mercredi 31 août 2016

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ 110 آل عمران


كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ 110 آل عمران


كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚمِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ

mardi 30 août 2016

كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ 110 آل عمران


كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ ۚ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ




بين حسن البنا وسيد قطب - بقلم : د. يوسف القرضاوي



بين حسن البنا وسيد قطب - بقلم : د. يوسف القرضاوي

يحلو لبعض الإخوة أن يعقدوا مقارنة بين حسن البنا وسيد قطب محاولين أن يثبتوا أنهما كانا على خط واحد، ونهج واحد، وأن سيدا لم يتجاوز خط البنا ورحم الله الرجلين.

وأنا أقول: إن سيدا أشاد بالبنا في كتاباته القديمة التي جمعها في كتاب (دراسات إسلامية) فكتب عن حسن البنا وعبقرية البناء. ولكنه لم يتحدث -فيما علمت- عن فكر البنا ومقاصده، ولم ينقل عنه في كتبه كم
ا نقل عن المودودي والندوي، وإن كان يجمعه بحسن البنا الاتجاه العام لنصرة الإسلام، والذود عن حماه.

أما المنهج فكان لكل منهما شخصيته وتميزه، من حيث المنطلق، ومن حيث الغاية، ومن حيث الوسيلة ومن حيث الروح العامة.

فأما المنطلق -وإن كان إسلاميا لكليهما- نجده مختلفا كثيرا بينهما، فحسن البنا ينطلق من أن الأمة الإسلامية موجودة، وأن المسلمين موجودون، ولكنهم يحتاجون – إلى عمل كبير لتفقيههم بالإسلام، وتربيتهم عليه، بدءا بالفرد المسلم، فالبيت المسلم، فالشعب المسلم، فالحكومة المسلمة، فالأمة المسلمة.

وسيد قطب ينطلق من أن الأمة المسلمة قد انقطع وجودها منذ زمن، ولا بد من إعادتها من جديد، وكل الموجودين اليوم من سلالات أقوام كانوا مسلمين، وأوطانهم كانت من قبل دارا للإسلام، ولم تعد اليوم دارا للإسلام، وإذا لم يكونوا مسلمين، فعلينا أن ندعوهم إلى اعتناق العقيدة الإسلامية، وأن يدخلوا في الإسلام من جديد.

حسن البنا يرى أن الإسلام -باعتباره دينا- قائم وموجود، وأن هناك أمة تؤمن به من المحيط إلى المحيط، وأن الأمة المسلمة من أشد الأمم في الأرض تمسكا بدينها، وأن الإنسان العاصي أو المفرط من عامة المسلمين نجد أصل الإيمان مغروسا في أعماقه، ولكنه إيمان نائم أو مخدر، وهو في حاجة إلى إيقاظ وبعث وتنبيه، وهذه مهمة الدعوة الإسلامية ورجالها.

نجد حسن البنا يقول في رسائله: يا قومنا -وكل المسلمين قومنا- ندعوكم إلى كذا وكذا.

بخلاف سيد قطب، فهو يرى أن الإسلام قد انقطع وجوده من الأرض، فلا توجد أمة مسلمة، ولا يوجد مجتمع مسلم، بل لا يوجد أفراد مسلمون، لا بمعنى أنهم ارتدوا عن الإسلام، بل لأنهم لم يدخلوا أصلا في الإسلام؛ لأن دخول الإسلام لا يتحقق إلا بشهادة أن (لا إله إلا الله)، بما تتضمنه من إفراد الله تعالى بالحاكمية، وهم لم ينطقوا بالشهادة بهذا المدلول.

وهذا هو المفهوم الذي أنكره العلامة الندوي على سيد وعلى المودودي من قبله، وسماه (التفسير السياسي للإسلام).

حسن البنا يشعر بوجود الإسلام وأمته، ويتعاطف معها، ويعيش بهمومها، وسيد قطب لا يحس للإسلام ولا لأمته بوجود من حوله، بل يقول: قومنا على ملة، ونحن على ملة وهم على دين ونحن على دين آخر.

غاية حسن البنا أن يصحح فهم المسلمين للإسلام الذي يعتنقونه بحيث لا يقتصر على المعنى اللاهوتي أو التعبدي الشعائري، بل يجب أن يفهموه بشموله وتكامله وتوازنه: عبادة وجهادا، ودينا ودولة، خلقا وقوة، ثروة وغنى، تربية وتشريعا، وبعد تصحيح الفهم تبدأ عملية تجديد الإيمان وغرس المعاني الربانية والأخلاقية.

وغاية سيد قطب: أن يعلن رفض هذا المجتمع كله من حوله، فهو مجتمع جاهلي، لم يدخل بعد في الإسلام المطلوب: أن ندخل الناس في الإسلام من جديد، وندعوهم إلى اعتناق عقيدته، كما دعاهم الرسول وأصحابه وأن نشعرهم بأنهم شيء ونحن شيء وأن نصارحهم بذلك بلا وجل ولا خجل حتى يعرفوا حقيقة أنفسهم.

وسيلة حسن البنا: هي الدعوة والحوار والتربية والتغلغل في المجتمع، والعناية به بحل مشاكله وأخذه بالرفق والتدرج والانفتاح على المخالفين، والتسامح معهم دون تفريط في حقوق الأمة.

وسيلة سيد قطب: هي الدعوة والتربية أيضا مع غرس الشعور في العصبة المؤمنة القليلة -التي هي المسلمة دون من عداها- بالعزلة الشعورية من المجتمع، ورفض الانفتاح والتحاور مع الآخر، بل وتجب التعبئة الفكرية والشعورية ضده، وتقديم سوء الظن بهؤلاء الذين لا يضمرون إلا الشر والعداوة لمسلمين.

الروح العامة في منهج حسن البنا هي: التسامح والانفتاح والحكمة والتدرج.

والروح العامة في منهج قطب هي: التشدد والصرامة وإغلاق الأبواب.

ومن أجمل ما عبر عن اختلاف المنهجين: المفكر المؤرخ المستشار طارق البشري حين قال: "إن #سيد_قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر#حسن_البنا -رحمهما الله- ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة، إنما يجري وصف كل فكر وظروف إعماله، وفكر حسن البنا -لمن يطالعه- فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى، وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة، وفكر امتناع عن الآخرين.

فكر البنا: يزرع أرضا وينثر حبا، ويسقي شجرا وينتشر مع الشمس والهواء.

وفكر قطب: يحفر خندقا ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب.

-----------
#كلمة_حرة | مصدر المقال : الحلقة 13 من هذا الملف الخاص :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=3&uploaded=1
 –

لف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 1 ] : تعريف .. ولقاء

[ كان سيد قطب من أبناء دار العلوم ومن زملاء حسن البنا ، أو بعده بقليل ، وإن لم يحدث بينهما تعارف في أثناء الدراسة ، ولكنه انتبه إليه حين كان في أمريكا ورأى بعينه احتفال الأمريكيين وفرحتهم بمقتله .

وقد ذكر الأستاذ محمود عبد الحليم في كتابه " أحداث صنعت التاريخ " أن سيد قطب كتب مقالا في جريدة الأهرام القاهرية اليومية يدعو فيه الناس دعوة صريحة إلى العري التام ، وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم .. وأن الأستاذ محمودا كتب مقالا في الرد عليه ، وعرضه على الأستاذ البنا فأشار عليه ألا ينشره حتى تموت الفكرة في مهدها ، فقد يؤدي الرد عليه إلى إحيائها والأخذ والرد في شأنها وهذا في صالحها .

وهو أمر مستغرب من مثل الأستاذ سيد قطب الذي لم يعرف عنه طوال حياته مثل هذا التوجه إلى الإباحية ، وهو ابن دار العلوم ، وابن الصعيد ، ولكنا لا نملك أن نكذب الأستاذ محمودا ولا سيما أنه أشرك معه الإمام البنا .

كان سيد قطب شاعرا رومانسيا محسوبا على جماعة "أبولو" وكان أديبا مرموقا محسوبا على مدرسة العقاد التي تخاصم مدرسة الرافعي ، وكان ناقدا أديبا يملك حاسة نقدية عميقة ، كما كان له أصوله النظرية في النقد ، ضمنها كتابه المعرف "أصول النقد الأدبي"

وقد تجلت قدرته النقدية الموهوبة والمكتسبة في كتابيه الرائعين ، "التصوير الفني في القرآن" و " مشاهد القيامة في القرآن " اللذين لم ينسج فيهما على منوال أحد قبله ، وأبدع فيهما غاية الإبداع .

ويُعَدُّ بهذا من رواد النقد الأدبي الإسلامي ، ولكن كتابه الجديد "العدالة الاجتماعية في الإسلام" كان نقلة نوعية لسيد قطب من أديب مسلم إلى داعية إسلامي ومفكر إسلامي .

وقد سبقه في جانب العدالة الاجتماعية الإسلامية رجال ، أبرزهم الشيخ محمد الغزالي ، الذي صدر له كتابان في هذا المجال : "الإسلام وأوضاعنا الاقتصادية" و "الإسلام والمناهج الاشتراكية" كما نُشر له مجموعة مقالات جُمعت بعد ذلك في كتاب "الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين" .

ولقد قرأ سيد قطب هذا كله وغيره وذكره في مراجع الطبعة الأولى من "العدالة" ولكنه أحسن حين وظفه توظيفا حسنا ، ووضعه بطريقة منهجية تخاطب النخب المثقفة بأسلوب العصر .

ولقد سررنا نحن شباب الدعوة بظهور كتاب سيد قطب وما يحمله من توجه جديد لهذا الأديب الكبير نحو الرسالة الإسلامية والفكرة الإسلامية .

وقد سار سيد قطب في هذا الدرب المضيئ وأصدر أكثر من كتاب في الاتجاه نفسه ، منها كتاب " معركة الإسلام والرأسمالية " و كتاب " السلام العالمي والإسلام" وغدا يكتب في عدد من الصحف التي تعد من صحف المعارضة ، بعضها إسلامي مثل صحيفة "الدعوة" للإخوان ، وبعضها إن لم يكن إسلاميا خالصا فهو يحمل رائحة إسلامية مثل صحيفة "الاشتراكية" لحزب العمل الاشتراكي (مصر الفتاة من قبل) وصحيفة اللواء للحزب الوطني ، ولكنه كان يكتب تحت راية الإسلام وفي سبيل نصرته وبعث أمته ، وقد جمع هذه المقالات التي كتبت في تلك الفترة في كتاب بعنوان "دراسات إسلامية".

كما أنشأ سيد قطب مع مجموعة من المفكرين الثائرين مجلة "الفكر الجديد" كان الإعلان فيها وهو شعارها : ( تحرير أقلام قوية مؤمنة بحق الشعوب في الحياة . يشترك في تحريره : سيد قطب ) .

كما كان يدعى لإلقاء محاضرات في بعض الكليات وغيرها ، ومنها محاضرة ألقاها في كلية الآداب بجامعة عين شمس أوائل قيام ثورة يوليو شهدتها مع عدد من طلاب كلية أصول الدين التي كانت قريبة جدا من كلية الآداب حيث تقع قبالتها في شبرا ، وقد قدمه عميد الكلية الأستاذ الدكتور مهدي علام تقديما أشاد فيه بنبوغ المحاضر منذ كان طالبا وكانت المحاضرة عن "الثورة في الإسلام" وأن الإسلام ثورة في عالم التصور وفي عالم الشعور وفي عالم الواقع .

وكان الأستاذ سيد أول ما قامت الثورة قريبا من رجالها ومن جمال عبد الناصر بخاصة ، حتى إنهم في أول الأمر حينما أرادوا أن ينشئوا "هيئة التحرير" لتكون حزب الجيش أو الثورة كان توجههم أن يُحملوا سيد قطب مسئولية أمانتها العامة ، ولكن يبدو أن فكره لم يتفق مع أفكارهم واتجاهه لم ينسجم مع اتجاههم فكان فراق بينه وبينهم والتفاصيل في ذلك عند شقيقه الأستاذ محمد قطب حفظه الله .

وفي هذه الفترة اقترب الأستاذ سيد قطب من جماعة الإخوان وإن لم ينضم إليهم بصورة رسمية ، وكان يصحب الأستاذ الهضيبي المرشد العام للإخوان في بعض رحلاته إلى الأقاليم .

وأذكر أنه زارنا في منطقة المحلة الكبرى بمناسبة الاحتفال بالهجرة النبوية وتحدث في هذا الحفل الكبير الأستاذ الهضيبي والأستاذ عبد الحكيم عابدين السكرتير العام للإخوان ، والفقير إليه تعالى ، وكان الأستاذ سيد قطب مستمعا فقط . 

وأذكر أن الأستاذ سيد رحمه الله قال للأستاذ عابدين بعد أن سمع كلمته الضافية في المناسبة : لماذا لا تكتب هذا الكلام يا أستاذ عابدين ؟ إن الكلمة المكتوبة لها أهميتها فهي أخلد وأبقى من الكلمة المسموعة ، وكان كثير من الإخوان يلقون كلمات نيرة وقيِّمة في هذه المناسبات ولكنها لا تكتب .

وبعد ذلك اندمج سيد قطب في الإخوان وأصبح رئيسا لقسم نشر الدعوة ورئيسا لتحرير مجلتهم الأسبوعية وسيأتي الحديث عن هذا الطور في حينه ثم الطور الذي يليه : طور "معالم في الطريق" وما تلاه وما صاحبه من كتب عبرت عن "فكر المحنة" التي ابتلي بها الإخوان ودعوة الإسلام بصفة عامة ، وما كان لها من أثر على تفكير الشهيد رحمه الله وسيأتي الحديث عن ذلك في حينه ] [1]

لقاء مع "سيد قطب :

[ تحدثت عن الأستاذ سيد قطب في المرحلة السابقة باعتباره الكاتب الإسلامي المرموق، صاحب القلم السيال، والأسلوب الرفيع، والذي دخل الساحة الإسلامية بقوة، بكتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام) وما بعده، واقترب من الإخوان، وإن لم يصبح واحدا منهم.

واليوم أتحدث عن سيد قطب بعد أن اندمج في الإخوان، وأصبح واحدا منهم، بل غدا من قادة الفكر والتوجيه فيهم، وأضحى موضع الثقة عند مرشدهم، حتى أسند إليه رئاسة (قسم نشر الدعوة) في الجماعة، كما أسندت إليه رئاسة تحرير مجلة "الإخوان المسلمون" الأسبوعية، كما كان سكرتير تحرير المجلة معه الكاتب الإسلامي المعروف الأستاذ محمد فتحي عثمان.

وفي هذه الفترة طلبني الأستاذ سيد قطب لألقاه، فذهبت إليه في المجلة، وقال لي: إنه كُلف رئاسة قسم نشر الدعوة، وهو يريد أن ينهض بالقسم على أسس منهجية سليمة، ويرجو من دعاة الإخوان أن يعاونوه على ذلك، فهو لا يستطيع أن يحقق ما يريد إلا بتعاون الجميع معه، وخصوصا شباب الدعاة المرجوين أمثالك.
قلت له: أنا معك في كل ما تصبو إليه إن شاء الله، ونحن جنودك في تحقيق آمالك الكبيرة المرجوة في نشر الدعوة بطريقة علمية.

قال: تعلم أن أحاديث الثلاثاء، أصبحت متروكة للمصادفات، في كل ثلاثاء يقدَّم أحد الإخوان الدعاة ليلقي ما يخطر بباله بدون إعداد ولا تحضير، وإنما هو حديث مرتجل عفو الخاطر، ومثل هذا لا يليق بجماعة كبيرة مثل الإخوان.

لهذا رأيت أن ننظم هذا الأمر، بحيث نكلف عددا من دعاة الإخوان، كل واحد يأخذ شهرا، يلقي فيه أربعة أحاديث في موضوع محدد يتفق معه عليه، ويحضر له المادة المطلوبة، ويلقيه على الإخوان، فيستفيدون علما وثقافة، لا مجرد عواطف ومشاعر، قلت له: نعم الرأي هذا.

قال: وعلى هذا الأساس أعرض عليك واحدا من موضوعين، تختار أحدهما لتعده وتلقيه في الوقت المناسب، الموضوع الأول: مواقف من السيرة النبوية، والثاني: من أخلاق القرآن، فهل ترى هذين مناسبين؟

قلت: كلاهما ملائم، ولكني أختار الثاني، فربما عندي فيه ما يقال مما يفيد إن شاء الله.

قال: على بركة الله، فليكن ذلك في شهر نوفمبر تقريبا، أي في أثناء السنة الدراسية إن شاء الله.

قلت: وهو موعد مناسب لي، وأسأل الله التوفيق.

ولكن الأمور تغيرت بسرعة مذهلة، وحدث ما حدث، حتى إن شهر نوفمبر الموعود حينما جاء، كان قد ضمه وضمني وضم الإخوان معنا السجن الحربي، والعبد يفكر، والله يقدر، ولله في خلقه شئون.

وكانت هذه المرة الثانية التي ألقى فيها الشهيد سيد قطب رحمه الله وأجلس إليه منفردا به. أما المرة الأولى، فكنت أنا الذي طلبت لقاءه، فقد كنت مشغولا بإصلاح الأزهر، لعلمي بأن الأزهر مؤسسة علمية دينية كبرى ذات تأثير في مصر وفي العالم الإسلامي كله، بل في المسلمين خارج العالم الإسلامي حيثما كانوا، وأن بإضاعة الأزهر يضيع خير كثير على الأمة، وبإصلاحه يصلح كثير من شأن الأمة، وقديما قالوا:

يا أيها العلماء يا ملح البلد * ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسد؟

ذهبت إلى الأستاذ سيد رحمه الله، وعرضت عليه ما عندي من أفكار لإصلاح الأزهر، والرقي بمناهجه، والنهوض بعلمائه ورجاله، وشرحت له ذلك في جلسة مطولة، في دار الإخوان بالحلمية، وقد أثنى على جهدي وتوجهي الإصلاحي، وشجعني تشجيعا سرني وشرح صدري، وأضاف إليّ بعض النصائح والتوجيهات المهمة من ثمرات قراءته، ومن تجاربه في الحياة، وأذكر مما قاله لي، وأنا أحدثه عن الفلسفة الإسلامية: إنها في الحقيقة ليست فلسفة إسلامية، إنها في الواقع ظلال للفلسفة اليونانية، مترجمة إلى العربية، مضافا إليها بعض إضافات لم تغير جوهرها.

إننا في حاجة إلى فلسفة تعبر عن حقائق الإسلام الكبرى، وعن فكرته الكلية عن الكون والحياة والإنسان، بصورة تبين مزايا النظرة الإسلامية عن سائر النظرات والفلسفات الأخرى، سواء كانت نظرة الديانات السماوية الأخرى التي حرفت، أم الديانات الوثنية الأرضية، أم الفلسفات البشرية الوضعية.

ولم يقدر لي بعد هاتين الجلستين مع الشهيد، أن أسعد به مرة أخرى، فقد كنت في القاهرة صيف سنة 1964 حين أفرج عنه من سجنه بشفاعة الرئيس العراقي عبد السلام عارف، وأردت أن أسلم عليه بعد خروجه من السجن، وذهبت مع أحد الإخوة الأزهريين العراقيين الذين كانوا يدرسون للدكتوراة في مصر، وهو الأخ الشيخ حسيب السامرائي، الذي تفضل بأخذنا في سيارته أنا والأخ الشيخ حسن عيسى عبد الظاهر، وذهبنا إلى بيته في حلوان، ولكنا للأسف لم نجده، ولم تتح لنا زيارته مرة أخرى، إذ في السنة القادمة كانت محنة 1965، والتي جرى فيها ما جرى، والحمد لله على كل حال..
] [2]

----------
هوامش :
[1] : ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، للإمام يوسف القرضاوي ، (1/ 428 – 431) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2006م
[2] ابن القرية والكتاب ، (2/ 57 -60) ط 1 ، دار الشروق ، القاهرة / 2004م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=3&uploaded=1

https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/1463297_1134380949919480_9083664779849995_n.png?oh=44b90c73218a7294ad2da7343ddd84a2&oe=588290BA

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب


ملف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 2 ] : المحنة 

كانت هذه المحنة التي ابتُلي بها الإخوان في مصر، من المحن الكبرى في تاريخهم الدعوي والحركي، وقد كانت محنة ثقيلة وقاسية ومُرَّة على الإخوان، وذلك يرجع إلى عدة أمور:

أولاً: من ناحية الكم شملت أعدادًا هائلة، أكبر من أية مرة مضت، حتى إن أجهزة أمن عبد الناصر ومخابراته ذكرت على سبيل المباهاة أنها اعتقلت ثلاثين ألفًا من الإخوان في عدة ليال. فهي تعتبر هذا من "الإنجازات" العظيمة (!) التي ينبغي أن تكافأ عليها المكافآت السخية! 

ثانيًا: من ناحية الكيف، فقد جرى فيها من أساليب التعذيب ووسائله الوحشية والحديثة، ما لم يجرِ في المحنتين السابقتين في عهد الثورة، ولا في المحنة التي مضت في عهد الملك فاروق وحكومة النقراشي وإبراهيم عبد الهادي.

فقد تعلّم المصريون أساليب استفادوها من الروس والشيوعيين، الذين هم أئمة القمع والقهر والتعذيب في العالم. فقد مورست أساليب لم تعرف من قبل، ومنها أساليب غير أخلاقية.

ومن ذلك اعتقال النساء وتعذيبهن، كما حدث مع السيدة المؤمنة الصابرة زينب الغزالي، التي حكت عن تعذيبها في كتابها "أيام من حياتي" ما يشيب له شعر الوليد، وما يندى له جبين كل إنسان مصري وعربي. وكذلك اعتقلت شقيقتا سيد ومحمد قطب : أمينة وحميدة .

ثالثًا: أن هذه المحنة كانت مفاجئة لجمهور الإخوان، فقد داهمتهم على غفلة، دون توقع منهم، ولا عمل قدموه يمكن أن يؤاخَذوا عليه. فقد كان أكثرهم منصرفًا إلى عمله المعيشي اليومي، يتقنه ويتكسب من ورائه: الموظف في وظيفته، والتاجر في تجارته، والزارع في زراعته، والمحترف في حرفته، والطالب في جامعته، وبحسبه أن يؤدي فرائض الله، ويجتنب محارم الله، ويتحرى الحلال، ويربي أولاده على طاعة الله، ويدع السياسة لأهلها، والدعوة لربها، على نحو ما قال عبد المطلب لأبرهة: أما الإبل فأنا ربها، وأما البيت فله رب يحميه!.

كان هذا هو اتجاه جمهور الإخوان بعد محنة 1954م ـ 1965م، وهو الكمون والسكون، حتى تتغير الأحوال، وتواتي الفرصة. والتغيير حقيقة كونية، ودوام الحال من المحال، ومداولة الأيام سُنَّة قررها القرآن: "وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" [آل عمران: 140].

ولكن الإخوان فوجئوا -برغم اعتزالهم لأي نشاط سياسي أو حركي- بهذه الهجمة العامة التي لم تدع أحدًا له صلة بالإخوان إلا امتدت يدها إليه، حتى بعض من ضعف إيمانهم، وتراخت عزائمهم، ولم يكتفوا باعتزال النشاط الدعوي، بل أوسعوا الإخوان ذمًّا وتجريحًا، عسى أن يشفع ذلك لهم، فلم يغنِ عنهم ذلك شيئًا، وشمت بهم من شمت ممن نالهم أذاهم وتطاولهم من إخوانهم.

ولهذا ينظر الإخوان إلى هذه "المحنة" الهائلة المريرة على أنها من جانب آخر كانت "منحة" ساقها الله تعالى للإخوان، الذين أرادوا أن ينشغلوا بهمومهم المعيشية عن همومهم الدعوية، وأن يقول كل منهم: نفسي نفسي، فشاء الله تعالى أن يريهم أن اعتزالهم لواجب الدعوة لن ينفعهم، وأنها قد أصبحت مكتوبة على جبينهم، مقروءة في وجوههم، موصولة بحياتهم، لا تنفصل عنهم، ولا ينفصلون عنها. فليحملوها بإرادتهم واختيارهم، بدل أن يُحمّلوها رغم أنوفهم، ففي الحالة الأولى يؤجرون على كل ما يصيبهم في سبيلها، وتجد أنفسهم السكينة والرَّوْح كلما مسهم قرح، أو نزل بهم بلاء، فهو في سبيل الله. أما في الحالة الأخرى، فلا أجر فيها ولا مثوبة في الآخرة، ولا سكينة ولا راحة في الدنيا.

سبب هذه المحنة :

ولقد فكرت وتأملت في سبب هذه المحنة الهائلة التي فُتِحت فيها النار على جماعة الإخوان من كل جانب، وسلطت عليهم آلات التعذيب الجهنمية، تحطمهم ماديًّا، وتحطمهم نفسيًّا، آلات تأكل من لحومهم، وتشرب من دمائهم، وتهشم من عظامهم.

لقد قلت: إن جمهور الإخوان لم يمارسوا أي نشاط، وهذه حقيقة لا ريب فيها، وقد كان بعضهم لم يزل في سجون عبد الناصر يقضون المدد المحكوم عليهم فيها بالأشغال الشاقة بعيدًا في "الواحات" بعد أن وقع ما وقع في "ليمان طرة" من مذبحة تحدثنا عنها في الجزء الثاني.

ولكن أجهزة عبد الناصر، أعلنت أنها اكتشفت "تنظيمًا سريًّا" خطيرًا جدًّا، يقوده "سيد قطب" ومعه مجموعة من الإخوان، منهم: الشيخ عبد الفتاح إسماعيل، ومحمد يوسف هواش، وعدد قليل آخر، منهم شخص اشتروه بالإغراء، والتأثير بالوعد والوعيد، والعفو عنه من حبل المشنقة -وهو علي عبده عشماوي- فخارت قوته، وانهزمت إرادته، فسقط في أيديهم فريسة سهلة، وأمسوا يلقنونه ما يجب أن يقول، فيذعن لهم، ويصبح رجع الصدى لما يقولونه. وهذا الطريق من وقع فيه، فقد وقع في حفرة لا ينجو منها إلا إلى حفرة أشد منها عمقًا، ومن مضى فيه خطوة لم يستطع الرجوع عنها، ومن سقط السقطة الأولى ظل يسقط ويسقط، إلى ما لا نهاية، فقد غدا لا يملك من أمره شيئًا، غدا مسيّرًا لا مخيرًا، زمامه بيد غيره. لأن الذي يبيع نفسه للطاغوت، قد خسرها بالمرة، وهذا لون من الشرك بالله، الذي ينحط به الإنسان إلى أسفل الدركات "وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" [الحج: 31]. ونعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن .

هذا التنظيم المحدود العدد، المحدود الإمكانية -الذي يقوم في الأساس على التوعية والتثقيف والإعداد الفكري والنفسي- قد هوَّلت أجهزة عبد الناصر من أمره، وجعلت "من الحبة قبة"، و"من القط جملاً"، كما يقول المثل. وأعتقد أن هذه الأجهزة هولت الأمر لعبد الناصر نفسه، وعرضت عليه الأمر عرضًا يضخم الواقع أضعاف ما هو عليه، فكأنما يراه بمجهر مكبر (ميكرسكوب). وذلك لتستخرج منه القرار المشئوم بإشعال تنور الأذى والعذاب.

وكثيرا ما تصنع الأجهزة الأمنية ذلك للقادة السياسيين، فتضللهم، وتدفعهم دفعًا، ليشعلوا معارك حامية لا لزوم لها، ولا فائدة منها.

والمشكِل في الأجهزة الأمنية أنها لا ترتاح إلى مناخ الهدوء والاستقرار، فهي لا تبرز ولا تعمل ولا تتحرك بقوة إلا في جو التوتر والسخونة، فإذا برد الجو اجتهدت أن توقِد تحته حتى يسخن وتشتد حرارته.

وهي دائما تُشعِر الحاكم والقائد السياسي بالخطر الواقع أو المتوقع، حتى يشعر أبدًا بحاجته إليهم، وأنهم الذين يحمونه من تغير الجو الهادئ، إلى جو الريح العاصف، والرعد القاصف، والبرق الخاطف، وأنهم الذين يعدون له في هذا الجو سفينة الإنقاذ، وطوق النجاة.

حاولوا أن يضفوا المبالغات على هذا التنظيم المحدود، فقالوا: إنه كان يخطط "لنسف القناطر الخيرية"! وهل يفكر في ذلك عاقل؟ وماذا يستفيد من ذلك إلا الهلاك والخراب؟ وإذا كان يريد أن يحكم البلاد، فكيف يخربها قبل أن يستولي عليها؟

وقالوا: إنهم يريدون اغتيال "أم كلثوم".. وهل يفكر في ذلك من له ذرَّة من عقل؟ وماذا ارتكبت أم كلثوم من جرائم تستحق عليها القتل؟ وهل يقتل عاقل إنسانة يحبها جماهير الشعب المصري -بل العربي كله- ويعرض نفسه لسخط عام دون حاجة لذلك؟!

المهم أن الحكومة كانت تملك من أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، ما تستطيع به أن تغير الرأي العام إلى صفها. ولا سيما أن الخصم لا يملك أية وسيلة إعلامية يستطيع بها أن يدافع عن نفسه، ولو بأدنى دفاع.

ومن المعروف أن الصحف كلها في مصر قد "أمّمت" وأصبحت ملك الدولة، فهي الناطقة باسمها، والمدافعة عنها، والمهاجمة لخصومها، ولا يمكن أن يعيَّن رئيس تحرير، أو سكرتير تحرير، أو يظل في منصبه، إذا شُك في ولائه للثورة ورجالها، ولو مثقال ذرة.

ولا توجد أية صحف معارضة، إذ لا يسمح بوجود أي حزب أو قوى سياسية، غير الحزب الواحد الذي يحكم البلاد، وهو "الاتحاد الاشتراكي". فلتقل الحكومة ما تشاء، فلن يعارضها أحد، ولن يسائلها أحد، والمثل المصري يقول: هل يستطيع أحد أن يقول للغولة: عينك حمراء؟!

وقد بدأت هذه الجولة بالقبض على الأستاذ محمد قطب يوم 30 يوليو سنة 1965، ثم القبض على الأستاذ سيد قطب في 9 أغسطس التالي، وانطلقت بعد ذلك جحافل عبد الناصر تلقي القبض على آلاف الإخوان، وافتخر عبد الناصر فيما بعد بأنه قبض على ثلاثين ألفا في نصف ساعة!

وكان القبض على الإخوان المسلمين بتهمة أنهم يدبرون مؤامرة للعدوان على عبد الناصر وقتله، ويذكر الأستاذ موسى صبري -وهو كمسيحي لا يمكن أن يكون ضالعًا مع الإخوان- أن كل الثقات يؤكدون أن قضية الإخوان التي أُعدم فيها سيد قطب كانت من اختراع شمس بدران، وزبانية البوليس الحربي، وأنها مؤامرة وهمية، وأن التعذيب في هذه القضية هو قمة المأساة[1].

ويقرر الأستاذ محمد حسنين هيكل أن المعتقلين في هذه القضية وصلوا إلى عدة آلاف، وأن زوار الفجر كانوا يجمعونهم بغير رحمة، وقد تعرض الكثيرون منهم للتعذيب، وكان عبد الناصر يعرف ذلك، وقد أشرت إلى ما كتبت في الأهرام آنذاك إلى زوار الفجر، وانتقدت أعمالهم، فاستاء عبد الناصر مما كتبته في هذا الشأن، واتصل بي ليذكر أنني كنت قاسيًا فيما كتبت، وأن شمس الدين بدران الذي كان يشرف على تحقيقات الإخوان المسلمين وقتها غضب وقدَّم استقالته[2].

ويتحدث الرئيس أنور السادات عما أصاب الإخوان المسلمين في هذا العام فيقول: هُيئ للسلطة الحاكمة في ذلك الوقت أن الإخوان يتآمرون ليقوموا بثورة مضادة، وقد ذهب ضحية هذا التصور الكثيرون ممن يحصون بالألوف، وصدرت ضد الكثيرين منهم أحكام، وظل الجميع في المعتقلات أو السجون إلى أن صفيتُ العملية كلها، فأغلقتُ مباشرة بعد القضاء على مراكز القوى في سنة 1971. أما المحكوم عليهم -سواء من الإخوان أو أية قضية سياسية أخرى- فقد أطلقت سراحهم مباشرة بعد معركة أكتوبر سنة 1973م[3].

ويورد سامي جوهر في كتابه "الصامتون يتكلمون" تفاصيل أوسع عن هذه الحركة الوهمية وعن التعذيب الذي ارتبط بها فيقول: في سبتمبر سنة 1965 كانت أجهزة المباحث الجنائية العسكرية التابعة للمشير عامر وعلى رأسها أحد أعوان شمس الدين بدران -وهو العقيد حسين خليل- ادعت أنها كشفت مؤامرة يدبرها الإخوان المسلمون برئاسة سيد قطب، لقلب نظام الحكم بعد القيام بعمليات تخريب وتدمير في مختلف أنحاء البلاد، وتم القبض على الآلاف وزُج بهم في السجون، وبدأت عمليات تعذيب بشع لهم ليعترفوا بكل ما يملى عليهم[4].

وتأكيدا لما نقلناه عن هيكل بأن عبد الناصر كان يعرف ما يجري من صور التعذيب، يؤكد موسى صبري أن عبد الناصر كان يعلم بصور التعذيب قبل وقوعها وبعد وقوعها، وكان يحاط علما بأن البعض مات خلال التعذيب!

وينقل موسى صبري عن صلاح الشاهد واقعة نقلها صلاح الشاهد إلى جمال عبد الناصر. وخلاصتها أن سيدة فاضلة وقع عليها تعذيب مرير، وجيء لها بوحش في صورة إنسان ليهتك عرضها... ويقول صلاح الشاهد: إن عبد الناصر لما سمع منه تلك الشكوى نظر إليه بضيق شديد، وقال له: مالكش دعوة بالحاجات دي. هو حد من أقاربك اتعذب. الحاجات دي يشوفها سامي شرف[5].

حملة إعلامية ضخمة :

لم تكتف السلطات الحاكمة باعتقال عشرات الآلاف من الإخوان، وإيداعهم في السجون المختلفة، وتعريضهم لألوان شتى من التعذيب البدني والنفسي، ومحاكمة أعداد منهم أمام محاكم عسكرية، وإصدار أحكام جائرة وقاسية على الكثيرين.. لم تكتف بذلك، بل سلطت أجهزة الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية -وكلها تملكها- على جماعة الإخوان ودعوتهم وتاريخهم، لتفتري عليهم الكذب، وتشوه صورتهم وسيرتهم، أمام الشعب، ولا سيما الأجيال الناشئة التي لا ترى ولا تسمع إلا ما تريده الحكومة، ولا يملك الإخوان أن يردوا ولا أن يكذبوا، ولا أن يدافعوا عن أنفسهم، فالحكومة هي الخصم وهي الحكم. وقد جعلت كل السلطات في يدها، وهي سلطات عسكرية مائة في المائة، من الادعاء والتحقيق والقضاء والتنفيذ.

وكنت أتابع هذه الحملة الظالمة، وأراها تتعمد الكذب على البرآء، والتزوير في الوقائع، ولا أملك إلا أن أحَوْقل وأسترجع، وأنشد قول الشاعر:

لي حيلة فيمن ينــــــمّ، * وليس في الكذاب حيلة
مـن كان يخلق مـا يقو * ل، فحيلتي فـيه قـليلة

مجلة "منبر الإسلام" :

وكان من أشد ما ساءني وآذاني: ما رأيته في مجلة "منبر الإسلام" التي كانت تصدر من وزراة الأوقاف قديمًا، وكنت أكتب فيها بتوقيع "يوسف عبد الله" وقد أمست تصدر الآن عن "المجلس الأعلى للشئون الإسلامية" الذي يديره الضابط المعروف توفيق عويضة أمينه العام، والذي كانت تعلو كلمته على كلمة وزير الأوقاف إذا تعارضتا.

أصدرت المجلة ملحقًا خاصًّا مثيرًا، عنوانه: "رأي الدين في إخوان الشياطين"! وقد كتب فيه عدد من العلماء والمشايخ، كنت أربأ ببعضهم أن ينساقوا في هذا التيار، ويُستخدَموا أدوات في أيدي الظلمة الجبارين[6]. وقد قال تعالى: "وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ" [هود: 113].

وجاء في حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: "أعاذك الله من إمارة السفهاء!" قال: وما إمارة السفهاء؟ قال: "أمراء يكونون بعدي، لا يهتدون بهديي، ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم، فأولئك ليسوا مني، ولست منهم، ولا يردون على حوضي"[7].

ولهذا كان السلف يحذرون من مجرد الدخول على الظلمة، أو السلام عليهم، أو الدعاء لهم، وقال الحسن البصري: من دعا لظالم بطول البقاء، فقد أحب أن يُعصَى الله في أرضه!.

ورأينا القرآن أشرك مع فرعون وهامان جنودهما، فقال: "إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ" [القصص: 8]. إذ لولا جنود فرعون، ما أمكنه التسلط على خلق الله، وقهرهم والتجبر عليهم.

والجندية قد تكون بالسيف، وقد تكون بالقلم، ولعل جندي القلم أشد خطرًا من جندي السيف؛ لأنه بعلمه يضلل الكثيرين عن الحق، ويزين لهم الباطل.

رأيت من كتب كتابة علمية عن الحركات السرية والباطنية في التاريخ، ولم يذكر كلمة عن الإخوان، وهو الدكتور أحمد شلبي، وقد ذكر أنهم لاموه على ذلك، بل عنفوه.

ورأيت من كتب كتابة يقارب فيها ويجامل، ويبدو أنه مضغوط عليه، وأنه تحت سياط الخوف كتب ما كتب. وكأنما يعتذر بقول الله تعالى: "إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ" [النحل: 106].

ورأيت من كتب طامعًا في رضا فرعون وملئه عنه، ولم يجعل لله ولا للآخرة نصيبًا فيما يذكر، فهو يقول السوء، ويشيع الزور، ويلبس الحق بالباطل، ابتغاء زينة الحياة الدنيا، ومتاعها الأدنى، وقد قال تعالى: "مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآَخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود: 15، 16].

كم غلى صدري، وتقطع كبدي، وأنا أقرأ لبعض هؤلاء الذين يلبسون لبوس علماء الدين، وحملة القرآن، وما لهم من الدين إلا اسمه، ولا من القرآن إلا رسمه، ولا من العلم إلا قشوره، فليسوا من الراسخين في العلم، ولكن من الذين في قلوبهم زيغ.

هؤلاء هم الذين قال فيهم الحسن البصري: والله، لقد رأيناهم صورًا ولا عقول، وأجسامًا ولا أحلام، فَراش نار، وذِبَّان[8] طمع، يغدون بدرهمين، ويروحون بدرهمين، يبيع أحدهم دينه بثمن العنز!![9].

فويل لهؤلاء مما كتبت أيديهم، وويل لهم مما يكسبون!

تنبيه على أمرين مهمين :

وأود أن أوضح هنا أمرين:

أحدهما: أن جماعة الإخوان التي يرأسها الأستاذ الهضيبي وقتها، لم تؤسس هذا التنظيم، وليست هي المسئولة عنه، وإنما يُسأل عنه العدد المحدود الذين دعوا إليه ونظموه.

