسعة مسائل" كتب بخط آخر" تسعة عشر مسألة".
3)) " واحد".
4)) " موجود".
1)) متفرداً أو منفرداً.
2)) أي: ان جوهر العين المضافة إليه حياته وكلمته... هو واحد أزلي.
1)) " إذ ذلك".
2))" صانع".
3)) " الدعوا".
4)) " تعمد".
5))" كثير".
6))"تسموا".
1))" لقوم".
2)) أي أن قدم غناه واعتلاءه يشبعان القلوب يقيناً,.
3)) " من" الثانية ساقطة من النسخة سهواً دون شك.
4)) " تفصل ونوجي" هكذا في النسخة.
5)) " تبدوا".
6)) أي أن الفحص الأول اضطر العقول إلى إثبات... والفحص الثاني اضطرها أيضاً إلى...
7)) إيجاب أو إنجاب، والقراءة الأولى أصح في رأينا.
8))يعني: أن ما دل الفحص الثالث... يشهد على...
1)) في النسخة: " واحداً حياً حكيماً".
2 بل بمعنى أي. ))
3))" دالاً" ، في النسخة.
4)) تسما".
5)) في النسخة كلمة" لا" ناقصة ويدونها لا يستقيم المعنى.
1)) " موجود حي".
2)) " موجود"
3)) " تعلموا".
4))" يقروا".
5)) أي: هل هو.
6)) في النسخة: " كل اللفظتين المختلفين معناها".
7)) " الصفين المختلفين".
8)) واحد.
9))أي" على ذلك"،" على مثل ذلك".
10)) " حياً".
1)) " سميتموه"
2))" سميتموه".
3))" سميتموه".
4))" تنفوا".
5))فتسموه".
6))أي: أفضل الأسماء... مدحاً.
7))نضيفاً".
8)) بريعا".
1)) " سميع بصيراً قادر رحيماً جواد كريماً"
2)) " روح".
3)) في المخطوطة أنزلت هنا غلطاً 85 85 A" الأسباب"، والمعنى أن هنالك خواصاً لله قيلت عليه لا لأنها جوهرية فيه بل كتعبير عن المسببات التي صنعها في العالم. ، في النص
4)) " جهلاً".
5)) " يريد".
1)) " ومنهم غير السميع" ساقطة من النسخة وهي دون شك موجودة في الأصل.
2))" ناطقين".
3)) " ناطقين".
4)) في النص" فضل" وهي دون شك" فصل" ، أي بينونة أو تمييز جوهري.
5)) نفس المصدر السابق.
6)) " مايية".
7)) " منا" في المص.
8)) ظاهر الكلمة هو " ليست".
9))أي العلة الأخرى.
1)) " احديهما".
2))" امور".
3))" أمر".
4)) " تيدوا".
5)) في النص" حادصا" وهي" حايضا" أي إنجيلاً.
6)) " فلنمضي".
7)) " إليها".
8)) في النص" جوهرين" ، ونظن المقصود" جوهريَّين".
1))" نار".
2)) في النسخة" تعضيمنا" ، وهي " تعظيمنا"، أي يجد ذلك أمراً عظيماً.
3)) أو" ويزعم".
4)) سفر التكوين 1: 26.
1)) سفر التكوين: 11: 7
2)) في النسخة" عنما".
3)) سفر التكوين 3: 22.
1)) في النسخة" وإنها" وهي سهو عن" وإنما"، أي" وإن ما".
2)) كذا.
3)) " منها".
1)) " أشخاص".
2)) " بكلما".
3)) فاثنين"، في النسخة.
4)) " واثنين".
5))" أعلا".
1)) " الذي" هنا بمعنى" ما"، كعادة عمار البصري.
2)) أي" فلم يجدوا محيصاً عن أن..."
3)) أي " لاقانيم شتى".
4)) " اسم".
5)) أي خير معير عن شكل كمالها.
6)) أي مسوغاً.
7)) " أن" في النسخة.
8)) " نعم" في النسخة.
9 ))" لما" في النسخة.
10( ) " أدنا".
11)) فان وصفهم هو... زور وباطل. وفي النسخة" زوراً وباطلاً".
2)) في النسخة " وجلاله".
3)) أي" آثرناه دونهم".
4)) أي: إذ عزونا إليه ما عزونا.
5)) في النسخة" أو" وهي" ما" في الأصل دون شك.
6)) في النسخة " فقتلوا".
7)) " أب وابن".
8)) أي حكاية، او رواية عن...
9)) إنجيل متى 28: 19.
10( ) " الجزو"
11( ) جملة ملأى اعتراضيات، يجب القراءة كذا: وكان....ما كتب منه... مبهماً في سياق إنجيله، ومجملاً في ختام إنجيل متى حيث ترد الآية: وعمدهم باسم الأب والابن والروح القدس.
12)) " الجزو".
1))" شيئاً" في النسخة.
2))" سمى" في النسخة.
3))إنجيل يوحنا:14: 17، 26.
4)) " المخالفين" في النسخة
5)) " يعقلوا" في النسخة.
6))" عرض".
7)) كذا.
1))" فيعلموا".
2))" جمعاً".
3)) " إلاهاً" في النسخة، أو بوحدانيته إلهاً" الجملة ناقصة، أو أن خير إذ هو بعيد أدناه: " لم يجتر الناس".
4)) يخصَّص او تخصَّص".
5)) علةً أو علّةٌ.
1)) " بشر".
2)) " سما".
3)) " يسمونها".
4)) أو: زاستوجبت.
5)) إهية أشر إهية، معناها: أنا هو الذي هو، أيل، صيغة من اسم الله، يَهْ هي المقطع الول من اسم يهوه. ولكننا لم نحسن قراءة الكلمات الخرى.
6)) أي: كما.
7( ) ومعناها" انا هو الذي هو".
8)) أي أعلنت.
9)) ايل شداي أي الإله القوي، أو بالاحرى: غنه الجبل.
10)) أي لم أطلعكم عليه. والآية من سفر.
11)) في النسخة" ما".
12)) أي اجتراوا.
1)) أي ترك العباد يسمون بعضهم بعضاً بالأسماء التي اختاروها هو لنفسه.
2)) " اسماوهم"
3)) " سما".
4
5)) كثير.
6)) أي: كما أن له... الملك والسلطان والأبوة والبنوة، لا لهم بحقيقة المعنى، كذلك له الأبوة والبنوة وروح القدس لا لهم على الحقيقة الواجبة.
7)) راجع الحاشية السابقة.
75



أمين نايف ذياب (أبو ياسر) رحمه الله  كانت بدايته السياسية/الدينية مع حزب التحرير الاسلامي منذ خمسينيات القرن الماضي ثم سار على منهج المعتزلة في السنوات الأخيرة من عمره،    تميز أبو ياسر رحمه الله بذاكرة موسوعية لكثير من المواضيع الدينية والسياسية وأخبار العشائر والعائلات في منطقة مرج بن عامر في فلسطين  ... له عدة مؤلفات ومناظرات ومقابلات مع وسائل الإعلام المحلية والعالمية .

 توفي أمين نايف رحمه الله في 15 حزيران  2006

مواقع مخصصة لأمين نايف


سلسلة جدل الأفكار 

مواد أخرى


http://mohammed-thiab.blogspot.fr/p/blog-page_24.html

Aucun commentaire: