samedi 30 septembre 2017

محمد ديب شحرور الدولة و المجتمع الاستبداد ونتائجه ( إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ)




إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ
الاستبداد(1) ونتائجه
قال تعالى:
  • {له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله، إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال} الرعد 11.
  • {ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وأن الله سميع عليم} الأنفال 53.
آيتان تقولان أن هناك قانونا ربانيا، هو أن التغيير يبدأ من الناس أولا، ومن إرادتهم، فإذا كان هذا التغيير نحو الأسوأ، فسيحصل السوء لا مرد له، وإذا كان نحو الأحسن، فالحسن سيأتي لا مرد له. وإذا كان هناك مجموعة من الناس في وضع حسن، وساء وضعهم، فهذا يعني أن البداية منهم، فالقانون الرباني يعمل فيهم، أي أن الحكمة التي تعمل في كل المجتمعات هي (عن الله يساعد الذين يساعدون أنفسهم).
أما إذا كانوا مؤمنين فلهم زيادة، كما في قوله تعالى: {… إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون، وترجون من الله ما لا يرجون…}. النساء 104 – أي أن قوانين الوجود مطواعة للمؤمن والكافر على حد سواء، وأن أسباب النصر وأسباب الهزيمة هي نفسها للمؤمن والكافر، لكن المؤمن يزيد بأن له رجاء عند الله تعالى.
من هنا يبدأ الفعل الأول وهو التغيير في النفس، ولكن ما هو هذا التغيير؟ هل نزيد من مجالس الصلاة على النبي، ونزيد في قراءة الصلاة الدارية والصلاة الأمية؟ أم نزيد في قيام الليل والنوافل، ونصوم كل اثنين وخميس؟ أم نطلق لحانا ونعف عن شواربنا، أم نزيد من الموالد وحلقات الذكر وتلاوة آي الذكر الحكيم على الأموات، أم نأمر النساء بالتحجب جميعا، ونتلو الأوراد والأذكار صباح مساء؟
إن الإسلام، منذ أن بعث محمد صلى الله عليه وسلم رسولا إلى يومنا هذا، لم يعان أزمة في العبادات، فالمصلون بالملايين، وعدد المساجد في ازدياد مطرد بكل أنحاءا لعالم الإسلامي، والصائمون بالملايين، والأماكن المقدسة على سعتها لا تتسع للحجاج الواردني من كل حدب وصوب، ومع ذلك كله نجد العبادات، التي لم نعان أية أزمة فيها، في ظل أي نظام استبدادي أم غير استبدادي، وطني أم أجنبي، هي التي يتم التركيز عليها صباح مساء، في كل أنحاء العالم الإسلامي خاصة السياسي، ويتم – بشكل كامل – إسقاط أطروحة التطور كعمود فقري للتوحيد. ومن هنا نرى أن التغيير يبدأ بالنفس وبالتفكير والعمل على التخلص من الاستبداد بكل أنواعه التي سنشرحها في هذا الفصل.
1 – الاستبداد العقائدي
الاستبداد العقائدي هو القناعة بأن أعمال الإنسان ورزقه وعمره مكتوبة عليه منذ الأزل، وهذا ما يجب أن نرفضه جذريا. ذلك لأن الله سبحانه لم يكتب على زيد منذ الأزل أن يكون غنيا، وعلى عمرو أن يكون فقيرا، ولكن يوجد في علم الله منذ الأزل الغنى والفقر كضدين، أما من هو الغني ومن هو الفقير، فهذا غير مكتوب على أحد، بل هي إرادة الإنسان التي تعمل ضمن قوانين رب العالمين، والتي تجعل الغني غنيا والفقير فقيرا. أي ان الإنسان لا يستطيع أن يخلق فعلا غير موجود في الطبيعة أو في بنيته، لكنه يختار بوعي أفعاله الموجودة في بنيته وف الطبيعة، ويستثمرها بالطريق التي يشاء، وهو حر في هذا.
والخير والشر موجودان في متناول إرادة الإنسان، يتجسدان في الهدف من هذه الأفعال المسخرة له بمقدار معرفته لها، بغض النظر عن نتيجة الهدف خيرا أم شرا. وهنا يكمن العدل الإلهي المطلق في الخلق، فكل الأفعال في الطبيعة وفي بنية الإنسان مطواعة للإنسان للخير والشر على حد سواء، فهي ليست مطواعة بذاتها في الخير، ممتنعة بذاتها عن الشر، وإنما الإنسان نفسه هو الذي يسخرها لهذا أو ذاك.
وهنا نرى الفرق الكبير بين أم الكتاب والقرآن، فالقرآن يخبرنا عن قوانين الوجود الموضوعي، وأم الكتاب تعطينا ماذا نفعل، وكيف نتوجه إلى الخير ونتجنب الشر باعتبارهما صفتين ذاتيتين. وخارج الإنسان لا يوجد خير وشر، بل هو الوجود، لكن الخير والشر مرتبطان بعمل الإنسان الواعي، لذا قال تعالى: {فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره} – الزلزلة 7 و8 – {ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها} – الشمس 7 و8.
هنا لابد مرة أخرى من توضيح الفرق بين اللوح المحفوظ والإمام المبين، وكيف جاء القرآن منهما معا، وكيف نميز آيات اللوح المحفوظ، التي حوت القوانين العامة الناظمة للوجود وقوانين التاريخ، وبين آيات الإمام المبين التي حوت أحداث الطبيعة الجزئية ,وأحداثا لتاريخ، والتي تعمل ضمن قوانين اللوح المحفوظ ولا تناقضها. إذا أردنا أن نفهم هذا الفرق، فما علينا إلا أن ننظر إلى بنية الحاسوب الإلكتروني، فالحاسوب يتألف من جزئين أساسيين:
– الجزء الأول ROM (أي اقرأ فقط) وهي البنية الأساسية للحاسوب، عبارة عن دارات مغلقة LOOP يمكن معرفتها، ولا يمكن الدخول إليها ولا التصرف فيها، وهي الجزء الثابت من الحاسوب.
– الجزء الثاني RAM (أي ذاكرة الدخول والتصرف والاستعمال والتسجيل..) وهي الذاكرة الممكن الوصول إليها، وهي مناط التصرف من قبل مستعملي الحاسوب، ويمكن إليها بأي برنامج يريده المتصرف بالكمبيوتر: إحصائي، طبي، تسجيل أحداث إنسانية، هندسة، فلك، الخ… وهو الجزء المتغير من الحاسوب، ومناط تصريف الإنسان المبرمج، لكن كل قوانين هذا الجزء المفتوح لا تخالف ولا تخرج عن قوانين الجزء الثابت الـ ROM.
فإذا أخذنا آيات القرآن وحاولنا تصنيفها ضمن هذا المبدأ، نرى أن القرآن يحتوي على هذين النوعين، وهنا نميز بين آيات اللوح المحفوظ وآيات الإمام المبين. وندرج أمثلة من الآيات المغلقة في القرآن، التي هي ليست مناط التصريف الإنساني، بل هي للقراءة والعلم فقط:
  • {أو لم ير الذين كفروا أن السموات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما، وجعلنا من الماء كل شيء حي، أفلا يؤمنون} الأنبياء 30.
  • {وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم وجعلنا فيها فجاجا سبلا لعلهم يهتدون} الأنبياء 31.
  • {وجعلنا السماء سقفا محفوظا، وهم عن آياتها معرضون}. الأنبياء 32.
  • {وهو الذي خلق الليل والنهار والشمس والقمر، كل في فلك يسبحون}. الأنبياء 33.
  • {وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد، أفإن مت فهم الخالدون}. الأنبياء: 34.
  • {كل نفس ذائقة الموت، ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون}. الأنبياء 35.
ونلاحظ أن هذه الآيات جاءت كلها مغلقة لا يمكن الدخول إليها والتصرف بها، فيها قوانين عامة ناظمة للوجود، جاءت للمعرفة فقط، وليست مناط تصريف، لكنها مناط إيمان وهداية. ونختم هذه الأمثلة بمثالين من آيات قوانين التاريخ المغلقة:
  • {وإن من قرية، إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة و مذبوها عذابا شديدا، كان ذلك في الكتاب مسطورا}. الإسراء 58.
  • {وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ثم أخذتها وإلي المصير}. الحج 48.
ونلاحظ أن هذه الآيات عامة ناظمة للتاريخ الإنساني، وهي للعلم فقط، وليست مناط التصريف الإنساني. لنأخذ الآن مثالا على الآيات المفتوحة في القرآن التي هي من الإمام المبين (أو ما يعادل الـ RAM في الحاسوب) ومناط التصريف الإنساني، أي أن الإنسان يستطيع أن يتدخل فيها سلبا أو إيجابا، في قوله تعالى:
  • {والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها، كذلك النشور}. فاطر 8.
  • {والله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم جعلكم أزواجا، وما تحمل من أنثى ولا تضع إلا بعلمه، وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره غلا في كتاب، إن ذلك على الله يسير}. فاطر 11.
فالنشور في الآية الأولى قانون مغلق من اللوح المحفوظ، والبعث حق لا يمكن التدخل به، والله تعالى يقربه من الفهم الإنساني بهذه الصور من القوانين المتمثلة بالسحاب والأمطار وتكثيفها وتفجيرها وإنزالها في مناطق محددة. والموت كالنشور والبعث حق وقانون مغلق لا يمكن الدخول إليه والتصرف به، ورد في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت…} آل عمران 185. لكن تدخل الإنسان ممكن بطول الأعمار وقصرها عن طريق الطب، وتخفيض عدد الوفيات مع تقدم المعرفة في حقول الصحة العامة، إلا أن الموت بذاته يبقى محتوما.
وننتقل إلى القصص القرآني لنرى أن كل آياته مفتوحة، فقد أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون فقال سبحانه (فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى} طه 44. ونحن الآن يمكن أن نقلد موسى ونقول للآخرين قولا لينا، أي بإمكاننا الدخول إليها للتصرف وليس للمعرفة فقط. لذا قال الله تعالى عن القصص القرآني (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} يوسف 111.
استنادا لما سبق، نعرف أن الأحداث الإنسانية التاريخية أحداث مفتوحة وليست مغلقة. ونطرح السؤال التالي: هل يمكن وجود حاسوب دون جزء ثابت ROM؟ أو نطرح السؤال المقابل: هل يمكن أن نستفيد من حاسوب ألغينا فيه الجزء المفتوح RAM؟ والجواب على السؤالين هو النفي البات الجازم، فنحن في الحالة الأولى أمام حاسوب كل ما فيه مفتوح سائب لا ناظم له ولا ثبات، يتصرف فيه المستثمر على هواه وكيفما اتفق، ونحن في الحالة الثانية، أمام حاسوب مغلق لا دور لنا أمامه ولا عمل، داراته مغلقة تعمل ضمن برمجة ثابتة مفروضة سلفا. وهذا هو الفرق بين اللوح المحفوظ والإمام المبين.
علينا أن نعلم ان الله لم يكتب الحكم لمعاوية منذ الأزل، ولم يكتب الهزيمة على علي منذ الأزل، ولم يكتب أن يحكم المماليك مصر، ويذلوا شعبها بالفقر حتى يأكل الجيف، وإذا كان الأمر كذلك فنحن أمام حاسوب مغلق لا وجود فيه للـ RAM، والإنسان فيه ليس أكثر من دمية تنفذ برنامجا معينا موضوعا. لكن الأمر ليس كذلك، فالقوانين الموضوعية الظرفية والاجتماعية التي يعيش فيها الإنسان ويختار موقفه وسلوكه من ضمنها بملء حريته، هي مناط الثواب والعقاب. وهنا يبرز أمران هامان:
1 – كيف نفهم سورة لمسد على ضوء ما ذكرنا آنفا، فلقد نزلت السورة كاملة بحق عم النبي صلى الله عليه وسلم أبي لهب، وامرأته أم جميل، ويقول البعض لو أن أبا لهب أعلن إسلامه لكذبت هذه السورة، وعليه، فكل شيء مكتوب من الأزل!! وهنا نقع في مغالطة موضوعية كبيرة، وهي أن هذه السورة نزلت بعد إعلان أبي لهب وزوجه الكفر، وليس الشرك، لأنهم كانوا مشكرني بالأصل، فكفروا بالإضافة لشركهم باتخاذ مواقف علنية شديدة التطرف ضد النبي صلى الله عليه وسلم، حتى إذا وصل أبو لهب، ضمن الظروف التي أعلن فيها مواقفه المتطرفة، إلى نقطة اللاعودة نزلت هذه السورة. فالله سبحانه وتعالى يأمرنا في هذه السورة بعدم التطرف في المواقف، لأن التطرف يوصل الإنسان إلى نقطة اللاعودة.
والنموذج هنا أبو لهب. وقد يحصل ذلك عند كثير من المتطرفين. إن سورة المسد تعطينا درسا كبيرا، في اتخاذ المواقف المتطرفة، بحيث نحشر أنفسنا في زاوية لا حيلة لنا بالخروج منها والرجوع عنها.
2 – حشر علم الله في غير محله، والقول بأن العلم صفة إخبار وليس صفة تأثير، أي سبق في علم الله منذ الأزل أن معاوية سيستلم الحكم وليس عليا، وهذه كانت حجة بني أمية في استلام السلطة بالقوة وجعلها وراثة بالقهر، وأن الصحابة ستتقاتل في معركتي الجمل وصفين، وأن الحجاج سيرجم الكعبة بالمنجنيق… وهذا كله غير صحيح. إذ سيصبح الله في هذه الحالة عالما غير مريد، وسيبدو وكأنه خلق كل شيء، وبرمجة منذ الأزل، ثم ترك الكون ينفذ هذه البرامج دون أن يتدخل في ذلك أبدا، وإنما أخبرنا به فقط، أي كأن الله خلق الوجود وأدار له ظهره وتركه، لأن كل شيء معلوم مسبقا، وهذا غير صحيح، لأننا في هذه الحالة نشبه الله بالعالم العاجز، حاشاه تعالى، فالعلم يولد القوة لا العجز.
أي أننا نشبه الله بعالم نووي كامل العلم، يخبرنا بكل شيء عن الذرة، ولا يستثمر هذه المعلومات لا للخير ولا للشر، لتبقى مجرد معلومات. ففي هذه الحالة يصبح الإنسان ذا قدرة تفوق قدرة الله، لأنه وظف معلوماته المتواضعة، واستثمر قوانين الطبيعة المعلومة لديه، وطوعها لمصلحته خيرا أم شرا. فكيف الخروج من هذا المأزق؟
والخروج هو في أن نفهم أننا وضعنا في علم الله ما هو داخل تحت بند إذنه ومشيئته، فوقعنا في الخطأ التالي: إذا سبق في علم الله منذ الأزل أن تضرب أمريكا قنبلة ذرية على اليابان عام 1945، وتقتل حوالي مئة ألف شخص من مختلف الأعمار، في لحظة واحدة، فلا يجب علينا أن نحتج على ذلك، لأن احتجاجنا عليه سيكون كما لو أننا نضع الله سبحانه في خانة الجهل، وحرصنا على كمال علم الله وعدم وضعه في خانة الجهل، يجعلنا نقبل بكل حادثة حدثت، وأن حدوثها هو الاحتمال الوحيد لتتطابق مع علم الله الأزلي، مما يوقعنا في خانة الجبرية دون أن ندري، ثم نلجأ بعدها إلى اللف والدوران.
وأننا بهذا الإلغاء أيضا، نلغي دعاء الإنسان لله واستجابة الله للدعاء، ونلغي الحرية الإنسانية شئنا أم أبينا، مقابل حرصنا على علم الله الكامل الأزلي، بالشكل الذي يطرح علينا، علما بأن كمال المعرفة لله سبحانه لا يحتاج إلى تزكيتنا، والمشكلة أن مشيئة الله الأزلية هي في وجود الأضداد بشكل مطلق في الأفعال وفي السلوك الإنساني، وسيان في علم الله إن آمن زيد وكفر عمرو أو العكس. فإذا كان ثمة مئات الاحتمالات أمام زيد لعمل ما، ومئات الاحتمالات أمام عمرو، فهذه الاحتمالات متكافئة في علم الله، والله لا يعلم احتمالا أكثر مما يعلم احتمالا آخر أو أقل، لذا فالله لا يخضع لعنصر المباغتة والمفاجأة والتمني إذ ثمة في كل لحظة تطابق كامل بين أحداث الوجود الكوني والوجود الإنساني وبين علم الله.
وكما عرفنا سابقا، فإن كمال المعرفة هو التطابق الكامل بين الفكر والوجود. وإن إرادة الله سبحانه أن يكون هناك ملايين الاحتمالات في السلوك الإنساني تقوم كلها على الأضداد، وتستوي وتتكافأ كلها في علمه، وأن إرادة الإنسان، ضمن الظروف التي يعيشها هي التي تحدد أحد الاحتمالات الممكنة، والله يسجل عليه ذلك ويجازيه به، ومنها يظهر مفهوم الخطأ والصواب والمعصية والطاعة.
هنا نلاحظ كيف خلطنا بين علم الله وإرادته، ونزعنا ما هو داخل تحت بند إرادته ووضعناه تحت بند علمه، فوقعنا في الجبرية بأقسى أنواعها، وزرع الانهزامية في منطلقنا العقائدي، وجعلنا نضع كل شيء على عاتق الله. وكان الأجدر عوضا عن قولنا “لا حركة ولا سكون.. إلا بأمره تكون” أن نقول “الحركة والسكون معا وبشكل مطلق ومتكافئ بإرادة الله “وليس حركة عمرو وسكون زيد، فإذا تحرك عمرو وسكن زيد، فقد اختار عمرو الحركة بنفسه، واختار زيد السكون بنفسه، وعليه يكون الثواب والعقاب والمسؤولية. ومن هنا قلنا سابقا، أن اليقين في قوانين الكليات حتمي، وأن اليقين في قوانين الجزئيات احتمالي.
إن أول ما يجب علينا تغييره في أنفسنا، هو قناعتنا بأن الله لم يكتب الشقاء والسعادة، والغنى والفقر، وطول العمر وقصره على أحد أبدا منذ الأزل، بل وضع النواميس العامة التي من خلالها يتصرف الناس بملء إرادتهم وحريتهم، وفي هذا يقع الثواب والعقاب والمسؤولية، وقناعتنا بأن الاحتمال الواحد إكراه، ولو تحقق هذا الاحتمال الواحد في علم الله الأزلي بلحظة معينة لإنسان ما، لأصبح هذا الإنسان مجبورا بالضرورة، ولكان ذلك نقصانا في معرفة الله، تعالى الله عما تصفون.
فإذا وضعنا هذا في قناعاتنا، وأن هناك حسابا، وأن ما يقع من ظلم واضطهاد ليس مكتوبا منذ الأزل، وأن الذي يضطهدنا ويستعمرنا قد فعل ذلك بإرادة شخصية منه، وأن الظلم والعدل متكافئان ف يعلم الله تماما، نستطيع أن نتغلب على ما في أنفسنا من عقد، وأن نحاسب الآخرين، وأن لا ندع أحدا يقوم باضطهادنا وتجويعنا وقصف أعمارنا وإذلالنا.
لقد لعب هذا النوع من الاستبداد العقائدي، الذي تم ترسيخه ابتداء من العصر الأموي، دورا هاما في تهميش الناس على صعيد سياسة الدولة والسلطة، وما زال يلعب الدور نفس، في العالمين العربي والإسلامي، بترسيخ القناعات الجبرية في أذهان الناس وضمائرهم، على أنها جزء من العقيدة الإسلامية، وبتحويلهم إلى مطاوعين لكل سلطة مهما كانت استبدادية، وجعلهم يربطون كل ما يحدث بإرادة الله. وما المآسي التي سطرها تاريخنا، ومواقف الناس السلبية تجاهها، إلا إحدى نتائج هذا الاستبداد.
2 – الاستبداد الفكري
النوع الثاني من الاستبداد، هو الاستبداد الفكري. الذي بدأ بعصر التدوين، واكتمل باستقالة العقل العربي الإسلامي على يد الغزالي وابن عربي، وبإعطائه للآخر مقابل لا شيء.
ففي عصر التدوين بالقرن الثاني الهجري، تم تأطير الإسلام ضمن أطر مازالت موجودة حتى يومنا هذا، وتم تعريف السنة، ووضع أصول الفقه، وحتى أصول اللغة العربية، ضمن أطر نبعت من المعارف السائدة، أي من قبل أناس محكومين بالنظم المعرفية السائدة في ذلك الوقت. ولما كان الله مطلقا، وما عداه نسبي، فكل ما تم وضعه كان من باب تفاعل الناس مع التنزيل منسوبا إلى القرن الثاني الهجري، وبعد وضع هذه الأطر التي لا خروج عنها، اقتصر البحث في الممكنات العقلية، التي يمكن استنباطها ضمن هذه الأطر والنظم، حتى يومنا هذا، إلى أن تم استنفاذها.
ونسمع بين الحين والآخر من يقول: افتحوا باب الاجتهاد!! ونحن نقول إن باب الاجتهاد لم يغلق أصلا، حتى نطالب بفتحه، ومجامع الفقه الإسلامي مشرعة لا أحد يمنعها من الاجتهاد، لكن إمكانية الاجتهاد ضمن الأطر التي رسخت منذ القرنين الثاني والثالث الهجري، قد استنفذت، ولم يعد الاجتهاد ممكنا إلا إذا تم تجاوز هذه الأطر، والعودة إلى قراءة التنزيل على أساس معارف اليوم، واعتماد أصول جديدة للفقه الإسلامي، والأهم من ذلك كله، أنهم لم يكتفوا بوضع الأطر وتحديدها، بل تم إغلاق هذه الأطر تماما.
حيث مازال رفض إعادة النظر فيها قائما، ينسبونه إلى النبي صلى الله عليه وسلم في قوله عن خير الناس وخير الأمم وخير القرون(2)، وكأن النبي صلى الله عليه وسلم حكم، وما كان له أن يفعل، بأن بعد القرن الثاني الهجري، لا يوجد أناس قادرون على الفهم، وأن تطور التاريخ والمعارف الإنسانية سيقف بعدها، وأن علينا اليوم أن ننظر إلى أنفسنا نظرة دونية بالمقارنة بالسلف، ولا ال لنا مهما فعلنا بالوصول إلى مستواهم، وأن التاريخ وقانون التاريخ يسير إلى الوراء لا إلى الأمام، وأننا أمام إما نقل الحاضر إلى الماضي، أو جر الماضي إلى الحاضر، ولا يوجد أي مستقبل في كليهما، وأن ازدهار الفكر محصور بهذه القرون الثلاثة، أما بعدها، فالعاقل هو المقلد!! وكأن عشرات الآيات الواردة في التنزيل الحكيم التي تحدثت عن الذين يعقلون والذين يتفكرون، هي مخصوصة بأهل تلك القرون، أما نحن.. فلا عقل لدينا ولا فكر إلا التقليد.
ونحن نقول، إن هذا الحديث بالذات، وهو من حديث الآحاد، بالشكل الذي يرد به في صحاح كتب الحديث، يناقض العمود الفقري للعقيدة الإسلامية، ولقوانين التاريخ في القصص القرآني، التي تشير كلها إلى تقدم المعارف والتشريع، لا إلى تخلفها. ويناقض حديث “مثل أمتي مثل المطر، لا يدري أو له خير أم آخره”(3) لقد حصلت في هذه القرون الثلاثة، معارك الجمل وصفين، وقتل الصحابة بعضهم بعضا، وتم إلغاء الشورى من الإسلام، وترسيخ الاستبداد السياسي، واستلام الحكم بالقوة، وتحويله إلى وراثة بالقهر، وترسيخ السلطة المطلقة للخليفة، وتم عصيان أمر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كتابة وتدوين أحاديثه، فإذا صح هذا الحديث إلى جانب ما ذكرنا، فعلينا أن نقبل كل التخلف الذي نحن فيه، وعلى رأسه الاستبداد السياسي وغياب الديموقراطية، وأن لا نطمح بأن يكون لنا في العالم دور نساهم فيه بصنع الحضارة والتقدم. وإذا صح هذا الحديث، فهذا يعني أنه يكذب قول الله سبحانه: {ولو كنت علم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء…} الأعراف 188.
لقد انقطع النبي صلى الله عليه وسلم من لحظة وفاته عن الدنيا، فلم تعد له علاقة بكل ما حدث بعده، وعلاقة الحديث واضحة بارتباطها بأسباب سياسية واقتصادية وشعوبية وثقافية وعقائدية، لتجعل منه صلى الله عليه وسلم مرجعا لتبرير كل هذه المواقف لأصحابها. هناك من يقول: علينا أن نستعمل موازين العلم والمنطق لدينا لفهم الإسلام، فيرد عليه من يقول: إنك بهذا تخالف الحديث!! ونحن نسأل، هل كل ما طرح في هذه القرون يجب أن نقبله بالضرورة؟ إن الله سبحانه لم يفوض أهل القرون الثلاثة بالتفكير عنا، فأعطاهم العقل والفكر، وجردنا منهما، فأصبحنا ليس لنا إلا التقليد.
والله سبحانه لا يمكن أن يأمر الناس بأمر، إلا إذا كانوا قادرين عليه، فهو قد أمرهم، مثلا، بالصوم، وهذا يعني بالضرورة أنهم يستطيعون ذلك، بدليل أنه استثنى غير المستطيع. وأمرهم، مثلا، بالسير في الأرض والنظر {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق…} العنكبوت 20 – ولو كان مستحيلا أن يستطيع الناس من النظر في الأرض والسير فيها، معرفة بدء الخلق لما أمرهم بذلك. وجاء الأوربيون وطبقوا هذه الآية، ومازالوا يعملون بها حتى اليوم، فتوصلوا بذلك إلى اختراع الكثير من التجهيزات التي ساعدتهم على المعرفة، وعلى استعمار الأرض، وشعوب الأرض، أما نحن.. فتركنا العمل بالآية، ونظرنا في كتب الأثر ولسلف، وجعلناها حجتنا في بدء الخلق، وأرحنا أنفسنا من عناء البحث والنظر والسير في الأرض. ورغم أننا استعمرنا، وصرنا سخرية الأمم، فمازلنا نصر حتى الآن على التمسك بما ورد في الأثر، ضاربين بالآية عرض الحائط وكأنها لا تعنينا.
ومع هذه النظرة الدونية إلى أنفسنا، التي ترسخت في دائرة وعينا، ومع الإصرار الشديد على أن لا يكون هناك مجتهدون وعباقرة في مستوى القرون الأولى، وعلى أنك مهما فعلت أيها الإنسان، فهم أفضل منك.. تتحول هذه الأطروحة إلى نوع من القهر والاضطهاد الفكري، كما لو أن الله سبحانه أعطى العقل فقط لأولئك الناس، وفوضهم ليفكروا عن كل الأجيال اللاحقة إلى أن تقوم الساعة، وحاشاه سبحانه أن يفعل ذلك، والحساب عنده في أحد وجهيه فردي على السلوك يوم القيامة {كل نفس بما كسبت رهينة} المدثر 38 – {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} البقرة 286 – {بل الإنسان على نفسه بصيرة * ولو ألقى معاذيره} القيامة 14 و15 – {ولا تزر وازرة وزر أخرى} فاطر 18 – {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى} النجم 39 و40.
لقد تم تسليط سيف السلف على كل فكر حر نقدي إبداعي فجمدت عقول الناس بالقهر، ترغيبا تارة وترهيبا تارة أخرى، وتم استغلال عواطف المسلمين في حبهم لله ورسوله أسوأ استغلال، واندفع المسلمون للقتال والدفاع عن جهلهم، تحت شعار حب الله ورسوله. كل هذا بسبب عدم التفريق بين النص الموحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وبين ما قاله الناس عنه. فثمة أمران مختلفان تماما، تم دمجهما وتقديمهما كأنهما أمر واحد، آيات الأحكام والفقه الإسلامي. كما تم الدمج بين التنزيل والتفاسير كأنهما شيء واحد، رغم أن الأول من عند الله، والثاني من عند الناس، ورغم الفرق الكبير بينهما.
لقد تم إسقاط هذا الاستبداد الفكري، والنظرة الدونية للذات، على كل نواحي الحياة، فالطالب يفوض أستاذه بالتفكير عنه، حتى غدا المنهج التربوي التعليمي من الناحية التربوية تقليدا أعمى تحت شعار الاحترام، ومن الناحية التعليمية تلقينا من الأستاذ للطالب، وغدت الامتحانات ذاكرة حفظية، لا امتحانات فهم للمعلومات وتفاعل معها. مع إهمال ن أساس التعليم، هو تعليم الإنسان كيف يفكر، وأن القادر على التفكير هو القادر على الإبداع. لقد أصبنا بداء الكسل الفكري في ظل هذا النوع من الاستبداد، فأصبحنا نفوض الآخرين بالتفكير عنا، ونأخذ ما قالوا دون مناقشة، فالمهم عندنا من قال، وليس ماذا قال. لأن العلم مبني عندنا على الثقة وليس على البينة.
هناك قول منسوب للإمام علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – بعد معركة الجمل ومقتل عدد من الصحابة، حين سأله أحد الناس: أيعقل يا أمير المؤمنين أن يكون هؤلاء على باطل؟ فقال الإمام: ويحك، الحق لا يعرف بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله!!. لقد أصبحنا، بدلا من البحث العلمي، نسقط أهواءنا على تفسير الأحداث معتمدين مبدأ التجويز، بعيدين كل البعد عن قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا} الإسراء 36 – أي أن العلم الجدير بالاتباع هو المبني على الإدراك الفؤادي والبينات المادية. وأصبحنا نكيل الاتهامات، بدلا من إزعاج أنفسنا بالبحث عن البينات وتقديمها.
توجه هذا الاستبداد الفكري، الذي تجلى وتجسد بظاهرة تفويض الآخر، وبالنظرة الدونية للذات، إلى الدول الأوربية، فأصبحنا مصابين بعقدتين: عقدة دونية تجاه الغرب والدول المتحضرة، وعقدة دونية تجاه السلف. وغدونا مستسلمين ثقافيا، إما للسلف أو للغرب، إذ يستحيل أن يكون الإنسان قزما أمام السلف، وعملاقا أمام الغرب. وهذه هي الناحية المطلوب تغييرها في أنفسنا ثانيا، ليغير الله ما بنا، طبقا للآية.
3 – الاستبداد المعرفي
النوع الثالث من الاستبداد هو الاستبداد المعرفي بشقيه، استبداد الموضوع والمنهج، واستبداد الأداة والنظام.
فإذا أخذنا النزيل الحكيم، من جانب استبداد الموضوع والمنهج، ونظرنا إلى عدد آيات الأحكام، لوجدناها تشكل أقل نسبة من المجموع الإجمالي للتنزيل، ولرأيناها جاءت لكل الناس، دقيقة الدلالة، لكنها تفهم حسب الأداة المستعملة في الفهم (الاجتهاد). فإذا نظرنا في الأمثلة التالية من الآيات:
1 – {يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم إلى الكعبين، وإن كنتم جنبا فاطهروا، وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه، ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون} المائدة 6 – (أم الكتاب – أحكام).
2 – {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين * ثم جعلناه نطفة في قرار مكين * ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر، فتبارك الله أحسن الخالقين} المؤمنون 12 – 14 (قرآن – قوانين خلق).
3 – {ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض ثم يخرج به زرعا مختلفا ألوانه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يجعله حطاما، إن في ذلك لذكرى لأولي الألباب} (الزمر 21} (قرآن – قوانين مياه ونبات).
ولننظر ماذا كتب المسلمون عن هذه الآيات المختلفة خلال أربعة عشر قرنا.
1 – لقد كتبنا عن آية الوضوء كتبا بأكملها في صفحات طوال، رغم أنها من الأحكام المفروضة على كل ذي عشر.
2 – بينما لا نجد في كتب التراث كلها عن آيات خلق الإنسان، سوى بضع صفحات فيها كثير من الوهم العلمي، علما أن أي عالم من علماء الأجنة، مؤمنا كان أم كافرا، يرى فيها صورة كاملة لتطور الجنين في رحم الأم، ويقبلها كحقيقة علمية موضوعية.
فإذا استعرضنا ما كتب حول هذا الموضوع في العالم خلال نصف القرن الأخير، نرى أنها مجلدات ومجلدات، كل ما فيها ضروري ومفيد.
3 – أما آية الينابيع والزرع في سورة الزمر، ففيها علمان من أكبر العلوم وأعقدها، هما علم المياه الجوفية (الهيدرولوجيا) وعلم أصل وتطور النبات (بوتاني)، لا يحوي التراث عنهما سوى القليل من الصفحات معظمها خطأ، ونرى عشرات المجلدات التي كتبت عن هذين العلمين في القرن العشرين وكلها ضرورية ومفيدة.
من هنا يتبين لنا نقطة التخلف التي نعاني منها، وهي أن كتب التراث استفاضت ببحث آيات الأحكام في مجلدات كثيرة، وكانت هزيلة في بحث مواضيع الكون والوجود والتاريخ في آيات القرآن، ونفهم في ضوء ذلك ما رمت إليه الآية في قوله تعالى: {وقال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا} الفرقان 30.
لقد شمل وحي الله إلى رسوله الكريم آيات المواضيع كلها، الأحكام والتشريعات، والقرآن والقوانين، والتفصيل والوصف، وتوجهت كلها إلى الذين يعقلون. والذين يتفكرون، وكانت نسبة آيات الأحكام إلى مجمل التنزيل قليلة كما قلنا، ومع ذلك كله، نجد كتب الفقه واللغة والتفسير والحديث تنذر مجلداتها لهذا القليل، تاركة ما كان يجب أن تتصدى له من شرح للقرآن، الذي يحتاج إلى آلاف المجلدات. من هنا ترانا نقول مع القائلين بأن الحضارة العربية الإسلامية حضارة فقه ولغة وكلام، وليست حضارة علوم.
والطريف أن نسبة توزع كتب العلوم والأدب والقانون في البلدان المتحضرة، تتناسب مع بنية المصحف، فإذا أخذنا مكتبة الكونغرس الأمريكي مثلا، وأحصينا الكتب الصادرة في أمريكا خلال مئة عام مضت، نرى أن نسبة الكتب العلمية، بما فيها التاريخ والفلسفة، تفوق كثيرا نسبة كتب التشريع والقانون والتربية والسياسة، أي أن نسبة مواضيع القرآن تفوق كثيرا مواضيع الأحكام.
وهذه هي البنية الإسلامية السليمة التي تتطابق مع بنية التنزيل الحكيم في حجم المواضيع وتنوعها، فهناك توازن بين أبحاث أم الكتاب، وأبحاث القرآن، هذا التوازن لم يحصل في الحضارة العربية الإسلامية، ولم يصحح حتى الآن، فما زالت مجلدات أم الكتاب في الأحكام والتشريعات أضعاف أضعاف ما يكتب في القرآن وقوانين الخلق والوجود والطبيعة بمختلف علومها، وهذا يقف بنا أمام استبداد الموضوع والمنهج في الاستبداد المعرفي.
إذا تخيلنا مجموعة من الناس تعيش في بلد ما، تعلمت من مشايخها وتراثها الصلاة، والوضوء والحج، والزكاة، والتقوى والزهد، لكنها لم تسمع دروسا في الفيزياء والكيمياء والرياضيات والفلك والطب، فستظن أنه لا يوجد علم، إلا هذا الذي تلقته. وقد حصلت هذه الظاهرة فعلا خلال قرون عديدة من عصور الانحطاط، إذ ترسخ في أذهان الناس أن العلم، هو هذا الذي سمعوه من المشايخ، وأن من يدرس هذا العلم اسمه عالم، فأطلق لقب العلماء على الذين يدرسون هذه المواضيع، ولم يطلقوه على غيرهم، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد غيرهم، وبقيت هذه الحالة إلى يومنا هذا. فالعلماء هم علماء الصلاة والوضوء والحج، وعلماء هل التلفزيون حلال أم حرام، أما اختصاصيو الطب والفلك وسائر العلوم القرآنية الأخرى، فلا يطلق عليهم هذا اللقب، للسبب التاريخي البحت الذي أسلفناه.
وعندما تمر الأجيال المتعاقبة بهذه الحالة، تصاب بداء الجهل المطبق، وتفقد ملكة المحاكمة العقلية وملكة التفكير، لأن العلوم تحتاج إلى فكر ومحاكمة عقلية بقيت مفقودة عدة قرون، وخبا معها الفكر العربي الإسلامي ونام. وعندما بدأت العلوم تدخل إلى العالمين العربي والإسلامي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بدأت علومنا وعلماؤنا بالاحتجاج.
ثمة نموذج نضعه بين يدي القارئ، هو “حاشية الطحطاوي في فقه أبي حنيفة النعمان” ليرى معنا كيف تعمل الممكنات العقلية في الفقه، حتى تصل إلى حد المضحك واللامعقول، الذي لم تنتبه إليه إلا في القرن العشرين، عندما غزت بقية العلوم الوطن العربي، وظهر التمرد.
ولكن التمرد وحده لا يكفي، بل يجب تقديم بديل منهجي للمنهج الذي وضع في القرن الثاني الهجري، واستنفذ حتى الآن. إن هذا النوع من الخلل يولد الجهل والاستبداد المطلق، فالإنسان الذي يسمع فقط بما هو حلال وما هو حرام، وما هو مسموح وما هو ممنوع، تتولد لديه ملكة المسموح وغير المسموح، عوضا عن ملكة المعقول وغير المعقول، والموجود وغير الموجود. والجاهل لا يسأل لأنه لا يعرف أسباب تعاسته وتخلفه، فالإنسان يطلب الأشياء بحسب معرفته لها، فالذي لا يعرف شيئا لا يطلب شيئا. لهذا استمر سبات العرب والمسلمين قرون عديدة، إضافة إلى فلسفة السبات التي صاغها الغزالي وابن عربي، وفقه السبات الذي أطره الشافعي.
فإذا انعكس الخلل، أي اهتم المجتمع بمواضيع العلوم القرآنية، وأهمل مواضيع التشريع والأحكام، فسيحصل ما حصل في الاتحاد السوفياتي. إذ قامت في عام 1917 الثورة البولشيفية، وقاد الحزب الشيوعي هذه الثورة الدموية العنيفة، وكانت الشعوب التي تشكل الاتحاد السوفياتي شعوبا أمية جاهلة، فتقدم العلم، وفتحت الجامعات ومعاهد البحث العلمي، وحصلت قفزة هائلة في شتى حقول العلوم الونية، لكن مقابل ذلك ثبتت أطر الدولة التي أسسها لينين على مبدأ الحزب الواحد وديكتاتورية البروليتاريا، كبنية تصلح مؤقتا لفترة الثورة. ومع تقدم الزمن تقدم الشعب السوفياتي في العلم. وزادت المعلوماتية عند الشعب، وظلت بنية الدولة دون تطوير يتناسب مع وعي المواطن، وبقيت أطروحات الحزب الشيوعي في عام 1987 هي نفس أطروحاته في عام 1917، وتخلفت الدولة السوفياتية في بنيتها الإدارية والحقوقية والقضائية، فمع طبع ملايين الكتب العلمية في ظل الثورة العلمية، بقيت المنظومة الحقوقية والقضائية والإدارية في الدولة مبهمة وغير محددة.
ولا نرى كتبا في الحقوق والإدارة والقضاء والفلسفة في الاتحاد السوفياتي، إلا ما ندر، تتناسب مع القفزات العلمية في العلوم الأخرى. فمن الناحية الحقوقية، كان غير معروف تماما وغير محدد كيف تدار الدولة، هل تدار بالقانون أم بالتعليمات الحزبية؟ ووصل الأمر إلى أن كل شيء ممنوع، عدا ما يسمح به الحزب والدولة، عوضا عن أن يكون العكس. ومع تقدم العلوم، تقدم وعي الشعب السوفياتي، ولاحظ الخلل في بنية الدولة وإدارتها، خاصة بعد ثورة المعلوماتية الهائلة التي أحدثها الحاسوب، ومحطات الفضاء، وسرعة انتقال المعلومات. ففي عام 1917 بعد أن كان الحزب الشيوعي أمام الناس، يقودها خلفه، أصبح في عام 1987 وراء الناس، تقوده خلفها، وغدا عشرة في وجه التطور، كل ذلك بسبب الإطار الذي وضعه لينين لبنية الدولة وقيادتها، وخاصة إطار الحزب الواحد.
فلينين بنى الدولة السوفياتية، واللينينية قضت على الدولة السوفياتية. والاتحاد السوفياتي كان دولة متقدمة علميا، متخلفة إداريا ودستوريا وقانونيا وقئيا، مما أثر تأثيرا بالغا على علاقة الناس بالدولة والسلطة. هذه الناحية بالذات لم يقع فيها النبي صلى الله عليه وسلم فقد أسس لدولة العربية الإسلامية، طبقا لتطور العرب التاريخي آنذاك، وطبقا لأحكام أم الكتاب لهذا اتطور، مع التأكيد على العبادات ووضعها خارج السياق التاريخي للدولة وللمجتمع.
ولكن مع الأسف، جاء العصر الأموي ليرسخ هذا التأطير من الناحية السياسية بالاستبداد السياسي المطلق، وجاء الشافعي ليرسخ هذاا لتأطير من الناحية الفقهية، ثم استحكم تأطيرها من الناحية العقائدية والفلسفية على يد الأشعري والغزالي وابن عربي. فالدولة التي أسسها النبي صلى الله عليه وسلم وتركها مفتوحة للحنيفية في كل زمان ومكان، قضى عليها معاوية والشافعي والأشعري والغزالي وابن عربي. وتجدنا اليوم ونحن ندافع عن الإسلام الذي وصلنا، ندافع عن هؤلاء، وعن الإسلام التاريخي الذي وضعوه، ولا ندافع عن التنزيل الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم، ولا عن السنة النبوية.
من الثابت أن الحضارة العربية الإسلامية كان لها تأثير كبير على صنع عصر النهضة في أوروبا، الذي بدأ من الناحية الشكلية عام 1453 بسقوط القسطنطينية. ولكن قبل هذا كان هناك مخاض فكري آذن ببداية هذا العصر. بدأ هذا المخاض بنقل الفلسفة العربية الإسلامية إلى اللاتينية، فكان ابن رشد المتوفى عام 1198م هو الفيلسوف العربي الذي انتقلت كتبه إلى اللاتيية، وفعلت فعلها في الفكر الأوروبي، حتى اضطرت الكنيسة إلى منع كتبه عدة سنوات، ثم اضطرت بعد قيام توما الأكويني بالإصلاح الكنسي إلى تسمية تأثير فلسفة ابن رشد “الرشدية اللاتينية”.
وأثر ابن سينا على الفكر الأوروبي في الطب، فتم تدريس قانونه في أوروبا مئات السنين. كما أثر ابن الهيثم في الضوئيات والبصريات.. ولكن أين حضور كل هؤلاء في العقل العربي؟ لقد أحرقت كتب ابن رشد في شوارع قرطبة على يد “علمائها”، ومات في المنفى، ولم يبق في طول البلاد وعرضها من يستحضر ابن رشد في ذاكرته عند الكلام عن الإسلام، بل يستحضر عوضا عنه، حجة الإسلام الغزالي الذي نظر إلى الفلسفة نظرة محتقرة، واتهم الفلاسفة بالزندقة في كتابه “تهافت الفلاسفة”.
وإذا كان حظ هؤلاء الأعلام، الذين أثروا على الفكر الأوروبي فأخرجوه من الظلمات إلى النور، هو ما شرحناه في الفكر العربي الإسلامي، فماذا كان تأثير الشافعي وأبو الحسن الأشعري والغزالي وابن عربي على الفكر الأوروبي؟ والجواب لا شيء!! فهؤلاء ليس لهم أي حضور في الفكر الأوروبي لا الآن، ولا في الماضي.
قلنا إن الفكر الأوروبي تأثر تأثرا مباشرا بابن رشد وابن سينا وابن البيطار وابن الهيثم وابن النفيس، ووقف بفضلهم على أبواب عصر نهضته، ولكن، هل بقي افكر الأوروبي يجتر هؤلاء ويكررهم إلى يومنا هذا، أم تجاوزهم ليصبحوا من منسياته في مسيرته التاريخية؟ لقد تجاوز الفكر الأوروبي ابن رشد بمراحل عديدة حتى كاد أن يصبح منسيا غلا من مؤرخي تاريخ الحضارة، وقل مثل ذلك بالنسبة لبقية الأعلام.
فإذا كان الفكر الأوروبي قد استطاع أن يتجاوز هؤلاء الأعلام العرب والمسلمين الذين أثروا به في صنع حضارته، فهل استطعنا نحن أن نتجاوز الشافعي في أصول الفقه ونضع أصولا جديدة؟ وهل استطعنا تجاوز البخاري ومسلم ووضعنا أسسا في تنقيح الحديث النبوي؟ وهل استطعنا تجاوز حجة الإسلام الغزالي؟ وهل استطعنا تجاوز الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر ابن عربي؟ وهل استطعنا تجاوز علماء الكلام المعتزلة والأشعرية معا؟ وهل استطعنا تجاوز الطبري وابن كثير؟ بالعكس… فقد تمسكنا بهم أكثر من ذي قبل، وظننا المخرج والحل عندهم، وهنا تكمن المشكلة!! فبدلا من أن يصبح هؤلاء من اهتمام مؤرخي الفقه وعلم الكلام، والفلسفة وعلم الحديث، أصبحوا بما كتبوه عين الإسلام، وأصبحت كتبهم تقدم كما هي، في طباعات أنيقة بعشرات الآلاف إلى الناس لتعليمهم الإسلام، على أنها هي الإسلام!!
ثمة نوعان منا لفسفة ومناهج التفكير: الأول، فلسفة الغروب أو فلسفة النوم، والثاني فلسفة الشروق والفجر أو فلسفة الصحوة والعمل. فالغزالي ولد عام 450هـ 1058م وتوفي عام 505هـ 1113م، أي أن احتلال الصليبيين بيت المقدس عام 492 هـ 1099م حصل وهو على قيد الحياة. بينما توفي ابن رشد عام 1198م بعد معركة حطين عام 1187م، وتوفي ابن عربي عام 1240م، فانظر كيف جاء ابن رشد في صحوة بين نومين!!
لقد عاصر ابن عربي ابن رشد في شبابه قبل أن يهاجر إلى المشرق، وظهر أتباع هؤلاء الثلاثة عندما كانت الحضارة العربية الإسلامية في غروب يتعبه نوم وسبات، وعندما كانت أوربة قد وصلت إلى مرحلة شروق الفجر بعد سبات طويل. لذا، فليس بالأمر العجيب أن يصبح الغزالي حجة الإسلام، ويصبح ابن عربي شيخا أكبر، بعد أن قدما للناس النائمين ما يصلح للأحلام السعيدة (ترك العقل والفلسفة… ترك الدنيا باسم الزهد والتصوف… جهاد النفس… حدثني قلبي عن ربي… التواكل… تفويض الآخر بالتفكير… تهميش الناس بشكل كامل نهائي وغبعادهم عن المجتمع والحكم والدولة).
لهذا كله لقي الغزالي وابن عربي إقبالا شديدا لدى الناس، ووجودا حاضرا في عقولهم حتى يومنا هذا. أما من الناحية الفقهية، فكان أتباع المذاهب الأربعة يعملون في الممكنات العقلية في الفقه والحواشي، حتى غدا الفقه اجترارا للمعلومات.
فإذا كانت فلفة ابن رشد، كما تدلنا قراءات التاريخ، فلسفة فجر وشروق، تصلح لأناس يريدون أن يعملوا العقل والمنطق والتفكير، فلماذا دخلت أوروبا، ولاقت قبولا عندها، ولم تلق قولا في العقل العربي؟ السبب في ذلك هو الشق الثاني من الاستبداد المعرفي، استبداد الأداة.
لقد تم في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري البدء بتدوين التاريخ العربي الإسلامي واللغة العربية، بما في ذلك العصر الجاهلي. وبدأت عملية استرجاع الذاكرة في كل شيء (عدا المصحف الذي جرى نسخه في عهد الخليفة عثمان ابن عفان) فتم استعمال أدوات استرجاع الذاكرة، كالتواتر الشفهي، والرقاع الخطية المتناثرة، وفي مجال اللغة العربية تم الرجوع إلى البداوة، وتم تأطير اللغة على يد سيبويه. وبالمقارنة، فإن في عصرنا الحاضر من أدوات استرجاع الذاكرة ما يقابل التواتر الخبري الشفهي كالصحافة والطباعة والكاسيت والفيديو، والهاتف.
ويمتاز عصرنا بسرعة انتشار الخبر والاتصالات (الطائرة، التلفون، التلكس، الفاكس…) فإذا كانت السلطة في عصرنا تستطيع مع الموقف الأيديولوجي لناقل الخبر المناورة في الخبر والتأثير في صياغته، فما بالكم إذا كانت السلطة استبدادية، والناقل متحيزا، وأدوات استرجاع الذاكرة ضعيفة؟ لقد كان الناس أسرى السلطة الاستبدادية والموقف الأيديولوجي والأداة البدائية في استرجاع الذاكرة، وهذا ما أثر تأثيرا بالغ الخطورة على استرجاع الذاكرة، وعلى صياغة هذا الاسترجاع وتقديمه، خاصة في الحديث النبوي.
فقد وصلتنا الأحاديث التي قالها النبي صلى الله عليه وسلم لأشخاص أو لشخص واحد (أحاديث الآحاد)، ولم تصلنا خطب الجمعة التي خطبها، وسمعها كل المسلمين آنذاك، والتي يصل عددها إلى أربعمائة خطبة على الأقل، وكان المفروض أن تصلنا بالتواتر. والسبب في ذلك هو النواحي الثلاث مجتمعة: ضعف الأداة، موقف السلطة الاستبدادي، والموقف الأيديولوجي للناقل.
ضمن هذا المنظور ثلاثي الجوانب، لا يمكن أن يقوم شيء اسمه الموقف الحيادي، فبمجرد اهتمام البخاري ومسلم بأحاديث الآحاد وتصحيحها، وعدم التفاتهما إلى خطب الجمعة التي سمعها المسلمون المصلون جميعا من النبي صلى الله عليه وسلم، يوضح أمامنا مدى التحفظ الذي يجب أن نتسلح به، على الناقل وموقفه الأيديولوجي، ونحن نقرأ ما ورد في صحيحهما من أحاديث.
ومجرد معرفتنا بأن تدوين الأحاديث، وكتابة الأخبار والتواريخ، تم في عهد الاستبداد السياسي، يجعلنا نشك في حياد السلطة المستبدة التي تم التدوين في عهدها، ونضع إشارات استفهام كثيرة على الأحاديث النبوية المتعلقة بأمور الحكم، وعلى رأسها حديث حذيفة ابن اليمان، عند مسلم، وفيه ما فيه من الحث على قبول الظلم، وإعطاء الاستبداد المبرر العقائدي، فقد حدث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم “قال: يكون من بعدي أئمة لا يهتدون بهدايتي ولا يستنون بسنتي، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان أنس، قال قلت: كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع وتطيع للأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع”(4).
ونحن إذ نرى في هذا الحديث ترسيخا للاستبداد والظلم، ننزه الرسول الأعظم عن قول مثله، وهو الصادق المصدوق الذي جاء عن ربه بآيات الظلم والظالمين.
أمر آخر تم في القرن الثاني الهجري هو تأطير الإسلام من النواحي العقائدية والفقهية والفلسفية، على يد الفقهاء الخمسة وعلى رأسهم الشافعي، ولما كان الإنسان يولد خاليا من المعلومات طبقا للأطروحة القرآنية، وأن المعلومات تأتيه من الوالدين والمجتمع، بما في ذلك علوم الدين، لذا فإن طريقة استنباط المعارف تخضع لمستوى التطور المعرفي للعصر الذي تحصل به المعارف، فكيف قام الفقهاء بهذا التأطير الذي ندافع نحن عنه اليوم؟
لقد حصل هذا، عندما اتسعت رقعة الدولة ودخلتها قوميات غير عربية. فظهرت الحاجة إلى تأطير الإسلام التشريعي ضمن أسس معرفية، عرفت فيما بعد بأصول الفقه. وكان ثمة مدرستان: مدرسة أهل الرأي، يتزعمها أبو حنيفة النعمان، ومدرسة أهل الحديث، يتزعمها الشافعي. فعندما أراد الشافعي تأسيس هذه المدرسة، وإعطاءها أبعادها وأطرها الأيديولوجية، اعتمد على ما يلي:
1 – احتواء التنزيل الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم على حل لكل المشاكل التي تعترض الإنسان في حياته، منذ البعثة إلى أن تقوم الساعة، معتمدا على قوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} الأنعام 38 – فهو يقول: “فليست تنزل بأحد من دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها” (الرسالة ص 20).
2 – سعة اللغة العربية بشكل لا يمكن أن يحيط بها إلا نبي. فيقول: “ولسان العرب أوسع الألسنة مذهبا، وأكثرها ألفاظا، ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي…” (الرسالة ص 42).
3 – إن اللغة العربية غنية بالمترادفات. فيقول: “… وتسمى الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة، وتسمى بالاسم الواحد المعاني الكثيرة…” (الرسالة ص 52).
4 – إن مصطلح الحكمة الذي ورد في التنزيل الحكيم، النساء 113 وآل عمران 81، يقصد به السنة واستقلالها بالتشريع، واعتبارها وحيا من نمط مغاير لوحي التنزيل، أي اعتبارها إلهاما. فيقول: “كل ما سن رسول الله مما ليس فيه كتاب، ومما كتبنا في كتابنا هذا، من ذكر ما من الله به على العباد من تعلم الكتاب والحكمة: دليل على أن الحكمة سنة رسول الله…” (الرسالة ص 32).
5 – إن الإجماع يعني جيل الصحابة رضوان الله عليهم. أي أنه فرق بين التواتر والإجماع، لاستبعاد أن يفعل الصحابة ما فيه مخالفة لسنن النبي صلى الله عليه وسلم(5).
ونحن نرى أن الحكمة لا تعني السنة النبوية لا من قريب ولا من بعيد. والقول بأنهما شيء واحد خطأ، حصل من عطف الحكمة على الكتاب في قوله تعالى: {.. وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم…} النساء 113 – ومن اعتبار أن الكتاب هو كل ما بين دفتي المصحف، فهي إذن شيء آخر غير التنزيل وهي إذن السنة النبوية، والسنة النبوية إذن وحي لها قوة التنزيل في التشريع!!
لقد بينا أن الحكمة تعليمات أخلاقية، وردت كجزء من أم الكتاب، هي الوصايا العشر عند عيسى كما في قوله تعالى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} آل عمران 48 – ووردت أيضا في سورة الإسراء، بدءا من قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه…} إلى قوله تعالى: {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة…}. ونلاحظ في هذه الآيات أنه لا يوجد فيها تشريع، ولكن فيها شرحا للوصايا، إضافة إلى تعليمات أخلاقية ليست تشريعية.
ولقد بين التنزيل الحكيم بشكل قاطع، بأن الحكمة لا تحتاج إلى نبوة، ولا إلى رسالة، وذلك في قوله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء، ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا، وما يذكر إلا أولو الألباب} البقرة 269 – . فلقمان أوتي الحكمة وهو ليس بنبي ولا برسول في قوله تعالى: {ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله، ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن الله غني حميد} لقمان 12 – فإذا كانت الحكمة هي السنة، فأين هي السنة عند نوح وهود وشعيب وصالح وموسى وعيسى إلياس وإسماعيل وإبراهيم ويوسف، وهؤلاء يشملهم قوله تعالى: {وإذا أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة…} آل عمران 81 – وأين السنة عند آل إبراهيم الذين قال عنهم تعالى (أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما} النساء 54.
إننا نرى أن الحكمة لا تعني السنة أبدا، والسنة النبوية ليست بوحي قطعا، فالحكمة لا تنقطع على ألسن الحكماء، إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، وقد استعملت الحكمة على أنها السنة النبوية، لإعطاء السنة نفس مشروعية التنزيل. فكل رسول عنده حكمة، ولكن ليس كل من أوتي الحكمة رسولاً.
علينا أن نميز هنا بين مصطلح الحكمة في التنزيل، ومصطلح الحكم في التنزيل أيضا كمفهوم مختلف. فقد ورد الحكم في قوله تعالى: {وكذلك أنزلناه حكما عربيا} الرعد 37 – للدلالة على أم الكتاب، التي تعتبر الحكمة جزءا منها. وورد في قوله تعالى: {ولوطا آتيناه حكما وعلما} الأنبياء 74 – وهذا يعني أن لوطا رسول (حكما) ونبي (علما). وقوله تعالى بعد أن أورد 17 اسما لرسول ونبي في سورة الأنعام {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة} الأنعام 89 – فالمعنيون بـ “أولئك” كلهم أنبياء، لذا قال “النبوة” ومنهم رسل ليسوا أصحاب كتاب مثل إلياس وإسماعيل، لذا قال “الحكم”، ومنهم رسل أصحاب كتاب (مجموعة تشريعات كاملة) مثل موسى وعيسى، لذا قال “الكتاب”.
وبما أنه يتكلم عن أنبياء يوحى إليهم، فهو لم يذكر الحكمة في هذا المقام، الذي هو مقام الوحي.
أما الأداة الثانية التي استعملت للدلالة على أن السنة النبوية وحي، فهي قوله تعالى: {والنجم إذا هوى * ما ضل صاحبكم وما غوى * وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى} النجم 1 – 4. فلقد جاءت هذه السورة في أوائل التنزيل، وكان المشكوك فيه هو القرآن والنبوة، وليس السنة، لأن السنة في أوائل التنزيل لم تكن موضع بحث، إذ لم تكن قد وجدت أصلا.
والله سبحانه يعطينا في هذه السورة الدلالة المادية المباشرة على أن الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله، وليس من صنع البشر، وهذه الدلالة هي {والنجم إذا هوى}. ومواقع النجوم هي الفواصل بين الآيات {فلا أقسم بمواقع النجوم * وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}، وفهم مواقع النجوم يلعب دورا كبيرا في تأويل الآيات، كما دلت سورة النجم على أن مواقع النجوم هي الدلالة المادية المباشرة على أن القرآن الموحى إلى محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، ولتدلنا على أنه في حال سقوط النجم (التقطيع بين آيتين)، وخلو الآيات من الفواصل بينها، يصبح الخبر في الآيات كاذبا، بدلا من أن يكون صادقا(6).
من هذا كله، نرى أن لا علاقة البتة للسنة بالحكمة أو بالوحي، وأن فهم الآيات على هذا الشكل فهم ظاهري، يشبه ما ذهب غليه أهل الظاهر في فهم الآية {يد الله فوق أيديهم…} فوقعوا في التشخيص، تعالى الله عما يصفون.
والإجماع عند الشافعي إجماع الصحابة، فأخرج بذلك حياة النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من التاريخ، مما أمكن معه وضعهم في القرن الأربعين في آلاسكا، كما هم عليه في القرن السابع في شبه جزيرة العرب.
أما قوله إن اللغة العربية لا يحيط بها إلا نبي، فهذا غير صحيح، لأن التنزيل جاء إلى الناس كافة، ولأن اللغة هي أداة التفكير وأداة الاتصال لأهل الأرض جميعا. وأما قوله أنها غنية بالمترادفات، فهناك مدارس لغوية عربية بأكملها لا تقر الترادف (ثعلب – أبو علي الفارسي – ابن جني – الجرجاني)، وأقر العديد من الدراسات اللغوية الحديثة عدم وجود الترادف في اللغات، وما يظن أنه من المترادفات، إنما يعكس مرحلة من مراحل تطور اللغات الإنسانية قبل التجريد واكتمال التجريد.
كما نرى أن الأدوات التي استعملها الشافعي لتأسيس الفقه الإسلامي عليها، هي المشكلة وليس الإسلام نفسه. ونرى أننا بحاجة إلى إعادة تأصيل الأصول، وإعادة النظر بأدوات المعرفة المستعملة في القرن الثاني الهجري، واستعمال أدوات معرفية جديدة للقرن العشرين، يمكن معها أن تؤسس أصول جديدة للفقه الإسلامي المعاصر. إن لهذه الأدوات الموروثة سلطة كبيرة علينا، فمن خلالها فهمنا الإسلام، وأقمنا الأحكام، فإذا استعملنا أدوات جديدة لاستنباط المعرفة، سنحصل على فقه إسلامي جديد، وليس على إسلام جديد، وهو أمر مشروع طالما أن الله أعطانا العقل.
انظر إلى هرم (المعرفة – الأداة – السلطة) في الشكل التالي:
p2-236
لتجد أن المعرفة أسيرة أدواتها، ومن هنا تأتي سلطة الأداة بالنسبة للباحث، أو ما يسمى بالمدرسة، وتأتي سلطة الباحث المباشرة على العامة الذين لا يعرفون الأدوات. كما تأتي سلطة الأداة من خلال المؤسسات، فالأزهر، مثلا، مؤسسة تمثل سلطة الأداة بالنسبة للباحث، وتمثل سلطة المعرفة بالنسبة للعامة.
وهذه الحالة يجب أن تنتهي، بإحداث قطيعة معرفية مع أدوات استنباط المعرفة المستعملة سابقا، وباستعمال أدوات جديدة، وهذه هي المعركة الكبرى التي على الأجيال القادمة أن تخوضها، لأن سر تخلف المسلمين الفكري يكمن في هذه النقطة بالذات، أي بإدخال أدوات المعرفة المعاصرة في فهم الكتاب والقرآن، وتحديث أصول الفقه الإسلامي والعقل العربي، وهذا هدف يستحق التضحية من أجله.
إننا نلاحظ أن علوم الحديث كلها ازدهرت وتأسست بعد الشافعي وليس قبله، وذلك إيذانا بانتصار النقل وقتل العقل حتى يومنا هذا، أي أن الفقه الموروث نشأ عن مبادئ الإسلام المطلقة، مضافا إليها الأدوات المعرفية المستعملة في ذلك الوقت، متوافقا مع السلطة الاستبدادية، فجاء هذا الفقه توفيقيا، أو إن شئت تلفيقيا(7)، ليوفق بين مبادئ الإسلام، واستبدادية السلطة القائمة، وانتصرت مدرسة الحديث، وانهزمت مدرسة الرأي، لأنها جاءت متوافقة مع رغبات السلطة السياسية، مقرة بالاستبداد تحت شعار الشريعة.
4 – الاستبداد الاجتماعي
ثم يأتي الاستبداد الاجتماعي، لتندرج تحته كل العلاقات الاجتماعية الموروثة من عهود الانحطاط وما يمثلها، الراسخة باسم الأعراف، التي وصل التطرف فيها أحيانا إلى إدراج التقاليد الاجتماعية تحت باب الحلال والحرام. ويتجلى هذا النوع من الاستبداد في وجوه كثيرة، نأخذ منها مثالا هو صراع الأجيال.
لقد تجسد صراع الأجيال، كوجه من وجوه الاستبداد الاجتماعي، تحت شعار بر الوالدين، باضطهاد الأبناء من قبل الآباء.
وقد حسم الإسلام صراع الأجيال لمصلحة الأبناء من الناحية التطورية، ولصالح الآباء من الناحية الأخلاقية. فالإيمان بالله لا علاقة له بصراع الأجيال، الذي يقوم بين المؤمنين والمؤمنين، ويظهر بين الآباء والأبناء، ويعم المجتمع كله. وقد خصص الله سبحانه قصة كاملة عن صراع الأجيال في سورة الكهف، بدأت بالآية 9، بقوله تعالى: {أم حسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجبا}، إلى قوله تعالى: {… فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحدا}. فتكشف لنا القصة عن الحقائق التالية:
1 – وجود مجتمع مشرك غير مؤمن بالله، في قوله تعالى: {هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا} (الكهف: 15).
2 – خروج طليعة مؤمنة قليلة شجاعة، تدعو إلى الإيمان بالله والتوحيد، في قوله تعالى: {وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا}، الكهف 14.
ونقف هنا لنلاحظ الدعوة إلى توحيد الألوهية انطلاقا من الإيمان بالربوبية، فوسيلة الاستدلال على ألوهية الله، في حال عدم وجود وحي، هي الانطلاق من ربوبيته. وأهل الكهف لم يكونوا أنبياء ولا رسلا يوحى إليهم. أما ذكر الآلهة بالجمع عند قومهم، فهو للدلالة على شرك القوم وتعدد الآلهة حسب الاختصاص، كالخير والشر والخصب والمطر. أما ذكر الإله مفردا عندهم، فهو للدلالة على إيمان بالله الواحد رب السموات والأرض.
وللدلالة على أنهم قلة قال تعالى (فتية)، وللدلالة على أنهم شجعان قال تعالى: {وربطنا على قلوبهم}. ونفهم أن الدعوة إلى التوحيد في مجتمع مشرك، لا تبدأ إلا بالقلة الشجاعة، لتواجه الجمع الكثير وعداوته.
3 – إن وعد الله حق، والباطل مهما طال أمده لابد زائل ولو بعد حين، وهذا الحين قد لا يشاهده من دعا إلى لاحق، بل يأتي بعد وفاته.
4 – إن الساعة آتية لا ريب فيها، وإن الموت كالسبات، كما في قوله تعالى: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}.
5 – انقسام أهل المدينة في فتية الكهف إلى قسمين بدليل قوله تعالى: {إذ يتنازعون بينهم أمرهم…} لكن الأكثرية التي غلبت هي الأكثرية المؤمنة، وهذا يعني أن الإيمان فشا بين الناس، وزهق الباطل الذي هرب منه الفتية إلى الكهف.
6 – موت أصحاب الكهف بعد رجوعهم إلى المدينة، بدليل قوله تعالى: {لنتخذن عليهم مسجدا}، بعد أن لم يستطيعوا التعايش مع جيل يسبقهم بثلاثمئة سنة، حتى لو كان هذا الجيل مؤمنا.
والسؤال الآن: لماذا لم يستطع أصحاب الكهف التعايش مع جيل مؤمن جاء بعدهم بثلاثة قرون؟ والجواب هو: لأنهم رجعيون. والرجعية اصطلاح نطرحه كثيرا في أشكال عديدة وصور شتى، حتى أنه يختلف في دلالته من شخص إلى آخر، ومن بلد إلى آخر.
فالرجعي في الحساب، هو الذي يستعمل أصابع اليدين بدلا من الآلة الحاسبة. والرجعي في البناء، هو الذي يخلط الرمل والإسمنت والماء بيديه، بدلا من الجبالة. والرجعي في الدراسات الإسلامية، هو الذي يتبنى النظم المعرفية وأدوات استنباط المعرفة السائدة في القرن الثاني الهجري، ويريد الحفاظ عليها في القرن العشرين!! أما التقدمي بالمقابل، فهو الذي يتبنى النظم المعرفية وأدوات المعرفة السائدة في القرن العشرين بدراساته الإسلامية، علما أن كليهما مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وكليهما مؤمن بأن النبي صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والرسل. لكن الأفضلية تبقى للتقدمي، لأنه قادر على استيعاب الرجعي وفهمه، أما الرجعي فغير قادر على فهم التقدمي واستيعابه، ولا يريد ذلك أصلا.
وأشير هنا إلى الأطروحة التي تقول دائما، لو أن الله بعث الصحابة أجمعين في القرن العشرين، لحلوا لنا مشاكلنا، ورفعونا إلى السؤدد والرفعة. وهذا وهم، لأن ذلك لو حصل، لكان شأنهم شأن أهل الكهف. فالصحابة عاشوا في القرن السابع الميلادي، واستعملوا أدوات القرن السابع، وتاريخية القرن السابع، وفهم القرن السابع للقرآن والكتاب، وهذا أمر لا مناص منه، ولو تواجدوا معنا في القرن العشرين بأرضية القرن السابع، فلن يفيدونا في شيء، وسيكونون عبئا علينا. وهذا هو حال السلفية الإسلامية، التي تريد أن تحضر الصحابة، وعصر النبوة، والخلفاء الراشدين، إلى القرن العشرين، وتفرضه فرضا على أنه الإسلام النقي الصافي، فوقعت في الرجعية الإسلامية، حين ظنت أنه يمكن أن يكون هناك إسلام بلا تاريخ، ووقعت في صراع مع التقدمية التي لا يمكن أن تفصل فهم الإسلام عن الشروط التاريخية المنتجة لهذا الفهم.
وهذه الناحية تختلف عن صراع الأجيال، فصراع الأجيال صراع آباء وأبناء في جيلين، أما صراع الأدوات والنظم المعرفية، فهو صراع في جيل واحد.
وتظهر خطورة هذا الصراع، الذي قد يؤدي إلى صدام، من كون الرجعي في الدراسات الإسلامية إنسانا متشنجا، يريد أن يفرض الإسلام اللا تاريخي على الناس بالقوة كما يراه، تحت حجة حاكمية الله، مستعينا ومعتمدا على السلطة الاستبدادية، التي هو بالأصل مسوغ وجودها، بإعطائها صفة الشرعية. ففي قصة أهل الكهف حسم الصراع بموتهم جميعا، بعد أن لم يستطيعوا التعايش مع ما كانوا هم أنفسهم يدعون إليه (8).
(1) لقد استعملنا مصطلح الاستبداد في كتابنا هذا لشيوعه وتداوله، ولمزيد من التفاصيل حول الطاغية والديكتاتوري والمستبد انظر كتاب “الطاغية” للدكتور عبد الفتاح إمام.
(2) انظر الحديث بكامل رواياته عند مسلم رقم 2533، وعند البخاري رقم 3451.
(3) انظر الحديث في صحيح الجامع تحت رقم 5854 من تخريج السيوطي، وهو عن أنس عند الترمذي وأحمد، وعن علي عند أبي يعلى، وعن ابن عمر وابن عمرو عند الطبراني في الكبير.
(4) انظر صحيح مسلم / كتاب الإمارة.
(5) الرسالة لمحمد بن إدريس الشافعي، تحقيق أحمد محمد شاكر، الطبعة الأولى 1940، مطبعة مصطفى البابي الحلبي.
(6) انظر روح المعاني لشهاب الدين السيد محمود الألوسي البغدادي الجزء 127 ص 153/دار إحياء التراث العربي بيروت “… وقال جماعة منهم ابن عباس: النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها”.
(7) انظر “درء تعارض العقل والنقل” للإمام ابن تيمية الحراني الحنبلي تحقيق الدكتور أحمد رشاد سالم، دار الكتب المصرية 1971.
(8) ثمة أمر آخر، يجدر الوقوف عنده، قبل أن نمضي في شرح أنواع الاستبداد، يرد في قوله تعالى: {سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم ويقولون خمسة سادسهم كلبهم رجما بالغيب ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل، فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا ولا تستفت فيهم منهم أحد} الكهف22. فهل أعطت الآية العدد الحقيقي لأصحاب الكهف، أم أعطت ما خمنه الناس فقط رجما بالغيب؟ ونحن نرى أنها أعطت الحالتين:
1 – أعطت تخمين الناس في رقمين هما الثلاثة والخمسة، بدلالة {رجما بالغيب}.
2 – وأعطت الرقم الحقيقي وهو سبعة، بدلالة قوله تعالى: {قل ربي أعلم بعدتهم}، كقوله في آل عمران {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت…} آل عمران 36 لكننا بعد هذا كله نتساءل، ماذا يفيدنا هذا الخبر ونحن في القرن العشرين، حتى يجعله الله قرآنا يحفظه إلى أن تقوم الساعة؟ وماذا يهمنا فيما قاله الناس عن عدد أهل الكهف، أو عددهم بالفعل، إذا كان الموضوع موضوع عدد فقط؟ وما هو الجانب المهم في هذا الخبر، الصادق قطعا، الذي يجعله يأخذ حيزا في القرآن؟
الجانب المهم نستنتجه من وضع واو العطف في قوله: {سبعة وثامنهم كلبهم}، التي يسميها العرب واو الثمانية، وتأتي في لسانهم بين السبعة والثمانية. فما هي هذه الواو، وما هي دلالتها؟
هي أولا واو عطف بالضرورة، وهي للتغاير وليست من باب عطف الجزء على الكل، لأن الثمانية أكبر من السبعة وليست جزءا منها، شأنها في ذلك شأن الواو في قوله تعالى: {…ثيبات وأبكارا…} التحريم 5 – فهي هنا للتغاير أيضا.
فإذا أخذنا التطور التاريخي لنظم العد، نرى أن العدد يخضع لنظم عديدة، كالنظام الثنائي، والاثني عشري، والستة عشري، والذي يهمنا هنا هو النظامان التاليان:
1 – النظام العشري: وهو النظام الذي نتبعه حاليا في الحسابات، أساسه العشرة، ومكوناته من الصفر إلى التسعة، بحيث يمكن التعبير عن كل الأعداد من خلال هذه المكونات وهذا النظام.
2 – النظام السباعي: وهو نظام قديم كان عند البابليين، على أساسه تم تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام، أساسه السبعة، الوحدة الكاملة في هذا النظام، تماما كالعشرة في النظام العشري. حيث ننتقل في النظام العشري، بعد العشرة، إلى مرحلة جديدة هي 10+1 و10+1 و10+2 و10+3 أي 11، 12، 13 وننتقل بعد العشرين إلى مرحلة جديدة هي 20+1 و20+2 و20+3 أي 21، 22، 23.. أما في النظام السباعي فالسبعة هي المرحلة الأولى في العد، ننتقل بعد اكتمالها إلى مرحلة جديدة هي 7+1 أي 8 و7+2 أي 9 و7+3 أي 10 وننتقل بعد الـ 14 إلى مرحلة جديدة هي 14+1 أي 15 و14+2 أي 16 و14+3 أي 17 وهكذا..
ومن هنا جاءت واو الثمانية في الآية لتفصل بين السبعة والثمانية، ولتحمل إلينا جانبا هاما من تاريخية الخبر وأرضية نظام العد فيه، وتفهمنا أن نظام العد في عصر أهل الكهف كان سباعياً، بدليل عدم ورود الواو بين الثلاثة والأربعة، ولا بين الخمسة والستة، باعتبار هذه الأعداد ليست وحدات في أساس النظام.
http://shahrour.org/wp-content/gallery/images/BP.pnghttp://shahrour.org/wp-content/gallery/images/BI.pnghttp://shahrour.org/wp-content/gallery/images/BN.png
http://shahrour.org/?page_id=567



وقع بيدي كتيب صغير عنوانه: “علامات قيام الساعة الصغرى والكبرى”، طبع لأول مرة عام 1892، منذ أكثر من مئة عام، تأليف يوسف إسماعيل النبهاني، وأعيد طبعه عام 1987. في آخر فهرس بعناوين كتب أصدرها المؤلف، كان أحدها “القصيدة الرائية الصغرى في ذم البدعة وأهلها ومدح السنة الغرّا، وخصت بالذم من مبتدعة العصر جمال الدين الأفغاني وممد عبده المصري ورشيد رضا صاحب جريدة المنار”. وكان هؤلاء وقتها ما زالوا على قيد الحياة، حيث توفي الشيخ محمد عبده، مثلاً، عام 1905.
والآن، وبعد مرور قرن من الزمان، أصبح هؤلاء من أعلام النهضة الإسلامية، ويصنفون مع المصلحين الكبار، وذهبت التهم الموجهة إليهم، مع من وجهوها، أدراج الرياح، فحضرني قوله تعالى: {… فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناي فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد 16.
لقد توجه الانتباه في نهاية القرن التاسع عشر إلى أن الإسلام بحاجة إلى تجديد، وتم ذلك على أيدي مصلحين كبار، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، في نهاية حياة الإمبراطورية العثمانية، وفي ذروة الصراع بين العرب والمسلمين من جهة، والغرب من جهة أخرى. ومن أهم ما تم طرحه في ذلك الوقت الإسلام وقضايا المجتمع. وكان من نتائجه قيام حركات سياسية إسلامية على أساس الخلافة وإصلاح الدولة، وحركات قومية على أساس الاستقلال عن الدولة العثمانية. وكانت هذه الحركات الإسلامية منها خاصة، أسيرة لمنطلقات ظنت أنها من أساسيات الإسلام كدولة ومجتمع، وكان أهم هذه المنطلقات:
أ – الانطلاق من أن ما فعله الصحابة بعد وفاة النبي (ص) هو من أساسيات الإسلام، علماً أنه اجتهاد إنساني بحت، وبالتالي عدم التفكير بوضع أسس الدولة والمجتمع على أساس التنزيل الحكيم والاجتهاد الإنساني المعاصر، مستعملين أدوات المعرفة والبحث المعاصرة.
ب – عدم التفكير بمراجعة أصول الفقه والتشريع الإسلامي، ووضع أصول جديدة تختلف عن الأطر المعرفية التي تم وضع هذه الأصول من خلالها، في القرنين الثاني والثالث من الهجرة.
وهذا المرض، ورد في قوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون} – الزخرف 22. وفي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} – البقرة 170. ونحن حين ننظر إلى هذه الآيات نظن أنها تعني مشركي العرب، وأنها لا تعنينا مطلقاً، علماً أنه سبحانه ذكر فيها داءً يصيب كل الأمم قاطبة، مؤمنة وغير مؤمنة، أطلق عليه اسم داء الالفة الآبائية {ما ألفينا عليه آباءنا}. ولا أعتقد بوجود شعب في الأرض، مصاب بهذا الداء المزمن، كإصابتنا نحن به، ظانين أننا نحسن بذلك صنعاً.
جـ – ربط الإسلام، من خلال السياق التاريخي للدولة الإسلامية، بأشخاص، ولم يتم تحويله إلى مؤسسات. فالجيد مربوط بشخص الحاكم، والإسلام في أذهاننا أسير شخص الحاكم، فإذا كان الحاكم جيداً فالأمور بخير، وإذا كان شيئاً فالأمور عكس ذلك، كما لو أن المجتمع الإسلامي مجتمع هامشي ليست له أية فعالية. والمثالان التاليان يوضحان معنى ربط الإسلام بشخص، ومعنى عدم تحويله إلى مؤسسة:
أ – موقف عمر بن الخطاب (رض) عندما أعطى اليهودي تعويض شيخوخة من بيت مال المسلمين. وهو موقف نفخر به حين نذكره ونسجله لعمر كرأس الدولة. لكننا نرى اليوم، في نهاية القرن العشرين، دولاً غير إسلامية تعطي إعانات لكل مولود على أرضها، ولو كان من أبوين لا يحملان جنسية هذا البلد، ويحصل الأمر دون علم رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، ذلك لأن عملية الإعانة هذه وباقي بنود الضمان الاجتماعي، تم تحويلها إلى مؤسسة، بحيث لا يدري بها إلا الموظف المسؤول عنها. وبقي عمر بن الخطاب عندنا شخصية تاريخية، أما (عمرهم) فتحول إلى مؤسسة، لاتهم معها موافقة رئيس الدولة أو عدم موافقته.
ب – مسلسلات (القضاء في الإسلام) التي نشاهدها على شاشات التلفزيون، تدور حول فكرة واحدة، هي موقف القاضي ضد الوالي أو ضد الخليفة للمحافظة على نزاهة القضاء. أما الآن، وبعد أم تم فصل السلطات عن بعضها في القرن العشرين، فإن من المضحك أن يفكر الفرنسيون مثلاً، بأن قاضياً في باريس يقف ضد رئيس الجمهورية أو ضد رئيس الوزراء، لأنه يتدخل في القضاء. أي أن القضاء عندهم تم تحويله إلى مؤسسة، وأصبح استقلاله من نافلة القول، وليس موضع بحث، أي أصبح من عاداتهم وتقاليدهم في شؤون الحكم. كل هذا أدى إلى أمور هامة هي:
1.   لم يقدم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات سياسية تضمن حرية الرأي والرأي الآخر (حرية المعارضة) وحرية التعبير عن الرأي، بحيث تستطيع أن تلفظ أي إنسان يحاول اختراقها والاعتداء عليها. فقاد هذا إلى غياب فرع هام من فروع التشريع هو الفقه الدستوري، الذي ينظم بنية الدولة وشرعيتها. لهذا أقول: لا تبحثوا في التراث العربي الإسلامي عن فقه دستوري، لأنه غير موجود. وهذا أدى إلى النقطة التالية:
2.   لم يقدم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات تشريعية، بل تم ربط الفقه بأشخاص وليس بمؤسسات. لهذا نجد مفهوم الانتخابات التشريعية، مثلاً، غريباً عن الإسلام التشريعي.
3.   لم يقم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية. بل قدم لنا عوضاً عن ذلك مواقف نبيلة لأشخاص قضاة ومعاناتهم.
فكانت النتيجة المنطقية لغياب هذه النقاط الثلاث، وجود مؤسسة بديلة لها، هي مؤسسة الاستبداد السياسي، التي نعيشها منذ قرون، ولم يصلنا غيرها. ولا أريد هنا تفصيل كيف دفنت الشورى في صدر الإسلام، وكيف تم استبدالها بمؤسسة استبداد، فقد بحث ذلك من قبل العديد من المفكرين، وتطرقت إليه في كتابي هذا، لكنني أود أن أبين ماذا فعلت مؤسسة الاستبداد السياسي بنا، وكيف وصلتنا، وكيف صاغتنا وشكلتنا حتى صرنا إلى ما نحن عليه الآن، وكيف أن ما كتب في الفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية حصل تحت ظلها، ووصل إلينا مطبوعاً بطابعها. وأن هذه المؤسسة تحمل المواصفات التالية:
1.   عدم وجود الرأي الآخر. فالتصفية للمعارضة تتم بأبشع صورها جسدياً، وبأحسن صورها سجناً أو نفياً.
2.   الخليفة هو الحاكم المطلق، لا يخضع للمحاسبة أو المساءلة، والحكم وراثي. ثم تحول الخليفة في عصور الانحطاط إلى صورة كرتونية، وأصبح الحم بأيدي العسكر (الطاعة لذي الشوكة) وهذا واضح عند المماليك والعثمانيين، حيث نحن من نتائجهم المباشر.
3.   بيت المال تحت تصرف الحاكم، كما لو أنه ماله الخاص، والأمور المالية رهن مزاج الحاكم، فإذا كان نزيهاً (عمر بن عبد العزيز) فهنيئاً للناس، وإن كان غير ذلك، فليس لهم الصبر وانتظار الفرج دون معارضة.
لقد تم ترسيخ هذه المؤسسة في عهد الأمويين، ثم تطورت واستمرت حتى يومنا هذا. فوضع الاستبداد بصماته على كل شيء في حياة المواطن كفرد، وفي حياة الجماعة. حتى أنه وضع بصماته على العلوم التي من شأنها أن تحتج على الاستبداد، وهي علوم الفقه والتفسير والحديث والعقيدة، والتي من شأنها أيضاً إذا أرادت، أن تثير الناس على الاستبداد. فكيف وضع الاستبداد السياسي بصماته على هذه العلوم؟
1 – لقد بدأ الاستبداد السياسي، أول ما بدأ، بوضع بصماته على العقيدة، وذلك بتقديم تعريف القضاء والقدر. فلكي يبرر الأمويون استلامهم للسلطة تبريراً شرعياً، طرحوا المقولة التالية:
لقد سبق في علم الله الأزلي أن بني أمية ستحكم الدولة العربية الإسلامية، وبالتالي لا بد لهذا العلم من أن ينفذ. فاستلام بني أمية الحكم هو نفاذ هذا العلم، وبالتالي فحكمهم هو القدر.
وأصبح تعريف القضاء والقدر بذلك كما يلي:
1 – القضاء علم الله الأزلي.
2 – القدر نفاذ هذا العلم في عالم الواقع.
وهذا التعريف للقضاء والقدر يضع المؤمن في إطار الاستسلام لكل شيء، أي أن كل ما حصل لا بد من حصوله (مكتوب سلفاً). وما زال هذا التعريف شائعاً إلى يومنا هذا، ولم يوضع تحت مجهر النقد.
فإذا أخذنا هذا التعريف، واستعرضنا آيات التنزيل الحكيم كلها، سنجد أن القضاء فيها هو الأمر والنهي، كما في قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا … الآية} – الاسراء 23.
فهذه الآية تقول أن الله قضى ألا نعبد إلا إياه، كما قضى ببر الوالدين، ومع ذلك فنحن نرى أناساً لا تعبده، وأناساً لا تبر والديها، ونفهم وجود احتمال بأن يكون قضاء الله غير نافذ.
إلا أن الآيات الأخرى تعطينا شرطاً إضافياً لنفاذ قضاء الله، هو النفاذ من خلال كلماته كما في قوله تعالى: {… إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} مريم 35.
قضى أمراً —> يقول له {قول الحق} —> كن فيكون (الكلمات)
فعندما قال تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه..} لم يتبعها بقوله كن فيكون. ولهذا نرى بعض الناس لا تعبد الله، ولو قال كن فيكون، لأصبحت عبادة الله أمراً لا مناص منه ولا خيار للإنسان فيه. والسؤال الآن: هل قضى الله سلفاً أن يحكم هتلر ألمانيان ويسبب كوارث الحرب العالمية الثانية؟ وهل حكم المستبدين والطغاة من قضاء الله؟ والجواب: كلا!! لأنها لم تخضع لقوله كن فيكون، كما خضعت ولادة المسيح بدون أب كما في قوله تعالى: {ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} مريم 34 و35.
وكما في قوله تعالى: {.. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة..} -النساء 171. ونلاحظ هنا أن:
عيسى ابن مريم {قول الحق} {كلمة الله} —> قضى أمراً —> يقول له كن فيكون
ومن هنا نرى أن تعريف قضاء الله المطروح أمامنا لا يمت إلى الذكر الحكيم بأية صلة، وأنه تعريف يسلب لإنسان كامل حريته ويدعوه إلى الإسلام، وأنه تعريف يلائم تماماً استبداد السلطة وخضوع الناس، وليست له علاقة بعلم الله الأزلي لا من قريب ولا من بعيد. وإلا فأين علم الله الأزلي في قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمورهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً} -الأحزاب 36.
ولو كان القدر هو نفاذ هذا العلم بالضرورة، لأصبحت الآية لا معنى لها، ولا ضرورة لإخبار زينب بأن لها الخيار في الزواج قبل الآية وبعدها. فالآية تقول لزينب أنها إن رفضت تكون قد عصت حكم الله ورسوله، ولكن احتمال الرفض قائم قبل الآية وبعدها، إذ لا يوجد فيها كن فيكون. وهي على هذا أمر ونهي وليست كلمات. ولم تنزل هذه الآية إلا بعد أن رفضت زينب الزواج من زيد.
فإذا انتقلنا إلى تعريف القدر، وأخذناه كما يفسرونه أنه نفاذ علم الله الأزلي في الواقع، واستعرضنا التنزيل الحكيم بما فيه من آيات ورد فيها ذكر القدر، نجده في أوضح أشكاله بقوله تعالى: {نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين} الواقعة 60. فالموت قدرٌ قدره الله على الناس، والقتل قضاء. والطعام وجهاز الهضم قدر، والصوم قضاء. ووجود الكف والوجه قدر، والصفع قضاء.
وإمكانية الكذب والصدق قدر، والصدق والكذب قضاء. وإمكانية الجماع بين الذكر والأنثى قد إلهي، والزنا والعفة قضاء إنساني. والانشطار النووي قدر، لكن صناعة أسلحة التدمير وتوليد الطاقة الكهربائية قضاء. ولهذا، فقد جاء القدر في القرآن (النبوة)، وجاء القضاء في أم الكتاب (الرسالة).
إن هذا التعريف للقضاء والقدر، هو بصمة الاستبداد السياسي الخطيرة على العقيدة الإسلامية. وما زال راسخاً مع الأسف إلى يومنا هذا، نكرره وكأننا لم نقرأ ونتدبر آيات التنزيل الحكيم.
لقد تم سفك الكثير من الدماء، في سبيل ترسيخ هذا التعريف، حيث أقاموا بعد ترسيخه، حواجز وأسواراً للترهيب، حتى لا يعود البحث فيه وتوضح الأمور في نصابها. أما في عصر جيل الراشدين الذي شهد النبي (ص) فقد كان الناس بعيدين عن هذا التعريف. ونحن نسمع عمر (رض) يأمر الناس بالخروج من المناطق الموبوءة بالطاعون، فيقول له أحدهم: أنفر من قدر الله؟ ويجيب عمر: نفر من قدر الله إلى قدره. حيث كان عمر (رض) يعلم أن الله قدّر الصحة تماماً كما قدّر المرض وأن الانتقال من أحدهما إلى الآخر هو من قضاء الإنسان.
3 – أثر الاستبداد على الناحية العقائدية هذا، تبعته آثار أخرى متممة على نواح أخرى، فقد ارتسم أثره الثاني على الفقه الإسلامي في الناحيتين التاليتين:
أ – بعد أن ربط الحاكم المستبد وجوده بقضاء الله وقدره، لم تبق عند الناس حاجة إلى الاحتجاج على تصرفاته. حتى وصل بهم الأمر إلى القول بأنه لا يعزل الحاكم والسلطان، وإن جار وظلم ولاط وزناً(1). ورغم أنهم أعلنوا على استحياء أنه يكفي الحاكم المستبد أن يقول لا إله إلا الله، ولا يعلن الكفر البواح بشتم الله ورسوله، ولا يمنع الناس من العبادات كالصلاة والزكاة والحج، لكي يضمن طاعة الناس وخضوعهم، إلا أنهم أغلقوا باب الاحتجاج على جوره وظلمه، الذي كان يعني القتل الفردي والجماعي لتصفية المعارضة بالسجن المؤبد ودس السم، وأخذ أموال الناس، وصرفها كيفما يشاء متى يشاء وعلى من يشاء دون محاسبة أو مساءلة، واسمع معي أبا جعفر المنصور يقول يوم عرفة خطيباً: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده. وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئة وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني(2).
لقد تم ترسيخ الاستبداد تحت اسم إجماع العلماء (كذا)، فكان السبب الأساسي في منع تحويل التشريع إلى مؤسسة تشريعية، وفي القضاء على الشورى تحت شعار أن الشورى غير ملزمة للحاكم. وما زلنا نعيش هذه المأساة حتى يومنا هذا، فالسلطات التشريعية (المجالس) التي تعتبر حديثة نسبياً على العرب والمسلين، لم تأخذ حتى اليوم دورها الفعال في البلاد التي توجد فيها.
ب – ظهر الفقه الإسلامي، كما قلنا، والسلطة المستبدة حقيقة قائمة، فجاء خالياً من الفقه الدستوري الذي يحدد شرعية الدولة، والعلاقة بين السلطة والمواطن، وحدود صلاحيات السلطة، وإقرار الحريات الشخصية والعامة، ومبدأ الاختيار والتعبير عن الرأي. وظهر بدلاً منه مفهوم الطاعة، طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، واعتبارها من الفضائل الدينية والدنيوية على حد سواء.
كما ظهر فقه العبادات كالوضوء والصلاة والحج والزكاة، حتى شمل هذا الفقه كثيراً من المجلدات، علماً أن العبادات جاءت للعالم والجاهل واضحة وللعامة والخاصة مفصلة لا تحتاج إلى كل ذلك، وما زال يجري التركيز عليها، بسبب داء الآبائية الذي وصلّنا بالوراثة. مما أوقع الفقه الإسلامي في تناقض وجوب طاعة الحاكم الظالم الفاسق، مع الدخول في أدق تفاصيل العبادات من وضوء وطهارة، بشكل أصبحت تبدو معه، وكأن الإخلال بواحد فقط من هذه التفاصيل الدقيقة كافياً لأن يرمي بالصلاة فيوجه المصلي وبالصوم في وجه الصائم، ووصل الأمر إلى أن أخذ المسلمون صورة مشوهة عن الله وعدالته، فأظهروه وكأنه حاكم مستبد يعدّ على المؤمنين عثراتهم وهم يعبدونه، وكأن الملائكة موظفين في دولة بيروقراطية لا يهمهم غير الشكل في الروتين، فهم بالمرصاد لصغائر ما يرتكبه الناس في الحياة الدنيا، وهم بالمرصاد مع آلات التعذيب في القبر لاستكمال التحقيق برئاسة أنكر ونكير وإغلاق الملف.
ويصورون الآخرة والحشر بما تقشعر له الأبدان، من صور يغرقون في تفصيل رعبها وبشاعتها، فمن معلقات من شعورهن، إلى مصلوبات بالخطاطيف من أثدائهن، إلى غير ذلك من مشاهد تحفل بها كتب كثيرة كثيرة(3).
وهكذا يعرض الوجود الإنساني بطريقة إرهابية استبدادية منذ الولادة، وحتى نهاية الحساب. الأمر الذي نجد خلافه في التنزيل الحكيم، فهو لا يذكر النار إلا ذكر معها الجنة، وحين يذكر الرحمن يذكرها عامة واسعة، أما العذاب فمقصور مخصص، كما في قوله تعالى: {.. قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء..} الأعراف 156. وبالمحصلة فقد ترك الفقه الإسلامي الحاكم الفاسق المستبد، وانصرف يشتغل في المرأة وحجابها!!
لقد خلط الفقه الإسلامي بين المعاملات والأحوال الشخصية والعبادات والأخلاق، وجعل منها أمراً واحداً يضم الفروع الثلاثة، وأفاض فيها لأنها لا تتعارض مع السلطة المستبدة. ورسم للناس كيف يتعاملون فيما بينهم، ولهذا نرى أن المستوى الفقهي في هذه الأمور وصل إلى درجة رفيعة من الاستفادة والشرح، بينما بقي الفقه الدستوري معدوماً أو هزيلاً يتناسب مع السلطة المستبدة.
وكانت أزمة الناس دائماً هي أزمة السلطة. فم يعيشون حياتهم اليومية، إلى أن يموت الحاكم فتتوقف الحياة، حتى تستقر أمور الحاكم الجديد ويعلمون من هو، لتعود الحياة إلى مجراها العادي، لتتبع شخصية الحاكم ومزاجه دون أي ضابط فقهي دستوري، فإن كان عادلاً فله الأجر وعليهم الشكر، وإن كان ظالماً فعليه الوزر وليس عليهم إلا الصبر!!
3 – أما تأثير الاستبداد على الحديث النبوي (السنة) فكان كالتالي: بما أن الاستبداد ليس له أي سند في التنزيل الحكيم، بل العكس، فقد لعن الله الظالمين والمستبدين، وعبر عن الاستبداد فيه بالظاهرة الفرعونية، التي أخذت حيزاً منه أكبر مما أخذت الأحكام كلها. لذا، كان لا بد من سند عقائدي لتأطير أيديولوجيا الاستبداد، فكان هذا السند هو الحديث النبوي.
ففي صدر الإسلام، بعد وفاة الرسول (ص)، كان ثمة عدد كبير من الصحابة ما زال على قيد الحياة، وكان من المستحيل على أحد، حتى لو كان صحابياً، أن يقول: قال رسول الله.. وسمعت رسول الله.. دون أن يعترضه معترض (انظر أخبار عمر مع أبي هريرة)، إذ كان في أذهان الصحابة وذاكرتهم، ما سمعوه أنفسهم بلسان رسول الله نفسه:
– لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (صحيح مسلم، ج18، ص229).
– بلغ رسول الله أن أناساً كتبوا أحاديثه، فصعد المنير وقال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم؟ إنما أنا بشر، فمن كان عنده شيء فليأت به. يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأتلفناه، أو قال فأحرقناه. (تقييد العلم للخطيب البغدادي، ص34).
ومع ذلك فنحن نجد أن بداية تدوين الحديث النبوي جاءت في العصر الأموي، ومعها بدأ الانتحال على رسول الله، وخاصة فيما يتعلق بأيديولوجيا السلطة والطاعة والجهاد. لقد نهى الرسول عن تدوين حديثه في رأينا لأسباب:
أ – أن التنزيل الموحى هو أساس الإسلام وعموده الفقري.
ب – أن طاعة الرسول تعني طاعة الرسالة، والرسالة موجودة في التنزيل.
ج – أن الأمور التي أمر الله الناس بطاعة الرسول فيها، كالصلاة والزكاة، قد بلغها الرسول إلى الناس ومارسها فعلاً، ووصلتنا بالتواتر.
د – أما في الأمور التي وصلنا معظمها بطريق الآحاد، حتى لو صحت، فإن تطبيقها نسبي وطاعتها في حياته فقط (طاعة الرسول المنفصلة في حياته).
لقد بلغت الأحاديث المنقولة عن النبي (ص)، باعتراف علماء الحديث، حداً يفوق الوصف، فقاموا بتصنيفها، وقسموها إلى متواتر وآحاد. ويقوم علم الحديث في معظم معظمه على أحاديث الآحاد الظنية التي لا تقيم ديناً ولا تبني حياة. وحيث أن أحاديث الحكم وتسويغ الاستبداد من الآحاد، فقد أخذ هذه الأهمية، ورأيناه في علاقة عضوية متلازمة مع الفقه، بحيث أخذ بيد الفقهاء إلى أزمة وورطة لم نخرج منها إلى اليوم. فقد كادت أحاديث الآحاد هذه أن تتقدم على التنزيل الحكيم في مجال الحكم والاستبداد إن لم تكن قد تقدمته فعلاً. ورغم أنها في الأصل غير ملزمة لأحد، إلا أن الإلزام والالتزام بها أصبح قسرياً، وأصبحت هي حجر الأساس لدى المسلمين في استنباط الأحكام.
هـ – لقد كان من الضروري للاستبداد، لكي يلزم الناس بطاعته، ولتأخذ هذه الطاعة شكلها العقائدي، بحيث يخرج من الإسلام من لم يلتزم بها ويعدم، أن تندمج الطاعة المتصلة لله ورسوله بالطاعة المنفصلة لله وللرسول، مع الطاعة لأولي الأمر، بحيث تصبح هذه الطاعات على مختلف وجوهها أمراً واحداً هو الطاعة الدائمة لله!! فتم دمج {أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم} لينتج من هذا الدمج أن طاعة أولي الأمر طاعة الله تماماً، فندخل في الحق الإلهي بالحكم، وأن الحاكم ممثل الله في الأرض، كالرسول تماماً، وأن عصيانه والخروج عليه يوجب غضب الله ورسوله.
إن الفرق بين الآيات في الطاعة واضح بشكل لا نظن أن الفقهاء وعلماء الحديث لم ينتبهوا إليه، لكن وقفهم عنده سيوقعهم في إشكالية أساسية هي التعرض لأطر السلطة. أي أنهم سيدخلون إلى الفقه الدستوري من مدخل مغاير تماماً لما تريده السلطة ولما تم فعلاً. وكان من جراء ذلك كله أن أخذ علم الحديث بأمور غير مقبولة منهجياً بمعظمها عند أي باحث علمي.
و – فقد أجاز علم الحديث أخذ الحديث عن أطفال، كعبد الله بن عباس، الذي نقل البخاري عنه أنه قال: توفي رسول الله وأنا ابن عشر سنين مختوناً. ويروي صاحب المنار أن له في مسند أحمد 1696 حديثاً. وكأنس بن مالك، وكان عمره أقل من عشر سنوات حين وفاة الرسول، وعبد الله بن الزبير، والحسن بن علي، والحسين بن علي … وغيرهم.
وعبد الله ابن عباس لم يعرف النبي، ولا اجتمع به قبل الفتح، إذ كان يقيم في مكة مع أبيه الذي لم يهاجر مع من هاجروا إلى المدينة. حتى بعد الفتح، عاد النبي إلى المدينة وبقي ابن عباس مع أبيه في مكة، وهو ابن ثمان. فمن أين له أن يقول كما يروي البخاري: والله الذي لا إله إلا غيرهن ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت(4).
ونحن اليوم لا نقبل شهادة طفل في هذه السن، ببيع أو شراء دراجة، فكيف قبل المحدثون ذلك؟ لقد كان علماء الحديث حريصين جداً على أمانة الراوي وعدالته، حتى أن البخاري رفض حديث رجل يكذب على دابته(5)، ويرفضون في الوقت نفسه شهادة رجل كعمر بن الخطاب في رجل كأبي هريرة، حيث منعه من رواية الحديث، واتهمه بالسرقة والرشوة في ولايته على البحرين.
ومع ذلك زادت أحاديثه في كتب الصحاح والسنن على الخمسة آلاف حديث، كما يحكي ابن عساكر، رغم أنه كما يقول الشيخ رشيد رضا: لو أحصينا ما انفرد به أبو هريرة من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلاً جداً، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئاً، وأن الطعن فيه لو كان صادقاً ما حط من قدر الشريعة شيئاً، ولو لم يخلق أبو هريرة لما نقصت الشريعة شيئاً. (تفسير المنار، ج19، ص108).
من هنا يتم طرح أمور كثيرة على المسلمين تحت شعار الإسلام، كلها من أحاديث الآحاد، دون أن يتعب المسلمون أنفسهم في العودة إلى قراءة التنزيل الحكيم ودراسته دراسة مستفيضة، لما يحتاجونه في ذلك إلى الوقت والجهد وتحمل مسؤولية وجرأة في الحق. فالقرآن كما يقول الشيخ محمد الغزال: … خطاب الزمن كله، حتى يرث الله الأرض وما عليها، خطاب الأجيال والأجناس والعلماء، والمستويات الحضارية المتفاوتة، ولا يمكن منطقياً بأي حال من الأحوال أن نجمده عند فهم عصر معين(6).
لكن المسلمين، وكما يقول الشيخ الغزالي مرة أخرى، تركوا الكتاب للسنة، ثم تركوا السنة لأقوال الأئمة، ثم تركوا الأئمة للمتون.. فأصبح التراث حاجزاً يحول بين المسلمين وبين مصادرهم الأساسية(7).
4 – بعد أن رسخ الاستبداد بالشكل الخادع الجبري، كما شرحناه، وزرع القناعات المسبقة لدى الناس عن أعمارهم وأعمالهم وأرزاقهم، ونتج أن عمر الإنسان ثابت منذ الأزل، وأن رزقه مكتوب، مهما كان عمله، فقد انعكس ذلك مباشرة على علم التفسير، وعلى شرح الآيات المتعلقة بهذه المواضيع. وحين يقرؤ الإنسان قوله تعالى: {.. وما يُعمَّرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتابٍ، إن ذلك على الله يسيرٌ} – فاطر 11. فهو يفهم أن الحديث بالآية يدور حول شخص واحد، وهو محل فعل يعمَّر وفعل ينقص وهاء عمره. وفهم أن عمر هذا الشخص الواحد، يطول في كتاب ويقصر في كتاب، وينظر حوله في الواقع ليجد مصداق ذلك في علم الطب الذي يدرس هذه الكتب.
أما المفسر، فسيضطر بحكم الفكرة المسبقة التي يحملها عن ثبات الأعمار إلى أن يلجأ للتخريجات. والتخريج هنا، أن فعل ينقص يعود على شخص آخر غير المعمر الذي يطول عمره. ومع حمل الأفكار المسبقة، ومع اللجوء إلى التخريج، لا يفيد التبحر في اللغة، ولا تفيد التقوى، ولا تفيد العبقرية. لقد كان معظم المفسرين التراثيين لغويين، وأتقياء، وعباقرة، لكنهم كانوا يحملون أفكاراً مسبقة يخرّجون على أساسها تفاسيرهم!!
ونضرب على ذلك مثلاً علمياً من عصرنا الحاضر، هو ما حدث مع ألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبية، وعالم الرياضيات والفيزياء الذي لا يشك أحد في عبقريته. فعندما كتب مجموعة معادلات النسبية، نتج لديه أن الكون غير ثابت، وأنه في حالة اتساع دائم(8). لكن الفكرة المسبقة التي كانت عنده بأن الكون ثابت، جعلته يلجأ إلى تخريجه، تسوغ ما وصل إليه مع ما يحمله، بأن أضاف إلى المعادلات معاملاً هو (معامل الثبات) ليحول الكون من متسع دائم إلى ثابت. الأمر الذي اعترف به بعد سنين، وقال إنها كانت أكبر خطيئة ارتكبها في حياته. فانظر كيف أن الفكرة المسبقة غلبت الذكاء والعبقرية(9).
لقد انتصرت مدرسة الترادف تحت ظل الاستبداد، على مدرسة عدم الترادف، حيث تؤدي الثانية إلى دراسة التنزيل دراسة دقيقة، وتشير إلى الفروق بين الكتاب والقرآن والذكر، وبين الحكم والحكمة، وبين الإمام المبين واللوح المحفوظ، وبين الرسالة والنبوة. وتقود إلى فهم أفضل للتنزيل وفهم أفضل لمسائل القضاء والقدر والحرية والشورى والتشريع، وتؤدي إلى الأخذ بيد مدرسة الرأي وترك مدرسة الحديث. لهذا نرى سيبويه وابن خلدون يقولان بالترادف، فيؤخذان كمراجع أهم من ثعلب وأبي علي الفارسي.
كل هذا أدى بعلوم التفسير إلى أن تقتصر على آيات الأحكام، وإلى أن تفسر بالحديث والسيرة، دون أن تقترب من آيات الكونيات والقصص القرآني، فإن اقتربت، فمرجعها الإسرائيليات وأخبار القصاص في المساجد إذ كان لا يوجد لديهم مراجع أخرى. أي أن كتب التفسير ليست أكثر من:
(فقه أحكام + سيرة نبوية + إسرائيليات)
ومما زاد الطين بلة، منع الاجتهاد في التفسير أو نقده، وبما أن النبي (ص) والصحابة جميعاً، لم يفسروا آيات القصص القرآني والكونيات، ولم يفسروها هم أنفسهم في تفاسيرهم، فقد حذروا الناس من الاقتراب منها، ودفعوهم بعيداً عنها، بوضعهم قاعدة أنك كلما اقتربت من السلف في التفسير (أي المأثور) أصبت. رغم أن العكس صحيح، فكلما ابتعدت عن المأثور بالزمان والمعارف اقتربت من فهم التنزيل.
لقد حاول أحد المفسرين المعاصرين، هو الشيخ جوهري طنطاوي في كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” أن يجمع 750 آية من آيات التنزيل في الكونيات، ويشرحها شرحاً علمياً معاصراً، فتصدى له مناع القطان في كتابه “مباحث في علوم القرآن” يقول معلقاً على ص371، إن في تفسير طنطاوي كل شيء ما عدا التفسير!! والحقيقة عكس ذلك، فقد سار الشيخ طنطاوي على المنهج العلمي في التفسير، فأنكروا ذلك عليه.
لقد جاء القصص القرآني، ليس من أجل الأخبار، كأي كتاب تاريخ، لكنه جاء ليشرح سنن التاريخ وحركته، وذكره فرعون 74 مرة بشكل مباشر، وكون الآيات التي تحدثت عنه وعن هامان وقارون أكثر من آيات الأحكام مجتمعه، لم يلفت نظر المفسرين ليقفوا عندها، بل قاموا كالفقهاء بشر نواقص الوضوء ومفسدات الحج والصلاة، ومروا على الباقي مر الكرام، أو علقوا عليها في أحسن الأحوال تعليقات لا معنى لها، ولو تركوها لنا دون تفسير لكان أفضل لنا وللمسلمين، إذ سنعلم أن فهمها في هذه الحالة يقع على عاتقنا.
يقول الشيخ محمد الغزالي(10): واضح أن الإسلام إطلاق للعقل لا حجر عليه، وإعمال له لا تعطيل لوظائفهن والقرآن جاء دعوة إلى قراءة كتاب الكون، وتأمل أسراره، وسننه وحث الفرد على التأمل داخل نفسه وخارجها للوصول إلى تعاون أفضل مع بني جنسه وفهم أتم لوحدات الكون وطبيعة المادة، ولكن الإصابات التي أحدثت في ثقافتنا نمواً غير طبيعي من تضخم المرويات الواهية، وتضخم الأحكام الفقهية في الفروع، والذبول في علم الكون والحياة بموت المكتشفين والرواد والأوائل في الكيمياء والفيزياء والرياضيات، كل ذلك كان سبباً في انحسار واضح في الجوانب الأخرى من الشمولية القرآنية”.
ويقول(11):.. لقد انتزعنا مثلاً آية {والله خلقكم وما تعلمون} من سياقها لنقول إن العمل الذي نؤديه هو من صنع الله، ولندل على مذهب أهل السنة في أن العمل مخلوق لله. ونسينا أن هذا الكلام لو صح، ما كان عبدة الأصنام مسؤولين، لأنهم إذا كانوا مخلوقين لله، وأعمالهم في شركهم ووثنيتهم مخلوقة لله، فما عليهم من ذنب!!.
(1) اقرأ ما فعله يزيد في “تاريخ الخلفاء”، ص209، يوم الحرة في المدينة المنورة، حيث نهبها وافتض فيها ألف عذراء. وانظر حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول قوله: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. (صحيح مسلم، ج12، ص238).
(2) انظر العقد الفريد، ج4، ص186.
(3) وردت هذه الصور وغيرها في كتب العامة حول قصة المعراج، التي اختُلف فيها وصدر حولها كثير من الآراء المتباينة، علماً أن من الثابت قطعاً ورود قصص مشابهة لها في ديانات ما قبل الإسلام.
(4) يجدر التنويه هنا إلى أننا نستهدف ابن عباس كصحابي راوٍ للحديث طفلٍ، أما بعد أن بلغ أشده فقد غدا من أبرز علماء الأمة في صدر الإسلام.
(5) وترك شعبة بن الحجاج حديث رجل سمع شعبة في بيته صوت طنبور، وحديث رجل رآه يلعب الشطرنج.
(6) انظر “كيف نتعامل مع القرآن”، دار الوفاء للطباعة والنشر،1992، ص164.
(7) المصدر نفسه، ص208.
(8) لك أن تقرآ {والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} الذاريات 47- وتعتمدها دليلاً على أن العلم مهما اتسع فلن يخرج عن الآيات الكونية في التنزيل.
(9) انظر “موجز تاريخ الزمن” تأليف ستيفن هو كينغ ترجمة الدكتور أدهم السمان.
(10) كيف نتعامل مع القرآن-دار الوفاء للطباعة والنشر 1992، ص88.
(11) المصر نفسه.


وقع بيدي كتيب صغير عنوانه: “علامات قيام الساعة الصغرى والكبرى”، طبع لأول مرة عام 1892، منذ أكثر من مئة عام، تأليف يوسف إسماعيل النبهاني، وأعيد طبعه عام 1987. في آخر فهرس بعناوين كتب أصدرها المؤلف، كان أحدها “القصيدة الرائية الصغرى في ذم البدعة وأهلها ومدح السنة الغرّا، وخصت بالذم من مبتدعة العصر جمال الدين الأفغاني وممد عبده المصري ورشيد رضا صاحب جريدة المنار”. وكان هؤلاء وقتها ما زالوا على قيد الحياة، حيث توفي الشيخ محمد عبده، مثلاً، عام 1905.