ومن الظلم أن تحمَّل جماعة كبيرة كالإخوان وزر فئة محدودة منها، لم تلتزم بخطها، ولم تأخذ إذنًا من مرشدها العام.

كما أن جماعة الإخوان غير موجودة قانونًا، ومحلولة رسميًّا، فلا يجوز أن يُنسَب إليها أي عمل، والأفراد ينبغي أن يحملوا جزاء ما عملوا بصفتهم الفردية.

والثاني: أن هذه الأشياء التي ذكروها في اتهام هذا التنظيم -إن افترضنا صحتها- لم يُنفَّذ منها شيء على أرض الواقع، وقد قيل: إن بعضهم كتبها على ورقة، باعتبارها أشياء يفكر فيها، أو مقترحات قد يعرضها على غيره، أو نحو ذلك.

والإنسان إنما يُسأل -شرعًا وقانونًا- عما يعمله بالفعل، أو يشرع في عمله، ويأخذ في ذلك خطوات للتنفيذ. أما أحاديث النفس وخواطرها، وما يدور بتفكيرها، فلا يحاسب عليها الدين، ولا يحاسب عليها القانون.

وفي الحديث الصحيح: "إن الله عفا عن أمتي ما حدثت بها أنفسها، ما لم تعمل به أو تتكلم" رواه مسلم ] أ.هـ [10]

ــــــــــــ
هوامش :
[1] - وثائق 15 مايو، ص 321.
[2] - لمصر لا لعبد الناصر، ص43.
[3] - البحث عن الذات، ص179.
[4] - الصامتون يتكلمون، ص77.
[5] - وثائق 15مايو، ص 317، 318. وانظر موسوعة التاريخ الإسلامي للدكتور أحمد شلبي (9 /679-687).
[6] - من الأسماء التي ساءني أن أراها في هذه القائمة: الشيخ عبد الله المشد، والأستاذ أنور الجندي، والمعروف أنه من الإخوان. ولكن يبدو أن الضغط كان شديدًا !.
[7]- رواه أحمد واللفظ له، والبزار ورواتهما محتج بهم في الصحيح، ورواه الترمذي (2256) وقال: حسن صحيح غريب.
[8] - ذِبَّان: جمع ذبابة، وهي التي ينطقها العامة: دبّان، بقلب الذال دالاً.
[9] - ذكره أحمد في مسند النعمان بن بشير، تعليقًا على الحديث (18404)
[10] ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، (3/ 17 - 27) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2008 م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب
https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/1935753_1134381419919433_5785427146916956669_n.png?oh=2d891f10008f7d533bc09f41ff0b153e&oe=583D8BB2
ملف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 3 ] : الإعدام

علام حوكم سيد قطب ؟ :

[ الحقيقة أن سيد قطب وتنظيمه لم يحاكما من أجل "الأعمال الخطيرة" التي ارتكبها، ولكن حوكم كلاهما من أجل "الأفكار الخطيرة" التي اعتنقها أو دعا الناس إليها. ولو أنصفوا وامتلكوا الشجاعة لقالوا: إننا حاكمنا الرجل -بل حكمنا عليه بالإعدام- من أجل أفكاره لا من أجل أعماله

والعجيب أن الذي كان يحاكم أفكار سيد قطب ضابط محدود الثقافة، قليل البضاعة من العلم والفكر، وإن كان لواء في الجيش. فإن كان لا بد من محاكمة فكر سيد قطب فلتكوّن له لجنة من كبار العلماء والمفكرين، تناقشه فيما ذهب إليه

لقد أخطأ عبد الناصر ورجال أجهزته من شمس بدران ووزارة الدفاع، وأجهزة المخابرات العامة، والمخابرات العسكرية وغيرهم، حين ظنوا أن "الأفكار" تُحارب بالاعتقال والسجن والتعذيب والإعدام. إنما تحارب الفكرة بالفكرة والحجة بالحجة واللسان باللسان والقلم بالقلم ولا تحارب الفكرة بالقوة ولا الحجة بالسجن ولا اللسان بالسنان ولا القلم بالسيف

لقد حوكم سيد قطب على أخطر كتاب ألفه، وهو كتاب "معالم في الطريق"؛ فهو الذي تتركز فيه أفكاره الأساسية في التغيير الذي ينشده وإن كان أصله مأخوذا من تفسيره "في ظلال القرآن" في طبعته الثانية وفي أجزائه الأخيرة من طبعته الأولى

كان الكتاب قد طبع منه عدد محدود في طبعته الأولى التي نشرتها "مكتبة وهبة"ولكن بعد أن حُكم بإعدام سيد قطب وبعد أن كتبت له الشهادة أصبح الكتاب يطبع في العالم كله بعشرات الآلاف وصدق ما قاله عليه رحمة الله: "ستظل كلماتنا عرائس من الشمع لا روح فيها ولا حياة حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة!"

فهم في الحقيقة لم يقاوموا أفكار سيد قطب بل ساهموا مساهمة فعالة في إذاعتها ونشرها!

أما تقويم هذا الكتاب (المعالم) وما فيه من صواب أو خطأ فنرجئه إلى حديثنا عن "سيد قطب"واستشهاده رحمه الله

الحكم بالإعدام :

حوكم سيد قطب أمام "محكمة عسكرية" تتكون من ضباط كبار والأصل في المحاكم العسكرية أن تحاكم العسكريين من الضباط والجنود فيما خالفوا فيه النظام والقوانين العسكرية وهذا طبيعي ومنطقي أن يحاكم العسكريون عسكريين مثلهم وهم أولى بهم.

ولكن المشكلة تكمن حين يحاكم العسكريون المدنيين في تهم لا تتعلق بالجانب العسكري؛ فهذا ما تلجأ إليه الأنظمة الديكتاتورية تحت شعار الأحكام العرفية أو أحكام الطوارئ؛ ليحكموا على خصومهم السياسيين أو العقائديين بما لا ترضاه المحاكم المدنية

وأكثر من ذلك أن يحاكم العسكريون كبار رجال العلم والفكر والقانون، كما رأينا قائد الجناح جمال سالم يحاكم أمثال: حسن الهضيبي، وعبد القادر عودة ومحمد فرغلي

ورأينا اللواء فؤاد الدجوي يحاكم سيد قطب؛ فإن من العجب حقا أن يحاكم رجل عسكري -مهما تكن خبرته ومعرفته- رجلا في حجم سيد قطب الأديب الناقد العالم المفكر!!

وفي نهاية المحاكمة التي راقبها الكثيرون في كل مكان فوجئ الناس بالحكم على ثلاثة من المتهمين بالإعدام وعلى آخرين بأحكام متفاوتة

وقد قوبل الحكم بالإعدام على سيد قطب وصاحبيه بالدهشة والاستغراب والإنكار بل الرفض والاحتجاج من أنحاء العالم العربي والإسلامي وقامت مظاهرات وأرسلت برقيات وحدثت وساطات لدى عبد الناصر وكان الكثيرون يتوقعون أن يستجيب لها؛ فلم يفعل وسد أذنا من طين وأذنا من عجين كما يقول المثل.

لقد شنق ستة من قادة الإخوان سنة 1954م من أجل تهمة شروع في قتل عبد الناصر في ميدان المنشية وإن كنا أثبتنا بالأدلة القاطعة براءة جماعة الإخوان من هذه التهمة وقول الكثيرين: إن هذه "تمثيلية" وليست حقيقة إلى آخر ما ذكرناه في الجزء الماضي ولكن هناك في الظاهر تهمة شروع في قتل رأس النظام

أما هنا فلم يحدث قتل ولا شروع في قتل، فعلام يُعدَم هؤلاء؟ وبأي جريمة تُقطَع رقابهم؟!

وقد ذكروا هنا أمرا عجيبا ينبغي أن نسجله؛ ذلك أن شمس بدران وحسين خليل مدير المباحث الجنائية عرضا على عبد الناصر خلال محاكمة الشهيد سيد قطب الأحكام التي سيصدرها الدجوي، ومن بينها حكم الإعدام على سيد قطب واتفقوا مع عبد الناصر على تخفيف حكم الإعدام عليه إلى السجن أو العفو مع تحديد إقامته أو نحو ذلك؛ لينال عبد الناصر كسبا شعبيا يغطي كل ما قيل عن التعذيب وما سيُقال عن العقوبات التي ستفرض على الآخرين ولكنهم فوجئوا بعبد الناصر يصدق على حكم الإعدام وينفذه! [انظر : العشاء الأخير ص 150]

إن دم سيد قطب ورفيقيه سيظل لعنة على من سفكوه بغير حق، وسيظل يطاردهم حتى يثأر له القدر من الطغاة الظالمين ويستجيب لدعاء المظلومين الذي يرفعه الله فوق الغمام ويفتح له أبوب السماء ويقول الرب: وعزتي لأنصرنك ولو بعد حين

سهام الليل لا تخطي ولكن * لها أمد وللأمد انقضاء
فيمسكها إذا مـا شاء ربي * ويرسلها إذا نفذ القضاء

من المسئول عن هذه الدماء ؟ :

كان المسئول الأول عن دماء الإخوان في المرات السابقة، وعن محنتهم بصفة عامة وزارة الداخلية المصرية، وأجهزة الأمن فيها، وبخاصة "المباحث العامة" التي سُميت فيما بعد "مباحث أمن الدولة". كانت هي التي تعتقل، وهي التي تتهم وهي التي تحقق وإن شاركتها وزارة الحربية ببعض الأشياء مثل السجن الحربي بزنازينه وزبانيته وقائده المتجبر حمزة البسيوني

أما المسئول الأول عن دماء الإخوان ومحنتهم في هذه المرة؛ فهو "وزارة الحربية" ووزيرها: شمس بدران وإن شاركتها الداخلية بالمساعدة في القبض والاعتقال وغيرها

ولكن ما مدى مسئولية جمال عبد الناصر في هذه المحنة وتبعاتها؟

لقد حاول بعض الناصريين أن يقلل من مسئوليته ويخفف منها؛ لأنه في هذه الفترة من الزمن لم يكن هو الذي يحكم مصر في الحقيقة والواقع، إنما كان الحاكم الحقيقي لمصر هو المشير عبد الحكيم عامر الذي جمع السلطات كلها في يديه: العسكرية والمدنية، وأصبح لا يُبرَم أمر من الأمور إلا بعد أن يمر على عامر، وبات عبد الناصر بمثابة الملك الذي يملك ولا يحكم، وكان عامر يفعل ذلك بحكم نفوذه في القوات المسلحة، حتى قالوا: إن عبد الناصر عرض عليه مرة أن يعينه نائبا لرئيس الجمهورية ويدع الجيش والقوات المسلحة ولكنه رفض؛ ليقينه أن من يملك القوات المسلحة يملك البلد كله

وهذا الذي قاله الكثيرون؛ أكده السيد حسين الشافعي عضو مجلس قيادة الثورة في أحاديثه مع أحمد منصور في برنامج "شاهد على العصر" الذي تقدمه قناة "الجزيرة"

ومع تصديقي بهذه المقولة لا أعفي عبد الناصر من مسئوليته التاريخية عن هذه المأساة؛ فهو الذي أعلن عنها من "موسكو" وذكر في خطابه الشهير هناك قائلا: إننا سنضرب بيد من حديد وإننا لن نرحم هذه المرة. كأنه قد رحم في المرة السابقة!

وقد أكد الكثيرون من المعتقلين -الذين كانت السياط تشوي جلودهم في زنازين التعذيب- أنهم رأوا بأعينهم عبد الناصر يحضر مشاهد التعذيب مع رجاله ومن ذلك ما ذكرته الأخت المؤمنة الصابرة المحتسبة الحاجة زينب الغزالي التي ذكرت في كتابها "أيام من حياتي" ما لاقت من الأهوال التي لا تكاد تُصدق من بشاعتها وقالت: إنها رأت جمال عبد الناصر في إحدى مرات التعذيب

وهو -على كل حال- الرئيس المسئول دستوريا وقانونيا عما تفعله حكومته، وهو الذي صدق على حكم إعدام سيد قطب، وهو الذي رفض أية شفاعة فيه، وأصم أذنيه عن استغاثات العرب والمسلمين أن لا ينفذ حكم الإعدام، وأصر على أن ينفذ في الرجل الأديب العالم المفكر الداعية الكبير حكم الإعدام

فمهما يحاول محامو الناصرية أن يبرئوا الرجل عن التبعة؛ فإن الثابت بيقين أنه مسئول عنها أمام الله سبحانه، وأمام الشعب، وأمام التاريخ

على أنا سنثبت عند حديثنا عن "النكسة" أن المسئول عن كل تجاوزات عامر وانحرافاته هو عبد الناصر!

الإخوان في خارج مصر :

كان الإخوان في داخل مصر ما بين معتقل في السجن الحربي‚ أو في مزرعة طرة‚ أو في سجن القناطر‚ أو في سجن القاهرة (أرميدان) أو في سجون الأقاليم والمحافظات ، وبين معتقل في بيته ممن لم يصبه الاعتقال‚ من غير المعروفين‚ فهو في منزله أشبه بالسجين‚ لا يستطيع أن يتحرك‚ ولا أن يساعد أسرة أحد من إخوانه‚ لأن الأجهزة له بالمرصاد

وكان على الإخوان خارج مصر عبء لا بد لهم أن يحملوه‚ دفاعا عن إخوانهم‚ وتعبئة للرأي العام العربي والإسلامي والعالمي‚ ليقف معهم‚ ويؤازرهم في شدتهم

وكان على الإخوان المصريين ـ بالخصوص ـ عبء أكبر من غيرهم‚ فعليهم أن يتحركوا على الصعيد السياسي‚ وعلى الصعيد الإعلامي‚ ليعملوا شيئا لنصرة إخوانهم‚ فقد نجاهم الله من هذه المحنة التي تصهر إخوانهم في بوتقتها‚ فعليهم أن يشكروا الله على النجاة منها‚ بعملهم لمساعدتهم بكل وسيلة

ولما كانت هذه المحنة سببا في إحياء الجماعة ـ فكرا وشعورا ـ داخل مصر‚ فقد كانت سببا في إحياء الإخوان كذلك خارج مصر‚ وتحرك الإخوة هنا وهناك للمّ الشمل‚ وجمع المساعدات المالية‚ ومحاولة توصيلها لعائلات المعتقلين‚ رغم وعورة الطريق‚ وخطر المحاولة‚ ويقظة رجال المباحث‚ لأي طارق يطرق هذه البيوت المنكوبة‚ ولم ينس الإخوان ما حصل في محنة 1954 من محاكمات لما سموه (أجهزة التمويل) التي حكم على بعضهم فيها بعشر سنوات‚ وأكثر من ذلك

ومع هذا‚ لا بد من المخاطرة‚ ولا يسعنا بحال أن ندع زوجات إخواننا وأطفالهم وأبناءهم وبناتهم جياعا‚ كما تريد السلطات المصرية: أن تذل أسر الإخوان‚ ولا يذل الإنسان مثل الجوع‚ والجوع كافر‚ ومثل مد الكريم يده إلى اللئيم يسأل القوت‚ ولا يقهر الأم شيء مثل أن ترى فلذات أكبادها يتضورون من الجوع‚ وتصرخ بطونهم من الطوى‚ بين أيديها وهي لا تملك لهم شيئا!!

أي شيطان لبس الإنسان‚ فجعله يقسو على مواطنيه هذه القسوة؟ وهب أنه أذنب‚ فما ذنب أمه وأبيه وصاحبته وبنيه؟ 

ما بالنا اليوم ننكر على إسرائيل ما تفعله بأسر الفدائيين‚ حيث تهدم بيوتهم‚ وتدع أهليهم في العراء؟على حين نجد 95% من هؤلاء المعتقلين‚ ليس لهم في الثور ولا في الطحين‚ ولا في العير‚ ولا في النفير

تجاوب الإخوان مع نداء الواجب‚ ولم يتخلف عن ذلك إلا المهازيل الذين ترتعد فرائصهم فرقا من الطواغيت‚ وهم على بعد آلاف الأميال! وهؤلاء كانوا قليلا‚ أو أقل من القليل‚ أو الذين آلوا على أنفسهم: أن لا يتصلوا بالدعوة من قريب ولا من بعيد‚ والدعوة في غنى عن هؤلاء الذين ضنوا عليها بأنفسهم وأموالهم‚ ورضوا أن يعيشوا حياة الفارغين من الطموح إلى مراتب العلا في الدنيا‚ أو درجات النعيم في الأخرى‚ فأولى يخاطبوا بقول الحطئية:

دع المكارم لا ترحل لبغيتها * واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي!

على أن المهم ليس مجرد جمع الأموال‚ فالباذلون من الإخوان كثير‚ والحمد لله‚ ولكن المهم هو توصيلها إلى الأسر المحتاجة والمستحقة للعون العاجل‚ وهي محفوفة بالمخاطر‚ مليئة بالأشواك‚ على نحو ما قال الشاعر العاشق قديما:

كيف السبيل إلى سعاد‚ ودونها * قمم الجبال‚ ودونهن حتوف
والرجل حافية‚ ومالي مركب * والدرب وعر‚ والطريق مخوف

وهذه الأسر ليست مائة ولا ألفا‚ بل هي ألوف مؤلفة في القاهرة والإسكندرية وسائر محافظات مصر في الصعيد والوجه البحري‚ حتى العريش والواحات كان منها معتقلون‚ إنها في حاجة إلى شبكة كبيرة ممن لا يبالون ما يصيبهم في سبيل الله‚ فإنهم إذا ضبطوا اتهموا بأنهم على صلة بدولة أجنبية‚ يقبضون منها الأموال‚ ويوظفونها في تخريب البلاد‚ وإفساد العباد

ولم تمنع المخاطرة من الاتصال بالإخوان الذين نجوا من الاعتقال‚ الذين استطاعوا أن يوظفوا عددا من الأخوات المؤمنات الصادقات في هذا الأمر‚ فقمن بدورهن خير قيام‚ على قدر الإمكان‚ فلا شك أن هناك أسرا في مدن وقرى مختلفة من أنحاء مصر‚ لم يستطع أحد الوصول إليها‚ وظلت صابرة على البأساء والضراء‚ تشكو إلى الله الرحمن الرحيم: قسوة الإنسان على أخيه الإنسان‚ بل قسوة المصري على أخيه المصري!

إلــى اللـه نشكو‚ إننا بمواطـن * تحكّم فـي آسادهن كلاب! 
وقد صار هذا الناس ـ إلا أقلهم ـ * ذئابا على أجسادهن ثياب!

ولم تسلم أسرتنا من آثار هذه المحنة‚ فقد كان شقيق زوجتي ـ الأستاذ سامي عبد الجواد ـ أحد المعتقلين‚ الذين سيقوا إلى مزرعة طرة‚ ولقي فيها من المتاعب ما لقي‚ حتى اضطر إلى إجراء عملية جراحية‚ وهو في المعتقل‚ عانى فيها ما عانى‚ ولا زالت آثارها معه إلى اليوم ] أ.هـ [1]

تنفيذ الإعدام في سيد قطب :

[ وفي هذه الفترة تم تنفيذ الحكم الذي صدر من المحكمةالعسكرية في مصر بإعدام الأديب والداعية والمفكر الإسلامي سيد قطب. وضرب جمال عبد الناصر عرض الحائط بكل النداءات والتوسلات التي وصلت إليه من بلاد العرب والمسلمين.

وكان لهذا الحدث صداه الواسع في أنحاء العالم، وخصوصا بين العاملين في الساحة الإسلامية، والمهتمين بالشأن الإسلامي، وعلى الأخص بين الإخوان في الخارج الذين زلزهم هذا الحدث زلزالا شديدا.

وقرر الإخوة في "عمّان" تنظيم مسيرة احتجاج كبرى في يوم معين، وحرصت أن أشارك بنفسي في هذه المسيرة، فسافرت من الخليل إلى عمان لألتقي الإخوان هناك، وأساهم مع الإخوة في رفع الشعارات التي تندد بالظلم والطغيان، وتنادي بالويل للطغاة والجبارين، وبالثأر للشهيد المظلوم.

وكان من الشعارات والنداءات: إلى جنة الخلد يا شهيد الإسلام، إلى جنة الخلد يا صاحب "الظلال". 

وربما يعترض بعض إخواننا على مثل هذه الأقوال؛ فإن أحدا لا يستطيع أن يجزم بمصير أحد إلا من بشر رسول الله بأنه في الجنة، وقد أنكر الرسول الكريم على أم العلاء الأنصارية حين قالت لعثمان بن مظعون بعد موته، وقد كان من السابقين الأولين الذين أوذوا في سبيل الإسلام: أشهد عليك أبا السائب، لقد أكرمك الله! فقال: "من هذه المتألية على الله؟ وما يدريك أن الله أكرمه؟ والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل الله بي؟" وبهذا زجرها عن الجزم بمصائر البشر، ولا يدري أحد بم ختم له؟

ولكن الذين يقولون مثل هذه الأقوال لا يقولونها على سبيل الجزم واليقين، ولكن من باب التفاؤل، وتحسين الظن بالله تعالى بالمسلم المستور الحال، أو الظاهر الصلاح؛ لهذا جرت عادة الناس أن يقولوا: المرحوم فلان، والمغفور له فلان. يعنون: المرجو له الرحمة، والمرجو له المغفرة، وإن كان المتحرّون يقولون: المرحوم إن شاء الله، والمغفور له إن شاء الله! 

وبعد المشاركة في المسيرة عدت إلى الخليل لأتهيأ لخطبة الجمعة القادمة، وأذكر أنها كانت في مسجد الخليل إبراهيم الذي يسميه الخليليون "الحرم الإبراهيمي"، وقد رأينا أنه لا يجوز أن نقول "الحرم القدسي" مع ما ورد في القدس ومسجدها الأقصى من نصوص شرعية؛ فكيف يجوز أن نقول الحرم الإبراهيمي؟

! وفي مصر أرى بعض الناس يقولون عن مسجد الحسين في القاهرة وما حوله "الحرم الحسيني"، وعن مسجد السيدة زينب وما حوله "الحرم الزينبي". وهذا توسع في استخدام كلمة "الحرم"، وهي لها مدلول ديني معين ينبغي عدم التوسع فيه.
إلا أن يكون المقصود بكلمة "الحرم" المعنى اللغوي للكلمة، فيقال: حرم الشيء وحريمه: ما يحيط به ويتصل به، ولهذا غدا من الكلمات الشائعة في المحيط الجامعي أن يقال: "الحرم الجامعي"، ويقصد به الكليات الجامعية وما يتصل بها من إدارات ومراكز ومساكن وغيرها. ولكن يلاحظ أن استعمال الكلمة في هذا المجال لا يوحي بأي مدلول ديني خاص. ا

لمهم أني ألقيت خطبة بعد إعدام سيد قطب، خطبة شهيرة هيجت الأشجان، وأثارت الأحزان، وأبكت الأعين الجامدة، وأشعلت النيران الخامدة، وحركت العزائم الهامدة، ذكرت فيها مآثر الشهيد على العلم والأدب والدعوة والفكر، وكيف وقف صلبا لم تنحنِ له هامة، ولم تطأطئ له قامة، وكيف قدم عنقه ودمه فداء لفكرته وعقيدته. وفي مثل هذه الخطب التي تثير الشجون يذكر المرء ما شابهها من المآسي والنوازل. ويبكي فيها شهداء آخرين سلكوا نفس الدرب، ولقوا مثل هذا المصير.

فلا عجب أن بكينا على سيد قطب، وبكينا معه على حسن البنا، وعلى عبد القادر عودة، وعلى محمد فرغلي، وعلى يوسف طلعت، وإبراهيم الطيب وآخرين من شهداء الأمة الأبرار. وهكذا كلما سقط شهيد ذكرنا بإخوانه من الشهداء السابقين.

وقالـوا: أتبكـي كل قبر رأيته * لقبر ثوى بين اللوى والديالك؟ 
فقلت لهم: إن الأسى يبعث الأسى * دعـوني فهذا كله قبر مالك! ]أ.هـ [2]

----------
هوامش :
[1] ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، (3/ 27 - 35) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2008 م
[2] المصدر السابق ، ص 48 - 51

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب


https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/936574_1134381736586068_6127456256878421144_n.png?oh=e1ad4c8373ef92017f294c0772fce7aa&oe=58591FBF
ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 4 ] : مراحله الفكرية

[ لا يشك دارس منصف ولا راصد عدل في أن سيد قطب مسلم عظيم، وداعية كبير، وكاتب قدير، ومفكر متميز، وأنه رجل تجرد لدينه من كل شائبة، وأسلم وجهه لله وحده، وجعل صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله رب العالمين لا شريك له. ولا شك في إخلاص سيد قطب لفكرته التي آمن بها، ولا يشك في حماسه لها، وفنائه فيها، وأنه وضع رأسه على كفه، وقدم روحه رخيصة من أجل الإسلام كما يؤمن به .

ولا ريب أنه قضى سنوات عمره الأخيرة وهو في السجن يجلي الفكرة، ويشرحها بقلمه المبدع، وبيانه العذب، وأسلوبه الأخاذ. كما لا ريب أن كتبه تعطي قارئها شحنة روحية وعاطفية دافقة ودافئة ودافعة، توقظه من رقود، وتحركه من سكون؛ لما فيها من حرارة وإخلاص.

مراحل سيد قطب :

وهذه الفكرة هي التي انتهى إليها تطوره الفكري والعلمي، بعد مسيرة حافلة بالعطاء، في مجال الأدب والنقد، وفي مجال الدعوة والفكر.
ولا بد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها، حتى يعرف حقيقة موقفه الذي انتهى إليه.

مرحلة الأدب والنقد :

أول ما ظهر سيد قطب ظهر أديبا شاعرا، ثم ناقدا أدبيا.
كان شاعرا رقيقا مرهف الحس، دافق العاطفة، يحسبه الناقدون على "الاتجاه الرومانسي" في الشعر، وعده د. محمد مندور في جماعة "أبولو" ذات الاتجاهات الرومانسية المعروفة.

ومن المعروف أنه كان في أدبه النثري محسوبا على "مدرسة العقاد" وكان العقاد يمثل "المدرسة الليبرالية" والفكر الحر، ولم يكن قد ظهر توجهه الإسلامي الذي اتضح في كتاباته الأخيرة.

وكان الذي يمثل "المدرسة الإسلامية" في الأدب هو مصطفى صادق الرافعي. وكان بين الاتجاهين أو المدرستين صراع دامٍ؛ سلاحه القلم، وميدانه المجلات الأدبية كالرسالة والثقافة وغيرهما، والكتب الأدبية، وقد هاجم الرافعي العقاد في مقالات نشرت بعد ذلك في كتاب سماه "على السفود".

لم يكن سيد قطب في هذه المرحلة قد عرف بتوجه إسلامي واضح، رغم أنه خريج "دار العلوم" وقد عاصر حسن البنا، وإن لم يتعرف عليه وعلى دعوته إلا بعد استشهاده.

وقد توج هذه المرحلة من مراحل مسيرته عملان كبيران من الأعمال الأدبية الأصيلة التي لم يقلد سيد قطب فيها أحدا، بل كان فيها نسيج وحده.

أولهما: كتابه عن "أصول النقد الأدبي" وهو -باعتراف مؤرخي الأدب العربي- عمل متميز، وإن لم يأخذ حقه من الظهور، ربما كان سبب ذلك هو تحول صاحبه إلى الدعوة الإسلامية، وأمسى محسوبا على عالم الدعاة، لا على عالم الأدباء والنقاد ولا سيما أن النقد الأدبي تطور كثيرا بعد كتاب سيد قطب ونظرياته ، كما أن بعض النقاد يرى أن مزية سيد قطب وتفوقه في في التذوق الأدبي والنقد التطبيقي قد طغت على عمله النظري التأصيلي .
.
وثانيهما: عمله الأصيل المتميز في خدمة القرآن، وإعجازه البياني، بمنهج لم يسبق له نظير، وهذا العمل يتمثل في كتابيه الرائعين:

أ- التصوير الفني في القرآن.
ب- مشاهد القيامة في القرآن.

والكتاب الأول يجسد النظرية، والثاني بمثابة التطبيق لها.

وهذان الكتابان يمثلان تمهيدا أو همزة وصل للمرحلة القادمة؛ مرحلة الدعوة إلى الإسلام.

مرحلة الدعوة الإسلامية :

والمرحلة الثانية في حياة سيد قطب هي مرحلة الدعوة إلى الإسلام؛ بوصفه عقيدة ونظاما للحياة يقيم العدالة الاجتماعية في الأرض، ويرفع التظالم بين الناس، ويرعى حقوق الفقراء والمستضعفين بوسيلتين أساسيتين، هما: التشريع القانوني، والتوجيه الأخلاقي.

وكان هذا التطور له مقدمات وعلامات، منها: اهتمامه بقضية المظالم الاجتماعية في مصر، وسيطرة الإقطاع المتجبر في الأرياف، والرأسمالية الاحتكارية المستغلة في المدن على الاقتصاد المصري، وضياع الفلاحين والعمال -وهم جل المصريين- بين تجبر أولئك وتسلط هؤلاء.

وقد بدا هذا التوجه واضحا في مشاركته في مجلة "الفكر الجديد" التي كانت تعنى بهذا الجانب الاجتماعي، والتي لم تدم طويلا، وقد أشرنا إلى ذلك في الجزء الثاني من هذه المسيرة.

ولعل كتابيه السالفين في خدمة البيان القرآني قد مهدا له الطريق؛ ليطل على "المضامين" الإصلاحية العظيمة التي اشتمل عليها القرآن، وإن كانت دراسته أساسا تهتم بالشكل والأسلوب والجانب البلاغي والبياني .

ظهر أول كتاب له في هذه المرحلة، وهو: كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي عرض الموضوع بطريقة منهجية، بين فيه أسس العدالة الاجتماعية في الإسلام، وإن كان الشيخ الغزالي رحمه الله له فضل السبق بتناول هذه الموضوعات في مقالاته التي كان ينشرها في مجلة "الإخوان المسلمون"، ثم جمعها في كتبه: "الإسلام والأوضاع الاقتصادية"، "الإسلام والمناهج الاشتراكية"، "الإسلام المفترى عليه بين الشيوعيين والرأسماليين"، ولكن هذه الكتب لم تكتب بالطريقة المنهجية التي كتب بها سيد قطب؛ لأنها في الأصل مقالات، تجلي جوانب مهمة في هذا الجانب الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام.

ولا شك أن الشهيد سيد قطب قد استفاد من كتب الغزالي، وإن لم ينقل منها بالحرف، وإنما اقتبس كثيرا من الأفكار. ولهذا جعل من مصادره في الطبعة الأولى للكتاب: "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" و"الإسلام والمناهج الاشتراكية". ثم حُذفا بعد ذلك مع قائمة المصادر كلها.

استقبلت الأوساط الإسلامية كتاب "العدالة" بالحفاوة والترحيب؛ باعتباره أول مولود لسيد قطب في عهده الجديد، واستبشروا بأن التيار الإسلامي قد كسب كاتبا له وزنه الأدبي، وقلمه البليغ؛ فهو يعتبر إضافة لها قيمتها إلى هذا التيار، تعوض الخسارة التي لحقت به بانضمام الشيخ خالد محمد خالد إلى التيار العلماني؛ فكأن عدالة الأقدار عوضت عن خالد بسيد، وعن كتاب "من هنا نبدأ" بكتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام".

وغمرت الإخوان خاصة فرحة بهذا القلم الجديد الذي انضم إلى القافلة الإسلامية، وكأنه كان مكافأة لهم بعد خروجهم من معتقلات الطور و"هايكستب" وسقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي قاتلة حسن البنا، وصاحب التاريخ الأسود، والعسكري الأسود!

ولم يكتفِ سيد قطب بهذا الكتاب بل أتبعه بكتب أخرى: "معركة الإسلام والرأسمالية" و"السلام العالمي والإسلام"، ومقالات عدة كتبها في مجلة "الدعوة" التي يصدرها الإخوان، ومجلة "الاشتراكية" التي يصدرها حزب العمل، ومجلة "اللواء" التي يصدرها الحزب الوطني، ولكن هذه المقالات كانت كلها "تحت راية الإسلام". وهي التي جمعت بعد ذلك تحت عنوان "دراسات إسلامية".

ومنها مقال عن "حسن البنا وعبقرية البناء"، نقلت خلاصته في كتابي "الإخوان المسلمون: سبعون عاما في الدعوة والتربية والجهاد".
وفي هذه الفترة بدأ يكتب تفسيره الشهير الذي لم يسمه تفسيرا، ولكنه رضي أن يسميه "في ظلال القرآن" وصدق في تسميته، فلم يكن في طبعته الأولى يحمل الطابع الرسمي للتفسير، ولكنها وقفات عقل متدبر، وقلب حي، ووجدان مرهف أمام القرآن، يلتمس عظاته، ويجلي إعجازه، ويبين حقائقه، وينبه على مقاصده، وإن تغير ذلك في الأجزاء الأخيرة، وفي الطبعة الثانية للأجزاء الأولى، فقد بدأ يهتم بالجانب التفسيري، حتى أحسب أنه أفرغ خلاصة تفسير ابن كثير في "ظلاله".

وكان سيد قطب ينشر ما يكتبه من "ظلال القرآن" في مجلة "المسلمون" التي كان الداعية سعيد رمضان يصدرها ، وقد علق عليه منوها ومبينا – في أحد أعدادها – العالم الأزهري الكبير . د. محمد يوسف موسى . 

وفي هذه الفترة بدأ سيد قطب يقترب من الإخوان، ويرى بعينيه نشاطهم والتزامهم، وما بينهم من رباط وثيق، وإخاء عميق، وما يتميز به كثير منهم من وعي دقيق، وشعور رقيق، وكان المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي يصطحبه معه في رحلاته، ليرى بعينيه، ويسمع بأذنيه، ويحكم بعد ذلك بعقله، ويختار لنفسه.

وقد اختار بملء إرادته الانضمام إلى دعوة الإخوان، ولا سيما بعد أن خاب ظنه في رجال الثورة، الذين علق عليهم في أول الأمر آمالا وأحلاما، فتبخرت وضاعت، كما تبخرت أحلام الشاعر العاشق الذي قال:

كأني من ليلى الغداة كقابض * على الماء خانته فروج الأصابع

وأحيل القارئ إلى ما ذكرته في الجزء السابق عن سيد قطب وانضمامه إلى الإخوان، وتسلمه رئاسة قسم نشر الدعوة في الجماعة، ورئاسة تحرير مجلتهم، إلى أن دخل معهم في محاكمات محكمة الشعب وحكم عليه بعشر سنوات.

مرحلة الثورة الإسلامية :

هذه مرحلة جديدة تطور إليها فكر سيد قطب، يمكن أن نسميها "مرحلة الثورة الإسلامية"، الثورة على كل "الحكومات الإسلامية"، أو التي تدعي أنها إسلامية، والثورة على كل "المجتمعات الإسلامية" أو التي تدعي أنها إسلامية، فالحقيقة في نظر سيد قطب أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية.

تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله، والذي ينضح بتكفير المجتمع، وتكفير الناس عامة؛ لأنهم "أسقطوا حاكمية الله تعالى" ورضوا بغيره حكما، واحتكموا إلى أنظمة بشرية، وقوانين وضعية، وقيم أرضية، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية، ومن خارج مجتمعات الإسلام.. فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام؟!

بل الواقع عنده أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة، إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وهم لم يفهموا معنى هذه الشهادة، لم يفهموا أن "لا إله إلا الله" منهج حياة للمسلم، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة ولم يفهموا أن "محمدا رسول الله" تعني الالتزام والتسليم للمنهج الذي جاء به .

أقول: تكون هذا الفكر الثوري الرافض، داخل السجن، وخصوصا بعد أن أعلنت مصر وزعيمها عبدا لناصر، عن ضرورة التحول الاشتراكي، وحتمية الحل الاشتراكي، وصدر "الميثاق" الذي سماه بعضهم "قرآن الثورة"! وبعد الاقتراب المصري السوفيتي، ومصالحة الشيوعيين، ووثوبهم على أجهزة الإعلام والثقافة والأدب والفكر، ومحاولتهم تغيير وجه مصر الإسلامي التاريخي.

هنالك رأى سيد قطب أن الكفر قد كشف اللثام عن نفسه، وأنه لم يعد في حاجة إلى أن يخفيه بأغطية وشعارات لإسكات الجماهير، وتضليل العوام.

هنالك رأى أن يخوض المعركة وحده، راكبا أو راجلا، حاملا سيفه "ولا سيف له غير القلم" لقتال خصومه، وما أكثرهم. سيقاتل الملاحدة الجاحدين، ويقاتل المشركين الوثنيين، ويقاتل أهل الكتاب من اليهود والنصارى، ويقاتل المسلمين أيضا، الذين اغتالتهم الجاهلية، فعاشوا مسلمين بلا إسلام!

وأنا برغم إعجابي بذكاء سيد قطب ونبوغه وتفوقه، وبرغم حبي وتقديري الكبيرين له، وبرغم إيماني بإخلاصه وتجرده فيما وصل إليه من فكر، نتيجة اجتهاد وإعمال فكر -أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة، التي خالف فيها سيد قطب الجديد سيد قطب القديم.. وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض سيد قطب الداعية المسالم، أو سيد قطب صاحب "المعالم" سيد قطب صاحب "العدالة" ، كما خالف فيها كل – أو جل – دعاة الحركة الإسلامية قبله ، وعلى رأسهم حسن البنا .
.
ولقد ناقشت المفكر الشهيد في بعض كتبي في بعض أفكاره الأساسية، وإن لامني بعض الإخوة على ذلك، ولكني في الواقع، كتبت ما كتبت وناقشت ما ناقشت، من باب النصيحة في الدين، والإعذار إلى الله، وبيان ما أعتقد أنه الحق، وإلا كنت ممن كتم العلم، أو جامل في الحق، أو داهن في الدين، أو آثر رضا الأشخاص على رضا الله تبارك وتعالى.

ونحن نؤمن بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويرد عليه، وأن ليس في العلم كبير، وأن خطأ العالم لا ينقص من قدره، إذا توافرت النية الصالحة، والاجتهاد من أهله، وأن المجتهد المخطئ معذور، بل مأجور أجرا واحدا، كما في الحديث الشريف، سواء كان خطؤه في المسائل العلمية أو العملية، الأصولية أم الفروعية، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم وغيرهما.

وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب، هو ركونه إلى فكرة "التكفير" والتوسع فيه[1] ، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من "الظلال" ومما أفرغه في كتابه "معالم في الطريق" أن المجتمعات كلها قد أصبحت "جاهلية". وهو لا يقصد بـ "الجاهلية" جاهلية العمل والسلوك فقط، بل "جاهلية العقيدة" إنها الشرك والكفر بالله، حيث لم ترضَ بحاكميته تعالى، وأشركت معه آلهة أخرى، استوردت من عندهم الأنظمة والقوانين، والقيم والموازين، والأفكار والمفاهيم، واستبدلوا بها شريعة الله، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وعلى هذا، ليس الناس في حاجة إلى أن نعرض عليهم نظام الإسلام الاجتماعي، أو الاقتصادي، أو السياسي، أو القانوني، ونحو ذلك؛ لأن هذه الأنظمة إنما ينتفع بها المؤمنون بها، وبأنها من عند الله. أما من لا يؤمن بها، فيجب أن نعرض عليه "العقيدة أولا" حتى يؤمن بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد رسولا، وبالشريعة حاكمة. 
وهذا ما أشار إليه في كتابه "المعالم" وفصله في كتاب "الإسلام ومشكلات الحضارة". وشبه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد الرسالة، وأن الرسول لم يعرض عليه النظام والتشريع، بل عرض عليه العقيدة والتوحيد.

كما رأى عليه رحمة الله أن لا معنى لما يحاوله المحاولون من علماء العصر لما سموه "تطوير" الفقه الإسلامي أو "تجديده" أو "إحياء الاجتهاد" فيه؛ إذ لا فائدة من ذلك كله ما دام المجتمع المسلم غائبا، يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولا، ثم نجتهد له في حل مشكلاته في ضوء واقعنا الإسلامي.

وقد ناقشت أفكاره عن "الاجتهاد"[2] وعدم حاجتنا إليه قبل أن يقوم المجتمع الإسلامي، في كتابي "الاجتهاد في الشريعة الإسلامية" وبينت بالأدلة خطأ فكرته هذه.

وكما ناقشت الشهيد سيد قطب في رأيه حول قضية "الاجتهاد" ناقشته في رأيه في "الجهاد"[3] وقد تبنى أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي، مخالفا اتجاه كبار الفقهاء والدعاة المعاصرين، داعيا إلى أن على المسلمين أن يعدوا أنفسهم لقتال العالم كله، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون!

وحجته في ذلك آيات سورة التوبة، وما سماه بعضهم "آية السيف" ولم يبال بمخالفة آيات كثيرة تدعو إلى السلم، وقصر القتال على من يقاتلنا، وكف أيدينا عمن اعتزلنا ولم يقاتلنا، ومد يده لمسالمتنا، ودعوتنا إلى البر والقسط مع المخالفين لنا إذا سالمونا، فلم يقاتلونا في الدين، ولم يخرجونا من ديارنا، ولم يظاهروا على إخراجنا. 

هذا ما تدل عليه الآيات الكثيرة من كتاب الله مثل قوله تعالى: "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ* وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ" [البقرة: 191،190]. 
"فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً" [النساء: 90].

" فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا" [النساء: 91].

" وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ" [الأنفال: 61]. 

" لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" [الممتحنة: 8].

والأستاذ سيد رحمه الله يتخلص من هذه الآيات وأمثالها بكلمة في غاية السهولة أن هذه كان معمولا بها في مرحلة، ثم توقف العمل بها، والعبرة بالموقف الأخير، وهو ما يعبر عنه الأقدمون بالنسخ، وقولهم في هذه الآيات: نسختها آية السيف.

ولا أدري كيف هان على سيد قطب -وهو رجل القرآن الذي عاش في ظلاله سنين عددا يتأمله ويتدبره ويفسره- أن يعطل هذه الآيات الكريمة كلها، وأكثر منها في القرآن، بآية زعموها آية السيف؟ وما معنى بقائها في القرآن إذا بقي لفظها وألغي معناها، وبطل مفعولها وحكمها؟!

ويقول الشهيد رحمه الله: إننا لا نفرض على الناس عقيدتنا، إذ لا إكراه في الدين، وإنما نفرض عليهم نظامنا وشريعتنا، ليعيشوا في ظله، وينعموا بعدله.

ولكن بماذا نجيب الناس إذا قالوا لنا: إننا أحرار في اختيار النظام الذي نرضاه لأنفسنا، فلماذا تفرضون علينا نظامكم بالقوة؟ إن كل شيء يجرعه الإنسان تجريعا رغم أنفه يكرهه وينفر منه، ولو كان هو السكر المذاب، أو العسل المصفى!.

وما الحكم إذا كنا نحن -اليهود أو النصارى أو الوثنيين- أصحاب القوة والمنعة، وأنتم الضعفاء في العدة أو الأقلون في العدد؟ هل تقبلون أن نفرض عليكم نظامنا ومنهج حياتنا؟ كما هو شأن أمريكا اليوم، وتطلعاتها للهيمنة على العالم؟.

ومما ننكره على الأستاذ سيد رحمه الله أنه يتهم معارضيه من علماء العصر بأمرين:

الأول: السذاجة والغفلة والبله، ونحو ذلك مما يتصل بالقصور في الجانب العقلي والمعرفي.

والثاني: الوهن والضعف النفسي، والهزيمة النفسية أمام ضغط الواقع الغربي المعاصر، وتأثير الاستشراق الماكر مما يتعلق بالجانب النفسي والخلقي.

والذين يتهمهم بذلك هم أعلام الأمة في العلم والفقه والدعوة والفكر، ابتداء من الشيخ محمد عبده، مرورا بالشيخ رشيد رضا، والشيخ جمال الدين القاسمي، والشيخ محمد مصطفى المراغي، والمشايخ: محمود شلتوت، ومحمد عبد الله دراز، وأحمد إبراهيم، وعبد الوهاب خلاف، وعلي الخفيف، ومحمد أبو زهرة، ومحمد يوسف موسى، ومحمد المدني، ومحمد مصطفى شلبي، ومحمد البهي، وحسن البنا، ومصطفى السباعي، ومصطفى الزرقا، ومحمد المبارك، وعلي الطنطاوي، ومعروف الدواليبي، والبهي الخولي، ومحمد الغزالي، وسيد سابق، وعلال الفاسي، وعبد الله بن زيد المحمود، ومحمد فتحي عثمان، وغيرهم من شيوخ العلم الديني.

هذا فضلا عن الكتاب والمفكرين "المدنيين" الذين لا يحسبون على العلوم الشرعية، من أمثال: د. محمد حسين هيكل، وعباس العقاد، ومحمد فريد وجدي، وأحمد أمين، ومحمود شيت خطاب، وعبد الرحمن عزام، وجمال الدين محفوظ، ومحمد فرج، وغيرهم وغيرهم في بلاد العرب والمسلمين.

كما أن من المآخذ التي أنكرت على سيد قطب : قسوته على التاريخ الإسلامي[4] ، ورؤيته له من منظار أسود ، وحملته الشديدة على بني أمية وفيهم سيدنا عثمان ، وإن كان هذا التوجه قديما عنده منذ كَتَبَ "العدالة الاجتماعية" .

على أية حال، كانت هذه هي الأفكار المحورية في هذه المرحلة من حياة سيد قطب، وفيها عدل من أفكاره واتجاهه تعديلا جذريا، وأصبح ما كتبه قديما في "العدالة الاجتماعية" وغيرها، يمثل مرحلة من حياته، ولا يمثل الخط الأخير الذي يتبناه ويدعو إليه، ويدافع عنه.

وقد حدثني الأخ د. محمد المهدي البدري أن أحد الإخوة المقربين من سيد قطب -وكان معه معتقلا في محنة 1965م- أخبره أن الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله، قال له: إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة: المعالم، والأجزاء الأخيرة من الظلال، والطبعة الثانية من الأجزاء الأولى، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته، والإسلام ومشكلات الحضارة، ونحوها مما صدر له وهو في السجن، أما كتبه القديمة فهو لا يتبناها، فهي تمثل تاريخا لا أكثر.

فقال له هذا الأخ من تلاميذه: إذن أنت كالشافعي لك مذهبان: قديم وجديد، والذي تتمسك به هو الجديد لا القديم من مذهبك.

قال سيد رحمه الله: نعم، غيرت كما غير الشافعي رضي الله عنه. ولكن الشافعي غير في الفروع، وأنا غيرت في الأصول!.

فالرجل يعرف مدى التغيير الذي حدث في فكره. فهو تغيير أصولي أو "إستراتيجي" كما يقولون اليوم.

وهو على كل حال مخلص في توجهه، مأجور في اجتهاده، أصاب أم أخطأ، ما دام الإسلام مرجعه، والإسلام منطلقه، والإسلام هدفه. وأشهد أن الرجل في المرحلة الأخيرة من حياته، كان كله للإسلام، عاش للإسلام، ومات في سبيل الإسلام! فرضي الله عنه وأرضاه، وجعل الفردوس مثواه، وغفر له ما نحسب أنه أخطأ فيه، وأجره عليه أجر المجتهدين الصادقين. وغفر لنا معه أجمعين " رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ" (الحشر:10) ] أ.هـ [5]

----------
هوامش :
[1] المحرر : سيأتي الحديث عن ذلك في حلقتين منفصلتين من هذا الملف
[2] المحرر : سيأتي الحديث عن ذلك في ثلاث حلقات منفصلة من هذا الملف
[3] المحرر : سيأتي الحديث عن ذلك في حلقة منفصلة من هذا الملف
[4] المحرر : سيأتي الحديث عن ذلك في حلقة منفصلة من هذا الملف
[5] ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، (3/ 51 - 62) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2008 م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب
https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/64403_1134382086586033_5201552897786053681_n.png?oh=5b61b9c2cf08bba40cc03222e920b219&oe=583E1961
ملف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 5 ] : نقطة الضعف

• تحامل على سيد قطب في فكرة الحاكمية :

[ لقد اتهم بعض الكاتبين سيد قطب بأنه تبنى فكرة (الحاكمية) التي أخذها عن المودودي، وجعلها من صلب عقيدة التوحيد، ورتب عليها أحكاما خطيرة، منها: أن الدولة التي تقوم على أساسها: أشبه ما تكون بالدولة الدينية، التي تقوم على الحكم بالحق الإلهي. وهذا تحامل ظالم على الرجل.

والحق أن فكرة الحاكمية أساء فهمها الكثيرون، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها. وأود أن أنبه هنا على جملة ملاحظات حول هذه القضية:

1ـ الملاحظة الأولى: أن الحاكمية التي ركز عليها سيد قطب والمودودي، هي: الحاكمية بالمعنى التشريعي، ومفهومها: أن الله سبحانه هو المشرِّع لخلقه، وهو الذي يأمرهم وينهاهم، ويحل لهم ويحرم عليهم، وهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب، بل هو أمر مقرر عند المسلمين جمعيا. ولهذا حين قال الخوارج لعليّ: لا حكم إلا لله: لم يعترض علي رضي الله عنه على المبدأ، وإنما اعترض على الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة. فقال ردا عليهم: "كلمة حق يراد بها باطل".

وقد بحث في هذه القضية علماء (أصول الفقه) في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي، والحاكم، والمحكوم به، والمحكوم عليه.

فها نحن نجد إماما مثل أبي حامد الغزالي يقول في مقدمات كتابه الشهير (المستصفى من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم، وهو عبارة عن خطاب الشرع، ولا حكم قبل ورود الشرع، وله تعلق بالحاكم، وهو الشارع، وبالمحكوم عليه، وهو المكلف، وبالمحكوم فيه، وهو فعل المكلف...

ثم يقول: "وفي البحث عن الحاكم يتبين: أن "لا حُكم إلا لله" وأن لا حكم للرسول، ولا للسيد على العبد، ولا لمخلوق على مخلوق، بل كل ذلك حكم الله تعالى ووضعه، لا حكم لغيره".[1]

ثم يعود إلى الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجه إلى المكلفين، فيقول: "أما استحقاق نفوذ الحكم، فليس إلا لمن له الخلق والأمر، فإنما النافذ حكم المالك على مملوكه، ولا مالك إلا الخالق، فلا حكم ولا أمر إلا له، أما النبي صلى الله عليه وسلم، والسلطان والسيد والأب والزوج، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم، بل بإيجاب من الله تعالى طاعتهم، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب على غيره شيئا كان للموجَب عليه أن يقلب عليه الإيجاب، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر، فإذن الواجب طاعة الله تعالى، وطاعة من أوجب الله تعالى طاعته".[2]

وبهذا نعلم أن فكرة (الحاكمية) ليست من اختراع سيد قطب ولا المودودي،بل هي فكرة إسلامية أصيلة، قررها علماء الأصول، واتفق عليه أهل السنة والمعتزلة جميعا.

2ـ الملاحظة الثانية: أن (الحاكمية) التي قال بها المودودي وقطب، وجعلاها لله وحده، لا تعني أن الله تعالى هو الذي يولي الخلفاء والأمراء، يحكمون باسمه، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب، أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلى الأمة، هي التي تختار حكامها، وهي التي تحاسبهم وتراقبهم، بل تعتزلهم. والتفريق بين الأمرين مهم، والخلط بينهما موهم ومضلل، كما أشار إلى ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد بحق في أحد بحوثه.

فليس معنى الحاكمية الدعوة إلى دولة ثيوقراطية، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله.

وحسبي هنا أن أذكر قول سيد قطب في (معالمه):

"ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم ـ هم رجال الدين ـ كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يُعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة، وأن يكون مرد الأمر إلى الله وفق ما قرره من شريعة مبينة".[3]

3ـ الملاحظة الثالثة: أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده، وليست لأحد من خلقه، والتي نادى بها المودودي وقطب، هي: الحاكمية (العليا) و(المطلقة) التي لا يحدها ولا يقيدها شيء، فهي من دلائل وحدانية الألوهية. بل من مقومات التوحيد، كما بين القرآن في قوله تعالى: (أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا) الأنعام: 114.

وهذه الحاكمية ـ بهذا المعنى ـ لا تنفي أن يكون للبشر قَدْر من التشريع أذن به الله لهم. إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله، وذلك مثل التشريع الديني المحض، كالتشريع في أمر العبادات، والتشريع الذي يحل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله، ويسقط ما فرض الله. أما التشريع فيما لا نص فيه، أو في المصالح المرسلة، وفيما للاجتهاد فيه نصيب، فهذا من حق المسلمين، ولهذا كانت نصوص الدين في غالب الأمر كلية إجمالية لا تفصيلية، ليتاح للناس أن يشرعوا لأنفسهم، ويملأوا الفراغ التشريعي بما يناسبهم.[4]

• نقطة الضعف في المشروع القطبي :

نقطة الضعف الأساسية في المشروع الفكري والدعوي لسيد قطب ـ وهو مشروع عملاق بلا ريب ـ أنه كان شديد الإعجاب بعلامة الهند الكبرى: الأستاذ أبي الأعلى المودودي، وأنه اقتبس منه ـ تقريبا ـ جميع الأفكار التي كانت موضع الانتقاد في مشروع المودودي، مثل: الحاكمية والجاهلية، والقسوة على التاريخ الإسلامي.

بل الواقع: أنه رتب على هذه ا لأفكار من النتائج والآثار ما لم يرتبه المودودي نفسه، ساعده على ذلك قلمه البليغ، وأدبه الرفيع، وبيانه الحيّ الدافق.

فقد تحدث المودودي عن قضية (الحاكمية) الإلهية لهذا الكون، الذي هو مملكة الله وحده، وهو سبحانه ملكها كما أنه مالكها. فله وحده التصرف في الحكم فيها، فهو الذي يأمر وينهى كما يشاء، ويحلل ويحرم كما يريد، ويشرع للناس ما يشاء دون منازع، ولا يسأل عما يفعل: وهو ما نطقت به آيات القرآن الصريحة، كما ذكرنا من قبل، مثل: (إن الحكم إلا لله) (أفغير الله أبتغي حكما).

وهذه قضية مسلّمة كما نقلنا من قبل عن علماء أصول الفقه، ولكن المشكلة تقع في الإيحاءات التي تركتها هذه المسألة في الأنفس والعقول، حتى فهم بعض الناس مما قيل في شرحها وتفسيرها: أن لا دور للبشر في التشريع والتقنين، وإن كان تفصيليا، أو مصلحيا، أو إداريا، أو إجرائيا.

ولقد وقف كثير من الدعاة والمفكرين موقف النقد لمقولات (الفكر القطبي) التي انفرد بها، واقتبسها من المودودي، والتي انتشرت في (الظلال) وتجسدت في (المعالم) ومن هؤلاء من لا يمكن أن يتهم بأنه يعمل لحساب سلطة أو جهة غير إسلامية. أذكر من هؤلاء: المفكر المسلم المعروف د. محمد عمارة، الذي نقد المودودي في شدته القاسية، أو قسوته الشديدة على التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، في عبارات صدرت عنه، يقفّ شعر الرأس عند قراءتها. والله يغفر له، ويأجره على اجتهاده من فضله أجرا واحدا. ثم قال د. عمارة:

(ومن هذا الغلو المودودي ـ غير المبرر ـ انطلق الشهيد سيد قطب

(1324ـ 1386هـ/1906ـ1966م) في لحظات المحنة والتوتر، التي كتب فيها (معالم في الطريق) فقال: (إنه يدخل في إطار المجتمع الجاهلي، تلك المجتمعات التي تزعهم لنفسها أنها (مسلمة).. وهذه المجتمعات تدخل في هذا الإطار لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي ـ وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله ـ تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذا الحاكمية: نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها تقريبا. إن موقف الإسلام من هذه المجتمعات كلها يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات).

فإسلام هذه المجتمعات ـ عند سيد قطب ـ هو مجرد (زعم) لأنها ـ وإن لم تعبد غير الله ـ قد دانت في كل مناحي حياتها لحاكمية غير الحاكمية الإلهية ـ في النظم والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد، وكل مقومات حياتهتا تقريبا!!

بل تجاوز سيد قطب مجازفة المودودي، عندما لم يكتف بالحكم بجاهلية (المجتمعات الإسلامية) و(دولها) و(تاريخها) و(ثقافتها) و(حضارتها).. وإنما ذهب فأعلن (انقطاع الأمة الإسلامية عن الوجود منذ قرون)!.. وأن المهمة التي يدعو إليها، هي إيجاد الأمة والجماعة المسلمة من جديد!.

ذهب سيد قطب ـ في المجازفة ـ إلى هذا المدى، فكتب يقول:

(إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة.. فالأمة المسلمة ليست (أرضا) كان يعيش فيها الإسلام، وليست (قوما) كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي.. إنما (الأمة المسلمة) جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي.. هذه الأمة ـ بهذه المواصفات ـ قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا.. ولذلك، فالمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسالة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحا.. إن الناس ليسوا مسلمين ـ كما يدعون ـ وهم يحيون حياة الجاهلية.. ليس هذا إسلاما، وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد.

هكذا حكم سيد قطب ـ يرحمه الله ـ على (الأمة) ـ وليس فقط على (الدول والمجتمعات والحضارة) ـ بالكفر، والشرك، والجاهلية.. ونفى عن (الأمة) الإيمان، والتوحيد، والإسلام.. (فالناس) ـ نَعَم (الناس) ـ عنده ليسوا مسلمين كما يدعون!.. والمطلوب من الدعوة التي حدد منهاجها في (معالم في الطريق) هو رد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، لنجعل منهم مسلمين من جديد!

ولقد مضى ليؤكد هذا الحكم الخطير على (الأمة) فقال:

(ينبغي أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة، حتى لو كانوا يدعون أنهم مسلمون، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون!.. فإذا دخل في هذا الدين.. عصبة من الناس.. فهذه العصبة هي التي يطلق عليها اسم (المجتمع المسلم)!

قال د. محمد عمارة:

وهذا المستوى من المجازفة في الغلو، غير مسبوق في تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة على الإطلاق! ا.هـ.

وأقول للدكتور عمارة: إن فكرة التكفير لمسلمي اليوم، لم ينفرد بها كتاب (المعالم) بل أصلها في (الظلال) وفي كتب أخرى، أهمها (العدالة) كما سنذكر ذلك في الملحق إن شاء الله] أ.هـ [5]

ــــــــ
هوامش :
[1] المستصفى: (1/8) طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبعة بولاق.
[2]المستصفى: (1/83) طبع دار صادر ببيروت، مصورة عن طبة بولاق. وفي فواتح الرحموت: مسألة: لا حكم إلا من الله تعالى، بإجماع الأمة لا كما في كتب بعض المشايخ، إن هذا عندنا، وعند المعتزلة الحاكم العقل، فإن هذا مما لا يجترئ عليه أحد ممن يدعي الإسلام، بل إنما يقولون: إن العقل معرِّف لبعض الأحكام الإلهية، سواء ورد به الشرع أم لا، وهذا مأثور عن أكابر مشايخنا أيضا (يعني الماتريدية) (1/25) مع المستصفى.
[3] معالم في الطريق .
[4] انظر: كتابنا (بينات الحل الإسلامي) ص163-167.
[5] ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، (3/ 63 - 69) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2008 م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب


https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/1891084_1134382839919291_6158336946704090786_n.png?oh=eb3743739db60b296dead4336f249fce&oe=583EE836
ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 6 ] : في التكفير (1 من 2)

[ حينما نشرت هذه المذكرات في شهر رمضان الماضي (1424هـ) في صحيفة الوطن القطرية، ونشرتها جريدة (آفاق عربية) في القاهرة، وقرأها الناس على شبكة (الإنترنت)؛ وكان فيها: وقفة[1] مع الشهيد سيد قطب، وفيها تقويم ونقد لبعض أفكاره الأساسية التي انتهى إليها في المرحلة الأخيرة من مسيرته الفكرية، وهي أفكار انفرد بها في ساحة الدعوة، ويخالفه فيها جمهرة العلماء والدعاة الإسلاميين، في مصر وفي غيرها من العالم العربي، والعالم الإسلامي.

ومن أبرز هذه الأفكار، وأشدها خطرا، وأبعدها أثرا: فكرة (تكفير المسلمين الموجودين في العالم اليوم) إلا فئة قليلة جدا منهم. أما مئات الملايين في العالم الإسلامي ـ أو العالم الذي كان إسلاميا حسب تعبيره في بعض المواطن ـ الذين يظنون أنفسهم (مسلمين) أو يحبون أن يكونوا (مسلمين). فهم ليسوا من الإسلام في شيء، وإن كانوا يشهدون أن (لا إله إلا الله) لأنهم يفهمونها على غير مدلولها الحقيقي الذي لا معنى لها ـ في نظره ـ غيره، وهو الذي يتضمن معنى (الحاكمية). بل لا يغني عنهم أن يكونوا من المصلّين والصائمين والمزكين وحجاج بيت الله الحرام!

وهو هنا لا يتحدث عن الحكام وحواشيهم، كما يزعم بعض الناس، بل يتحدث عن (مئات الملايين) من المسلمين، أو ممن يظنون أنفسهم مسلمين، والحكام ومن حولهم إنما هم ألوف من الناس لا ملايين ولا عشرات الملايين.

هذه الفكرة الخطيرة التي فتحت أبواب التكفير والعنف واستباحة الدماء والأموال من المسلمين، وقامت عليها ـ في أوطاننا الإسلامية ـ جماعات تقاتل قومها، وتحارب أهل وطنها، هي الجديرة بأن يقف العلماء والدعاء في وجهها، ويتصدوا لبيان ما فيها من انحراف عن الأحكام الشرعية المقررة. ويبينوا بطلانها بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مسترشدين بأقوال الأئمة والراسخين من علماء السلف والخلف.

ولذلك وقف جمهور علماء الأمة، بل كل الأمة ـ إلا عالما أو عالمين ـ ضد هذا التوجه، أذكر من هؤلاء: الأستاذ حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ سيد سابق، و د.عبد العزيز كامل، و د. محمد فتحي عثمان، وأ. فريد عبد الخالق، و د.محمد عمارة، ود. محمد سليم العوا، ود. أحمد العسال، ود. حسن الشافعي، ود. حسن الترابي، ود.عصام البشير، ود. أحمد علي الإمام، والشيخ أبا الحسن الندوي، ود. مصطفى السباعي، والشيخ مصطفى الزرقا، ود. وهبة الزحيلي، ود. البوطي، وعامة علماء الأزهر، وديوبند، والزيتونة والقرويين، وسائر الجامعات والكليات والمدارس الإسلامية.

وقد اجتهدت أن أقاوم خطورة هذه الأفكار بهدوء وحكمة، وأن أحمي عقائد الشباب المسلم المخلص وعقولهم من أن تتسرب إليهم، فتفسد عليهم دينهم ودنياهم، وتسقط إلى هاوية الغلو، كما حدث في طائفة (الخوارج) من قبل، الذين كانوا صواما قواما متعبدين، مبالغين في التعبد، قارئين للقرآن، ولكنه ـ كما صح في الحديث ـ لم يتجاوز حناجرهم، أي لم ينتقل من حناجرهم إلى رؤوسهم وعقولهم، ومعنى ذلك: أنهم لم يفهموه حق الفهم، ولم يفقهوا مقاصده، ويردوا متشابهه إلى مُحْكمه، فاستباحوا دماء غيرهم من المسلمين وأموالهم وحرماتهم، واستحلوا قتل أعظم رجل في أمة الإسلام في وقته: علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

وفي سبيل ذلك: نشرتُ رسالة (ظاهرة الغلو في التكفير) التي تبتنها (الجماعة الإسلامية) في جامعة القاهرة، وصدرت في سلسلتها (صوت الحق) ووزعت منها عشرات الألوف. وقد كنت نشرتها أولا بوصفها (مقالة) في مجلة (المسلم المعاصر) ثم نشرتها باعتبارها (فتوى) في الجزء الأول من كتابي (فتاوى معاصرة) ثم رأيت أن أنشرها مستقلة، لتعميم النفع بها.

وكان الذي يهمني هو نقض فكرة (التكفير) لا الرد على صاحبها، فقد كنت حريصا على أن لا أنقد سيد قطب في هذا الوقت خاصة، لأن السلطة الحاكمة وأبواقها المختلفة كانت تهاجمه، فلم أكن أحب أن يذكر اسمي مع هؤلاء. كما أن كثيرا من الإسلاميين كانوا يحسبون انتقاد سيد قطب، كأنما هو اتهام له في إيمانه، أو تشكيك في بطولته وشهادته رحمه الله وغفر له، ولكن عندما يلتبس الحق بالباطل يجب على أهل العلم: البيان، وإقامة الحجة، والإعذار إلى الله سبحانه.

كما رددت على بعض الشباب الذي استفتاني عن مدى مشروعية هجر الصلاة في مساجد المسلمين باعتبارها من معابد الجاهلية، واتخاذ بيوت العصبة المسلمة مساجد، تحس فيها بالانعزال عن المجتمع الجاهلي... وقد رددت عليها بفتوى رأي بعض الإخوة نشرها في هذا الملحق، للتنوير وتعميم الفائدة، ورأيت أن أكتفي بالرجوع إليها في كتاب (الفتاوى).

كما رددت على رأي سيد رحمه الله، في جدوى الاجتهاد الفقهي وجديته، وأن الأمة في حاجة إلى أن (تُسْلم) أولا قبل أن تبحث في إحياء الاجتهاد، وتطوير الفقه وما إلى ذلك. وقد ناقشنا هذا الرأي الغريب في كتابنا عن (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية).

وكذلك فندت رأيه في (الجهاد) الذي يتبنى فيه قتال العالم كله، حتى من سالم المسلمين، ولم يمد إليهم يدا ولا لسانا بالسوء، وهو ما خالفه جل علماء العصر، إن لم نقل: كلهم.

على أن المهم هنا: أن بعض الشباب الذين قرأوا مذكراتي وقفوا متحيرين: هل صحيح أن سيد قطب يكفر (مسلمي اليوم) جميعا إلا فئة قليلة منهم؟! إن بعضهم قرأ الكثير من كتب سيد قطب، ولم يلحظ فيها ذلك. كما قال الأخ الإعلامي اللامع في قناة (الجزيرة) ـ أحمد منصور ـ للأستاذ فريد عبد الخالق القيادي الإخواني: أنه قرأ كتب سيد قطب، ولم يجد فيها شيئا مما ذكره أو يذكره الآخرون!! وقال بعضهم بصراحة: ليت الشيخ يأتي لنا بـ (نصوص واضحة) من كتب سيد قطب، لنحاكمه إليها، ونبني موقفنا منه على بينة من أمرنا، وبصيرة في ديننا. فليس في العلم كبير، والحق أحق أن يتبع. وإذا كنا نحب سيد قطب، فالحق أحب إلينا منه.

واستجابة لهؤلاء الإخوة الأحبة، والأبناء الأعزة: أضع أمامهم هذه (النصوص الحاسمة) التي هي أوضح من الشمس في رابعة النهار، في تبني فكرة (التكفير) وهي من ثلاثة كتب للشهيد رحمه الله، برغم ما أكنه لأديبنا وداعيتنا ومفكرنا الكبير من حب وإعزاز، ولكن العواطف شيء، والحقائق شيء آخر، وهذه الكتب هي:

1ـ في ظلال القرآن في طبعته الثانية.

2ـ معالم في الطريق. الذي اعتمده منهاجا لإنشاء العصبة المسلمة الجديدة.

3ـ العدالة الاجتماعية في الإسلام، في الفصل الذي أضافه إليها ليحمل أفكاره الجديدة.

وهناك نصوص أخرى في كتب أخرى، ولكن في النقول من هذه الثلاثة ما يكفي..

وسأكتفي من (ظلال القرآن) بنقول من جزءين فيه، أحدهما من القرآن المكي، وهو (الجزء السابع) الذي يتضمن أرباعا من سورة الأنعام المكية، مع شيء من سورة المائدة، ولكنا سنكتفي منه بالنقل عن (الأنعام).

والثاني من القرآن المدني، وهو (الجزء العاشر) ويتضمن ربعين من سورة الأنفال، وتتمته من سورة التوبة.

وفي هذه النقول كلها نصوص صريحة كل الصراحة لا مجال فيها للبس أو احتمال أو تأويل.

وسأنقل من (المعالم) أصرح الألفاظ وأبينها في الدلالة على فكرة التكفير. وكتاب (المعالم) هو الذي أثار الزوبعة على الشهيد قبل أن يعرف الناس ما في الظلال، والحقيقة: أن جل المعالم في جوهره مقتبس من الظلال.

وأما (العدالة الاجتماعية في الإسلام) فقد ألفه سيد قبل تطوره إلى المرحلة الأخيرة من فكره، وكان خاليا تماما من فكرة التكفير، وكان أكثر ما يعاب عليه فيه: تحامله الشديد على بني أمية، حتى كان يجردهم من كل عنصر أخلاقي، وقد مس في هذا عددا من الصحابة، أهمهم الخليفة الثالث عثمان رضي الله عنه.

ولكن سيدا ـ رحمه الله ـ أبى إلا أن يضيف إلى الكتاب في طبعاته الأخيرة: فصلا يحمل أفكاره الجديدة إلى قارئه، سماه (حاضر الإسلام ومستقبله) وعن هذا الفصل ننقل النص المقصود ...

نصوص من كتب الشهيد سيد قطب تحمل تكفيرَ مسلمي اليوم(*) :

يعزّ عليّ والله أن أضع هذه النصوص أمام القارئ الكريم ، فوالذي نفسي بيده ما أردت أن أسيء إلى رجل قدم عنقه في سبيل الإسلام ، ولكنها الأمانة والميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم ليُبَيِّنُنَّهُ للناس ولا يكتمونه ، ونقول ما قال الحافظ الذهبي عن ابن تيمية : شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه !

( أ ) نصوص من " ظلال القرآن"
( ب ) نص من "معالم في الطريق"
( ج ) نص من " العدالة الاجتماعية في الإسلام "

أولا : نصوص من " ظلال القرآن " :

من قرأ "ظلال القرآن" لسيد قطب - رحمه الله - في طبعته الأولى ، لم يجد فيه شيئا يدل على هذه الفكرة : تكفير المسلمين الذين يعيشون في العالم الإسلامي اليوم .

ولكن من قرأ الأجزاء الأخيرة منه التي كتبها وهو في السجن ، بعد تغير اتجاهه الفكري ، وكذلك الأجزاء الأولى التي عدلها ، وظهر ذلك في طبعته الثانية وما بعدها : يجد هذه الفكرة المحورية تسري في الكتاب في عشرات المواضيع ، بل في مئاتها ، يذكرها ويؤكدها كلما جاءت مناسبة ، بل في أدنى مناسبة لها .

وسنكتفي هنا بالاقتباس من سورة الأنعام من الجزء السابع ، ومن سورة الأنفال والتوبة من الجزء العاشر ، باعتبار أن سورة الأنعام من القرآن المكي ، وسورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني :

• (1) في تفسير " وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " :

وحسبنا هذا النص الصريح المعبر عن فكرة الشهيد رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالى " وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " (الأنعام : 55) .

قال رحمه الله :

[ إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح . واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات . ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم . فهما صفحتان ، متقابلتان وطريقان مفترقتان . . ولا بد من وضوح الألوان والخطوط . 

ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ؛ ووضع العنوان المميز للمؤمنين ، والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات . فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون ، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم ، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين .

وهذا التحديد كان قائماً ، وهذا الوضوح كان كاملاً ، يوم كان الإسلام يواجه المشركين في الجزيرة العربية . فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن معه . وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين . . ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات على ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة - ومنها ذلك النموذج الأخير - لتستبين سبيل المجرمين!

وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة من الديانات ذات الأصل السماوي بعد ما بدّلتها وأفسدتها التحريفات البشرية . . حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك . . لا يجدي معها التلبيس!

ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا . . "إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للاسلام" ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته . . ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام ، تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه اسماً . وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً . وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً! فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله . . وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه . وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله . 

وأن الله - وحده - هو الذي يتلقى منه العباد الشرائع ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله . . وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - "فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد" ، كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه ، "وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد" . .

وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين؛ وهم من سلالات المسلمين . وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام . . ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضى هذا المدلول . .

وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام!
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول لا إله إلا الله ، ومدلول الإسلام في جانب؛ وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر . 

أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين؛ واختلاط الشارات والعناوين؛ والتباس الأسماء والصفات؛ والتيه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق!

ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة ، فيعكفون عليها توسيعاً وتمييعاً وتلبيساً وتخليطاً . حتى يصبح الجهر بكلمة الفصل تهمة يؤخذ عليها بالنواصي والأقدام! . . "تهمة تكفير « المسلمين »"!!! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلى قول الله ولا إلى قول رسول الله!

هذه هي المشقة الكبرى . . وهذه كذلك هي العقبة الأولى التي لا بد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلى الله في كل جيل!

يجب أن تبدأ الدعوة إلى الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين . . ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلى الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة . وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف؛ وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح : انظروا! إنهم يكفرون المسلمين!

إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون! إن الإسلام بيّن والكفر بين . . الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله - بذلك المدلول - فمن لم يشهدها على هذا النحو؛ ومن لم يقمها في الحياة على هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين . . المجرمين . . " وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " (الأنعام : 55) .

أجل يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلى الله هذه العقبة؛ وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة؛ كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوّقها غبش ، ولا يميعها لبس . فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم « المسلمون » وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم « المجرمون » . . كذلك فإنهم لن يحتملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان . وأنهم وقومهم على مفرق الطريق ، وأنهم على ملة وقومهم على ملة . وأنهم في دين وقومهم في دين : " وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ " (الأنعام : 55) ]. انتهى [1].

ها هو الرجل (الشهيد سيد قطب) يصرح - بل يصرخ - بما لا يدع مجالا للشك والاحتمال : أن الأوطان التي كانت تعد في يوم من الأيام "دارا للإسلام" وأن هؤلاء الأقوام "من سلالات المسلمين" أن الذين كان أجدادهم مسلمين في يوم من الأيام : لم يعودوا مسلمين ، وإن ظنوا أنهم يدينون بالإسلام اعتقادا ، في حين أنهم ليسوا مسلمين لا عملا ولا اعتقادا ، لأنهم لم يشهدوا أن "لا إله إلا الله" بمدلولها الحقيقي كما حدده هو . وأشق ما تعانيه الحركات الإسلامية : أنها لم يتضح لها هذا المفهوم الجديد : أن الذين يظنون أنفسهم مسلمين اليوم هم كفار في الحقيقة ، وهو يريد من هذه الحركات ودعاتها : أن يجهروا بكلمة الفصل ولا يبالوا بـ " تهمة تكفير المسلمين" !!

• (2) في تفسير " أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ " :

وفي موضع آخر من تفسير السورة عند قوله تعالى " أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ " (الأنعام : 65) قال رحمه الله :

[ وهذا يقودنا إلى موقف العصبة المسلمة في الأرض . وضرورة مسارعتها بالتميز من الجاهلية المحيطة - بها والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها؛ "باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذي يؤثرون البقاء في الجاهلية" ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .

إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل أرض من أن يقع عليها هذا العذاب : { أو يلبسكم شيعاً ويذيق بعضكم بأس بعض } . . إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيدياً وشعورياً ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام « دار إسلام » تعتصم بها - "وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي « الأمة المسلمة » وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه ، جاهلية وأهل جاهلية" . وأن تفاصل قومها على العقيدة والمنهج؛ وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .

فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز ، حق عليها وعيد الله هذا . وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها . وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد؛ دون أن يدركها فتح الله الموعود!

إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات . . غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندغامها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها . .
ومراجعة تاريخ الدعوة إلى الله على أيدي جميع رسل الله ، يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره ، وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم . . لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومها على العقيدة وعلى منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها ودينها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعاً ] . انتهى [2]

النص واضح تمام الوضوح : إن الكاتب (الشهيد سيد قطب) لم يَعُدّ مسلما إلا من آمن بفكرته هذه ، وهي الفئة التي يسميها "العصبة المسلمة" وأن ما حولها ومن حولها ، ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه : جاهلية وأهل جاهلية ، أي هم مشركون وكفار ، ليس لهم في الإسلام نصيب ، وإن كانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ! فكأنما المسلمون جميعا بمثابة مشركي مكة عند البعثة المحمدية ، وكأنما دعوته بمثابة دعوة محمد صلى الله عليه وسلم ، من آمن بها دخل في الإسلام ، ومن لم يؤمن بها جاهلي كافر حلال الدم !!

والحق أننا لم نر الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة ولا التابعين ولا أحدا من السلف أو الخلف ، فسر كلمة التوحيد بما فسرها به سيد قطب رحمه الله ، إنما كانوا يدعون الناس من العرب أو العجم إلى "لا إله إلا الله" التي يعرف الناس مدلولها بفطرتهم ، فحين يُدعى المجوسي إلى "لا إله إلا الله" يفهم أن معناها أن يترك عبادة النار ، وألا يقول بإلهين اثنين ، إله للخير والنور ، وإله للشر والظلمة ، ويتجه بصلاته ونسكه وتذلله لله وحده .

والهندوسي عندما يُدعى إلى "لا إله إلا الله" يفهم منها أن يدع عبادة البقر وغيرها من الحيونات وقوى الطبيعة المختلفة ، ويتجه بعبادته لله رب العالمين .

وننقل هنا هذا النص من تقديم سورة الأنعام ، يقرر هذا المعنى الذي ألمحنا إليه .

قال صاحب الظلال (الشهيد سيد قطب) :

[ والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات حياة.. بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها، ورفض كل شريعة سواها، مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه.. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين، ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له الله..

إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية، ومناهج بشرية. ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم إنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة.. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض، تواجه مستقبلا غير موجود..

والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده.. عقيدة تملأ القلب، وتفرض سلطانها على الضمير. عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله، ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله. وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم، تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك.

كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، "يجب أن يدعوهم أولا إلى اعتناق العقيدة- حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون -" يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولا إقرار عقيدة: لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم.. إقرارها في ضمائرهم وشعائرهم، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم..

ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام كما كانت هي أساس دعوتهم إلى الإسلام أول مرة.. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة..

فإذا دخل في هذا الدين- بمفهومه هذا الأصيل- عصبة من الناس، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها على هذا الأساس وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله ] . انتهى [3]

النص من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى تعليق ، فالكاتب (الشهيد سيد قطب) ينظر إلى مسلمي اليوم نظرته إلى مشركي العرب في الجاهلية تماما عند البعثة ، لا فرق بين هؤلاء ولا أولئك ، إلا أن هؤلاء يسمون أنفسهم مسلمين وهذه لا تغني عنهم شيئا ، ولهذا كان على أصحاب الدعوة : أن يدعوا الناس إلى اعتناق العقيدة أولا ، حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين ، وتشهد لهم شهادات الميلاد أنهم مسلمون !.

وقد اعتسف الشهيد رحمه الله في إلزامه الناس جميعا بتفسيره لكلمة التوحيد "لا إله إلا الله" والمسلمون جميعا يفهمون معناها : أنه لا معبود بحق إلا الله ، والعبادة تعرفها الأمم جميعا ، فمنهم من يوجهها إلى الله وحده وهم المسلمون ، ومنهم من يشرك مع الله غيره ، ومنهم من يعبد هذا الغير من دون الله ، ولا يمكن أن نسوي بين المسلم والهندوسي الذي يعبد البقرة ، أو البوذي الذي يعبد (بوذا) !.

ومشكلة الأستاذ سيد قطب : أنه لا يعرف إلا الإيمان أو الكفر ، ولكن يوجد بينهما منزلة هي الفسوق أو العصيان ، فقد يوجد اليوم مئات الملايين من المسلمين ، ولكنهم - كلهم أو جُلهم - عصاة مفرطون ، في حاجة إلى أن يتوبوا ، أو جهلة بدينهم في حاجة إلى أن يُعلّموا .

فلو قال الأستاذ سيد قطب : لا يوجد مسلمون كاملون في إسلامهم فهما وسلوكا إلا القليل : لكان كلامه مقبولا ، أما أن يقول : لا يوجد مسلمون قط ، وإنما يوجد أقوام من سلالات المسلمين ، وأن الوجود الإسلامي قد انتهى أو توقف من زمن طويل ، فهذا إسراف في النظر إلى الأمة ، التي لم تكفر بربها ولا بقرآنها ولا برسولها ، ولا تزال تتجمع بالملايين في شهر رمضان لصلاة التراويح ، وفي مواسم الحج والعمرة .

فمن يقول : إن هؤلاء جميعا كفار ؟! بل نقول ما قال الله تعالى : " ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
ۖ فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۚ " (فاطر : 32).

• (3) نص من سورة الأنفال : تعقيبا على آية تقسيم الغنيمة :

وفي تفسيره لآية : " وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ.. " (الأنفال : 41) وإشارته إلى ما روي فيها من خلافات حول توزيع الخمس الذي يبقى بعد أخذ المقاتلين أربعة أخماسهم ، وما ورد فيه من أقوال ، يقول (الشهيد سيد قطب) يرحمه الله :

[ ونحن - على طريقتنا في هذه الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها الخاصة . . هذا بصفة عامة . . وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا . فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة , لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة مسلمة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله , ثم تقع لها غنائم تحتاج إلى التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية أول مرة ; ورجع الناس إلى الجاهلية التي كانوا عليها , فأشركوا مع الله أرباباً أخرى تصرف حياتهم بشرائعها البشرية ! ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلى الدخول فيه . . إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله . . إلى إفراد الله سبحانه بالألوهية والحاكمية والسلطان . والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده ! وإلى التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر , والتوجه بالولاء كله لهذا التجمع ولقيادته المسلمة ; ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقياداتها جميعاً .

هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ; وليس هناك - في البدء - قضية أخرى سواها . . ليس هناك قضية غنائم , لأنه ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة , لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية , وذلك لسبب بسيط:هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل , يحتاج إلى الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى !!!

والمنهج الإسلامي منهج واقعي , لا يشتغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ; ومن ثم لا يشتغل أصلاً بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! . . إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين . هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية , حيث لا مقابل لها من الواقع أصلا ! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه:دعوة إلى لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ; ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية . . ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق . . ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلى الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ; كما يحتاج إلى الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره . . وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية - في الداخل وفي الخارج - وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته , لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته وواقعيته !

من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين , لا ندخل هنا في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ; حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ; وينشأ المجتمع الإسلامي , ويواجه حالة جهاد فعلي , تنشأ عنه غنائم تحتاج إلى أحكام ! ] . انتهى [4]

وأود أن أقول للأستاذ سيد قطب هنا : إن الحاكمية التي يلح عليها ويستدل عليها بآيات القرآن تعني أمرين : الحاكمية الكونية ، والحاكمية الشرعية . فمن أقر بالحاكمية الكونية القدرية فقد أقر بالحاكمية ، ولم يعطل اللفظَ عن معناه ، بمعني أنه لا يتصرف في الكون كله إلا الله ، إذا قضي أمراً فإنما يقول له : كن فيكون ، علي أن المرء قد يقر بحاكمية الله الأمرية التشريعية وبنصه ولا ينفذ أحكامه . وهي قضية : "علاقة الإيمان بالعمل".

• (4) ومن تعقيباته على آية الجزية :

وفي تعقيباته على تفسير آية الجزية من سورة التوبة ، يقول (الشهيد سيد قطب) رحمه الله :

[ ولا نحب أن نستطرد هنا إلي الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم ولا عن مقادير هذه الجزية ولا عن طريق ربطها ومواضع هذا الربط .. ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علي عهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .

إنها قضية تعتبر اليوم " تاريخية " وليست " واقعية " .. إن المسلمين اليوم لا يجاهدون !.. "ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون !.. إن قضية " وجود " الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلي علاج !"

والمنهج الإسلامي - كما قلنا مراراً - منهج واقعي جاد ، يأبي أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ، ويرفض أن يتحول إلي مباحث فقهية لا تنطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعا مسلما تحكمه شريعة الله ، ويصرف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ، ويسميهم " الأرأيتيين " الذين يقولون : " أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم ؟" 

إن نقطة البدء الآن في أول عهد الناس برسالة الإسلام .. أن يوجد في بقعة من الأرض ناس يدينون الحق ، فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ، ويطبقون هذا في واقع الحياة .. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان .. ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات .. ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في علم النظريات !

وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية ، وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي . وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلي المباحث الفقهية الفرعية احتراما لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه علي هذا الهزال ] . انتهى [5]

وقد ناقشنا الشهيد رحمه الله مناقشة مفصلة حول هذه النقطة حينما عرضنا لرأيه في " إحياء الفقه الإسلامي " ، وتجديد الاجتهاد ومدي جديته وجدواه ، وبينا انفراده رحمه الله - أو قل شذوذه - عن سائر علماء الأمة بهذا الرأي الذي يتبني فيه جانب الغلو والتعسير علي الأمة ، ولكنه لا يري الأمة موجودة ، حتى تستحق منه التيسير لا التعسير ، وأنصح قارئي أن يراجع هذه المناقشة في كتابي " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " أو كتابي " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط " أ.هـ [6] 

باقي النصوص في الحلقة القادمة

----------
هوامش :
[1] المحرر : الوقفة في الحلقة رقم 4 و 5 من هذا الملف
[2] في ظلال القرآن ج7 ، ص 238 - 240 ، طبعة عيسى الحلبي الثانية
[3] في ظلال القرآن ج 7 ، ص 269
[4] في ظلال القرآن ج 7 ، ص 87
[5] في ظلال القرآن ج 10 ، ص 10 ، 11 
[6] في ظلال القرآن ج 10 ، ص 190 ، 191
[7] ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، (3/ 441 - 459) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2008 م
--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب
https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/561621_1134383109919264_5246884146233621402_n.png?oh=b286e7bf3089b84fc8487a8453dcaff5&oe=583D490C

ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 7 ] : في التكفير (2 من 2)

• (5) في التعقيب على آية " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ " :

[ وفي تفسير قوله تعالى من سورة التوبة : " اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ " (التوبة : 31) نقل (الشهيد سيد قطب) ما رواه أحمد والترمذي وابن جرير عن عدي بن حاتم ( وكان قد تنصر في الجاهلية) لما سمع الآية من النبي صلى الله عليه وسلم يتلوها ، قال يا رسول الله ، إنهم لم يعبدوهم ! قال : " بلى إنهم حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم ..".

والحديث - وإن بلغ درجة الصحة - قد اعتمده المفسرون ، وقبله العلماء في الجملة ، ونقلوه بعضهم عن بعض .

وقد كان هذا الحديث عمدة وركيزة أساسية عند الشهيد ، وبنى عليه ما بنى ، وهو من ناحية سنده كما ترى .

قال (الشهيد سيد قطب) في (الظلال) :

[ ومن النص القرآني الواضح الدلالة؛ ومن تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو فصل الخطاب ، ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين ، تخلص لنا حقائق في العقيدة والدين ذات أهمية بالغة نشير إليها هنا بغاية الاختصار :

* أن العبادة هي الاتباع في الشرائع بنص القرآن وتفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً بمعنى الاعتقاد بألوهيتهم أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم . . ومع هذا فقد حكم الله - سبحانه - عليهم بالشرك في هذه الآية - وبالكفر في آية تالية في السياق - لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها . . فهذا وحده - دون الاعتقاد والشعائر - يكفي لاعتبار من يفعله مشركاً بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين .

* أن النص القرآني يسوي في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله ، بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، وبين النصارى الذين قالوا بألوهية المسيح اعتقاداً وقدموا إليه الشعائر في العبادة . فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركاً بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين . .

* أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده؛ ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بألوهيته؛ ولا تقديم الشعائر التعبدية له . . كما هو واضح من الفقرة السابقة . . ولكنا إنما نزيدها هنا بياناً!

وهذه الحقائق - وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم ، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون بالله لأنهم أهل كتاب - هي كذلك حقائق مطلقة تفيدنا في تقرير « حقيقة الدين » عامة . . 

إن دين الحق الذي لا يقبل الله من الناس كلهم ديناً غيره هو « الإسلام » . . والإسلام لا يقوم إلا باتباع الله وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بألوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - "فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله" صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله - مهما كانت دعواهم في الإيمان - "لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد اتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله ، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم ، لا طاقة لهم بدفعه" ، وأنهم لا يقرون هذا الافتئات على الله . .

إن مصطلح « الدين » قد انحسر في نفوس الناس اليوم ، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير ، وشعائر تعبدية تقام! وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم - ويقرر تفسير رسول الله صلى الله عليه وسلم - أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله ، وأنهم أشركوا به ، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلهاً واحداً ، وأنهم اتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله .

إن المعنى الأول للدين هو الدينونة - أي الخضوع والاستسلام والاتباع - وهذا يتجلى في اتباع الشرائع كما يتجلى في تقديم الشعائر . والأمر جد "لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله - دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات على سلطان الله - مؤمنين بالله ، مسلمين ، لمجرد أنهم يعتقدون بألوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر" . . وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ؛ وهو أفتك الأسلحة التي يحاربه بها أعداؤه؛ الذين يحرصون على تثبيت لافتة « الإسلام » على أوضاع ، وعلى أشخاص ، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق ، وأنهم يتخذون أرباباً من دون الله . . وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون على تثبيت لافتة الإسلام على تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص؛ فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة؛ وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله . . { وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون } . ] انتهى [1]

إن سيد قطب أديب من كبار أدباء العربية ، وله قدرة هائلة على التعبير عن الفكرة الواحدة ، بصيع متعددة ، وأساليب شتى ، فلا عجب أن نرى "الظلال" حافلا بفكرته المحورية عن انقطاع الإسلام من الأرض ، وغياب أمته من الوجود ، برغم وجود مئات الملايين الذين ينسبون إلى الإسلام ، ويزعمون أنهم مسلمون !.

لا يخدعنا عنوان الإسلام :

وبعد حديث عن اللافتات التي تحمل عنوان الإسلام لتوضع على المجتمعات والدول والأوضاع والمؤسسات ، يحذر الشهيد (سيد قطب) رحمه الله من الانخداع بهذه العناوين الكاذبة والمضللة .

يقول (الشهيد سيد قطب) في (الظلال) :

[ والسذج ممن يدعون أنفسهم «مسلمين» يخدعون في هذه اللافتة.. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلى الإسلام في الأرض! فيتحرجون من إنزالها عن «الجاهلية» القائمة تحتها، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة.. صفة الشرك والكفر الصريحة.. ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة! 

بذلك تقوم تلك اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي كما تقوم حاجزاً دون الوعي الحقيقي، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين (2) .

هؤلاء السذج- من الدعاة إلى الإسلام- أخطر في نظري على حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين، الذين يرفعون لافتة الإسلام على الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين! إن هذا الدين يغلب دائما عند ما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلى درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة- في أي زمان وفي أي مكان-. والخطر الحقيقي على هذا الدين ليس كامناً في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون بقدر ما يكمن في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون، يتحرجون في غير تحرج ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام بينما هم يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة! 

إن الواجب الأول للدعاة إلى هذا الدين في الأرض، أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة على الأوضاع الجاهلية، والتي تحمي هذة الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي تعرية الجاهلية من ردائها الزائف وإظهارها على حقيقتها.. شركاً وكفراً.. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم كيما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة. بل كيما ينتبه هؤلاء أنفسهم إلى حقيقة ما انتهى إليه حالهم - وهي الحقيقة التي انتهى إليها أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير ] انتهى [3].

ثانيا : نص من "المعالم" :

ويعود الشهيد سيد قطب إلى الموضوع في كتابه " معالم في الطريق" ليتحدث عنه في أكثر من مناسبة ، ونختار هنا فقرات من فصل " لا إله إلا الله منهج حياة" .

يقول (الشهيد سيد قطب) رحمه الله :

[ولكن ما هو "المجتمع الجاهلي"؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته؟ 

إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا: إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده... متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي، وفي الشعائر التعبدية، وفي الشرائع القانونية...

وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار "المجتمع الجاهلي" جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلا!

* تدخل فيه المجتمعات الشيوعية ..أولا: بإلحادها في الله سبحانه وبإنكار وجوده أصلا، ورجع الفاعلية في هذا الوجود إلى "المادة " أو "الطبيعة"، ورجع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلى "الاقتصاد" أو "أدوات الإنتاج".ثانيا: بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - على فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة! - لا لله سبحانه! ..

* وتدخل فيه المجتمعات الوثنية - وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وأفريقية - تدخل فيه – أولا: بتصورها الاعتقادي القائم على تأليه غير الله - معه أو من دونه – وتدخل فيه ثانيا: بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بألوهيتها... كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع، المرجع فيها لغير الله وشريعته، سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلى شريعة الله... 

* وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا... تدخل فيه هذه المجتمعات.أولا: بتصورها الاعتقادي المحرف، الذي لا يفرد الله سبحانه بالألوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك، سواء بالبنوة أو بالتثليث، أو بتصور الله سبحانه على غير حقيقته، وتصور علاقة خلقه به على غير حقيقتها ..

* وأخيرا: يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها "مسلمة"!

وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي - وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها... وكل مقومات حياتها تقريبا!

كما إنه سبحانه قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابا من دونه، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم أنهم "مسلمون" لناس منهم! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركا كاتخاذهم عيسى ابن مريم ربا يؤلهونه ويعبدونه سواء، فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده، فهي خروج من دين الله، ومن شهادة أن لا إله إلا الله.

وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة "علمانيته" وعدم علاقته بالدين أصلا، وبعضها يعلن إنه "يحترم الدين" ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلا، ويقول: إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه على "العلمية" باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ، وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه: هذه شريعة الله!... وكلها سواء في أنها لا تقوم على العبودية لله وحده...

وإذا تعين هذا، فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة:

إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره.

إن الإسلام لا ينظر إلى العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات على اختلافها... انها كلها تلتقي في حقيقة واحدة... وهي أن الحياة فيها لا تقوم على العبودية الكاملة لله وحده، وهي من ثم تلتقي - مع سائر المجتمعات الأخرى - في صفة واحدة... صفة "الجاهلية"] انتهى [4]

ثالثا : نص من "العدالة الاجتماعية في الإسلام" :

ولا تقتصر النصوص التي تحمل معنى تكفير مسلمي اليوم في مشارق الأرض ومغاربها – إلا من آمن بأفكار الشهيد (سيد قطب) حول معنى "لا إله إلا الله" وما يتعلق بالحاكمية ، ودخل قيما دخلت فيه العصبة المؤمنة التي تقوم بما قام به الصحابة من قبل ، على "الظلال" و"المعالم" ، بل نجد ذلك في كتب كثيرة أخرى ، ومنها كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي ألفه في المرحلة السابقة على مرحلته الأخيرة هذه ، ولكنه أضاف إليه فصلا مهما ضمنه أفكاره الأخيرة تحت عنوان " حاضر الإسلام ومستقبله" ونكتفي هنا بنقل فقرات منه .

قال :

[نحن ندعو إلى استئناف حياة إسلامية في مجتمع إسلامي تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي , كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي .

ونحن نعلم أن الحياة الإسلامية ـ على هذا النحو ـ قدتوقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض ؛ وان "وجود" الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك !

ونحن نجهر بهذه الحقيقة الأخيرة ـ على الرغم مما قد تحدثه من صدمة وذعر وخيبة أمل للكثيرين ممن لا يزالون يحبون أن يكونوا "مسلمين"!(5) ـ ونجهر بها على هذا النحو في الوقت الذي ندعو فيه إلى استئناف حياة إسلامية , في مجتمع إسلامي , تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي . ولا نرى أن في رؤية تلك الحقيقة والجهر بها كذلك ما يدعو إلى خيبة الأمل ؛ أو اليأس من هذه الدعوة ومن هذه المحاولة . على عكس نرى أن الجهر بهذه الحقيقة المؤلمة ـ حقيقة أن الحياة الإسلامية قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض , وأن "وجود" الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك ـ نرى أن الجهر بهذه الحقيقة ضرورة من ضرورات الدعوة إلى الإسلام , ومحاولة استئناف حياة إسلامية ..ضرورة لا مفر منها.

إن الأمر المستيقن في هذا الدين أنه لا يمكن أن يقوم في الضمير "عقيدة" . ولا في واقع الحياة "ديناً" إلا أن يشهد الناس : أن لا إله إلا الله . أي لا "حاكمية" إلا لله ..حاكمية تتمثل في قضائه وقدره كما تتمثل في شرعه وأمره ـ وهذه كلها سواء في كونها أساساً للعقيدة لا تقوم ـ ابتداء ـ في الضمير إلا به ـ كذلك هو لا يمكن أن يقوم في واقع الحياة "ديناً" إلا أن تتمثل العقيدة في نظام واقعي للحياة هو"الدين" , فتفرد فيه شريعة الله بالهيمنة على حياة الناس جملة وتفصيلاً ؛ ويبرأ فيه الحاكم والمحكوم من ادعاء حق"الألوهية" عن طريق ادعاء حق"الحاكمية" ومزاولة التشريع فعلاً بما لم يأذن به الله ؛ مما يتخذه البشر لأنفسهم من أنظمة وأوضاع وتشريعات وقوانين ؛ غير مستمدة من شريعة الله , نصاً حين النص , واجتهاداً ـ في حدود المبادئ العامة ـ حين لا يوجد النص . طاعة لأمر الله سبحانه : " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ .. (النساء59)..

ونحن لا نحدد مدلول "الدين" ولا مفهوم "الإسلام" على هذا النحو من عند أنفسنا .. ففي مثل هذا الأمر الخطير , الذي يترتب عليه تقرير مفهوم لدين الله ؛ كما يترتب عليه الحكم بتوقف"وجود" الإسلام في الأرض اليوم ؛ وإعادة النظر في دعوى مئات الملايين من الناس أنهم"مسلمون" .. في مثل هذا الأمر لا يجوز أن يفتي الإنسان فيما يقصم الظهر في الدنيا والآخرة جميعاً !

إنما الذي يحدد مدلول "الدين" على هذا النحو , ومفهوم "الإسلام" هو الله ـ سبحانه ـ إله هذا الدين ورب هذا الإسلام .. وذلك في نصوص قاطعة لا سبيل إلى تأويلها ولا الاحتيال عليها :

"..وإِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ..(يوسف40)

" وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ..(المائدة49)

"..وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ(المائدة45)..

" فلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا "(النساء65) ..

" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا"(59النساء)..

كلها تقرر حقيقة واحدة . أنه لا إسلام ولا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده : والرجوع إليه فيما يقع عليه التنازع ـ مما لم يرد به نص ـ إذ لا رأي مع النص ولا نزاع , والحكم بما أنزل ـ دون سواه ـ في كل شؤون الحياة ؛ والرضى بهذا الحكم رضى قلبياً بعد الاستسلام له عملياً … وإن هذا هو "الدين القيم" .. وهذا هو "الإسلام" الذي أراده الله من الناس .

وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم ـ على ضوء هذا التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام ـ لا نرى لهذا الدين "وجودا" .. إن هذا الوجود قد توقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر ؛ وذلك يوم تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شؤون الحياة .

ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة , وأن نجهر بها , وألا نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا "مسلمين" .. فهؤلاء من حقهم أن يستيقنوا : كيف يكونون مسلمين !

إن أعداء هذا الدين بذلوا طوال قرون وما يزالون يبذلون , جهوداً ضخمة ماكرة خبيثة , ليستغلوا إشفاق الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا مسلمين , من وقع هذه الحقيقة المريرة , ومن مواجهتها في النور ! وتَحَرُّجُهم كذلك من إعلان أن "وجود" هذا الدين قد توقف , منذ أن تخلت آخر مجموعة مسلمة في الأرض عن تحكيم شريعة الله في أمرها كله ؛ فتخلت بذلك عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية ـ [أو بالألوهية] ـ فهذه مرادفة لتلك , أو لازمة لها لا تتخلف .

هؤلاء الأعداء الماكرون الخبثاء يستغلون ذلك الإشفاق وهذا التحرج لتخدير مشاعر الكثيرين في الأرض , الذين يحبون أن يكونوا "مسلمين" وإيهامهم أنهم ما يزالون "مسلمين" فعلاً ! وأن "الإسلام بخير" ! وأن الناس يمكن أن يكونوا "مسلمين" دون أن تحكمهم شريعة هذا الدين ؛ بل دون أن يعتقدوا أن الحاكمية لله وحده , من ادعاها لنفسه فقد ادعى الألوهية , وكفر , وخرج من هذا الدين ! .

وكذلك ينبغي أن نجهر نحن بالحقيقة المقابلة , التي قد يشفق منها الكثيرون ممن يحبون أن يكونوا مسلمين ؛ وممن يتحرجون أن يعلنوا أن وجود هذا الدين قد توقف .. لنبطل مفعول "المخدر" الخبيث , الذي يخدر به أعداء هذا الدين محبي هذا الدين !!! ] انتهى [6]

الإسلام إذن (في رأي الشهيد سيد قطب) غير موجود على الأرض ، والمسلمون غير موجودين ، وإن كان الكثيرون منهم يحبون أن يكونوا مسلمين ، ولكن يجب أن نصارحهمبالحقيقة المُرّة - وإن كانت مؤلمة - : أنهم ليسوا مسلمين ، هم إذن كفار ومشركون ، ويجب أن يدخلوا في الإسلام من جديد ، على أساس جديد !!! [7] أ.هـ 

----------
هوامش :
[1] في ظلال القرآن ج 10 ، ص 203-205
[2] راجع كتاب " جاهلية القرن العشرين" لمحمد قطب
[3] في ظلال القرآن ج 10 ، ص 214 ، 215
[4] معالم في الطريق ، ص 88 - 93 ، ط دار الشروق 1968م
(5) هم إذن ليسوا مسلمين !!
[6] العدالة الاجتماعية في الإسلام ، ص 244 - 247 ، الطبعة السابعة 1967م
[7] ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، (3/ 459 - 470) ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2008 م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب


https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/1918409_1134383456585896_5432373682698369863_n.png?oh=c8a6e2f58c0e010e6acc361383a55fdf&oe=583EEAD1

ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 8 ] : الاجتهاد المعاصر (1 من 3)

[ رأينا من المنتسبين إلى العلم الديني من يظن أننا لسنا في حاجة إلى اجتهاد معاصر، اكتفاء بالفقه القديم الذي يرى أن في أحشائه الحل لكل مشكل جديد.

وقد بينا خطأ هذا الفريق من الناس في الصحائف السابقة، وبينا مدى الحاجة إلى الاجتهاد في هذا العصر.

ويهمنا الآن أن نعرض لرأي مشابه، يرى صاحبه أن لا حاجة بنا اليوم إلى اجتهاد لحل مشكلات العصر في ضوء الفقه الإسلامي، ولكن له منطلقا آخر غير منطلق المقلدين الجامدين.

إن صاحب هذا الرأي رجل عزيز على أنفسنا، حبيب إلى قلوبنا، لأنه قدم الكثير للفكر الإسلامي، ثم قدم حياته ودمه فداء لدعوة الإسلام، وكلمة الإيمان، ذلكم هو الشهيد سيد قطب عليه رحمة الله ورضوانه.

إن فكرته المحورية أنه يرى المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع جاهلي، يرفض حاكمية الله تعالى، ولا يعترف بمنهجه ضابطا للحياة. ومقتضى هذا أنه ليس بمجتمع مسلم. ومن ثم كان التفكير في استفراغ الوسع، وبذل الجهد وعصر الذهن، بحثا عن حلول لمشكلاته القائمة والمتجددة، في ضوء الأدلة الشرعية، ووفق المعايير الأصولية والفقهية ـ عبثا أو هزلا ـ .

فالواجب أن يسلم هذا المجتمع أولا ويفهم معنى "لا إله إلا الله" التي ينطقها أفراده، وتدوي بها مآذنه، فإذا دخل في الإسلام أمكنه أن يجتهد لحل مشكلاته في رحابه.

ولهذا يرى أن الدعوة إلى الإسلام لا يجوز أن تكون بتقديم أسس النظام الإسلامي ـ فضلا عن تفصيلاته ـ للناس. وتقديم حلوله لمشكلاتهم من خلال اجتهاد معاصر سوى، كليا كان أو جزئيا، فرديا أو جماعيا.

وقد عرض الشهيد رحمه الله هذا الرأي في كتابيه: "معالم في الطريق" و"الإسلام ومشكلات الحضارة".

وفي الكتابين رفض رحمه الله في إصرار وصلابة أي عرض لأسس النظام الإسلامي أو تقديمه في صورة نظريات وتشريعات، أو خدمة فقهه وتطويره بما يفي بحاجات هذا العصر، ويقدم حلولا اجتهادية لمشكلاته، بالأسلوب الملائم لهذا الزمن.

فهو يرى أن هذه مناورة خبيثة من الجاهلية، يجب على دعاة الإسلام ألا يستجيبوا لها، وأن يكشفوها، ويستعلوا عليها، "وأن يرفضوا السخرية الهازلة فيما يسمى (تطوير الفقه الإسلامي) في مجتمع لا يعلن خضوعه لشريعة الله، ورفضه لكل شريعة سواها.. من واجبهم أن يرفضوا هذه التلهية عن العمل الجاد، التلهية باستنبات البذور في الهواء!".

وهو يهاجم من سماهم "المخلصين المتعجلين" من أصحاب الدعوة الإسلامية الذين يخيل إليهم: أن عرض أسس النظام الإسلامي ـ بل التشريعات الإسلامية كذلك ـ على الناس، مما ييسر لهم طريق الدعوة، ويحبب الناس في هذا الدين، وهو ـ في رأيه ـ وهم تنشئه العجلة، وعدم التدبر لطبيعة هذا الدين، وطبيعة منهجه الرباني، وهو منهج عملي حركي جاد، جاء ليحكم الحياة في واقعها، ويواجه هذا الواقع ليقضي فيه بأمره: يقره أو يعدله، أو يغيره من أساسه.. ومن ثم فهو لا يشرع إلا لحالات واقعة فعلا، في مجتمع يعترف ابتداء بحاكمية الله وحده، فهو "منهج" يتعامل مع "الواقع"، وليس "نظرية" تتعامل مع "الفروض".

وهو يصف هؤلاء المخلصين أيضا بـ "الهزيمة الداخلية" في أرواحهم تجاه الأنظمة البشرية الصغيرة، حين يريدون من الإسلام أن يصوغ نظريات، وأن يصوغ قوالب نظام، وأن يصوغ تشريعات للحياة، بينما ليس على وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها.

وهو يرى أن على دعاة الإسلام أن يدعوا الناس إلى اعتناق العقيدة، حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو ـ أولا ـ إقرار عقيدة "لا إله إلا الله" بمدلولها الحقيقي، وهو: رد الحاكمية لله في أمرهم كله.. ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلى الإسلام.

وهكذا صيغ الإسلام في نشأته الأولى.. فقد ظل ثلاثة عشر عاما في مكة ينشئ العقيدة في الأنفس، والأخلاق المنبثقة عن هذه العقيدة، ولم ينزل الله لهم في هذه الفترة تنظيمات ولا تشريعات، فلما أن صارت لهم دولة في المدينة ذات سلطان، تنزلت عليهم الشرائع، وتقرر لهم النظام الذي يواجه حاجات المجتمع المسلم الواقعية.

ولم يشأ الله أن ينزل عليهم النظام والشرائع في مكة ليختزنوها جاهزة حتى تطبق مجرد قيام الدولة في المدينة )

هذا ملخص ما قاله الأستاذ ـ رحمه الله ـ في "المعالم" (ص 42 - 47)

أما في كتاب "الإسلام ومشكلات الحضارة" فقد تناول الموضوع بسعة تفصيل استغرق صفحات عدة، ننقل هنا منه ما يشرح الفكرة، ويوضح معالمها.

يقول:

(إن محاولة وضع أحكام تشريعية فقهية إسلامية لمواجهة أقضية المجتمع الذي تعيش فيه البشرية، والذي ليس إسلاميا، لأنه لا يعترف بأن الإسلام منهجه، ولا يسلم للإسلام أن يكون شريعته.

إن محاولة وضع أحكام تشريعية لأقضية مثل هذا المجتمع، ليست من الجد في شيء. وليست من روح الإسلام الجادة في شيء. وليست من منهج الإسلام الواقعي في شيء.

إن الفقه الإسلامي لا يستطيع أن ينمو ويتطور ويواجه مشكلات الحياة إلا في مجتمع إسلامي! مجتمع إسلامي واقعي، موجود فعلا، يواجه مشكلات الحياة التي أمامه ويتعامل معها، وهو مستسلم ابتداء للإسلام!

إنه عبث مضحك أن نحاول مثلا إيجاد أحكام فقهية إسلامية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في أمريكا أو روسيا، كلتاهما لا تعترف ابتداء بحاكمية الإسلام!

وكذلك الحال بالنسبة لأي بلد لا يعترف بحاكمية الإسلام!

وكل فقه يراد تنميته وتطويره في وضع لا يعترف ابتداء بحاكمية الإسلام هو عملية استنبات للبذور في الهواء.. هو عبث لا يليق بجدية الإسلام!

إن مشكلات "المجتمع الإسلامي" في مواجهة الحضارة القائمة، ليست هي مشكلات أي مجتمع آخر، إنها ليست مشكلات جاهزة حتى نهيئ لها حلولا جاهزة.. إنها مشكلات ستنشأ بشكل خاص، وبحجم خاص، وفق ظروف في عالم الغيب، ووفق ملابسات لا يمكن التكهن بها الآن.. فمن العبث الجري وراء افتراضات لم تقع بعد، على طريقة "الأرأيتيين" التي يمجها الجادون من مشرعي وفقهاء الإسلام.

كما أن مشكلات المجتمع الحاضر في مواجهة الحضارة القائمة ليست مشكلات "مجتمع إسلامي" فهذا المجتمع الإسلامي لم يوجد بعد ـ منذ أن اتخذت شرائع غير شريعة الإسلام لتصريف الحياة ـ لم يوجد، حتى تكون هذه مشكلاته، والإسلام ليس مطلوبا منه ـ ولا مقبولا منه كذلك ـ أن يوجد حلولا فقهية لمجتمع غير إسلامي.. مجتمع أنشأ مشكلاته هذه بسبب أنه لم يعرف الإسلام، أو بسبب أنه هجر الإسلام، إن كان قد عرفه من قبل..

ففيم الجهد؟ وفي العناء؟

إنه ليس الذي ينقص البشرية لقيام مجتمع إسلامي هو وجود فقه إسلامي "متطور"! إنما الذي ينقصها ابتداء هو اتخاذ الإسلام منهجا وشريعته شريعة. إن الفقه الإسلامي لكي يتطور، ينبغي أن يجد التربة التي يتطور فيها، والتربة التي يتطور فيها الفقه الإسلامي هي "مجتمع إسلامي" يعيش في العصر الحاضر، بدرجته الحضارية، ويواجه مشكلات قائمة بالفعل، بتكوينه الذاتي، ومواجهة المجتمع الإسلامي لهذه المشكلات، لن تكون كمواجهة أي مجتمع آخر لها بطبيعة الحال.

ولكن هذه البديهية ـ فيما يبدو ـ لا تبدو واضحة للكثيرين من المخلصين الغيورين على الإسلام "العقلاء"!

ومن أجل ذلك نكرر ونعيد ونزيد في الإيضاح..

إن كل ما يمكن قوله إجمالا عن المجتمع الإسلامي.. أنه ليس صورة تاريخية محددة الحجم والشكل والوضع.. وأننا في العصر الحديث لا نستهدف إقامة مجتمع من هذا الطراز، من حيث الحجم والشكل والوضع، إنما تستهدف إقامة مجتمع مكافئ من النواحي الحضارية المادية ـ على الأقل ـ للمجتمع الحاضر. وفي الوقت ذاته له روح ووجهة وحقيقة المجتمع الإسلامي الأول، الذي أنشأه المنهج الرباني. باعتباره قمة سامقة في روحه ووجهته وحقيقته الإيمانية وتصوره للحياة، ولغاية الوجود الإنساني، ولمركز الإنسان في هذا الكون، ولخصائصه وحقوقه وواجباته. وقمة سامقة في تناسقه وتماسكه.. أما الشكل والصورة والأوضاع فتتحدد وتتجدد بتطور الزمن، وبروز الحاجات، واختلاف أوجه النشاط الواقعي.. إلى آخر الملابسات.. الملابسات المتغيرة المتحركة.. ولكن التي ينبغي أن يكون تحركها ـ في المجتمع الإسلامي ـ داخل إطار المنهج الإسلامي، وحول محوره الثابت، وعلى أساس الإقرار بألوهية الله وحده، وإفراد الله سبحانه بخصائص الألوهية دون شريك. وأولى هذه الخصائص هي حق الحاكمية والتشريع للعباد، وتطويعهم لهذا التشريع.

ومن ثم فإنه ليس "الفقه" الإسلامي هو الذي نتقيد به في إنشاء هذا المجتمع ـ وإن كنا نستأنس به ـ إنما هو "الشريعة" الإسلامية والمنهج الإسلامي، والتصور الإسلامي العام.

وهذا يتطلب ابتداء، أن ترتضي جماعة من البشر اتخاذ الإسلام منهج حياة، وتحكيمه في كل شأن من شؤون هذه الحياة ـ أي إفراد الله، سبحانه، بالألوهية والربوبية، في صورة إفراده سبحانه، بالحاكمية التشريعية ـ ولحظتئذ ـ لا قبلها ـ يوجد "المجتمع الإسلامي".. ويبدأ في مواجهة الحياة القائمة، بينما هو يكيف نفسه، وأوضاعه وحاجاته الحقيقية، ووسائل إشباع هذه الحاجات، متأثرا بعقيدته، وما تنشئه من تصورات خاصة، ومتأثرا بأهدافه، وما تعنيه من وسائل خاصة، ومتأثرا بطريقته المنهجية الخاصة في مواجهة الواقع، والاعتراف بما هو فطري من هذا الواقع، وما هو ضروري لنمو الحياة السليمة، مع رفض ما ليس فطريا ولا ضروريا للنمو، وما هو ضار ومعطل وساحق لهذا النمو، من ذلك الواقع.. وفي خلال هذه المواجهة ـ بكل هذه الملابسات ـ ينشئ أحكامه الفقهية الخاصة، أولا بأول، في مواجهة وضعه الخاص..

وهنا.. قد يخدم هذا المجتمع الناشئ ما حسبناه وما نزال نحسبه سوء حظ في انقطاع نمو الفقه الإسلامي!

قد تكون هذه خدمة يسرها الله لحكمة.

ذلك أن المجتمع الوليد سيتجه حينئذ مباشرة إلى شريعة الله الأصلية. لا إلى آراء الرجال في الفقه، لأنه لن يجد في آراء الرجال ـ وهي مفصلة لعصور خاصة ولظروف خاصة ـ ما يساوي قده، إلا بعمليات ترقيع وتعديل.

وعندئذ يعمد إلى القماش الأصلي الطويل العريض.. "الشريعة" .. ليفصل منه ثوبا جديدا كاملا، بدلا من الترقيع والتعديل!

إن هذه ليست دعوة لإهمال الفقه الإسلامي، وإهدار الجهود الضخمة العظيمة التي بذلها الأئمة الكبار، والتي تحوي من أصول الصناعة التشريعية، ومن نتاج الأحكام الأصلية، ما يفوق ـ في نواح كثيرة ـ كل ما أنتجه المشرعون في أنحاء العالم.

ولكنها فقط بيان للمنهج الذي قد يأخذ به المجتمع الإسلامي الذي ينشأ ـ عندما ينشأ ـ وبيان لطبيعة المنهج الإسلامي في إنشاء الأحكام الفقهية، إنشائها في مواجهة الواقع الفعلي للمجتمع الإسلامي، المجتمع الذي يعترف ابتداء بحاكمية الإسلام.

إن تلك الثروة الضخمة من الفقه الإسلامي، قد ولدت ونشأت، يوما بعد يوم، في مجتمع إسلامي يواجه الحياة بعقيدته الإسلامية ومنهجه الإسلامي، ويعترف ابتداء بحاكمية الإسلام له، ولا يعترف بحاكمية منهج آخر غير الإسلام، مهما يكن في سلوكه أحيانا من مجافاة جزئية للإسلام. ولكن الخطأ في السلوك والانحراف في التطبيق شيء، وعدم الاعتراف ابتداء بحاكمية المنهج الإسلامي كله شيء آخر.. الأول يقع في المجتمع الإسلامي ويظل مع ذلك في مجتمع غير إسلامي، مجتمع لا يصلح بيئة لنمو الفقه الإسلامي وتطوره، لأنه مجتمع جاهلي لا علاقة له بالإسلام، مهما ادعى لنفسه صفة الإسلام!

وشيء آخر..

إن الفقه الإسلامي ليس منفصلا عن الشريعة الإسلامية. والشريعة الإسلامية ليست منفصلة عن العقيدة الإسلامية. والفقه والشريعة والعقيدة ونظام الحياة كل لا يتجزأ في التصور الإسلامي.. ومحال أن يكون هناك إسلام ولا مسلمون ولا مجتمع مسلم، إذا تمزق هذا الكل الموحد مزقا وأجزاء!

وفي أي نظام اجتماعي آخر ـ غير النظام الإسلامي ـ تكفي المعرفة بأصول التشريع وطرق الصناعة الفقهية ليصبح للرجل القدرة على وضع الأحكام القانونية.

أما في النظام الإسلامي فإن مجرد المعرفة بأصول الصناعة لا يكفي. فلابد من أمرين:

1. مزاولة العقيدة والمنهج في الحياة العامة للأمة.

2. مزاولة العقيدة والمنهج كذلك في الحياة الخاصة للمشرع!

وهذا ما يجب أن نعرفه، ونحذر من مخالفته ونحن نحاول ـ الآن ـ تنمية الفقه الإسلامي وتطويره. هذه المحاولات التي تبذلها جمهرة مخلصة من رجال الفقه والشريعة في شتى أنحاء الوطن الإسلامي ممن يريدون أو يشيرون بتنمية الفقه الإسلامي وتطويره، لمواجهة الأوضاع والأنظمة والمؤسسات والحاجات القائمة في المجتمعات الحاضرة.

إنهم ـ مع احترامي لهم، والتجاوب مع شعورهم المخلص ورغبتهم المشكورة، وتقديري للجهد الناصب الذي يبذلونه ـ يحاولون استنبات البذور في الهواء.. وإلا فأين هو "المجتمع الإسلامي"، الذي يستنبطون له أحكاما فقهية إسلامية يواجه بها مشكلاته؟

المجتمع الإسلامي هو الذي يتخذ المنهج الإسلامي كله منهجا لحياته كلها. ويحكم الإسلام كله في حياته كلها، ويتطلب عنده حلولا لمشكلاته، مستسلما ابتداء لأحكام الإسلام، ليست له خيرة بعد قضاء الله.

فأين هو هذا المجتمع اليوم؟ أين هو في أي زاوية من زوايا الأرض؟

إن كل حكم فقهي يوضع الآن لمواجهة مشكلة قائمة في المجتمعات التي ليست إسلامية، لن يكون هو الذي يصلح ويواجه الواقع في المجتمع الإسلامي، لأن هذه المشكلة ذاتها قد لا تقوم أصلا في المجتمع الإسلامي حين يقوم. وإذا قامت فلن تكون هي بحجمها وشكلها، ولن تكون طريقة المجتمع في مواجهتها ـ وهو إسلامي ـ هي طريقته في مواجهتها وهو غير إسلامي، ولأن عوامل شتى، وملابسات شتى، تجعل طبيعة المجتمع الإسلامي وطريقته في مواجهة الحياة والمشكلات غير طبيعة وطريقة المجتمعات غير الإسلامية.

هذه بديهية.. فيما أظن..

إن أبا بكر وعمر وعليا، وابن عمر وابن عباس، ومالكا وأبا حنيفة وأحمد بن حنبل والشافعي.. وأبا يوسف ومحمدا والقرافي والشاطبي.. وابن تيمية وابن قيم الجوزية والعز بن عبد السلام وأمثالهم "عليهم رضوان الله" كانوا ـ وهم يستنبطون الأحكام:

أولا: يعيشون في مجتمع إسلامي يحكم الإسلام وحده في شؤونه، ويتخذ الإسلام وحده منهجا لحياته ـ حتى مع بعض المخالفة الجزئية في بعض العصور ـ ويواجهون الحياة بهذا المنهج وبآثاره في نفوسهم.

ثانيا: يزاولون العقيدة الإسلامية والمنهج الإسلامي في حياتهم الخاصة، وفي إطار المجتمع الإسلامي الذي يعيشون فيه، ويتذوقون المشكلات ويبحثون عن حلولها بالحس الإسلامي..

ومن ثم كانوا مستوفين للشرطين الأساسيين لنشأة فقه إسلامي، وتطوره ليواجه الأحوال المتطورة، فوق استيفائهم طبعا لشروط الاجتهاد، والتي لا مجال هنا ولا داعي لبيانها لأنها بديهية!

فأما الآن.. فماذا؟؟

إنه لابد أن نحسب حساب عوامل كثيرة، تبعد نمو الفقه الإسلامي وتطوره الآن عن منهجه الأصيل.

لابد أن نحسب بعد الواقع العملي، والواقع النفسي والعقلي، والواقع الشعوري والاعتقادي، عن جو الإسلام والحياة الإسلامية.

ولابد أن نتذكر أن المشكلات التي تواجهها مجتمعاتنا ليست مشكلات مجتمع إسلامي، حتى نستنبط لها أحكاما فقهية إسلامية!

ولابد أن نحسب حساب الهزيمة العقلية والروحية أمام الحضارة الغربية، وأمام الأوضاع الواقعية.. والإسلام يواجه "الواقع" دائما. ولكن لا ليخضع له، بل ليخضعه لتصوراته هو، ومنهجه هو، وأحكامه هو، وليستبقي منه ما هو فطري وضروري من النمو الطبيعي، وليجتث منه ما هو طفيلي وما هو فضولي، وما هو مفسد.. ولو كان حجمه ما كان.. هكذا فعل يوم واجه جاهلية البشرية، وهكذا يفعل حين يواجه الجاهلية في أي زمان.

إن أولى بوادر الهزيمة هي اعتبار "الواقع" أيا كان حجمه هو الأصل الذي على شريعة الله أن تلاحقه! بينما الإسلام يعتبر أن منهج الله وشريعته هي الأصل الذي ينبغي أن يفيء الناس إليه، وأن يتعدل الواقع ليوافقه، وقد واجه الإسلام المجتمع الجاهلي ـ العالمي ـ يوم جاء، فعدله وفق منهجه الخاص، ثم دفع به إلى الأمام.

وموقف الإسلام لا يتغير اليوم حين يواجه المجتمع الجاهلي ـ العالمي ـ الحديث. إنه يعدله وفق منهجه، ثم يدفع به إلى الأمام.

وفرق بين الاعتبارين بعيد. فرق بين اعتبار "الواقع" الجاهلي هو الأصل، وبي اعتبار المنهج الرباني هو الأصل.

إنني أنكر وأستنكر استفتاء الإسلام اليوم في أية مشكلة من مشكلات هذه المجتمعات، احتراما للإسلام وجديته، وإلا فأي هزء واستخفاف أشد من أن تجئ لقاض تطلب حكمه، وأنت تخرج له لسانك، وتعلنه ابتداء أنك لا تعترف به قاضيا، ولا تعترف له بسلطان، وأنك لن تتقيد بحكمه إلا إذا وافق هواك! وإلا إذا أقرك على ما تهواه!

إن الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض كلها اليوم، لأن أحد لا يحكم الإسلام في حياته، ولا يتخذ المنهج الإسلامي منهجا لمجتمعه، ولأن أحد لا يحكم بشريعة الله وحدها، ولا يفرد الله سبحانه بالألوهية وخصائصها، ولا يجعل الكلمة الأولى والأخيرة في شؤون الحياة كلها لله ولشريعة الله.

والذين يستفتون ـ بحسن نية أو بسوء نية ـ هازلون! والذين يردون على هذه الاستفتاءات ـ بحسن نية أو بسوء نية ـ والذين يتحدثون عن مكان أي وضع من أوضاع البشرية الحاضرة من الإسلام ونظامه، أشد هزلا، وإن كنت أعلم عن الكثيرين منهم أنهم لا يعنون الهزل ولا يستسيغونه ـ لو فطنوا إليه في شأن الإسلام! إنما يستفتي الإسلام في الأمر حين يكون الإسلام وحده في منهج الحياة. ذلك عند قيام المجتمع الإسلامي. المجتمع الذي يتخذ الإسلام شريعته ولا تكون له شريعة سواه ـ عندما يأذن الله ويشاء) أ.هـ من كلام أ. سيد قطب

• ملاحظات وتعقيبات :

هذا ما انتهى إليه اجتهاد الشهيد سيد قطب رحمه الله في هذه القضية.

ويبدو لي في هذا التفكير أو هذا الاجتهاد المخلص بعض الملاحظات التي تخالف وجهة النظر هذه.

• ليس مجتمعنا كالمجتمع الجاهلي في مكة :

أولى هذه الملاحظات وأهمها :

أن المجتمع الذي نعيش فيه الآن ليس شبيها بمجتمع مكة الذي واجهه النبي صلى الله عليه وسلم حين نشأة الدعوة الإسلامية الأولى.

ذلك كان مجتمعا جاهليا صرفا، أعني مجتمعا وثنيا كافرا، لا يؤمن بـ "لا إله إلا الله" ولا بأن "محمدا رسول الله" يقول عن القرآن: سحر وافتراء وأساطير الأولين.

أما مجتمعنا القائم في بلاد المسلمين، فهو مجتمع خليط من الإسلام والجاهلية، فيه عناصر إسلامية أصيلة، وعناصر جاهلية دخيلة.

فيه أناس مرتدون صراحة من دعاة الشيوعية والعلمانية اللادينية، وهم فئة قليلة من الحكام ورجال الأحزاب العقائدية ونحوهم، فلهم حكم المرتدين.

وفيه منافقون يتظاهرون أمام الشعب بالإسلام، وباطنهم خراب من الإيمان، فلهم حكم المنافقين.

وفيه ـ عدا هؤلاء وأولئك ـ جماهير غفيرة ـ تكون أكثرية الأمة الساحقة، ملتزمة بالإسلام، وجل أفرادها متدينون تدينا فرديا، يؤدون الشعائر المفروضة، وقد يقصرون في بعضها، وقد يرتكب بعضهم المعاصي، ولكنهم في الجملة ـ يخافون الله تعالى، ويحبون التوبة، ويتأثرون بالموعظة، ويحترمون القرآن ويحبون الرسول، إلى غير ذلك، مما يدل على صحة أصول العقيدة لديهم.

ولهذا يكون من الإسراف والمجازفة الحكم على هؤلاء جميعا بأنهم جاهليون كأهل مكة الذين واجههم النبي صلى الله عليه وسلم في فجر دعوة الإسلام، وأن واجبنا ألا نعرض عليهم إلا العقيدة، والعقيدة وحدها، حتى يشهدوا أن "لا إله إلا الله" بمدلولها الحقيقي، وألا نستجيب لاستفتاءاتهم في شأن من شئون المجتمع الإسلامي.

فالواقع كما قلنا أن هؤلاء غير مجتمع مكة المشرك، فكثير منهم يصلون ويصومون، ويزكون ويحجون، وكثير ممن قصر في هذه الفرائض لا ينكرها، ولا يستخف لها، وهي أركان الإسلام ومبانيه.

فهل كان مجتمع مكة يلتزم شيئا من هذه الأركان؟!

ثم هم يتزوجون ويطلقون، ويرثون ويورثون، ويوصون، على مقتضى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ولازال في بعض البلاد من يقيمون الحدود الشرعية من الجلد والقطع والقتل ونحوها، ولازالت القاعدة العريضة في البلاد الأخرى تطالب الحكومات بإقامتها وتطبيق شرع الله تعالى.

فهل يا ترى إذا استفتى هؤلاء في شأن من شئون الإسلام التي يمارسونها بالفعل ألا نفتيهم ونبين لهم؟

إنهم يسألون في كل صغيرة وكبيرة تتعلق بشئون العبادات، وما يسمى بـ "الأحوال الشخصية" ومن واجبنا أن نبين لهم ولا نكتم عنهم علما نافعا فيلجمنا الله بلجام من نار يوم القيامة.

وهم يسألون أيضا عما يعرض لهم في حياتهم الشخصية والاجتماعية، فهم مسوقون إلى أن يتعاملوا مع البنوك، وأن يؤمنوا على المتاجر والمعامل والممتلكات، ويسألون عن حكم الشرع في ذلك كله.

هل نصم آذاننا عن هؤلاء المسلمين، حتى لو سألونا عن الصلاة والزكاة والصيام؟

أم نجيبهم عن أحكام العبادات وما يتعلق بها، ولا نجيبهم عن أحكام المعاملات؟

مع أن الشهيد سيد قطب رحمه الله في بعض ما كتبه في "الظلال" وفي "خصائص التصور" لا يقر هذه التفرقة بين ما سمي "العبادات" وما سمي "المعاملات" ويرى أن القرآن يسوق الجميع في نسق واحد، ولا يفرق بين هذه وتلك.

• المتأثرون بالغزو الفكري جهال لا كفار :

على أن من المسلمين من أفسد الجهل والغزو الثقافي فكره، فأصبح يعتقد أن الإسلام ـ كبعض الديانات الأخرى ـ عقيدة وعبادة وخلق، ولا شأن له بالدولة ولا بنظام الحياة.

وبعضهم يحسب أن ما جاء به الإسلام في النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي أشياء قليلة لا تبلغ أن تكون نظاما يوجه الحياة.

وبعضهم يظن أن ما جاء به الإسلام في هذه النواحي وما أشبهها لا يصلح لعصرنا اليوم.

وبعضهم يقول: لا يمكن تطبيقه في هذا العصر.

ومعظم هؤلاء في نظري جهال، يجب أن يتعلموا، لا مرتدون يجب أن يقتلوا!

معظم هؤلاء لم ينكر حق الله في أن يشرع لعباده ما يشاء ويلزمهم بما يريد، ولكنهم يظنون أنه منحهم حرية الاختيار فيما يحكمون به أنفسهم في بعض شئون الحياة.

وهذا إنما جاء من الجهل بحقيقة دينهم وشموله.

وبعضهم قامت في ذهنه شبهات بلبلت فكره، ولم يكن عنده حصانة ثقافية ترد عنه أثر هذه الشبهات.

وواجب دعاة الإسلام أن يرشدوا هؤلاء وأولئك إلى الصراط المستقيم، ويعلموهم دينهم الذي لازالوا يلتزمونه، ويعتقدون أنهم مقيمون عليه.

وطرائق التعليم تختلف باختلاف درجات ثقافة الأشخاص ونوعها، ومن هذه الطرق:

عرض النظام الإسلامي لشتى جوانب الحياة، وبيان مزاياه على سائر الأنظمة البشرية، وكيف تقدم الشريعة الإسلامية حلولا مدهشة لا تتطاول إليها أعناق البشر لمختلف مشكلات الحياة.

إن كثيرين من "عبيد الفكر الغربي" لا يشكون في عقيدة الإسلام، بل في نظامه للحياة، وكثيرون منهم ربما شكوا في العقيدة، بناء على شكهم في النظام.

فالواقع أن الغزو الفكري الماكر، حين بدأ عمله لم يبدأ بالتشكيك في العقيدة، فهذا مما ينفر منه كل مسلم، لوضوح العقيدة الإسلامية وانسجامها وبساطتها ومنطقيتها ـ وإنما بدأ بالتشكيك في أنظمة الإسلام وتشريعاته، فانتهى التشكيك في النظام إلى الشك في العقيدة ذاتها، وهذا أمر حتمي، لأنه فرع عنها، وثمرة لها.

لهذا كان من المناسب ومن النافع العمل على إزالة الشبهات عن النظام، وبيان خصائصه ومزاياه وآثاره ليعود إلى الشاكين والمرتابين إيمانهم بالنظام الذي أدت زلزلته إلى زلزلة العقيدة، فقوة الإيمان به تقضي إلى قوة العقيدة.

ومن أجل هذا نرى كثيرين من رجال القانون والاقتصاد والاجتماع الذين شكوا في صلاحية الإسلام كله يوما ما، حين أتيحت لهم دراسة نظمه دراسة واعية، زالت شبهاتهم، وانحلت عقدهم، وعادوا بقوة إلى حظيرة الإسلام، بل أصبحوا من دعاته وأنصاره.

والنظرة إلى المجتمع الحالي في بلاد المسلمين على أنه مجتمع جاهلي صرف كمجتمع مكة في بدء الدعوة الإسلامية، هي السر الكامن وراء هذا التشدد الظاهر في رفض كل محاولة لعرض نظام الإسلام، وتقديم حلول من فقهه لمشكلات الحياة العصرية.

• انفراد الشهيد سيد قطب بهذا الرأي :

والذي يستقرئ آراء الدعاة الإسلاميين في هذا العصر من عهد محمد عبده إلى رشيد رضا، إلى حسن البنا، إلى من بعدهم في البلاد العربية، وآراء إخوانهم في البلاد الإسلامية الأخرى مثل المودودي وغيره، يجد أن هذا الرأي مما انفرد به سيد قطب رحمه الله، كما تشهد بذلك آثارهم جميعا. وسنعرض لشيء من ذلك في آخر هذا الفصل ] أ.هـ [1]

----------
هوامش :
[1] : انظر كتاب " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " ص 249 - 282 ، ط 3 ، دار القلم ، الكويت ، 1999م ، وكتاب " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط" ص 101 -130 ، ط دار القلم ، الكويت / 1994م ، كلاهما للإمام يوسف القرضاوي

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب
https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/10553438_1134384063252502_6216212649207281141_n.png?oh=64c865d01ab5481bda0ef98c6bfbf337&oe=584E07F5

ملف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 9 ] : الاجتهاد المعاصر (2 من 3)

• مناقضة رأي الشهيد عودة للشهيد قطب :

[ والشهيد المرحوم عبد القادر عودة ينظر إلى المجتمع الحالي في بلاد المسلمين نظرة تخالف نظرة الشهيد المرحوم سيد قطب مخالفة جذرية، ويرى أن إهماله لتحكيم الشريعة في بعض شئون الحياة لم يكن تحديا لسلطان الله، وإنما جاء نتيجة الجهل أو النفوذ الأجنبي وما شابه ذلك.

يقول الشهيد الفقيه ـ رحمه الله ـ في مقدمة رسالته القيمة المركزة: "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه":

"إنني لأعتقد أننا لم نترك أحكام الشريعة الإسلامية إلا لجهلنا بها، وقعود علمائنا أو عجزهم عن تعريفنا بها".

ثم يقول:

"ولقد رأيت أن خير ما يخدم به المسلم أخاه أن يبصره بأحكام الشريعة الإسلامية، وأن يبين له ما خفي عليه منها".

ويشرح علة نقل القوانين الأوروبية للبلاد الإسلامية، شرح العارف المطلع، فيقول:

"قد يظن البعض أن ولاة الأمور في البلاد الإسلامية نقلوا لها القوانين الأوروبية لأنهم لم يجدوا في الشريعة غناء، وهذا ظن خاطئ أساسه الجهل الفاضح بالشريعة، فإن في الشريعة الإسلامية، وفي الفقه الإسلامي من المبادئ والنظريات والأحكام ما لو جمع في مجموعات لكان مثلا أعلى في المجموعات التشريعية، وأعتقد أنه لو وضعت هذه المجموعات الإسلامية لنقلت البلاد غير الإسلامية أحكامها قبل جيل واحد، وأهملت ما لديها من مجموعات تعتز بها".

"والعلة الحقيقية في نقل القوانين الأوروبية للبلاد الإسلامية هي الاستعمار، والنفوذ الأوروبي، وقعود علماء المسلمين، فبعض هذه البلاد الإسلامية أدخلت لها القوانين الأوروبية بقوة المستعمر وسلطانه، كالهند وشمال أفريقيا، وبعض البلاد الإسلامية دخلتها القوانين الأوربية بضعفها وقوة النفوذ الأجنبي فيها من ناحية، ومحاولة حكامها تقليد البلاد الأوروبية من ناحية أخرى، ومن هذا القسم مصر وتركيا".

"ومن الثابت تاريخيا أن القوانين الأوروبية نقلت إلى مصر في عهد الخديوي إسماعيل. وأنه كان يود أن يضع لمصر مجموعات تشريعية مأخوذة من الشريعة ومذاهب الفقه الإسلامي المختلفة، وقد طلب من علماء الأزهر أن يضعوا هذه المجاميع، ولكنهم رفضوا إجابة طلبه، لأن التعصب المذهبي منعهم من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجمل صورها، فضحوا بالشريعة جميعها، واحتفظ كل بمذهبه والتعصب له، وأضاعوا على العالم الإسلامي فرصة طالما بكوا على ضياعها، وحق لهم أن يبكوا عليها حتى تعود!". [1]

"وأحب أن أنبه إلى أن بعض البلاد الإسلامية التي أخذت مختارة إلى حد ما بالقوانين الأوروبية لم تكن مقصودة إطلاقا مخالفة الشريعة الإسلامية، وليس أدل على ذلك من أن قانون العقوبات المصري الصادر في سنة 1883م نص في المادة الأولى منه على أن "من خصائص الحكومة أن تعاقب على الجرائم التي تقع على أفراد الناس بسبب ما يترتب عليها من تكدير الراحة العمومية وكذلك الجرائم التي تحصل ضد الحكومة مباشرة، وبناء على ذلك فقد تعينت في هذا القانون درجات العقوبة التي لأولياء الأمر شرعا تقديرها. وهذا بدون إخلال في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص بمقتضى الشريعة الغراء" وهذا النص مأخوذ من القانون التركي الصادر في 5/6/1853م وكذلك أستطيع أن أقول بحسب اعتقادي:

إن أولي الأمر في معظم البلاد الإسلامية لم يخطر على بالهم أن يخالفوا الشريعة لا قديما ولا حديثا، ولكن القوانين جاءت مخالفة للشريعة بالرغم من ذلك، وبالرغم من حرص بعضهم على منع التحالف، ولعل السر في ذلك هو أن واضعي القوانين إما أوروبيون ليس لهم صلة بالشريعة أو مسلمون درسوا القوانين ولم يدرسوا الشريعة".[2]

ثم يبين أثر إدخال هذه القوانين من الوجهة الفكرية والثقافية فيقول:

"ترتب على إدخال القوانين الأوروبية في البلاد الإسلامية أن أنشئت في تلك البلاد محاكم خاصة لتطبيق هذه القوانين، وعين لهذه المحاكم قضاة أوربيون، أو قضاة وطنيون درسوا هذه القوانين، ولم يدرسوا الشريعة، وقد اعتبرت المحاكم الجديدة نفسها مختصة بكل شيء تقريبا، فترتب على ذلك تعطيل الشريعة تعطيلا عمليا، لأن المحاكم الجديدة لا تطبق إلا قوانينها".

"كذلك أنشأت السلطة القائمة على التعليم مدارس خاصة لتدريس القوانين، وقد جرت هذه المدارس على الاهتمام بدراسة القوانين، وإهمال الشريعة إلا في مسائل قليلة كالوقف، فأدى ذلك إلى نتيجة مخزية، إذ أصبح كل رجال القانون تقريبا ـ وهم من صفوة المثقفين ـ يجهلون كل الجهل أحكام الشريعة الإسلامية واتجاهاتها العامة. أي أنهم يجهلون بكل أسف أحكام الإسلام وهو الدين الذي تتدين به الدول الإسلامية".

"ولقد أدى الجهل بالشريعة إلى تفسير النصوص القليلة المأخوذة عن الشريعة تفسيرا يتفق مع القوانين الوضعية ويختلف عن الشريعة في بعض الأحوال، ومن ذلك أن قانون العقوبات المصري ينص على أن أحكام قانون العقوبات لا خل في أي حال من الأحوال بالحقوق المقررة لكل شخص في الشريعة الإسلامية، وبالرغم من قيام هذا النص الصريح فإن الشراح المصريين لم يدرسوا هذه الحقوق كما هي موجودة في الشريعة، واكتفوا بأن يدرسوا من الحقوق ما يقره القانون الفرنسي، وأن يدرسوه على طريقة الشراح الفرنسيين، وأن يعللوه بقواعد القانون، كما علله الفرنسيون، ولقد اندفع الشراح المصريون في هذا الطريق تحت تأثير عاملين:

أولهما: أنهم لا يدرسون الشريعة ولا يعرفون شيئا من أحكامها واتجاهاتها.

وثانيهما: أنهم يقيدون أنفسهم بآراء واتجاهات الشراح الأوروبيين عامة والفرنسيين خاصة، فلا يبيحون إلا ما أباحوا ولا يحرمون إلا ما حرموا، والشراح الأوربيون لا يعرفون بطبيعة الحال شيئا عن الشريعة الإسلامية.[3]

ثم يتحدث عن أصناف المسلمين بالنظر إلى عملهم بالشريعة فيقسمهم إلى ثلاث طوائف.

1. غير المثقفين.

2. والمثقفون ثقافة أوروبية.

3. والمثقفون ثقافة إسلامية.

والذي يعنينا هنا حديثه عن الطائفة الثانية إذ يقول:

"تضم هذه الطائفة معظم المثقفين في البلاد الإسلامية وأكثرهم متوسطو الثقافة، ولكن الكثيرين منهم مثقفون ثقافة عالية، ومن هذه الطائفة: القضاة، والمحامون، والأطباء، والمهندسون، والأدباء، ورجال التعليم، والإدارة، والسياسة.

وقد تثقفت هذه الطائفة على الطريقة الأوروبية.

ولهذا فهم لا يعرفون عن الشريعة الإسلامية إلا ما يعرفه المسلم العادي بحكم البيئة والوسط، وأغلبهم يعرف عن عبادات اليونان والرومان، وعن القوانين والأنظمة الأوروبية أكثر مما يعرف عن الإسلام والشريعة الإسلامية.

"ومن هذه الطائفة أشخاص يعدون على الأصابع في كل بلد لهم دراسات خاصة في فرع من فروع الشريعة، أو في مسألة من مسائلها،ولكنها دراسة محددة ويغلب أن تكون دراسات سطحية، وقل أن تجد في هؤلاء من يفهم روح الشريعة الإسلامية على حقيقتها أو يلم إلماما صحيحا باتجاهات الشريعة والأسس التي تقوم عليها".

"وهؤلاء المثقفون ثقافة أوروبية، والذين يجهلون الإسلام والشريعة الإسلامية إلى هذا الحد، هم الذين يسيطرون على الأمة الإسلامية، ويوجهونها في مشارق الأرض ومغاربها، وهم الذين يمثلون الإسلام والأمم الإسلامية في المجامع الدولية".

"ومن الإنصاف لهؤلاء أن نقول إن أغلبهم على جهلهم بالشريعة الإسلامية متدينون، يؤمنون إيمانا عميقا ويؤدون عبادتهم بقدر ما يعلمون وهم على استعداد طيب لتعلم ما لا يعلمون ولكنهم لا يطيقون أن يرجعوا بأنفسهم إلى كتب الشريعة للإلمام بما يجهلون، لأنهم لم يتعودوا قراءتها، ولأن البحث في كتب الشريعة غير ميسر، إلا لمن مرن على قراءتها طويلا، فهي مؤلفة على الطريقة التي كان المؤلفون يؤلفون عليها من ألف عام، وليست مبوبة تبويبا يسهل الانتفاع بها، وليس من السهل على من يحب الاطلاع على مسألة بعينها أن يعثر على حكمها في الحال، بل عليه أن يقرأ بابا وأبوابا حتى يعثر على ما يريد، وقد ييأس الباحث من العثور على ما يريد ثم يوفقه الله فيعثر عليه مصادفة في مكان لم يتوقع أن يجده فيه، وقد يقرأ الباحث في الكتب الشرعية، فلا يصل إلى المعنى الحقيقي لجهله بالاصطلاحات الشرعية والمبادئ الأصولية التي تقوم عليها المذاهب الفقهية، وإني لأعرف كثيرين حاولوا جادين أن يدرسوا الشريعة فعجزوا عن فهمها وتشتت ذهنهم، وضاع عزمهم بين المتون والشروح والحواشي، ولو أن هؤلاء وجدوا كتبا في الشريعة مكتوبة على الطريقة الحديثة لاستطاعوا أن يدرسوا الشريعة الإسلامية، ولأفادوا واستفادوا".

"ولطائفة المثقفين ثقافة أوروبية ادعاءات غريبة عن الشريعة، بل هي ادعاءات مضحكة. فبعضهم يدعون أن الإسلام لا علاقة له بالحكم والدولة، وبعضهم يرى الإسلام دينا ودولة، ولكنهم يدعون أن الشريعة لا تصلح للعصر الحاضر فيما يتعلق بأحكام الدنيا، وبعضهم يرى أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر، ولكنهم يدعون أن بعض أحكامها مؤقت لا يطبق اليوم، وبعضهم يرى أن الشريعة تصلح للعصر الحاضر، وأن أحكامها دائمة ولكنهم يدعون أن بعض أحكامها لا يستطيع تطبيقه، خشية إغضاب الدول الأجنبية، وبعضهم يدعي أن الفقه الإسلامي يرجع إلى آراء الفقهاء أكثر مما يرجع إلى القرآن والسنة".

"والواقع أن هذه الادعاءات جميعا ترجع إلى عاملين:

وأولهما: الجهل بالشريعة.

وثانيهما: تأثرهم بالثقافة الأوروبية، ومحاولتهم تطبيق معلوماتهم عن القوانين الوضعية على الشريعة الإسلامية، ولا أدل على سقوط هذه الادعاءات من تناقض أصحابها، فما يدعيه البعض ينقضه البعض الآخر، وما يقيمه بعضهم يهدمه البعض الآخر".[4]

ويعرض الشهيد الفقيه عبد القادر عودة ـ رحمه الله ـ لجيل المثقفين ثقافة إسلامية وطريقتهم في عرض الدعوة إلى الإسلام، فيقول:

"ويسلك هذا الجيل في دعوته للإسلام وإقامة شرائعه وشعائره طرقا قد تجدي في إقناع الأميين وتعليمهم، ولكنها لا تجدي في إقناع المثقفين ثقافة أوروبية، وهم المسيطرون على الحياة العامة، وبيدهم الحكم والسلطان في بلاد الإسلام، وكان من الأولى أن يبذل علماء الإسلام جهدا في إقناع هذا الفريق وتعليمه ما يجهل من أحكام الإسلام فلو عرف هؤلاء الإسلام على حقيقته لكانوا خير السفراء والدعاة للإسلام".

"أحب من علماء الإسلام أن يبينوا للمثقفين ثقافة أوروبية في كل ظرف وفي كل يوم مدى مخالفة القوانين الأوروبية للإسلام وحكم الإسلام، فيمن يطبق هذه القوانين وينفذها، فما المثقفون ثقافة أوروبية إلا مسلمون يجهلون حقائق الإسلام، ولكنهم مع ذلك على استعداد حسن لتعلم ما يجهلون من الإسلام".

"وأحب من علماء الإسلام أن يمكنوا للمثقفين ثقافة أوروبية من دراسة الشريعة والاطلاع على مبادئها ونظرياتها ومدى تفوقها على القوانين الوضعية ويستطيع علماء الإسلام أن يصلوا لهذا إما بتأليف لجان من رجال المذاهب المختلفة، فتقوم كل لجنة بجمع الكتب المهمة في كل مذهب، وتصنع منها جميعا كتابا واحدا في لغة عصرية، وفي تنظيم وفهرسة عصرية، وإما بتأليف كتب في لغة ونظام عصري، تعرض مواد التشريع الإسلامي عرضا شائقا مع مقارنة مختلف المذاهب الإسلامية، فكتاب في البيع، وآخر في الإيجار، وثالث في الشركات، ورابع في الإفلاس، وهكذا..".[5]

هذا ما كتبه الشهيد الفقيه عبد القادر عودة وهو مخالف تماما لما كتبه الشهيد الأديب سيد قطب وقد تبين بهذا البيان الهادئ أنه ليس من الهزل في شيء، ولا من عدم الجدية، ولا من مجانية الواقعية أن يعرض على هذه الفئات من الناس نظام الإسلام وشريعة الإسلام، واجتهادات علمائها، عرضا ملائما، يحبب إليهم رسالة الإسلام، ويرد عنها المفتريات، ويزيل من أذهانهم الشبهات.

الحقيقة التي نؤكدها أن جل هؤلاء الناس لا ينكرون حكم الله، ولكنهم يجهلونه.

وقد طال بهم الجهل وتوارثوه، لقوة الغزو الأجنبي الفكري، وطول مدته، وعدم قيام دفاع مضاد من الجبهة الإسلامية لتحصين هؤلاء قبل وقوعهم في الخطر، أو لإنقاذهم بعد وقوعهم فيه، وذلك لضعف إمكانات تلك الجبهة، وتمزقها، وعجزها، وتسلط القوى الأخرى عليها، حتى شغلتها بالتافه عن العظيم، وبالدنيا عن الدين، إلا من عصم ربك منه.

فإذا كنا واقعيين حقا، وكنا جادين حقا، فعلينا أن نعرف من أين أتى هؤلاء، وما أتوا إلا من الجهل بشريعة الإسلام، ومحاسن نظام الإسلام، وما يمتاز به من شمول وتوازن، وجمع بين الواقعية والمثالية، والروحية والمادية، والفردية والجماعية، في التئام واتساق، واعتقادهم في نظم الحياة الغربية وقوانينها حيث لم يعرفوا غيرها.

فإذا بينا قصور النظم الغربية، وكمال النظم الإسلامية، وقدرة الاجتهاد الإسلامي على حل مشكلات العصر، فقد أنقذناهم من اعتقاد خاطئ، وفهم قاصر، وربما تمادى بهم إلى الكفر ـ والعياذ بالله ـ وقد رأينا كثيرا من هؤلاء فعلا يعودون إلى الإيمان بحقية الإسلام، ووجوب تحكيمه في كل شئون الحياة والمجتمع، بعد أن أتيح له دراسة بعض جوانب من نظامه وتشريعاته، فعاد إلى اليقين بعظمة هذا النظام الإلهي وكماله وسموه على كل ما وضع البشر لأنفسهم.

الواقعية التي تحكم بها الفطرة هنا هي إصلاح عقيدة هؤلاء عن طريق عرض النظام الإسلامي عرضا يحبب إليهم هذا الدين.

وليس من الواقعية الحقيقية أن نعرض على هؤلاء "لا إله إلا الله" وهم يعلنونها ويؤمنون بها، ويقاتلون من أنكرها.

ليس من الواقعية أن نحرمهم ونحرم أنفسنا من تطوير الفقه الإسلامي وتنميته بحجة أن المجتمع الإسلامي غير موجود، فهذا ضرب من العنف والتعسير على أنفسنا وعلى الناس، وقد جاء في الحديث: "إنما بعثتم ميسرين، ولم تبعثوا معسرين"، "يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا"، "إن الله يحب الرفق في الأمر كله ] أ.هـ [6]

----------
هوامش :
[1]شكك المستشار طارق البشري في هذه الواقعة وبين سبب ذلك في بعض ما كتبه عن التشريع الإسلامي في مصر
[2] انظر كتاب " الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه" للأستاذ عبد القادر عودة ص 26 - 28
[3] المصدر السابق ، ص 28 - 30
[4] المصدر السابق ، ص 39 - 40
[5] المصدر السابق ، ص 65 - 66
[6] انظر كتاب " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " ص 249 - 282 ، ط 3 ، دار القلم ، الكويت ، 1999م ، وكتاب " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط" ص 101 -130 ، ط دار القلم ، الكويت / 1994م ، كلاهما للإمام يوسف القرضاوي

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب
https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/12203_1134384433252465_9223156335315140002_n.png?oh=4be045f230350baa4d41787b0d99a053&oe=58515F97
ملف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 10 ] : الاجتهاد المعاصر (3 من 3)

موقفنا من الفقه الإسلامي :

[ وأما قول الشهيد سيد قطب رحمه الله: أننا لن نتقيد في إنشاء المجتمع الإسلامي المنشود بالفقه الإسلامي ـ وإن كنا نستأنس به ـ وإنما نتقيد فقط بالشريعة الإسلامية والمنهج الإسلامي، لأن الفقه فصل لزمن آخر وبيئة أخرى، فهو قول ـ وإن كان صحيحا في جملته ـ يحتاج إلى إيضاح وتقييد، فليس هناك شيء مستقل منفصل اسمه "الشريعة الإسلامية" وإنما نجد الشريعة الإسلامية داخل "الفقه الإسلامي".

فالفقه الإسلامي يحوي أحكاما وقواعد مقطوعا بها، مجمعا عليها، مستمدة من نصوص الكتاب والسنة، واستقراء ما جاء فيهما من جزئيات الأحكام، وهذا القسم هو الجزء المقطوع به من "الشريعة الإسلامية" أي مقطوع بأنه بعينه من الشريعة.

وهناك أحكام مختلف فيها وإن كان أصلها النص، للاختلاف في ثبوتها أو في دلالتها، أو فيهما معا، فهي ظنية وليست قطعية، وأحكام أخرى اجتهادية وليست نصية، وهي داخلة فيما اختلف فيه، وليست مما أجمع عليه، فهذه هي أحكام "الفقه الإسلامي" ومعظم الأحكام من هذا القسم الأخير. وهي ليست غريبة عن الشريعة ولا دخيلة عليها، بل هي منبثقة عن الشريعة في جملتها ومجموعها لا في جميعها ولا في تفصيلاتها.

وهذا القسم الظني الاجتهادي المختلف فيه لا يجوز إطراحه وإهماله، لأنه ناشئ عن اجتهاد، وإنما يجب أن ندرسه دراسة الموازنة لنتخير أقرب الآراء فيه إلى مقاصد الشريعة ونصوصها وروحها، فيكون ما نختاره هو الشريعة الواجب اتباعها في حقنا.

ولو أهملنا كل الفقه لأنه فقه، لترتب على ذلك إهمال ما نسميه "الشريعة" نفسها، لأنها لا توجد إلا داخله.

وهل يسع مفسرا للقرآن الكريم في عصرنا أن يتعرض لتفسيره دون أن يراجع أقوال مفسري السلف وغيرهم؟

إن الذي يفعل ذلك يضل ويتيه.

وهل يسع شارحا لصحيح البخاري أو مسلم أو غيرهما من كتب السنة أن يعرض لشرحهما دون أن يرجع إلى أقوال الشراح القدامى من علماء الأمة؟

ومثل ذلك الذي يتعرض لفهم نصوص الشريعة وتفسيرها، كآيات الأحكام، وأحاديث الأحكام، هل يريد أن يفهمها ويفسرها وحده، أم يرجع إلى ما قاله الأئمة فيها ويتخير منها؟ وقد يؤتيه الله فهما جديدا في بعضها فواجبه أن يقدمه للناس.

ثم إن النظريات والفروع والمسائل والصور والشروح والتعليلات التي قام بها الفقهاء بتقديمها على توالي العصور ليست شيئا هينا يتصور الاستغناء عنه بسهولة، وليست كلها مما "فصل" على "قد" زمن معين، وبيئة معينة، ولم يعد يصلح لعصرنا. فمعظم هذه الثروة الفقهية الضخمة ـ التي اعترف الأستاذ سيد قطب بقيمتها نظريا ـ صالح للتطبيق في زمننا وبيئتنا، والقليل منها هو الذي كان نتيجة بيئته وعصره.

لقد كتبت في "فقه الزكاة" مجلدين كبيرين، فهل كان يسعني أن أعرض عن الثروة الفقهية في شأن الزكاة؟ وأبدأ من جديد؟ معتمدا على النصوص الواردة في الموضوع فقط؟

إني موقن أني لو فعلت ذلك، لحجرت على نفسي واسعا، وسددت عليها بابا من الفهم لا مسوغ لسده وإغلاقه، ولحرمت نفسي من كنوز قيمة من الأفكار والاجتهادات التي احتواها الفقه الإسلامي، لو سرت في الطريق وحدي، كأن لم يسبقني أحد.

ولعلي لو فعلت ذلك لجئت بآراء مبتسرة لا يقبلها أحد، وربما خالفت الإجماع المتيقن في المسائل الإجماعية، وهكذا..

إني أحسب أن الشهيد سيد قطبـ رحمه الله ـ لو أتيح له دراسة الفقه الإسلامي والعيش في كتبه ومراجعه زمنا، لغير رأيه هذا، فقد كان ـ فيما أعلم ـ رجاعا إلى الحق، ولكن تخصصه ولون ثقافته لم يتح له هذه الفرصة، وبخاصة أن مراجع الفقه بطريقتها وأسلوبها لا تلائم ذوقه الفني الرفيع ـ وقد حدثنا الشهيد عبد القادر عودة عما عاناه في فهم الكتب الفقهية حتى لان له جانبها، وسكن له قيادها.

وفي الكويت الآن إدارة خاصة وجهد كبير مبذول لعمل "موسوعة للفقه الإسلامي" يرجى أن تكتب بأسلوب العصر، وأن ترتب ترتيب العصر، تقوم عليها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية، للدعاة إلى الإسلام دور ملحوظ في تبني هذا المشروع وتأييده.

وفي مصر أيضا أكثر من محاولة لهذا الأمر.

والذي بدأ بهذا الأمر وحركه وتبناه من قبل هو المرحوم الفقيه الداعية الدكتور مصطفى السباعي حين كان عميدا لكلية الشريعة في دمشق، ومعه إخوانه من العلماء والدعاة الغيورين.

فهل يعد هذا جهدا ضائعا، أو لا قيمة له؟

إني أعتقد أن كل هذا يساعدنا على هدفنا في إقامة المجتمع المسلم، ويذلل كثيرا من العقبات في طريقنا إلى الغاية المرجوة.

اشتراط مزاولة العقيدة والمنهج في الحياة العامة لصحة الاجتهاد :

بقي الشرطان اللذان اشترطهما الأستاذ سيد قطب لكل مجتهد في بيان أحكام الشريعة ـ بالإضافة إلى الشروط العملية المعروفة ـ وهما:

1. مزاولة العقيدة والمنهج في الحياة العامة.

2. مزاولة العقيدة والمنهج في الحياة الخاصة للمشرع.

أما الشرط الثاني فهو مسلم في جملته، وهو شرط الإسلام والعدالة وقد تحدث عنهما الأصوليون في "شروط المجتهد" وفي العدالة تفصيل معروف.

وأما الشرط الأول، فلا أعلم سندا له، ولا أعرف أحدا قال به. ولا أجد ـ من الناحية الواقعية التي يشيد بها الأستاذ ـ مانعا يحول بين الفقيه المسلم وبين الاجتهاد السليم لبيان رأي الشرع الإسلامي ـ فيما يرى المجتهد ـ في بعض ما يمارسه المجتمع اليوم من أحوال اقتصادية واجتماعية وسياسية، وإن كان المجتمع الإسلامي المنشود غير قائم.

ماذا يمنع الفقيه المسلم أن يجتهد لبيان الحكم الشرعي ـ على سبيل المثال ـ في أسس العلاقات الدولية بين الدولة الإسلامية وغيرها، على ضوء الظروف الدولية في هذا العصر، كما فعل الأساتذة: رشيد رضا في "المنار"، وشلتوت في "القرآن والقتال"، وحسن البنا في "السلام ومشروعية القتال في الإسلام" في مجلة الشهاب المصرية الشهرية، وأبو زهرة في "الإسلام والعلاقات الدولية"، ود.محمد عبدالله دراز في "مبادئ القانون الدولي في الإسلام" ود. مصطفى السباعي في "السلم والحرب في الإسلام"، والغزالي في "الإسلام والاستبداد السياسي".

ماذا يمنع الفقيه المسلم أن يجتهد لبيان الحكم في زكاة الأموال والدخول المستحدثة في عصرنا، كالعمارات السكنية الاستغلالية والمصانع وغيرها من "المستغلات" وفي زكاة الرواتب وكسب العمل والمهن الحرة ونحوها؟ وهذه أمور توجد في مجتمعنا اليوم، وستوجد في المجتمع المسلم المنتظر أيضا؟

وهنا أيضا أمر له أهميته. فكثير من المسائل والمشكلات الجديدة ليست وليدة المجتمع الجاهلي، بل هي وليدة التطور الاجتماعي والتقدم التكنولوجي الحديث، وهي نتاج الحياة التي تغيرت أساليبها وتغير وجهها إلى حد بعيد، فهي مشكلات المجتمع الحديث، سواء كان إسلاميا أم جاهليا، وهي إذن تتطلب من الإسلام أن يقدم لها حلا وعلاجا، وهو قادر على ذلك إذا وجد الفقهاء الأصلاء الذين يحكمون الإسلام في الواقع، ولا يحكمون الواقع في الإسلام.

وتصور أن كل الذين يكتبون في هذا الجانب مصابون بالهزيمة الروحية الداخلية أمام الأنظمة البشرية الصغيرة ـ تصور فيه كثير من الغلو والتشاؤم. فلازال في مجتمعنا من يكتب بتجرد وإخلاص وأمانة. واختلاف الكاتبين ما بين موسع ومضيق، ومرخص ومتشدد اختلاف طبيعي، كالذي كان بين ابن عمر وابن عباس، وسيظل قائما في الناس، فقد فطر الله الناس مختلفين، والجميع لا يضيق بهم شرع الإسلام الرحب الفسيح.

وإذا وجد في الناس من هو مهزوم روحيا حقيقة فلا ضير، فرأى الفرد ليس شريعة ملزمة، إنما هو اجتهاد بشر غير معصوم، يؤخذ منه ويترك، وأي امرئ يستطيع أن يتخلص من ذاتيته تماما، وأن يكون موضوعيا مائة في المائة 100% لا يتأثر ببيئته ولا بعصره ولا بثقافته، ولا بظرفه الخاص، والظروف العامة من حوله؟

هذا الشخص لا يوجد، ولم يكلفنا الله أن نكون كذلك.

ولعل رأي الشهيد سيد قطب نفسه في قضيتنا هذه ضرب من التأثر السلبي بما حوله. أي أنه ربما كان رد فعل لتساهل قوم وتفريطهم، فقابلهم هو بالتشدد والتزمت من حيث لا يريد، كما أن المناخ الذي كتب فيه ما كتب، والدعاة إلى الإسلام يعذبون ويقتلون، والطغاة يتجبرون ويتبجحون، والملاحدة عن أنفسهم يعلنون، وكل صوت يعلو ويسمع إلا صوت الدعوة إلى الإسلام، هذا المناخ كان له أثره ولاشك على فكر الشهيد سيد قطب رحمه الله.

ومبالغة الشهيد في إبراز ظاهرة "الثبات" في الإسلام في مقابل فكرة "التطور" لون من التأثر السلبي أيضا، مع أننا رأيناه في بعض القضايا مجاريا للتطور كل المجاراة كما في قضية "الرق في الإسلام" كما يظهر ذلك في "الظلال" في مواضع عديدة.

استفتاء الإسلام في مشكلات الحياة المعاصرة :

أما استفتاء الإسلام في مشكلات المجتمع المعاصر، فلا أرى فيه هزلا ولا استخفافا بالإسلام.

فبعض الناس يستفتون ليحددوا سلوكهم الشخصي على وفق ما يفتون به كالذين يستفتون عن معاملات البنوك والتأمين والشركات المساهمة، والزكاة ونحوها.

وبعضهم يحبون أن يعرفوا ملامح المجتمع الإسلامي الذي ندعو إليه، إما لأنهم جاهلون يحبون أن يتعلموا، أو خائفون يريدون أن يطمئنوا أو شاكون يريدون أن يستيقنوا.

ومن هؤلاء من يخاف فعلا إذا قام المجتمع الإسلامي المنشود ألا يجد الرجال الأكفاء الذين يعالجون مشكلات العصر بحلول إسلامية ناجحة.

وبعض دعاة الإسلام ـ بالفعل ـ نراهم يقدمون ـ باسم الإسلام ـ حلولا متزمتة مغلقة لا يمكن أن يقوم عليها مجتمع حديث.

وهذا أمر لا يخفى على دارس متتبع للبحوث الإسلامية المعاصرة، سواء منها ما يعبر عن رأي فرد أو رأي حزب أو حركة.

وبعض الذين يستفتون في مشكلات المجتمع ورأي الإسلام فيها قد يصدرون عن قصد سيئ ونية خبيثة، ويريدون إحراج دعاة الإسلام وإفحامهم وإظهار عجزهم.

ولا ضير علينا أن نقبل التحدي ونبرز لهم مزايا نظامنا الإسلامي الرباني، وما يقدمه من علاج لأدواء هذا العصر، وبذلك نفحمهم نحن ونسكتهم، ونقيم عليهم الحجة البالغة.

وفي الوقت نفسه نبين لهم أن كثيرا من مشكلات مجتمعنا القائم هي وليدة الجاهلية الحديثة، ولن نكون في مجتمعنا الإسلامي المتكامل الذي نسعى إليه.

وإذا وجدت فلن تكون بحجمها وصورتها الحالية.

كما تبين لهم أن قيام المجتمع الإسلامي، وتطبيق أحكام الإسلام عليه، سيفتح آفاقا جديدة في التفكير والفقه، وسيجعل عقولا كبيرة تعمل لخدمة المجتمع ونظامه القائم، كما هو الشأن في كل نظام منفذ معمول به.

هذا كله حق يجب أن يعرف وأن يقال.

مفكرو الحركة الإسلامية جميعا يخالفون هذا الرأي :

لقد غلا الشهيد سيد قطب ـ غفر الله له ـ في رأيه هذا، وقسا في حكمه على الذين يرون عرض النظام الإسلامي، أو النظريات الإسلامية أو التشريعات الإسلامية، والاجتهادات الإسلامية، ورماهم بالجهل بطبيعة المنهج الإسلامي الواقعي حينا، بالهزيمة الروحية أمام أنظمة الغرب حينا آخر.

ولعل الظروف التي كتب فيها هذه الفصول هي التي أفضت به إلى هذه المبالغة والقسوة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، والذي أراه: أن الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله ـ خالف في رأيه هذا كل مفكري الحركة الإسلامية ودعاتها في هذا العصر. فكلهم حاولوا عرض النظام الإسلامي وتجلية محاسنه وكيف يقدم حلولا رائعة ـ بعضها يعتبر من التفصيلات ـ لمشكلات هذا الزمن، وكيف يجيب عن أسئلتها بما يشفي الصدور، ويقنع العقول، وكلهم رحب ودعا لأعمال الاجتهاد ولتقديم حلول إسلامية في ضوئه لمشكلات عصرنا.

فعل ذلك الشهيد حسن البنا، مؤسس الحركة الإسلامية الحديثة في الشرق العربي، سمعنا ذلك في محاضراته، وقرأنا ذلك في رسالته "مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي" وفيها حديث عن حلول إسلامية لمشكلات السياسة والحكم والاقتصاد وغيرها.

وكان من الأبواب الثابتة التي يحررها في مجلته العلمية الشهرية "الشهاب" باب بعنوان: "أصول الإسلامي كنظام اجتماعي" وأحسب لو طال به الزمن لكتب فيه الكثير.

ومفكرو الحركة وكتابها ساروا على هذا الدرب.

فالشهيد عبد القادر عودة يكتب مجلدين كبيرين عن "التشريع الجنائي الإسلامي عدا كتب صغيرة أخرى، وقد عرضنا لبعض أفكاره في رسالة "الإسلام بين جهل أبنائه وعجز علمائه".

والمرحوم الدكتور "مصطفى السباعي" قائد الحركة الإسلامية في سوريا يكتب أيضا عن "اشتراكية الإسلام" ويشرح "قانون الأحوال الشخصية" ويؤلف عن "المرأة بين الفقه والقانون" وغيرها.

والشيخ محمد الغزالي أحد كبار دعاة الحركة وكتابها الأوائل يكتب ـ منذ عهد مبكر ـ عن "الإسلام والأوضاع الاقتصادية" و"الإسلام والمناهج الاشتراكية" وغيرها.

والأستاذ محمود أبو السعود أحد رجال الحركة في مصر يؤلف كتابه "خطوط رئيسية في الاقتصاد الإسلامي" ويعد بكتابات تفصيلية توضح هذه الخطوط ويكتب بحثا عنوانه: "هل يمكن إنشاء بنك إسلامي؟" وغير ذلك من البحوث الاقتصادية.

والدكتور عبد الكريم زيدان، أحد قادة الدعوة في العراق كتب بحثه الكبير عن "أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام" وبحثه عن "الفرد والدولة في شريعة الإسلام" وغيره من البحوث.

وإذا تركنا بلاد العرب وجدنا الأستاذ الكبير "أبا الأعلى المودودي" أمير الجماعة الإسلامية في باكستان يؤلف في هذا الجانب كتبا ورسائل كثيرة ويلقي حوله محاضرات شتى. فمن كتبه وبحوثه:

أ. معضلات الاقتصاد وحلها في الإسلام.

ب. أسس الاقتصاد الإسلامي مقارنا بالنظم المعاصرة.

ج. الربا.

د. ملكية الأرض في الإسلام.

هـ. نظرية الإسلام السياسية.

و. نحو الدستور الإسلامي.

ز. صياغة موجزة لمشروع دستور إسلامي.

هذا إلى ما كتبه وتكتبه أقلام مخلصة من كبار علماء الفقه الإسلامي، مثل: الشيخ أحمد إبراهيم، والشيخ محمد أبي زهرة، والأستاذ مصطفى الزرقاء، والشيخ علي الخفيف، والشيخ محمود شلتوت، وغيرهم.

كما كتب الكثيرون من علماء الفقه والاقتصاد بحوثا ومؤلفات كثيرة في مجال الاقتصاد الإسلامي وعقدت لذلك ندوات ومؤتمرات قدمت لها بحوث قيمة، شارك فيها علماء ومفكرون أجلاء من العالم الإسلامي كله، مثل: المؤتمر الإسلامي العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي في مكة المكرمة، وأسبوع الفقه الإسلامي في دمشق، وندوة التشريع الإسلامي في ليبيا، ومؤتمرات مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر، ومؤتمرات المصارف الإسلامية في دبي والكويت، وندوة الاقتصاد الإسلامي في مجال التطبيق في أبو ظبي، ومؤتمر الزكاة في الكويت، وغيرها.

وعلى هذا الطريق شاركت بجهد متواضع لتجلية النظام الإسلامي ـ في ضوء الاجتهاد المعاصرـ ببعض الكتب والبحوث ـ مثل: "مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام؟" و"فقه الزكاة" و"غير المسلمين في المجتمع الإسلامي" وأخيرا بكتاب "بيع المرابحة للآمر بالشراء كما يجري في المصارف الإسلامية" إلى جانب بحوث متفرقة أخرى.

بل أقول:

إن الشهيد سيد قطب نفسه شارك في هذا بكتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" الذي لا يشك أحد في نفعه، ويبدو أنه لو استقبل من أمره ما استدبر لم يكتبه كما نقل الناقلون عنه.

لكن الذي أقوله بصراحة:

إن رأي صاحب "العدالة" أقرب إلى السداد ـ في نظري ـ من رأي صاحب "المعالم".

وهو على كل حال في رأيه هذا مجتهد في طلب الحق وبيانه، وهو اجتهاد بشر غير معصوم، فيؤخذ منه، ويرد عليه ولكنه غير محروم من الأجر، أصاب أم أخطأ، رحمه الله وجزاه بنيته واجتهاده خير ما يجزى العاملين المخلصين ] أ.هـ [1]

----------
هوامش :
[1] : انظر كتاب " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " ص 249 - 282 ، ط 3 ، دار القلم ، الكويت ، 1999م ، وكتاب " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط" ص 101 -130 ، ط دار القلم ، الكويت / 1994م ، كلاهما للإمام يوسف القرضاوي

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب

https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/1890981_1134384676585774_8342551492993076634_n.png?oh=72d3d00dd323d5efbbacd0540563f2cb&oe=5838504F
ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 11 ] : الجهاد الهجومي
 

• دعوى مرحلية النصوص :

[هناك فريق من إخواننا العلماء والدعاة المعاصرين، الذين لا نشكُّ في إخلاصهم لدينهم، وغَيْرتهم على إسلامهم، وصدقهم في توجُّههم: دافعوا عما ذهب إليه جمهور العلماء القدامى بحرارة وحماس، وتركوا لأسنَّة أقلامهم البليغة تصول وتجول، مدافعة عن الجهاد الإسلامي، وأنه (جهاد هجومي)، يعلن الحرب على العالم كله: مَن قاتل المسلمين ومَن سالمهم وكفَّ أيديه عنهم، وألقى إليهم السلم. وما يعارض هذا التوجه من آيات كثيرة ومن أحاديث صحيحة: لا يلتفت إليه، ولا يعيره انتباها، فإن هذه النصوص كلها موجودة حسًّا، معدومة معنى. إنها (نصوص مرحلية)، عُمِل بها في وقت ما، ثم انقضى زمنها، وبطل مفعولها، إنها بالعبارة التراثية (نصوص منسوخة أو مُنسأة). 

ما الذي نسخها ونحن نتلوها في كتاب ربنا، ونتعبَّد بتلاوتها ليل نهار؟! إن الذي نسخها ونسخ غيرها - وهي كما قيل: نحو مائة وأربع عشرة آية، أو مائة وأربعين آية، أو مائتي آية – كلها نسختها آية واحدة، أو جزء من آية ، إنها (آية السيف)!

وهكذا بضربة واحدة قاضية، عطَّل هؤلاء هذه النصوص من كتاب الله الكريم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

• عيب بعض المتحدثين عن الجهاد الهجومي :

عيب هؤلاء الإخوة من العلماء والدعاة يتمثَّل عندي في خصلتين رئيستين: 

الأولى: أنهم يتحدَّثون عن هذا الأمر المختلَف فيه، وكأنه قضية إجماعية، أو كأنه معلوم من الدين بالضرورة، والأمر على خلاف ذلك، كما بيَّناه في موضعه، حتى وجد من الصحابة ومَن تبعهم بإحسان، مَن قال: إن الجهاد - جهاد الطلب - تطوُّع لا فرض. ومَن قال: إن فرض الكفاية المطلوب من الأمة هو إعداد القوة التي ترهب الأعداء، وتحصِّن الثغور. 

الثانية: اتهامهم لكل مَن يخالفهم بالسذاجة والغفلة والبَلَه: من الناحية العقلية، وبالاستخذاء والروح الانهزامية: من الناحية النفسية، ووقوعهم أُسارى تحت ضغط الاستشراق الماكر، وتحت ضغط الواقع المعاصر. ونحو ذلك من التُّهم التي لا تقوم على نقل صحيح، ولا عقل صريح، وما ينبغي لعالم باحث أن يتَّهم مخالفيه في الرأي بمثل هذا، إلا إذا كان من باب التأثير النفسي (السيكولوجي) على الخصم، أو القصف الإعلامي المتعمد لإرهابه وإرباكه. 

وأشد الناس في ذلك: المدرسة (الحرفية) في فهم النصوص، أو من سمَّيتُهم في بعض دراساتي (الظاهرية الجدد)، وإن كان بعضهم يدَّعي (السلفية) أو (السلفية الجهادية)!

ومن هؤلاء: الجماعات التي تبنَّت بدعة (الغلو في التكفير)، وكفَّروا الناس بالجملة، أفرادا وحكومات وأنظمة، مثل (جماعة المسلمين) التي عُرفت باسم (جماعة التكفير والهجرة). 

ومن هؤلاء: جماعات (الجهاد) التي ظهرت في مصر، وفي الجزائر، واليمن وغيرها. وكذلك (الجماعة الإسلامية) في مصر، ومن عباءة هؤلاء ظهر أخيرا (تنظيم القاعدة). 

وقد بينَّا فيما سبق كيف رَاجَعَتْ بعض هذه الجماعات أنفسها، كما فعلت (الجماعة الإسلامية) في مصر، التي أصدرت عِدَّة كتب أطلقت عليها سلسلة (المراجعات) أو (تصحيح المفاهيم)، وأحمد الله تعالى: أنهم رجعوا إلى كتبي ينقلون منها الصفحات الطوال، بعد أن كانت من قبل مرفوضة عندهم، وكانوا يحرِّمون قراءتها على أتباعهم! فها هم يعترفون بخطئهم فيما مضى، ويعودون إلى حظيرة الأمة. ولا ريب أن هذا يحسب لهم في ميزانهم: أن يكون لديهم من الشجاعة الأدبية ما يدفعهم إلى الاعتراف بالخطأ علانية، والسعي إلى تصويبه بمنطق علمي فقهي رصين . وقد نهج نهجهم أخيرا: جماعة الجهاد في مصر.

• الداعيان الكبيران المودودي وسيد قطب:

ومن هؤلاء الهجوميين: بعض الدعاة الكبار، الذين لهم وزنهم وقدرهم في ساحة الدعوة الإسلامية، ولكنهم تأثَّروا في نظرتهم إلى الجهاد - وإن لم يريدوا - بفلسفة الشيوعية ونظريتها في (الثورة العالمية) التي تريد أن تغيِّر العالم، وأن تسوقه سوقا إلى اعتناق مبادئها في النظرة إلى الكون والإنسان، والفرد والمجتمع، وصراع الطبقات، ودكتاتورية البروليتاريا (الطبقة العاملة). وقد انتهت بالإخفاق والفشل، كما رأينا في سقوط الاتحاد السوفيتي، الذي كان يحمل لواء النظرية الشيوعية، وثورتها العالمية.

لا أعني أن هؤلاء متأثرون بالشيوعية، فهم أعداؤها – عقيدة وفكرا وعاطفة - بكل تأكيد، وهم دعاة الإسلام عقيدة وشريعة، ودعوة ودولة، بلا مِراء، ولكنهم تأثَّروا بنظريتها في التغيير. كما تأثروا بما هو شائع في فقهنا التقليدي من وجوب غزو الكفار كل سنة.

من هؤلاء الداعيان الكبيران: أبو الأعلى المودودي في باكستان، وسيد قطب في مصر، وكان سيد أشدهما حماسا للفكرة، وأقساهما في التنديد بمخالفيه، وإن كان المودودي أسبق منه في الدعوة إليها.

• فكرة الشهيد سيد قطب في قتال العالم: 

يقول سيد قطب في ظلال القرآن: 
(والمهزومون رُوحيا وعقليا ممَّن يكتبون عن (الجهاد في الإسلام)، ليدفعوا عن الإسلام هذا (الاتهام) ... يخلطون بين منهج هذا الدين في النص على استنكار الإكراه على العقيدة، وبين منهجه في تحطيم القوى السياسية المادية التي تحول بين الناس وبينه؛ والتي تعبِّد الناس للناس؛ وتمنعهم من العبودية لله ... وهما أمران لا عَلاقة بينهما، ولا مجال للالتباس فيهما ... ومن أجل هذا التخليط - وقبل ذلك من أجل تلك الهزيمة! - يحاولون أن يحصُروا الجهاد في الإسلام فيما يسمُّونه اليوم: (الحرب الدفاعية) ... والجهاد في الإسلام أمر آخر لا عَلاقة له بحروب الناس اليوم، ولا بواعثها، ولا تكييفها كذلك ... إن بواعث الجهاد في الإسلام ينبغي أن نلمسها في طبيعة (الإسلام) ذاته، ودوره في هذه الأرض، وأهدافه العليا التي قرَّرها الله، وذكر الله أنه أرسل من أجلها هذا الرسول بهذه الرسالة، وجعله خاتم النبيين وجعلها خاتمة الرسالات ...

إن هذا الدين إعلان عام لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من العبودية للعباد – ومن العبودية لهواه أيضا وهي من العبودية للعباد – وذلك بإعلان ألوهية الله وحده – سبحانه - وربوبيته للعالمين ... إن إعلان ربوبية الله وحده للعالمين معناها: الثورة الشاملة على حاكمية البشر في كل صُورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها؛ والتمرُّد الكامل على كل وضع في أرجاء الأرض الحكم فيه للبشر بصورة من الصُور ... أو بتعبير آخر مرادف: الألوهية فيه للبشر في صورة من الصُور ... ذلك أن الحكم الذي مردُّ الأمر فيه إلى البشر، ومصدر السلطات فيه هم البشر، هو تأليه للبشر، يجعل بعضهم لبعض أربابا من دون الله ... إن هذا الإعلان معناه انتزاع سلطان الله المغتصَب وردُّه إلى الله؛ وطرد المغتصبين له؛ الذين يحكمون الناس بشرائع من عند أنفسهم فيقومون منهم مقام الأرباب، ويقوم الناس منهم مقام العبيد ... إن معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض ... أو بالتعبير القرآني الكريم: 

{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84].
{إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ...} [يوسف:40]. 
{قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64]. 

ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولَّى الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم – هم رجال الدين كما كان الأمر في سلطان الكنيسة، ولا رجال ينطقون باسم الآلهة، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس!!! ولكنها تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة؛ وأن يكون مردُّ الأمر إلى الله وِفق ما قرَّره من شريعة مبينة. 

وقيام مملكة الله في الأرض، وإزالة مملكة البشر، وانتزاع السلطان من أيدي مغتصبيه من العباد وردُّه إلى الله وحده، وسيادة الشريعة الإلهية وحدها وإلغاء القوانين البشرية ... كل أولئك لا يتمُّ بمجرد التبليغ والبيان. لأن المتسلِّطين على رقاب العباد، المغتصبين لسلطان الله في الأرض، لا يسلِّمون في سلطانهم بمجرد التبليغ والبيان. وإلا فما كان أيسر عمل الرسل في إقرار دين الله في الأرض! وهذا عكس ما عرَفه تاريخ الرسل – صلوات الله وسلامه عليهم – وتاريخ هذا الدين على ممر الأجيال!

إن هذا الإعلان العام لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من كل سلطان غير سلطان الله، بإعلان ألوهية الله وحده وربوبيته للعالمين، لم يكن إعلانا نظريا فلسفيا سلبيا ... إنما كان إعلانا حركيا واقعيا إيجابيا ... إعلانا يراد له التحقيق العملي في صورة نظام يحكم البشر بشريعة الله؛ ويُخرجهم بالفعل من العبودية للعباد إلى العبودية لله وحده بلا شريك ... ومن ثَمَّ لم يكن بد من أن يتخذ شكل (الحركة) إلى جانب شكل (البيان) ... ذلك ليواجه (الواقع) البشري بكل جوانبه بوسائل مكافئة لكل جوانبه. 

والواقع الإنساني، أمس واليوم وغدا، يواجه هذا الدين – بوصفه إعلانا عاما لتحرير (الإنسان) في (الأرض) من كل سلطان غير سلطان الله – بعقبات اعتقادية تصورية، وعقبات مادية واقعية ... عقبات سياسية واجتماعية واقتصادية وعنصرية وطَبَقية، إلى جانب عقبات العقائد المنحرفة والتصورات الباطلة ... وتختلط هذه بتلك، وتتفاعل معها بصورة معقَّدة شديدة التعقيد. 

وإذا كان (البيان) يواجه العقائد والتصورات، فإن (الحركة) تواجه العقبات المادية الأخرى، وفي مقدمتها السلطان السياسي القائم على العوامل الاعتقادية التصورية، والعنصرية والطبقية، والاجتماعية والاقتصادية المعقدة المتشابكة ... وهما معا – البيان والحركة - يواجهان (الواقع البشري) بجملته، بوسائل مكافئة لكل مكوناته ... وهما معا لا بد منهما لانطلاق حركة التحرير للإنسان في الأرض ... (الإنسان) كله في (الأرض) كلها ... وهذه نقطة هامة لا بد من تقريرها مرة أخرى!

إن هذا الدين ليس إعلانا لتحرير الإنسان العربي! وليس رسالة خاصة بالعرب! إن موضوعه هو (الإنسان) ... نوع (الإنسان) ... ومجاله هو (الأرض)... كل الأرض. إن الله سبحانه ليس ربًّا للعرب وحدهم ولا حتى لمَن يعتنقون العقيدة الإسلامية وحدهم ... إن الله هو {رَبِّ الْعَالَمِينَ}... وهذا الدين يريد أن يردَّ {الْعَالَمِينَ} إلى ربهم؛ وأن ينتزعهم من العبودية لغيره. والعبودية الكبرى - في نظر الإسلام - هي خضوع البشر لأحكام يشرعها لهم ناس من البشر ... وهذه هي (العبادة) التي يقرِّر أنها لا تكون إلا لله، وأن مَن يتوجه بها لغير الله يخرج من دين الله مهما ادَّعى أنه في هذا الدين. ولقد نصَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، على أن (الاتباع) في الشريعة والحكم هو (العبادة) التي صار بها اليهود والنصارى (مشركين) مخالفين لما أُمروا من (عبادة) الله وحده [1]

ومن ثَمَّ لم يكن بد للإسلام أن ينطلق في (الأرض) لإزالة (الواقع) المخالف لذلك الإعلان العام ... بالبيان وبالحركة مجتمعين ... وأن يوجِّه الضربات للقوى السياسية التي تعبِّد الناس لغير الله – أي تحكمهم بغير شريعة الله وسلطانه – والتي تحول بينهم وبين الاستماع إلى (البيان) واعتناق (العقيدة) بحرية لا يتعرَّض لها السلطان. ثم لكي يقيم نظاما اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا يسمح لحركة التحرُّر بالانطلاق الفعلي – بعد إزالة القوة المسيطرة – سواء كانت سياسية بحتة، أو متلبِّسة بالعنصرية أو الطبقية داخل العنصر الواحد!

إنها سذاجة أن يتصوَّر الإنسان دعوة تعلن تحرير (الإنسان) نوع الإنسان في (الأرض) كل الأرض ... ثم تقف أمام هذه العقبات تجاهدها باللسان والبيان! إنها تجاهد باللسان والبيان حينما يخلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع تلك المؤثرات ... فهنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]... أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أوَّلاً بالقوة، للتمكن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله؛ وهو طليق من هذه الأغلال!

إن الجهاد ضرورة للدعوة. إذا كانت أهدافها هي إعلان تحرير الإنسان إعلانا جادًّا يواجه الواقع الفعلي بوسائل مكافئة له في كل جوانبه؛ ولا يكتفي بالبيان الفلسفي النظري السلبي! سواء كان الوطن الإسلامي – وبالتعبير الإسلامي الصحيح: دار الإسلام – آمنا أم مهدَّدا من جيرانه. فالإسلام حين يسعى إلى السلم، لا يقصد تلك السلم الرخيصة؛ وهي مجرد أن يأمن على الرقعة الخاصة التي يعتنق أهلها العقيدة الإسلامية. إنما هو يريد السلم التي يكون الدين فيها كله لله. أن تكون عبودية الناس كلهم فيها لله؛ والتي لا يتخذ فيها الناس بعضهم بعضا أربابا من دون الله. والعبرة بنهاية المراحل التي وصلت إليها الحركة الجهادية في الإسلام – بأمر من الله - لا بأوائل أيام الدعوة ولا بأوسطها. 

حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثُّل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميِّز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية لله وحده ... إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعا عن وجودها ذاته. ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ...

هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا، لا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا ...

هذا كله حق ... ووفق هذه النظرة يكون لا بد للإسلام أن يدافع عن وجوده. ولا بد أن يخوض معركة دفاعية مفروضة عليه فرضا.

ولكن هناك حقيقة أخرى أشدُّ أصالة من هذه الحقيقة ... إن من طبيعة الوجود الإسلامي ذاته أن يتحرَّك إلى الأمام ابتداء؛ لإنقاذ (الإنسان) في (الأرض) من العبودية لغير الله. ولا يمكن أن يقف عند حدود جغرافية؛ ولا أن ينزوي داخل حدود عنصرية؛ تاركا (الإنسان) ... نوع الإنسان ... في (الأرض) ... كل الأرض ... للشرِّ والفساد والعبودية لغير الله.

إن المعسكرات المعادية للإسلام قد يجيء عليها زمان تُؤثِر فيه ألا تهاجم الإسلام، إذا تركها الإسلام تزاول عبودية البشر للبشر داخل حدودها الإقليمية؛ ورضي أن يَدَعها وشأنها، ولم يمدَّ إليها دعوته وإعلانه التحريري العام! ولكن الإسلام لا يهادنها، إلا أن تعلن استسلامها لسلطانه في صورة أداء الجزية، ضمانا لفتح أبوابها لدعوته بلا عوائق مادية من السلطات القائمة فيها.

هذه طبيعة الدين، وهذه وظيفته بحكم أنه إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من كل عبودية لغير الله في الناس أجمعين!

وفرق بين تصوُّر الإسلام على هذه الطبيعة، وتصوُّره قابعا داخل حدود إقليمية عنصرية، لا يحرِّكه إلا خوف الاعتداء! إنه في هذه الصورة الأخيرة يفقد مبرِّراته الذاتية في الانطلاق!

إن مبرِّرات الانطلاق الإسلامي تبرُز بوضوح وعمق، عندما تذكر أن هذا الدين هو منهج الله للحياة البشرية، وليس منهج إنسان، ولا مذهب شيعة من الناس، ولا نظام جنس من الأجناس! ونحن لا نبحث عن مبرِّرات خارجية إلا حين تفتُر في حسنا هذه الحقيقة الهائلة ... حين ننسى أن القضية هي قضية ألوهية الله وعبودية العباد ... إنه لا يمكن أن يستحضر إنسان ما هذه الحقيقة الهائلة ثم يبحث عن مبرِّر آخر للجهاد الإسلامي!

والمسافة قد لا تبدو كبيرة عند مفرق الطريق، بين تصوُّر أن الإسلام كان مضطرا لخوص معركة لا اختيار له فيها، بحكم وجوده الذاتي ووجود المجتمعات الجاهلية الأخرى التي لا بد أن تهاجمه. وتصوُّر أنه هو بذاته لا بد أن يتحرك ابتداء، فيدخل في هذه المعركة. 

المسافة عند مفرق الطريق قد لا تبدو كبيرة. فهو في كلتا الحالتين سيدخل المعركة حتما. ولكنها في نهاية الطريق تبدو هائلة شاسعة، تغيِّر المشاعر والمفهومات الإسلامية تغييرا كبيرا ... خطيرا ...

إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام منهجا إلهيا، جاء ليقرِّر ألوهية الله في الأرض، وعبودية البشر جميعا لإله واحد، ويصبُّ هذا التقرير في قالب واقعي، هو المجتمع الإنساني الذي يتحرَّر فيه الناس من العبودية للعباد، بالعبودية لرب العباد، فلا تحكمهم إلا شريعة الله، التي يتمثَّل فيها سلطان الله، أو بتعبير آخر تتمثل فيها ألوهيته.. فمن حقِّه إذن أن يزيل العقبات كلَّها من طريقه، ليخاطب وجدان الأفراد وعقولهم دون حواجز ولا موانع مصطنعة من نظام الدولة السياسي أو أوضاع الناس الاجتماعية ... إن هناك مسافة هائلة بين اعتبار الإسلام على هذا النحو، واعتباره نظاما محليا في وطن بعينه. فمن حقه فقط أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية!

هذا تصور ... وذاك تصور ... ولو أن الإسلام في كلتا الحالتين سيجاهد... ولكن التصوُّر الكلي لبواعث هذا الجهاد وأهدافه ونتائجه، يختلف اختلافا بعيدا، يدخل في صميم الاعتقاد كما يدخل في صميم الخُطة والاتجاه) [2]انتهى.

• تعقيب ومناقشة: 
وإني - بعد نقل هذه الفقرات الطويلة - لا أملك إلا أن أُقدِّر للشهيد سيد قطب إخلاصه وحماسه في الدفاع عن قضيته، وأحيي قلمه البليغ على ما قدَّمه من اعتبارات لها وزنها وتأثيرها، تؤيِّد وِجهة نظره، وتهاجم المخالفين هجوما حاد النبرة، عالي الصوت، من شأنه أن يخوِّفهم، ويخرس ألسنتهم فلا تنطق، وأقلامهم فلا تكتب. 

ومع هذا كله أودُّ أن أناقش في هدوء ما ساقه داعيتنا الأديب الكبير رحمه الله مبديا هذه الملاحظات الأساسية:

• ست ملاحظات على كلام الشهيد سيد قطب: 

أولا: لم يكن الأستاذ دقيقا في عرضه لفكرة خصوم الجهاد الهجومي على العالم. 
فلم يقل واحد من هؤلاء – ابتداء من محمد عبده ورشيد رضا وشلتوت ودراز وخلاَّف وأبي زهرة وحسن البنا والسباعي والغزالي وعبد الله بن زيد المحمود، ومَن بعدهم – باعتبار الإسلام نظاما محليا مقصورا على وطن بعينه، فمن حقه أن يدفع الهجوم عليه في داخل حدوده الإقليمية. 

بل اعتبره كل هؤلاء دعوة عالمية، من حقها أن تبلَّغ إلى العالمين، وأي وقوف في وجهها، أو صدٍّ عن سبيلها، أو عدوان على الدعاة إليها، يجعل لها الحق في الجهاد، تأمينا لحرية الدعوة، ومنعا للفتنة الصادَّة عنها، وهذا معنى: {حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:193، الأنفال:39]، أي حتى لا يُفتن أحد ولا يُضطهد من أجل عقيدته، بل يجب أن يكون الناس أحرارا فيما يختارون لأنفسهم. وهذا ما سنشرحه في بيان أهداف القتال في الإسلام، فأحدها ردُّ العدوان على المسلمين أنفسهم وأموالهم وأرضهم. 

ومنها: منع الفتنة في الدين، وإنقاذ المستضعفين، وتأديب الناكثين للعهود. 

ثانيا: رفض الأستاذ قطب رحمه الله فكرة في غاية الوضوح والجلاء، وهي: أن الإسلام بطبيعة دعوته العالمية الإيجابية، وبصفته دعوة إلى تحرير البشر من الطواغيت، وتحرير الإنسان من العبودية للإنسان، وأنه ليس دينا مغلقا على نفسه، أو قانعا بالعزلة في أرضه، لا بد لدين بهذه القوة: أن تقاومه الجاهليات الحاكمة بأمرها في بلاد الله، وِفقا لسنة التدافع بين الخلق، فهو بهذا مضطَّر أن يخوض المعركة دفاعا عن رسالة الحق والخير والعدل والتوحيد، وعن أصحابها، ويواجه المعتدين، وهو يعتقد أنه يقاتل في سبيل الله، وأعداؤه يقاتلون في سبيل الطاغوت، ولو تركه خصومه يُسمع دعوته، ويُبلِّغ رسالته، ما دخل معهم هذه الحرب، فهم الذي اضطروه إليها، وهو ما ذكره القرآن في قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} [البقرة:216]. 

ثالثا: أعلن الأستاذ سيد: أن الدعوة إلى الإسلام يمكن أن تكتفي بالجهاد بالبيان واللسان حين يُخلَّى بينها وبين الأفراد، تخاطبهم بحرية، وهم مطلقو السراح من جميع المؤثرات المادية والسياسية، فهنا: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [3]، أما حين توجد تلك العقبات والمؤثرات المادية، فلا بد من إزالتها أولا بالقوة، للتمكُّن من مخاطبة قلب الإنسان وعقله، وهو طليق من هذه الأغلال.

وأقول للأستاذ رحمه الله: إن عصرنا هذا قد أتاح لنا أن نخاطب عقل الإنسان وقلبه في أنحاء العالم، بوسائل شتَّى: بالإذاعات الموجَّهة، والقنوات الفضائية، وشبكة الإنترنت، والرسائل المكتوبة بشتَّى اللغات، وهذه تحتاج منا إلى جيوش جرَّارة من الدعاة والمعلمين والإعلاميين المدرَّبين، القادرين على مخاطبة الناس بلغاتهم، وبلسان عصرهم، وأساليب زمنهم، عن طريق الصوت والصورة، والكلمة والحركة، والكتاب والنشرة، والمجلة والصحيفة، والحوار والتحقيق الصحفي، والعمل الدرامي، والصُور المتحركة، وكلِّ ما يشدُّ الناس إلى الإسلام، وهذا الجهاد السلمي الضروري لم نقُم فيه بواحد من الألف مما هو مطلوب منا. 

فلسنا في حاجة إلى إعلان الحرب على القوى السياسة التي تحكم العالم، لأنها لم تعُد تستطيع أن تمنع إنسانا يشاهد فضائية، أو يسمع إذاعة، أو يدخل شبكة الإنترنت.

رابعا: نسى الشهيد رحمه الله: الآيات والأحاديث الكثيرة التي قيَّدت القتال المطلوب بأنه لمَن قاتلنا، ونهتنا عن الاعتداء: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة:190]، {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} [النساء:90]، {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:91]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} [البقرة:208]، {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال:61]، {إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [التوبة:7]، {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التوبة:6]، {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة:8].

كيف هان على سيد قطب – وهو رجل القرآن - الإعراض عن هذه الآيات كلِّها وغيرها بدعوى أنها جاءت لمرحلة ثم انتهى أمرها، وبطل مفعولها؟ أو حكم عليها بالإعدام باسم (النسخ)؟ أو أي اسم آخر؟

والأصل فيما أنزل الله تعالى من النصوص، هو: البقاء والخلود واستمرار العمل بها، ما لم يوجد يقين قاطع لا شكَّ فيه بنسخ هذا النص. وإني لأتهيَّب كل التهيُّب أن أقول عن آية من كتاب الله، مكتوبة في المصاحف، متلوَّة بالألسنة: هذه آية مُلغاة!! أو كانت مطلوبة في مرحلة، ثم تجاوزها الزمن!!

وهناك أحاديث أخرى، مثل: "لا تتمنَّوا لقاء العدو وسلوا الله العافية" [4]، "اتركوا الترك ما تركوكم، ودَعُوا الحبشة ما وَدَعُوكم" ،[5] وغيرها، يجب ألا نغفلها. 

خامسا: إن سيد قطب بتوجهه هذا وتفكيره هذا: يعادي العالم كله، مَن سالمه ومَن حاربه على حدٍّ سواء، مَن عاهده ومَن لم يعاهده، ويتحدَّى العالم كلَّه، ويستنفرَّ العالم كلَّه ليقف ضدَّ المسلمين، فهم خطر على العالم كلِّه إذا ملكوا القوة والقدرة، ترى ماذا سيكون مصير العالم لو ملك المسلمون ما تملكه أمريكا اليوم من قوة عسكرية، وقوة اقتصادية، وقوة علمية وتكنولوجية، وأسلحة نووية؟ إنهم لا شكَّ سيُخضعون العالم كله لسلطانهم، وهذا ما تريده أمريكا اليوم: إخضاع العالم لفلسفتها وإرادتها. 

سنقول: نحن نخضع العالم لسلطان الحق والخير، لا لإذلال البشر، ولا لانتهاب خيراتهم، ولا لإكراههم على ما نريد، وأمريكا تزعم ذلك أيضا، تقول: أنا أريد أن أشيع فلسفة الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان. أريد أن أعلِّم الدنيا حضارتي، بل أسعى لأفرضها عليها، وأسوقها إليها سوقا! لأن في ذلك خيرها وسعادتها !

سادسا: كان الأستاذ سيد رحمه الله رحمة واسعة، قاسيا شديد الوطأة على مخالفيه، فهم – عنده - المهزومون رُوحيا وعقليا، الموسومون بالسذاجة والبَلَه، الغافلون عن منهج الإسلام وطبيعة دعوته، ومخالفوه هؤلاء هم أعلام الأمة وعمالقة الفكر والفقه والدعوة: محمد عبده، رشيد رضا، جمال الدين القاسمي، محمد مصطفى المراغي، محمود شلتوت، حسن البنا، مصطفى السباعي، محمد عبد الله دراز، عبد الوهاب خلاَّف، محمد أبو زهرة، على الخفيف، محمد يوسف موسى، محمد الغزالي، سيد سابق، عبد الله بن زيد آل محمود، محمد مصطفى شلبي، مصطفى زيد، وغيرهم وغيرهم، من العلماء الأعلام، الذين انتقلوا إلى رحمة الله، وفي الأحياء كثير من أهل العلم والفكر والدعوة، ممَّن لا يقلُّ فضلا عن هؤلاء الأموات[6]. 

---------
هوامش :
[1] يشير إلى حديث عدي بن حاتم قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عنقي صليب من ذهب فقال: "يا عدي، اطرح عنك هذا الوثن". وسمعتُه يقرأ في سورة براءة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31]. قال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكنهم كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئا حرَّموه". رواه الترمذي في تفسير القرآن (3095)، وقال: حديث غريب، والطبراني في الكبير (17/92)، والبيهقي في الكبرى كتاب آداب القاضي (10/116)، وحسَّنه الألباني في غاية المرام (6).
[2] انظر: في ظلال القرآن. الجزء التاسع سورة الأنفال صـ1433 – 1443 طبعة دار الشروق بالقاهرة. 
[3] مفهوم هذه العبارة: أنه في غير هذه الحالة يمكن الإكراه، وهو فهم مستنكر من مثل سيد قطب، فالإكراه في الدين منفي ومرفوض في كل حال، كما تقتضيه آية: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256]. 
[4] متفق عليه: رواه البخاري (2966)، ومسلم (1742)، كلاهما في الجهاد والسير، كما رواه أحمد في المسند (19114)، وأبو داود في الجهاد (2631)، عن عبد الله بن أبي أوفى. 
[5] رواه أبو داود عن رجل من أصحاب النبي وقد سبق تخريجه ص 316. 
[6] انظر : موسوعة "فقه الجهاد " للإمام يوسف القرضاوي ، (1/ 413 – 424) ط4 ، مكتبة وهبة لسنة 2014م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب

https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/10403190_1134384913252417_7761811652941194890_n.png?oh=9e45ee2bcfbc86ed7af84dde89a6a481&oe=58468B3F
ملف خاص | مع الأستاذ #سيد_قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [ 12 ] : التاريخ الإسلامي

[ وإذا كنا نشكو من جور العلمانيين على تاريخنا الإسلامي ، وعلى حضارتنا الإسلامية ، فإننا أكثر شكوى وأشد ألما ، من بعض دعاتنا الإسلاميين الكبار ، الذين قسوا على التاريخ الإسلامي ، وعلى ما أنتج من حضارة شامخة ، وبالغوا في نقده ، وتضخيم هناته ، وإخفاء حسناته ، مما ساعد العلمانيين ، وأعطاهم حجة ، ليسوقوا دعواهم في أن الشريعة لم تطبق إلا في عهد عمر ، وأنها شريعة مثالية غير صالحة للتطبيق ، وهو ما لا يقول به هؤلاء الدعاة الكبار بلا نزاع .

نذكر من هؤلاء الدعاة الكبار : ثلاثة لهم باعهم الطويل ، وجهادهم النبيل ، في سبيل الدعوة إلى الإسلام ، وإحياء أمته ، وإيقاظ شعوبه ، ومقاومة أعدائه ، وتحرير أوطانه ، وتوحيد كلمة الأمة على الإسلام ، وتصحيح مفاهيمها المغلوطة عنه ، وتجنيد أبنائها للدفاع عنه ، والتضحية في سبيل إعلاء كلمته بالنفس والنفيس ، جاعلين صلاتهم ونسكهم ومحياهم لله رب العالمين .

هؤلاء الثلاثة هم الذين أحبهم وأحترمهم وأقدر لهم فضلهم وجهادهم : أبو الأعلى المودودي ، وسيد قطب ، ومحمد الغزالي .

وسنذكر من تراث كل منهم – رحمهم الله – ما يدل على هذا التوجه الخطر ، الذي نعتبره من "زلات العلماء" التي تغتفر لهم ، ولا تنقص من قدرهم لأنهم غضبوا لله لا لأنفسهم ، وكانت غيرتهم على حرمات الإسلام ومبادئه وقيمه ، ومثله العليا ، ولم تكن غيرتهم من أجل شعب أو قبيلة أو حزب أو طائفة من الناس .

وهو ثمرة اجتهاد منهم ، نرجو أن يعذروا فيه ، بل يؤجروا عليه أجرا واحدا ، كما هو شأن المجتهد المخطئ في الفقهيات ونحوها ، فمن فضل الله تعالى ورحمته – ومن روائع هذا الدين أيضا - : ألا يحرم المجتهد من المثوبة وإن أخطأه الصواب ، ما دام أهلا للاجتهاد ، وحسبه أنه بذل الجهد ، وقصد الخير ، وتحرى الصواب ( وإنما لكل امرئ ما نوى )]أ.هـ [1]

مقولة الشهيد سيد قطب :

[ أعتقد أنه التقى مع المودودي هنا ، وإن لم يكن قد قرأ ما كتبه في ذلك ، فلم تكن كتبه التي تناولت هذا الجانب التاريخي قد ترجمت إلى العربية فيما أعلم ، وكانت مقولة قطب عن التاريخ الإسلامي في أول كتاب له دخل به ميدان الدعوة الإسلامية والفكر الإسلامي ، وهو كتاب العدالة الاجتماعية في الإسلام [2] 

على خلاف ما كتبه عن "الحاكمية" وعن "الجاهلية" وعن"الجهاد الهجومي" فقد تأثر تأثرا مباشرا بما كتبه المودودي .

ونحن نذكر هنا بعض ما كتبه سيد رحمه الله في كتابه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" فصل "من الواقع التاريخي في الإسلام" وقد تحدث في هذا الفصل عن "روح الإسلام" وأثرها في مسيرة التاريخ ، وذكر الكثير من الشواهد على المثالية في عصور شتى .

ولكنه عندما تحدث عن سيدنا عثمان الخليفة الثالث ، قسا عليه كثيرا ، وأنه ترك لمروان بن الحكم الأموي : أن يتصرف في الأمر بكثير من بكثير من الانحراف عن الإسلام، كما أن طبيعة عثمان الرخية ، وحرصه الشديد على أهله ، قد ساهم كلاهما في حدوث تصرفات أنكرها الكثيرون من الصحابة حوله ، وكان لها مضاعفات كثيرة وآثار في الفتنة التي عانى الإسلام منها بكثير] أ.هـ [3]

قال الأستاذ سيد قطب :

[ واعتذارنا لعثمان رضي الله عنه : أن الخلافة قد جاءت إليه متأخرة ، فكانت العصبة الأموية حوله وهو يدلف إلى الثمانين ، فكان موقفه كما وصفه صاحبه علي بن أبي طالب : "إنّي إن قعدت في بيتي قال: تركتني وقرابتي وحقي؛ وإن تكلّمت فجاء ما يريد، يلعب به مروان، فصار سيقة له يسوقه حيث شاء، بعد كبر سنّه وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم".

ولقد كان من جراء مباكرة الدين الناشئ بالتمكين منه للعصبة الأموية على يدي الخليفة الثالث في كَبْرته : أن تقاليده العملية لم تتأصل على أسس من تعاليمه النظرية لفترة أطول وقد نشأ في عهد عثمان الطويل في الخلافة أن تنموا السلطة الأموية، ويستفحل أمرها في الشام وفي غير الشام، وأن تتضخم الثروات نتيجة لسياسة عثمان (كما سيجيء)، وأن تخلخل الثورة على عثمان بناء الأمة الإسلامية في وقت مبكر شديد التبكير.

ومع كل ما يحمله تاريخ هذه الفترة وأحداثها من أمجاد لهذا الدين تكشف عن نقلة بعيدة جداً في تصور الناس للحياة والحكم وحقوق الأمراء وحقوق الرعية؛ إلا أن الفتنة التي وقعت لا يمكن التقليل من خطرها وآثارها البعيدة المدى .

مضى عثمان إلى رحمة ربه وقد خلف الدولة الأموية قائمة بالفعل بفضل ما مكن لها في الأرض، وبخاصة في الشام ، وبفضل ما مكن للمبادئ الأموية المجافية لروح الإسلام من إقامة الملك الوراثي ، والاستئثار بالمغانم والأموال والمنافع مما أحدث خلخلة في الروح الإسلامي العام، وليس بالقليل ما يشيع في نفس الرعية، إن حقاً وإن باطلاً : أن الخليفة يؤثر أهله ويمنحهم مئات الألوف ، ويعزل أصحاب رسول الله ليولي أعداء رسول الله ، ويبعد مثل أبي ذر ، لأنه أنكر كنز الأموال ، وأنكر الترف الذي يخب فيه الأثرياء ، ودعا إلى مثل ما كان يدعو إليه الرسول e من الإنفاق في البر والتعفف.

فإن النتيجة الطبيعية لشيوع مثل هذه الأفكار، إن حقاً وإن باطلاً أن تثور نفوس، وأن تنحل نفوس ، تثور نفوس الذين أشربت أنفسهم روح الدين إنكاراً وتأثماً ، وتنحل نفوس الذين لبسوا الإسلام رداء، ولم تخالط بشاشته قلوبهم، والذين تجرفهم مطامع الدنيا، ويرون الإنحدار مع التيار ، وهذا كله في أواخر عهد عثمان.

"فلما أن جاء علي؛ لم يكن من اليسير أن يرد الأمر إلى نصابه في هوادة، وقد علم المستنفعون على عهد عثمان، وبخاصة من أمية، أن علياً لن يسكت عليهم، فانحازوا بطبيعتهم وبمصالحهم إلى معاوية.

جاء علي ليرد التصور الإسلامي للحكم إلى نفوس الحكام ونفوس الناس، جاء ليأكل الشعير تطحنه امرأته بيدها ويختم على جراب الشعير ، ويقول : " لا أحب أن يدخل بطني إلا ما أعلم" وربما باع سيفه ليشتري بثمنه الكساء والطعام ، وكره أن ينـزل القصر الأبيض بالكوفة مؤثراً عليه الخصاص التي يسكنها الفقراء.

والذين يرون في معاوية دهاء وبراعة لا يرونها في عليّ ، ويعزون إليهما غلبة معاوية في النهاية، إنما يخطئون تقدير الظروف كما يخطئون فهم عليّ وواجبه، لقد كان واجب عليّ الأول والأخير: أن يرد للتقاليد الإسلامية قوتها، وأن يرد إلى الدين روحه، وأن يجلوا الغاشية التي غشت هذا الروح على أيدي أمية في كَبْرة عثمان ووهنه، ولو جارى وسائل بني أمية في المعركة لبطلت مهمته الحقيقية ، ولما كان لظفره بالخلافة خالصة من قيمة في حياة هذا الدين؛ إن علياً إما أن يكون علياً، أو فلتذهب الخلافة عنه، بل فلتذهب حياته معها، وهذا هو الفهم الصحيح الذي لم يغب عنه كرم الله وجهه وهو يقول: "والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يغدر ويفجر، ولولا كراهية الغدر؛ لكنت من أدهى الناس"!

ومضى عليّ إلى رحمة ربه وجاء بنو أمية .

فلئن كان إيمان عثمان وورعه ورقته كانت تقف حاجزاً أمام أمية؛ لقد انهار هذا الحاجز .. وانفتح الطريق للانحراف .

لقد اتسعت رقعة الإسلام فيما بعد، ولكن روحه انحسرت بلا جدال. ولولا قوة كامنة في طبيعة هذا الدين، وفيض عارم في طاقته الروحية، لكانت أيام أمية كفيلة بتغيير مجراه الأصيل.ولكن روحه ظلت تقاوم وتغالب وما تزال فيها الطاقة الكامنة للغلب والانتصار.

غير أنه منذ أمية انساحت حدود بيت مال المسلمين، فصار نهباً مباحاً للملوك والحاشية والمتملقين، وتخلخلت قواعد العدل الإسلامي الصارم، فأصبح للطبقة الحاكمة امتيازات ولأذيالها منافع ولحاشيتها رسوم، وانقلبت الخلافة ملكاً وملكاً عضوضاً، كما قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم في وثبة من وثبات "الاستشفاف الروحي العميق"[4].

وعدنا نسمع عن الهبات للمتملقين والملهين والمطربين، فيهب أحد ملوك أمية اثني عشر ألف دينار لمعبد، ويهب هارون الرشيد ـ من ملوك العباسيين ـ إسماعيل بن جامع المغني في صوت واحد أربعة آلاف دينار، ومنزلاً نفيس الأثاث والرياش.. وتنطلق الموجة في طريقها لا تقف إلا فترة بين الحين والحين] أ.هـ من كلام سيد قطب[5]

وقد أثار كلام سيد قطب عن عثمان وبني أمية غضب بعض الكتاب والنقاد الإسلاميين ، كان في طليعتهم الأديب المحقق المعروف محمود محمد شاكر ] [6] ، [فكتب نقدا مرا بل هجوما عنيفا على الكتاب في عدة مقالات نشرتها مجلة "المسلمون" التي كان يصدرها الأستاذ سعيد رمضان تحت عناوين مختلفة أذكر منها "حكم بلا بينة" و"ألسنة المفترين"و"تاريخ بلا إيمان" و"لا تسبوا أصحابي".

كما هاجم بعض علماء باكستان سيد قطب لأنه تطاول - في نظرهم - على الخليفة الراشد صهر الرسول الكريم عثمان بن عفان وهو من الصحابة الذين توفي رسول الله وهو عنهم راضٍ .

ولا يتسع المجال هنا لأحكم بين الرجلين الكبيرين ولا سيما أن القضية شائكة وهي من القضايا المهمة التي تضيع فيها الحقيقة بين الغلو والتفريط ، وفي رأيي أن في كلام كل منهما شيئا من الحق وشيئا من الغلو ، والعدل في الوسط بينهما . 

والحقيقة أن تاريخنا - وخصوصا في عصر الصحابة والتابعين وتابعيهم وهي خير قرون الأمة كما صحت بذلك الأحاديث - يحتاج إلى تحقيق علمي رصين وتمحيص لروياته في ضوء الموازين العلمية التي وضعها علماؤنا لتوثيق الأخبار أو تصنيفها ، فلا يؤخذ كل ما في الكتب قضية مسلمة برغم الشكوك والشبهات التي تحيط بها وبرغم ما يعرفه الدارسون المتخصصون من وهن أسانيدها واتهام ناقليها في عدالتهم ونزاهتهم ، فكثير منهم له أهواؤه وفرقته الخاصة التي ينتمي إليها ، ويتعصب لها بالحق أو بالباطل ، بل قد يستحل الكذب لترويج دعاويها وإضعاف خصومها .

ولم يهتم مؤرخونا الأوائل بنقد الأسانيد - برغم قدرتهم على ذلك مثل الطبري - لأن التاريخ في نظرهم لا تترتب عليه أحكام في الحلال والحرام ، فنقلوا إلى الناس ما نقل إليهم بأسانيده ، وتركوا البحث في هذه الأسانيد وغفلوا عن مسألة مهمة وهي أن التاريخ وإن لم تترتب عليه أحكام تترتب عليه أشياء أخرى مثل تشويه صورة الأمة في خير قرونها وأفضل عصورها .

والواجب أن ننظر إلى تاريخنا نظرة منصفة بحيث لا نقدسه ولا نظلمه ، بل ننصفه ونحكم له أو عليه بالعدل كما قال تعالى : " وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى " (الأنعام : 152) ] [7] .

[والشهيد سيد قطب رحمه الله برغم شدته على التاريخ الإسلامي ، بعد عصر الراشدين ، وحملته القاسية على بني أمية .. : لم يسعه إلا أن يعترف بأن الإسلام ظل راسخ البناء مرفوع اللواء منفردا بالفتوى والقضاء والتشريع للأمة الإسلامية في كل شئونها اثني عشر قرنا من الزمان وبهذا أنصف الإسلام وأنصف التاريخ وأنصف نفسه كذلك .

يقول في مقدمة كتابه "مقومات التصور الإسلامي" وهو الجزء المكمل لـ"خصائص التصور الإسلامي" وهو آخر كتابٍ ألفه ، وقد نشر حديثا (1406هـ - 1986م) أي بعد استشهاده رحمه الله بعشرين عاما :"وارتفع لواء الإسلام عاليا، وظل مرفوعا أكثر من ألف عام، بل حوالي مائتين وألف عام، ممثلا في النظام الإسلامي في ظل الأقطار الإسلامية، وهو النظام الذي يرجع الناس فيه إلى شريعة الله وحدها، ولا يحكم قضاة هذه الأمة إلا بالشريعة الإسلامية في كل أمر من أمور الحياة، ولا يتحاكم الناس إلى غير هذه الشريعة، في شأن واحد من شئون المعاش"ص 26]أ.هـ [8]

[وما قلناه عن الإمام المودودي ، نقوله أيضا في الاعتذار عن الشهيد قطب ، فهو مغمور في بحر حسناته وعطائه للإسلام][9]

-----------
هوامش :
[1] انظر كناب " تاريخنا المفترى عليه" للإمام يوسف القرضاوي ، ص 46-47 ، ط 1 ، دار الشروق بالقاهرة ، 2005م
[2] لسيد قطب كتابان قيمان في خدمة القرآن هما : "التصوير الفني في القرآن" و "مشاهد القيامة في القرآن" ولكنه ألفهما بوصفه أديبا ناقدا متذوقا لبلاغة القرآن، أكثر مما هو داعية لرسالة القرآن (القرضاوي)
[3] انظر كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام " للأستاذ سيد قطب ، الطبعة السابعة عام 1967م ، ص 201
[4] الأولى من هذا التعبير نقول : كان ذلك بوحي من الله ، إذا ثبتت صحة الحديث ، وسنتحدث عن ذلك فيما بعد (القرضاوي)
[5] انظر كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام " للأستاذ سيد قطب ، فصل "الواقع التاريخي في الإسلام" الطبعة السابعة عام 1967م ، ص 210
[6] انظر كناب " تاريخنا المفترى عليه" للإمام يوسف القرضاوي ، ص 57-61 ، ط 1 ، دار الشروق بالقاهرة ، 2005م
[7] انظر كتاب : ابن القرية والكتاب ملامح سيرة ومسيرة ، للإمام يوسف القرضاوي ، ج 1 ، ص 428 - 431 ، ط 2 ، دار الشروق ، القاهرة ، 2006م
[8] انظر كتاب : ابن القرية والكتاب ، ج 1 ، ص 428 - 431 ، وكتاب تاريخنا المفترى عليه ص 68
[9] انظر كتاب "تاريخنا المفترى عليه" ص 61

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب

https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/1909775_1134385113252397_280951231114679889_n.png?oh=ce27f1f077775ef691bee01533ea4def&oe=5881F006

ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [13] كلمة أخيرة حول سيد قطب
ردود على تعليقات القراء حول موقفي من سيد قطب

[ لم أكن أقصد أن أخوض هذه المعركة التي دخلتها على كره مني، فليس بيني وبين سيد قطب إلا كل مودة ومحبة واحترام، بل أكن له ما أكنه لأئمة الدعوة مثل حسن البنا، والمودودي، والسباعي، والغزالي وغيرهم. وأنا لست من أقران سيد قطب حتى يتصور البعض أن يكون بيني وبينه من التغاير ما بين الأقران بعضهم وبعض. على أنّا -وإن جمعتنا ساحة الدعوة- يظل لكل منا ميدانه وحلبته التي يصول فيها ويجول، فبيننا عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة.

ولكني فوجئت بما أثارته مذكراتي من (وقفة مع سيد قطب) وما ذكرته عما تحمله في المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية من ميل إلى (تكفير مسلمي اليوم) -مع محاولتي التخفيف من عباراتي ما استطعت- مما جعل كثيرا من قراء المذكرات يطالبونني بالأدلة التي تثبت هذه الدعوى. ولم يسعني إلا أن أنقل من ثلاثة كتب (نصوصا صريحة[1]) تصرح بتكفير مسلمي اليوم.

واكتفى معظم القراء بهذه الشواهد الناطقة، ولكن عددا من الإخوان المتحمسين – الذين لا أشك في إخلاصهم –، مثل جمال سلطان وأحمد عبد المجيد ومحمود عزت وغيرهم – عز عليهم أن يتصف سيد بتلك الصفة (تكفير المسلمين) وأنا والله يعز علي ذلك، ولكن ما حيلتي والشواهد تدمغني، والنصوص الواضحة المتكررة لا تدع لي مجالا. وليست الأمور بالتمني!

على أن هذا الفكر لم يكن مجرد فكر نظري تجريدي معلق في الهواء، بل هو فكر موصول بالواقع بنى صاحبه على أساسه جدرانا وسقوفا، ورتب عليه نتائج وآثارا كررها وأكدها في كتبه.

ومن ذلك: أنه رأى التركيز على وجوب الدعوة إلى اعتناق هذه العقيدة، لا على عرض التشريع أو النظام الإسلامي السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. فإنما يتأتى ذلك بعد وجود الجماعة المسلمة.

ومن ذلك السخرية بدعوى إحياء الفقه الإسلامي وتطويره وفق حاجات العصر، وتجديد الاجتهاد، ونحو ذلك، مع غيبة المجتمع المسلم، بل مع انقطاع الوجود الإسلامي منذ زمن بعيد!

وأذكر أن الأخ الفاضل عادل الصلاحي – مترجم (الظلال) إلى الإنجليزية – طلب لقائي في لندن، وأخبرني بأنه فوجئ بما كتبت عن سيد، وأنه لقي سيدا قبل استشهاده، وعلم منه: أنه يركز قبل كل شيء على التربية.

قلت له: وهذا صحيح، ولكن على أي شيء يربي من انضم إليه؟ هنا مربط الفرس كما يقولون.

ثم قلت له: كيف تترجم العبارات التي تحمل دلالة واضحة على تكفير مسلمي اليوم؟

قال: بصراحة أنا لا أترجمها حرفيا، بل أذكر معنى عاما يقرب من مدلولها إلى القارئ، وإن لم ينقل إليه المعنى المراد!

قلت له: وهل ترى أنك بهذا تكون قد أديت أمانة الترجمة؟ وماذا تصنع لو جاء معقب عليك، وقال: إن المترجم تعمد تحريف الترجمة؟!

فسكت الرجل، ثم قال: وما الحل؟

قلت: ولا حل عندي إلى الصدق، ومواجهة الحقائق مكشوفة، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم.

على أن الذي يهون من هذه القضية عدة أمور:

1. أن هذا الفكر نتيجة اجتهاد من قائله، أسسه على ظواهر واعتبارات شرعية وعقلية، وهو اجتهاد يعذر صاحبه، بل يؤجر عليه أجرا واحدا، وإن كان في القضايا الأصولية والعلمية كما حقق شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء الأمة.
2. أن الظرف الذي ظهر فيه هذا الفكر، وصاحبه في سجن الطغاة، ودعاة الإسلام يشنقون ويعذبون ويشردون، والشيوعيون يمكن لهم: يجعل لمتبنيه عذرا أكبر.
3. أن صاحب هذا الفكر لم يكن من المتاجرين بالدين، أو المتزيين بزي أهله، بل كان رجلا صادقا مخلصا فنى عن نفسه، وعاش لهذا الدين حتى قدم رقبته رخيصة في سبيل الله.
وعلى كره مني سأضطر أن أقول بعض كلمات أعقب بها على الذين ناقشوا هذه القضية على موقع إسلام أون لاين.نت، وبعضهم من إخواني وبعضهم من تلاميذي، وليس في العلم كبير "وفوق كل ذي علم عليم" ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة.

بعض الإخوة لم يعترضوا على الموضوع، ولكنهم اعترضوا على "التوقيت"، قائلين: ليس هذا أوان إثارة هذا الأمر، وقد قلت: إني دُفعت إليه دفعا، ثم ماذا الوقت المناسب لإثارة ذلك وقد مضى على الشهيد قطب ثلث قرن أو يزيد؟ ثم إن الأمانة العلمية، وما أخذه الله على العلماء من البيان وعدم الكتمان: يوجب علي أن أقول الحق لأمة الإسلام، وأنا هنا أقول ما قاله الحافظ الذهبي في ابن تيمية: شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه.

وتمنى بعضهم لو أني استمررت في نهجي الذي عرفت به، وهو نهج تجميعي يبني ولا يهدم، يجمع ولا يفرق، فلماذا أثير هذه القضية وأفرق الصفوف اليوم؟

ومعاذ الله أن أكون داعي فتنة أو مفرق صف، وقد علم الجميع: أني أدعو إلى التقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية من سنة وشيعة وزيدية وإباضية فكيف أفرق بين أهل السنة – بل أهل الدعوة – بعضهم وبعض؟!

ومما أذهلني وآذاني ما ذكره الأخ أحمد عبد المجيد – تعريضا – أن إلصاق تهمة التكفير بسيد قُصد بها الإساءة إلى الرموز الإسلامية.

ويعلم الله كم كنت حريصا ألا أدخل هذا المعترك، وكم أجلته وأجلته، ولكن متى كان الأشخاص مقدسين عندنا؟

لقد كنت مترددا بين الإبقاء على سمعة الشهيد من ناحية، وبيان الحقيقة الشرعية من ناحية أخرى، فترجحت الثانية على الأولى، لأن البيان فريضة، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وخطأ سيد لا ينقص من منزلته ولا من مثوبته عند الله، فإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى.

ومما ذكره الأخ عبد المجيد بحق قوله: حدث تغير في أفكار سيد قطب، فعندما كان في مستشفى ليمان طره، طلب من أسرته كتب الشهيد حسن البنا والأستاذ المودودي، فبدأ يتنبه إلى أمور كانت غائبة عنه وخصوصا في ضرورة التركيز على موضوع العقيدة، ثم بدأ يطلب كتب ابن تيمية وابن القيم، وبدأ التغير في تفكيره وكتاباته، وظهر ذلك جليا في الطبعة الثانية من الظلال، والأجزاء الأخيرة منه بدءا من الجزء 13، وكتاب: خصائص التصور الإسلامي و(مقوماته) و(معالم في الطريق)، ولو فرضنا أن هناك أخطاء عند سيد قطب -وهو بشر- فإن التقييم العادل أن نأخذ الأفكار الراشدة ونترك غيرها ولا نرفض المنهج بأكمله) انتهى.

وهذا كلام منصف متزن، وهو العدل الذي أمرنا به (وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى) [الأنعام: 152]، وأنا لا أقول غير ذلك، فلم أقل يوما: اعدموا تراث سيد قطب، أو احرقوا كتبه كما أحرقت كتب الإمام الغزالي وغيره قديما، ففي هذا التراث كنوز لا ينبغي أن تهمل إلى جوار (المطبات) التي يجب أن نحذر. وهذا ما أدين الله تعالى به.

ومما دهشت له: إن أكثر المعلقين دفعهم الحماس بعيدا عن لب الموضوع، فتحدثوا في أشياء جانبية، وتركوا الجوهر، وهو (النصوص الصريحة) المنقولة من كتب سيد رحمه الله.

ومما قاله بعضهم: إن الناس قرءوا (الظلال) ولم يفهموا ما فهمته من فكرة (التكفير)

وهذا الكلام غير صحيح، فقد أثار جدلا طويلا داخل الإخوان في السجون، ومن آثاره بحث قضية: هل نحن جماعة المسلمين؟ أو نحن جماعة من المسلمين؟ حتى أن مكتب الإرشاد أرسل إلى سيد الأخ عبد الرءوف أبو الوفا: يسأله عن هذه المسألة، ومن ذلك سؤال الأستاذ عمر التلمساني له وسؤال الحاجة زينب الغزالي له.

وقد رأينا تجمعات في أقطار مختلفة يسمون (القطبيين)، يتبنون فكرة التكفير، وقد رأيت من آثار ذلك: من سألوني عن الصلاة في البيوت، وترك المساجد باعتبارها معابد الجاهلية، وهو مما فهموه من الظلال في تفسير قوله تعالى "واجعلوا بيوتكم قبلة"، وقد رددت عليهم في الجزء الأول من كتابي (فتاوى معاصرة).

ومن قرأ أدبيات جماعات التكفير يجد آثار هذا الفكر وعباراته المعروفة في صلب هذا الفكر، وإن لم يصرحوا بالنقل عنه.

وأنبه هنا على مسألة مهمة، وهي: إن أكثر الإخوان قرءوا الظلال، ولم يفهموا منه أمر التكفير، لأنهم قرءوه وهم يحملون فكر البنا، فلم يتأثروا بالفكر الجديد، وحملوه على ما في رءوسهم من أفكار سابقة غرستها فيهم تربية البنا، حتى أكثر الذين كانوا في تنظيم 1965 -وسيد على رأسه- لم يكونوا يحملون مبدأ التكفير.

على أن هؤلاء -عادة- لا يقرءون الظلال، وإنما يقرءون فقرات منه على فترات، ربما كانت متباعدة، وقلما يربطون بين الفقرات بعضها وبعض.

على أن الذين لم يأخذوا فكرة التكفير لم تخطئهم رشحات من تأثير هذا الفكر الثائر الرافض على مفاهيمهم وعلاقاتهم بالآخر، ورفض الانفتاح والحوار، والمفاصلة الشعورية مع المجتمع، وإعلان الحرب على العالم كله، حتى المسالمين، والسخرية بدعاة الاجتهاد وتطوير الفقه، وغير ذلك، واتهام دعاة التسامح والموسعين بالهزيمة النفسية والسذاجة الفكرية... إلخ.

قد ينطبق حكم سيد قطب على بعض الأنظمة الحاكمة التي تتبنى (التطرف العلماني) الذي يجاهر بالعداوة لشريعة الإسلام، ويحارب دعاته، ويعمل على تجفيف منابع التدين في الحياة من التعليم والإعلام والثقافة. وهم الذين تحدثت عنهم في كتابي (التطرف العلماني في مواجهة الإسلام)، هؤلاء فئة قليلة مبغوضة من الأمة وموالية لأعدائها.

أما تكفير الجماهير من مسلمي اليوم، كما تنطق بذلك ظواهر نصوص سيد قطب، فلا نوافقه عليها بحال من الأحوال والله يغفر له.

نقطة "الأدبية" و"الفقهية" :

ومما أثاره عدد من الإخوة المعقبين: ما تعلق بـ (أدبية) سيد رحمه الله لا (فقهيته)، وأنه كان (أديبا)، ولم يكن (فقيها)، وأنه أعلن ذلك مرارا. فلا ينبغي أن نحاسبه بما يحاسب به الفقهاء بعضهم بعضا إذ لم يكن واحدا منهم.

وأود أن أقول لهؤلاء الإخوة: إنني أحترم النزعة أو الملكة الأدبية عند سيد، وأراه من أعظم أدباء العصر، ومن أجل هذا لا أطالبه بتدقيق الفقهاء، ولا بتعمق الأصوليين، وهذا ما أوافق فيه الإخوة المعقبين، ولا اعتراض لي عليه.

ولكن الذي أخالفهم فيه هو اعتبارهم الأدب أو التعبير الأدبي سببا في غموض الكاتب، وضبابية ما يكتب، والتباسه على قارئه، فالأمر عندي بالعكس تماما، فالكاتب الأديب الأصيل إذا كتب في أي علم: أضفى عليه من إشراق يراعه ومن نصاعة بيانه ما يجليه ويقربه إلى القارئ، ويزيح عنه أي لون من الغموض، وهو ما يسمونه (الأسلوب العلمي المتأدب).

وقد رأينا هذا في كتابات العلماء الأدباء، مثل: محمد عبده، ود. محمد عبد الله دراز، وحسن البنا، ومحمد الغزالي، وعلي الطنطاوي، ومصطفى السباعي، والبهي الخولي وغيرهم.

وسيد قطب يأتي في مقدمة هؤلاء، فلم أر أديبا هو أنصع منه بيانا ولا أوضح أسلوبا في كل ما يكتبه، في التفسير وفي غيره، وقد يقال إنه لم يكتب (تفسيرا) بالمعنى الحرفي للكلمة، وهذا صحيح بالنسبة للنصف الأول من الطبعة الأولى من الظلال، ولكنه في الأجزاء الثلاثة عشر الأخيرة، وفي الأجزاء الأولى من الطبعة الثانية، اجتهد أن يكون مفسرا، ويكاد يكون أفرغ تفسير ابن كثير – أو خلاصته – في الظلال.

ولم يكن الرجل من دعاة الرمزية أو السريالية أو غيرها من المذاهب الأدبية التي تعمد إلى الغموض وتغلف مقولاتها وأفكارها بأغلفة تحجب معانيها عن جماهير القراء، ولم يكن سيد كذلك من دعاة الباطنية الذين يقولون القول، ولا يريدون به ما يفهمه سائر الناس. بل كان رجلا صريحا بينا لا يحب الظلام ولا الضبابية فيما يقول ولا فيما يفعل.

والقضية التي نتحدث عنها – قضية تكفير مسلمي اليوم – ليست قضية فقهية بعيدة عن اختصاص سيد كما يتصور أو يصور بعض الإخوة المتحمسين، بل هي قضية فكرية محورية أساسية، أو قل هي: قضية أو أصولية اعتقادية، هي ألصق بعلم العقائد والكلام منها بعلم الفقه والفروع؛ ولأنها قضية فكرية محورية مركزية عند سيد، رأيناه يلح عليها، ويكررها ويؤكدها بأساليبه البيانية الرائقة والرائعة حتى تتضح كالشمس في رابعة النهار.

شهود النفي في القضية :

ومما آلمني كثيرا: دخول بعض الإخوة في هذا الميدان، وبضاعتهم مزجاة من العلم الشرعي، وحتى من المنطق العقلي، وظنوا أن الحماس ورص الكلام يغني شيئا في القضايا العلمية الكبيرة.

لقد جاءوا بمن يمكن أن يسموا (شهود النفي) في القضية، ليقولوا: إنهم لقوا سيدا رحمه الله ولم يجدوه يكفر المسلمين، أو سألوه: هل تكفر المسلمين؟ فنفى ذلك، وقال من قال: يجب أن نضم أفعال سيد إلى أقواله حتى نكون منصفين معه.

ونسي هؤلاء ما قرره علماؤنا من (قواعد علمية) تحكم الأمور وتضبطها، من هذه القواعد: إن المثبت مقدم على النافي، وأن من حفظ حجة على من لم يحفظ.

فإذا جاء عشرة ثقات وقالوا: لم نسمع فلانا يشتم فلانا، وجاء رجل ثقة، وقال: إنه سمعه يشتمه، وكان من أهل العدالة والضبط، أخذ بقول هذا الواحد؛ لأنه علم ما لم يعلموا، فهم حدثوا بما يعلمون وهو حدث بما يعلم، وحفظ ما لم يحفظوا، ومن حفظ حجة على من لم يحفظ.

