jeudi 12 juin 2014

الكتاب : شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد







الكتاب : شرح نهج البلاغة - ابن ابي الحديد


شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الأول
[ 3 ]

(1/1)

المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الواحد العدل الحمد لله الذي تفرد بالكمال فكل كامل سواه منقوص و استوعب عموم المحامد و الممادح فكل ذي عموم عداه مخصوص الذي وزع منفسات نعمه بين من يشاء من خلقه و اقتضت حكمته أن نافس الحاذق في حذقه فاحتسب به عليه من رزقه و زوى الدنيا عن الفضلاء فلم يأخذها الشريف بشرفه و لا السابق بسبقه و قدم المفضول على الأفضل لمصلحة اقتضاها التكليف و اختص الأفضل من جلائل المآثر و نفائس المفاخر بما يعظم عن التشبيه و يجل عن التكييف و صلى الله على رسوله محمد الذي المكني عنه شعاع من شمسه و غصن من غرسه و قوة من قوى نفسه و منسوب إليه نسبة الغد إلى يومه و اليوم إلى أمسه فما هما إلا سابق و لاحق و قائد و سائق و ساكت و ناطق و مجل و مصل سبقا لمحة البارق و أنارا سدفة الغاسق صلى الله عليهما ما استخلب خبير و تناوح حراء و ثبير . و بعد فإن مراسم المولى الوزير الأعظم الصاحب الصدر الكبير المعظم العالم العادل المظفر المنصور المجاهد المرابط مؤيد الدين عضد الإسلام سيد وزراء الشرق و الغرب أبي طالب
[ 4 ]

(2/1)

محمد بن أحمد بن محمد العلقمي نصير أمير المؤمنين أسبغ الله عليه من ملابس النعم أضفاها و أحله من مراقب السعادة و مراتب السيادة أشرفها و أعلاها لما شرفت عبد دولته و ربيب نعمته بالاهتمام بشرح نهج البلاغة على صاحبه أفضل الصلوات و لذكره أطيب التحيات بادر إلى ذلك مبادرة من بعثه من قبل عزم ثم حمله أمر جزم و شرع فيه بادي الرأي شروع مختصر و على ذكر الغريب و المعنى مقتصر ثم تعقب الفكر فرأى أن هذه النغبة لا تشفي أواما و لا تزيد الحائم إلا خياما فتنكب ذلك المسلك و رفض ذلك المنهج و بسط القول في شرحه بسطا اشتمل على الغريب و المعاني و علم البيان و ما عساه يشتبه و يشكل من الإعراب و التصريف و أورد في كل موضع ما يطابقه من النظائر و الأشباه نثرا و نظما و ذكر ما يتضمنه من السير و الوقائع و الأحداث فصلا فصلا و أشار إلى ما ينطوي عليه من دقائق علم التوحيد و العدل إشارة خفيفة و لوح إلى ما يستدعي الشرح ذكره من الأنساب و الأمثال و النكت تلويحات لطيفة و رصعه من المواعظ الزهدية و الزواجر الدينية و الحكم النفسية و الآداب الخلقية المناسبة لفقره و المشاكلة لدرره و المنتظمة مع معانيه في سمط و المتسقة مع جواهره في لط بما يهزأ بشنوف النضار و يخجل قطع الروض غب القطار و أوضح ما يومئ إليه من المسائل الفقهية و برهن على أن كثيرا من فصوله داخل في باب المعجزات المحمدية لاشتمالها على
[ 5 ]

(2/2)

الأخبار الغيبية و خروجها عن وسع الطبيعة البشرية و بين من مقامات العارفين التي يرمز إليها في كلامه ما لا يعقله إلا العالمون و لا يدركه إلا الروحانيون المقربون و كشف عن مقاصده ع في لفظة يرسلها و معضلة يكني عنها و غامضة يعرض بها و خفايا يجمجم بذكرها و هنات تجيش في صدره فينفث بها نفثة المصدور و مرمضات مؤلمات يشكوها فيستريح بشكواها استراحة المكروب . فخرج هذا الكتاب كتابا كاملا في فنه واحدا بين أبناء جنسه ممتعا بمحاسنه جليلة فوائده شريفة مقاصده عظيما شأنه عالية منزلته و مكانه و لا عجب أن يتقرب بسيد الكتب إلى سيد الملوك و بجامع الفضائل إلى جامع المناقب و بواحد العصر إلى أوحد الدهر فالأشياء بأمثالها أليق و إلى أشكالها أقرب و شبه الشي ء إليه منجذب و نحوه دان و مقترب . و لم يشرح هذا الكتاب قبلي فيما أعلمه إلا واحد و هو سعيد بن هبة الله بن الحسن الفقيه المعروف بالقطب الراوندي و كان من فقهاء الإمامية و لم يكن من رجال هذا الكتاب لاقتصاره مدة عمره على الاشتغال بعلم الفقه وحده و أنى للفقيه أن يشرح هذه الفنون المتنوعة و يخوض في هذه العلوم المتشعبة لا جرم أن شرحه لا يخفى حاله عن الذكي و جرى الوادي فطم على القرى و قد تعرضت في هذا الشرح لمناقضته
[ 6 ]

(2/3)

في مواضع يسيرة اقتضت الحال ذكرها و أعرضت عن كثير مما قاله إذ لم أر في ذكره و نقضه كبير فائدة . و أنا قبل أن أشرع في الشرح أذكر أقوال أصحابنا رحمهم الله في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج و متبع ذلك بذكر نسب أمير المؤمنين ع و لمع يسيرة من فضائله ثم أثلث بذكر نسب الرضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي رحمه الله و بعض خصائصه و مناقبه ثم أشرع في شرح خطبة نهج البلاغة التي هي من كلام الرضي أبي الحسن رحمه الله فإذا انتهيت من ذلك كله ابتدأت بعون الله و توفيقه في شرح كلام أمير المؤمنين ع شيئا فشيئا . و من الله سبحانه أستمد المعونة و أستدر أسباب العصمة و أستميح غمائم الرحمة و أمتري أخلاف البركة و أشيم بارق النماء و الزيادة فما المرجو إلا فضله و لا المأمول إلا طوله و لا الوثوق إلا برحمته و لا السكون إلا إلى رأفته رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ اَلْمَصِيرُ رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اِغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ اَلْعَزِيزُ اَلْحَكِيمُ
[ 7 ]

(2/4)

القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج
اتفق شيوخنا كافة رحمهم الله المتقدمون منهم و المتأخرون و البصريون و البغداديون على أن بيعة أبي بكر الصديق بيعة صحيحة شرعية و أنها لم تكن عن نص و إنما كانت بالاختيار الذي ثبت بالإجماع و بغير الإجماع كونه طريقا إلى الإمامة . و اختلفوا في التفضيل فقال قدماء البصريين كأبي عثمان عمرو بن عبيد و أبي إسحاق إبراهيم بن سيار النظام و أبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ و أبي معن ثمامة بن أشرس و أبي محمد هشام بن عمرو الفوطي و أبي يعقوب يوسف بن عبد الله الشحام و جماعة غيرهم إن أبا بكر أفضل من علي ع و هؤلاء يجعلون ترتيب الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة . و قال البغداديون قاطبة قدماؤهم و متأخروهم كأبي سهل بشر بن المعتمر و أبي موسى عيسى بن صبيح و أبي عبد الله جعفر بن مبشر و أبي جعفر الإسكافي و أبي الحسين الخياط و أبي القاسم عبد الله بن محمود البلخي و تلامذته إن عليا ع أفضل من أبي بكر . و إلى هذا المذهب ذهب من البصريين أبو علي محمد بن عبد الوهاب الجبائي أخيرا و كان من قبل من المتوقفين كان يميل إلى التفضيل و لا يصرح به و إذا صنف ذهب إلى الوقف في مصنفاته و قال في كثير من تصانيفه إن صح خبر الطائر فعلي أفضل
[ 8 ]

(3/1)

ثم إن قاضي القضاة رحمه الله ذكر في شرح المقالات لأبي القاسم البلخي أن أبا علي رحمه الله ما مات حتى قال بتفضيل علي ع و قال إنه نقل ذلك عنه سماعا و لم يوجد في شي ء من مصنفاته و قال أيضا إن أبا علي رحمه الله يوم مات استدنى ابنه أبا هاشم إليه و كان قد ضعف عن رفع الصوت فألقى إليه أشياء من جملتها القول بتفضيل علي ع . و ممن ذهب من البصريين إلى تفضيله ع الشيخ أبو عبد الله الحسين بن علي البصري رضي الله عنه كان متحققا بتفضيله و مبالغا في ذلك و صنف فيه كتابا مفردا . و ممن ذهب إلى تفضيله ع من البصريين قاضي القضاة أبو الحسن عبد الجبار بن أحمد رحمه الله ذكر ابن متويه عنه في كتاب الكفاية في علم الكلام أنه كان من المتوقفين بين علي ع و أبي بكر ثم قطع على تفضيل علي ع بكامل المنزلة . و من البصريين الذاهبين إلى تفضيله ع أبو محمد الحسن بن متويه صاحب التذكرة نص في كتاب الكفاية على تفضيله ع على أبي بكر احتج لذلك و أطال في الاحتجاج . فهذان المذهبان كما عرفت . و ذهب كثير من الشيوخ رحمهم الله إلى التوقف فيهما و هو قول أبي حذيفة واصل بن عطاء و أبي الهذيل محمد بن الهذيل العلاف من المتقدمين و هما و إن ذهبا إلى التوقف بينه ع و بين أبي بكر و عمر قاطعان على تفضيله على عثمان .
[ 9 ]

(3/2)

و من الذاهبين إلى الوقف الشيخ أبو هاشم عبد السلام بن أبي علي رحمهما الله و الشيخ أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري رحمه الله . و أما نحن فنذهب إلى ما يذهب إليه شيوخنا البغداديون من تفضيله ع و قد ذكرنا في كتبنا الكلامية ما معنى الأفضل و هل المراد به الأكثر ثوابا أو الأجمع لمزايا الفضل و الخلال الحميدة و بينا أنه ع أفضل على التفسيرين معا و ليس هذا الكتاب موضوعا لذكر الحجاج في ذلك أو في غيره من المباحث الكلامية لنذكره و لهذا موضع هو أملك به . و أما القول في البغاة عليه و الخوارج فهو على ما أذكره لك . أما أصحاب الجمل فهم عند أصحابنا هالكون كلهم إلا عائشة و طلحة و الزبير رحمهم الله فإنهم تابوا و لو لا التوبة لحكم لهم بالنار لإصرارهم على البغي . و أما عسكر الشام بصفين فإنهم هالكون كلهم عند أصحابنا لا يحكم لأحد منهم إلا بالنار لإصرارهم على البغي و موتهم عليه رؤساؤهم و الأتباع جميعا . و أما الخوارج فإنهم مرقوا عن الدين بالخبر النبوي المجمع عليه و لا يختلف أصحابنا في أنهم من أهل النار . و جملة الأمر أن أصحابنا يحكمون بالنار لكل فاسق مات على فسقه و لا ريب في أن الباغي على الإمام الحق و الخارج عليه بشبهة أو بغير شبهة فاسق و ليس هذا مما يخصون به عليا ع فلو خرج قوم من المسلمين على غيره من أئمة الإسلام العدول لكان حكمهم حكم من خرج على علي ص . و قد برئ كثير من أصحابنا من قوم من الصحابة أحبطوا ثوابهم كالمغيرة بن شعبة
[ 10 ]
و كان شيخنا أبو القاسم البلخي إذا ذكر عنده عبد الله بن الزبير يقول لا خير فيه و قال مرة لا يعجبني صلاته و صومه و ليسا بنافعين له مع
قول رسول الله ص لعلي ع لا يبغضك إلا منافق و قال أبو عبد الله البصري رحمه الله لما سئل عنه ما صح عندي أنه تاب من يوم الجمل و لكنه استكثر مما كان عليه . فهذه هي المذاهب و الأقوال أما الاستدلال عليها فهو مذكور في الكتب الموضوعة لهذا الفن

(3/3)

[ 11 ]

(3/4)

القول في نسب أمير المؤمنين علي ع و ذكر لمع يسيرة من فضائله
هو أبو الحسن علي بن أبي طالب و اسمه عبد مناف بن عبد المطلب و اسمه شيبة بن هاشم و اسمه عمرو بن عبد مناف بن قصي الغالب عليه من الكنية ع أبو الحسن و كان ابنه الحسن ع يدعوه في حياة رسول الله ص أبا الحسين و يدعوه الحسين ع أبا الحسن و يدعوان رسول الله ص أباهما فلما توفي النبي ص دعواه بأبيهما .
و كناه رسول الله ص أبا تراب وجده نائما في تراب قد سقط عنه رداؤه و أصاب التراب جسده فجاء حتى جلس عند رأسه و أيقظه و جعل يمسح التراب عن ظهره و يقول له اجلس إنما أنت أبو تراب فكانت من أحب كناه إليه ص و كان يفرح إذا دعي بها و كانت ترغب بنو أمية خطباءها
[ 12 ]
أن يسبوه بها على المنابر و جعلوها نقيصة له و وصمة عليه فكأنما كسوة بها الحلي و الحلل كما قال الحسن البصري رحمه الله . و كان اسمه الأول الذي سمته به أمه حيدرة باسم أبيها أسد بن هاشم و الحيدرة الأسد فغير أبوه اسمه و سماه عليا . و قيل إن حيدرة اسم كانت قريش تسميه به و القول الأول أصح يدل عليه خبره يوم برز إليه مرحب و ارتجز عليه فقال
أنا الذي سمتني أمي مرحبا
فأجابه ع رجزا
أنا الذي سمتني أمي حيدرة
و رجزهما معا مشهور منقول لا حاجة لنا الآن إلى ذكره . و تزعم الشيعة أنه خوطب في حياة رسول الله ص بأمير المؤمنين خاطبه بذلك جلة المهاجرين و الأنصار و لم يثبت ذلك في أخبار المحدثين إلا أنهم قد رووا ما يعطي هذا المعنى و إن لم يكن اللفظ بعينه و هو
قول رسول الله ص له أنت يعسوب الدين و المال يعسوب الظلمة
و في رواية أخرى : هذا يعسوب المؤمنين
[ 13 ]

(4/1)

و قائد الغر المحجلين و اليعسوب ذكر النحل و أميرها روى هاتين الروايتين أبو عبد الله أحمد بن حنبل الشيباني في المسند في كتابه فضائل الصحابة و رواهما أبو نعيم الحافظ في حلية الأولياء . و دعي بعد وفاة رسول الله ص بوصي رسول الله لوصايته إليه بما أراده و أصحابنا لا ينكرون ذلك و لكن يقولون إنها لم تكن وصية بالخلافة بل بكثير من المتجددات بعده أفضى بها إليه ع و سنذكر طرفا من هذا المعنى فيما بعد . و أمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أول هاشمية ولدت لهاشمي كان علي ع أصغر بنيها و جعفر أسن منه بعشر سنين و عقيل أسن منه بعشر سنين و طالب أسن من عقيل بعشر سنين و فاطمة بنت أسد أمهم جميعا . و أم فاطمة بنت أسد فاطمة بنت هرم بن رواحة بن حجر بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي و أمها حدية بنت وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر و أمها فاطمة بنت عبيد بن منقذ بن عمرو بن معيص بن عامر بن لؤي و أمها سلمى بنت عامر بن ربيعة بن هلال بن أهيب بن ضبة بن الحارث بن فهر و أمها عاتكة بنت أبي همهمة و اسمه عمرو بن عبد العزى بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر و أمها تماضر بنت عمرو بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي و أمها حبيبة و هي أمة الله بنت عبد ياليل بن سالم بن مالك بن حطيط بن جشم بن قسي و هو ثقيف و أمها فلانة بنت مخزوم بن أسامة بن ضبع بن وائلة بن نصر بن صعصعة بن ثعلبة بن كنانة بن عمرو بن قين بن فهم بن عمرو بن قيس بن عيلان
[ 14 ]
بن مضر و أمها ريطة بنت يسار بن مالك بن حطيط بن جشم بن ثقيف و أمها كلة بنت حصين بن سعد بن بكر بن هوازن و أمها حبى بنت الحارث بن النابغة بن عميرة بن عوف بن نصر بن بكر بن هوازن ذكر هذا النسب أبو الفرج علي بن الحسين الأصفهاني في كتاب مقاتل الطالبيين . أسلمت فاطمة بنت أسد بعد عشرة من المسلمين و كانت الحادية عشرة

(4/2)

و كان رسول الله ص يكرمها و يعظمها و يدعوها أمي و أوصت إليه حين حضرتها الوفاة فقبل وصيتها و صلى عليها و نزل في لحدها و اضطجع معها فيه بعد أن ألبسها قميصه فقال له أصحابه أنا ما رأيناك صنعت يا رسول الله بأحد ما صنعت بها فقال إنه لم يكن أحد بعد أبي طالب أبر بي منها إنما ألبستها قميصي لتكسى من حلل الجنة و اضطجعت معها ليهون عليها ضغطة القبر . و فاطمة أول امرأة بايعت رسول الله ص من النساء . و أم أبي طالب بن عبد المطلب فاطمة بنت عمرو بن عائذ بن عمران بن مخزوم و هي أم عبد الله والد سيدنا رسول الله ص و أم الزبير بن عبد المطلب و سائر ولد عبد المطلب بعد لأمهات شتى . و اختلف في مولد علي ع أين كان فكثير من الشيعة يزعمون أنه ولد في الكعبة و المحدثون لا يعترفون بذلك و يزعمون أن المولود في الكعبة حكيم بن حزام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي . و اختلف في سنه حين أظهر النبي ص الدعوة إذ تكامل له ص أربعون سنة فالأشهر من الروايات أنه كان ابن عشر و كثير من أصحابنا المتكلمين يقولون إنه كان ابن ثلاث عشرة سنة ذكر ذلك شيخنا أبو القاسم البلخي و غيره من شيوخنا .
[ 15 ]

(4/3)

و الأولون يقولون إنه قتل و هو ابن ثلاث و ستين سنة و هؤلاء يقولون ابن ست و ستين و الروايات في ذلك مختلفة و من الناس من يزعم أن سنه كانت دون العشر و الأكثر الأظهر خلاف ذلك . و ذكر أحمد بن يحيى البلاذري و علي بن الحسين الأصفهاني أن قريشا أصابتها أزمة و قحط فقال رسول الله ص لعمية حمزة و العباس أ لا نحمل ثقل أبي طالب في هذا المحل فجاءوا إليه و سألوه أن يدفع إليهم ولده ليكفوه أمرهم فقال دعوا لي عقيلا و خذوا من شئتم و كان شديد الحب لعقيل فأخذ العباس طالبا و أخذ حمزة جعفرا و أخذ محمد ص عليا و قال لهم قد اخترت من اختاره الله لي عليكم عليا قالوا فكان علي ع في حجر رسول الله ص منذ كان عمره ست سنين . و كان ما يسدي إليه ص من إحسانه و شفقته و بره و حسن تربيته كالمكافأة و المعاوضة لصنيع أبي طالب به حيث مات عبد المطلب و جعله في حجره و هذا يطابق
قوله ع لقد عبدت الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة سبع سنين
و قوله كنت أسمع الصوت و أبصر الضوء سنين سبعا و رسول الله ص حينئذ صامت ما أذن له في الإنذار و التبليغ و ذلك لأنه إذا كان عمره يوم إظهار الدعوة ثلاث عشرة سنة و تسليمه إلى رسول الله ص من أبيه و هو ابن ست فقد صح أنه كان يعبد الله قبل الناس بأجمعهم سبع سنين و ابن ست تصح منه العبادة إذا كان ذا تمييز على أن عبادة مثله هي التعظيم و الإجلال و خشوع القلب و استخذاء الجوارح إذا شاهد شيئا من جلال الله سبحانه و آياته الباهرة و مثل هذا موجود في الصبيان . و قتل ع ليلة الجمعة لثلاث عشرة بقين من شهر رمضان سنة أربعين في
[ 16 ]

(4/4)

رواية أبي عبد الرحمن السلمي و هي الرواية المشهورة و في رواية أبي مخنف أنها كانت لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان و عليه الشيعة في زماننا . و القول الأول أثبت عند المحدثين و الليلة السابعة عشرة من شهر رمضان هي ليلة بدر و قد كانت الروايات وردت أنه يقتل في ليلة بدر ع و قبره بالغري . و ما يدعيه أصحاب الحديث من الاختلاف في قبره و أنه حمل إلى المدينة أو أنه دفن في رحبة الجامع أو عند باب قصر الإمارة أو ند البعير الذي حمل عليه فأخذته الأعراب باطل كله لا حقيقة له و أولاده أعرف بقبره و أولاد كل الناس أعرف بقبور آبائهم من الأجانب و هذا القبر الذي زاره بنوه لما قدموا العراق منهم جعفر بن محمد ع و غيره من أكابرهم و أعيانهم و روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين بإسناد ذكره هناك أن الحسين ع لما سئل أين دفنتم أمير المؤمنين فقال خرجنا به ليلا من منزله بالكوفة حتى مررنا به على مسجد الأشعث حتى انتهينا به إلى الظهر بجنب الغري . و سنذكر خبر مقتله ع فيما بعد . فأما فضائله ع فإنها قد بلغت من العظم و الجلالة و الانتشار و الاشتهار مبلغا يسمج معه التعرض لذكرها و التصدي لتفصيلها فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل و المعتمد رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك كالمخبر عن ضوء النهار الباهر و القمر الزاهر الذي لا يخفى على الناظر فأيقنت أني حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز مقصر عن الغاية فانصرفت عن الثناء عليك إلى الدعاء لك و وكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك . و ما أقول في رجل أقر له أعداؤه و خصومه بالفضل و لم يمكنهم جحد مناقبه
[ 17 ]

(4/5)

و لا كتمان فضائله فقد علمت أنه استولى بنو أمية على سلطان الإسلام في شرق الأرض و غربها و اجتهدوا بكل حيلة في إطفاء نوره و التحريض عليه و وضع المعايب و المثالب له و لعنوه على جميع المنابر و توعدوا مادحيه بل حبسوهم و قتلوهم و منعوا من رواية حديث يتضمن له فضيلة أو يرفع له ذكرا حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه فما زاده ذلك إلا رفعة و سموا و كان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه و كلما كتم تضوع نشره و كالشمس لا تستر بالراح و كضوء النهار أن حجبت عنه عين واحدة أدركته عيون كثيرة . و ما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة و تنتهي إليه كل فرقة و تتجاذبه كل طائفة فهو رئيس الفضائل و ينبوعها و أبو عذرها و سابق مضمارها و مجلي حلبتها كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ و له اقتفى و على مثاله احتذى . و قد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي لأن شرف العلم بشرف المعلوم و معلومه أشرف الموجودات فكان هو أشرف العلوم و من كلامه ع اقتبس و عنه نقل و إليه انتهى و منه ابتدأ فإن المعتزلة الذين هم أهل التوحيد و العدل و أرباب النظر و منهم تعلم الناس هذا الفن تلامذته و أصحابه لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبي هاشم عبد الله بن محمد بن الحنفية و أبو هاشم تلميذ أبيه و أبوه تلميذه ع و أما الأشعرية فإنهم ينتمون إلى أبي الحسن علي بن إسماعيل بن أبي بشر الأشعري و هو تلميذ أبي علي الجبائي و أبو علي أحد مشايخ المعتزلة فالأشعرية ينتهون بآخره إلى أستاذ المعتزلة و معلمهم و هو علي بن أبي طالب ع . و أما الإمامية و الزيدية فانتماؤهم إليه ظاهر .
[ 18 ]

(4/6)

و من العلوم علم الفقه و هو ع أصله و أساسه و كل فقيه في الإسلام فهو عيال عليه و مستفيد من فقهه أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف و محمد و غيرهما فأخذوا عن أبي حنيفة و أما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة و أما أحمد بن حنبل فقرأ على الشافعي فيرجع فقهه أيضا إلى أبي حنيفة و أبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد ع و قرأ جعفر على أبيه ع و ينتهي الأمر إلى علي ع و أما مالك بن أنس فقرأ على ربيعة الرأي و قرأ ربيعة على عكرمة و قرأ عكرمة على عبد الله بن عباس و قرأ عبد الله بن عباس على علي بن أبي طالب . و إن شئت فرددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك كان لك ذلك فهؤلاء الفقهاء الأربعة . و أما فقه الشيعة فرجوعه إليه ظاهر و أيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا عمر بن الخطاب و عبد الله بن عباس و كلاهما أخذ عن علي ع أما ابن عباس فظاهر و أما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل التي أشكلت عليه و على غيره من الصحابة و قوله غير مرة لو لا علي لهلك عمر و قوله لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن و قوله لا يفتين أحد في المسجد و علي حاضر فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه .
و قد روت العامة و الخاصة قوله ص أقضاكم علي و القضاء هو الفقه فهو إذا أفقههم و روى الكل أيضا أنه ع قال له و قد بعثه إلى اليمن قاضيا اللهم اهد قلبه و ثبت لسانه قال فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين
[ 19 ]

(4/7)

و هو ع الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر و هو الذي أفتى في الحامل الزانية و هو الذي قال في المنبرية صار ثمنها تسعا و هذه المسألة لو فكر الفرضي فيها فكرا طويلا لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب فما ظنك بمن قاله بديهة و اقتضبه ارتجالا . و من العلوم علم تفسير القرآن و عنه أخذ و منه فرع و إذا رجعت إلى كتب التفسير علمت صحة ذلك لأن أكثره عنه و عن عبد الله بن عباس و قد علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له و انقطاعه إليه و أنه تلميذه و خريجه و قيل له أين علمك من علم ابن عمك فقال كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط . و من العلوم علم الطريقة و الحقيقة و أحوال التصوف و قد عرفت أن أرباب هذا الفن في جميع بلاد الإسلام إليه ينتهون و عنده يقفون و قد صرح بذلك الشبلي و الجنيد و سري و أبو يزيد البسطامي و أبو محفوظ معروف الكرخي و غيرهم و يكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى اليوم و كونهم يسندونها بإسناد متصل إليه ع .
[ 20 ]

(4/8)

و من العلوم علم النحو و العربية و قد علم الناس كافة أنه هو الذي ابتدعه و أنشأه و أملى على أبي الأسود الدؤلي جوامعه و أصوله من جملتها الكلام كله ثلاثة أشياء اسم و فعل و حرف و من جملتها تقسيم الكلمة إلى معرفة و نكرة و تقسيم وجوه الإعراب إلى الرفع و النصب و الجر و الجزم و هذا يكاد يلحق بالمعجزات لأن القوة البشرية لا تفي بهذا الحصر و لا تنهض بهذا الاستنباط . و إن رجعت إلى الخصائص الخلقية و الفضائل النفسانية و الدينية وجدته ابن جلاها و طلاع ثناياها . و أما الشجاعة فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله و محا اسم من يأتي بعده و مقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم القيامة و هو الشجاع الذي ما فر قط و لا ارتاع من كتيبة و لا بارز أحدا إلا قتله و لا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية و في الحديث كانت ضرباته وترا و لما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح الناس من الحرب بقتل أحدهما قال له عمرو لقد أنصفك فقال معاوية ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم أ تأمرني بمبارزة أبي الحسن و أنت تعلم أنه الشجاع المطرق أراك طمعت في إمارة الشام بعدي و كانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته فأما قتلاه فافتخار رهطهم بأنه ع قتلهم أظهر و أكثر قالت أخت عمرو بن عبد ود ترثيه
لو كان قاتل عمرو غير قاتله
بكيته أبدا ما دمت في الأبد
[ 21 ]
لكن قاتله من لا نظير له
و كان يدعى أبوه بيضة البلد

(4/9)

و انتبه يوما معاوية فرأى عبد الله بن الزبير جالسا تحت رجليه على سريره فقعد فقال له عبد الله يداعبه يا أمير المؤمنين لو شئت أن أفتك بك لفعلت فقال لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر قال و ما الذي تنكره من شجاعتي و قد وقفت في الصف إزاء علي بن أبي طالب قال لا جرم أنه قتلك و أباك بيسرى يديه و بقيت اليمنى فارغة يطلب من يقتله بها . و جملة الأمر أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهى و باسمه ينادي في مشارق الأرض و مغاربها . و أما القوة و الأيد فبه يضرب المثل فيهما قال ابن قتيبة في المعارف ما صارع أحدا قط إلا صرعه و هو الذي قلع باب خيبر و اجتمع عليه عصبة من الناس ليقلبوه فلم يقلبوه و هو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة و كان عظيما جدا و ألقاه إلى الأرض و هو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته ع بيده بعد عجز الجيش كله عنها و أنبط الماء من تحتها . و أما السخاء و الجود فحاله فيه ظاهرة و كان يصوم و يطوي و يؤثر بزاده و فيه أنزل وَ يُطْعِمُونَ اَلطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اَللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً و روى المفسرون أنه لم يكن يملك إلا أربعة دراهم فتصدق بدرهم ليلا و بدرهم نهارا و بدرهم سرا و بدرهم علانية فأنزل فيه اَلَّذِينَ
[ 22 ]

(4/10)

يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ اَلنَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً . و روى عنه أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة حتى مجلت يده و يتصدق بالأجرة و يشد على بطنه حجرا . و قال الشعبي و قد ذكره ع كان أسخى الناس كان على الخلق الذي يحبه الله السخاء و الجود ما قال لا لسائل قط و قال عدوه و مبغضه الذي يجتهد في وصمه و عيبه معاوية بن أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له جئتك من عند أبخل الناس فقال ويحك كيف تقول إنه أبخل الناس لو ملك بيتا من تبر و بيتا من تبن لأنفد تبره قبل تبنه . و هو الذي كان يكنس بيوت الأموال و يصلي فيها و هو الذي قال يا صفراء و يا بيضاء غري غيري و هو الذي لم يخلف ميراثا و كانت الدنيا كلها بيده إلا ما كان من الشام . و أما الحلم و الصفح فكان أحلم الناس عن ذنب و أصفحهم عن مسي ء و قد ظهر صحة ما قلناه يوم الجمل حيث ظفر بمروان بن الحكم و كان أعدى الناس له و أشدهم بغضا فصفح عنه . و كان عبد الله بن الزبير يشتمه على رءوس الأشهاد و خطب يوم البصرة فقال قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب و كان علي ع يقول ما زال الزبير
[ 23 ]

(4/11)

رجلا منا أهل البيت حتى شب عبد الله فظفر به يوم الجمل فأخذه أسيرا فصفح عنه و قال اذهب فلا أرينك لم يزده على ذلك . و ظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة و كان له عدوا فأعرض عنه و لم يقل له شيئا . و قد علمتم ما كان من عائشة في أمره فلما ظفر بها أكرمها و بعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن بالعمائم و قلدهن بالسيوف فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن يذكر به و تأففت و قالت هتك ستري برجاله و جنده الذين وكلهم بي فلما وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن و قلن لها إنما نحن نسوة . و حاربه أهل البصرة و ضربوا وجهه و وجوه أولاده بالسيوف و شتموه و لعنوه فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم و نادى مناديه في أقطار العسكر ألا لا يتبع مول و لا يجهز على جريح و لا يقتل مستأسر و من ألقى سلاحه فهو آمن و من تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن و لم يأخذ أثقالهم و لا سبى ذراريهم و لا غنم شيئا من أموالهم و لو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل و لكنه أبى إلا الصفح و العفو و تقيل سنة رسول الله ص يوم فتح مكة فإنه عفا و الأحقاد لم تبرد و الإساءة لم تنس . و لما ملك عسكر معاوية عليه الماء و أحاطوا بشريعة الفرات و قالت رؤساء الشام له اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشا سألهم علي ع و أصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء فقالوا لا و الله و لا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان فلما رأى ع أنه الموت لا محالة تقدم بأصحابه و حمل على عساكر معاوية حملات كثيفة حتى أزالهم عن مراكزهم بعد قتل ذريع سقطت منه الرءوس و الأيدي و ملكوا عليهم
[ 24 ]

(4/12)

الماء و صار أصحاب معاوية في الفلاة لا ماء لهم فقال له أصحابه و شيعته امنعهم الماء يا أمير المؤمنين كما منعوك و لا تسقهم منه قطرة و اقتلهم بسيوف العطش و خذهم قبضا بالأيدي فلا حاجة لك إلى الحرب فقال لا و الله لا أكافئهم بمثل فعلهم افسحوا لهم عن بعض الشريعة ففي حد السيف ما يغني عن ذلك فهذه إن نسبتها إلى الحلم و الصفح فناهيك بها جمالا و حسنا و إن نسبتها إلى الدين و الورع فأخلق بمثلها أن تصدر عن مثله ع . و أما الجهاد في سبيل الله فمعلوم عند صديقه و عدوه أنه سيد المجاهدين و هل الجهاد لأحد من الناس إلا له و قد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله ص و أشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى قتل فيها سبعون من المشركين قتل علي نصفهم و قتل المسلمون و الملائكة النصف الآخر و إذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي و تاريخ الأشراف لأحمد بن يحيى بن جابر البلاذري و غيرهما علمت صحة ذلك دع من قتله في غيرها كأحد و الخندق و غيرهما و هذا الفصل لا معنى للإطناب فيه لأنه من المعلومات الضرورية كالعلم بوجود مكة و مصر و نحوهما . و أما الفصاحة فهو ع إمام الفصحاء و سيد البلغاء و في كلامه قيل دون كلام الخالق و فوق كلام المخلوقين و منه تعلم الناس الخطابة و الكتابة قال عبد الحميد بن يحيى حفظت سبعين خطبة من خطب الأصلع ففاضت ثم فاضت و قال ابن نباتة حفظت من الخطابة كنزا لا يزيده الإنفاق إلا سعة و كثرة حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب . و لما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية جئتك من عند أعيا الناس قال له ويحك
[ 25 ]

(4/13)

كيف يكون أعيا الناس فو الله ما سن الفصاحة لقريش غيره و يكفي هذا الكتاب الذي نحن شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة و لا يبارى في البلاغة و حسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر و لا نصف العشر مما دون له و كفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ في مدحه في كتاب البيان و التبيين و في غيره من كتبه . و أما سجاحة الأخلاق و بشر الوجه و طلاقة المحيا و التبسم فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه
قال عمرو بن العاص لأهل الشام إنه ذو دعابة شديدة و قال علي ع في ذاك عجبا لابن النابغة يزعم لأهل الشام أن في دعابة و أني امرؤ تلعابة أعافس و أمارس و عمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له لما عزم على استخلافه لله أبوك لو لا دعابة فيك إلا أن عمر اقتصر عليها و عمرو زاد فيها و سمجها . قال صعصعة بن صوحان و غيره من شيعته و أصحابه كان فينا كأحدنا لين جانب و شدة تواضع و سهولة قياد و كنا نهابه مهابة الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه . و قال معاوية لقيس بن سعد رحم الله أبا حسن فلقد كان هشا بشا ذا فكاهة قال قيس نعم كان رسول الله ص يمزح و يبتسم إلى أصحابه و أراك تسر حسوا في ارتغاء و تعيبه بذلك أما و الله لقد كان مع تلك الفكاهة و الطلاقة أهيب من ذي لبدتين قد مسه الطوى تلك هيبة التقوى و ليس كما يهابك طغام أهل الشام .
[ 26 ]

(4/14)

و قد بقي هذا الخلق متوارثا متنافلا في محبيه و أوليائه إلى الآن كما بقي الجفاء و الخشونة و الوعورة في الجانب الآخر و من له أدنى معرفة بأخلاق الناس و عوائدهم يعرف ذلك . و أما الزهد في الدنيا فهو سيد الزهاد و بدل الأبدال و إليه تشد الرحال و عنده تنفض الأحلاس ما شبع من طعام قط و كان أخشن الناس مأكلا و ملبسا قال عبد الله بن أبي رافع دخلت إليه يوم عيد فقدم جرابا مختوما فوجدنا فيه خبز شعير يابسا مرضوضا فقدم فأكل فقلت يا أمير المؤمنين فكيف تختمه قال خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت . و كان ثوبه مرقوعا بجلد تارة و ليف أخرى و نعلاه من ليف و كان يلبس الكرباس الغليظ فإذا وجد كمه طويلا قطعه بشفرة و لم يخطه فكان لا يزال متساقطا على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له و كان يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض فإن ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل و لا يأكل اللحم إلا قليلا و يقول لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان و كان مع ذلك أشد الناس قوة و أعظمهم أيدا لا ينقض الجوع قوته و لا يخون الإقلال منته و هو الذي طلق الدنيا و كانت الأموال تجبى إليه من جميع بلاد الإسلام إلا من الشام فكان يفرقها و يمزقها ثم يقول
هذا جناي و خياره فيه
إذ كل جان يده إلى فيه
[ 27 ]

(4/15)

و أما العبادة فكان أعبد الناس و أكثرهم صلاة و صوما و منه تعلم الناس صلاة الليل و ملازمة الأوراد و قيام النافلة و ما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده و السهام تقع بين يديه و تمر على صماخيه يمينا و شمالا فلا يرتاع لذلك و لا يقوم حتى يفرغ من وظيفته و ما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده . و أنت إذا تأملت دعواته و مناجاته و وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه و إجلاله و ما يتضمنه من الخضوع لهيبته و الخشوع لعزته و الاستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص و فهمت من أي قلب خرجت و على أي لسان جرت . و
قيل لعلي بن الحسين ع و كان الغاية في العبادة أين عبادتك من عبادة جدك قال عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله ص و أما قراءته القرآن و اشتغاله به فهو المنظور إليه في هذا الباب اتفق الكل على أنه كان يحفظ القرآن على عهد رسول الله ص و لم يكن غيره يحفظه ثم هو أول من جمعه نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبي بكر فأهل الحديث لا يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة بل يقولون تشاغل بجمع القرآن فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن لأنه لو كان مجموعا في حياة رسول الله ص لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه بعد وفاته ص و إذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم يرجعون إليه كأبي عمرو بن العلاء و عاصم بن أبي النجود و غيرهما لأنهم يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ
[ 28 ]

(4/16)

و أبو عبد الرحمن كان تلميذه و عنه أخذ القرآن فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضا مثل كثير مما سبق . و أما الرأي و التدبير فكان من أسد الناس رأيا و أصحهم تدبيرا و هو الذي أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم و الفرس بما أشار و هو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها و لو قبلها لم يحدث عليه ما حدث و إنما قال أعداؤه لا رأي له لأنه كان متقيدا بالشريعة لا يرى خلافها و لا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه
و قد قال ع لو لا الدين و التقى لكنت أدهى العرب و غيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه و يستوفقه سواء أ كان مطابقا للشرع أم لم يكن و لا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده و لا يقف مع ضوابط و قيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه تكون أحواله الدنيوية إلى الانتظام أقرب و من كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى الانتثار أقرب . و أما السياسة فإنه كان شديد السياسة خشنا في ذات الله لم يراقب ابن عمه في عمل كان ولاه إياه و لا راقب أخاه عقيلا في كلام جبهه به و أحرق قوما بالنار و نقض دار مصقلة بن هبيرة و دار جرير بن عبد الله البجلي و قطع جماعة و صلب آخرين . و من جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل و صفين و النهروان و في أقل القليل منها مقنع فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ فتكه و بطشه و انتقامه مبلغ العشر مما فعل ع في هذه الحروب بيده و أعوانه . فهذه هي خصائص البشر و مزاياهم قد أوضحنا أنه فيها الإمام المتبع فعله و الرئيس المقتفى أثره . و ما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة و تعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة و تصور ملوك الفرنج و الروم صورته في بيعها و بيوت عباداتها
[ 29 ]

(4/17)

حاملا سيفه مشمرا لحربه و تصور ملوك الترك و الديلم صورته على أسيافها كان على سيف عضد الدولة بن بويه و سيف أبيه ركن الدولة صورته و كان على سيف ألب أرسلان و ابنه ملكشاه صورته كأنهم يتفاءلون به النصر و الظفر . و ما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به و ود كل أحد أن يتجمل و يتحسن بالانتساب إليه حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك فإن أربابها نسبوا أنفسهم إليه و صنفوا في ذلك كتبا و جعلوا لذلك إسنادا أنهوه إليه و قصروه عليه و سموه سيد الفتيان و عضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي أنه سمع من السماء يوم أحد
لا سيف إلا ذو الفقار
و لا فتى إلا علي
و ما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء و شيخ قريش و رئيس مكة قالوا قل أن يسود فقير و ساد أبو طالب و هو فقير لا مال له و كانت قريش تسميه الشيخ . و في حديث عفيف الكندي لما رأى النبي ص يصلي في مبدإ الدعوة و معه غلام و امرأة قال فقلت للعباس أي شي ء هذا قال هذا ابن أخي يزعم أنه رسول من الله إلى الناس و لم يتبعه على قوله إلا هذا الغلام و هو ابن أخي أيضا و هذه الامرأة و هي زوجته قال فقلت ما الذي تقولونه أنتم قال ننتظر ما يفعل الشيخ يعنى أبا طالب و أبو طالب هو الذي كفل رسول الله ص صغيرا و حماه و حاطه كبيرا و منعه من مشركي قريش و لقي لأجله عنتا عظيما و قاسى بلاء شديدا و صبر على نصره و القيام بأمره و جاء في الخبر أنه لما توفي أبو طالب أوحي إليه ع و قيل له اخرج منها فقد مات ناصرك . و له مع شرف هذه الأبوة أن ابن عمه محمد سيد الأولين و الآخرين و أخاه جعفر ذو الجناحين الذي
قال له رسول الله ص أشبهت خلقي و خلقي فمر يحجل
[ 30 ]

(4/18)

فرحا و زوجته سيدة نساء العالمين و ابنيه سيدا شباب أهل الجنة فآباؤه آباء رسول الله و أمهاته أمهات رسول الله و هو مسوط بلحمه و دمه لم يفارقه منذ خلق الله آدم إلى أن مات عبد المطلب بين الأخوين عبد الله و أبي طالب و أمهما واحدة فكان منهما سيد الناس هذا الأول و هذا التالي و هذا المنذر و هذا الهادي . و ما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى و آمن بالله و عبده و كل من في الأرض يعبد الحجر و يجحد الخالق لم يسبقه أحد إلى التوحيد إلا السابق إلى كل خير محمد رسول الله ص . ذهب أكثر أهل الحديث إلى أنه ع أول الناس اتباعا لرسول الله ص إيمانا به و لم يخالف في ذلك إلا الأقلون
و قد قال هو ع أنا الصديق الأكبر و أنا الفاروق الأول أسلمت قبل إسلام الناس و صليت قبل صلاتهم و من وقف على كتب أصحاب الحديث تحقق ذلك و علمه واضحا و إليه ذهب الواقدي و ابن جرير الطبري و هو القول الذي رجحه و نصره صاحب كتاب الإستيعاب . و لأنا إنما نذكر في مقدمة هذا الكتاب جملة من فضائله عنت بالعرض لا بالقصد وجب أن نختصر و نقتصر فلو أردنا شرح مناقبه و خصائصه لاحتجنا إلى كتاب مفرد يماثل حجم هذا بل يزيد عليه و بالله التوفيق
[ 31 ]

(4/19)

القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله و ذكر طرف من خصائصه و مناقبه
هو أبو الحسن محمد بن أبي أحمد الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق ع مولده سنة تسع و خمسين و ثلاثمائة . و كان أبوه النقيب أبو أحمد جليل القدر عظيم المنزلة في دولة بني العباس و دولة بني بويه و لقب بالطاهر ذي المناقب و خاطبه بهاء الدولة أبو نصر بن بويه بالطاهر الأوحد و ولي نقابة الطالبيين خمس دفعات و مات و هو متقلدها بعد أن حالفته الأمراض و ذهب بصره و توفي عن سبع و تسعين سنة فإن مولده كان في سنة أربع و ثلاثمائة و توفي سنة أربعمائة و قد ذكر ابنه الرضي أبو الحسن كمية عمره في قصيدته التي رثاه بها و أولها :
و سمتك حالية الربيع المرهم
و سقتك ساقية الغمام المرزم
سبع و تسعون اهتبلن لك العدا
حتى مضوا و غبرت غير مذمم
لم يلحقوا فيها بشأوك بعد ما
أملوا فعاقهم اعتراض الأزلم
إلا بقايا من غبارك أصبحت
غصصا و أقذاء لعين أو فم
إن يتبعوا عقبيك في طلب العلا
فالذئب يعسل في طريق الضيغم
و دفن النقيب أبو أحمد أولا في داره ثم نقل منها إلى مشهد الحسين ع . و هو الذي كان السفير بين الخلفاء و بين الملوك من بني بويه و الأمراء من بنى حمدان و غيرهم و كان مبارك الغرة ميمون النقيبة مهيبا نبيلا ما شرع في إصلاح أمر فاسد
[ 32 ]
إلا و صلح على يديه و انتظم بحسن سفارته و بركة همته و حسن تدبيره و وساطته و لاستعظام عضد الدولة أمره و امتلاء صدره و عينه به حين قدم العراق ما قبض عليه و حمله إلى القلعة بفارس فلم يزل بها إلى أن مات عضد الدولة فأطلقه شرف الدولة أبو الفوارس شير ذيل بن عضد الدولة و استصحبه في جملته حيث قدم إلى بغداد و ملك الحضرة و لما توفي عضد الدولة ببغداد كان عمر الرضي أبي الحسن أربع عشرة سنة فكتب إلى أبيه و هو معتقل بالقلعة بشيراز
أبلغا عنى الحسين ألوكا
أن ذا الطود بعد عهدك ساخا
و الشهاب الذي اصطليت لظاه

(5/1)

عكست ضوءه الخطوب فباخا
و الفنيق الذي تذرع طول
الأرض خوى به الردى و أناخا
أن يرد مورد القذى و هو راض
فبما يكرع الزلال النقاخا
و العقاب الشغواء أهبطها النيق
و قد أرعت النجوم صماخا
أعجلتها المنون عنا و لكن
خلفت في ديارنا أفراخا
و على ذاك فالزمان بهم عاد
غلاما من بعد ما كان شاخصا
و أم الرضي أبي الحسن فاطمة بنت الحسين بن أحمد بن الحسن الناصر الأصم صاحب الديلم و هو أبو محمد الحسن بن علي بن الحسن بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب ع شيخ الطالبيين و عالمهم و زاهدهم و أديبهم و شاعرهم
[ 33 ]
ملك بلاد الديلم و الجبل و يلقب بالناصر للحق جرت له حروب عظيمة مع السامانية و توفي بطبرستان سنة أربع و ثلاثمائة و سنه تسع و سبعون سنة و انتصب في منصبه الحسن بن القاسم بن الحسين الحسني و يلقب بالداعي إلى الحق . و هي أم أخيه أبي القاسم علي المرتضى أيضا . و حفظ الرضي رحمه الله القرآن بعد أن جاوز ثلاثين سنة في مدة يسيرة و عرف من الفقه و الفرائض طرفا قويا و كان رحمه الله عالما أديبا و شاعرا مفلقا فصيح النظم ضخم الألفاظ قادرا على القريض متصرفا في فنونه إن قصد الرقة في النسيب أتى بالعجب العجاب و إن أراد الفخامة و جزالة الألفاظ في المدح و غيره أتى بما لا يشق فيه غباره و إن قصد في المراثي جاء سابقا و الشعراء منقطع أنفاسها على أثره و كان مع هذا مترسلا ذا كتابة قوية و كان عفيفا شريف النفس عالي الهمة ملتزما بالدين و قوانينه و لم يقبل من أحد صلة و لا جائزة حتى أنه رد صلاة أبيه و ناهيك بذلك شرف نفس و شدة ظلف فأما بنو بويه فإنهم اجتهدوا على قبوله صلاتهم فلم يقبل . و كان يرضى بالإكرام و صيانة الجانب و إعزاز الأتباع و الأصحاب و كان الطائع أكثر ميلا إليه من القادر و كان هو أشد حبا و أكثر ولاء للطائع منه للقادر و هو القائل للقادر في قصيدته التي مدحه بها منها
[ 34 ]
عطفا أمير المؤمنين فإننا
في دوحة العلياء لا نتفرق

(5/2)

ما بيننا يوم الفخار تفاوت
أبدا كلانا في المعالي معرق
إلا الخلافة شرفتك فإنني
أنا عاطل منها و أنت مطوق
فيقال إن القادر قال له على رغم أنف الشريف . و ذكر الشيخ أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ في وفاة الشيخ أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد بن محمد الطبري الفقيه المالكي قال كان شيخ الشهود المعدلين ببغداد و متقدمهم و سمع الحديث الكثير و كان كريما مفضلا على أهل العلم قال و عليه قرأ الشريف الرضي رحمه الله القرآن و هو شاب حدث السن فقال له يوما أيها الشريف أين مقامك قال في دار أبي بباب محول فقال مثلك لا يقيم بدار أبيه قد نحلتك داري بالكرخ المعروفة بدار البركة فامتنع الرضي من قبولها و قال له لم أقبل من أبي قط شيئا فقال إن حقي عليك أعظم من حق أبيك عليك لأني حفظتك كتاب الله تعالى فقبلها . و كان الرضي لعلو همته تنازعه نفسه إلى أمور عظيمة يجيش بها خاطره و ينظمها في شعره و لا يجد من الدهر عليها مساعدة فيذوب كمدا و يفنى وجدا حتى توفي و لم يبلغ غرضا . فمن ذلك قوله
ما أنا للعلياء إن لم يكن
من ولدي ما كان من والدي
و لا مشت بي الخيل أن لم أطأ
سرير هذا الأصيد الماجد
[ 35 ]
و منه قوله
متى تراني مشيحا في أوائلهم
يطفو بي النقع أحيانا و يخفيني
لتنظرني مشيحا في أوائلها
يغيب بي النقع أحيانا و يبديني
لا تعرفوني إلا بالطعان و قد
أضحى لثامي معصوبا بعرنيني
و منه قوله يعني نفسه
فوا عجبا مما يظن محمد
و للظن في بعض المواطن غدار
يؤمل أن الملك طوع يمينه
و من دون ما يرجو المقدر أقدار
لئن هو أعفى للخلافة لمة
لها طرر فوق الجبين و أطرار
و رام العلا بالشعر و الشعر دائبا
ففي الناس شعر خاملون و شعار
و إني أرى زندا تواتر قدحه
و يوشك يوما أن تكون له نار
و منه قوله
لا هم قلبي بركوب العلا
يوما و لا بلت يدي بالسماح
[ 36 ]
إن لم أنلها باشتراط كما
شئت على بيض الظبى و اقتراح
أفوز منها باللباب الذي
يعيي الأماني نيله و الصراح

(5/3)

فما الذي يقعدني عن مدى
ما هو بالبسل و لا باللقاح
يطمح من لا مجد يسمو به
إني إذا أعذر عند الطماح
أما فتى نال المنى فاشتفى
أو بطل ذاق الردى فاستراح
و في هذه القصيدة ما هو أخشن مسا و أعظم نكاية و لكنا عدلنا عنه و تخطيناه كراهية لذكره و في شعره الكثير الواسع من هذا النمط . و كان أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي الكاتب له صديقا و بينهما لحمة الأدب و وشائجه و مراسلات و مكاتبات بالشعر فكتب الصابي إلى الرضي في هذا النمط
أبا حسن لي في الرجال فراسة
تعودت منها أن تقول فتصدقا
و قد خبرتني عنك أنك ماجد
سترقى إلى العلياء أبعد مرتقى
فوفيتك التعظيم قبل أوانه
و قلت أطال الله للسيد البقا
[ 37 ]
و أضمرت منه لفظة لم أبح بها
إلى أن أرى إظهارها لي مطلقا
فإن مت أو إن عشت فاذكر بشارتي
و أوجب بها حقا عليك محققا
و كن لي في الأولاد و الأهل حافظا
إذا ما اطمأن الجنب في مضجع البقا
فكتب إليه الرضي جوابا عن ذلك قصيدة أولها
سننت لهذا الرمح غربا مذلقا
و أجريت في ذا الهندواني رونقا
و سومت ذا الطرف الجواد و إنما
شرعت له نهجا فخب و أعنقا
و هي قصيدة طويلة ثابتة في ديوانه يعد فيها نفسه و يعد الصابي أيضا ببلوغ آماله إن ساعد الدهر و تم المرام و هذه الأبيات أنكرها الصابي لما شاعت و قال إني عملتها في أبي الحسن علي بن عبد العزيز بن حاجب النعمان كاتب الطائع و ما كان الأمر كما ادعاه و لكنه خاف على نفسه . و ذكر أبو الحسن الصابي و ابنه غرس النعمة محمد في تاريخهما أن القادر بالله عقد مجلسا أحضر فيه الطاهر أبا أحمد الموسوي و ابنه أبا القاسم المرتضى و جماعة من القضاة و الشهود و الفقهاء و أبرز إليهم أبيات الرضي أبي الحسن التي أولها
ما مقامي على الهوان و عندي
مقول صارم و أنف حمي
و إباء محلق بي عن الضيم
كما زاغ طائر وحشي
أي عذر له إلى المجد إن
ذل غلام في غمدة المشرفي
[ 38 ]
أحمل الضيم في بلاد الأعادي
و بمصر الخليفة العلوي

(5/4)

من أبوه أبي و مولاه مولاي
إذا ضامني البعيد القصي
لف عرقي بعرقه سيدا الناس
جميعا محمد و علي
و قال القادر للنقيب أبي أحمد قل لولدك محمد أي هوان قد أقام عليه عندنا و أي ضيم لقي من جهتنا و أي ذل أصابه في مملكتنا و ما الذي يعمل معه صاحب مصر لو مضى إليه أ كان يصنع إليه أكثر من صنيعنا أ لم نوله النقابة أ لم نوله المظالم أ لم نستخلفه على الحرمين و الحجاز و جعلناه أمير الحجيج فهل كان يحصل له من صاحب مصر أكثر من هذا ما نظنه كان يكون لو حصل عنده إلا واحدا من أبناء الطالبيين بمصر فقال النقيب أبو أحمد أما هذا الشعر فمما لم نسمعه منه و لا رأيناه بخطه و لا يبعد أن يكون بعض أعدائه نحلة إياه و عزاه إليه فقال القادر إن كان كذلك فلتكتب الآن محضرا يتضمن القدح في أنساب ولاة مصر و يكتب محمد خطه فيه فكتب محضرا بذلك شهد فيه جميع من حضر المجلس منهم النقيب أبو أحمد و ابنه المرتضى و حمل المحضر إلى الرضي ليكتب خطه فيه حمله أبوه و أخوه فامتنع من سطر خطه و قال لا أكتب و أخاف دعاة صاحب مصر و أنكر الشعر و كتب خطه و أقسم فيه أنه ليس بشعره و أنه لا يعرفه فأجبره أبوه على أن يكتب خطه في المحضر فلم يفعل و قال أخاف دعاة المصريين و غيلتهم لي فإنهم معروفون بذلك فقال أبوه يا عجباه أ تخاف من بينك و بينه ستمائة فرسخ و لا تخاف من بينك و بينه مائة ذراع و حلف ألا يكلمه و كذلك المرتضى فعلا ذلك تقية و خوفا من القادر
[ 39 ]

(5/5)

و تسكينا له و لما انتهى الأمر إلى القادر سكت على سوء أضمره و بعد ذلك بأيام صرفه عن النقابة و ولاها محمد بن عمر النهر سابسي . و قرأت بخط محمد بن إدريس الحلي الفقيه الإمامي قال حكى أبو حامد أحمد بن محمد الإسفرائيني الفقيه الشافعي قال كنت يوما عند فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف وزير بهاء الدولة و ابنه سلطان الدولة فدخل عليه الرضي أبو الحسن فأعظمه و أجله و رفع من منزلته و خلى ما كان بيده من الرقاع و القصص و أقبل عليه يحادثه إلى أن انصرف ثم دخل بعد ذلك المرتضى أبو القاسم رحمه الله فلم يعظمه ذلك التعظيم و لا أكرمه ذلك الإكرام و تشاغل عنه برقاع يقرؤها و توقيعات يوقع بها فجلس قليلا و سأله أمرا فقضاه ثم انصرف . قال أبو حامد فتقدمت إليه و قلت له أصلح الله الوزير هذا المرتضى هو الفقيه المتكلم صاحب الفنون و هو الأمثل و الأفضل منهما و إنما أبو الحسن شاعر قال فقال لي إذا انصرف الناس و خلا المجلس أجبتك عن هذه المسألة . قال و كنت مجمعا على الانصراف فجاءني أمر لم يكن في الحساب فدعت الضرورة إلى ملازمة المجلس إلى أن تقوض الناس واحدا فواحدا فلما لم يبق إلا غلمانه و حجابه دعا بالطعام فلما أكلنا و غسل يديه و انصرف عنه أكثر غلمانه و لم يبق عنده غيري قال لخادم هات الكتابين اللذين دفعتهما إليك منذ أيام و أمرتك أن تجعلهما في السفط الفلاني فأحضرهما فقال هذا كتاب الرضي اتصل بي أنه قد ولد له ولد فأنفذت إليه ألف دينار و قلت له هذه للقابلة فقد جرت العادة أن يحمل الأصدقاء
[ 40 ]

(5/6)

إلى أخلائهم و ذوي مودتهم مثل هذا في مثل هذه الحال فردها و كتب إلى هذا الكتاب فاقرأه قال فقرأته و هو اعتذار عن الرد و في جملته إننا أهل بيت لا نطلع على أحوالنا قابلة غريبة و إنما عجائزنا يتولين هذا الأمر من نسائنا و لسن ممن يأخذن أجرة و لا يقبلن صلة قال فهذا هذا . و أما المرتضى فإننا كنا قد وزعنا و قسطنا على الأملاك ببادوريا تقسيطا نصرفه في حفر فوهة النهر المعروف بنهر عيسى فأصاب ملكا للشريف المرتضى بالناحية المعروفة بالداهرية من التقسيط عشرون درهما ثمنها دينار واحد قد كتب إلى منذ أيام في هذا المعنى هذا الكتاب فاقرأه فقرأته و هو أكثر من مائة سطر يتضمن من الخضوع و الخشوع و الاستمالة و الهز و الطلب و السؤال في إسقاط هذه الدراهم المذكورة عن أملاكه المشار إليها ما يطول شرحه . قال فخر الملك فأيهما ترى أولى بالتعظيم و التبجيل هذا العالم المتكلم الفقيه الأوحد و نفسه هذه النفس أم ذلك الذي لم يشهر إلا بالشعر خاصة و نفسه تلك النفس فقلت وفق الله تعالى سيدنا الوزير فما زال موفقا و الله ما وضع سيدنا الوزير الأمر إلا في موضعه و لا أحله إلا في محله و قمت فانصرفت . و توفي الرضي رحمه الله في المحرم من سنة أربع و أربعمائة و حضر الوزير فخر الملك و جميع الأعيان و الأشراف و القضاة جنازته و الصلاة عليه و دفن في داره بمسجد الأنباريين بالكرخ و مضى أخوه المرتضى من جزعه عليه إلى مشهد موسى بن جعفر ع لأنه لم يستطع أن ينظر إلى تابوته و دفنه و صلى عليه فخر الملك أبو غالب و مضى بنفسه آخر النهار إلى أخيه المرتضى بالمشهد الشريف الكاظمي فألزمه بالعود إلى داره .
[ 41 ]
و مما رثاه به أخوه المرتضى الأبيات المشهورة التي من جملتها
يا للرجال لفجعة جذمت يدي
و وددت لو ذهبت على برأسي
ما زلت آبى وردها حتى أتت
فحسوتها في بعض ما أنا حاسي
و مطلتها زمنا فلما صممت
لم يثنها مطلي و طول مكاسي
لله عمرك من قصير طاهر

(5/7)

و لرب عمر طال بالأدناس
و حدثني فخار بن معد العلوي الموسوي رحمه الله قال رأى المفيد أبو عبد الله محمد بن النعمان الفقيه الإمام في منامه كان فاطمة بنت رسول الله ص دخلت عليه و هو في مسجده بالكرخ و معها ولداها الحسن و الحسين ع صغيرين فسلمتهما إليه و قالت له علمهما الفقه فانتبه متعجبا من ذلك فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت إليه المسجد فاطمة بنت الناصر و حولها جواريها و بين يديها ابناها محمد الرضي و علي المرتضى صغيرين فقام إليها و سلم عليها فقالت له أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما لتعلمهما الفقه فبكى أبو عبد الله و قص عليها المنام و تولى تعليمهما الفقه و أنعم الله عليهما و فتح لهما من أبواب العلوم و الفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا و هو باق ما بقي الدهر
[ 42 ]

(5/8)

القول في شرح خطبة نهج البلاغة
قال الرضي رحمه الله بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد حمد الله الذي جعل الحمد ثمنا لنعمائه و معاذا من بلائه و وسيلا إلى جنانه و سببا لزيادة إحسانه و الصلاة على رسوله نبي الرحمة و إمام الأئمة و سراج الأمة المنتجب من طينة الكرم و سلالة المجد الأقدم و مغرس الفخار المعرق و فرع العلاء المثمر المورق و على أهل بيته مصابيح الظلم و عصم الأمم و منار الدين الواضحة و مثاقيل الفضل الراجحة فصلى الله عليهم أجمعين صلاة تكون إزاء لفضلهم و مكافأة لعملهم و كفاء لطيب أصلهم و فرعهم ما أنار فجر طالع و خوى نجم ساطع اعلم أني لا أتعرض في هذا الشرح للكلام فيما قد فرغ منه أئمة العربية و لا لتفسير ما هو ظاهر مكشوف كما فعل القطب الراوندي فإنه شرع أولا في تفسير قوله أما بعد ثم قال هذا هو فصل الخطاب ثم ذكر ما معنى الفصل و أطال فيه و قسمه أقساما يشرح ما قد فرع له منه ثم شرح الشرح و كذلك أخذ يفسر قوله من بلائه و قوله إلى جنانه و قوله و سببا و قوله المجد و قوله
[ 43 ]
الأقدم و هذا كله إطالة و تضييع للزمان من غير فائدة و لو أخذنا بشرح مثل ذلك لوجب أن نشرح لفظة أما المفتوحة و أن نذكر الفصل بينها و بين إما المكسورة و نذكر هل المكسورة من حروف العطف أو لا ففيه خلاف و نذكر هل المفتوحة مركبة أو مفردة و مهملة أو عاملة و نفسر معنى قول الشاعر
أبا خراشة أما كنت ذا نفر
فإن قومي لم تأكلهم الضبع

(6/1)

بالفتح و نذكر بعد لم ضمت إذا قطعت عن الإضافة و لم فتحت هاهنا حيث أضيفت و نخرج عن المعنى الذي قصدناه من موضوع الكتاب إلى فنون أخرى قد أحكمها أربابها . و نبتدئ الآن فنقول قال لي إمام من أئمة اللغة في زماننا هو الفخار بكسر الفاء قال و هذا مما يغلط فيه الخاصة فيفتحونها و هو غير جائز لأنه مصدر فاخر و فاعل يجي ء مصدره على فعال بالكسر لا غير نحو قاتلت قتالا و نازلت نزالا و خاصمت خصاما و كافحت كفاحا و صارعت صراعا و عندي أنه لا يبعد أن تكون الكلمة مفتوحة الفاء و تكون مصدر فخر لا مصدر فاخر فقد جاء مصدر الثلاثي إذا كان عينه أو لامه حرف حلق على فعال بالفتح نحو سمح سماحا و ذهب ذهابا اللهم إلا أن ينقل ذلك عن شيخ أو كتاب موثوق به نقلا صريحا فتزول الشبهة و العصم جمع عصمة و هو ما يعتصم به و المنار الأعلام واحدها منارة بفتح الميم و المثاقيل جمع مثقال و هو مقدار وزن الشي ء تقول مثقال حبة و مثقال قيراط و مثقال دينار و ليس كما تظنه العامة أنه اسم للدينار خاصة فقوله مثاقيل الفضل أي زنات الفضل و هذا من باب الاستعارة و قوله تكون إزاء لفضلهم أي مقابلة له و مكافأة بالهمز من كافأته أي جازيته و كفاء بالهمز و المد أي نظيرا
[ 44 ]

(6/2)

و خوى النجم أي سقط و طينة الكرم أصله و سلالة المجد فرعه و الوسيل جمع وسيلة و هو ما يتقرب به و لو قال و سبيلا إلى جنانه لكان حسنا و إنما قصد الإغراب على أنا قد قرأناه كذلك في بعض النسخ و قوله و مكافأة لعملهم إن أراد أن يجعله قرينة لفضلهم كان مستقبحا عند من يريد البديع لأن الأولى ساكنة الأوسط و الأخرى متحركة الأوسط و أما من لا يقصد البديع كالكلام القديم فليس بمستقبح و إن لم يرد أن يجعلها قرينة بل جعلها من حشو السجعة الثانية و جعل القرينة و أصلهم فهو جائز إلا أن السجعة الثانية تطول جدا و لو قال عوض لعملهم لفعلهم لكان حسنا قال الرضي رحمه الله فإني كنت في عنفوان السن و غضاضة الغصن ابتدأت تأليف كتاب في خصائص الأئمة ع يشتمل على محاسن أخبارهم و جواهر كلامهم حداني عليه غرض ذكرته في صدر الكتاب و جعلته أمام الكلام و فرغت من الخصائص التي تخص أمير المؤمنين عليا ص و عاقت عن إتمام بقية الكتاب محاجزات الأيام و مماطلات الزمان و كنت قد بوبت ما خرج من ذلك أبوابا و فصلته فصولا فجاء في آخرها فصل يتضمن محاسن ما نقل عنه ع من الكلام القصير في المواعظ و الحكم و الأمثال و الآداب دون الخطب الطويلة و الكتب المبسوطة فاستحسن جماعة من الأصدقاء ما اشتمل عليه الفصل المقدم ذكره معجبين ببدائعه و متعجبين من نواصعه و سألوني عند ذلك أن أبدأ بتأليف كتاب يحتوي على مختار كلام أمير المؤمنين ع في جميع فنونه و متشعبات غصونه من خطب و كتب و مواعظ و أدب علما أن ذلك يتضمن من عجائب البلاغة و غرائب الفصاحة و جواهر العربية و ثواقب الكلم الدينية و الدنياوية ما لا يوجد مجتمعا في كلام و لا مجموع الأطراف
[ 45 ]

(6/3)

في كتاب إذ كان أمير المؤمنين ع مشرع الفصاحة و موردها و منشأ البلاغة و مولدها و منه ع ظهر مكنونها و عنه أخذت قوانينها و على أمثلته حذا كل قائل خطيب و بكلامه استعان كل واعظ بليغ و مع ذلك فقد سبق و قصروا و تقدم و تأخروا لأن كلامه ع الكلام الذي عليه مسحة من العلم الإلهي و فيه عبقة من الكلام النبوي عنفوان السن أولها و محاجزات الأيام ممانعاتها و مماطلات الزمان مدافعاته و قوله معجبين ثم قال و متعجبين فمعجبين من قولك أعجب فلان برأيه و بنفسه فهو معجب بهما و الاسم العجب بالضم و لا يكون ذلك إلا في المستحسن و متعجبين من قولك تعجبت من كذا و الاسم العجب و قد يكون في الشي ء يستحسن و يستقبح و يتهول منه و يستغرب و مراده هنا التهول و الاستغراب و من ذلك قول أبي تمام
أبدت أسى إذ رأتني مخلس القصب
و آل ما كان من عجب إلى عجب
يريد أنها كانت معجبة به أيام الشبيبة لحسنه فلما شاب انقلب ذلك العجب عجبا إما استقباحا له أو تهولا منه و استغرابا و في بعض الروايات معجبين ببدائعه أي أنهم يعجبون غيرهم و النواصع الخالصة و ثواقب الكلم مضيئاتها و منه الشهاب الثاقب و حذا كل قائل اقتفى و اتبع و قوله مسحة يقولون على فلان مسحة من جمال مثل قولك شي ء و كأنه هاهنا يريد ضوءا و صقالا و قوله عبقة أي رائحة
[ 46 ]
و لو قال عوض العلم الإلهي الكتاب الإلهي لكان أحسن قال الرضي رحمه الله فأجبتهم إلى الابتداء بذلك عالما بما فيه من عظيم النفع و منشور الذكر و مذخور الأجر و اعتمدت به أن أبين من عظيم قدر أمير المؤمنين ع في هذه الفضيلة مضافة إلى المحاسن الدثرة و الفضائل الجمة و أنه انفرد ببلوغ غايتها عن جميع السلف الأولين الذين إنما يؤثر عنهم منها القليل النادر و الشاذ الشارد فأما كلامه ع فهو البحر الذي لا يساجل و الجم الذي لا يحافل و أردت أن يسوغ لي التمثل في الافتخار به ص بقول الفرزدق
أولئك آبائي فجئني بمثلهم

(6/4)

إذا جمعتنا يا جرير المجامع
المحاسن الدثرة الكثيرة مال دثر أي كثير و الجمة مثله و يؤثر عنهم أي يحكى و ينقل قلته آثرا أي حاكيا و لا يساجل أي لا يكاثر أصله من النزع بالسجل و هو الدلو الملي ء قال
من يساجلني يساجل ماجدا
يملأ الدلو إلى عقد الكرب
و يروى و يساحل بالحاء من ساحل البحر و هو طرفه أي لا يشابه في بعد ساحله و لا يحافل أي لا يفاخر بالكثرة أصله من الحفل و هو الامتلاء و المحافلة المفاخرة بالامتلاء ضرع حافل أي ممتلئ .
[ 47 ]
و الفرزدق همام بن غالب بن صعصعة التميمي و من هذه الأبيات
و منا الذي اختير الرجال سماحة
و جودا إذا هب الرياح الزعازع
و منا الذي أحيا الوئيد و غالب
و عمرو و منا حاجب و الأقارع
و منا الذي قاد الجياد على الوجا
بنجران حتى صبحته الترائع
و منا الذي أعطى الرسول عطية
أسارى تميم و العيون هوامع
الترائع الكرام من الخيل يعني غزاة الأقرع بن حابس قبل الإسلام بني تغلب بنجران و هو الذي أعطاه الرسول يوم حنين أسارى تميم .
و منا غداة الروع فرسان غارة
إذا منعت بعد الزجاج الأشاجع
و منا خطيب لا يعاب و حامل
أغر إذا التفت عليه المجامع
أي إذا مدت الأصابع بعد الزجاج إتماما لها لأنها رماح قصيرة و حامل أي حامل للديات
[ 48 ]
أولئك آبائي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير المجامع
بهم أعتلي ما حملتنيه دارم
و أصرع أقراني الذين أصارع
أخذنا بآفاق السماء عليكم
لنا قمراها و النجوم الطوالع
فوا عجبا حتى كليب تسبني
كأن أباها نهشل أو مجاشع

(6/5)

قال الرضي رحمه الله و رأيت كلامه ع يدور على أقطاب ثلاثة أولها الخطب و الأوامر و ثانيها الكتب و الرسائل و ثالثها الحكم و المواعظ فأجمعت بتوفيق الله سبحانه على الابتداء باختيار محاسن الخطب ثم محاسن الكتب ثم محاسن الحكم و الأدب مفردا لكل صنف من ذلك بابا و مفصلا فيه أوراقا ليكون مقدمة لاستدراك ما عساه يشذ عني عاجلا و يقع إلي آجلا و إذا جاء شي ء من كلامه الخارج في أثناء حوار أو جواب سؤال أو غرض آخر من الأغراض في غير الأنحاء التي ذكرتها و قررت القاعدة عليها نسبته إلى أليق الأبواب به و أشدها ملامحة لغرضه و ربما جاء فيما أختاره من ذلك فصول غير متسقة و محاسن كلم غير منتظمة لأني أورد النكت و اللمع و لا أقصد التتالي و النسق قوله أجمعت على الابتداء أي عزمت و قال القطب الراوندي تقديره أجمعت عازما على الابتداء قال لأنه لا يقال إلا أجمعت الأمر و لا يقال أجمعت على الأمر قال سبحانه فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ .
[ 49 ]

(6/6)

هذا الذي ذكره الراوندي خلاف نص أهل اللغة قالوا أجمعت الأمر و على الأمر كله جائز نص صاحب الصحاح على ذلك . و المحاسن جمع حسن على غير قياس كما قالوا الملامح و المذاكر و مثله المقابح و الحوار بكسر الحاء مصدر حاورته أي خاطبته و الأنحاء الوجوه و المقاصد و أشدها ملامحة لغرضه أي أشدها إبصارا له و نظرا إليه من لمحت الشي ء و هذه استعارة يقال هذا الكلام يلمح الكلام الفلاني أي يشابهه كان ذلك الكلام يلمح و يبصر من هذا الكلام قال الرضي رحمه الله و من عجائبه ع التي انفرد بها و أمن المشاركة فيها أن كلامه الوارد في الزهد و المواعظ و التذكير و الزواجر إذا تأمله المتأمل و فكر فيه المفكر و خلع من قلبه أنه كلام مثله ممن عظم قدره و نفذ أمره و أحاط بالرقاب ملكه لم يعترضه الشك في أنه كلام من لا حظ له في غير الزهادة و لا شغل له بغير العبادة قد قبع في كسر بيت أو انقطع إلى سفح جبل لا يسمع إلا حسه و لا يرى إلا نفسه و لا يكاد يوقن بأنه كلام من ينغمس في الحرب مصلتا سيفه فيقط الرقاب و يجدل الأبطال و يعود به ينطف دما و يقطر مهجا و هو مع تلك الحال زاهد الزهاد و بدل الأبدال و هذه من فضائله العجيبة و خصائصه اللطيفة التي جمع بها بين الأضداد و ألف بين الأشتات و كثيرا ما أذاكر الإخوان بها و أستخرج عجبهم منها و هي موضع العبرة بها و الكفرة فيها
[ 50 ]

(6/7)

قبع القنفذ يقبع قبوعا إذا أدخل رأسه في جلده و كذلك الرجل إذا أدخل رأسه في قميصه و كل من انزوى في جحر أو مكان ضيق فقد قبع و كسر البيت جانب الخباء و سفح الجبل أسفله و أصله حيث يسفح فيه الماء و يقط الرقاب يقطعها عرضا لا طولا كما قاله الراوندي و إنما ذاك القد قددته طولا و قططته عرضا قال ابن فارس صاحب المجمل قال ابن عائشة كانت ضربات علي ع في الحرب أبكارا إن اعتلى قد و إن اعترض قط و يجدل الأبطال يلقيهم على الجدالة و هي وجه الأرض و ينطف دما يقطر و الأبدال قوم صالحون لا تخلو الأرض منهم إذا مات أحدهم أبدل الله مكانه آخر قد ورد ذلك في كثير من كتب الحديث . كان أمير المؤمنين ع ذا أخلاق متضادة فمنها ما قد ذكره الرضي رحمه الله و هو موضع التعجب لأن الغالب على أهل الشجاعة و الإقدام و المغامرة و الجرأة أن يكونوا ذوي قلوب قاسية و فتك و تمرد و جبرية و الغالب على أهل الزهد و رفض الدنيا و هجران ملاذها و الاشتغال بمواعظ الناس و تخويفهم المعاد و تذكيرهم الموت أن يكونوا ذوي رقة و لين و ضعف قلب و خور طبع و هاتان حالتان متضادتان و قد اجتمعتا له ع . و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و إراقة الدماء أن يكونوا ذوي أخلاق سبعية و طباع حوشية و غرائز وحشية و كذلك الغالب على أهل الزهادة و أرباب الوعظ و التذكير و رفض الدنيا أن يكونوا ذوي انقباض في الأخلاق و عبوس في الوجوه و نفار من الناس
[ 51 ]

(6/8)

و استيحاش و أمير المؤمنين ع كان أشجع الناس و أعظمهم إراقة للدم و أزهد الناس و أبعدهم عن ملاذ الدنيا و أكثرهم وعظا و تذكيرا بأيام الله و مثلاته و أشدهم اجتهادا في العبادة و آدابا لنفسه في المعاملة و كان مع ذلك ألطف العالم أخلاقا و أسفرهم وجها و أكثرهم بشرا و أوفاهم هشاشة و أبعدهم عن انقباض موحش أو خلق نافر أو تجهم مباعد أو غلظة و فظاظة تنفر معهما نفس أو يتكدر معهما قلب حتى عيب بالدعابة و لما لم يجدوا فيه مغمزا و لا مطعنا تعلقوا بها و اعتمدوا في التنفير عنه عليها
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها
و هذا من عجائبه و غرائبه اللطيفة . و منها أن الغالب على شرفاء الناس و من هو من أهل بيت السيادة و الرئاسة أن يكون ذا كبر و تيه و تعظم و تغطرس خصوصا إذا أضيف إلى شرفه من جهة النسب شرفه من جهات أخرى و كان أمير المؤمنين ع في مصاص الشرف و معدنه و معانيه لا يشك عدو و لا صديق أنه أشرف خلق الله نسبا بعد ابن عمه ص و قد حصل له من الشرف غير شرف النسب جهات كثيرة متعددة قد ذكرنا بعضها و مع ذلك فكان أشد الناس تواضعا لصغير و كبير و ألينهم عريكة و أسمحهم خلقا و أبعدهم عن الكبر و أعرفهم بحق و كانت حاله هذه في كلا زمانيه زمان خلافته
[ 52 ]

(6/9)

و الزمان الذي قبله لم تغيره الإمرة و لا أحالت خلقه الرئاسة و كيف تحيل الرئاسة خلقه و ما زال رئيسا و كيف تغير الإمرة سجيته و ما برح أميرا لم يستفد بالخلافة شرفا و لا اكتسب بها زينة بل هو كما قال أبو عبد الله أحمد بن حنبل ذكر ذلك الشيخ أبو الفرج عبد الرحمن بن علي بن الجوزي في تاريخه المعروف بالمنتظم تذاكروا عند أحمد خلافة أبي بكر و علي و قالوا فأكثروا فرفع رأسه إليهم و قال قد أكثرتم أن عليا لم تزنه الخلافة و لكنه زانها و هذا الكلام دال بفحواه و مفهومه على أن غيره ازدان بالخلافة و تممت نقصه و أن عليا ع لم يكن فيه نقص يحتاج إلى أن يتمم بالخلافة و كانت الخلافة ذات نقص في نفسها فتم نقصها بولايته إياها . و منها أن الغالب على ذوي الشجاعة و قتل الأنفس و إراقة الدماء أن يكونوا قليلي الصفح بعيدي العفو لأن أكبادهم واغرة و قلوبهم ملتهبة و القوة الغضبية عندهم شديدة و قد علمت حال أمير المؤمنين ع في كثرة إراقة الدم و ما عنده من الحلم و الصفح و مغالبة هوى النفس و قد رأيت فعله يوم الجمل و لقد أحسن مهيار في قوله
حتى إذا دارت رحى بغيهم
عليهم و سبق السيف العذل
عاذوا بعفو ماجد معود
للعفو حمال لهم على العلل
فنجت البقيا عليهم من نجا
و أكل الحديد منهم من أكل
أطت بهم أرحامهم فلم يطع
ثائرة الغيظ و لم يشف الغلل
و منها أنا ما رأينا شجاعا جوادا قط كان عبد الله بن الزبير شجاعا و كان أبخل الناس و كان الزبير أبوه شجاعا و كان شحيحا قال له عمر لو وليتها لظلت تلاطم الناس
[ 53 ]

(6/10)

في البطحاء على الصاع و المد و أراد علي ع أن يحجر على عبد الله بن جعفر لتبذيره المال فاحتال لنفسه فشارك الزبير في أمواله و تجاراته فقال ع أما إنه قد لاذ بملاذ و لم يحجر عليه و كان طلحة شجاعا و كان شحيحا أمسك عن الإنفاق حتى خلف من الأموال ما لا يأتي عليه الحصر و كان عبد الملك شجاعا و كان شحيحا يضرب به المثل في الشح و سمي رشح الحجر لبخله و قد علمت حال أمير المؤمنين ع في الشجاعة و السخاء كيف هي و هذا من أعاجيبه أيضا ع قال الرضي رحمه الله و ربما جاء في أثناء هذا الاختيار اللفظ المردد و المعنى المكرر و العذر في ذلك أن روايات كلامه تختلف اختلافا شديدا فربما اتفق الكلام المختار في رواية فنقل على وجهه ثم وجد بعد ذلك في رواية أخرى موضوعا غير وضعه الأول إما بزيادة مختارة أو بلفظ أحسن عبارة فتقتضى الحال أن يعاد استظهارا للاختيار و غيره على عقائل الكلام و ربما بعد العهد أيضا بما اختير أولا فأعيد بعضه سهوا و نسيانا لا قصدا أو اعتمادا و لا أدعي مع ذلك أنني أحيط بأقطار جميع كلامه ع حتى لا يشذ عني منه شاذ و لا يند ناد بل لا أبعد أن يكون القاصر عني فوق الواقع إلي و الحاصل في ربقتي دون الخارج من يدي و ما علي إلا بذل الجهد و بلاغة الوسع و على الله سبحانه نهج السبيل و إرشاد الدليل . و رأيت من بعد تسمية هذا الكتاب بنهج البلاغة إذ كان يفتح للناظر فيه أبوابها و يقرب عليه طلابها و فيه حاجة العالم و المتعلم و بغية البليغ و الزاهد و يمضي في أثنائه من عجيب الكلام في التوحيد و العدل و تنزيه الله سبحانه و تعالى عن شبه الخلق ما هو بلال كل غلة و شفاء كل علة و جلاء كل شبهة و من الله أستمد التوفيق و العصمة و أتنجز التسديد و المعونة و أستعيذه من خطإ الجنان قبل خطإ
[ 54 ]

(6/11)

اللسان و من زلة الكلم قبل زلة القدم و هو حسبي و نعم الوكيل في أثناء هذا الاختيار تضاعيفه واحدها ثني كعذق و أعذاق و الغيرة بالفتح و الكسر خطأ و عقائل الكلام كرائمه و عقيلة الحي كريمته و كذلك عقيلة الذود و الأقطار الجوانب واحدها قطر و الناد المنفرد ند البعير يند الربقة عروة الحبل يجعل فيها رأس البهيمة و قوله و على الله نهج السبيل أي إبانته و إيضاحه نهجت له نهجا و أما اسم الكتاب فنهج البلاغة و النهج هنا ليس بمصدر بل هو اسم للطريق الواضح نفسه و الطلاب بكسر الطاء الطلب و البغية ما يبتغى و بلال كل غلة بكسر الباء ما يبل به الصدى و منه قوله انضحوا الرحم ببلالها أي صلوها بصلتها و ندوها قال أوس
كأني حلوت الشعر حين مدحته
صفا صخرة صماء يبس بلالها
و إنما استعاذ من خطإ الجنان قبل خطإ اللسان لأن خطأ الجنان أعظم و أفحش من خطإ اللسان أ لا ترى أن اعتقاد الكفر بالقلب أعظم عقابا من أن يكفر الإنسان بلسانه و هو غير معتقد للكفر بقلبه و إنما استعاذ من زلة الكلم قبل زلة القدم لأنه أراد زلة القدم الحقيقية و لا ريب أن زلة القدم أهون و أسهل لأن العاثر يستقيل من عثرته و ذا الزلة تجده ينهض من صرعته و أما الزلة باللسان فقد لا تستقال عثرتها و لا ينهض صريعها و طالما كانت لا شوى لها قال أبو تمام
يا زلة ما وقيتم شر مصرعها
و زلة الرأي تنسى زلة القدم
[ 55 ]

(6/12)

باب الخطب و الأوامر
[ 56 ]
[ 57 ]
قال الرضي رحمه الله باب المختار من خطب أمير المؤمنين ص و أوامره و يدخل في ذلك المختار من كلامه الجاري مجرى الخطب في المقامات المحضورة و المواقف المذكورة و الخطوب الواردة المقامات جمع مقامة و قد تكون المقامة المجلس و النادي الذي يجتمع إليه الناس و قد يكون اسما للجماعة و الأول أليق هاهنا بقوله المحضورة أي التي قد حضرها الناس . و منذ الآن نبتدئ بشرح كلام أمير المؤمنين ع و نجعل ترجمة الفصل الذي نروم شرحه الأصل فإذا أنهيناه قلنا الشرح فذكرنا ما عندنا فيه و بالله التوفيق

(7/1)

1 ـ فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ
[ 58 ]

(8/1)

الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم فإن استعمل شي ء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإن الاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما
[ 59 ]

(8/2)

أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية أو تؤخذ معه أمور أخرى و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا و نظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا . و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا و منه في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها
و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها و إن عجزنا عن إحصائها و عدها و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد
فما بلغت كف امرئ متناول
بها المجد إلا و الذي نلت أطول
[ 60 ]
و لا حبر المثنون في القول مدحة
و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل
و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية
الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي
و الحمد لله الذي برهانه
أن ليس شأن ليس فيه شانه
و الحمد لله الذي من ينكره
فإنما ينكر من يصوره

(8/3)

و أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته يقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب . ثم قال و لا نعت موجود أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا
[ 61 ]

(8/4)

نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو ع رد قولهم و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه و قد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة و أنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة . و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و قال بعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك و قد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب و تصعيد
رأيت موضع برهان يلوح و ما
رأيت موضع تكييف و تحديد
و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرته من قوله تعالى قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ
[ 62 ]

(8/5)

وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا و قوله و نشر الرياح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته . و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ اَلْجِبالَ أَوْتاداً و الميدان التحرك و التموج . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله و ذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة . و لقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة و الجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا . و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق و لكن
[ 63 ]

(8/6)

ليس مستفادا من الكلام و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك و دلالة الحمد لله و هما سواء في أنهما لا يدلان على شي ء من أحوال غير القائل فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك و دوامه في حق غير القائل . و أما قوله الله أخص من الإله فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافة البصريين و إن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة و لا يسمونها الله فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة و إن كانت في أصل اللغة دابة . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد و نحن لا نعرف فرقا بينهما و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من الممادح و لا من المحامد و لا فيه تعرض لذكر الوجوب و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك . و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة . و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى و لا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد يا قديم
[ 64 ]

(8/7)

الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة . ثم قال الراوندي و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد و البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل و الإله مصدر بمعنى المألوه . و لقائل أن يقول الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول و الفعل و بترك القول و الفعل قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه و من قام لغيره فقد عظمه و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه و كذلك الاستخفاف و الإهانة تكون بالقول و الفعل و بتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم . فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلك فعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس و هذا باطل .
[ 65 ]

(8/8)

و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة و لا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شي ء للاستغراق كقوله إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ و أهلك الناس الدرهم و الدينار فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق . و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجار للضبع و سرار للشهر و هو اسم جنس كالرجل و الفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول و لا مجلود و لم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول . ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد و قول أمير المؤمنين ع لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد
[ 66 ]

(8/9)

وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى . و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان . و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله و قال ع و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر و كلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته و الحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة . ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هو الماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون و معنى ذلك
[ 67 ]

(8/10)

أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرام الكاتبون . و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله . و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لا
[ 68 ]

(8/11)

الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده ع و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص . قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور و الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم . و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قال لا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته . و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك و خصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن
[ 69 ]

(8/12)

بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شي ء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم و التخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح . ثم قال الراوندي و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم فلأن عدل أي عادل و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر . و لقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته . ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه و الأجل
[ 70 ]

(8/13)

مدة الشي ء و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى . و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته و الأجل ليس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه . فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر و هما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك و أما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة .
[ 71 ]

(8/14)

ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفة لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطال جدا فيما لا حاجة إليه . و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته . فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما و هو أن القضية الأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك و الثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غير موجود و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر . قال الراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات و الأرض .
[ 72 ]

(8/15)

قلنا قد اختلف في ذلك فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات و الأرض و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع ما يدل على تقديم خلق الحيوان لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق و تارة قال أنشأ الخلق و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال كل هذا يدل عليه كلامه و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء و خلق السماء فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه ع له فلا معنى لجواب الراوندي و ذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا : أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ اَلصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ
[ 73 ]

(8/16)

وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلاَمَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل و أول الواجبات الدينية المعرفة و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى و تارة تقولون القصد إلى النظر فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع . و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات لأنهما وصله إلى المعرفة و المعرفة هي المقصود بالوجوب و أمير المؤمنين ع أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين . و أما قوله و كمال معرفته التصديق به فلأن معرفته قد تكون ناقصة و قد تكون غير ناقصة فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا و أما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .
[ 74 ]

(8/17)

و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أتم هو العلم بتوحيده سبحانه باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك و ذلك يفضي إلى تركيبهما و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود فمن علم البارئ سبحانه واحدا أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط . و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن و واجب الوجود ليس بممكن و أيضا فكل عرض مفتقر و واجب الوجود غير مفتقر فواجب الوجود ليس بعرض و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث فواجب الوجود ليس بجرم و لا عرض فلا يكون حاصلا في جهة فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه و معرفته تكون أتم و أكمل . و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم قال ع
[ 75 ]

(8/18)

لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة و هذا هو دليل المعتزلة بعينه قالوا لو كان عالما بمعنى قديم لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو و لا غيره و الأول باطل لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما و المتصور مغاير لما ليس بمتصور و الثالث باطل أيضا لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره معلوم فساده ببديهة العقل فتعين القسم الثاني و هو محال أما أولا فبإجماع أهل الملة و أما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا و قد لا يكون فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة مضافا إلى تلك العلوم السابقة و حينئذ تتم المعرفة و تكمل . ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق لأن الجهل هو اعتقاد الشي ء على خلاف ما هو به . قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق لأن كل مشار إليه فهو محدود
[ 76 ]

(8/19)

لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة و كل ما هو في جهة فله حد و حدود أي أقطار و أطراف . قال و من حده فقد عده أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة . قال و من قال فيم فقد ضمنه و هذا حق لأن من تصور أنه في شي ء فقد جعله إما جسما مستترا في مكان أو عرضا ساريا في محل و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع و أصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم و إلا فلو قالوا هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع أي محذور يلزمنا فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما و لزم حدوثه قالوا لزوم الحدوث و الجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله نفي الصفات عنه أي صفات المخلوقين قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات فكيف يجوز أن يقال لا صفة له . و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة .
[ 77 ]

(8/20)

و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين فوجب أن يحمل قوله الآن و كمال توحيده نفي الصفات عنه على صفات المخلوقين حملا للمطلق على المقيد . و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف لأن هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين من لوازم الجسمية و العرضية و البارئ ليس بجسم و لا عرض و نحن قد بينا أن مراده ع إبطال القول بالمعاني القديمة و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية فأما كونه قادرا و عالما فأصحابها أصحاب الأحوال و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود أي لكنهه و حقيقته و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين . و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم قال معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل و الفاعل غير الفعل لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل كالضارب و الفهم فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها .
[ 78 ]

(8/21)

انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه . ثم قال الأول على وزن أفعل يستوي فيه المذكر و المؤنث إذا لم يكن فيه الألف و اللام فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى . و هذا غير صحيح لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد : كَائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْ ءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْ ءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى اَلْحَرَكَاتِ وَ اَلآْلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ اِبْتَدَأَهُ اِبْتِدَاءً بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا وَ لاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ اَلْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لاَءَمَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ اِنْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا [ أَجْنَائِهَا ] قوله ع كائن و إن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه فمراده به المفهوم اللغوي و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود غير محدث .
[ 79 ]

(8/22)

فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق . قيل بينهما فرق و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده و نفي إمكانه لأن من أثبت قديما ممكنا فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته . و أما قوله مع كل شي ء لا بمقارنة فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ . و أما قوله و غير كل شي ء لا بمزايلة فحق لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر و باينه بمكان أو زمان و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان و الزمان فصدق عليه أنه غير كل شي ء لا بمزايلة . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة فحق لأن فعله اختراع و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة كما يفعل الواحد منا و لا يوجد شيئا من شي ء . و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر و معنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت
[ 80 ]

(8/23)

و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة . و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده فإذ هاهنا ظرف و معنى الكلام أن العادة و العرف إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه و يستوحش ببعده فانفرد عنه و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل و لا موجود سواه و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء كقوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . و قوله بلا روية أجالها فالروية الفكرة و أجالها رددها و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها و قوله و لا تجربة استفادها أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام . و قوله و لا حركة أحدثها فيه رد على الكرامية الذين يقولون إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث فوقع ذلك الشي ء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى أحداثا . و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات و هذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين و يعلم العلوم كلها و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع .
[ 81 ]

(8/24)

و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها فمعناه جعل محل كل شي ء و وقته كمحل الدين و من رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه . و قوله و لاءم بين مختلفاتها أي جعل المختلفات ملتئمات كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز و قوله غرزها أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف . و قوله و ألزمها أشباحها الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها جمع شبح و هذا حق لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل . و قوله عالما بها قبل ابتدائها إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل و قوله محيطا بحدودها و انتهائها أي بأطرافها و نهاياتها . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها القرائن جمع قرونة و هي النفس و الأحناء الجوانب جمع حنو يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها .
[ 82 ]

(8/25)

فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا و هذا ليس بجيد لأن اللفظ لا يدل على ذلك و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال . و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا . و قال أيضا يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به و الهمامة التردد كالعزم و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة حكى زرقان في كتاب المقالات و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الإغارة عليها فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم و حالت بينها و بينه و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان
[ 83 ]

(8/26)

و تتدانيان و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس و لهم في الهمامة كلام مشهور و هي لفظة اصطلحوا عليها و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها : ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ اَلْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ اَلْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ اَلْهَوَاءِ فَأَجْرَى [ أَجَازَ ] فِيهَا مَاءً مُتَلاَطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفَةِ وَ اَلزَّعْزَعِ اَلْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ اَلْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ اَلْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اِعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ اَلْمَاءِ اَلزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ اَلْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ اَلسِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ [ سَاكِنَهُ ] عَلَى إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لاَ دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ اَلْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ اَلثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ
[ 84 ]

(8/27)

لسائل أن يسأل فيقول ظاهر هذا الكلام أنه سبحانه خلق الفضاء و السموات بعد خلق كل شي ء لأنه قد قال قبل فطر الخلائق و نشر الرياح و وتد الأرض بالجبال ثم عاد فقال أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء و هو الآن يقول ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و لفظة ثم للتراخي . فالجواب أن قوله ثم هو تعقيب و تراخ لا في مخلوقات البارئ سبحانه بل في كلامه ع كأنه يقول ثم أقول الآن بعد قولي المتقدم إنه تعالى أنشأ فتق الأجواء و يمكن أن يقال إن لفظة ثم هاهنا تعطي معنى الجمع المطلق كالواو و مثل ذلك قوله تعالى وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اِهْتَدى . و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل يشتمل على مباحث منها أن ظاهر لفظه أن الفضاء الذي هو الفراغ الذي يحصل فيه الأجسام خلقه الله تعالى و لم يكن من قبل و هذا يقتضي كون الفضاء شيئا لأن المخلوق لا يكون عدما محضا و ليس ذلك ببعيد فقد ذهب إليه قوم من أهل النظر و جعلوه جسما لطيفا خارجا عن مشابهة هذه الأجسام و منهم من جعله مجردا . فإن قيل هذا الكلام يشعر بأن خلق الأجسام في العدم المحض قبل خلق الفضاء ليس بممكن و هذا ينافي العقل . قيل بل هذا هو محض مذهب الحكماء فإنهم يقولون إنه لا يمكن وجود جسم
[ 85 ]

(8/28)

و لا حركة جسم خارج الفلك الأقصى و ليس ذلك إلا لاستحالة وجود الأجسام و حركتها إلا في الفضاء . و منها أن البارئ سبحانه خلق في الفضاء الذي أوجده ماء جعله على متن الريح فاستقل عليها و ثبت و صارت مكانا له ثم خلق فوق ذلك الماء ريحا أخرى سلطها عليه فموجته تمويجا شديدا حتى ارتفع فخلق منه السموات و هذا أيضا قد قاله قوم من الحكماء و من جملتهم تاليس الإسكندراني و زعم أن الماء أصل كل العناصر لأنه إذا انجمد صار أرضا و إذا لطف صار هواء و الهواء يستحيل نارا لأن النار صفوة الهواء . و يقال إن في التوراة في أول السفر الأول كلاما يناسب هذا و هو أن الله تعالى خلق جوهرا فنظر إليه نظر الهيبة فذابت أجزاؤه فصارت ماء ثم ارتفع من ذلك الماء بخار كالدخان فخلق منه السموات و ظهر على وجه ذلك الماء زبد فخلق منه الأرض ثم أرساها بالجبال . و منها أن السماء الدنيا موج مكفوف بخلاف السموات الفوقانية و هذا أيضا قول قد ذهب إليه قوم و استدلوا عليه بما نشاهده من حركة الكواكب المتحيرة و ارتعادها في مرأى العين و اضطرابها قالوا لأن المتحيرة متحركة في أفلاكها و نحن نشاهدها بالحس البصري و بيننا و بينها أجرام الأفلاك الشفافة و نشاهدها مرتعدة حسب ارتعاد الجسم السائر في الماء و ما ذاك إلا لأن السماء الدنيا ماء متموج فارتعاد الكواكب
[ 86 ]

(8/29)

المشاهدة حسا إنما هو بحسب ارتعاد أجزاء الفلك الأدنى قالوا فأما الكواكب الثابتة فإنا لم نشاهدها كذلك لأنها ليست بمتحركة و أما القمر و إن كان في السماء الدنيا إلا أن فلك تدويره من جنس الأجرام الفوقانية و ليس بماء متموج كالفلك الممثل التحتاني و كذلك القول في الشمس . و منها أن الكواكب في قوله ثم زينها بزينة الكواكب أين هي فإن اللفظ محتمل و ينبغي أن يتقدم على ذلك بحث في أصل قوله تعالى إِنَّا زَيَّنَّا اَلسَّماءَ اَلدُّنْيا بِزِينَةٍ اَلْكَواكِبِ وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ . فنقول إن ظاهر هذا اللفظ أن الكواكب في السماء الدنيا و أنها جعلت فيها حراسة للشياطين من استراق السمع فمن دنا منهم لذلك رجم بشهاب و هذا هو الذي يقتضيه ظاهر اللفظ و مذهب الحكماء أن السماء الدنيا ليس فيها إلا القمر وحده و عندهم أن الشهب المنقضة هي آثار تظهر في الفلك الأثيري الناري الذي تحت فلك القمر و الكواكب لا ينقض منها شي ء و الواجب التصديق بما في ظاهر لفظ الكتاب العزيز و أن يحمل كلام أمير المؤمنين ع على مطابقته فيكون الضمير في قوله زينها راجعا إلى سفلاهن التي قال إنها موج مكفوف و يكون الضمير في قوله و أجرى فيها راجعا إلى جملة السموات إذا وافقنا الحكماء في أن الشمس في السماء الرابعة . و منها أن ظاهر الكلام يقتضي أن خلق السموات بعد خلق الأرض أ لا تراه كيف لم يتعرض فيه لكيفية خلق الأرض أصلا و هذا قول قد ذهب إليه جماعة من أهل الملة
[ 87 ]

(8/30)

و استدلوا عليه بقوله تعالى قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ اَلْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ اَلْعالَمِينَ ثم قال ثُمَّ اِسْتَوى إِلَى اَلسَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ . و منها أن الهاء في قوله فرفعه في هواء منفتق و الهاء في قوله فسوى منه سبع سموات إلى ما ذا ترجع فإن آخر المذكورات قبلها الزبد و هل يجوز أن تكون السموات مخلوقة من زبد الماء الحق أن الضمائر ترجع إلى الماء الذي عب عبابه لا إلى الزبد فإن أحدا لم يذهب إلى أن السماء مخلوقة من زبد الماء و إنما قالوا إنها مخلوقة من بخاره . و منها أن يقال إن البارئ سبحانه قادر على خلق الأشياء إبداعا و اختراعا فما الذي اقتضى أنه خلق المخلوقات على هذا الترتيب و هلا أوجدها إيجاد الماء الذي ابتدعه أولا من غير شي ء . فيقال في جواب ذلك على طريق أصحابنا لعل إخباره للمكلفين بذلك على هذا الترتيب يكون لطفا بهم و لا يجوز الإخبار منه تعالى إلا و المخبر عنه مطابق للإخبار . فهذا حظ المباحث المعنوية من هذا الفصل . ثم نشرع في تفسير ألفاظه أما الأجواء فجمع جو و الجو هنا الفضاء العالي بين السماء و الأرض و الأرجاء
[ 88 ]

(8/31)

الجوانب واحدها رجا مثل عصا و السكائك جمع سكاكة و هي أعلى الفضاء كما قالوا ذؤابة و ذوائب و التيار الموج و المتراكم الذي بعضه فوق بعض و الزخار الذي يزخر أي يمتد و يرتفع و الريح الزعزع الشديدة الهبوب و كذلك القاصفة كأنها تهلك الناس بشدة هبوبها و معنى قوله فأمرها برده أي بمنعه عن الهبوط لأن الماء ثقيل و من شأن الثقيل الهوي و معنى قوله و سلطها على شدة أي على وثاقة كأنه سبحانه لما سلط البريح على منعه من الهبوط فكأنه قد شده بها و أوثقه و منعه من الحركة و معنى قوله و قرنها إلى حده أي جعلها مكانا له أي جعل حد الماء المذكور و هو سطحه الأسفل مما ساطح الريح التي تحمله و تقله و الفتيق المفتوق المنبسط و الدفيق المدفوق و اعتقم مهبها أي جعل هبوبها عقيما و الريح العقيم التي لا تلقح سحابا و لا شجرا و كذلك كانت تلك الريح المشار إليها لأنه سبحانه إنما خلقها لتمويج الماء فقط و أدام مربها أي ملازمتها أرب بالمكان مثل ألب به أي لازمه . و معنى قوله و عصفت به عصفها بالفضاء فيه معنى لطيف يقول إن الريح إذا عصفت بالفضاء الذي لا أجسام فيه كان عصفها شديدا لعدم المانع و هذه الريح عصفت بذلك الماء العظيم عصفا شديدا كأنها تعصف في فضاء لا ممانع لها فيه من الأجسام . و الساجي الساكن و المائر الذي يذهب و يجي ء و عب عبابه أي ارتفع أعلاه و ركامه ثبجه و هضبه و الجو المنفهق المفتوح الواسع و الموج المكفوف الممنوع من السيلان و عمد يدعمها يكون لها دعامة و الدسار واحد الدسر و هي المسامير . و الثواقب النيرة المشرقة و سراجا مستطيرا أي منتشر الضوء يقال قد استطار
[ 89 ]

(8/32)

الفجر أي انتشر ضوءه و رقيم مائر أي لوح متحرك سمي الفلك رقيما تشبيها باللوح لأنه مسطح فأما القطب الراوندي فقال إنه ع ذكر قبل هذه الكلمات أنه أنشأ حيوانا له أعضاء و أحناء ثم ذكر هاهنا أنه فتق السماء و ميز بعضها عن بعض ثم ذكر أن بين كل سماء و سماء مسيرة خمسمائة عام و هي سبع سموات و كذلك بين كل أرض و أرض و هي سبع أيضا و روى حديث البقرة التي تحمل الملك الحامل للعرش و الصخرة التي تحمل البقرة و الحوت الذي يحمل الصخرة . و لقائل أن يقول إنه ع لم يذكر فيما تقدم أن الله تعالى خلق حيوانا ذا أعضاء و لا قوله الآن ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء هو معنى قوله تعالى أَنَّ اَلسَّماواتِ وَ اَلْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما أ لا تراه كيف صرح ع بأن البارئ سبحانه خلق الهواء الذي هو الفضاء و عبر عن ذلك بقوله ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء و ليس فتق الأجواء هو فتق السماء . فإن قلت فكيف يمكن التطبيق بين كلامه ع و بين الآية . قلت إنه تعالى لما سلط الريح على الماء فعصفت به حتى جعلته بخارا و زبدا و خلق من أحدهما السماء و من الآخر الأرض كان فاتقا لهما من شي ء واحد و هو الماء . فأما حديث البعد بين السموات و كونه مسيرة خمسمائة عام بين كل سماء و سماء فقد ورد ورودا لم يوثق به و أكثر الناس على خلاف ذلك و كون الأرض سبعا أيضا
[ 90 ]

(8/33)

خلاف ما يقوله جمهور العقلاء و ليس في القرآن العزيز ما يدل على تعدد الأرض إلا قوله تعالى وَ مِنَ اَلْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ و قد أولوه على الأقاليم السبعة و حديث الصخرة و الحوت و البقرة من الخرافات في غالب الظن و الصحيح أن الله تعالى يمسك الكل بغير واسطة جسم آخر . ثم قال الراوندي السكائك جمع سكاك و هذا غير جائز لأن فعالا لا يجمع على فعائل و إنما هو جمع سكاكة ذكر ذلك الجوهري . ثم قال و سلطها على شده الشد العدو و لا يجوز حمل الشد هاهنا على العدو لأنه لا معنى له و الصحيح ما ذكرناه . و قال في تفسير قوله ع جعل سفلاهن موجا مكفوفا أراد تشبيهها بالموج لصفائها و اعتلائها فيقال له إن الموج ليس بعال ليشبه به الجسم العالي و أما صفاؤه فإن كل السموات صافية فلما ذا خص سفلاهن بذلك . ثم قال و يمكن أن تكون السماء السفلى قد كانت أول ما وجدت موجا ثم عقدها يقال له و السموات الأخر كذلك كانت فلما ذا خص السفلى بذلك . ثم قال الريح الأولى غير الريح الثانية لأن إحداهما معرفة و الأخرى نكرة و هذا مثل قوله صم اليوم صم يوما فإنه يقتضي يومين . يقال له ليست المغايرة بينهما مستفادة من مجرد التعريف و التنكير لأنه لو كان قال
[ 91 ]

(8/34)

ع و حمله على متن ريح عاصفة و زعزع قاصفة لكانت الريحان الأولى و الثانية منكرتين معا و هما متغايرتان و إنما علمنا تغايرهما لأن إحداهما تحت الماء و الأخرى فوقه و الجسم الواحد لا يكون في جهتين : ثُمَّ فَتَقَ مَا بَيْنَ اَلسَّمَوَاتِ اَلْعُلاَ فَمَلَأَهُنَّ أَطْوَاراً مِنْ مَلاَئِكَتِهِ مِنْهُمْ سُجُودٌ لاَ يَرْكَعُونَ وَ رُكُوعٌ لاَ يَنْتَصِبُونَ وَ صَافُّونَ لاَ يَتَزَايَلُونَ وَ مُسَبِّحُونَ لاَ يَسْأَمُونَ لاَ يَغْشَاهُمْ نَوْمُ اَلْعُيُونِ وَ لاَ سَهْوُ اَلْعُقُولِ وَ لاَ فَتْرَةُ اَلْأَبْدَانِ وَ لاَ غَفْلَةُ اَلنِّسْيَانِ وَ مِنْهُمْ أُمَنَاءُ عَلَى وَحْيِهِ وَ أَلْسِنَةٌ إِلَى رُسُلِهِ وَ مُخْتَلِفُونَ [ مُتَرَدِّدُونَ ] بِقَضَائِهِ وَ أَمْرِهِ وَ مِنْهُمُ اَلْحَفَظَةُ لِعِبَادِهِ وَ اَلسَّدَنَةُ [ اَلسَّنَدَةُ ] لِأَبْوَابِ جِنَانِهِ وَ مِنْهُمُ اَلثَّابِتَةُ فِي اَلْأَرَضِينَ اَلسُّفْلَى أَقْدَامُهُمْ وَ اَلْمَارِقَةُ مِنَ اَلسَّمَاءِ اَلْعُلْيَا أَعْنَاقُهُمْ وَ اَلْخَارِجَةُ مِنَ اَلْأَقْطَارِ أَرْكَانُهُمْ وَ اَلْمُنَاسِبَةُ لِقَوَائِمِ اَلْعَرْشِ أَكْتَافُهُمْ نَاكِسَةٌ دُونَهُ أَبْصَارُهُمْ مُتَلَفِّعُونَ تَحْتَهُ بِأَجْنِحَتِهِمْ مَضْرُوبَةٌ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ مَنْ دُونَهُمْ حُجُبُ اَلْعِزَّةِ وَ أَسْتَارُ اَلْقُدْرَةِ لاَ يَتَوَهَّمُونَ رَبَّهُمْ بِالتَّصْوِيرِ وَ لاَ يُجْرُونَ عَلَيْهِ صِفَاتِ اَلْمَصْنُوعِينَ [ اَلْمَخْلُوقِينَ ] وَ لاَ يَحُدُّونَهُ بِالْأَمَاكِنِ وَ لاَ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالنَّظَائِرِ

(8/35)

القول في الملائكة و أقسامهم
الملك عند المعتزلة حيوان نوري فمنه شفاف عادم اللون كالهواء و منه ملون بلون الشمس و الملائكة عندهم قادرون عالمون أحياء بعلوم و قدر و حياة كالواحد منا و مكلفون كالواحد منا إلا أنهم معصومون و لهم في كيفية تكليفهم كلام لأن التكليف
[ 92 ]
مبني على الشهوة . و في كيفية خلق الشهوة فيهم نظر و ليس هذا الكتاب موضوعا للبحث في ذلك و قد جعلهم ع في هذا الفصل أربعة أقسام القسم الأول أرباب العبادة فمنهم من هو ساجد أبدا لم يقم من سجوده ليركع و منهم من هو راكع أبدا لم ينتصب قط و منهم الصافون في الصلاة بين يدي خالقهم لا يتزايلون و منهم المسبحون الذين لا يملون التسبيح و التحميد له سبحانه . و القسم الثاني السفراء بينه تعالى و بين المكلفين من البشر بتحمل الوحي الإلهي إلى الرسل و المختلفون بقضائه و أمره إلى أهل الأرض . و القسم الثالث ضربان أحدهما حفظة العباد كالكرام الكاتبين و كالملائكة الذين يحفظون البشر من المهالك و الورطات و لو لا ذلك لكان العطب أكثر من السلامة و ثانيهما سدنة الجنان . القسم الرابع حملة العرش . و يجب أن يكون الضمير في دونه و هو الهاء راجعا إلى العرش لا إلى البارئ سبحانه و كذلك الهاء في قوله تحته و يجب أن تكون الإشارة بقوله و بين من دونهم إلى الملائكة الذين دون هؤلاء في الرتبة . فأما ألفاظ الفصل فكلها غنية عن التفسير إلا يسيرا كالسدنة جمع سادن و هو الخادم و المارق الخارج و تلفعت بالثوب أي التحفت به . و أما القطب الراوندي فجعل الأمناء على الوحي و حفظة العباد و سدنة الجنان
[ 93 ]

(9/1)

قسما واحدا فأعاد الأقسام الأربعة إلى ثلاثة و ليس بجيد لأنه قال و منهم الحفظة فلفظة و منهم تقتضي كون الأقسام أربعة لأنه بها فصل بين الأقسام . و قال أيضا معنى قوله ع لا يغشاهم نوم العيون يقتضي أن لهم نوما قليلا لا يغفلهم عن ذكر الله سبحانه فأما البارئ سبحانه فإنه لا تأخذه سنة و لا نوم أصلا مع أنه حي و هذه هي المدحة العظمى . و لقائل أن يقول لو ناموا قليلا لكانوا زمان ذلك النوم و إن قل غافلين عن ذكر الله سبحانه لأن الجمع بين النوم و بين الذكر مستحيل . و الصحيح أن الملك لا يجوز عليه النوم كما لا يجوز عليه الأكل و الشرب لأن النوم من توابع المزاج و الملك لا مزاج له و أما مدح البارئ بأنه لا تأخذه سنة و لا نوم فخارج عن هذا الباب لأنه تعالى يستحيل عليه النوم استحالة ذاتية لا يجوز تبدلها و الملك يجوز أن يخرج عن كونه ملكا بأن يخلق في أجزاء جسمه رطوبة و يبوسة و حرارة و برودة يحصل من اجتماعها مزاج و يتبع ذلك المزاج النوم فاستحالة النوم عليه إنما هي ما دام ملكا فهو كقولك الماء بارد أي ما دام ماء لأنه يمكن أن يستحيل هواء ثم نارا فلا يكون باردا لأنه ليس حينئذ ماء و البارئ جلت عظمته يستحيل على ذاته أن يتغير فاستحال عليه النوم استحالة مطلقة مع أنه حي و من هذا إنشاء التمدح
و روى أبو هريرة عن النبي ص أن الله خلق الخلق أربعة أصناف الملائكة و الشياطين و الجن و الإنس ثم جعل الأصناف الأربعة عشرة أجزاء فتسعة منها الملائكة و جزء واحد الشياطين و الجن و الإنس ثم جعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء فتسعة منها الشياطين و جزء واحد الجن و الإنس ثم جعل الجن و الإنس عشرة أجزاء فتسعة منها الجن و جزء واحد الإنس
[ 94 ]

(9/2)

و في الحديث الصحيح أن الملائكة كانت تصافح عمران بن الحصين و تزوره ثم افتقدها فقال يا رسول الله إن رجالا كانوا يأتونني لم أر أحسن وجوها و لا أطيب أرواحا منهم ثم انقطعوا فقال ع أصابك جرح فكنت تكتمه فقال أجل قال ثم أظهرته قال أجل قال أما لو أقمت على كتمانه لزارتك الملائكة إلى أن تموت و كان هذا الجرح أصابه في سبيل الله . و قال سعيد بن المسيب و غيره الملائكة ليسوا بذكور و لا إناث و لا يتوالدون و لا يأكلون و لا يشربون و الجن يتوالدون و فيهم ذكور و إناث و يموتون و الشياطين ذكور و إناث و يتوالدون و لا يموتون حتى يموت إبليس .
و قال النبي ص في رواية أبي ذر إني أرى ما لا ترون و أسمع ما لا تسمعون أطت السماء و حق لها أن تئط فما فيها موضع شبر إلا و فيه ملك قائم أو راكع أو ساجد واضع جبهته لله و الله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا و لبكيتم كثيرا و ما تلذذتم بالنساء على الفرش و لخرجتم إلى الفلوات تجأرون إلى الله و الله لوددت أني كنت شجرة تعضد قلت و يوشك هذه الكلمة الأخيرة أن تكون قول أبي ذر . و اتفق أهل الكتب على أن رؤساء الملائكة و أعيانهم أربعة جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل و هو ملك الموت و قالوا إن إسرافيل صاحب الصور و إليه النفخة و إن ميكائيل صاحب النبات و المطر و إن عزرائيل على أرواح الحيوانات و إن جبرائيل على جنود السموات و الأرض كلها و إليه تدبير الرياح و هو ينزل إليهم كلهم بما يؤمرون به .
[ 95 ]

(9/3)

و روى أنس بن مالك أنه قيل لرسول الله ص ما هؤلاء الذين استثني بهم في قوله تعالى فَصَعِقَ مَنْ فِي اَلسَّماواتِ وَ مَنْ فِي اَلْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اَللَّهُ فقال جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل فيقول الله عز و جل لعزرائيل يا ملك الموت من بقي و هو سبحانه أعلم فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام بقي جبرائيل و ميكائيل و إسرافيل و ملك الموت فيقول يا ملك الموت خذ نفس إسرافيل فيقع في صورته التي خلق عليها كأعظم ما يكون من الأطواد ثم يقول و هو أعلم من بقي يا ملك الموت فيقول سبحانك ربي يا ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ميكائيل و ملك الموت فيقول خذ نفس ميكائيل فيقع في صورته التي خلق عليها و هي أعظم ما يكون من خلق إسرافيل بأضعاف مضاعفة ثم يقول سبحانه يا ملك الموت من بقي فيقول سبحانك ربي ذا الجلال و الإكرام جبرائيل و ملك الموت فيقول تعالى يا ملك الموت مت فيموت و يبقى جبرائيل و هو من الله تعالى بالمكان الذي ذكر لكم فيقول الله يا جبرائيل إنه لا بد من أن يموت أحدنا فيقع جبرائيل ساجدا يخفق بجناحيه يقول سبحانك ربي و بحمدك أنت الدائم القائم الذي لا يموت و جبرائيل الهالك الميت الفاني فيقبض الله روحه فيقع على ميكائيل و إسرافيل و أن فضل خلقه على خلقهما كفضل الطود العظيم على الظرب من الظراب و في الأحاديث الصحيحة أن جبرائيل كان يأتي رسول الله ص على صورة دحية الكلبي و أنه كان يوم بدر على فرس اسمه حيزوم و أنه سمع ذلك اليوم صوته أقدم حيزوم .
[ 96 ]

(9/4)

و الكروبيون عند أهل الملة سادة الملائكة كجبرائيل و ميكائيل و عند الفلاسفة أن سادة الملائكة هم الروحانيون يعنون العقول الفعالة و هي المفارقة للعالم الجسماني المسلوبة التعلق به لا بالحول و لا بالتدبير و أما الكروبيون فدون الروحانيين في المرتبة و هي أنفس الأفلاك المدبرة لها الجارية منها مجرى نفوسنا مع أجسامنا . ثم هي على قسمين قسم أشرف و أعلى من القسم الآخر فالقسم الأشرف ما كان نفسا ناطقة غير حالة في جرم الفلك كأنفسنا بالنسبة إلى أبداننا و القسم الثاني ما كان حالا في جرم الفلك و يجري ذلك مجرى القوى التي في أبداننا كالحس المشترك و القوة الباصرة : مِنْهَا فِي صِفَةِ خَلْقِ آدَمَ ع ثُمَّ جَمَعَ سُبْحَانَهُ مِنْ حَزْنِ اَلْأَرْضِ وَ سَهْلِهَا وَ عَذْبِهَا وَ سَبَخِهَا تُرْبَةً سَنَّهَا [ سَنَاهَا ] بِالْمَاءِ حَتَّى خَلَصَتْ وَ لاَطَهَا بِالْبِلَّةِ حَتَّى لَزَبَتْ فَجَبَلَ مِنْهَا صُورَةً ذَاتَ أَحْنَاءٍ وَ وُصُولٍ وَ أَعْضَاءٍ وَ فُصُولٍ أَجْمَدَهَا حَتَّى اِسْتَمْسَكَتْ وَ أَصْلَدَهَا حَتَّى صَلْصَلَتْ لِوَقْتٍ مَعْدُودٍ وَ أَمَدٍ [ أَجَلٍ ] أَجَلٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ نَفَخَ فِيهَا مِنْ رُوحِهِ فَتَمَثَّلَتْ فَمَثُلَتْ [ فَتَمَثَّلَتْ ] إِنْسَاناً ذَا أَذْهَانٍ يُجِيلُهَا وَ فِكَرٍ يَتَصَرَّفُ بِهَا وَ جَوَارِحَ يَخْتَدِمُهَا وَ أَدَوَاتٍ يُقَلِّبُهَا وَ مَعْرِفَةٍ يَفْرُقُ بِهَا بَيْنَ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ وَ اَلْأَذْوَاقِ وَ اَلْمَشَامِّ وَ اَلْأَلْوَانِ وَ اَلْأَجْنَاسِ مَعْجُوناً بِطِينَةِ اَلْأَلْوَانِ اَلْمُخْتَلِفَةِ
[ 97 ]

(9/5)

وَ اَلْأَشْبَاهِ اَلْمُؤْتَلِفَةِ [ اَلْمُتَّفِقَةِ ] وَ اَلْأَضْدَادِ اَلْمُتَعَادِيَةِ وَ اَلْأَخْلاَطِ اَلْمُتَبَايِنَةِ مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْبَرْدِ وَ اَلْبِلَّةِ وَ اَلْجُمُودِ وَ اَلْمَسَاءَةِ وَ اَلسُّرُورِ وَ اِسْتَأْدَى اَللَّهُ سُبْحَانَهُ اَلْمَلاَئِكَةَ وَدِيعَتَهُ لَدَيْهِمْ وَ عَهْدَ وَصِيَّتِهِ إِلَيْهِمْ فِي اَلْإِذْعَانِ بِالسُّجُودِ لَهُ وَ اَلْخُنُوعِ [ وَ اَلْخُشُوعِ ] لِتَكْرِمَتِهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ لَهُمْ اُسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ وَ قَبيلَهُ اِعْتَرَتْهُمُ اِعْتَرَتْهُ اَلْحَمِيَّةُ وَ غَلَبَتْ عَلَيْهِمُ عَلَيْهِ اَلشِّقْوَةُ وَ تَعَزَّزُوا تَعَزَّزَ بِخِلْقَةِ اَلنَّارِ وَ اِسْتَوْهَنُوا اِسْتَوْهَنَ خَلْقَ اَلصَّلْصَالِ فَأَعْطَاهُ اَللَّهُ اَلنَّظِرَةَ اِسْتِحْقَاقاً لِلسَّخْطَةِ وَ اِسْتِتْمَاماً لِلْبَلِيَّةِ وَ إِنْجَازاً لِلْعِدَةِ فَقَالَ فَإِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ الحزن ما غلظ من الأرض و سبخها ما ملح منها و سنها بالماء أي ملسها قال
ثم خاصرتها إلى القبة الخضراء
تمشي في مرمر مسنون
أي مملس و لاطها من قولهم لطت الحوض بالطين أي ملطته و طينته به و البلة بفتح الباء من البلل و لزبت بفتح الزاي أي التصقت و ثبتت فجبل منها أي خلق و الأحناء الجوانب جمع حنو و أصلدها جعلها صلدا أي صلبا متينا و صلصلت يبست و هو الصلصال و يختدمها يجعلها في مآربه و أوطاره كالخدم الذين تستعملهم و تستخدمهم و استأدى الملائكة وديعته طلب منهم أداءها و الخنوع الخضوع و الشقوة بكسر الشين و في الكتاب العزيز رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا
[ 98 ]

(9/6)

شِقْوَتُنا و استوهنوا عدوه واهنا ضعيفا و النظرة بفتح النون و كسر الظاء الإمهال و التأخير . فأما معاني الفصل فظاهرة و فيه مع ذلك مباحث . منها أن يقال اللام في قوله لوقت معدود بما ذا تتعلق . و الجواب أنها تتعلق بمحذوف تقديره حتى صلصلت كائنة لوقت فيكون الجار و المجرور في موضع الحال و يكون معنى الكلام أنه أصلدها حتى يبست و جفت معدة لوقت معلوم فنفخ حينئذ روحه فيها و يمكن أن تكون اللام متعلقة بقوله فجبل أي جبل و خلق من الأرض هذه الجثة لوقت أي لأجل وقت معلوم و هو يوم القيامة . و منها أن يقال لما ذا قال من حزن الأرض و سهلها و عذبها و سبخها . و الجواب أن المراد من ذلك أن يكون الإنسان مركبا من طباع مختلفة و فيه استعداد للخير و الشر و الحسن و القبح . و منها أن يقال لما ذا أخر نفخ الروح في جثة آدم مدة طويلة فقد قيل إنه بقي طينا تشاهده الملائكة أربعين سنة و لا يعلمون ما المراد به . و الجواب يجوز أن يكون في ذلك لطف للملائكة لأنهم تذهب ظنونهم في ذلك كل مذهب فصار كإنزال المتشابهات الذي تحصل به رياضة الأذهان و تخريجها و في ضمن ذلك يكون اللطف و يجوز أن يكون في أخبار ذرية آدم بذلك فيما بعد لطف بهم و لا يجوز إخبارهم بذلك إلا إذا كان المخبر عنه حقا
[ 99 ]

(9/7)

و منها أن يقال ما المعني بقوله ثم نفخ فيها من روحه . الجواب أن النفس لما كانت جوهرا مجردا لا متحيزة و لا حالة في المتحيز حسن لذلك نسبتها إلى البارئ لأنها أقرب إلى الانتساب إليه من الجثمانيات و يمكن أيضا أن تكون لشرفها مضافة إليه كما يقال بيت الله للكعبة و أما النفخ فعبارة عن إفاضة النفس على الجسد و لما نفخ الريح في الوعاء عبارة عن إدخال الريح إلى جوفه و كان الإحياء عبارة عن إفاضة النفس على الجسد و يستلزم ذلك حلول القوى و الأرواح في الجثة باطنا و ظاهرا سمي ذلك نفخا مجازا . و منها أن يقال ما معنى قوله معجونا بطينة الألوان المختلفة . الجواب أنه ع قد فسر ذلك بقوله من الحر و البرد و البلة و الجمود يعني الرطوبة و اليبوسة و مراده بذلك المزاج الذي هو كيفية واحدة حاصلة من كيفيات مختلفة قد انكسر بعضها ببعض و قوله معجونا صفة إنسانا و الألوان المختلفة يعنى الضروب و الفنون كما تقول في الدار ألوان من الفاكهة . و منها أن يقال ما المعني بقوله و استأدى الملائكة وديعته لديهم و كيف كان هذا العهد و الوصية بينه و بينهم . الجواب أن العهد و الوصية هو قوله تعالى لهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ .
[ 100 ]

(9/8)

و منها أن يقال كيف كانت شبهة إبليس و أصحابه في التعزز بخلقة النار . الجواب لما كانت النار مشرقة بالذات و الأرض مظلمة و كانت النار أشبه بالنور و النور أشبه بالمجردات جعل إبليس ذلك حجة احتج بها في شرف عنصره على عنصر آدم ع و لأن النار أقرب إلى الفلك من الأرض و كل شي ء كان أقرب إلى الفلك من غيره كان أشرف و البارئ تعالى لم يعتبر ذلك و فعل سبحانه ما يعلم أنه المصلحة و الصواب . و منها أن يقال كيف يجوز السجود لغير الله تعالى . و الجواب أنه قيل إن السجود لم يكن إلا لله تعالى و إنما كان آدم ع قبلة و يمكن أن يقال إن السجود لله على وجه العبادة و لغيره على وجه التكرمة كما سجد أبو يوسف و إخوته له و يجوز أن تختلف الأحوال و الأوقات في حسن ذلك و قبحه . و منها أن يقال كيف جاز على ما تعتقدونه من حكمة البارئ أن يسلط إبليس على المكلفين أ ليس هذا هو الاستفساد الذي تأبونه و تمنعونه . و الجواب أما الشيخ أبو علي رحمه الله فيقول حد المفسدة ما وقع عند الفساد و لولاه لم يقع مع تمكن المكلف من الفعل في الحالين و من فسد بدعاء إبليس لم يتحقق فيه هذا الحد لأن الله تعالى علم أن كل من فسد عند دعائه فإنه يفسد و لو لم يدعه . و أما أبو هاشم رحمه الله فيحد المفسدة بهذا الحد أيضا و يقول إن في الإتيان بالطاعة مع دعاء إبليس إلى القبيح مشقة زائدة على مشقة الإتيان بها لو لم يدع إبليس إلى
[ 101 ]

(9/9)

القبيح فصار الإتيان بها مع اعتبار دعاء إبليس إلى خلافها خارجا عن الحد المذكور و داخلا في حيز التمكن الذي لو فرضنا ارتفاعه لما صح من المكلف الإتيان بالفعل و نحن قلنا في الحد مع تمكن المكلف من الإتيان بالفعل في الحالين . و منها أن يقال كيف جاز للحكيم سبحانه أن يقول لإبليس إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ إلى يوم القيامة و هذا إغراء بالقبيح و أنتم تمنعون أن يقول الحكيم لزيد أنت لا تموت إلى سنة بل إلى شهر أو يوم واحد لما فيه من الإغراء بالقبيح و العزم على التوبة قبل انقضاء الأمد . و الجواب أن أصحابنا قالوا إن البارئ تعالى لم يقل لإبليس إني منظرك إلى يوم القيامة و إنما قال إِلى يَوْمِ اَلْوَقْتِ اَلْمَعْلُومِ و هو عبارة عن وقت موته و اخترامه و كل مكلف من الإنس و الجن منظر إلى يوم الوقت المعلوم على هذا التفسير و إذا كان كذلك لم يكن إبليس عالما أنه يبقى لا محالة فلم يكن في ذلك إغراء له بالقبيح . فإن قلت فما معنى قوله ع و إنجازا للعدة أ ليس معنى ذلك أنه قد كان وعده أن يبقيه إلى يوم القيامة . قلت إنما وعده الإنظار و يمكن أن يكون إلى يوم القيامة و إلى غيره من الأوقات و لم يبين له فهو تعالى أنجز له وعده في الإنظار المطلق و ما من وقت إلا و يجوز فيه أن يخترم إبليس فلا يحصل الإغراء بالقبيح و هذا الكلام عندنا ضعيف و لنا فيه نظر مذكور في كتبنا الكلامية
[ 102 ]

(9/10)

ثُمَّ أَسْكَنَ آدَمَ دَاراً أَرْغَدَ فِيهَا عِيشَتَهُ عَيْشَهُ وَ آمَنَ فِيهَا مَحَلَّتَهُ وَ حَذَّرَهُ إِبْلِيسَ وَ عَدَاوَتَهُ فَاغْتَرَّهُ عَدُوُّهُ نَفَاسَةً عَلَيْهِ بِدَارِ اَلْمُقَامِ وَ مُرَافَقَةِ اَلْأَبْرَارِ فَبَاعَ اَلْيَقِينَ بِشَكِّهِ وَ اَلْعَزِيمَةَ بِوَهْنِهِ وَ اِسْتَبْدَلَ بِالْجَذَلِ وَجَلاً وَ بِالاِعْتِزَازِ بِالاِغْتِرَارِ نَدَماً ثُمَّ بَسَطَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَهُ فِي تَوْبَتِهِ وَ لَقَّاهُ كَلِمَةَ رَحْمَتِهِ وَ وَعَدَهُ اَلْمَرَدَّ إِلَى جَنَّتِهِ فَأَهْبَطَهُ إِلَى دَارِ اَلْبَلِيَّةِ وَ تَنَاسُلِ اَلذُّرِّيَّةِ أما الألفاظ فظاهرة و المعاني أظهر و فيها ما يسأل عنه . فمنها أن يقال الفاء في قوله ع فأهبطه تقتضي أن تكون التوبة على آدم قبل هبوطه من الجنة . و الجواب أن ذلك أحد قولي المفسرين و يعضده قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اِجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى قالَ اِهْبِطا مِنْها فجعل الهبوط بعد قبول التوبة . و منها أن يقال إذا كان تعالى قد طرد إبليس من الجنة لما أبى السجود فكيف توصل إلى آدم و هو في الجنة حتى استنزله عنها بتحسين أكل الشجرة له . الجواب أنه يجوز أن يكون إنما منع من دخول الجنة على وجه التقريب و الإكرام
[ 103 ]

(9/11)

كدخول الملائكة و لم يمنع من دخولها على غير ذلك الوجه و قيل إنه دخل في جوف الحية كما ورد في التفسير . و منها أن يقال كيف اشتبه على آدم الحال في الشجرة المنهي عنها فخالف النهي . الجواب أنه قيل له لا تقربا هذه الشجرة و أريد بذلك نوع الشجرة فحمل آدم النهي على الشخص و أكل من شجرة أخرى من نوعها . و منها أن يقال هذا الكلام من أمير المؤمنين ع تصريح بوقوع المعصية من آدم ع و هو قوله فباع اليقين بشكه و العزيمة بوهنه فما قولكم في ذلك . الجواب أما أصحابنا فإنهم لا يمتنعون من إطلاق العصيان عليه و يقولون إنها كانت صغيرة و عندهم أن الصغائر جائزة على الأنبياء ع و أما الإمامية فيقولون إن النهي كان نهي تنزيه لا نهي تحريم لأنهم لا يجيزون على الأنبياء الغلط و الخطأ لا كبيرا و لا صغيرا و ظواهر هذه الألفاظ تشهد بخلاف قولهم

(9/12)

اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر
و اعلم أن الناس اختلفوا في ابتداء خلق البشر كيف كان فذهب أهل الملل من المسلمين و اليهود و النصارى إلى أن مبدأ البشر هو آدم الأب الأول ع و أكثر ما في القرآن العزيز من قصة آدم مطابق لما في التوراة . و ذهب طوائف من الناس إلى غير ذلك أما الفلاسفة فإنهم زعموا أنه لا أول لنوع البشر و لا لغيرهم من الأنواع . و أما الهند فمن كان منهم على رأي الفلاسفة فقوله ما ذكرناه و من لم يكن منهم
[ 104 ]

(10/1)

على رأي الفلاسفة و يقول بحدوث الأجسام لا يثبت آدم و يقول إن الله تعالى خلق الأفلاك و خلق فيها طباعا محركة لها بذاتها فلما تحركت و حشوها أجسام لاستحالة الخلاء كانت تلك الأجسام على طبيعة واحدة فاختلفت طباؤعها بالحركة الفلكية فكان القريب من الفلك المتحرك أسخن و ألطف و البعيد أبرد و أكثف ثم اختلطت العناصر و تكونت منها المركبات و منها تكون نوع البشر كما يتكون الدود في الفاكهة و اللحم و البق في البطائح و المواضع العفنة ثم تكون بعض البشر من بعض بالتوالد و صار ذلك قانونا مستمرا و نسي التخليق الأول الذي كان بالتولد و من الممكن أن يكون بعض البشر في بعض الأراضي القاصية مخلوقا بالتولد و إنما انقطع التولد لأن الطبيعة إذا وجدت للتكون طريقا استغنت به عن طريق ثان . و أما المجوس فلا يعرفون آدم و لا نوحا و لا ساما و لا حاما و لا يافث و أول متكون عندهم من البشر البشري المسمى كيومرث و لقبه كوشاه أي ملك الجبل لأن كو هو الجبل بالفهلوية و كان هذا البشر في الجبال و منهم من يسميه كلشاه أي ملك الطين و كل اسم الطين لأنه لم يكن حينئذ بشر ليملكهم . و قيل تفسير كيومرث حي ناطق ميت قالوا و كان قد رزق من الحسن ما لا يقع عليه بصر حيوان إلا و بهت و أغمي عليه و يزعمون أن مبدأ تكونه و حدوثه أن يزدان و هو الصانع الأول عندهم أفكر في أمر أهرمن و هو الشيطان عندهم فكرة أوجبت أن عرق جبينه فمسح العرق و رمى به فصار منه كيومرث و لهم خبط طويل في كيفية تكون أهرمن من فكرة يزدان أو من إعجابه بنفسه أو من توحشه و بينهم خلاف في قدم أهرمن و حدوثه لا يليق شرحه بهذا الموضع
[ 105 ]

(10/2)

ثم اختلفوا في مدة بقاء كيومرث في الوجود فقال الأكثرون ثلاثون سنة و قال الأقلون أربعون سنة و قال قوم منهم إن كيومرث مكث في الجنة التي في السماء ثلاثة آلاف سنة و هي ألف الحمل و ألف الثور و ألف الجوزاء ثم أهبط إلى الأرض فكان بها آمنا مطمئنا ثلاثة آلاف سنة أخرى و هي ألف السرطان و ألف الأسد و ألف السنبلة . ثم مكث بعد ذلك ثلاثين أو أربعين سنة في حرب و خصام بينه و بين أهرمن حتى هلك . و اختلفوا في كيفية هلاكه مع اتفاقهم على أنه هلك قتلا فالأكثرون قالوا إنه قتل ابنا لأهرمن يسمى خزورة فاستغاث أهرمن منه إلى يزدان فلم يجد بدا من أن يقاصه به حفظا للعهود التي بينه و بين أهرمن فقتله بابن أهرمن و قال قوم بل قتله أهرمن في صراع كان بينهما قهره فيه أهرمن و علاه و أكله . و ذكروا في كيفية ذلك الصراع أن كيومرث كان هو القاهر لأهرمن في بادئ الحال و أنه ركبه و جعل يطوف به في العالم إلى أن سأله أهرمن أي الأشياء أخوف له و أهولها عنده فقال له باب جهنم فلما بلغ به أهرمن إليها جمح به حتى سقط من فوقه و لم يستمسك فعلاه و سأله عن أي الجهات يبتدئ به في الأكل فقال من جهة الرجل لأكون ناظرا إلى حسن العالم مدة ما فابتدأه أهرمن فأكله من عند رأسه فبلغ إلى موضع الخصي و أوعية المني من الصلب فقطر من كيومرث قطرتا نطفة على الأرض فنبت منها ريباستان في جبل بإصطخر يعرف بجبل دام داذ ثم ظهرت على تينك الريباستين الأعضاء البشرية في أول الشهر التاسع و تمت في آخره فتصور منهما بشران ذكر و أنثى و هما ميشى و ميشانه و هما بمنزلة آدم و حواء عند المليين و يقال لهما أيضا ملهى و ملهيانه و يسميهما مجوس خوارزم مرد و مردانه
[ 106 ]

(10/3)

و زعموا أنهما مكثا خمسين سنة مستغنين عن الطعام و الشراب متنعمين غير متأذيين بشي ء إلى أن ظهر لهما أهرمن في صورة شيخ كبير فحملهما على التناول من فواكه الأشجار و أكل منها و هما يبصرانه شيخا فعاد شابا فأكلا منها حينئذ فوقعا في البلايا و الشرور و ظهر فيهما الحرص حتى تزاوجا و ولد لهما ولد فأكلاه حرصا ثم ألقى الله تعالى في قلوبهما رأفة فولد لهما بعد ذلك ستة أبطن كل بطن ذكر و أنثى و أسماؤهم في كتاب أپستا و هو الكتاب الذي جاء به زرادشت معروفة ثم كان في البطن السابع سيامك و فرواك فتزاوجا فولد لهما الملك المشهور الذي لم يعرف قبله ملك و هو أوشهنج و هو الذي خلف جده كيومرث و عقد له التاج و جلس على السرير و بنى مدينتي بابل و السوس . فهذا ما يذكره المجوس في مبدأ الخلق

(10/4)

تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
و كان في المسلمين ممن يرمى بالزندقة من يذهب إلى تصويب إبليس في الامتناع من السجود و يفضله على آدم و هو بشار بن برد المرعث و من الشعر المنسوب إليه
النار مشرقة و الأرض مظلمة
و النار معبودة مذ كانت النار
[ 107 ]
و كان أبو الفتوح أحمد بن محمد الغزالي الواعظ أخو أبي حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي الفقيه الشافعي قاصا لطيفا و واعظا مفوها و هو من خراسان من مدينة طوس و قدم إلى بغداد و وعظ بها و سلك في وعظه مسلكا منكرا لأنه كان يتعصب لإبليس و يقول إنه سيد الموحدين و قال يوما على المنبر من لم يتعلم التوحيد من إبليس فهو زنديق أمر أن يسجد لغير سيده فأبى
و لست بضارع إلا إليكم
و أما غيركم حاشا و كلا
و قال مرة أخرى لما قال له موسى أرني فقال لن قال هذا شغلك تصطفي آدم ثم تسود وجهه و تخرجه من الجنة و تدعوني إلى الطور ثم تشمت بي الأعداء هذا عملك بالأحباب فكيف تصنع بالأعداء . و قال مرة أخرى و قد ذكر إبليس على المنبر لم يدر ذلك المسكين أن أظافير القضاء إذا حكت أدمت و أن قسي القدر إذا رمت أصمت ثم قال لسان حال آدم ينشد في قصته و قصة إبليس
و كنت و ليلى في صعود من الهوى
فلما توافينا ثبت و زلت
و قال مرة أخرى التقى موسى و إبليس عند عقبة الطور فقال موسى يا إبليس لم لم تسجد لآدم فقال كلا ما كنت لأسجد لبشر كيف أوحده ثم ألتفت إلى غيره و لكنك أنت يا موسى سألت رؤيته ثم نظرت إلى الجبل فأنا أصدق منك في التوحيد .
[ 108 ]

(11/1)

و كان هذا النمط في كلامه ينفق على أهل بغداد و صار له بينهم صيت مشهور و اسم كبير و حكى عنه أبو الفرج بن الجوزي في التاريخ أنه قال على المنبر معاشر الناس إني كنت دائما أدعوكم إلى الله و أنا اليوم أحذركم منه و الله ما شدت الزنانير إلا في حبه و لا أديت الجزية إلا في عشقه . و قال أيضا إن رجلا يهوديا أدخل عليه ليسلم على يده فقال له لا تسلم فقال له الناس كيف تمنعه من الإسلام فقال احملوه إلى أبي حامد يعني أخاه ليعلمه لا لا المنافقين ثم قال ويحكم أ تظنون أن قوله لا إله إلا الله منشور ولايته ذا منشور عزله و هذا نوع تعرفه الصوفية بالغلو و الشطح . و يروى عن أبي يزيد البسطامي منه كثير . و مما يتعلق بما نحن فيه ما رووه عنه من قوله
فمن آدم في البين
و من إبليس لولاكا
فتنت الكل و الكل
مع الفتنة يهواكا
و يقال أول من قاس إبليس فأخطأ في القياس و هلك بخطئه و يقال إن أول حمية و عصبية ظهرت عصبية إبليس و حميته

(11/2)

اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار
فإن قيل فما قول شيوخكم في الجنة و النار فإن المشهور عنهم أنهما لم يخلقا و سيخلقان
[ 109 ]
عند قيام الأجسام و قد دل القرآن العزيز و نطق كلام أمير المؤمنين ع في هذا الفصل بأن آدم كان في الجنة و أخرج منها . قيل قد اختلف شيوخنا رحمهم الله في هذه المسألة فمن ذهب منهم إلى أنهما غير مخلوقتين الآن يقول قد ثبت بدليل السمع أن سائر الأجسام تعدم و لا يبقى في الوجود إلا ذات الله تعالى بدليل قوله كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ و قوله هُوَ اَلْأَوَّلُ وَ اَلْآخِرُ فلما كان أولا بمعنى أنه لا جسم في الوجود معه في الأزل وجب أن يكون آخرا بمعنى أنه لا يبقى في الوجود جسم من الأجسام معه فيما لا يزال و بآيات كثيرة أخرى و إذا كان لا بد من عدم سائر الأجسام لم يكن في خلق الجنة و النار قبل أوقات الجزاء فائدة لأنه لا بد أن يفنيهما مع الأجسام التي تفنى يوم القيامة فلا يبقى مع خلقهما من قبل معنى و يحملون الآيات التي دلت على كون آدم ع كان في الجنة و أخرج منها على بستان من بساتين الدنيا قالوا و الهبوط لا يدل على كونهما في السماء لجواز أن يكون في الأرض إلا أنهما في موضع مرتفع عن سائر الأرض . و أما غير هؤلاء من شيوخنا فقالوا إنهما مخلوقتان الآن و اعترفوا بأن آدم كان في جنة الجزاء و الثواب و قالوا لا يبعد أن يكون في إخبار المكلفين بوجود الجنة و النار لطف لهم في التكليف و إنما يحسن الإخبار بذلك إذا كان صدقا و إنما يكون صدقا إذا كان خبره على ما هو عليه

(12/1)

القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل
فإن قيل فما الذي يقوله شيوخكم في آدم و الملائكة أيهما أفضل . قيل لا خلاف بين شيوخنا رحمهم الله أن الملائكة أفضل من آدم و من جميع الأنبياء
[ 110 ]
ع و لو لم يدل على ذلك إلا قوله تعالى في هذه القصة إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ اَلْخالِدِينَ لكفى . و قد احتج أصحابنا أيضا بقوله تعالى لَنْ يَسْتَنْكِفَ اَلْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ و هذا كما تقول لا يستنكف الوزير أن يعظمني و يرفع من منزلتي و لا الملك أيضا فإن هذا يقتضي كون الملك أرفع منزلة من الوزير و كذلك قوله وَ لاَ اَلْمَلائِكَةُ اَلْمُقَرَّبُونَ يقتضي كونهم أرفع منزلة من عيسى . و مما احتجوا به قولهم إنه تعالى لما ذكر جبريل و محمدا ع في معرض المدح مدح جبريل ع بأعظم مما مدح به محمدا ع فقال إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي اَلْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ اَلْمُبِينِ وَ ما هُوَ عَلَى اَلْغَيْبِ بِضَنِينٍ فالمديح الأول لجبريل و الثاني لمحمد ع و لا يخفى تفاوت ما بين المدحين . فإن قيل فهل كان إبليس من الملائكة أم من نوع آخر قيل قد اختلف في ذلك فمن قال إنه من الملائكة احتج بالاستثناء في قوله فَسَجَدَ اَلْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ و قال إن الاستثناء من غير الجنس خلاف الأصل و من قال إنه لم يكن منهم احتج بقوله تعالى إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ اَلْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ . و أجاب الأولون عن هذا فقالوا إن الملائكة يطلق عليهم لفظ الجن لاجتنانهم و استتارهم عن الأعين و قالوا قد ورد ذلك في القرآن أيضا في قوله تعالى وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ
[ 111 ]

(13/1)

وَ بَيْنَ اَلْجِنَّةِ نَسَباً و الجنة هاهنا هم الملائكة لأنهم قالوا إن الملائكة بنات الله بدليل قوله أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اِتَّخَذَ مِنَ اَلْمَلائِكَةِ إِناثاً و كتب التفسير تشتمل من هذا على ما لا نرى الإطالة بذكره . فأما القطب الراوندي فقال في هذين الفصلين في تفسير ألفاظهما اللغوية العذب من الأرض ما ينبت و السبخ ما لا ينبت و هذا غير صحيح لأن السبخ ينبت النخل فيلزم أن يكون عذبا على تفسيره . و قال فجبل منها صورة أي خلق خلقا عظيما و لفظة جبل في اللغة تدل على خلق سواء كان المخلوق عظيما أو غير عظيم . و قال الوصول جمع وصل و هو العضو و كل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة و الفصول جمع فصل و هو الشي ء المنفصل و ما عرفنا في كتب اللغة أن الوصل هو العضو و لا قيل هذا . و قوله بعد ذلك و كل شي ء اتصل بشي ء فما بينهما وصلة لا معنى لذكره بعد ذلك التفسير و الصحيح أن مراده ع أظهر من أن يتكلف له هذا التكلف و مراده ع أن تلك الصورة ذات أعضاء متصلة كعظم الساق أو عظم الساعد و ذات أعضاء منفصلة في الحقيقة و إن كانت متصلة بروابط خارجة عن ذواتها كاتصال الساعد بالمرفق و اتصال الساق بالفخذ . ثم قال يقال استخدمته لنفسي و لغيري و اختدمته لنفسي خاصة و هذا مما لم أعرفه و لعله نقله من كتاب .
[ 112 ]

(13/2)

ثم قال و الإذعان الانقياد و الخنوع الخضوع و إنما كرر الخنوع بعد الإذعان لأن الأول يفيد أنهم أمروا بالخضوع له في السجود و الثاني يفيد ثباتهم على الخضوع لتكرمته أبدا . و لقائل أن يقول إنه لم يكرر لفظة الخنوع و إنما ذكر أولا الإذعان و هو الانقياد و الطاعة و معناه أنهم سجدوا ثم ذكر الخنوع الذي معناه الخضوع و هو يعطي معنى غير المعنى الأول لأنه ليس كل ساجد خاضعا بقلبه فقد يكون ساجدا بظاهره دون باطنه و قول الراوندي أفاد بالثاني ثباتهم على الخضوع له لتكرمته أبدا تفسير لا يدل عليه اللفظ و لا معنى الكلام . ثم قال قبيل إبليس نسله قال تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ و كل جيل من الإنس و الجن قبيل و الصحيح أن قبيله نوعه كما أن البشر قبيل كل بشري سواء كانوا من ولده أو لم يكونوا و قد قيل أيضا كل جماعة قبيل و إن اختلفوا نحو أن يكون بعضهم روما و بعضهم زنجا و بعضهم عربا و قوله تعالى إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ لا يدل على أنهم نسله . و قوله بعد و كل جيل من الإنس و الجن قبيل ينقض دعواه أن قبيله لا يكون إلا نسله . ثم تكلم في المعاني فقال إن القياس الذي قاسه إبليس كان باطلا لأنه ادعى أن النار أشرف من الأرض و الأمر بالعكس لأن كل ما يدخل إلى النار ينقص و كل ما يدخل التراب يزيد و هذا عجيب فإنا نرى الحيوانات الميتة إذا دفنت في الأرض تنقص أجسامها و كذلك الأشجار المدفونة في الأرض على أن التحقيق أن المحترق بالنار و البالي بالتراب لم تعدم أجزاؤه و لا بعضها و إنما استحالت إلى صور أخرى .
[ 113 ]

(13/3)

ثم قال و لما علمنا أن تقديم المفضول على الفاضل قبيح علمنا أن آدم كان أفضل من الملائكة في ذلك الوقت و فيما بعده . و لقائل أن يقول أ ليس قد سجد يعقوب ليوسف ع أ فيدل ذلك على أن يوسف أفضل من يعقوب و لا يقال إن قوله تعالى وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى اَلْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً لا يدل على سجود الوالدين فلعل الضمير يرجع إلى الإخوة خاصة لأنا نقول هذا الاحتمال مدفوع بقوله وَ اَلشَّمْسَ وَ اَلْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ و هو كناية عن الوالدين . و أيضا قد بينا أن السجود إنما كان لله سبحانه و أن آدم كان قبلة و القبلة لا تكون أفضل من الساجد إليها أ لا ترى أن الكعبة ليست أفضل من النبي ع : وَ اِصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ أَخَذَ عَلَى اَلْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ وَ عَلَى تَبْلِيغِ اَلرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ [ إِيمَانَهُمْ ] لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اَللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ وَ اِتَّخَذُوا اَلْأَنْدَادَ مَعَهُ وَ اِجْتَالَتْهُمُ اَلشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَ اِقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ وَ وَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ وَ يُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ وَ يَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ وَ يُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ اَلْعُقُولِ وَ يُرُوهُمْ آيَاتِ اَلْمَقْدِرَةِ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ وَ مِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ وَ مَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ وَ آجَالٍ تُفْنِيهِمْ وَ أَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ وَ أَحْدَاثٍ تَتَتَابَعُ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ وَ لَمْ يُخْلِ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ أَوْ حُجَّةٍ لاَزِمَةٍ
[ 114 ]

(13/4)

أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ رُسُلٌ لاَ تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ وَ لاَ كَثْرَةُ اَلْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ اجتالتهم الشياطين أدارتهم تقول اجتال فلان فلانا و اجتاله عن كذا و على كذا أي أداره عليه كأنه يصرفه تارة هكذا و تارة هكذا يحسن له فعله و يغريه به . و قال الراوندي اجتالتهم عدلت بهم و ليس بشي ء . و قوله ع واتر إليهم أنبياءه أي بعثهم و بين كل نبيين فترة و هذا مما تغلط فيه العامة فتظنه كما ظن الراوندي أن المراد به المرادفة و المتابعة و الأوصاب الأمراض و الغابر الباقي . و يسأل في هذا الفصل عن أشياء منها عن قوله ع أخذ على الوحي ميثاقهم . و الجواب أن المراد أخذ على أداء الوحي ميثاقهم و ذلك أن كل رسول أرسل فمأخوذ عليه أداء الرسالة كقوله تعالى يا أَيُّهَا اَلرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ . و منها أن يقال ما معنى قوله ع ليستأدوهم ميثاق فطرته هل هذا
[ 115 ]
إشارة إلى ما يقوله أهل الحديث في تفسير قوله تعالى وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى . و الجواب أنه لا حاجة في تفسير هذه اللفظة إلى تصحيح ذلك الخبر و مراده ع بهذا اللفظ أنه لما كانت المعرفة به تعالى و أدلة التوحيد و العدل مركوزة في العقول أرسل سبحانه الأنبياء أو بعضهم ليؤكدوا ذلك المركوز في العقول و هذه هي الفطرة المشار إليها

(13/5)

بقوله ع كل مولود يولد على الفطرة . و منها أن يقال إلى ما ذا يشير بقوله أو حجة لازمة هل هو إشارة إلى ما يقوله الإمامية من أنه لا بد في كل زمان من وجود إمام معصوم . الجواب أنهم يفسرون هذه اللفظة بذلك و يمكن أن يكون المراد بها حجة العقل . و أما القطب الراوندي فقال في قوله ع و اصطفى سبحانه من ولده أنبياء الولد يقال على الواحد و الجمع لأنه مصدر في الأصل و ليس بصحيح لأن الماضي فعل بالفتح و المفتوح لا يأتي مصدره بالفتح و لكن فعلا مصدر فعل بالكسر كقولك ولهت عليه ولها و وحمت المرأة وحما . ثم قال إن الله تعالى بعث يونس قبل نوح و هذا خلاف إجماع المفسرين و أصحاب السير . ثم قال و كل واحد من الرسل و الأئمة كان يقوم بالأمر و لا يردعه عن ذلك قلة عدد أوليائه و لا كثرة عدد أعدائه فيقال له هذا خلاف قولك في الأئمة المعصومين فإنك تجيز عليهم التقية و ترك القيام بالأمر إذا كثرت أعداؤهم . و قال في تفسير قوله ع من سابق سمي له من بعده أو غابر عرفه
[ 116 ]

(13/6)

من قبله كان من ألطاف الأنبياء المتقدمين و أوصيائهم أن يعرفوا الأنبياء المتأخرين و أوصياءهم فعرفهم الله تعالى ذلك و كان من اللطف بالمتأخرين و أوصيائهم أن يعرفوا أحوال المتقدمين من الأنبياء و الأوصياء فعرفهم الله تعالى ذلك أيضا فتم اللطف لجميعهم . و لقائل أن يقول لو كان ع قال أو غابر عرف من قبله لكان هذا التفسير مطابقا و لكنه ع لم يقل ذلك و إنما قال عرفه من قبله و ليس هذا التفسير مطابقا لقوله عرفه و الصحيح أن المراد به من نبي سابق عرف من يأتي بعده من الأنبياء أي عرفه الله تعالى ذلك أو نبي غابر نص عليه من قبله و بشر به كبشارة الأنبياء بمحمد ع : عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ [ ذَهَبَتِ ] اَلْقُرُونُ وَ مَضَتِ اَلدُّهُورُ وَ سَلَفَتِ اَلآْبَاءُ وَ خَلَفَتِ اَلْأَبْنَاءُ إِلَى أَنْ بَعَثَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّداً ص رَسُولَ اَللَّهِ ص لِإِنْجَازِ عِدَتِهِ وَ إِتْمَامِ نُبُوَّتِهِ مَأْخُوذاً عَلَى اَلنَّبِيِّينَ مِيثَاقُهُ مَشْهُورَةً سِمَاتُهُ كَرِيماً مِيلاَدُهُ وَ أَهْلُ اَلْأَرْضِ [ اَلْأَرَضِينَ ] يَوْمَئِذٍ مِلَلٌ مُتَفَرِّقَةٌ وَ أَهْوَاءٌ مُنْتَشِرَةٌ وَ طَرَائِقُ [ طَوَائِفُ ] مُتَشَتِّتَةٌ بَيْنَ مُشَبِّهٍ لِلَّهِ بِخَلْقِهِ أَوْ مُلْحِدٍ فِي اِسْمِهِ أَوْ مُشِيرٍ إِلَى غَيْرِهِ فَهَدَاهُمْ بِهِ مِنَ اَلضَّلاَلَةِ وَ أَنْقَذَهُمْ بِمَكَانِهِ مِنَ اَلْجَهَالَةِ ثُمَّ اِخْتَارَ سُبْحَانَهُ لِمُحَمَّدٍ ص لِقَاءَهُ وَ رَضِيَ لَهُ مَا عِنْدَهُ وَ أَكْرَمَهُ عَنْ دَارِ اَلدُّنْيَا وَ رَغِبَ بِهِ عَنْ مَقَامِ [ مُقَارَنَةِ مَقَارِّ ] اَلْبَلْوَى فَقَبَضَهُ إِلَيْهِ كَرِيماً ص وَ خَلَّفَ فِيكُمْ مَا خَلَّفَتِ اَلْأَنْبِيَاءُ فِي أُمَمِهَا إِذْ لَمْ يَتْرُكُوهُمْ هَمَلاً بِغَيْرِ طَرِيقٍ وَاضِحٍ
[ 117 ]

(13/7)

وَ لاَ عَلَمٍ قَائِمٍ كِتَابَ رَبِّكُمْ فِيكُمْ مُبَيِّناً حَلاَلَهُ وَ حَرَامَهُ وَ فَرَائِضَهُ وَ فَضَائِلَهُ وَ نَاسِخَهُ وَ مَنْسُوخَهُ وَ رُخَصَهُ وَ عَزَائِمَهُ وَ خَاصَّهُ وَ عَامَّهُ وَ عِبَرَهُ وَ أَمْثَالَهُ وَ مُرْسَلَهُ وَ مَحْدُودَهُ وَ مُحْكَمَهُ وَ مُتَشَابِهَهُ [ مُتَسَابِقَهُ ] مُفَسِّراً جُمَلَهُ مُجْمَلَهُ [ جُمَلَهُ ] وَ مُبَيِّناً غَوَامِضَهُ بَيْنَ مَأْخُوذٍ مِيثَاقُ عِلْمِهِ وَ مُوَسَّعٍ عَلَى اَلْعِبَادِ فِي جَهْلِهِ وَ بَيْنَ مُثْبَتٍ فِي اَلْكِتَابِ فَرْضُهُ وَ مَعْلُومٍ فِي اَلسُّنَّةِ نَسْخُهُ وَ وَاجِبٍ فِي اَلسُّنَّةِ أَخْذُهُ وَ مُرَخَّصٍ فِي اَلْكِتَابِ تَرْكُهُ وَ بَيْنَ وَاجِبٍ لِوَقْتِهِ بِوَقْتِهِ وَ زَائِلٍ فِي مُسْتَقْبَلِهِ وَ مُبَايَنٌ بَيْنَ مَحَارِمِهِ مِنْ كَبِيرٍ أَوْعَدَ عَلَيْهِ نِيرَانَهُ أَوْ صَغِيرٍ أَرْصَدَ لَهُ غُفْرَانَهُ وَ بَيْنَ مَقْبُولٍ فِي أَدْنَاهُ وَ مُوَسَّعٍ فِي أَقْصَاهُ قوله ع نسلت القرون ولدت و الهاء في قوله لإنجاز عدته راجعة إلى البارئ سبحانه و الهاء في قوله و إتمام نبوته راجعة إلى محمد ص و قوله مأخوذ على النبيين ميثاقه قيل لم يكن نبي قط إلا و بشر بمبعث محمد ص و أخذ عليه تعظيمه و إن كان بعد لم يوجد . فأما قوله و أهل الأرض يومئذ ملل متفرقة فإن العلماء يذكرون أن النبي ص بعث و الناس أصناف شتى في أديانهم يهود و نصارى و مجوس و صائبون و عبده أصنام و فلاسفة و زنادقة .

(13/8)

القول في أديان العرب في الجاهلية
فأما الأمة التي بعث محمد ص فيها فهم العرب و كانوا أصنافا شتى
[ 118 ]
فمنهم معطلة و منهم غير معطلة فأما المعطلة منهم فبعضهم أنكر الخالق و البعث و الإعادة و قالوا ما قال القرآن العزيز عنهم ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا اَلدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ اَلدَّهْرُ فجعلوا الجامع لهم الطبع و المهلك لهم الدهر و بعضهم اعترف بالخالق سبحانه و أنكر البعث و هم الذين أخبر سبحانه عنهم بقوله قالَ مَنْ يُحْيِ اَلْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ و منهم من أقر بالخالق و نوع من الإعادة و أنكروا الرسل و عبدوا الأصنام و زعموا أنها شفعاء عند الله في الآخرة و حجوا لها و نحروا لها الهدي و قربوا لها القربان و حللوا و حرموا و هم جمهور العرب و هم الذين قال الله تعالى عنهم وَ قالُوا ما لِهذَا اَلرَّسُولِ يَأْكُلُ اَلطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي اَلْأَسْواقِ . فممن نطق شعره بإنكار البعث بعضهم يرثي قتلى بدر
فما ذا بالقليب قليب بدر
من الفتيان و القوم الكرام
و ما ذا بالقليب قليب بدر
من الشيزى تكلل بالسنام
أ يخبرنا ابن كبشة أن سنحيا
و كيف حياة أصداء وهام
إذا ما الرأس زال بمنكبيه
فقد شبع الأنيس من الطعام
أ يقتلني إذا ما كنت حيا
و يحييني إذ رمت عظامي
[ 119 ]
و كان من العرب من يعتقد التناسخ و تنقل الأرواح في الأجساد و من هؤلاء أرباب الهامة التي
قال ع عنهم لا عدوى و لا هامة و لا صفر و قال ذو الإصبع
يا عمرو إلا تدع شتمي و منقصتي
أضربك حيث تقول الهامة اسقوني
و قالوا إن ليلى الأخيلية لما سلمت على قبر توبة بن الحمير خرج إليها هامة من القبر صائحة أفزعت ناقتها فوقصت بها فماتت و كان ذلك تصديق قوله
و لو أن ليلى الأخيلية سلمت
علي و دوني جندل و صفائح
لسلمت تسليم البشاشة أو زقا
إليها صدى من جانب القبر صائح

(14/1)

و كان توبة و ليلى في أيام بني أمية . و كانوا في عبادة الأصنام مختلفين فمنهم من يجعلها مشاركة للبارئ تعالى و يطلق عليها لفظة الشريك و من ذلك قولهم في التلبية لبيك اللهم لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه و ما ملك و منهم من لا يطلق عليها لفظ الشريك و يجعلها وسائل و ذرائع إلى الخالق سبحانه و هم الذين قالوا ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اَللَّهِ زُلْفى . و كان في العرب مشبهة و مجسمة منهم أمية بن أبي الصلت و هو القائل
من فوق عرش جالس قد حط
رجليه إلى كرسيه المنصوب
و كان جمهورهم عبدة الأصنام فكان ود لكلب بدومة الجندل و سواع لهذيل
[ 120 ]

(14/2)

و نسر لحمير و يغوث لهمدان و اللات لثقيف بالطائف و العزى لكنانة و قريش و بعض بني سليم و مناة لغسان و الأوس و الخزرج و كان هبل لقريش خاصة على ظهر الكعبة و أساف و نائلة على الصفا و المروة و كان في العرب من يميل إلى اليهودية منهم جماعة من التبابعة و ملوك اليمن و منهم نصارى كبني تغلب و العباديين رهط عدي بن زيد و نصارى نجران و منهم من كان يميل إلى الصابئة و يقول بالنجوم و الأنواء . فأما الذين ليسوا بمعطلة من العرب فالقليل منهم و هم المتألهون أصحاب الورع و التحرج عن القبائح كعبد الله و عبد المطلب و ابنه أبي طالب و زيد بن عمرو بن نفيل و قس بن ساعدة الإيادي و عامر بن الظرب العدواني و جماعة غير هؤلاء . و غرضنا من هذا الفصل بيان قوله ع بين مشبه لله بخلقه أو ملحد في اسمه إلى غير ذلك و قد ظهر بما شرحناه . ثم ذكر ع أن محمدا ص خلف في الأمة بعده كتاب الله تعالى طريقا واضحا و علما قائما و العلم المنار يهتدى به . ثم قسم ما بينه ع في الكتاب أقساما فمنها حلاله و حرامه فالحلال كالنكاح و الحرام كالزنا . و منها فضائله و فرائضه فالفضائل النوافل أي هي فضلة غير واجبة كركعتي الصبح و غيرهما و الفرائض كفريضة الصبح . و قال الراوندي الفضائل هاهنا جمع فضيلة و هي الدرجة الرفيعة و ليس بصحيح أ لا تراه كيف جعل الفرائض في مقابلتها و قسيما لها فدل ذلك على أنه أراد النوافل .
[ 121 ]

(14/3)

و منها ناسخه و منسوخه فالناسخ كقوله فَاقْتُلُوا اَلْمُشْرِكِينَ و المنسوخ كقوله لا إِكْراهَ فِي اَلدِّينِ . و منها رخصه و عزائمه فالرخص كقوله تعالى فَمَنِ اُضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ و العزائم كقوله فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اَللَّهُ . و منها خاصه و عامه فالخاص كقوله تعالى وَ اِمْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ و العام كالألفاظ الدالة على الأحكام العامة لسائر المكلفين كقوله وَ أَقِيمُوا اَلصَّلاةَ و يمكن أن يراد بالخاص العمومات التي يراد بها الخصوص كقوله وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ و بالعام ما ليس مخصوصا بل هو على عمومه كقوله تعالى وَ اَللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ . و منها عبره و أمثاله فالعبر كقصة أصحاب الفيل و كالآيات التي تتضمن النكال و العذاب النازل بأمم الأنبياء من قبل و الأمثال كقوله كَمَثَلِ اَلَّذِي اِسْتَوْقَدَ ناراً . و منها مرسله و محدوده و هو عبارة عن المطلق و المقيد و سمي المقيد محدودا و هي لفظة فصيحة جدا كقوله تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ و قال في موضع آخر وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ و منها محكمه و متشابهه فمحكمه كقوله تعالى قُلْ هُوَ اَللَّهُ أَحَدٌ و المتشابه كقوله إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ . ثم قسم ع الكتاب قسمة ثانية فقال إن منه ما لا يسع أحدا جهله
[ 122 ]

(14/4)

و منه ما يسع الناس جهله مثال الأول قوله اَللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ اَلْحَيُّ اَلْقَيُّومُ و مثال الثاني كهيعص حم عسق . ثم قال و منه ما حكمه مذكور في الكتاب منسوخ بالسنة و ما حكمه مذكور في السنة منسوخ بالكتاب مثال الأول قوله تعالى فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي اَلْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ اَلْمَوْتُ نسخ بما سنه ع من رجم الزاني المحصن و مثال الثاني صوم يوم عاشوراء كان واجبا بالسنة ثم نسخه صوم شهر رمضان الواجب بنص الكتاب . ثم قال و بين واجب بوقته و زائل في مستقبله يريد الواجبات الموقتة كصلاة الجمعة فإنها تجب في وقت مخصوص و يسقط وجوبها في مستقبل ذلك الوقت . ثم قال ع و مباين بين محارمه الواجب أن يكون و مباين بالرفع لا بالجر فإنه ليس معطوفا على ما قبله أ لا ترى أن جميع ما قبله يستدعي الشي ء و ضده أو الشي ء و نقيضه و قوله و مباين بين محارمه لا نقيض و لا ضد له لأنه ليس القرآن العزيز على قسمين أحدهما مباين بين محارمه و الآخر غير مباين فإن ذلك لا يجوز فوجب رفع مباين و أن يكون خبر مبتدأ محذوف ثم فسر ما معنى المباينة بين محارمه فقال إن محارمه تنقسم إلى كبيرة و صغيرة فالكبيرة أوعد سبحانه عليها بالعقاب و الصغيرة مغفورة و هذا نص مذهب المعتزلة في الوعيد . ثم عدل ع عن تقسيم المحارم المتباينة و رجع إلى تقسيم الكتاب فقال و بين مقبول في أدناه و موسع في أقصاه كقوله فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ . فإن القليل من القرآن مقبول و الكثير منه موسع مرخص في تركه
[ 123 ]

(14/5)

وَ فَرَضَ عَلَيْكُمْ حَجَّ بَيْتِهِ اَلْحَرَامِ اَلَّذِي جَعَلَهُ قِبْلَةً لِلْأَنَامِ يَرِدُونَهُ وُرُودَ اَلْأَنْعَامِ وَ يَوْلَهُونَ يَأْلَهُونَ إِلَيْهِ وَلَهَ وُلُوهَ اَلْحَمَامِ وَ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ عَلاَمَةً لِتَوَاضُعِهِمْ لِعَظَمَتِهِ وَ إِذْعَانِهِمْ لِعِزَّتِهِ وَ اِخْتَارَ مِنْ خَلْقِهِ سُمَّاعاً أَجَابُوا إِلَيْهِ دَعْوَتَهُ وَ صَدَّقُوا كَلِمَتَهُ وَ وَقَفُوا مَوَاقِفَ أَنْبِيَائِهِ وَ تَشَبَّهُوا بِمَلاَئِكَتِهِ اَلْمُطِيفِينَ بِعَرْشِهِ يُحْرِزُونَ اَلْأَرْبَاحَ فِي مَتْجَرِ عِبَادَتِهِ وَ يَتَبَادَرُونَ عِنْدَهُ مَوْعِدَ مَغْفِرَتِهِ جَعَلَهُ سُبْحَانَهُ وَ تَعَالَى لِلْإِسْلاَمِ عَلَماً وَ لِلْعَائِذِينَ حَرَماً وَ فَرَضَ حَقَّهُ وَ أَوْجَبَ حَجَّهُ وَ كَتَبَ عَلَيْهِ عَلَيْكُمْ وِفَادَتَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لِلَّهِ عَلَى اَلنَّاسِ حِجُّ اَلْبَيْتِ مَنِ اِسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اَللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ اَلْعالَمِينَ الوله شدة الوجد حتى يكاد العقل يذهب وله الرجل يوله ولها و من روى يألهون إليه ولوه الحمام فسره بشي ء آخر و هو يعكفون عليه عكوف الحمام و أصل أله عبد و منه الإله أي المعبود و لما كان العكوف على الشي ء كالعبادة له لملازمته و الانقطاع إليه قيل أله فلان إلى كذا أي عكف عليه كأنه يعبده و لا يجوز أن يقال يألهون إليه في هذا الموضع بمعنى يولهون و أن أصل الهمزة الواو كما فسره الراوندي لأن فعولا لا يجوز أن يكون مصدرا من فعلت بالكسر و لو كان يألهون هو يولهون كان أصله أله بالكسر فلم يجز أن يقول ولوه الحمام و أما على ما فسرناه نحن فلا يمتنع أن يكون الولوه مصدرا لأن أله مفتوح فصار كقولك دخل دخولا و باقي الفصل غني عن التفسير
[ 124 ]

(14/6)

فصل في فضل البيت و الكعبة
جاء في الخبر الصحيح أن في السماء بيتا يطوف به الملائكة طواف البشر بهذا البيت اسمه الضراح و أن هذا البيت تحته على خط مستقيم و أنه المراد بقوله تعالى وَ اَلْبَيْتِ اَلْمَعْمُورِ أقسم سبحانه به لشرفه و منزلته عنده
و في الحديث أن آدم لما قضى مناسكه و طاف بالبيت لقيته الملائكة فقالت يا آدم لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام قال مجاهد إن الحاج إذا قدموا مكة استقبلتهم الملائكة فسلموا على ركبان الإبل و صافحوا ركبان الحمير و اعتنقوا المشاة اعتناقا . من سنة السلف أن يستقبلوا الحاج و يقبلوا بين أعينهم و يسألوهم الدعاء لهم و يبادروا ذلك قبل أن يتدنسوا بالذنوب و الآثام .
و في الحديث أن الله تعالى قد وعد هذا البيت أن يحجه في كل سنة ستمائة ألف فإن نقصوا أتمهم الله بالملائكة و أن الكعبة تحشر كالعروس المزفوفة و كل من حجها متعلق بأستارها يسعون حولها حتى تدخل الجنة فيدخلون معها
و في الحديث أن من الذنوب ذنوبا لا يكفرها إلا الوقوف بعرفة و فيه أعظم الناس ذنبا من وقف بعرفة فظن أن الله لا يغفر له . عمر بن ذر الهمداني لما قضى مناسكه أسند ظهره إلى الكعبة و قال مودعا للبيت ما زلنا نحل إليك عروة و نشد إليك أخرى و نصعد لك أكمة و نهبط أخرى و تخفضنا أرض و ترفعنا أخرى حتى أتيناك فليت شعري بم يكون منصرفنا أ بذنب مغفور فأعظم بها من نعمة أم بعمل مردود فأعظم بها من مصيبة فيا من له خرجنا و إليه
[ 125 ]
قصدنا و بحرمه أنخنا ارحم يا معطي الوفد بفنائك فقد أتيناك بها معراة جلودها ذابلة أسنمتها نقبة أخفافها و إن أعظم الرزية أن نرجع و قد اكتنفتنا الخيبة اللهم و إن للزائرين حقا فاجعل حقنا عليك غفران ذنوبنا فإنك جواد كريم ماجد لا ينقصك نائل و لا يبخلك سائل . ابن جريج ما ظننت أن الله ينفع أحدا بشعر عمر بن أبي ربيعة حتى كنت باليمن فسمعت منشدا ينشد قوله
بالله قولا له في غير معتبة

(15/1)

ما ذا أردت بطول المكث في اليمن
إن كنت حاولت دنيا أو ظفرت بها
فما أخذت بترك الحج من ثمن
فحركني ذلك على ترك اليمن و الخروج إلى مكة فخرجت فحججت . سمع أبو حازم امرأة حاجة ترفث في كلامها فقال يا أمة الله أ لست حاجة أ لا تتقين الله فسفرت عن وجه صبيح ثم قالت له أنا من اللواتي قال فيهن العرجي
أماطت كساء الخز عن حر وجهها
و ردت على الخدين بردا مهلهلا
من اللاء لم يحججن يبغين حسبة
و لكن ليقتلن البري ء المغفلا
فقال أبو حازم فأنا أسأل الله ألا يعذب هذا الوجه بالنار فبلغ ذلك سعيد بن المسيب فقال رحم الله أبا حازم لو كان من عباد العراق لقال لها اعزبي يا عدوة الله و لكنه ظرف نساك الحجاز
[ 126 ]

(15/2)

فصل في الكلام على السجع
و اعلم أن قوما من أرباب علم البيان عابوا السجع و أدخلوا خطب أمير المؤمنين ع في جملة ما عابوه لأنه يقصد فيها السجع و قالوا إن الخطب الخالية من السجع و القرائن و الفواصل هي خطب العرب و هي المستحسنة الخالية من التكلف
كخطبة النبي ص في حجة الوداع و هي الحمد لله نحمده و نستعينه و نستغفره و نتوب إليه و نعوذ بالله من شرور أنفسنا و سيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له و من يضلل الله فلا هادي له و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أشهد أن محمدا عبده و رسوله أوصيكم عباد الله بتقوى الله و أحثكم على العمل بطاعته و أستفتح الله بالذي هو خير أما بعد أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا أيها الناس إن دماءكم و أموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ألا أ هل بلغت اللهم اشهد من كانت عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها و إن ربا الجاهلية موضوع و أول ربا أبدأ به ربا العباس بن عبد المطلب و إن دماء الجاهلية موضوعة و أول دم أبدأ به دم آدم بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب و إن مآثر الجاهلية موضوعة غير
[ 127 ]

(16/1)

السدانة و السقاية و العمد قود و شبه العمد ما قتل بالعصا و الحجر فيه مائة بعير فمن ازداد فهو من الجاهلية أيها الناس إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه و لكنه قد رضي أن يطاع فيما سوى ذلك فيما تحتقرون من أعمالكم أيها الناس إنما النسي ء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما و إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات و الأرض و إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض منها أربعة حرم ثلاثة متواليات و واحد فرد ذو القعدة و ذو الحجة و محرم و رجب الذي بين جمادى و شعبان ألا هل بلغت أيها الناس إن لنسائكم عليكم حقا و لكم عليهن حقا فعليهن ألا يوطئن فرشكم غيركم و لا يدخلن بيوتكم أحدا تكرهونه إلا بإذنكم و لا يأتين بفاحشة فإن فعلن فقد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع و تضربوهن فإن انتهين و أطعنكم فعليكم كسوتهن و رزقهن بالمعروف فإنما النساء عندكم عوان لا يملكن لأنفسهن شيئا أخذتموهن بأمانة الله و استحللتم فروجهن بكلمة الله فاتقوا الله في النساء و استوصوا بهن خيرا
[ 128 ]

(16/2)

أيها الناس إنما المؤمنون إخوة و لا يحل لامرئ مال أخيه إلا على طيب نفس ألا هل بلغت اللهم اشهد ألا لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا كتاب الله ربكم ألا هل بلغت اللهم اشهد أيها الناس إن ربكم واحد و إن أباكم واحد كلكم لآدم و آدم من تراب إن أكرمكم عند الله أتقاكم و ليس لعربي على عجمي فضل إلا بالتقوى ألا فليبلغ الشاهد الغائب أيها الناس إن الله قسم لكل وارث نصيبه من الميراث و لا تجوز وصية في أكثر من الثلث و الولد للفراش و للعاهر الحجر من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه فهو ملعون لا يقبل الله منه صرفا و لا عدلا و السلام عليكم و رحمة الله عليكم . و اعلم أن السجع لو كان عيبا لكان كلام الله سبحانه معيبا لأنه مسجوع كله ذو فواصل و قرائن و يكفي هذا القدر وحده مبطلا لمذهب هؤلاء فأما خطبة رسول الله ص هذه فإنها و إن لم تكن ذات سجع فإن أكثر خطبه مسجوع
كقوله إن مع العز ذلا و إن مع الحياة موتا و إن مع الدنيا آخرة و إن لكل شي ء حسابا و لكل حسنة ثوابا و لكل سيئة عقابا و إن على كل شي ء رقيبا و إنه لا بد لك من قرين يدفن معك هو حي و أنت ميت فإن كان كريما أكرمك و إن كان لئيما أسلمك ثم لا يحشر إلا معك و لا تبعث إلا معه و لا تسأل إلا عنه فلا تجعله إلا صالحا فإنه إن صلح أنست به و إن فسد لم تستوحش إلا منه و هو عملك . فأكثر هذا الكلام مسجوع كما تراه و كذلك خطبه الطوال كلها و أما كلامه
[ 129 ]

(16/3)

القصير فإنه غير مسجوع لأنه لا يحتمل السجع و كذلك القصير من كلام أمير المؤمنين ع . فأما قولهم إن السجع يدل على التكلف فإن المذموم هو التكلف الذي تظهر سماجته و ثقله للسامعين فأما التكلف المستحسن فأي عيب فيه أ لا ترى أن الشعر نفسه لا بد فيه من تكلف إقامة الوزن و ليس لطاعن أن يطعن فيه بذلك . و احتج عائبو السجع بقوله ع لبعضهم منكرا عليه أ سجعا كسجع الكهان و لو لا أن السجع منكر لما أنكر ع سجع الكهان و أمثاله فيقال لهم إنما أنكر ع السجع الذي يسجع الكهان أمثاله لا السجع على الإطلاق و صورة الواقعة أنه ع أمر في الجنين بغرة فقال قائل أ أدي من لا شرب و لا أكل و لا نطق و لا استهل و مثل هذا يطل فأنكر ع ذلك لأن الكهان كانوا يحكمون في الجاهلية بألفاظ مسجوعة كقولهم حبة بر في إحليل مهر و قولهم عبد المسيح على جمل مشيح لرؤيا الموبذان و ارتجاس الإيوان و نحو ذلك من كلامهم و كان ع قد أبطل الكهانة و التنجيم و السحر و نهى عنها فلما سمع كلام ذلك القائل أعاد الإنكار و مراده به تأكيد تحريم العمل على أقوال الكهنة و لو كان ع قد أنكر السجع لما قاله و قد بينا أن كثيرا من كلامه مسجوع و ذكرنا خطبته . و من كلامه ع المسجوع
خبر ابن مسعود رحمه الله تعالى قال قال رسول الله ص استحيوا من الله حق الحياء فقلنا إنا لنستحيي يا رسول الله من الله تعالى فقال ليس ذلك ما أمرتكم به و إنما الاستحياء من الله أن تحفظ الرأس
[ 130 ]
و ما وعى و البطن و ما حوى و تذكر الموت و البلى و من أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا . و من ذلك
كلامه المشهور لما قدم المدينة ع أول قدومه إليها أيها الناس أفشوا السلام و أطعموا الطعام و صلوا الأرحام و صلوا بالليل و الناس نيام تدخلوا الجنة بسلام
و عوذ الحسن ع فقال أعيذك من الهامة و السامة و كل عين لامة و إنما أراد ملمة فقال لامة لأجل السجع . و كذلك

(16/4)

قوله ارجعن مأزورات غير مأجورات و إنما هو موزورات بالواو
[ 131 ]

(16/5)

2 ـ و من خطبة له ع بعد انصرافه من صفين
صفين اسم الأرض التي كانت فيها الحرب و النون فيها أصلية ذكر ذلك صاحب الصحاح فوزنها على هذا فعيل كفسيق و خمير و صريع و ظليم و ضليل . فإن قيل فاشتقاقه مما ذا يكون . قيل لو كان اسما لحيوان لأمكن أن يكون من صفن الفرس إذا قام على ثلاث و أقام الرابعة على طرف الحافر يصفن بالكسر صفونا أو من صفن القوم إذا صفوا أقدامهم لا يخرج بعضها من بعض . فإن قيل أ يمكن أن يشتق من ذلك و هو اسم أرض . قيل يمكن على تعسف و هو أن تكون تلك الأرض لما كانت مما تصفن فيها الخيل أو تصطف فيها الأقدام سميت صفين . فإن قيل أ يمكن أن تكون النون زائدة مع الياء كما هما في غسلين و عفرين . قيل لو جاء في الأصل صف بكسر الصاد لأمكن أن تتوهم الزيادة كالزيادة
[ 132 ]
في غسل و هو ما يغتسل به نحو الخطمي و غيره فقيل غسلين لما يسيل من صديد أهل النار و دمائهم و كالزيادة في عفر و هو الخبيث الداهي فقيل عفرين لمأسدة بعينها و قيل عفريت للداهية هكذا ذكروه و لقائل أن يقول لهم أ ليس قد قالوا للأسد عفرني بفتح العين و أصله العفر بالكسر فقد بان أنهم لم يراعوا في اشتقاقهم و تصريف كلامهم الحركة المخصوصة و إنما يراعون الحرف و لا كل الحروف بل الأصلي منها فغير ممتنع على هذا عندنا أن تكون الياء و النون زائدتين في صفين . و صفين اسم غير منصرف للتأنيث و التعريف قال
إني أدين بما دان الوصي به
يوم الخريبة من قتل المحلينا
و بالذي دان يوم النهر دنت به
و شاركت كفه كفي بصفينا
تلك الدماء معا يا رب في عنقي
ثم اسقني مثلها آمين آمينا

(17/1)

أَحْمَدُهُ اِسْتِتْمَاماً لِنِعْمَتِهِ وَ اِسْتِسْلاَماً لِعِزَّتِهِ وَ اِسْتِعْصَاماً مِنْ مَعْصِيَتِهِ وَ أَسْتَعِينُهُ فَاقَةً إِلَى كِفَايَتِهِ إِنَّهُ لاَ يَضِلُّ مَنْ هَدَاهُ وَ لاَ يَئِلُ مَنْ عَادَاهُ وَ لاَ يَفْتَقِرُ مَنْ كَفَاهُ فَإِنَّهُ أَرْجَحُ مَا وُزِنَ وَ أَفْضَلُ مَا خُزِنَ وَ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اَللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ شَهَادَةً مُمْتَحَناً إِخْلاَصُهَا مُعْتَقَداً مُصَاصُهَا نَتَمَسَّكُ بِهَا أَبَداً
[ 133 ]
مَا أَبْقَانَا وَ نَدَّخِرُهَا [ نَذَّخِرُهَا ] لِأَهَاوِيلِ مَا يَلْقَانَا فَإِنَّهَا عَزِيمَةُ اَلْإِيمَانِ وَ فَاتِحَةُ اَلْإِحْسَانِ وَ مَرْضَاةُ اَلرَّحْمَنِ وَ مَدْحَرَةُ [ مَهْلَكَةُ ] اَلشَّيْطَانِ وأل أي نجا يئل و المصاص خالص الشي ء و الفاقة الحاجة و الفقر الأهاويل جمع أهوال و الأهوال جمع هول فهو جمع الجمع كما قالوا أنعام و أناعيم و قيل أهاويل أصله تهاويل و هي ما يهولك من شي ء أي يروعك و إن جاز هذا فهو بعيد لأن التاء قل أن تبدل همزة و العزيمة النية المقطوع عليها و مدحرة الشيطان أي تدحره أي تبعده و تطرده . و قوله ع استتماما و استسلاما و استعصاما من لطيف الكناية و بديعها فسبحان من خصه بالفضائل التي لا تنتهي ألسنة الفصحاء إلى وصفها و جعله إمام كل ذي علم و قدوة كل صاحب خصيصة . و قوله فإنه أرجح الهاء عائدة إلى ما دل عليه قوله أحمده يعني الحمد و الفعل يدل على المصدر و ترجع الضمائر إليه كقوله تعالى بَلْ هُوَ شَرٌّ و هو ضمير البخل الذي دل عليه قوله يَبْخَلُونَ

(17/2)

باب لزوم ما لا يلزم و إيراد أمثلة منه
و قوله ع وزن و خزن بلزوم الزاي من الباب المسمى لزوم ما لا يلزم و هو أحد أنواع البديع و ذلك أن تكون الحروف التي قبل الفاصلة حرفا واحدا هذا
[ 134 ]
في المنثور و أما في المنظوم فأن تتساوى الحروف التي قبل الروي مع كونها ليست بواجبة التساوي مثال ذلك قول بعض شعراء الحماسة
بيضاء باكرها النعيم فصاغها
بلباقة فأدقها و أجلها
حجبت تحيتها فقلت لصاحبي
ما كان أكثرها لنا و أقلها
و إذا وجدت لها وساوس سلوة
شفع الضمير إلى الفؤاد فسلها
أ لا تراه كيف قد لزم اللام الأولى من اللامين اللذين صارا حرفا مشددا فالثاني منهما هو الروي و اللام الأول الذي قبله التزام ما لا يلزم فلو قال في القصيدة وصلها و قبلها و فعلها لجاز . و احترزنا نحن بقولنا مع كونها ليست بواجبة التساوي عن قول الراجز و هو من شعر الحماسة أيضا
و فيشة ليست كهذي الفيش
قد ملئت من نزق و طيش
إذا بدت قلت أمير الجيش
من ذاقها يعرف طعم العيش
فإن لزوم الياء قبل حرف الروي ليس من هذا الباب لأنه لزوم واجب أ لا ترى أنه لو قال في هذا الرجز البطش و الفرش و العرش لم يجز لأن الردف لا يجوز أن يكون حرفا خارجا عن حروف العلة و قد جاء من اللزوم في الكتاب العزيز مواضع
[ 135 ]

(18/1)

ليست بكثيرة فمنها قوله سبحانه فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اُهْجُرْنِي مَلِيًّا و قوله تعالى وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ و قوله اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ اَلَّذِي خَلَقَ خَلَقَ اَلْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ و قوله وَ اَلطُّورِ وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ و قوله بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ اَلْمَنُونِ و قوله فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ و قوله فَإِنِ اِنْتَهَوْا فَإِنَّ اَللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اَللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ اَلْمَوْلى وَ نِعْمَ اَلنَّصِيرُ و الظاهر أن ذلك غير مقصود قصده . و مما ورد منه في كلام العرب أن لقيط بن زرارة تزوج ابنة قيس بن خالد الشيباني فأحبته فلما قتل عنها تزوجت غيره فكانت تذكر لقيطا فسألها عن حبها له فقالت أذكره و قد خرج تارة في يوم دجن و قد تطيب و شرب الخمر و طرد بقرا فصرع بعضها ثم جاءني و به نضح دم و عبير فضمني ضمة و شمني شمة فليتني كنت مت ثمة . و قد صنع أبو العلاء المعري كتابا في اللزوم من نظمه فأتى فيه بالجيد و الردي ء و أكثره متكلف و من جيده قوله
لا تطلبن بآلة لك حالة
قلم البليغ بغير حظ مغزل
سكن السماكان السماء كلاهما
هذا له رمح و هذا أعزل
وَ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّداً عَبْدُهُ وَ رَسُولُهُ أَرْسَلَهُ بِالدِّينِ اَلْمَشْهُورِ وَ اَلْعَلَمِ اَلْمَأْثُورِ
[ 136 ]

(18/2)

وَ اَلْكِتَابِ اَلْمَسْطُورِ وَ اَلنُّورِ اَلسَّاطِعِ وَ اَلضِّيَاءِ اَللاَّمِعِ وَ اَلْأَمْرِ اَلصَّادِعِ إِزَاحَةً لِلشُّبُهَاتِ وَ اِحْتِجَاجاً بِالْبَيِّنَاتِ وَ تَحْذِيراً بِالآْيَاتِ وَ تَخْوِيفاً بِالْمَثُلاَتِ وَ اَلنَّاسُ فِي فِتَنٍ اِنْجَذَمَ [ اِنْحَذَمَ ] فِيهَا حَبْلُ اَلدِّينِ وَ تَزَعْزَعَتْ سَوَارِي اَلْيَقِينِ وَ اِخْتَلَفَ اَلنَّجْرُ وَ تَشَتَّتَ اَلْأَمْرُ وَ ضَاقَ اَلْمَخْرَجُ وَ عَمِيَ اَلْمَصْدَرُ فَالْهُدَى خَامِلٌ وَ اَلْعَمَى شَامِلٌ عُصِيَ اَلرَّحْمَنُ وَ نُصِرَ اَلشَّيْطَانُ وَ خُذِلَ اَلْإِيمَانُ فَانْهَارَتْ دَعَائِمُهُ وَ تَنَكَّرَتْ مَعَالِمُهُ [ أَعْلاَمُهُ ] وَ دَرَسَتْ سُبُلُهُ وَ عَفَتْ شُرُكُهُ أَطَاعُوا اَلشَّيْطَانَ فَسَلَكُوا مَسَالِكَهُ وَ وَرَدُوا مَنَاهِلَهُ بِهِمْ سَارَتْ أَعْلاَمُهُ وَ قَامَ لِوَاؤُهُ فِي فِتَنٍ دَاسَتْهُمْ بِأَخْفَافِهَا وَ وَطِئَتْهُمْ بِأَظْلاَفِهَا وَ قَامَتْ عَلَى سَنَابِكِهَا فَهُمْ فِيهَا تَائِهُونَ حَائِرُونَ جَاهِلُونَ مَفْتُونُونَ فِي خَيْرِ دَارٍ وَ شَرِّ جِيرَانٍ نَوْمُهُمْ سُهُودٌ [ سُهَادٌ ] وَ كُحْلُهُمْ دُمُوعٌ بِأَرْضٍ عَالِمُهَا مُلْجَمٌ وَ جَاهِلُهَا مُكْرَمٌ قوله ع و العلم المأثور يجوز أن يكون عنى به القرآن لأن المأثور المحكي و العلم ما يهتدى به و المتكلمون يسمون المعجزات أعلاما و يجوز أن يريد به أحد معجزاته غير القرآن فإنها كثيرة و مأثورة و يؤكد هذا قوله بعد و الكتاب المسطور فدل على تغايرهما و من يذهب إلى الأول يقول المراد بهما واحد و الثانية توكيد الأولى على قاعدة الخطابة و الكتابة . و الصادع الظاهر الجلي قال تعالى فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ أي أظهره و لا تخفه . و المثلات بفتح الميم و ضم الثاء العقوبات جمع مثلة قال تعالى وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ اَلْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ

(18/3)

مِنْ قَبْلِهِمُ اَلْمَثُلاتُ . و انجذم انقطع و السواري جمع سارية و هي الدعامة يدعم بها السقف و النجر
[ 137 ]
الأصل و مثله النجار و انهارت تساقطت و الشرك الطرائق جمع شراك و الأخفاف للإبل و الأظلاف للبقر و المعز . و قال الراوندي في تفسير قوله خير دار و شر جيران خير دار الكوفة و قيل الشام لأنها الأرض المقدسة و أهلها شر جيران يعني أصحاب معاوية و على التفسير الأول يعني أصحابه ع . قال و قوله نومهم سهود يعني أصحاب معاوية لا ينامون طول الليل بل يرتبون أمره و إن كان وصفا لأصحابه ع بالكوفة و هو الأقرب فالمعنى أنهم خائفون يسهرون و يبكون لقلة موافقتهم إياه و هذا شكاية منه ع لهم . و كحلهم دموع أي نفاقا فإنه إذا تم نفاق المرء ملك عينيه . و لقائل أن يقول لم يجر فيما تقدم ذكر أصحابه ع و لا أصحاب معاوية و الكلام كله في وصف أهل الجاهلية قبل مبعث محمد ص ثم لا يخفى ما في هذا التفسير من الركاكة و الفجاجة و هو أن يريد بقوله نومهم سهود أنهم طوال الليل يرتبون أمر معاوية لا ينامون و أن يريد بذلك أن أصحابه يبكون من خوف معاوية و عساكره أو أنهم يبكون نفاقا و الأمر أقرب من أن يتمحل له مثل هذا . و نحن نقول إنه ع لم يخرج من صفة أهل الجاهلية و قوله في خير دار يعني مكة و شر جيران يعني قريشا و هذا لفظ النبي ص حين حكى بالمدينة حالة كانت في مبدأ البعثة فقال كنت في خير دار و شر جيران ثم حكى ع ما جرى له مع عقبة بن أبي معيط و الحديث مشهور . و قوله نومهم سهود و كحلهم دموع مثل أن يقول جودهم بخل و أمنهم خوف أي لو استماحهم محمد ع النوم لجادوا عليه بالسهود عوضا عنه و لو استجداهم الكحل لكان كحلهم الذي يصلونه به الدموع .
[ 138 ]

(18/4)

ثم قال بأرض عالمها ملجم أي من عرف صدق محمد ص و آمن به في تقية و خوف و جاهلها مكرم أي من جحد نبوته و كذبه في عز و منعة و هذا ظاهر : وَ مِنْهَا وَ يَعْنِي آلَ اَلنَّبِيِّ ص هُمْ مَوْضِعُ سَرِّهِ وَ لَجَأُ أَمْرِهِ وَ عَيْبَةُ عِلْمِهِ وَ مَوْئِلُ حُكْمِهِ وَ كُهُوفُ كُتُبِهِ وَ جِبَالُ دِينِهِ بِهِمْ أَقَامَ اِنْحِنَاءَ ظَهْرِهِ وَ أَذْهَبَ اِرْتِعَادَ فَرَائِصِهِ اللجأ ما تلتجئ إليه كالوزر ما تعتصم به و الموئل ما ترجع إليه يقول إن أمر النبي ص أي شأنه ملتجئ إليهم و علمه مودع عندهم كالثوب يودع العيبة . و حكمه أي شرعه يرجع و يؤول إليهم و كتبه يعني القرآن و السنة عندهم فهم كالكهوف له لاحتوائهم عليه و هم جبال دينه لا يتحلحلون عن الدين أو أن الدين ثابت بوجودهم كما أن الأرض ثابتة بالجبال و لو لا الجبال لمادت بأهلها . و الهاء في ظهره ترجع إلى الدين و كذلك الهاء في فرائصه و الفرائص جمع فريصة و هي اللحمة بين الجنب و الكتف لا تزال ترعد من الدابة : وَ مِنْهَا فِي اَلْمُنَافِقِينَ يَعْنِي قَوْماً آخَرِينَ زَرَعُوا اَلْفُجُورَ وَ سَقَوْهُ اَلْغُرُورَ وَ حَصَدُوا اَلثُّبُورَ لاَ يُقَاسُ بِآلِ مُحَمَّدٍ ص مِنْ هَذِهِ اَلْأُمَّةِ أَحَدٌ وَ لاَ يُسَوَّى بِهِمْ مَنْ جَرَتْ نِعْمَتُهُمْ عَلَيْهِ أَبَداً هُمْ أَسَاسُ اَلدِّينِ وَ عِمَادُ اَلْيَقِينِ إِلَيْهِمْ يَفِي ءُ اَلْغَالِي وَ بِهِمْ يُلْحَقُ
[ 139 ]

(18/5)

اَلتَّالِي وَ لَهُمْ خَصَائِصُ حَقِّ اَلْوِلاَيَةِ وَ فِيهِمُ اَلْوَصِيَّةُ وَ اَلْوِرَاثَةُ اَلآْنَ إِذْ رَجَعَ اَلْحَقُّ إِلَى أَهْلِهِ وَ نُقِلَ إِلَى مُنْتَقَلِهِ جعل ما فعلوه من القبيح بمنزلة زرع زرعوه ثم سقوه فالذي زرعوه الفجور ثم سقوه بالغرور و الاستعارة واقعة موقعها لأن تماديهم و ما سكنت إليه نفوسهم من الإمهال هو الذي أوجب استمرارهم على القبائح التي واقعوها فكان ذلك كما يسقى الزرع و يربى بالماء و يستحفظ . ثم قال و حصدوا الثبور أي كانت نتيجة ذلك الزرع و السقي حصاد ما هو الهلاك و العطب . و إشارته هذه ليست إلى المنافقين كما ذكر الرضي رحمه الله و إنما هي إشارة إلى من تغلب عليه و جحد حقه كمعاوية و غيره و لعل الرضي رحمه الله تعالى عرف ذلك و كنى عنه . ثم عاد إلى الثناء على آل محمد ص فقال هم أصول الدين إليهم يفي ء الغالي و بهم يلحق التالي جعلهم كمقنب يسير في فلاة فالغالي منه أي الفارط المتقدم الذي قد غلا في سيره يرجع إلى ذلك المقنب إذا خاف عدوا و من قد تخلف عن ذلك المقنب فصار تاليا له يلتحق به إذا أشفق من أن يتخطف . ثم ذكر خصائص حق الولاية و الولاية الإمرة فأما الإمامية فيقولون أراد نص النبي ص عليه و على أولاده و نحن نقول لهم خصائص حق ولاية الرسول ص على الخلق . ثم قال ع و فيهم الوصية و الوراثة أما الوصية فلا ريب عندنا أن عليا ع كان وصي رسول الله ص و إن خالف في ذلك من هو منسوب
[ 140 ]

(18/6)

عندنا إلى العناد و لسنا نعني بالوصية النص و الخلافة و لكن أمورا أخرى لعلها إذا لمحت أشرف و أجل . و أما الوراثة فالإمامية يحملونها على ميراث المال و الخلافة و نحن نحملها على وراثة العلم . ثم ذكر ع أن الحق رجع الآن إلى أهله و هذا يقتضي أن يكون فيما قبل في غير أهله و نحن نتأول ذلك على غير ما تذكره الإمامية و نقول إنه ع كان أولى بالأمر و أحق لا على وجه النص بل على وجه الأفضلية فإنه أفضل البشر بعد رسول الله ص و أحق بالخلافة من جميع المسلمين لكنه ترك حقه لما علمه من المصلحة و ما تفرس فيه هو و المسلمون من اضطراب الإسلام و انتشار الكلمة لحسد العرب له و ضغنهم عليه و جائز لمن كان أولى بشي ء فتركه ثم استرجعه أن يقول قد رجع الأمر إلى أهله . و أما قوله و انتقل إلى منتقله ففيه مضاف محذوف تقديره إلى موضع منتقله و المنتقل بفتح القاف مصدر بمعنى الانتقال كقولك لي في هذا الأمر مضطرب أي اضطراب قال
قد كان لي مضطرب واسع
في الأرض ذات الطول و العرض
و تقول ما معتقدك أي ما اعتقادك قد رجع الأمر إلى نصابه و إلى الموضع الذي هو على الحقيقة الموضع الذي يجب أن يكون انتقاله إليه . فإن قيل ما معنى قوله ع لا يقاس بآل محمد من هذه الأمة أحد و لا يسوى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا . قيل لا شبهة أن المنعم أعلى و أشرف من المنعم عليه و لا ريب أن محمدا ص
[ 141 ]

(18/7)

و أهله الأدنين من بني هاشم لا سيما عليا ع أنعموا على الخلق كافة بنعمة لا يقدر قدرها و هي الدعاء إلى الإسلام و الهداية إليه فمحمد ص و إن كان هدى الخلق بالدعوة التي قام بها بلسانه و يده و نصره الله تعالى له بملائكته و تأييده و هو السيد المتبوع و المصطفى المنتجب الواجب الطاعة إلا أن لعلي ع من الهداية أيضا و إن كان ثانيا لأول و مصليا على إثر سابق ما لا يجحد و لو لم يكن إلا جهاده بالسيف أولا و ثانيا و ما كان بين الجهادين من نشر العلوم و تفسير القرآن و إرشاد العرب إلى ما لم تكن له فاهمة و لا متصورة لكفى في وجوب حقه و سبوغ نعمته ع . فإن قيل لا ريب في أن كلامه هذا تعريض بمن تقدم عليه فأي نعمة له عليهم قيل نعمتان الأولى منهما الجهاد عنهم و هم قاعدون فإن من أنصف علم أنه لو لا سيف علي ع لاصطلم المشركون من أشار إليه و غيرهم من المسلمين و قد علمت آثاره في بدر و أحد و الخندق و خيبر و حنين و أن الشرك فيها فغرفاه فلو لا أن سده بسيفه لالتهم المسلمين كافة و الثانية علومه التي لولاه لحكم بغير الصواب في كثير من الأحكام و قد اعترف عمر له بذلك و الخبر مشهور لو لا علي لهلك عمر . و يمكن أن يخرج كلامه على وجه آخر و ذلك أن العرب تفضل القبيلة التي منها الرئيس الأعظم على سائر القبائل و تفضل الأدنى منه نسبا فالأدنى على سائر آحاد تلك القبيلة فإن بني دارم يفتخرون بحاجب و إخوته و بزرارة أبيهم على سائر بني تميم و يسوغ للواحد من أبناء بني دارم أن يقول لا يقاس ببني دارم أحد من بني تميم و لا يستوي بهم من جرت رئاستهم عليه أبدا و يعني بذلك أن واحدا من بني دارم قد رأس على بني تميم فكذلك لما كان رسول الله ص رئيس الكل
[ 142 ]

(18/8)

و المنعم على الكل جاز لواحد من بني هاشم لا سيما مثل علي ع أن يقول هذه الكلمات و اعلم أن عليا ع كان يدعي التقدم على الكل و الشرف على الكل و النعمة على الكل بابن عمه ص و بنفسه و بأبيه أبي طالب فإن من قرأ علوم السير عرف أن الإسلام لو لا أبو طالب لم يكن شيئا مذكورا . و ليس لقائل أن يقول كيف يقال هذا في دين تكفل الله تعالى بإظهاره سواء كان أبو طالب موجودا أو معدوما لأنا نقول فينبغي على هذا ألا يمدح رسول الله ص و لا يقال إنه هدى الناس من الضلالة و أنقذهم من الجهالة و إن له حقا على المسلمين و إنه لولاه لما عبد الله تعالى في الأرض و ألا يمدح أبو بكر و لا يقال إن له أثرا في الإسلام و إن عبد الرحمن و سعدا و طلحة و عثمان و غيرهم من الأولين في الدين اتبعوا رسول الله ص لاتباعه له و إن له يدا غير مجحودة في الإنفاق و اشتراء المعذبين و إعتاقهم و إنه لولاه لاستمرت الردة بعد الوفاة و ظهرت دعوة مسيلمة و طليحة و إنه لو لا عمر لما كانت الفتوح و لا جهزت الجيوش و لا قوي أمر الدين بعد ضعفه و لا انتشرت الدعوة بعد خمولها . فإن قلتم في كل ذلك إن هؤلاء يحمدون و يثنى عليهم لأن الله تعالى أجرى هذه الأمور على أيديهم و وفقهم لها و الفاعل بذلك بالحقيقة هو الله تعالى و هؤلاء آلة مستعملة و وسائط تجرى الأفعال على أيديها فحمدهم و الثناء عليهم و الاعتراف لهم إنما هو باعتبار ذلك . قيل لكم في شأن أبي طالب مثله .
[ 143 ]

(18/9)

و اعلم أن هذه الكلمات و هي قوله ع الآن إذ رجع الحق إلى أهله إلى آخرها يبعد عندي أن تكون مقولة عقيب انصرافه ع من صفين لأنه انصرف عنها وقتئذ مضطرب الأمر منتشر الحبل بواقعة التحكيم و مكيدة ابن العاص و ما تم لمعاوية عليه من الاستظهار و ما شاهد في عسكره من الخذلان و هذه الكلمات لا تقال في مثل هذه الحال و أخلق بها أن تكون قيلت في ابتداء بيعته قبل أن يخرج من المدينة إلى البصرة و أن الرضي رحمه الله تعالى نقل ما وجد و حكى ما سمع و الغلط من غيره و الوهم سابق له و ما ذكرناه واضح

(18/10)

ما ورد في الوصاية من الشعر
و مما رويناه من الشعر المقول في صدر الإسلام المتضمن كونه ع وصي رسول الله قول عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب
و منا علي ذاك صاحب خيبر
و صاحب بدر يوم سالت كتائبه
وصي النبي المصطفى و ابن عمه
فمن ذا يدانيه و من ذا يقاربه
و قال عبد الرحمن بن جعيل
لعمري لقد بايعتم ذا حفيظة
على الدين معروف العفاف موفقا
عليا وصي المصطفى و ابن عمه
و أول من صلى أخا الدين و التقى
و قال أبو الهيثم بن التيهان و كان بدريا
قل للزبير و قل لطلحة إننا
نحن الذين شعارنا الأنصار
نحن الذين رأت قريش فعلنا
يوم القليب أولئك الكفار
كنا شعار نبينا و دثاره
يفديه منا الروح و الأبصار
[ 144 ]
إن الوصي إمامنا و ولينا
برح الخفاء و باحت الأسرار
و قال عمر بن حارثة الأنصاري و كان مع محمد بن الحنفية يوم الجمل و قد لامه أبوه ع لما أمره بالحملة فتقاعس
أبا حسن أنت فصل الأمور
يبين بك الحل و المحرم
جمعت الرجال على راية
بها ابنك يوم الوغى مقحم
و لم ينكص المرء من خيفة
و لكن توالت له أسهم
فقال رويدا و لا تعجلوا
فإني إذا رشقوا مقدم
فأعجلته و الفتى مجمع
بما يكره الوجل المحجم
سمي النبي و شبه الوصي
و رايته لونها العندم
و قال رجل من الأزد يوم الجمل
هذا علي و هو الوصي
آخاه يوم النجوة النبي
و قال هذا بعدي الولي
وعاه واع و نسي الشقي
و خرج يوم الجمل غلام من بني ضبة شاب معلم من عسكر عائشة و هو يقول
نحن بني ضبة أعداء علي
ذاك الذي يعرف قدما بالوصي
و فارس الخيل على عهد النبي
ما أنا عن فضل علي بالعمي
لكنني أنعى ابن عفان التقي
إن الولي طالب ثأر الولي
و قال سعيد بن قيس الهمداني يوم الجمل و كان في عسكر علي ع
أية حرب أضرمت نيرانها
و كسرت يوم الوغى مرانها
[ 145 ]
قل للوصي أقبلت قحطانها
فادع بها تكفيكها همدانها
هم بنوها و هم إخوانها
و قال زياد بن لبيد الأنصاري يوم الجمل و كان من أصحاب علي ع

(19/1)