والآن، وبعد مرور قرن من الزمان، أصبح هؤلاء من أعلام النهضة الإسلامية، ويصنفون مع المصلحين الكبار، وذهبت التهم الموجهة إليهم، مع من وجهوها، أدراج الرياح، فحضرني قوله تعالى: {… فأما الزبد فيذهب جُفاءً وأما ما ينفع الناي فيمكث في الأرض، كذلك يضرب الله الأمثال} الرعد 16.
لقد توجه الانتباه في نهاية القرن التاسع عشر إلى أن الإسلام بحاجة إلى تجديد، وتم ذلك على أيدي مصلحين كبار، أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، في نهاية حياة الإمبراطورية العثمانية، وفي ذروة الصراع بين العرب والمسلمين من جهة، والغرب من جهة أخرى. ومن أهم ما تم طرحه في ذلك الوقت الإسلام وقضايا المجتمع. وكان من نتائجه قيام حركات سياسية إسلامية على أساس الخلافة وإصلاح الدولة، وحركات قومية على أساس الاستقلال عن الدولة العثمانية. وكانت هذه الحركات الإسلامية منها خاصة، أسيرة لمنطلقات ظنت أنها من أساسيات الإسلام كدولة ومجتمع، وكان أهم هذه المنطلقات:
أ – الانطلاق من أن ما فعله الصحابة بعد وفاة النبي (ص) هو من أساسيات الإسلام، علماً أنه اجتهاد إنساني بحت، وبالتالي عدم التفكير بوضع أسس الدولة والمجتمع على أساس التنزيل الحكيم والاجتهاد الإنساني المعاصر، مستعملين أدوات المعرفة والبحث المعاصرة.
ب – عدم التفكير بمراجعة أصول الفقه والتشريع الإسلامي، ووضع أصول جديدة تختلف عن الأطر المعرفية التي تم وضع هذه الأصول من خلالها، في القرنين الثاني والثالث من الهجرة.
وهذا المرض، ورد في قوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون} – الزخرف 22. وفي قوله تعالى: {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا، أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} – البقرة 170. ونحن حين ننظر إلى هذه الآيات نظن أنها تعني مشركي العرب، وأنها لا تعنينا مطلقاً، علماً أنه سبحانه ذكر فيها داءً يصيب كل الأمم قاطبة، مؤمنة وغير مؤمنة، أطلق عليه اسم داء الالفة الآبائية {ما ألفينا عليه آباءنا}. ولا أعتقد بوجود شعب في الأرض، مصاب بهذا الداء المزمن، كإصابتنا نحن به، ظانين أننا نحسن بذلك صنعاً.
جـ – ربط الإسلام، من خلال السياق التاريخي للدولة الإسلامية، بأشخاص، ولم يتم تحويله إلى مؤسسات. فالجيد مربوط بشخص الحاكم، والإسلام في أذهاننا أسير شخص الحاكم، فإذا كان الحاكم جيداً فالأمور بخير، وإذا كان شيئاً فالأمور عكس ذلك، كما لو أن المجتمع الإسلامي مجتمع هامشي ليست له أية فعالية. والمثالان التاليان يوضحان معنى ربط الإسلام بشخص، ومعنى عدم تحويله إلى مؤسسة:
أ – موقف عمر بن الخطاب (رض) عندما أعطى اليهودي تعويض شيخوخة من بيت مال المسلمين. وهو موقف نفخر به حين نذكره ونسجله لعمر كرأس الدولة. لكننا نرى اليوم، في نهاية القرن العشرين، دولاً غير إسلامية تعطي إعانات لكل مولود على أرضها، ولو كان من أبوين لا يحملان جنسية هذا البلد، ويحصل الأمر دون علم رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء، ذلك لأن عملية الإعانة هذه وباقي بنود الضمان الاجتماعي، تم تحويلها إلى مؤسسة، بحيث لا يدري بها إلا الموظف المسؤول عنها. وبقي عمر بن الخطاب عندنا شخصية تاريخية، أما (عمرهم) فتحول إلى مؤسسة، لاتهم معها موافقة رئيس الدولة أو عدم موافقته.
ب – مسلسلات (القضاء في الإسلام) التي نشاهدها على شاشات التلفزيون، تدور حول فكرة واحدة، هي موقف القاضي ضد الوالي أو ضد الخليفة للمحافظة على نزاهة القضاء. أما الآن، وبعد أم تم فصل السلطات عن بعضها في القرن العشرين، فإن من المضحك أن يفكر الفرنسيون مثلاً، بأن قاضياً في باريس يقف ضد رئيس الجمهورية أو ضد رئيس الوزراء، لأنه يتدخل في القضاء. أي أن القضاء عندهم تم تحويله إلى مؤسسة، وأصبح استقلاله من نافلة القول، وليس موضع بحث، أي أصبح من عاداتهم وتقاليدهم في شؤون الحكم. كل هذا أدى إلى أمور هامة هي:
1.   لم يقدم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات سياسية تضمن حرية الرأي والرأي الآخر (حرية المعارضة) وحرية التعبير عن الرأي، بحيث تستطيع أن تلفظ أي إنسان يحاول اختراقها والاعتداء عليها. فقاد هذا إلى غياب فرع هام من فروع التشريع هو الفقه الدستوري، الذي ينظم بنية الدولة وشرعيتها. لهذا أقول: لا تبحثوا في التراث العربي الإسلامي عن فقه دستوري، لأنه غير موجود. وهذا أدى إلى النقطة التالية:
2.   لم يقدم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات تشريعية، بل تم ربط الفقه بأشخاص وليس بمؤسسات. لهذا نجد مفهوم الانتخابات التشريعية، مثلاً، غريباً عن الإسلام التشريعي.
3.   لم يقم لنا الإسلام التاريخي (إسلام الواقع) مؤسسات قضائية مستقلة عن السلطة التنفيذية. بل قدم لنا عوضاً عن ذلك مواقف نبيلة لأشخاص قضاة ومعاناتهم.
فكانت النتيجة المنطقية لغياب هذه النقاط الثلاث، وجود مؤسسة بديلة لها، هي مؤسسة الاستبداد السياسي، التي نعيشها منذ قرون، ولم يصلنا غيرها. ولا أريد هنا تفصيل كيف دفنت الشورى في صدر الإسلام، وكيف تم استبدالها بمؤسسة استبداد، فقد بحث ذلك من قبل العديد من المفكرين، وتطرقت إليه في كتابي هذا، لكنني أود أن أبين ماذا فعلت مؤسسة الاستبداد السياسي بنا، وكيف وصلتنا، وكيف صاغتنا وشكلتنا حتى صرنا إلى ما نحن عليه الآن، وكيف أن ما كتب في الفقه والتفسير والحديث وعلوم العربية حصل تحت ظلها، ووصل إلينا مطبوعاً بطابعها. وأن هذه المؤسسة تحمل المواصفات التالية:
1.   عدم وجود الرأي الآخر. فالتصفية للمعارضة تتم بأبشع صورها جسدياً، وبأحسن صورها سجناً أو نفياً.
2.   الخليفة هو الحاكم المطلق، لا يخضع للمحاسبة أو المساءلة، والحكم وراثي. ثم تحول الخليفة في عصور الانحطاط إلى صورة كرتونية، وأصبح الحم بأيدي العسكر (الطاعة لذي الشوكة) وهذا واضح عند المماليك والعثمانيين، حيث نحن من نتائجهم المباشر.
3.   بيت المال تحت تصرف الحاكم، كما لو أنه ماله الخاص، والأمور المالية رهن مزاج الحاكم، فإذا كان نزيهاً (عمر بن عبد العزيز) فهنيئاً للناس، وإن كان غير ذلك، فليس لهم الصبر وانتظار الفرج دون معارضة.
لقد تم ترسيخ هذه المؤسسة في عهد الأمويين، ثم تطورت واستمرت حتى يومنا هذا. فوضع الاستبداد بصماته على كل شيء في حياة المواطن كفرد، وفي حياة الجماعة. حتى أنه وضع بصماته على العلوم التي من شأنها أن تحتج على الاستبداد، وهي علوم الفقه والتفسير والحديث والعقيدة، والتي من شأنها أيضاً إذا أرادت، أن تثير الناس على الاستبداد. فكيف وضع الاستبداد السياسي بصماته على هذه العلوم؟
1 – لقد بدأ الاستبداد السياسي، أول ما بدأ، بوضع بصماته على العقيدة، وذلك بتقديم تعريف القضاء والقدر. فلكي يبرر الأمويون استلامهم للسلطة تبريراً شرعياً، طرحوا المقولة التالية:
لقد سبق في علم الله الأزلي أن بني أمية ستحكم الدولة العربية الإسلامية، وبالتالي لا بد لهذا العلم من أن ينفذ. فاستلام بني أمية الحكم هو نفاذ هذا العلم، وبالتالي فحكمهم هو القدر.
وأصبح تعريف القضاء والقدر بذلك كما يلي:
1 – القضاء علم الله الأزلي.
2 – القدر نفاذ هذا العلم في عالم الواقع.
وهذا التعريف للقضاء والقدر يضع المؤمن في إطار الاستسلام لكل شيء، أي أن كل ما حصل لا بد من حصوله (مكتوب سلفاً). وما زال هذا التعريف شائعاً إلى يومنا هذا، ولم يوضع تحت مجهر النقد.
فإذا أخذنا هذا التعريف، واستعرضنا آيات التنزيل الحكيم كلها، سنجد أن القضاء فيها هو الأمر والنهي، كما في قوله تعالى: {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا … الآية} – الاسراء 23.
فهذه الآية تقول أن الله قضى ألا نعبد إلا إياه، كما قضى ببر الوالدين، ومع ذلك فنحن نرى أناساً لا تعبده، وأناساً لا تبر والديها، ونفهم وجود احتمال بأن يكون قضاء الله غير نافذ.
إلا أن الآيات الأخرى تعطينا شرطاً إضافياً لنفاذ قضاء الله، هو النفاذ من خلال كلماته كما في قوله تعالى: {… إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} مريم 35.
قضى أمراً —> يقول له {قول الحق} —> كن فيكون (الكلمات)
فعندما قال تعالى {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه..} لم يتبعها بقوله كن فيكون. ولهذا نرى بعض الناس لا تعبد الله، ولو قال كن فيكون، لأصبحت عبادة الله أمراً لا مناص منه ولا خيار للإنسان فيه. والسؤال الآن: هل قضى الله سلفاً أن يحكم هتلر ألمانيان ويسبب كوارث الحرب العالمية الثانية؟ وهل حكم المستبدين والطغاة من قضاء الله؟ والجواب: كلا!! لأنها لم تخضع لقوله كن فيكون، كما خضعت ولادة المسيح بدون أب كما في قوله تعالى: {ذلك عيسى بن مريم قول الحق الذي فيه يمترون * ما كان لله أن يتخذ من ولدٍ سبحانه، إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون} مريم 34 و35.
وكما في قوله تعالى: {.. إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه فآمنوا بالله ورسله ولا تقولوا ثلاثة..} -النساء 171. ونلاحظ هنا أن:
عيسى ابن مريم {قول الحق} {كلمة الله} —> قضى أمراً —> يقول له كن فيكون
ومن هنا نرى أن تعريف قضاء الله المطروح أمامنا لا يمت إلى الذكر الحكيم بأية صلة، وأنه تعريف يسلب لإنسان كامل حريته ويدعوه إلى الإسلام، وأنه تعريف يلائم تماماً استبداد السلطة وخضوع الناس، وليست له علاقة بعلم الله الأزلي لا من قريب ولا من بعيد. وإلا فأين علم الله الأزلي في قوله تعالى: {وما كان لمؤمنٍ ولا مؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمورهم، ومن يعص الله ورسوله فقد ضلّ ضلالاً مبيناً} -الأحزاب 36.
ولو كان القدر هو نفاذ هذا العلم بالضرورة، لأصبحت الآية لا معنى لها، ولا ضرورة لإخبار زينب بأن لها الخيار في الزواج قبل الآية وبعدها. فالآية تقول لزينب أنها إن رفضت تكون قد عصت حكم الله ورسوله، ولكن احتمال الرفض قائم قبل الآية وبعدها، إذ لا يوجد فيها كن فيكون. وهي على هذا أمر ونهي وليست كلمات. ولم تنزل هذه الآية إلا بعد أن رفضت زينب الزواج من زيد.
فإذا انتقلنا إلى تعريف القدر، وأخذناه كما يفسرونه أنه نفاذ علم الله الأزلي في الواقع، واستعرضنا التنزيل الحكيم بما فيه من آيات ورد فيها ذكر القدر، نجده في أوضح أشكاله بقوله تعالى: {نحن قدّرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين} الواقعة 60. فالموت قدرٌ قدره الله على الناس، والقتل قضاء. والطعام وجهاز الهضم قدر، والصوم قضاء. ووجود الكف والوجه قدر، والصفع قضاء.
وإمكانية الكذب والصدق قدر، والصدق والكذب قضاء. وإمكانية الجماع بين الذكر والأنثى قد إلهي، والزنا والعفة قضاء إنساني. والانشطار النووي قدر، لكن صناعة أسلحة التدمير وتوليد الطاقة الكهربائية قضاء. ولهذا، فقد جاء القدر في القرآن (النبوة)، وجاء القضاء في أم الكتاب (الرسالة).
إن هذا التعريف للقضاء والقدر، هو بصمة الاستبداد السياسي الخطيرة على العقيدة الإسلامية. وما زال راسخاً مع الأسف إلى يومنا هذا، نكرره وكأننا لم نقرأ ونتدبر آيات التنزيل الحكيم.
لقد تم سفك الكثير من الدماء، في سبيل ترسيخ هذا التعريف، حيث أقاموا بعد ترسيخه، حواجز وأسواراً للترهيب، حتى لا يعود البحث فيه وتوضح الأمور في نصابها. أما في عصر جيل الراشدين الذي شهد النبي (ص) فقد كان الناس بعيدين عن هذا التعريف. ونحن نسمع عمر (رض) يأمر الناس بالخروج من المناطق الموبوءة بالطاعون، فيقول له أحدهم: أنفر من قدر الله؟ ويجيب عمر: نفر من قدر الله إلى قدره. حيث كان عمر (رض) يعلم أن الله قدّر الصحة تماماً كما قدّر المرض وأن الانتقال من أحدهما إلى الآخر هو من قضاء الإنسان.
3 – أثر الاستبداد على الناحية العقائدية هذا، تبعته آثار أخرى متممة على نواح أخرى، فقد ارتسم أثره الثاني على الفقه الإسلامي في الناحيتين التاليتين:
أ – بعد أن ربط الحاكم المستبد وجوده بقضاء الله وقدره، لم تبق عند الناس حاجة إلى الاحتجاج على تصرفاته. حتى وصل بهم الأمر إلى القول بأنه لا يعزل الحاكم والسلطان، وإن جار وظلم ولاط وزناً(1). ورغم أنهم أعلنوا على استحياء أنه يكفي الحاكم المستبد أن يقول لا إله إلا الله، ولا يعلن الكفر البواح بشتم الله ورسوله، ولا يمنع الناس من العبادات كالصلاة والزكاة والحج، لكي يضمن طاعة الناس وخضوعهم، إلا أنهم أغلقوا باب الاحتجاج على جوره وظلمه، الذي كان يعني القتل الفردي والجماعي لتصفية المعارضة بالسجن المؤبد ودس السم، وأخذ أموال الناس، وصرفها كيفما يشاء متى يشاء وعلى من يشاء دون محاسبة أو مساءلة، واسمع معي أبا جعفر المنصور يقول يوم عرفة خطيباً: أيها الناس، إنما أنا سلطان الله في أرضه، أسوسكم بتوفيقه وتسديده وتأييده. وحارسه على ماله، أعمل فيه بمشيئة وإرادته، وأعطيه بإذنه، فقد جعلني الله عليه قفلاً، إذا شاء أن يفتحني فتحني لإعطائكم، وإذا شاء أن يقفلني عليه أقفلني(2).
لقد تم ترسيخ الاستبداد تحت اسم إجماع العلماء (كذا)، فكان السبب الأساسي في منع تحويل التشريع إلى مؤسسة تشريعية، وفي القضاء على الشورى تحت شعار أن الشورى غير ملزمة للحاكم. وما زلنا نعيش هذه المأساة حتى يومنا هذا، فالسلطات التشريعية (المجالس) التي تعتبر حديثة نسبياً على العرب والمسلين، لم تأخذ حتى اليوم دورها الفعال في البلاد التي توجد فيها.
ب – ظهر الفقه الإسلامي، كما قلنا، والسلطة المستبدة حقيقة قائمة، فجاء خالياً من الفقه الدستوري الذي يحدد شرعية الدولة، والعلاقة بين السلطة والمواطن، وحدود صلاحيات السلطة، وإقرار الحريات الشخصية والعامة، ومبدأ الاختيار والتعبير عن الرأي. وظهر بدلاً منه مفهوم الطاعة، طاعة أولي الأمر مقرونة بطاعة الله ورسوله، واعتبارها من الفضائل الدينية والدنيوية على حد سواء.
كما ظهر فقه العبادات كالوضوء والصلاة والحج والزكاة، حتى شمل هذا الفقه كثيراً من المجلدات، علماً أن العبادات جاءت للعالم والجاهل واضحة وللعامة والخاصة مفصلة لا تحتاج إلى كل ذلك، وما زال يجري التركيز عليها، بسبب داء الآبائية الذي وصلّنا بالوراثة. مما أوقع الفقه الإسلامي في تناقض وجوب طاعة الحاكم الظالم الفاسق، مع الدخول في أدق تفاصيل العبادات من وضوء وطهارة، بشكل أصبحت تبدو معه، وكأن الإخلال بواحد فقط من هذه التفاصيل الدقيقة كافياً لأن يرمي بالصلاة فيوجه المصلي وبالصوم في وجه الصائم، ووصل الأمر إلى أن أخذ المسلمون صورة مشوهة عن الله وعدالته، فأظهروه وكأنه حاكم مستبد يعدّ على المؤمنين عثراتهم وهم يعبدونه، وكأن الملائكة موظفين في دولة بيروقراطية لا يهمهم غير الشكل في الروتين، فهم بالمرصاد لصغائر ما يرتكبه الناس في الحياة الدنيا، وهم بالمرصاد مع آلات التعذيب في القبر لاستكمال التحقيق برئاسة أنكر ونكير وإغلاق الملف.
ويصورون الآخرة والحشر بما تقشعر له الأبدان، من صور يغرقون في تفصيل رعبها وبشاعتها، فمن معلقات من شعورهن، إلى مصلوبات بالخطاطيف من أثدائهن، إلى غير ذلك من مشاهد تحفل بها كتب كثيرة كثيرة(3).