وما ذكره الإخوة من تعارض فعل سيد مع أقواله: قد غفلوا عن أصل مهم، وهو: إن الذي يحكم على العالِم ويعبر عن رأيه هو: قوله لا فعله؛ لأنه فعل امرئ غير معصوم، فلا غرابة أن يناقض فعله قوله، وسلوكه عمله، ما دام لا عصمة له، وقد قال بعض الأئمة:

اعمل بقولي ولا تركن إلى عملي *** ينفعك علمي ولا يضررك تقصيري

وإن كنت أحي -على وجه الخصوص- مقالة الأخ معتز الخطيب التي ناقشت الموضوع مناقشة علمية مستنيرة وموضوعية، كذلك أحيي مقالات أخرى جيدة مثل مقالة العالم الأزهري المتمكن الدكتور يحيى هاشم فرغلي، على ما فيها من تمحل، وإن كان يبدو لي أن بعض هذه المقالات لم تكتب تعليقا على كلامي.

وأريد أن أؤكد للمعلقين جميعا: أني لم أدعِ على الرجل دعوى من كيسي بل من كيسه هو، وما آخذته إلا بكلامه البين الجلي المفهوم، فإن كان رجع عن مضمون هذا الكلام الجلي في أواخر حياته رحمه الله فلُيقَل هذا ولا حرج، إنه تراجع عن هذا الفكر ولم يعد يلتزمه أو يؤمن به. 

وحبذا أن يقول ذلك أولى الناس به: شقيقه الكاتب الكبير الأستاذ محمد قطب حفظه الله، فليت صديقنا العزيز يفعلها فيريح ويستريح، فيعلق على الأقوال التي نقلتها من الظلال ومن غيره وأمثالها بسطر واحد يضع الأمور في نصابها.

لقد درسنا على شيوخنا في الأزهر علما يسمونه (أدب البحث والمناظرة) ومن قواعده المقررة: إن كنت ناقلا فالصحة، وإن كنت مدعيا فالدليل، فلا يطلب من ناقل قول إلا أن يكون نقله صحيحا ثابتا عمن نقله عنه، ولا يطلب من صاحب دعوى إلا أن يقيم الدليل على ثبوتها.

وأنا ادعيت دعوى أقمت الدليل عليها بنقول صحيحة، ولا يشكك أحد في صحة النقول، وإنما يشكك المشككون في ثبوت الدليل، وأنا لا أدري وجها للتشكيك فيه بحال، وقد قيل: توضيح الواضحات من المشكلات، وقال الشاعر:

وليس يصح في الأذهان شيء *** إذا احتاج النهار إلى دليل
ومن قال: إن سيد قطب غير قادر على الإفهام؛ لأنه أديب وليس بفقيه فقد أساء إلى سيد وأساء إلى الأدب والأدباء.

ولا يفوتني هنا أن أنبه على حقيقة لا ريب فيها وهي: أنني -وحاشا لله- لا أكفر سيد قطب، ولا أؤثمه ولا أضلله، بل أخطئه في اجتهاده، فلا يخلط الإخوة بيني وبين من اتهموا سيدا بالكفر والضلال ومن رموه بالقول بوحدة الوجود، أخذا من متشابه كلامه في سورة "الحديد" وسورة "الإخلاص"، ولم يردوا المتشابه إلى المحكم الذي امتلأت به كتبه كلها، وهي تكذِّب هذه الدعوى التي لا تقوم على رجلين.

بين حسن البنا وسيد قطب :

ويحلو لبعض الإخوة أن يعقدوا مقارنة بين حسن البنا وسيد قطب محاولين أن يثبتوا أنهما كانا على خط واحد، ونهج واحد، وأن سيدا لم يتجاوز خط البنا ورحم الله الرجلين.

وأنا أقول: إن سيدا أشاد بالبنا في كتاباته القديمة التي جمعها في كتاب (دراسات إسلامية) فكتب عن حسن البنا وعبقرية البناء. ولكنه لم يتحدث -فيما علمت- عن فكر البنا ومقاصده، ولم ينقل عنه في كتبه كما نقل عن المودودي والندوي، وإن كان يجمعه بحسن البنا الاتجاه العام لنصرة الإسلام، والذود عن حماه.

أما المنهج فكان لكل منهما شخصيته وتميزه، من حيث المنطلق، ومن حيث الغاية، ومن حيث الوسيلة ومن حيث الروح العامة.

فأما المنطلق -وإن كان إسلاميا لكليهما- نجده مختلفا كثيرا بينهما، فحسن البنا ينطلق من أن الأمة الإسلامية موجودة، وأن المسلمين موجودون، ولكنهم يحتاجون – إلى عمل كبير لتفقيههم بالإسلام، وتربيتهم عليه، بدءا بالفرد المسلم، فالبيت المسلم، فالشعب المسلم، فالحكومة المسلمة، فالأمة المسلمة.

وسيد قطب ينطلق من أن الأمة المسلمة قد انقطع وجودها منذ زمن، ولا بد من إعادتها من جديد، وكل الموجودين اليوم من سلالات أقوام كانوا مسلمين، وأوطانهم كانت من قبل دارا للإسلام، ولم تعد اليوم دارا للإسلام، وإذا لم يكونوا مسلمين، فعلينا أن ندعوهم إلى اعتناق العقيدة الإسلامية، وأن يدخلوا في الإسلام من جديد.

حسن البنا يرى أن الإسلام -باعتباره دينا- قائم وموجود، وأن هناك أمة تؤمن به من المحيط إلى المحيط، وأن الأمة المسلمة من أشد الأمم في الأرض تمسكا بدينها، وأن الإنسان العاصي أو المفرط من عامة المسلمين نجد أصل الإيمان مغروسا في أعماقه، ولكنه إيمان نائم أو مخدر، وهو في حاجة إلى إيقاظ وبعث وتنبيه، وهذه مهمة الدعوة الإسلامية ورجالها.

نجد حسن البنا يقول في رسائله: يا قومنا -وكل المسلمين قومنا- ندعوكم إلى كذا وكذا.

بخلاف سيد قطب، فهو يرى أن الإسلام قد انقطع وجوده من الأرض، فلا توجد أمة مسلمة، ولا يوجد مجتمع مسلم، بل لا يوجد أفراد مسلمون، لا بمعنى أنهم ارتدوا عن الإسلام، بل لأنهم لم يدخلوا أصلا في الإسلام؛ لأن دخول الإسلام لا يتحقق إلا بشهادة أن (لا إله إلا الله)، بما تتضمنه من إفراد الله تعالى بالحاكمية، وهم لم ينطقوا بالشهادة بهذا المدلول.

وهذا هو المفهوم الذي أنكره العلامة الندوي على سيد وعلى المودودي من قبله، وسماه (التفسير السياسي للإسلام).

حسن البنا يشعر بوجود الإسلام وأمته، ويتعاطف معها، ويعيش بهمومها، وسيد قطب لا يحس للإسلام ولا لأمته بوجود من حوله، بل يقول: قومنا على ملة، ونحن على ملة وهم على دين ونحن على دين آخر.

غاية حسن البنا أن يصحح فهم المسلمين للإسلام الذي يعتنقونه بحيث لا يقتصر على المعنى اللاهوتي أو التعبدي الشعائري، بل يجب أن يفهموه بشموله وتكامله وتوازنه: عبادة وجهادا، ودينا ودولة، خلقا وقوة، ثروة وغنى، تربية وتشريعا، وبعد تصحيح الفهم تبدأ عملية تجديد الإيمان وغرس المعاني الربانية والأخلاقية.

وغاية سيد قطب: أن يعلن رفض هذا المجتمع كله من حوله، فهو مجتمع جاهلي، لم يدخل بعد في الإسلام المطلوب: أن ندخل الناس في الإسلام من جديد، وندعوهم إلى اعتناق عقيدته، كما دعاهم الرسول وأصحابه وأن نشعرهم بأنهم شيء ونحن شيء وأن نصارحهم بذلك بلا وجل ولا خجل حتى يعرفوا حقيقة أنفسهم.

وسيلة حسن البنا: هي الدعوة والحوار والتربية والتغلغل في المجتمع، والعناية به بحل مشاكله وأخذه بالرفق والتدرج والانفتاح على المخالفين، والتسامح معهم دون تفريط في حقوق الأمة.

وسيلة سيد قطب: هي الدعوة والتربية أيضا مع غرس الشعور في العصبة المؤمنة القليلة -التي هي المسلمة دون من عداها- بالعزلة الشعورية من المجتمع، ورفض الانفتاح والتحاور مع الآخر، بل وتجب التعبئة الفكرية والشعورية ضده، وتقديم سوء الظن بهؤلاء الذين لا يضمرون إلا الشر والعداوة لمسلمين.

الروح العامة في منهج حسن البنا هي: التسامح والانفتاح والحكمة والتدرج.

والروح العامة في منهج قطب هي: التشدد والصرامة وإغلاق الأبواب.

ومن أجمل ما عبر عن اختلاف المنهجين: المفكر المؤرخ المستشار طارق البشري حين قال: "إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا -رحمهما الله- ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة، إنما يجري وصف كل فكر وظروف إعماله، وفكر حسن البنا -لمن يطالعه- فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى، وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة، وفكر امتناع عن الآخرين.. فكر البنا: يزرع أرضا وينثر حبا، ويسقي شجرا وينتشر مع الشمس والهواء .. وفكر قطب: يحفر خندقا ويبني قلاعا ممتنعة عالية الأسوار، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب .. "

موقف الإخوان في معتقل 1965 :

وقد حاول بعض الإخوة المحبين لسيد، والمعظمين له: أن يؤولوا كلماته هذه الظاهرة في دلالاتها على ما نقول. وقال أحدهم – الأخ د. إبراهيم عبيد – في تعقيب له: أليست هذه العبارات التي قالها سيد، مثل ما قاله الإمام حسن البنا في بعض الناس: ليسوا إخوانا، وليسوا مسلمين!

ونقول: إن هذه العبارة التي صدرت من حسن البنا – برغم شدتها وقسوتها حتى أن بعضهم أنكر صدورها عنه، وبعضهم زعم أنه أكره عليها – لا يمكن أن تحمل على ظاهرها؛ لأنها ضد منهج حسن البنا، ضد كتاباته كلها، وضد الأصل العشرين الذي ختم به الأصول إلى وضعها لفهم الإسلام في إطارها وفي حدودها. فلهذا يجب أن تؤول لتتفق مع الاتجاه الفكري والعقدي العام لحسن البنا، فهي كلمة متشابهة، يجب أن ترد إلى سائر كلامه المحكم.

وهذا بخلاف ما نقلناه عن سيد قطب، فهي ليست كلمة ولا كلمتين، وعبارة ولا عبارتين، قيلت في موضع أو موضعين، بل هي فكرة تجري في كتبه الأخيرة مجرى الدم في العروق، ولا نجد في كلامه الآخر ما ينقضها إلا كلامه القديم.

وقد نقلها كثيرون عنه ممن لقوه وسمعوا منه في مستشفى طره، كما حكى ذلك الأخ إبراهيم عبده نفسه حين قال: لما دخلنا المعتقلات سنة 1965 فوجئت -كما فوجئ كثيرون غيري من الإخوان- بفتنة عارمة، تقول بتكفير المسلمين جميعا! وتزعم أن هذا القول مرجعه الأستاذ سيد قطب، أوحى به إلى الذين التقوه في مستشفى طره. وكانت فتنة مزلزلة، رفضناها جميعا. واستبعدنا أن تصدر من الأستاذ سيد. وكانت فتنة هددت المجتمع الإخواني داخل السجن بالانقسام، حتى وصل فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، فحسم هذه القضية، وقف -كعهدنا به- وقفته الصلبة المنضبطة، وأصدر دراسته تحت عنوان (دعاة لا قضاة). وانتهت الفتنة وألتزم الإخوان إلا قليلا.

وقد بدأت الدراسة التي أملاها الأستاذ الهضيبي أو أقرها بنقد بعض كلمات الأستاذ المودودي في تفسير (لا إله إلا الله) وهو بهذا يرد -ضمنيا- على سيد قطب؛ لأن سيد أخذ كلام المودودي وعمقه وفصله، ورتب عليه آثارا وأحكاما، لم يرتبها المودودي نفسه.

وأعتقد اعتقادا جازما أن الأستاذ الهضيبي لم يقرأ ما كتبه سيد، ولا أحد من إخوانه في ذلك الوقت، وإلا لرد عليه. إذ لم تكن كتاباته الجديدة قد انتشرت في ذلك الوقت، ولذلك كانت كل المحاورات والمجالات حول ما سمعه بعض الأشخاص من سيد مشافهة.

وهذا باستثناء جماعة (القطبيين) الذين قرءوا ودققوا وعرفوا وآمنوا بما دعوا، والتزموا به وتحمسوا له، ودافعوا عنه، ودخلوا السجون في سبيله.

موقف سيد قطب من جمهور المسلمين :

كما لاحظت أن الإخوة الذين عقبوا علي كلهم -إلا واحدا- أغفلوا شيئا مهما، هو محور القضية، وهو ما نقلته عن سيد رحمه الله من كتبه. فقد تناسوا هذا تماما، وظلوا يركضون بعيدا: يبحثون عمن لقي سيدا، من سأله فأجابه. ومن سمع منه كذا وكذا، وأنا لا دخل لي بهذا كله. أنا أحكم على فكر الرجل من خلال نصوصه المكتوبة. والنص المكتوب هو أدل شيء على فكر الإنسان. بخلاف ما يقوله شفهيا، مما قد لا ينقل بنصه تماما، وما قد ينقل حسب فهم السامع، وما ينقل بعيدا عن سياقه وملابساته.

كنت أود من الإخوة المعقبين -ماداموا يحترمون المنطق العلمي، والبحث الموضوعي- أن يقفوا عند النصوص التي نقلتها[2] -وهي ليست كل ما قاله الشهيد رحمه الله- ويبينوا لنا المراد منها نصا نصا. لينظر القارئ في تفسيرهم لها: أهو مقبول أم مرفوض؟ طبيعي أم متكلف ولكنهم –للأسف- لم يجشموا أنفسهم مشقة هذا الجهد.

وعندي رأي في تفسير الموقف العلمي لسيد، وهو ما شهده الناس منه، وسمعوه منه، في الفترة التي خرج فيها من ضيق السجن على باحة المجتمع، فقد واجه الجمهور الأعظم من الناس -التي شهدت نصوصه بأنه لم يدخل في الإسلام بعد، ولم يفهم (لا إله إلا الله) بمدلولها الحقيقي الذي حدده- فوجد هذا الجمهور يستقبله في كل مكان بالفرحة والترحاب، ويتعاطف معه، من كان منهم من الإخوان ومن لم يكن، ووجدهم في المساجد مقبلين على الله، تالين لكتاب الله، أو مستمعين له، متأثرين به، فلم يكن من السهل عليه أن يحكم على هؤلاء الناس بالكفر. حقيقة الناس في الواقع الذي يراه أوضح وأكبر مما سطره في الكتب. فلهذا سمعوا منه ما سمعوا، ورأوا منه ما رأوه، وأجابهم حين سئل بما أجاب. مما قد يعتبر تراجعا عما قرره في كتبه.

ولكن ما في الكتب من نصوص، ناصعة البيان، ظاهرة الدلالة، يبقى كما هو، لا نملك أن نغيره، أو نسقط منه حرفا، أو نزيف دلالته. فالحقيقة لا تقبل هذا، والشهيد سيد قطب نفسه لا يرضى هذا التزييف.

وأعتقد -والعلم عند الله- أن الشهيد، لو قدر الله أن ينسأ في أجله، ويعايش الناس في حياة طبيعية، ويتحدث إليهم ويسمع لهم، ويناقشهم ويناقشوه لغير رأيه فيهم، وعدل مما كتبه من قبل. فقد عرفنا من خلائقه: أنه كان رجلا صلبا في دين الله شجاعا في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يبالي أن يقول: أخطأت، فيما أخطأ فيه.

ولا يسعني إلا أن أدعو الله له بواسع المغفرة والرحمة، وأن يجزيه بنيته وبذله لدينه، وأن يأجره الأجرين فيما أصاب فيه من اجتهاد، ولا يجزيه الأجر الواحد فيما أخطأ فيه ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان] [3]

---------
هوامش :
[1] ، [2] طالع الحلقة رقم (6) و (7) من هذا الملف .
[3] المصدر : الموقع الرسمي للإمام يوسف القرضاوي ، بتاريخ 18 سبتمبر 2004م ، وكذلك موقع (إسلام أون لاين) :http://www.qaradawi.net/new/articles/4284-

--------
مرفق ذو صلة : سيد قطب.. والتكفير والعنف - بقلم د. معتز الخطيب
http://www.onislam.net/arabic/islamyoon/armed-action/123648-2004-07-12%2011-41-37.html

لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1

#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب

https://scontent-cdg2-1.xx.fbcdn.net/v/t1.0-9/735171_1134385243252384_1691611873075968212_n.png?oh=a1bd362696fe9728a862d55b18eedee6&oe=58579C5D

ملف خاص | مع الأستاذ سيد قطب " محطات تاريخية ووقفات نقدية "
بقلم الإمام يوسف القرضاوي رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين

الحلقة [14 الأخيرة ] وسطية الإمام حسن البنا " ملحق ختامي "

ومما ينبغي أن نذكره ونذكّر به هنا: التربية الوسطية التي تميّز بها الإمام حسن البنا، ومدرسته، وقد شرحناها في كتابنا (التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا).

فإذا كان المسلمون وسَطاً بين الأمم والملل، وكان أهل السنة وسطاً بين الفرق، فالإخوان وسط بين الجماعات.

فهم يوازنون بين العقل والعاطفة، وبين المادة والروح، وبين النظر والعمل، وبين الفرد والمجتمع، وبين الشورى والطاعة، وبين الحقوق والواجبات وبين القديم والجديد.

التوسط في الموقف من التراث الإسلامي:

وقد انتفعت الحركة بالتراث الإسلامي كله، فأخذت من علماء الشريعة العناية بالنصوص والأحكام، ومن علماء الكلام الاهتمام بالأدلة العقلية وردّ الشُبهات، ومن علماء التصوف العناية بتربية القلوب وتزكية النفوس، مع الحرص البالغ على التحرر مما علق بهذا التراث من شوائب ومحدثات، والرجوع إلى النبع الصافي من كتاب الله وسنّة رسوله.

بين التعصب المذهبي واللامذهبية:

لم يقف حسن البنا من التراث الفقهي بمذاهبه ومدارسه موقف الرفض المطلق، كما صنع بعض الناس، الذين يسمّونهم (اللامذهبيين)، ولا موقف القبول أو التقليد المطلق للمذهب، كما فعل آخرون، فلم يوجب التقليد أبدا للمذاهب، ولم يُحرّمه كذلك أبدا على كل الناس، لكنه أجازه لبعض الناس بقيود وشروط هي غاية في الاعتدال، فقال: فقي (الأصل السابع) من الأصول العشرين:

(ولكل مسلم لم يبلغ درجة النظر في أدلة الأحكام الفرعية أن يتبع إماماً من أئمة الدين، ويحسن به – مع هذا الإتباع – أن يجتهد ما استطاع في تعرُّف أدلة إمامه، وأن يتقبّل كل إرشاد مصحوب بالدليل، متى صحَّ عنده صلاح مَنْ أرشده وكفايته، وأن يستكمل نقصه العلمي إن كان من أهل العلم حتى يبلغ درجة النظر) أي القدرة على الترجيح والاجتهاد ولو جزئيا.

الاعتدال في الموقف من تراث السلف:

وليس معنى هذا أنّ كل ما قاله إمام من أئمة الدين حق وصواب، فإنما هو مجتهد في الوصول إلى الحق، فإن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، وليس علينا – بل ليس لنا – إذا تبيّن خطؤه أن نتّبعه. ولهذا قال في (الأصل السادس) بصريح العبارة:

(وكلّ أحد يؤخذ من كلامه ويُترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم. وكل ما جاء عن السَلَف – رضوان الله عليهم – موافقاً للكتاب والسنة قبلناه،
وإلا فكتاب الله وسنّة رسوله أولى بالاتباع، ولكنا لا نعرض للأشخاص – فيما اختُلِف فيه – بطعن أو تجريح، ونكلهم إلى نياتهم، وقد أفضوا إلى ما قدَّموا).

وهذا هو الاعتدال، كما أنه هو الإنصاف الذي لا يستطيع أحد أن يماري فيه، وهو موقف شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه المركز الجليل (رفع الملام عن الأئمة الأعلام).

ما تلون بلون عصره وبيئته لا يلزم العصور الأخرى رعايته:

ولم يقف رائد الحركة الإسلامية عند هذا الحد، بل أعلن أن كل الآراء والعلوم التي تلونت بلون عصرها وبيئتها لا تلزمنا نحن دعاة الإسلام في القرن الرابع عشر الهجري، ولنا الحرية أن نجتهد لأنفسنا كما اجتهدوا، وإن كنا لا نهمل دراستها والانتفاع بها، فهي ثروة عظيمة بلا شك.
يقول في (رسالة المؤتمر الخامس):

(يعتقد الإخوان المسلمون أنّ أساس التعاليم الإسلامية معينها هو كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، اللذان إن تمسكت بهما الأمة فلن تضل أبداً، وأن كثيراً من الآراء والعلوم التي اتصلت بالإسلام، وتلونت بلونه تحمل لون العصور التي أوجدتها، والشعوب التي عاصرتها، ولهذا يجب أن تستقي النُظم الإسلامية التي تُحمل عليها الأمة من هذا المعين الصافي: معين السهولة الأولى، وأن نفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح رضوان الله عليهم، وأن نقف عند هذه الحدود الربانية، حتى لا نُقيِّد أنفسنا بغير ما قيَّدنا الله به، ولا نلزم عصرنا لون عصر لا يتفق معه، والإسلام دين البشرية جميعاً).

هذه هي روح التجديد الحق، تجديد الاعتدال لا تجديد الشطح والتطرف.

هذا موقفه من قضية الفقه وقضية الاجتهاد والتقليد، والمذهبية واللامذهبية، وسَطَاً معتدلاً، لا غلو ولا تقصير.

التوسط في الموقف من قضايا العقيدة:

وكذلك كان موقفه في قضية (العقيدة) وما جرى حولها من خلاف في بعض المسائل، وفهم بعض النصوص، واختلاف الفرِق والمذاهب في ذلك.

لقد كان يعتنق عقيدة أهل السنة والجماعة، ويتبنى طريق السلف في فهم الآيات والأحاديث المتعلّقة بصفات الله تعالى. وكان حريصاً كل الحرص على تحقيق التوحيد، ومحاربة الشرك بكل ألوانه وأنواعه: أكبره وأصغره، وجليّه وخفيّه، منكراً على مظاهر الوثنية، وكل المبتدعات الشركية التي دخلت على حياة كثير من المسلمين، مثل الزيارات الشركية للأضرحة، والاستغاثات الشركية بالأولياء، وإتيان الكهنة العرّافين وتصديقهم، إلى غير ذلك من صور الأباطيل والانحرافات.

ولكنه يمهّد لهذه الحملة على الشركيات والبدع، بما يهيئ الأنفس والعقول لتقبّلها، ويصوغ إنكاره في عبارات لبقة حكيمة، تجمع بين مرارة الحق وحلاوة الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة.

التوسط في الموقف من الأولياء ومقابرهم:

اصغ إليه في (الأصول العشرين): (محبة الصالحين واحترامهم، والثناء عليهم بما عُرِف عليهم من طيب أعمالهم، قُربة إلى الله تبارك وتعالى. والأولياء هم المذكورون في قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:63].

والكرامة ثابتة لهم بشرائطها الشرعية، مع اعتقاد أنهم – رضوان الله عليهم – لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً، في حياتهم، أو بعد مماتهم، فضلاً عن أن يهبوا شيئاً من ذلك لغيرهم.

وزيارة القبور أياً كانت: سنّة مشروعة، بالكيفية المأثورة، ولكن الاستعانة بالمقبورين أياً كانوا، ونداءهم لذلك، وطلب قضاء الحاجات منهم، عن قُرب أو بُعد، النذر لهم، وتشييد القبور، وسترها، وإضاءتها، والتمسح بها، والحَلف بغير الله، وما يلحق بذلك من المبتدعات: كبائر تجب محاربتها، ولا نتأول لهذه الأعمال سداً للذريعة).

وهكذا نراه يهتم ببيان الحق قبل فضح الباطل، ويقدم التعريف بالمعروف قبل إنكار المنكر. وبذلك يلين النفوس التي شبّت على الباطل وشابت عليه، ويدخل إليها دخول الداعية الموفق، والمربّي الحكيم، دون استثارة المعاندين، أو تأليب المخالفين.

التوسط في قضية الصفات الإلهية الجبرية:

وكذلك كان الشأن في موضوع )الصفات الإلهية( وما ثار فيها من جدل بين العلماء من مؤولين وغير مؤولين، فهو يغض الطرف عن هذا الخلاف، راجعا إلى معين السهولة الأولى، بعيدا عن تكلّف التأويل، وإثم التعطيل، يقول في (الأصل العاشر):

(ومعرفة الله تبارك وتعالى، وتوحيده، وتنزيهه، أسمى عقائد الإسلام، وآيات الصفات وأحاديثها الصحيحة، وما يليق بذلك من التشابه .. نؤمن بها كما جاءت من غير تأويل ولا تعطيل، ولا نتعرّض لما جاء فيها من خلاف بين العلماء. ويسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} [آل عمران:7]).

الاعتدال في تقويم التصوف:

وبمثل هذه الروح المنصفة المعتدلة وقف من التصوف: فلم يقبله كله بعجره وبجره، وسنيّه وبدعيّه، ولم يرفضه كله بما فيه من صواب وخطأ، وحسن وسوء، بل كان مبدِؤه هنا: خذ ما صفا ودع ما كدر. فليس كل ما في التصوف باطلا، وليس كله حقا، وليس كل المتصوفة مبتدعة، وليس كلهم على سنّة، فلا بد من الانتقاء، والاختيار، والاستفادة من تراث القوم، وفيه من الحرارة والتأثير ما ليس في غيرهم، ولكلامهم صولة ليس لكلام من سواهم، وقد سجل رأيه في التصوف بصراحة في كتابه (مذكرات الدعوة والداعية).

ورغم أنه بدأ في أول الأمر على صلة بإحدى الطرق فهو لم يُسلم زمامه إليها، بل أخذ منها وترك، وقال عن نفسه وعن صديقه السكري: كنّا مريدين أحرارا في تفكيرنا، وإن كنّا مخلصين كل الإخلاص – في تقديرنا – للعبادة والذكر وأدب السلوك.

مع أن الطريقة نفسها كانت أبعد من غيرها عن البدع، وكان يعجبه من شيخها شدّته في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى للملوك والكبراء، واتباع للسُّنن ومحاربة للبدع، ولم يكن يصغي كثيرا لما يسمعه من كرامات الشيخ وخوارقه الحسية، فعمله في هداية الخلق، ونشر الحق أعظم من الكرامات في نظره.

التوسط في الموقف من البدعة:

ولم تلن قناة حسن البنا للبدع والمحدَثات التي راجت بين كثيرين من المتصوفة عن الزيارات البدعية للأضرحة، والتبرّك بالقبور، ودعاء الأموات، وتعليق التمائم، وغيرها، فأعلن الحرب على هذه الأشياء في )الأصول العشرين(، واعتبرها كبائر تجب محاربتها، ولا نتأوّل لها سداً للذريعة.
ومع هذا قال في إنكار البدع ومقاومتها:

(كل بدعة في دين الله لا أصل لها – استحسنها الناس بأهوائهم – سواء بالزيادة فيه أو بالنقص منه: ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شرّ منها).

وهذا هو الفقه حقاً، فإنّ السكوت على المنكر واجب إذا أدّت مقاومته إلى منكر أكبر منه. ولهذا أصل في القرآن والسنّة كما هو معلوم في موضعه. ولهذا كان يصلي التراويح في رمضان ثماني ركعات حسبما صحّ من الحديث عن عائشة .. ولكن لم ينكر على من صلى عشرين، فلكل من الفريقين وجهة ودليل، وسيظل الخلاف في الفروع قائماً لأسباب ذكرها هو في أكثر من رسالة من رسائله.

وقد حكوا عنه أنه زار بلداً اختلف أهله بين صلاة الثمانية وصلاة العشرين، وقام بينهما النزاع على أشدّه، حتى كادوا يقتتلون، واجتمع الفريقان ليسألوه، لم يجبهم بل سألهم هو عن صلاة التراويح: أسنّة هي أم فريضة؟ فقالوا جميعاً: بل سنّة. فقال: والأخوة بين المسلمين واتحاد كلمتهم: سنّة أم فريضة؟ قالوا جميعاً: بل فريضة. فقال في قوة ووضوح كيف تهدمون فريضة من أجل سنّة؟ خير لكم أن تدعوا صلاة التراويح نهائياً في المسجد، وتحتفظوا بأخوتكم سليمة، بدل أن تُصلُّوا ويضرب بعضكم وجوه بعض.

كانت مزيّة حسن البنا الجمع بين عقل السلفي المتبع، وقلب الصوفي المتذوّق. وكذلك أراد لأصحابه.

فهو في العقيدة سلفي خالص، يؤمن بالتوحيد، ويحارب الشرك أكبره وأصغره، وجليّه وخفيّه، ويتبنّى منهج السلف في آيات الصفات وأحاديثها كما بيّن ذلك في رسالته عن )العقائد( وفي أصوله العشرين.

وهو في العبادة كذلك متّبع لا مبتدع، فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ولكنه في تزكية الأنفس، وتهذيب الأخلاق، وعلاج أمراض القلوب، ومقاومة الهوى، وسد مداخل الشيطان إلى قلب الإنسان متصوف سنّي، ذوّاقة نقّادة، يأخذ لنفسه ولأتباعه من كتب القوم ومناهجهم ما يرقّي الروح، ويطهّر القلب، ويوثق الصلة بالله، والحب بين الإخوان.
وموقفه هنا يشبه إلى حدّ كبير موقف شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم، فقد استفادوا من التصوف – علما وعملا وتعليماً – وكتبا في ذلك رسائل وكتباً عديدة، منها لابن تيمية مجلدان في فتاويه: أحدهما تحت عنوان: (التصوف) والثاني تحت عنوان: (السلوك).

أما ابن القيم فله مؤلفات عدة منها: (الداء والدواء)، (طريق الهجرتين(، (عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين).

وأعظمها كتابه الجليل (مدارج السالكين، شرح منازل السائرين إلى مقامات: إياك نعبد وإياك نستعين).

و(المنازل) رسالة موجزة مكثّفة لشيخ الإسلام إسماعيل الهروي الحنبلي، ولكنه طالما خالفه فيما ذهب إليه فيها، قائلا: )شيخ الإسلام حبيب إلينا، ولكن الحق أحب إلينا منه).

وكان ابن تيمية وتلميذه من كبار الربّانيين، أرباب القلوب الحية، والنفوس الزاكية، والأرواح الموصولة بالملأ الأعلى، حتى حكى ابن القيم عن شيخه أنه قال: إنه لتمر علي أوقات أقول فيها: لو كان أهل الجنة على مثل ما أنا فيه لكانوا في حال طيبة!

ولمّا حبسوه في القلعة لم يوهن ذلك من عزمه، ولم يضعف من أُنسه بمولاه، وقال في ذلك: إنما المحبوس من حبس قلبه عن ربه، والمأسور من أسره هواه.

وقال: ماذا يصنع بي أعدائي؟ إن سجنوني فسني خلوة، وإن نفوني فنفيي سياحة، وإن قتلوني فقتلي شهادة!

ويبدو لي من تتبّع حياة حسن البنا ومراحل تفكيره ودعوته: أنه بدأ أقرب إلى الصوفية، وانتهى أقرب إلى السلفية، ولكنه لم يقم بينها يوما حربا، بل طعّم صرامة السلفية بروحانية التصوف، وضبط مواجيد التصوف بالتزام السلفية، وكان ذلك هو الطابع الغالب على أتباعه إلا ما ندر.

الاعتدال في النظرة إلى المجتمع وتحديد هويته:

ومن دلائل الاعتدال والتوازن في تربية الإخوان، كما فهمها حسن البنا ونفّذها: نظرته إلى المجتمع وعلاقة الإخوان به، فهي نظرة وَسَطية معتدلة، تنظر إلى المجتمع من أفق رحب، ومن زوايا متعددة، وبمنظار سليم لا يشبه الغبش والقتام.

فليس هو مجتمعاً خالص الإسلام، كامل الإيمان، كما يتوهّم السطحيون من الناس الذين يشيعون أن أمّة محمد بخير، وأنه لا ينقصنا إلا العلم و(التكنولوجيا)وبذلك تنحل كل العُقد، وتنفض كل المشكلات.

فلا شك أن المجتمع في شتى بلاد الإسلام يعاني أمراضا خطيرة، عقدية وفكرية وخُلُقية واجتماعية، وأن الفساد قد تغلغل في شتّى نواحيه: فساد في العقول، اضطربت به العقائد والمفاهيم، وفساد في الضمائر، اضطربت به الأخلاق والأعمال، وفساد في التشريع، اضطربت به النظم والقوانين، وفساد في الأسرة، اضطربت به العلاقات بين الأزواج والوالدين والأولاد، وفساد في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية كلها، جعل بلاد المسلمين في مؤخرة العالم بعد أن كانت في الطليعة من قافلة البشر، ومأخذ الزمام منها.

ولا شك أن هذا كله نتيجة ضمنية للانحراف عن الإسلام الصحيح، فهماً وإيماناً وتطبيقاً. ولولا هذا ما كان المجتمع في حاجة إلى دعوة جديدة، تصحح فهمه للإسلام، وتجدد إيمانه به، وتدفعه ـ بالتوجيه الراشد، والتربية السليمة ـ على حُسن تطبيقه.

مجتمعاتنا مجتمعات مسلمة:

ورغم هذا الانحراف والفساد الشائع في المجتمع، لم يذهب حسن البنا يوماً إلى أنه مجتمع جاهلي كافر.

إنه قد يصف المجتمع بالانحراف أو الفسوق أو العصيان أو الابتداع .. أما الكفر والرّدة فلا.

فلا زالت شعائر الإسلام تُقام في هذا المجتمع، ولا زالت بعض أحكام الإسلام تُرعي وتُنفذ، ولا زال جمهور الناس مؤمنين بربهم ونبيهم وقرآنهم، ولا زالت العاطفة الدينية تحتل مكانها في الصدور، ولا زالت كلمة الإسلام هي المحرّك الأول للشعوب.

الاحتراز من خطيئة التكفير للمجتمعات والأفراد:

كان حسن البنا يربي أتباعه على الاحتراز من خطيئة (التكفير) للمسلمين، والوقوع فيما وقع فيه الخوارج من قبل، حيث كفّروا مَنْ عداهم من المسلمين، واستحلّوا دماءهم وأموالهم، حتى كان من سماتهم البارزة: أنهم (يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان).

وكان ينكر على الجماعات الدينية التي تتراشق فيما بينها بسهام التكفير، والاتهام بالشرك والردّة.

والأصل الأخير من أصوله العشرين يقول في صراحة: (لا نُكفِّر مسلماً أقرَّ بالشهادتين، وعمل بمقتضاهما، وأدّى الفرائض: برأي أو معصية، إلا إن أقرّ بكلمة الكفر، أو أنكر معلوماً من الدين بالضرورة، أو كذّب صريح القرآن، أو فسّره على وجه لا تحتمله أساليب اللغة العربية بحال، أو عمل عملاً لا يحتمل تأويلاً غير الكفر).

إن تكفير الأفراد والمجتمعات – الذي تبنّاه بعض الدعاة إلى الإسلام فيما بعد، خطأ ديني، وخطأ علمي، وخطأ حركي.

وفي تحديد علاقة الإخوان بالمجتمع، قامت تربية الإخوان على هذه النظرة المتّزنة.

فلم تقم على الذوبان في المجتمع، أو مسايرته في خيره وشره، وحلاله وحرامه باسم (التطور) أو (التحديث) ونحو ذلك من العناوين التي يتكئ عليها دعاة (التغريب) وأدعياء (التجديد) في ديار المسلمين.

كما لم تقم أيضاً على رفض المجتمع، والاستعلاء عليه، ومعاملته معاملة العدو للعدو، ومخاطبته من بعيد، ومن عل، بأنف شامخ، وخد مصعَّر، وشعور بالعزلة والاستكبار.

إنما قامت التربية على أساس الاهتمام بالمجتمع، والتفاعل مع أحداثه، والإحساس بآلامه وآماله، بحيث يفرح الأخ المسلم لأفراحه، ويأسى لأساه، ويعمل لإسعاده وإنقاذه وإصلاحه، فهو كالعضو من الجسد، أو كاللّبنة من البنيان.

وهكذا صوّر لنا النبي صلى الله عليه وسلم مجتمع المؤمنين: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا" [1].

"مثل المسلمين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد"[2] .
"مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم" [3].

حب الوطن والعمل على رقيه :

والأخ المسلم كذلك محب لوطنه، عامل على تخليصه من كل غاصب، وتحريره من كل قيد يعوقه عن النهوض بواجبه عزيزاً مستقلاً.

يقول الشهيد البنا في رسالته (دعوتنا في طور جديد):

(إننا مصريون بهذه البقعة الكريمة التي نبتنا فيها، ونشأنا عليها. ومصر بلد مؤمن تلقّى الإسلام تلقّياً كريماً، وذادَ عنه، وردّ عنه العدوان في كثير من أدوار التاريخ، وأخلص في اعتناقه، وطوى عليه أعطف المشاعر، وأنبل العواطف.وهو لا يصلح إلا بالإسلام، ولا يداوَى إلا بعقاقيره، ولا يطبّ إلا بعلاجه. وقد انتهت إليه، – بحكم الظروف الكثيرة – حضانة الفكرة الإسلامية، والقيام عليها، فكيف لا نعمل لمصر ولخير مصر؟ وكيف لا ندفع عن مصر بكل ما نستطيع؟ وكيف يقال: إن الإيمان بالمصرية لا يتفق مع ما يجب أن يدعو إليه رجل ينادي بالإسلام ويهتف بالإسلام!) [4]. انتهى [5]

-----------
هوامش :
[1] متفق عليه: رواه البخاري في المظالم (2446)، ومسلم في البر
والصلة والآداب (2585)، كما رواه أحمد في المسند (19624)، والترمذي في البر والصلة
(1928)، والنسائي في الزكاة (2560) عن أبي موسى.
[2] متفق عليه: رواه البخاري في الأدب (6011)، ومسلم في البر والصلةوالآداب (2586)، كما رواه أحمد في المسند (18373) عن النعمان بن بشير.
[3] رواه الطبراني في الصغير (907)، والأوسط (7473)، عن حذيفة بن
اليمان، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه عبد
الله بن أبي جعفر الرازي ضعفه محمد بن حميد ووثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان
(1/264)، انظر: المنتقى (997).
[4] انظر : كتابنا " التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا"
[5] انظر كتاب "فقه الوسطية الإسلامية والتجديد" للإمام يوسف القرضاوي ، ص 158 - 167 ، ط 3 ، نشر دار الشروق سنة 2012م

--------
لمتابعة باقي حلقات ملف " مع الأستاذ سيد قطب .." اضغط هنا :
https://www.facebook.com/media/set/?set=a.980352221989021.1073741843.498773483480233&type=1
#يوسف_القرضاوي | #سيد_قطب –