كيف ترى الأنصار في يوم الكلب
إنا أناس لا نبالي من عطب
و لا نبالي في الوصي من غضب
و إنما الأنصار جد لا لعب
هذا علي و ابن عبد المطلب
ننصره اليوم على من قد كذب
من يكسب البغي فبئس ما اكتسب
و قال حجر بن عدي الكندي في ذلك اليوم أيضا
يا ربنا سلم لنا عليا
سلم لنا المبارك المضيا
المؤمن الموحد التقيا
لا خطل الرأي و لا غويا
بل هاديا موفقا مهديا
و احفظه ربي و احفظ النبيا
فيه فقد كان له وليا
ثم ارتضاه بعده وصيا
و قال خزيمة بن ثابت الأنصاري ذو الشهادتين و كان بدريا في يوم الجمل أيضا
ليس بين الأنصار في جحمة الحرب
و بين العداة إلا الطعان
و قراع الكمأة بالقضب
البيض إذا ما تحطم المران
فادعها تستجب فليس من الخز
رج و الأوس يا علي جبان
يا وصي النبي قد أجلت
الحرب الأعادي و سارت الأظعان
و استقامت لك الأمور سوى
الشام و في الشام يظهر الإذعان
حسبهم ما رأوا و حسبك منا
هكذا نحن حيث كنا و كانوا
[ 146 ]
و قال خزيمة أيضا في يوم الجمل
أ عائش خلي عن علي و عيبه
بما ليس فيه إنما أنت والده
وصي رسول الله من دون أهله
و أنت على ما كان من ذاك شاهده
و حسبك منه بعض ما تعلمينه
و يكفيك لو لم تعلمي غير واحده
إذا قيل ما ذا عبت منه رميته
بخذل ابن عفان و ما تلك آبده
و ليس سماء الله قاطرة دما
لذاك و ما الأرض الفضاء بمائده
و قال ابن بديل بن ورقاء الخزاعي يوم الجمل أيضا
يا قوم للخطة العظمى التي حدثت
حرب الوصي و ما للحرب من آسي
الفاصل الحكم بالتقوى إذا ضربت
تلك القبائل أخماسا لأسداس
و قال عمرو بن أحيحة يوم الجمل في خطبة الحسن بن علي ع بعد خطبة عبد الله بن الزبير .
حسن الخير يا شبيه أبيه
قمت فينا مقام خير خطيب
قمت بالخطبة التي صدع
الله بها عن أبيك أهل العيوب
و كشفت القناع فاتضح
الأمر و أصلحت فاسدات القلوب
لست كابن الزبير لجلج في
القول و طأطأ عنان فسل مريب
و أبى الله أن يقوم بما
قام به ابن الوصي و ابن النجيب

(19/2)

إن شخصا بين النبي لك
الخير و بين الوصي غير مشوب
[ 147 ]
و قال زحر بن قيس الجعفي يوم الجمل أيضا
أضربكم حتى تقروا لعلي
خير قريش كلها بعد النبي
من زانه الله و سماه الوصي
إن الولي حافظ ظهر الولي
كما الغوي تابع أمر الغوي
ذكر هذه الأشعار و الأراجيز بأجمعها أبو مخنف لوط بن يحيى في كتاب وقعة الجمل و أبو مخنف من المحدثين و ممن يرى صحة الإمامة بالاختيار و ليس من الشيعة و لا معدودا من رجالها . و مما رويناه من أشعار صفين التي تتضمن تسميته ع بالوصي ما ذكره نصر بن مزاحم بن يسار المنقري في كتاب صفين و هو من رجال الحديث قال نصر بن مزاحم قال زحر بن قيس الجعفي
فصلى الإله على أحمد
رسول المليك تمام النعم
رسول المليك و من بعده
خليفتنا القائم المدعم
عليا عنيت وصي النبي
نجالد عنه غواه الأمم
قال نصر و من الشعر المنسوب إلى الأشعث بن قيس
أتانا الرسول رسول الإمام
فسر بمقدمه المسلمونا
رسول الوصي وصي النبي
له السبق و الفضل في المؤمنينا
[ 148 ]
و من الشعر المنسوب إلى الأشعث أيضا
أتانا الرسول رسول الوصي
علي المهذب من هاشم
وزير النبي و ذو صهره
و خير البرية و العالم
قال نصر بن مزاحم من شعر أمير المؤمنين ع في صفين
يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على الله يشيب الشعرا
ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
أن يقرنوا وصيه و الأبترا
شاني الرسول و اللعين الأخزرا
إني إذا الموت دنا و حضرا
شمرت ثوبي و دعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا
لا يدفع الحذار ما قد قدرا
لو أن عندي يا ابن حرب جعفرا
أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا
[ 149 ]
و قال جرير بن عبد الله البجلي كتب بهذا الشعر إلى شرحبيل بن السمط الكندي رئيس اليمانية من أصحاب معاوية
نصحتك يا ابن السمط لا تتبع الهوى
فما لك في الدنيا من الدين من بدل
و لا تك كالمجرى إلى شر غاية
فقد خرق السربال و استنوق الجمل
مقال ابن هند في علي عضيهة
و لله في صدر ابن أبي طالب أجل

(19/3)

و ما كان إلا لازما قعر بيته
إلى أن أتى عثمان في بيته الأجل
وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه الحامي به يضرب المثل
و قال النعمان بن عجلان الأنصاري
كيف التفرق و الوصي إمامنا
لا كيف إلا حيرة و تخاذلا
لا تغبنن عقولكم لا خير في
من لم يكن عند البلابل عاقلا
و ذروا معاوية الغوي و تابعوا
دين الوصي لتحمدوه آجلا
و قال عبد الرحمن بن ذؤيب الأسلمي
ألا أبلغ معاوية بن حرب
فما لك لا تهش إلى الضراب
فإن تسلم و تبق الدهر يوما
نزرك بجحفل عدد التراب
يقودهم الوصي إليك حتى
يردك عن ضلال و ارتياب
و قال المغيرة بن الحارث بن عبد المطلب
يا عصبة الموت صبرا لا يهولكم
جيش ابن حرب فإن الحق قد ظهرا
و أيقنوا أن من أضحى يخالفكم
أضحى شقيا و أمسى نفسه خسرا
[ 150 ]
فيكم وصي رسول الله قائدكم
و صهره و كتاب الله قد نشرا
و قال عبد الله بن العباس بن عبد المطلب
وصي رسول الله من دون أهله
و فارسه إن قيل هل من منازل
فدونكه إن كنت تبغي مهاجرا
أشم كنصل السيف عير حلاحل
و الأشعار التي تتضمن هذه اللفظة كثير جدا و لكنا ذكرنا منها هاهنا بعض ما قيل في هذين الحزبين فأما ما عداهما فإنه يجل عن الحصر و يعظم عن الإحصاء و العد و لو لا خوف الملالة و الإضجار لذكرنا من ذلك ما يملأ أوراقا كثيرة
[ 151 ]

(19/4)

3 ـ و من خطبة له و هي المعروفة بالشقشقية
أَمَا وَ اَللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا فُلاَنٌ [ اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ ] اِبْنُ أَبِي قُحَافَةَ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنْ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ اَلْقُطْبِ مِنَ اَلرَّحَى يَنْحَدِرُ عَنِّي اَلسَّيْلُ وَ لاَ يَرْقَى إِلَيَّ اَلطَّيْرُ فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ [ جِدٍّ ] أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ [ ظَلْمَةٍ ] عَمْيَاءَ يَهْرَمُ فِيهَا اَلْكَبِيرُ وَ يَشِيبُ فِيهَا اَلصَّغِيرُ وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ فَرَأَيْتُ أَنَّ اَلصَّبْرَ عَلَى هَاتَا أَحْجَى فَصَبَرْتُ وَ فِي اَلْعَيْنِ قَذًى وَ فِي اَلْحَلْقِ شَجًا أَرَى تُرَاثِي نَهْباً سدلت دونها ثوبا أي أرخيت يقول ضربت بيني و بينها حجابا فعل الزاهد فيها الراغب عنها و طويت عنها كشحا أي قطعتها و صرمتها و هو مثل قالوا لأن من كان إلى جانبك الأيمن ماثلا فطويت كشحك الأيسر فقد ملت عنه و الكشح ما بين الخاصرة و الجنب و عندي أنهم أرادوا غير ذلك و هو أن من أجاع نفسه فقد طوى كشحه كما أن من أكل و شبع فقد ملأ كشحه فكأنه أراد أني أجعت نفسي عنها و لم ألقمها و اليد الجذاء بالدال المهملة و بالذال المعجمة و الحاء المهملة مع الذال المعجمة كله بمعنى المقطوعة و الطخية قطعة من الغيم و السحاب و قوله عمياء تأكيد لظلام الحال و اسودادها يقولون مفازة عمياء أي يعمى فيها الدليل
[ 152 ]

(20/1)

و يكدح يسعى و يكد مع مشقة قال تعالى إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً و هاتا بمعنى هذه ها للتنبيه و تا للإشارة و معنى تا ذي و هذا أحجى من كذا أي أليق بالحجا و هو العقل . و في هذا الفصل من باب البديع في علم البيان عشرة ألفاظ . أولها قوله لقد تقمصها أي جعلها كالقميص مشتملة عليه و الضمير للخلافة و لم يذكرها للعلم بها كقوله سبحانه حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ و كقوله كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ و كقول حاتم
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
و هذه اللفظة مأخوذة من كتاب الله تعالى في قوله سبحانه وَ لِباسُ اَلتَّقْوى و قول النابغة
تسربل سربالا من النصر و ارتدى
عليه بعضب في الكريهة قاصل
الثانية قوله ينحدر عني السيل يعني رفعة منزلته ع كأنه في ذروة جبل أو يفاع مشرف ينحدر السيل عنه إلى الوهاد و الغيطان قال الهذلي
و عيطاء يكثر فيها الزليل
و ينحدر السيل عنها انحدارا
الثالثة قوله ع و لا يرقى إلي الطير هذه أعظم في الرفعة و العلو من التي قبلها لأن السيل ينحدر عن الرابية و الهضبة و أما تعذر رقي الطير فربما يكون للقلال الشاهقة جدا بل ما هو أعلى من قلال الجبال كأنه يقول إني لعلو منزلتي كمن في السماء التي يستحيل أن يرقى الطير إليها قال أبو الطيب
فوق السماء و فوق ما طلبوا * فإذا أرادوا غاية نزلوا
[ 153 ]
و قال حبيب
مكارم لجت في علو كأنما
تحاول ثأرا عند بعض الكواكب

(20/2)

الرابعة قوله سدلت دونها ثوبا قد ذكرناه . الخامسة قوله و طويت عنها كشحا قد ذكرناه أيضا . السادسة قوله أصول بيد جذاء قد ذكرناه . السابعة قوله أصبر على طخية عمياء قد ذكرناه أيضا . الثامنة قوله و في العين قذى أي صبرت على مضض كما يصبر الأرمد . التاسعة قوله و في الحلق شجا و هو ما يعترض في الحلق أي كما يصبر من غص بأمر فهو يكابد الخنق . العاشرة قوله أرى تراثي نهبا كنى عن الخلافة بالتراث و هو الموروث من المال . فأما قوله ع إن محلي منها محل القطب من الرحى فليس من هذا النمط الذي نحن فيه و لكنه تشبيه محض خارج من باب الاستعارة و التوسع يقول كما أن الرحى لا تدور إلا على القطب و دورانها بغير قطب لا ثمرة له و لا فائدة فيه كذلك نسبتي إلى الخلافة فإنها لا تقوم إلا بي و لا يدور أمرها إلا علي . هكذا فسروه و عندي أنه أراد أمرا آخر و هو أني من الخلافة في الصميم و في وسطها و بحبوحتها كما أن القطب وسط دائرة الرحى قال الراجز
[ 154 ]
على قلاص مثل خيطان السلم
إذا قطعن علما بدا علم
حتى أنحناها إلى باب الحكم
خليفة الحجاج غير المتهم
في سرة المجد و بحبوح الكرم
و قال أمية بن أبي الصلت لعبد الله بن جدعان
فحللت منها بالبطاح
و حل غيرك بالظواهر
و أما قوله يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير فيمكن أن يكون من باب الحقائق و يمكن أن يكون من باب المجازات و الاستعارات أما الأول فإنه يعني به طول مدة ولاية المتقدمين عليه فإنها مدة يهرم فيها الكبير و يشيب فيها الصغير . و أما الثاني فإنه يعني بذلك صعوبة تلك الأيام حتى أن الكبير من الناس يكاد يهرم لصعوبتها و الصغير يشيب من أهوالها كقولهم هذا أمر يشيب له الوليد و إن لم يشب على الحقيقة .
[ 155 ]

(20/3)

و اعلم أن في الكلام تقديما و تأخيرا و تقديره و لا يرقى إلي الطير فطفقت أرتئي بين كذا و كذا فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى فسدلت دونها ثوبا و طويت عنها كشحا ثم فصبرت و في العين قذى إلى آخر القصة لأنه لا يجوز أن يسدل دونها ثوبا و يطوي عنها كشحا ثم يطفق يرتئي بين أن ينابذهم أو يصبر أ لا ترى أنه إذا سدل دونها ثوبا و طوى عنها كشحا فقد تركها و صرمها و من يترك و يصرم لا يرتئي في المنابذة و التقديم و التأخير طريق لاحب و سبيل مهيع في لغة العرب قال سبحانه اَلَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ اَلْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً أي أنزل على عبده الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هذا كثير . و قوله ع حتى يلقى ربه بالوقف و الإسكان كما جاءت به الرواية في قوله سبحانه ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ بالوقف أيضا

(20/4)

نسب أبي بكر و نبذة من أخبار أبيه
ابن أبي قحافة المشار إليه هو أبو بكر و اسمه القديم عبد الكعبة فسماه رسول الله ص عبد الله و اختلفوا في عتيق فقيل كان اسمه في الجاهلية و قيل بل سماه به رسول الله ص و اسم أبي قحافة عثمان و هو عثمان بن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب و أمه ابنة عم أبيه و هي أم الخير بنت صخر بن عمرو بن كعب بن سعد أسلم أبو قحافة يوم الفتح جاء به ابنه أبو بكر إلى النبي ص و هو شيخ كبير رأسه كالثغامة البيضاء فأسلم فقال رسول الله ص غيروا شيبته .
[ 156 ]
و ولي ابنه الخلافة و هو حي منقطع في بيته مكفوف عاجز عن الحركة فسمع ضوضاء الناس فقال ما الخبر فقالوا ولي ابنك الخلافة فقال رضيت بنو عبد مناف بذلك قالوا نعم قال اللهم لا مانع لما أعطيت و لا معطي لما منعت . و لم يل الخلافة من أبوه حي إلا أبو بكر و أبو بكر عبد الكريم الطائع لله ولي الأمر و أبوه المطيع حي خلع نفسه من الخلافة و عهد بها إلى ابنه و كان المنصور يسمي عبد الله بن الحسن بن الحسن أبا قحافة تهكما به لأن ابنه محمدا ادعى الخلافة و أبوه حي . و مات أبو بكر و أبو قحافة حي فسمع الأصوات فسأل فقيل مات ابنك فقال رزء جليل و توفي أبو قحافة في أيام عمر في سنة أربع عشرة للهجرة و عمره سبع و تسعون سنة و هي السنة التي توفي فيها نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم . إن قيل بينوا لنا ما عندكم في هذا الكلام أ ليس صريحه دالا على تظليم القوم و نسبتهم إلى اغتصاب الأمر فما قولكم في ذلك إن حكمتم عليهم بذلك فقد طعنتم فيهم و إن لم تحكموا عليهم بذلك فقد طعنتم في المتظلم المتكلم عليهم . قيل أما الإمامية من الشيعة فتجري هذه الألفاظ على ظواهرها و تذهب إلى أن النبي ص نص على أمير المؤمنين ع و أنه غصب حقه .
[ 157 ]

(21/1)

و أما أصحابنا رحمهم الله فلهم أن يقولوا إنه لما كان أمير المؤمنين ع هو الأفضل و الأحق و عدل عنه إلى من لا يساويه في فضل و لا يوازيه في جهاد و علم و لا يماثله في سؤدد و شرف ساغ إطلاق هذه الألفاظ و إن كان من وسم بالخلافة قبله عدلا تقيا و كانت بيعته بيعة صحيحة أ لا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة فيجعل السلطان الأنقص علما منهما قاضيا فيتوجد الأعلم و يتألم و ينفث أحيانا بالشكوى و لا يكون ذلك طعنا في القاضي و لا تفسيقا له و لا حكما منه بأنه غير صالح بل للعدول عن الأحق و الأولى و هذا أمر مركوز في طباع البشر و مجبول في أصل الغريزة و الفطرة فأصحابنا رحمهم الله لما أحسنوا الظن بالصحابة و حملوا ما وقع منهم على وجه الصواب و أنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام و خافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة فقط بل و تفضي إلى ذهاب النبوة و الملة فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر دونه فعقدوا له احتاجوا إلى تأويل هذه الألفاظ الصادرة عمن يعتقدونه في الجلالة و الرفعة قريبا من منزلة النبوة فتأولوها بهذا التأويل و حملوها على التألم للعدول عن الأولى . و ليس هذا بأبعد من تأويل الإمامية قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى و قولهم معنى عصى أنه عدل عن الأولى لأن الأمر بترك أكل الشجرة كان أمرا على سبيل الندب فلما تركه آدم كان تاركا للأفضل و الأولى فسمي عاصيا باعتبار مخالفة الأولى و حملوا غوى على خاب لا على الغواية بمعنى الضلال و معلوم أن تأويل كلام أمير المؤمنين ع و حمله على أنه شكا من تركهم الأولى أحسن من حمل قوله تعالى وَ عَصى آدَمُ على أنه ترك الأولى .
[ 158 ]

(21/2)

إن قيل لا تخلو الصحابة إما أن تكون عدلت عن الأفضل لعلة و مانع في الأفضل أو لا لمانع فإن كان لا لمانع كان ذلك عقدا للمفضول بالهوى فيكون باطلا و إن كان لمانع و هو ما تذكرونه من خوف الفتنة و كون الناس كانوا يبغضون عليا ع و يحسدونه فقد كان يجب أن يعذرهم أمير المؤمنين ع في العدول عنه و يعلم أن العقد لغيره هو المصلحة للإسلام فكيف حسن منه أن يشكوهم بعد ذلك و يتوجد عليهم . و أيضا فما معنى قوله فطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء على ما تأولتم به كلامه فإن تارك الأولى لا يصال عليه بالحرب . قيل يجوز أن يكون أمير المؤمنين ع لم يغلب على ظنه ما غلب على ظنون الصحابة من الشغب و ثوران الفتنة و الظنون تختلف باختلاف الأمارات فرب إنسان يغلب على ظنه أمر يغلب على ظن غيره خلافه و أما قوله أرتئي بين أن أصول فيجوز أن يكون لم يعن به صيال الحرب بل صيال الجدل و المناظرة يبين ذلك أنه لو كان جادلهم و أظهر ما في نفسه لهم فربما خصموه بأن يقولوا له قد غلب على ظنوننا أن الفساد يعظم و يتفاقم إن وليت الأمر و لا يجوز مع غلبة ظنوننا لذلك أن نسلم الأمر إليك فهو ع قال طفقت أرتئي بين أن أذكر لهم فضائلي عليهم و أحاجهم بها فيجيبوني بهذا الضرب من الجواب الذي تصير حجتي به جذاء مقطوعة و لا قدرة لي على تشييدها و نصرتها و بين أن أصبر على ما منيت به و دفعت إليه . إن قيل إذا كان ع لم يغلب على ظنه وجود العلة و المانع فيه و قد استراب الصحابة و شكاهم لعدولهم عن الأفضل الذي لا علة فيه عنده فقد سلمتم أنه ظلم الصحابة و نسبهم إلى غصب حقه فما الفرق بين ذلك و بين أن يستظلمهم لمخالفة النص و كيف
[ 159 ]

(21/3)

هربتم من نسبته لهم إلى الظلم لدفع النص و وقعتم في نسبته لهم إلى الظلم لخلاف الأولى من غير علة في الأولى و معلوم أن مخالفة الأولى من غير علة في الأولى كتارك النص لأن العقد في كلا الموضعين يكون فاسدا . قيل الفرق بين الأمرين ظاهر لأنه ع لو نسبهم إلى مخالفة النص لوجب وجود النص و لو كان النص موجودا لكانوا فساقا أو كفارا لمخالفته و أما إذا نسبهم إلى ترك الأولى من غير علة في الأولى فقد نسبهم إلى أمر يدعون فيه خلاف ما يدعي ع و أحد الأمرين لازم و هو إما أن يكون ظنهم صحيحا أو غير صحيح فإن كان ظنهم هو الصحيح فلا كلام في المسألة و إن لم يكن ظنهم صحيحا كانوا كالمجتهد إذا ظن و أخطأ فإنه معذور و مخالفة النص أمر خارج عن هذا الباب لأن مخالفه غير معذور بحال فافترق المحملان

(21/4)

مرض رسول الله و أمره أسامة بن زيد على الجيش
لما مرض رسول الله ص مرض الموت دعا أسامة بن زيد بن حارثة فقال سر إلى مقتل أبيك فأوطئهم الخيل فقد وليتك على هذا الجيش و إن أظفرك الله بالعدو فأقلل اللبث و بث العيون و قدم الطلائع فلم يبق أحد من وجوه المهاجرين و الأنصار إلا كان في ذلك الجيش منهم أبو بكر و عمر فتكلم قوم و قالوا يستعمل هذا الغلام على جلة المهاجرين و الأنصار فغضب رسول الله ص لما سمع ذلك و خرج عاصبا رأسه فصعد المنبر و عليه قطيفة فقال أيها الناس ما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأمير أسامة لئن طعنتم في تأميري أسامة فقد طعنتم في تأميري أباه من قبله و ايم الله إن كان لخليقا بالإمارة و ابنه من بعده لخليق بها
[ 160 ]

(22/1)

و إنهما لمن أحب الناس إلي فاستوصوا به خيرا فإنه من خياركم ثم نزل و دخل بيته و جاء المسلمون يودعون رسول الله ص و يمضون إلى عسكر أسامة بالجرف . و ثقل رسول الله ص و اشتد ما يجده فأرسل بعض نسائه إلى أسامة و بعض من كان معه يعلمونهم ذلك فدخل أسامة من معسكره و النبي ص مغمور و هو اليوم الذي لدوه فيه فتطأطأ أسامة عليه فقبله و رسول الله ص قد أسكت فهو لا يتكلم فجعل يرفع يديه إلى السماء ثم يضعهما على أسامة كالداعي له ثم أشار إليه بالرجوع إلى عسكره و التوجه لما بعثه فيه فرجع أسامة إلى عسكره ثم أرسل نساء رسول الله ص إلى أسامة يأمرنه بالدخول و يقلن إن رسول الله ص قد أصبح بارئا فدخل أسامة من معسكره يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول فوجد رسول الله ص مفيقا فأمره بالخروج و تعجيل النفوذ و قال اغد على بركة الله و جعل يقول أنفذوا بعث أسامة و يكرر ذلك فودع رسول الله ص و خرج و معه أبو بكر و عمر فلما ركب جاءه رسول أم أيمن فقال إن رسول الله ص يموت فأقبل و معه أبو بكر و عمر و أبو عبيدة فانتهوا إلى رسول الله ص حين زالت الشمس من هذا اليوم و هو يوم الإثنين و قد مات و اللواء مع بريدة بن الحصيب فدخل باللواء فركزه عند باب رسول الله ص و هو مغلق و علي ع و بعض بني هاشم مشتغلون بإعداد جهازه و غسله فقال العباس لعلي و هما في الدار امدد يدك أبايعك فيقول الناس عم رسول الله بايع ابن عم رسول الله فلا يختلف عليك
[ 161 ]
اثنان فقال له أ و يطمع يا عم فيها طامع غيري قال ستعلم فلم يلبثا أن جاءتهما الأخبار بأن الأنصار أقعدت سعدا لتبايعه و أن عمر جاء بأبي بكر فبايعه و سبق الأنصار بالبيعة فندم علي ع على تفريطه في أمر البيعة و تقاعده عنها و أنشده العباس قول دريد
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى
فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

(22/2)

و تزعم الشيعة أن رسول الله ص كان يعلم موته و أنه سير أبا بكر و عمر في بعث أسامة لتخلو دار الهجرة منهما فيصفو الأمر لعلي ع و يبايعه من تخلف من المسلمين بالمدينة على سكون و طمأنينة فإذا جاءهما الخبر بموت رسول الله ص و بيعة الناس لعلي ع بعده كانا عن المنازعة و الخلاف أبعد لأن العرب كانت تلتزم بإتمام تلك البيعة و يحتاج في نقضها إلى حروب شديدة فلم يتم له ما قدر و تثاقل أسامة بالجيش أياما مع شدة حث رسول الله ص على نفوذه و خروجه بالجيش حتى مات ص و هما بالمدينة فسبقا عليا إلى البيعة و جرى ما جرى . و هذا عندي غير منقدح لأنه إن كان ص يعلم موته فهو أيضا يعلم أن أبا بكر سيلي الخلافة و ما يعلمه لا يحترس منه و إنما يتم هذا و يصح إذا فرضنا أنه ع كان يظن موته و لا يعلمه حقيقة و يظن أن أبا بكر و عمر يتمالآن على ابن عمه و يخاف وقوع ذلك منهما و لا يعلمه حقيقة فيجوز إن كانت الحال هكذا أن ينقدح هذا التوهم و يتطرق هذا الظن كالواحد منا له ولدان يخاف من أحدهما
[ 162 ]
أن يتغلب بعد موته على جميع ماله و لا يوصل أخاه إلى شي ء من حقه فإنه قد يخطر له عند مرضه الذي يتخوف أن يموت فيه أن يأمر الولد المخوف جانبه بالسفر إلى بلد بعيد في تجارة يسلمها إليه يجعل ذلك طريقا إلى دفع تغلبه على الولد الآخر : حَتَّى مَضَى اَلْأَوَّلُ لِسَبِيلِهِ فَأَدْلَى بِهَا إِلَى فُلاَنٍ اِبْنِ اَلْخَطَّابِ بَعْدَهُ ثُمَّ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلْأَعْشَى إِلَى اِبْنِ اَلْخَطَّابِ
شَتَّانَ مَا يَوْمِي عَلَى كُورِهَا
وَ يَوْمُ حَيَّانَ أَخِي جَابِرِ

(22/3)

فَيَا عَجَباً بَيْنَا هُوَ يَسْتَقِيلُهَا فِي حَيَاتِهِ إِذْ عَقَدَهَا لآِخَرَ بَعْدَ وَفَاتِهِ لَشَدَّ مَا تَشَطَّرَا ضَرْعَيْهَا فَصَيَّرَهَا فِي حَوْزَةٍ خَشْنَاءَ يَغْلُظُ كَلْمُهَا [ كَلاَمُهَا ] وَ يَخْشُنُ مَسُّهَا وَ يَكْثُرُ اَلْعِثَارُ فِيهَا وَ اَلاِعْتِذَارُ مِنْهَا فَصَاحِبُهَا كَرَاكِبِ اَلصَّعْبَةِ إِنْ أَشْنَقَ لَهَا خَرَمَ وَ إِنْ أَسْلَسَ لَهَا تَقَحَّمَ فَمُنِيَ اَلنَّاسُ لَعَمْرُ اَللَّهِ بِخَبْطٍ وَ شِمَاسٍ وَ تَلَوُّنٍ وَ اِعْتِرَاضٍ فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ اَلْمُدَّةِ وَ شِدَّةِ اَلْمِحْنَةِ مضى لسبيله مات و السبيل الطريق و تقديره مضى على سبيله و تجي ء اللام بمعنى على كقوله
فخر صريعا لليدين و للفم
و قوله فأدلى بها من قوله تعالى وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ
[ 163 ]
وَ تُدْلُوا بِها إِلَى اَلْحُكَّامِ أي تدفعوها إليهم رشوة و أصله من أدليت الدلو في البئر أرسلتها . فإن قلت فإن أبا بكر إنما دفعها إلى عمر حين مات و لا معنى للرشوة عند الموت . قلت لما كان ع يرى أن العدول بها عنه إلى غيره إخراج لها إلى غير جهة الاستحقاق شبه ذلك بإدلاء الإنسان بماله إلى الحاكم فإنه إخراج للمال إلى غير وجهه فكان ذلك من باب الاستعارة .

(22/4)

عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب
و ابن الخطاب هو أبو حفص عمر الفاروق و أبوه الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب و أم عمر حنتمة بنت هاشم بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . لما احتضر أبو بكر قال للكاتب اكتب هذا ما عهد عبد الله بن عثمان آخر عهده بالدنيا و أول عهده بالآخرة في الساعة التي يبر فيها الفاجر و يسلم فيها الكافر ثم أغمي عليه فكتب الكاتب عمر بن الخطاب ثم أفاق أبو بكر فقال اقرأ ما كتبت فقرأ و ذكر اسم عمر فقال أنى لك هذا قال ما كنت لتعدوه فقال أصبت ثم قال أتم كتابك قال ما أكتب قال اكتب و ذلك حيث أجال رأيه و أعمل فكره فرأى أن هذا الأمر لا يصلح آخره إلا بما يصلح به أوله و لا يحتمله إلا أفضل العرب مقدرة و أملكهم لنفسه و أشدهم في حال الشدة و أسلسهم في حال اللين و أعلمهم برأي ذوي الرأي لا يتشاغل بما لا يعنيه و لا يحزن لما لم ينزل به
[ 164 ]

(23/1)

و لا يستحي من التعلم و لا يتحير عند البديهة قوي على الأمور لا يجوز بشي ء منها حده عدوانا و لا تقصيرا يرصد لما هو آت عتاده من الحذر . فلما فرغ من الكتاب دخل عليه قوم من الصحابة منهم طلحة فقال له ما أنت قائل لربك غدا و قد وليت علينا فظا غليظا تفرق منه النفوس و تنفض عنه القلوب . فقال أبو بكر أسندوني و كان مستلقيا فأسندوه فقال لطلحة أ بالله تخوفني إذا قال لي ذلك غدا قلت له وليت عليهم خير أهلك . و يقال أصدق الناس فراسة ثلاثة العزيز في قوله لامرأته عن يوسف ع وَ قالَ اَلَّذِي اِشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً و ابنة شعيب حيث قالت لأبيها في موسى يا أَبَتِ اِسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اِسْتَأْجَرْتَ اَلْقَوِيُّ اَلْأَمِينُ و أبو بكر في عمر . و روى كثير من الناس أن أبا بكر لما نزل به الموت دعا عبد الرحمن بن عوف فقال أخبرني عن عمر فقال إنه أفضل من رأيك فيه إلا أن فيه غلظة فقال أبو بكر ذاك لأنه يراني رقيقا و لو قد أفضى الأمر إليه لترك كثيرا مما هو عليه و قد رمقته إذا أنا غضبت على رجل أراني الرضا عنه و إذا لنت له أراني الشدة عليه ثم دعا عثمان بن عفان فقال أخبرني عن عمر فقال سريرته خير من علانيته و ليس فينا مثله فقال لهما لا تذكرا مما قلت لكما شيئا و لو تركت عمر لما عدوتك يا عثمان و الخيرة لك ألا تلي من أمورهم شيئا و لوددت أني كنت من أموركم خلوا و كنت فيمن مضى من سلفكم و دخل طلحة بن عبيد الله على أبي بكر فقال إنه بلغني أنك يا خليفة
[ 165 ]

(23/2)

رسول الله استخلفت على الناس عمر و قد رأيت ما يلقى الناس منه و أنت معه فكيف به إذا خلا بهم و أنت غدا لاق ربك فيسألك عن رعيتك فقال أبو بكر أجلسوني ثم قال أ بالله تخوفني إذا لقيت ربي فسألني قلت استخلفت عليهم خير أهلك فقال طلحة أ عمر خير الناس يا خليفة رسول الله فاشتد غضبه و قال إي و الله هو خيرهم و أنت شرهم أما و الله لو وليتك لجعلت أنفك في قفاك و لرفعت نفسك فوق قدرها حتى يكون الله هو الذي يضعها أتيتني و قد دلكت عينك تريد أن تفتنني عن ديني و تزيلني عن رأيي قم لا أقام الله رجليك أما و الله لئن عشت فواق ناقة و بلغني أنك غمصته فيها أو ذكرته بسوء لألحقنك بمحمضات قنة حيث كنتم تسقون و لا تروون و ترعون و لا تشبعون و أنتم بذلك بجحون راضون فقام طلحة فخرج . أحضر أبو بكر عثمان و هو يجود بنفسه فأمره أن يكتب عهدا و قال اكتب بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما عهد عبد الله بن عثمان إلى المسلمين أما بعد ثم أغمي عليه و كتب عثمان قد استخلفت عليكم عمر بن الخطاب و أفاق أبو بكر فقال اقرأ فقرأه فكبر أبو بكر و سر و قال أراك خفت أن يختلف الناس أن مت في غشيتي قال نعم قال جزاك الله خيرا عن الإسلام و أهله ثم أتم العهد و أمر أن يقرأ على الناس فقرئ عليهم ثم أوصى عمر فقال له إن لله حقا بالليل لا يقبله في النهار و حقا في النهار لا يقبله بالليل و إنه لا يقبل نافلة ما لم تؤد الفريضة و إنما ثقلت موازين من اتبع الحق مع ثقله عليه و إنما خفت موازين من اتبع الباطل لخفته عليه إنما أنزلت آية الرخاء مع آية الشدة لئلا يرغب المؤمن رغبة يتمنى فيها على الله ما ليس له و لئلا
[ 166 ]

(23/3)

يرهب رهبة يلقى فيها بيده فإن حفظت وصيتي فلا يكن غائب أحب إليك من الموت و لست معجزة ثم توفي أبو بكر . دعا أبو بكر عمر يوم موته بعد عهده إليه فقال إني لأرجو أن أموت في يومي هذا فلا تمسين حتى تندب الناس مع المثنى بن حارثة و إن تأخرت إلى الليل فلا تصبحن حتى تندب الناس معه و لا تشغلنكم مصيبة عن دينكم و قد رأيتني متوفى رسول الله ص كيف صنعت . و توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء لثمان بقين من جمادى الآخرة من سنة ثلاث عشرة . و أما البيت الذي تمثل به ع فإنه للأعشى الكبير أعشى قيس و هو أبو بصير ميمون بن قيس بن جندل من القصيدة التي قالها في منافرة علقمة بن علاثة و عامر بن الطفيل و أولها
علقم ما أنت إلى عامر
الناقض الأوتار و الواتر
يقول فيها
و قد أسلي الهم إذ يعتري
بجسرة دوسرة عاقر
زيافة بالرحل خطارة
تلوي بشرخي ميسة قاتر
شرخا الرحل مقدمه و مؤخره و الميس شجر يتخذ منه الرحال و رحل قاتر جيد الوقوع على ظهر البعير
[ 167 ]
شتان ما يومي على كورها
و يوم حيان أخي جابر
أرمي بها البيداء إذ هجرت
و أنت بين القرو و العاصر
في مجدل شيد بنيانه
يزل عنه ظفر الطائر