وهكذا يعرض الوجود الإنساني بطريقة إرهابية استبدادية منذ الولادة، وحتى نهاية الحساب. الأمر الذي نجد خلافه في التنزيل الحكيم، فهو لا يذكر النار إلا ذكر معها الجنة، وحين يذكر الرحمن يذكرها عامة واسعة، أما العذاب فمقصور مخصص، كما في قوله تعالى: {.. قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء..} الأعراف 156. وبالمحصلة فقد ترك الفقه الإسلامي الحاكم الفاسق المستبد، وانصرف يشتغل في المرأة وحجابها!!
لقد خلط الفقه الإسلامي بين المعاملات والأحوال الشخصية والعبادات والأخلاق، وجعل منها أمراً واحداً يضم الفروع الثلاثة، وأفاض فيها لأنها لا تتعارض مع السلطة المستبدة. ورسم للناس كيف يتعاملون فيما بينهم، ولهذا نرى أن المستوى الفقهي في هذه الأمور وصل إلى درجة رفيعة من الاستفادة والشرح، بينما بقي الفقه الدستوري معدوماً أو هزيلاً يتناسب مع السلطة المستبدة.
وكانت أزمة الناس دائماً هي أزمة السلطة. فم يعيشون حياتهم اليومية، إلى أن يموت الحاكم فتتوقف الحياة، حتى تستقر أمور الحاكم الجديد ويعلمون من هو، لتعود الحياة إلى مجراها العادي، لتتبع شخصية الحاكم ومزاجه دون أي ضابط فقهي دستوري، فإن كان عادلاً فله الأجر وعليهم الشكر، وإن كان ظالماً فعليه الوزر وليس عليهم إلا الصبر!!
3 – أما تأثير الاستبداد على الحديث النبوي (السنة) فكان كالتالي: بما أن الاستبداد ليس له أي سند في التنزيل الحكيم، بل العكس، فقد لعن الله الظالمين والمستبدين، وعبر عن الاستبداد فيه بالظاهرة الفرعونية، التي أخذت حيزاً منه أكبر مما أخذت الأحكام كلها. لذا، كان لا بد من سند عقائدي لتأطير أيديولوجيا الاستبداد، فكان هذا السند هو الحديث النبوي.
ففي صدر الإسلام، بعد وفاة الرسول (ص)، كان ثمة عدد كبير من الصحابة ما زال على قيد الحياة، وكان من المستحيل على أحد، حتى لو كان صحابياً، أن يقول: قال رسول الله.. وسمعت رسول الله.. دون أن يعترضه معترض (انظر أخبار عمر مع أبي هريرة)، إذ كان في أذهان الصحابة وذاكرتهم، ما سمعوه أنفسهم بلسان رسول الله نفسه:
– لا تكتبوا عني غير القرآن، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدثوا عني ولا حرج، ومن كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار (صحيح مسلم، ج18، ص229).
– بلغ رسول الله أن أناساً كتبوا أحاديثه، فصعد المنير وقال: ما هذه الكتب التي بلغني أنكم قد كتبتم؟ إنما أنا بشر، فمن كان عنده شيء فليأت به. يقول أبو هريرة: فجمعنا ما كتبناه وأتلفناه، أو قال فأحرقناه. (تقييد العلم للخطيب البغدادي، ص34).
ومع ذلك فنحن نجد أن بداية تدوين الحديث النبوي جاءت في العصر الأموي، ومعها بدأ الانتحال على رسول الله، وخاصة فيما يتعلق بأيديولوجيا السلطة والطاعة والجهاد. لقد نهى الرسول عن تدوين حديثه في رأينا لأسباب:
أ – أن التنزيل الموحى هو أساس الإسلام وعموده الفقري.
ب – أن طاعة الرسول تعني طاعة الرسالة، والرسالة موجودة في التنزيل.
ج – أن الأمور التي أمر الله الناس بطاعة الرسول فيها، كالصلاة والزكاة، قد بلغها الرسول إلى الناس ومارسها فعلاً، ووصلتنا بالتواتر.
د – أما في الأمور التي وصلنا معظمها بطريق الآحاد، حتى لو صحت، فإن تطبيقها نسبي وطاعتها في حياته فقط (طاعة الرسول المنفصلة في حياته).
لقد بلغت الأحاديث المنقولة عن النبي (ص)، باعتراف علماء الحديث، حداً يفوق الوصف، فقاموا بتصنيفها، وقسموها إلى متواتر وآحاد. ويقوم علم الحديث في معظم معظمه على أحاديث الآحاد الظنية التي لا تقيم ديناً ولا تبني حياة. وحيث أن أحاديث الحكم وتسويغ الاستبداد من الآحاد، فقد أخذ هذه الأهمية، ورأيناه في علاقة عضوية متلازمة مع الفقه، بحيث أخذ بيد الفقهاء إلى أزمة وورطة لم نخرج منها إلى اليوم. فقد كادت أحاديث الآحاد هذه أن تتقدم على التنزيل الحكيم في مجال الحكم والاستبداد إن لم تكن قد تقدمته فعلاً. ورغم أنها في الأصل غير ملزمة لأحد، إلا أن الإلزام والالتزام بها أصبح قسرياً، وأصبحت هي حجر الأساس لدى المسلمين في استنباط الأحكام.
هـ – لقد كان من الضروري للاستبداد، لكي يلزم الناس بطاعته، ولتأخذ هذه الطاعة شكلها العقائدي، بحيث يخرج من الإسلام من لم يلتزم بها ويعدم، أن تندمج الطاعة المتصلة لله ورسوله بالطاعة المنفصلة لله وللرسول، مع الطاعة لأولي الأمر، بحيث تصبح هذه الطاعات على مختلف وجوهها أمراً واحداً هو الطاعة الدائمة لله!! فتم دمج {أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم} لينتج من هذا الدمج أن طاعة أولي الأمر طاعة الله تماماً، فندخل في الحق الإلهي بالحكم، وأن الحاكم ممثل الله في الأرض، كالرسول تماماً، وأن عصيانه والخروج عليه يوجب غضب الله ورسوله.
إن الفرق بين الآيات في الطاعة واضح بشكل لا نظن أن الفقهاء وعلماء الحديث لم ينتبهوا إليه، لكن وقفهم عنده سيوقعهم في إشكالية أساسية هي التعرض لأطر السلطة. أي أنهم سيدخلون إلى الفقه الدستوري من مدخل مغاير تماماً لما تريده السلطة ولما تم فعلاً. وكان من جراء ذلك كله أن أخذ علم الحديث بأمور غير مقبولة منهجياً بمعظمها عند أي باحث علمي.
و – فقد أجاز علم الحديث أخذ الحديث عن أطفال، كعبد الله بن عباس، الذي نقل البخاري عنه أنه قال: توفي رسول الله وأنا ابن عشر سنين مختوناً. ويروي صاحب المنار أن له في مسند أحمد 1696 حديثاً. وكأنس بن مالك، وكان عمره أقل من عشر سنوات حين وفاة الرسول، وعبد الله بن الزبير، والحسن بن علي، والحسين بن علي … وغيرهم.
وعبد الله ابن عباس لم يعرف النبي، ولا اجتمع به قبل الفتح، إذ كان يقيم في مكة مع أبيه الذي لم يهاجر مع من هاجروا إلى المدينة. حتى بعد الفتح، عاد النبي إلى المدينة وبقي ابن عباس مع أبيه في مكة، وهو ابن ثمان. فمن أين له أن يقول كما يروي البخاري: والله الذي لا إله إلا غيرهن ما نزلت سورة من كتاب الله إلا وأنا أعلم أين نزلت، ولا نزلت آية من كتاب الله إلا وأنا أعلم فيم نزلت(4).
ونحن اليوم لا نقبل شهادة طفل في هذه السن، ببيع أو شراء دراجة، فكيف قبل المحدثون ذلك؟ لقد كان علماء الحديث حريصين جداً على أمانة الراوي وعدالته، حتى أن البخاري رفض حديث رجل يكذب على دابته(5)، ويرفضون في الوقت نفسه شهادة رجل كعمر بن الخطاب في رجل كأبي هريرة، حيث منعه من رواية الحديث، واتهمه بالسرقة والرشوة في ولايته على البحرين.
ومع ذلك زادت أحاديثه في كتب الصحاح والسنن على الخمسة آلاف حديث، كما يحكي ابن عساكر، رغم أنه كما يقول الشيخ رشيد رضا: لو أحصينا ما انفرد به أبو هريرة من أحاديث الأحكام الشرعية لرأيناه قليلاً جداً، وعلمنا أنه لو لم يروه لما نقصت كتب الأحكام شيئاً، وأن الطعن فيه لو كان صادقاً ما حط من قدر الشريعة شيئاً، ولو لم يخلق أبو هريرة لما نقصت الشريعة شيئاً. (تفسير المنار، ج19، ص108).
من هنا يتم طرح أمور كثيرة على المسلمين تحت شعار الإسلام، كلها من أحاديث الآحاد، دون أن يتعب المسلمون أنفسهم في العودة إلى قراءة التنزيل الحكيم ودراسته دراسة مستفيضة، لما يحتاجونه في ذلك إلى الوقت والجهد وتحمل مسؤولية وجرأة في الحق. فالقرآن كما يقول الشيخ محمد الغزال: … خطاب الزمن كله، حتى يرث الله الأرض وما عليها، خطاب الأجيال والأجناس والعلماء، والمستويات الحضارية المتفاوتة، ولا يمكن منطقياً بأي حال من الأحوال أن نجمده عند فهم عصر معين(6).
لكن المسلمين، وكما يقول الشيخ الغزالي مرة أخرى، تركوا الكتاب للسنة، ثم تركوا السنة لأقوال الأئمة، ثم تركوا الأئمة للمتون.. فأصبح التراث حاجزاً يحول بين المسلمين وبين مصادرهم الأساسية(7).
4 – بعد أن رسخ الاستبداد بالشكل الخادع الجبري، كما شرحناه، وزرع القناعات المسبقة لدى الناس عن أعمارهم وأعمالهم وأرزاقهم، ونتج أن عمر الإنسان ثابت منذ الأزل، وأن رزقه مكتوب، مهما كان عمله، فقد انعكس ذلك مباشرة على علم التفسير، وعلى شرح الآيات المتعلقة بهذه المواضيع. وحين يقرؤ الإنسان قوله تعالى: {.. وما يُعمَّرٍ ولا ينقص من عمره إلا في كتابٍ، إن ذلك على الله يسيرٌ} – فاطر 11. فهو يفهم أن الحديث بالآية يدور حول شخص واحد، وهو محل فعل يعمَّر وفعل ينقص وهاء عمره. وفهم أن عمر هذا الشخص الواحد، يطول في كتاب ويقصر في كتاب، وينظر حوله في الواقع ليجد مصداق ذلك في علم الطب الذي يدرس هذه الكتب.
أما المفسر، فسيضطر بحكم الفكرة المسبقة التي يحملها عن ثبات الأعمار إلى أن يلجأ للتخريجات. والتخريج هنا، أن فعل ينقص يعود على شخص آخر غير المعمر الذي يطول عمره. ومع حمل الأفكار المسبقة، ومع اللجوء إلى التخريج، لا يفيد التبحر في اللغة، ولا تفيد التقوى، ولا تفيد العبقرية. لقد كان معظم المفسرين التراثيين لغويين، وأتقياء، وعباقرة، لكنهم كانوا يحملون أفكاراً مسبقة يخرّجون على أساسها تفاسيرهم!!
ونضرب على ذلك مثلاً علمياً من عصرنا الحاضر، هو ما حدث مع ألبرت أينشتاين صاحب النظرية النسبية، وعالم الرياضيات والفيزياء الذي لا يشك أحد في عبقريته. فعندما كتب مجموعة معادلات النسبية، نتج لديه أن الكون غير ثابت، وأنه في حالة اتساع دائم(8). لكن الفكرة المسبقة التي كانت عنده بأن الكون ثابت، جعلته يلجأ إلى تخريجه، تسوغ ما وصل إليه مع ما يحمله، بأن أضاف إلى المعادلات معاملاً هو (معامل الثبات) ليحول الكون من متسع دائم إلى ثابت. الأمر الذي اعترف به بعد سنين، وقال إنها كانت أكبر خطيئة ارتكبها في حياته. فانظر كيف أن الفكرة المسبقة غلبت الذكاء والعبقرية(9).
لقد انتصرت مدرسة الترادف تحت ظل الاستبداد، على مدرسة عدم الترادف، حيث تؤدي الثانية إلى دراسة التنزيل دراسة دقيقة، وتشير إلى الفروق بين الكتاب والقرآن والذكر، وبين الحكم والحكمة، وبين الإمام المبين واللوح المحفوظ، وبين الرسالة والنبوة. وتقود إلى فهم أفضل للتنزيل وفهم أفضل لمسائل القضاء والقدر والحرية والشورى والتشريع، وتؤدي إلى الأخذ بيد مدرسة الرأي وترك مدرسة الحديث. لهذا نرى سيبويه وابن خلدون يقولان بالترادف، فيؤخذان كمراجع أهم من ثعلب وأبي علي الفارسي.
كل هذا أدى بعلوم التفسير إلى أن تقتصر على آيات الأحكام، وإلى أن تفسر بالحديث والسيرة، دون أن تقترب من آيات الكونيات والقصص القرآني، فإن اقتربت، فمرجعها الإسرائيليات وأخبار القصاص في المساجد إذ كان لا يوجد لديهم مراجع أخرى. أي أن كتب التفسير ليست أكثر من:
(فقه أحكام + سيرة نبوية + إسرائيليات)
ومما زاد الطين بلة، منع الاجتهاد في التفسير أو نقده، وبما أن النبي (ص) والصحابة جميعاً، لم يفسروا آيات القصص القرآني والكونيات، ولم يفسروها هم أنفسهم في تفاسيرهم، فقد حذروا الناس من الاقتراب منها، ودفعوهم بعيداً عنها، بوضعهم قاعدة أنك كلما اقتربت من السلف في التفسير (أي المأثور) أصبت. رغم أن العكس صحيح، فكلما ابتعدت عن المأثور بالزمان والمعارف اقتربت من فهم التنزيل.
لقد حاول أحد المفسرين المعاصرين، هو الشيخ جوهري طنطاوي في كتابه “الجواهر في تفسير القرآن” أن يجمع 750 آية من آيات التنزيل في الكونيات، ويشرحها شرحاً علمياً معاصراً، فتصدى له مناع القطان في كتابه “مباحث في علوم القرآن” يقول معلقاً على ص371، إن في تفسير طنطاوي كل شيء ما عدا التفسير!! والحقيقة عكس ذلك، فقد سار الشيخ طنطاوي على المنهج العلمي في التفسير، فأنكروا ذلك عليه.
لقد جاء القصص القرآني، ليس من أجل الأخبار، كأي كتاب تاريخ، لكنه جاء ليشرح سنن التاريخ وحركته، وذكره فرعون 74 مرة بشكل مباشر، وكون الآيات التي تحدثت عنه وعن هامان وقارون أكثر من آيات الأحكام مجتمعه، لم يلفت نظر المفسرين ليقفوا عندها، بل قاموا كالفقهاء بشر نواقص الوضوء ومفسدات الحج والصلاة، ومروا على الباقي مر الكرام، أو علقوا عليها في أحسن الأحوال تعليقات لا معنى لها، ولو تركوها لنا دون تفسير لكان أفضل لنا وللمسلمين، إذ سنعلم أن فهمها في هذه الحالة يقع على عاتقنا.
يقول الشيخ محمد الغزالي(10): واضح أن الإسلام إطلاق للعقل لا حجر عليه، وإعمال له لا تعطيل لوظائفهن والقرآن جاء دعوة إلى قراءة كتاب الكون، وتأمل أسراره، وسننه وحث الفرد على التأمل داخل نفسه وخارجها للوصول إلى تعاون أفضل مع بني جنسه وفهم أتم لوحدات الكون وطبيعة المادة، ولكن الإصابات التي أحدثت في ثقافتنا نمواً غير طبيعي من تضخم المرويات الواهية، وتضخم الأحكام الفقهية في الفروع، والذبول في علم الكون والحياة بموت المكتشفين والرواد والأوائل في الكيمياء والفيزياء والرياضيات، كل ذلك كان سبباً في انحسار واضح في الجوانب الأخرى من الشمولية القرآنية”.
ويقول(11):.. لقد انتزعنا مثلاً آية {والله خلقكم وما تعلمون} من سياقها لنقول إن العمل الذي نؤديه هو من صنع الله، ولندل على مذهب أهل السنة في أن العمل مخلوق لله. ونسينا أن هذا الكلام لو صح، ما كان عبدة الأصنام مسؤولين، لأنهم إذا كانوا مخلوقين لله، وأعمالهم في شركهم ووثنيتهم مخلوقة لله، فما عليهم من ذنب!!.
(1) اقرأ ما فعله يزيد في “تاريخ الخلفاء”، ص209، يوم الحرة في المدينة المنورة، حيث نهبها وافتض فيها ألف عذراء. وانظر حديث حذيفة بن اليمان عن الرسول قوله: تسمع وتطيع الأمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع. (صحيح مسلم، ج12، ص238).
(2) انظر العقد الفريد، ج4، ص186.
(3) وردت هذه الصور وغيرها في كتب العامة حول قصة المعراج، التي اختُلف فيها وصدر حولها كثير من الآراء المتباينة، علماً أن من الثابت قطعاً ورود قصص مشابهة لها في ديانات ما قبل الإسلام.
(4) يجدر التنويه هنا إلى أننا نستهدف ابن عباس كصحابي راوٍ للحديث طفلٍ، أما بعد أن بلغ أشده فقد غدا من أبرز علماء الأمة في صدر الإسلام.
(5) وترك شعبة بن الحجاج حديث رجل سمع شعبة في بيته صوت طنبور، وحديث رجل رآه يلعب الشطرنج.
(6) انظر “كيف نتعامل مع القرآن”، دار الوفاء للطباعة والنشر،1992، ص164.
(7) المصدر نفسه، ص208.
(8) لك أن تقرآ {والسماء بنيناها بأيدٍ وإنا لموسعون} الذاريات 47- وتعتمدها دليلاً على أن العلم مهما اتسع فلن يخرج عن الآيات الكونية في التنزيل.
(9) انظر “موجز تاريخ الزمن” تأليف ستيفن هو كينغ ترجمة الدكتور أدهم السمان.
(10) كيف نتعامل مع القرآن-دار الوفاء للطباعة والنشر 1992، ص88.
(11) المصر نفسه.

Bas du formulaire

 

تعليق على الكتب و الردود التي صدرت حول “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة
http://shahrour.org/?page_id=114