(23/4)

تقول شتان ما هما و شتان هما و لا يجوز شتان ما بينهما إلا على قول ضعيف . و شتان أصله شتت كوشكان ذا خروجا من وشك و حيان و جابر ابنا السمين الحنفيان و كان حيان صاحب شراب و معاقرة خمر و كان نديم الأعشى و كان أخوه جابر أصغر سنا منه فيقال إن حيان قال للأعشى نسبتني إلى أخي و هو أصغر سنا مني فقال إن الروي اضطرني إلى ذلك فقال و الله لا نازعتك كأسا أبدا ما عشت يقول شتان يومي و أنا في الهاجرة و الرمضاء أسير على كور هذه الناقة و يوم حيان و هو في سكرة الشراب ناعم البال مرفه من الأكدار و المشاق و القرو شبه حوض يتخذ من جذع أو من شجر ينبذ فيه و العاصر الذي يعتصر العنب و المجدل الحصن المنيع . و شبيه بهذا المعنى قول الفضل بن الربيع في أيام فتنة الأمين يذكر حاله و حال أخيه المأمون إنما نحن شعب من أصل إن قوي قوينا و إن ضعف ضعفنا و إن هذا الرجل قد ألقى بيده إلقاء الأمة الوكعاء يشاور النساء و يقدم على الرؤيا قد أمكن أهل الخسارة و اللهو من سمعه فهم يمنونه الظفر و يعدونه عقب الأيام و الهلاك أسرع إليه من السيل إلى قيعان الرمل ينام نوم الظربان و ينتبه انتباه الذئب همه بطنه و فرجه لا يفكر في زوال نعمة و لا يروى في إمضاء رأي و لا مكيدة قد شمر له عبد الله
[ 168 ]
عن ساقه و فوق إليه أسد سهامه يرميه على بعد الدار بالحتف النافذ و الموت القاصد قد عبا له المنايا على متون الخيل و ناط له البلايا بأسنة الرماح و شفار السيوف فهو كما قال الشاعر
لشتان ما بيني و بين ابن خالد
أمية في الرزق الذي الله يقسم
يقارع أتراك ابن خاقان ليله
إلى أن يرى الإصباح لا يتلعثم
و آخذها حمراء كالمسك ريحها
لها أرج من دنها يتنسم
فيصبح من طول الطراد و جسمه
نحيل و أضحي في النعيم أصمم

(23/5)

و أمية المذكور في هذا الشعر هو أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد بن أبي العيص بن أمية بن عبد شمس كان والي خراسان و حارب الترك و الشعر للبعيث . يقول أمير المؤمنين ع شتان بين يومي في الخلافة مع ما انتقض علي من الأمر و منيت به من انتشار الحبل و اضطراب أركان الخلافة و بين يوم عمر حيث وليها على قاعدة ممهدة و أركان ثابتة و سكون شامل فانتظم أمره و اطرد حاله و سكنت أيامه . قوله ع فيا عجبا أصله فيا عجبي كقولك يا غلامي ثم قلبوا الياء ألفا فقالوا يا عجبا كقولهم يا غلاما فإن وقفت وقفت على هاء السكت فقلت يا عجباه و يا غلاماه قال العجب منه و هو يستقيل المسلمين من الخلافة أيام حياته فيقول أقيلوني ثم يعقدها عند وفاته لآخر و هذا يناقض الزهد فيها و الاستقالة منها و قال شاعر من شعراء الشيعة
حملوها يوم السقيفة
أوزارا تخف الجبال و هي ثقال
[ 169 ]
ثم جاءوا من بعدها
يستقيلون و هيهات عثرة لا تقال
و قد اختلف الرواة في هذه اللفظة فكثير من الناس رواها أقيلوني فلست بخيركم و من الناس من أنكر هذه اللفظة و لم يروها و إنما روى قوله وليتكم و لست بخيركم و احتج بذلك من لم يشترط الأفضلية في الإمامة و من رواها اعتذر لأبي بكر فقال إنما قال أقيلوني ليثور ما في نفوس الناس من بيعته و يخبر ما عندهم من ولايته فيعلم مريدهم و كارههم و محبهم و مبغضهم فلما رأى النفوس إليه ساكنة و القلوب لبيعته مذعنة استمر على إمارته و حكم حكم الخلفاء في رعيته و لم يكن منكرا منه أن يعهد إلى من استصلحه لخلافته . قالوا و قد جرى مثل ذلك لعلي ع فإنه قال للناس بعد قتل عثمان

(23/6)

دعوني و التمسوا غيري فأنا لكم وزيرا خير مني لكم أميرا و قال لهم اتركوني فأنا كأحدكم بل أنا أسمعكم و أطوعكم لمن وليتموه أمركم فأبوا عليه و بايعوه فكرهها أولا ثم عهد بها إلى الحسن ع عند موته . قالت الإمامية هذا غير لازم و الفرق بين الموضعين ظاهر لأن عليا ع لم يقل إني لا أصلح و لكنه كره الفتنة و أبو بكر قال كلاما معناه أني لا أصلح لها لقوله لست بخيركم و من نفى عن نفسه صلاحيته للإمامة لا يجوز أن يعهد بها إلى غيره . و اعلم أن الكلام في هذا الموضع مبني على أن الأفضلية هل هي شرط في الإمامة أم لا و قد تكلمنا في شرح الغرر لشيخنا أبي الحسين رحمه الله تعالى في هذا البحث بما لا يحتمله هذا الكتاب
[ 170 ]
و قوله ع لشد ما تشطرا ضرعيها شد أصله شدد كقولك حب في حبذا أصله حبب و معنى شد صار شديدا جدا و معنى حب صار حبيبا قال البحتري
شد ما أغريت ظلوم بهجري
بعد وجدي بها و غلة صدري

(23/7)

و للناقة أربعة أخلاف خلفان قادمان و خلفان آخران و كل اثنين منهما شطر و تشطرا ضرعيها اقتسما فائدتهما و نفعهما و الضمير للخلافة و سمى القادمين معا ضرعا و سمى الآخرين معا ضرعا لما كانا لتجاورهما و لكونهما لا يحلبان إلا معا كشي ء واحد . قوله ع فجعلها في حوزة خشناء أي في جهة صعبة المرام شديدة الشكيمة و الكلم الجرح . و قوله يغلظ من الناس من قال كيف قال يغلظ كلمها و الكلم لا يوصف بالغلظ و هذا قلة فهم بالفصاحة أ لا ترى كيف قد وصف الله سبحانه العذاب بالغلظ فقال وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ أي متضاعف لأن الغليظ من الأجسام هو ما كثف و جسم فكان أجزاؤه و جواهره متضاعفة فلما كان العذاب أعاذنا الله منه متضاعفا سمي غليظا و كذلك الجرح إذا أمعن و عمق فكأنه قد تضاعف و صار جروحا فسمي غليظا . إن قيل قد قال ع في حوزة خشناء فوصفها بالخشونة فكيف أعاد ذكر الخشونة ثانية فقال يخشن مسها . قيل الاعتبار مختلف لأن مراده بقوله في حوزة خشناء أي لا ينال ما عندها و لا يرام يقال إن فلانا لخشن الجانب و وعر الجانب و مراده بقوله يخشن
[ 171 ]
مسها أي تؤذي و تضر و تنكئ من يمسها يصف جفاء أخلاق الوالي المذكور و نفور طبعه و شدة بادرته . قوله ع و يكثر العثار فيها و الاعتذار منها يقول ليست هذه الجهة جددا مهيعا بل هي كطريق كثير الحجارة لا يزال الماشي فيه عاثرا . و أما منها في قوله ع و الاعتذار منها فيمكن أن تكون من على أصلها يعني أن عمر كان كثيرا ما يحكم بالأمر ثم ينقضه و يفتي بالفتيا ثم يرجع عنها و يعتذر مما أفتى به أولا و يمكن أن تكون من هاهنا للتعليل و السببية أي و يكثر اعتذار الناس عن أفعالهم و حركاتهم لأجلها قال
أ من رسم دار مربع و مصيف
لعينيك من ماء الشئون و كيف

(23/8)

أي لأجل أن رسم المربع و المصيف هذه الدار و كف دمع عينيك . و الصعبة من النوق ما لم تركب و لم ترض إن أشنق لها راكبها بالزمام خرم أنفها و إن أسلس زمامها تقحم في المهالك فألقته في مهواة أو ماء أو نار أو ندت فلم تقف حتى ترديه عنها فهلك . و أشنق الرجل ناقته إذا كفها بالزمام و هو راكبها و اللغة المشهورة شنق ثلاثية و في الحديث أن طلحة أنشد قصيدة فما زال شانقا راحلته حتى كتبت له و أشنق البعير نفسه إذا رفع رأسه يتعدى و لا يتعدى و أصله من الشناق و هو خيط يشد به فم القربة . و قال الرضي أبو الحسن رحمه الله تعالى إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعل ذلك في مقابلة قوله أسلس لها و هذا حسن فإنهم إذا
[ 172 ]
قصدوا الازدواج في الخطابة فعلوا مثل هذا قالوا الغدايا و العشايا و الأصل الغدوات جمع غدوة
و قال ص ارجعن مأزورات غير مأجورات و أصله موزورات بالواو لأنه من الوزر . و قال الرضي رحمه الله تعالى و مما يشهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي
ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق
قلت تبين في هذا البيت فعل ماض تبين يتبين تبينا و اللام في لها تتعلق بتبين يقول ظهر لها ما في أيدينا فساءها و هذا البيت من قصيدة أولها
ليس شي ء على المنون بباق
غير وجه المسبح الخلاق
و قد كان زارته بنية له صغيرة اسمها هند و هو في الحبس حبس النعمان و يداه مغلولتان إلى عنقه فأنكرت ذلك و قالت ما هذا الذي في يدك و عنقك يا أبت و بكت فقال هذا الشعر و قبل هذا البيت
و لقد غمني زيارة ذي قربى
صغير لقربنا مشتاق
ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق
أي ساءها ما ظهر لها من ذلك و يروى ساءها ما بنا تبين أي ما بان و ظهر و يروى ما بنا تبين بالرفع على أنه مضارع . و يروى إشناقها بالرفع عطفا على ما التي هي بمعنى الذي و هي فاعلة و يروى بالجر عطفا على الأيدي .
[ 173 ]

(23/9)

و قال الرضي رحمه الله تعالى أيضا و يروى أن رسول الله ص خطب الناس و هو على ناقة قد شنق لها و هي تقصع بجرتها . قلت الجرة ما يعلو من الجوف و تجتره الإبل و الدرة ما يسفل و تقصع بها تدفع و قد كان للرضي رحمه الله تعالى إذا كانت الرواية قد وردت هكذا أن يحتج بها على جواز أشنق لها فإن الفعل في الخبر قد عدي باللام لا بنفسه قوله ع فمني الناس أي بلي الناس قال
منيت بزمردة كالعصا
و الخبط السير على غير جادة و الشماس النفار و التلون التبدل و الاعتراض السير لا على خط مستقيم كأنه يسير عرضا في غضون سيره طولا و إنما يفعل ذلك البعير الجامح الخابط و بعير عرضي يعترض في مسيره لأنه لم يتم رياضته و في فلان عرضية أي عجرفة و صعوبة

(23/10)

طرف من أخبار عمر بن الخطاب
و كان عمر بن الخطاب صعبا عظيم الهيبة شديد السياسة لا يحابي أحدا و لا يراقب شريفا و لا مشروفا و كان أكابر الصحابة يتحامون و يتفادون من لقائه كان أبو سفيان بن حرب في مجلس عمر و هناك زياد ابن سمية و كثير من الصحابة فتكلم زياد فأحسن و هو يومئذ غلام فقال علي ع و كان حاضرا لأبي سفيان و هو إلى جانبه لله هذا الغلام لو كان قرشيا لساق العرب بعصاه فقال له أبو سفيان أما و الله لو عرفت أباه لعرفت أنه من خير أهلك قال و من أبوه قال أنا وضعته و الله في رحم أمه فقال علي ع فما يمنعك من استلحاقه قال أخاف هذا العير الجالس أن يخرق علي إهابي
[ 174 ]

(24/1)

و قيل لابن عباس لما أظهر قوله في العول بعد موت عمر و لم يكن قبل يظهره هلا قلت هذا و عمر حي قال هبته و كان امرأ مهابا . و استدعى عمر امرأة ليسألها عن أمر و كانت حاملا فلشدة هيبته ألقت ما في بطنها فأجهضت به جنينا ميتا فاستفتى عمر أكابر الصحابة في ذلك فقالوا لا شي ء عليك إنما أنت مؤدب فقال له علي ع إن كانوا راقبوك فقد غشوك و إن كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا عليك غرة يعني عتق رقبة فرجع عمر و الصحابة إلى قوله . و عمر هو الذي شد بيعة أبي بكر و وقم المخالفين فيها فكسر سيف الزبير لما جرده و دفع في صدر المقداد و وطئ في السقيفة سعد بن عبادة و قال اقتلوا سعدا قتل الله سعدا و حطم أنف الحباب بن المنذر الذي قال يوم السقيفة أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب و توعد من لجأ إلى دار فاطمة ع من الهاشميين و أخرجهم منها و لولاه لم يثبت لأبي بكر أمر و لا قامت له قائمة . و هو الذي ساس العمال و أخذ أموالهم في خلافته و ذلك من أحسن السياسات . و روى الزبير بن بكار قال لما قلد عمر عمرو بن العاص مصر بلغه أنه قد صار له مال عظيم من ناطق و صامت فكتب إليه أما بعد فقد ظهر لي من مالك ما لم يكن في رزقك و لا كان لك مال قبل أن أستعملك فأنى لك هذا فو الله لو لم يهمني في ذات الله إلا من اختان في مال الله لكثر همي و انتثر أمري و لقد كان عندي من المهاجرين الأولين من هو خير منك و لكني قلدتك رجاء غنائك فاكتب إلي من أين لك هذا المال و عجل .
[ 175 ]

(24/2)

فكتب إليه عمرو أما بعد فقد فهمت كتاب أمير المؤمنين فأما ما ظهر لي من مال فأنا قدمنا بلادا رخيصة الأسعار كثيرة الغزو فجعلنا ما أصابنا في الفضول التي اتصل بأمير المؤمنين نبؤها و و الله لو كانت خيانتك حلالا ما خنتك و قد ائتمنتني فإن لنا أحسابا إذا رجعنا إليها أغنتنا عن خيانتك و ذكرت أن عندك من المهاجرين الأولين من هو خير مني فإذا كان ذاك فو الله ما دققت لك يا أمير المؤمنين بابا و لا فتحت لك قفلا فكتب إليه عمر أما بعد فإني لست من تسطيرك الكتاب و تشقيقك الكلام في شي ء و لكنكم معشر الأمراء قعدتم على عيون الأموال و لن تعدموا عذرا و إنما تأكلون النار و تتعجلون العار و قد وجهت إليك محمد بن مسلمة فسلم إليه شطر مالك . فلما قدم محمد صنع له عمرو طعاما و دعاه فلم يأكل و قال هذه تقدمة الشر و لو جئتني بطعام الضيف لأكلت فنح عني طعامك و أحضر لي مالك فأحضره فأخذ شطره فلما رأى عمرو كثرة ما أخذ منه قال لعن الله زمانا صرت فيه عاملا لعمر و الله لقد رأيت عمر و أباه على كل واحد منهما عباءة قطوانية لا تجاوز مأبض ركبتيه و على عنقه حزمة حطب و العاص بن وائل في مزررات الديباج فقال محمد إيها عنك يا عمرو فعمر و الله خير منك و أما أبوك و أبوه فإنهما في النار و لو لا الإسلام لألفيت معتلقا شاة يسرك غزرها و يسوؤك بكوؤها قال صدقت فاكتم علي قال أفعل قال الربيع بن زياد الحارثي كنت عاملا لأبي موسى الأشعري على البحرين
[ 176 ]

(24/3)

فكتب إليه عمر بالقدوم عليه هو و عماله و أن يستخلفوا جميعا فلما قدمنا المدينة أتيت يرفأ حاجب عمر فقلت يا يرفأ مسترشد و ابن سبيل أي الهيئات أحب إلى أمير المؤمنين أن يرى فيها عماله فأومأ إلي بالخشونة فاتخذت خفين مطارقين و لبست جبة صوف و لثت عمامتي على رأسي ثم دخلنا على عمر فصفنا بين يديه فصعد بصره فينا و صوب فلم تأخذ عينه أحدا غيري فدعاني فقال من أنت قلت الربيع بن زياد الحارثي قال و ما تتولى من أعمالنا قلت البحرين قال كم ترزق قلت ألفا قال كثير فما تصنع به قلت أتقوت منه شيئا و أعود بباقيه على أقارب لي فما فضل منهم فعلى فقراء المسلمين قال لا بأس ارجع إلى موضعك فرجعت إلى موضعي من الصف فصعد فينا و صوب فلم تقع عينه إلا علي فدعاني فقال كم سنك قلت خمس و أربعون فقال الآن حيث استحكمت ثم دعا بالطعام و أصحابي حديث عهدهم بلين العيش و قد تجوعت له فأتى بخبز يابس و أكسار بعير فجعل أصحابي يعافون ذلك و جعلت آكل فأجيد و أنا أنظر إليه و هو يلحظني من بينهم ثم سبقت مني كلمة تمنيت لها أني سخت في الأرض فقلت يا أمير المؤمنين إن الناس يحتاجون إلى صلاحك فلو عمدت إلى طعام ألين من هذا فزجرني ثم قال كيف قلت فقلت يا أمير المؤمنين أن تنظر إلى قوتك من الطحين فيخبز قبل إرادتك إياه بيوم و يطبخ لك اللحم كذلك فتؤتى بالخبز لينا و باللحم غريضا فسكن من غربه و قال أ هاهنا غرت قلت نعم فقال يا ربيع إنا لو نشاء لملأنا هذه الرحاب من صلائق و سبائك و صناب و لكني رأيت الله نعى على قوم شهواتهم فقال أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ
[ 177 ]

(24/4)

فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا ثم أمر أبا موسى بإقراري و أن يستبدل بأصحابي . أسلم عمر بعد جماعة من الناس و كان سبب إسلامه أن أخته و بعلها أسلما سرا من عمر فدخل إليهما خباب بن الأرت يعلمهما الدين خفية فوشى بهم واش إلى عمر فجاء دار أخته فتوارى خباب منه داخل البيت فقال عمر ما هذه الهينمة عندكم قالت أخته ما عدا حديثا تحدثناه بيننا قال أراكما قد صبوتما قال ختنه أ رأيت إن كان هو الحق فوثب عليه عمر فوطئه وطئا شديدا فجاءت أخته فدفعته عنه فنفحها بيده فدمي وجهها ثم ندم و رق و جلس واجما فخرج إليه خباب فقال أبشر يا عمر فإني أرجو أن تكون دعوة رسول الله لك الليلة فإنه لم يزل يدعو منذ الليلة اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب أو بعمرو بن هشام . قال فانطلق عمر متقلدا سيفه حتى أتى إلى الدار التي فيها رسول الله ص يومئذ و هي الدار التي في أصل الصفا و على الباب حمزة و طلحة و ناس من المسلمين فوجل القوم من عمر إلا حمزة فإنه قال قد جاءنا عمر فإن يرد الله به خيرا يهده و إن يرد غير ذلك كان قتله علينا هينا و النبي ص داخل الدار يوحى إليه فسمع كلامهم فخرج حتى أتى عمر فأخذ بمجامع ثوبه و حمائل سيفه و قال ما أنت بمنته يا عمر حتى ينزل الله بك من الخزي و النكال ما أنزل بالوليد بن المغيرة اللهم هذا عمر اللهم أعز الإسلام بعمر فقال عمر أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله . مر يوما عمر في بعض شوارع المدينة فناداه إنسان ما أراك إلا تستعمل عمالك و تعهد إليهم العهود و ترى أن ذلك قد أجزأك كلا و الله إنك المأخوذ بهم إن لم تتعهدهم
[ 178 ]

(24/5)

قال ما ذاك قال عياض بن غنم يلبس اللين و يأكل الطيب و يفعل كذا و كذا قال أ ساع قال بل مؤد ما عليه فقال لمحمد بن مسلمة الحق بعياض بن غنم فأتني به كما تجده فمضى محمد بن مسلمة حتى أتى باب عياض و هو أمير على حمص و إذا عليه بواب فقال له قل لعياض على بابك رجل يريد أن يلقاك قال ما تقول قال قل له ما أقول لك فقام كالمعجب فأخبره فعرف عياض أنه أمر حدث فخرج فإذا محمد بن مسلمة فأدخله فرأى على عياض قميصا رقيقا و رداء لينا فقال إن أمير المؤمنين أمرني ألا أفارقك حتى آتيه بك كما أجدك فأقدمه على عمر و أخبره أنه وجده في عيش ناعم فأمر له بعصا و كساء و قال اذهب بهذه الغنم فأحسن رعيها فقال الموت أهون من ذلك فقال كذبت و لقد كان ترك ما كنت عليه أهون عليك من ذلك فساق الغنم بعصاه و الكساء في عنقه فلما بعد رده و قال أ رأيت إن رددتك إلى عملك أ تصنع خيرا قال نعم و الله يا أمير المؤمنين لا يبلغك مني بعدها ما تكره فرده إلى عمله فلم يبلغه عنه بعدها ما ينقمه عليه . كان الناس بعد وفاة رسول الله ص يأتون الشجرة التي كانت بيعة الرضوان تحتها فيصلون عندها فقال عمر أراكم أيها الناس رجعتم إلى العزى ألا لا أوتي منذ اليوم بأحد عاد لمثلها إلا قتلته بالسيف كما يقتل المرتد ثم أمر بها فقطعت . لما مات رسول الله ص و شاع بين الناس موته طاف عمر على الناس قائلا إنه لم يمت و لكنه غاب عنا كما غاب موسى عن قومه و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم يزعمون أنه مات فجعل لا يمر بأحد يقول إنه مات إلا و يخبطه و يتوعده حتى جاء أبو بكر فقال أيها الناس من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات
[ 179 ]

(24/6)

و من كان يعبد رب محمد فإنه حي لم يمت ثم تلا قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قالوا فو الله لكان الناس ما سمعوا هذه الآية حتى تلاها أبو بكر و قال عمر لما سمعته يتلوها هويت إلى الأرض و علمت أن رسول الله قد مات . لما قتل خالد مالك بن نويرة و نكح امرأته كان في عسكره أبو قتادة الأنصاري فركب فرسه و التحق بأبي بكر و حلف ألا يسير في جيش تحت لواء خالد أبدا فقص على أبي بكر القصة فقال أبو بكر لقد فتنت الغنائم العرب و ترك خالد ما أمر به فقال عمر إن عليك أن تقيده بمالك فسكت أبو بكر و قدم خالد فدخل المسجد و عليه ثياب قد صدئت من الحديد و في عمامته ثلاثة أسهم فلما رآه عمر قال أ رياء يا عدو الله عدوت على رجل من المسلمين فقتلته و نكحت امرأته أما و الله إن أمكنني الله منك لأرجمنك ثم تناول الأسهم من عمامته فكسرها و خالد ساكت لا يرد عليه ظنا أن ذلك عن أمر أبي بكر و رأيه فلما دخل إلى أبي بكر و حدثه صدقه فيما حكاه و قبل عذره فكان عمر يحرض أبا بكر على خالد و يشير عليه أن يقتص منه بدم مالك فقال أبو بكر إيها يا عمر ما هو بأول من أخطأ فارفع لسانك عنه ثم ودى مالكا من بيت مال المسلمين . لما صالح خالد أهل اليمامة و كتب بينه و بينهم كتاب الصلح و تزوج ابنة مجاعة بن مرارة الحنفي وصل إليه كتاب أبي بكر لعمري يا ابن أم خالد إنك لفارغ حتى تزوج النساء و حول حجرتك دماء المسلمين لم تجف بعد في كلام أغلظ له فيه فقال خالد هذا الكتاب ليس من عمل أبي بكر هذا عمل الأعيسر يعني عمر
[ 180 ]

(24/7)

عزل عمر خالدا عن إمارة حمص في سنة سبع عشرة و إقامة للناس و عقله بعمامته و نزع قلنسوته عن رأسه و قال أعلمني من أين لك هذا المال و ذلك أنه أجاز الأشعث بن قيس بعشرة آلاف درهم فقال من الأنفال و السهمان فقال لا و الله لا تعمل لي عملا بعد اليوم و شاطره ماله و كتب إلى الأمصار بعزله و قال إن الناس فتنوا به فخفت أن يوكلوا إليه و أحببت أن يعلموا أن الله هو الصانع . لما أسر الهرمزان حمل إلى عمر من تستر إلى المدينة و معه رجال من المسلمين منهم الأحنف بن قيس و أنس بن مالك فأدخلوه المدينة في هيئته و تاجه و كسوته فوجدوا عمر نائما في جانب المسجد فجلسوا عنده ينتظرون انتباهه فقال الهرمزان و أين عمر قالوا ها هو ذا قال أين حرسه قالوا لا حاجب له و لا حارس قال فينبغي أن يكون هذا نبيا قالوا إنه يعمل بعمل الأنبياء و استيقظ عمر فقال الهرمزان فقالوا نعم قال لا أكلمه أو لا يبقى عليه من حليته شي ء فرموا ما عليه و ألبسوه ثوبا صفيقا فلما كلمه عمر أمر أبا طلحة أن ينتضي سيفه و يقوم على رأسه ففعل ثم قال له ما عذرك في نقض الصلح و نكث العهد و قد كان الهرمزان صالح أولا ثم نقض و غدر فقال أخبرك قال قل قال و أنا شديد العطش فاسقني ثم أخبرك فأحضر له ماء فلما تناوله جعلت يده ترعد قال ما شأنك قال أخاف أن أمد عنقي و أنا أشرب فيقتلني سيفك قال لا بأس عليك حتى تشرب فألقى الإناء عن يده فقال ما بالك أعيدوا عليه الماء و لا تجمعوا عليه بين القتل و العطش قال إنك قد أمنتني قال كذبت قال لم أكذب قال أنس صدق يا أمير المؤمنين قال ويحك يا أنس أنا أؤمن قاتل مجزأة بن ثور و البراء بن مالك و الله لتأتيني بالمخرج أو لأعاقبنك قال أنت يا أمير المؤمنين قلت لا بأس عليك حتى تشرب و قال له ناس من المسلمين
[ 181 ]

(24/8)

مثل قول أنس فقال للهرمزان ويحك أ تخدعني و الله لأقتلنك إلا أن تسلم ثم أومأ إلى أبي طلحة فقال الهرمزان أشهد أن لا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله فأمنه و أنزله المدينة . سأل عمر عمرو بن معديكرب عن السلاح فقال له ما تقول في الرمح قال أخوك و ربما خانك قال فالنبل قال رسل المنايا تخطئ و تصيب قال فالدرع قال مشغلة للفارس متعبة للراجل و إنها مع ذلك لحصن حصين قال فالترس قال هو المجن و عليه تدور الدوائر قال فالسيف قال هناك قارعت أمك الهبل قال بل أمك قال و الحمى أضرعتني لك . و أول من ضرب عمر بالدرة أم فروة بنت أبي قحافة مات أبو بكر فناح النساء عليه و فيهن أخته أم فروة فنهاهن عمر مرارا و هن يعاودن فأخرج أم فروة من بينهن و علاها بالدرة فهربن و تفرقن . كان يقال درة عمر أهيب من سيف الحجاج و في الصحيح أن نسوة كن عند رسول الله ص قد كثر لغطهن فجاء عمر فهربن هيبة له فقال لهن يا عديات أنفسهن أ تهبنني و لا تهبن رسول الله قلن نعم أنت أغلظ و أفظ . و كان عمر يفتي كثيرا بالحكم ثم ينقضه و يفتي بضده و خلافه قضى في الجد مع الإخوة قضايا كثيرة مختلفة ثم خاف من الحكم في هذه المسألة فقال من أراد أن يتقحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه .
[ 182 ]

(24/9)

و قال مرة لا يبلغني أن امرأة تجاوز صداقها صداق نساء النبي إلا ارتجعت ذلك منها فقالت له امرأة ما جعل الله لك ذلك إنه تعالى قال وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً فقال كل النساء أفقه من عمر حتى ربات الحجال أ لا تعجبون من إمام أخطأ و امرأة أصابت فاضلت إمامكم ففضلته . و مر يوما بشاب من فتيان الأنصار و هو ظمآن فاستسقاه فجدح له ماء بعسل فلم يشربه و قال إن الله تعالى يقول أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا فقال له الفتى يا أمير المؤمنين إنها ليست لك و لا لأحد من هذه القبيلة اقرأ ما قبلها وَ يَوْمَ يُعْرَضُ اَلَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى اَلنَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ اَلدُّنْيا فقال عمر كل الناس أفقه من عمر . و قيل إن عمر كان يعس بالليل فسمع صوت رجل و امرأة في بيت فارتاب فتسور الحائط فوجد امرأة و رجلا و عندهما زق خمر فقال يا عدو الله أ كنت ترى أن الله يسترك و أنت على معصيته قال يا أمير المؤمنين إن كنت أخطأت في واحدة فقد أخطأت في ثلاث قال الله تعالى وَ لا تَجَسَّسُوا و قد تجسست و قال وَ أْتُوا اَلْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها و قد تسورت و قال فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا و ما سلمت . و قال متعتان كانتا على عهد رسول الله و أنا محرمهما و معاقب عليهما متعة النساء و متعة الحج و هذا الكلام و إن كان ظاهره منكرا فله عندنا مخرج و تأويل و قد ذكره أصحابنا الفقهاء في كتبهم .
[ 183 ]

(24/10)

و كان في أخلاق عمر و ألفاظه جفاء و عنجهية ظاهرة يحسبه السامع لها أنه أراد بها ما لم يكن قد أراد و يتوهم من تحكى له أنه قصد بها ظاهرا ما لم يقصده فمنها الكلمة التي قالها في مرض رسول الله ص و معاذ الله أن يقصد بها ظاهرها و لكنه أرسلها على مقتضى خشونة غريزته و لم يتحفظ منها و كان الأحسن أن يقول مغمور أو مغلوب بالمرض و حاشاه أن يعني بها غير ذلك . و لجفاة الأعراب من هذا الفن كثير سمع سليمان بن عبد الملك أعرابيا يقول في سنة قحط
رب العباد ما لنا و ما لكا
قد كنت تسقينا فما بدا لكا
أنزل علينا القطر لا أبا لكا
فقال سليمان أشهد أنه لا أب له و لا صاحبه و لا ولد فأخرجه أحسن مخرج . و على نحو هذا يحتمل كلامه في صلح الحديبية لما قال للنبي ص أ لم تقل لنا ستدخلونها في ألفاظ نكره حكايتها حتى شكاه النبي ص إلى أبي بكر و حتى قال له أبو بكر الزم بغرزه فو الله إنه لرسول الله . و عمر هو الذي أغلظ على جبلة بن الأيهم حتى اضطره إلى مفارقة دار الهجرة بل مفارقة دار الإسلام كلها و عاد مرتدا داخلا في دين النصرانية لأجل لطمة لطمها و قال جبلة بعد ارتداده متندما على ما فعل
تنصرت الأشراف من أجل لطمة
و ما كان فيها لو صبرت لها ضرر
فيا ليت أمي لم تلدني و ليتني
رجعت إلى القول الذي قاله عمر
[ 184 ]
حَتَّى إِذَا مَضَى لِسَبِيلِهِ جَعَلَهَا فِي سِتَّةٍ جَمَاعَةٍ زَعَمَ أَنِّي أَحَدُهُمْ فَيَا لَلَّهِ وَ لِلشُّورَى مَتَى اِعْتَرَضَ اَلرَّيْبُ فِيَّ مَعَ اَلْأَوَّلِ مِنْهُمْ حَتَّى صِرْتُ أَقْرَنُ إِلَى هَذِهِ اَلنَّظَائِرِ لَكِنِّي أَسْفَفْتُ إِذْ أَسَفُّوا وَ طِرْتُ إِذْ طَارُوا فَصَغَا رَجُلٌ مِنْهُمْ لِضِغْنِهِ وَ مَالَ اَلآْخَرُ لِصِهْرِهِ مَعَ هَنٍ وَ هَنٍ اللام في يا لله مفتوحة و اللام في و للشورى مكسورة لأن الأولى للمدعو و الثانية للمدعو إليه قال
يا للرجال ليوم الأربعاء أما
ينفك يحدث لي بعد النهي طربا

(24/11)

اللام في للرجال مفتوحة و في ليوم مكسورة و أسف الرجل إذا دخل في الأمر الدني ء أصله من أسف الطائر إذا دنا من الأرض في طيرانه و الضغن الحقد . و قوله مع هن و هن أي مع أمور يكنى عنها و لا يصرح بذكرها و أكثر ما يستعمل ذلك في الشر قال
على هنوات شرها متتابع
يقول ع إن عمر لما طعن جعل الخلافة في ستة هو ع أحدهم ثم تعجب من ذلك فقال متى اعترض الشك في مع أبي بكر حتى أقرن بسعد بن أبي وقاص و عبد الرحمن بن عوف و أمثالهما لكني طلبت الأمر و هو موسوم بالأصاغر منهم كما طلبته أولا و هو موسوم بأكابرهم أي هو حقي فلا أستنكف من طلبه إن كان المنازع فيه جليل القدر أو صغير المنزلة . و صغا الرجل بمعنى مال الصغو الميل بالفتح و الكسر
[ 185 ]

(24/12)

قصة الشورى
و صورة هذه الواقعة أن عمر لما طعنه أبو لؤلؤة و علم أنه ميت استشار فيمن يوليه الأمر بعده فأشير عليه بابنه عبد الله فقال لاها الله إذا لا يليها رجلان من ولد الخطاب حسب عمر ما حمل حسب عمر ما احتقب لاها الله لا أتحملها حيا و ميتا ثم قال إن رسول الله مات و هو راض عن هذه الستة من قريش علي و عثمان و طلحة و الزبير و سعد و عبد الرحمن بن عوف و قد رأيت أن أجعلها شورى بينهم ليختاروا لأنفسهم ثم قال إن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني يعني أبا بكر و إن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني رسول الله ص ثم قال ادعوهم لي فدعوهم فدخلوا عليه و هو ملقى على فراشه يجود بنفسه . فنظر إليهم فقال أ كلكم يطمع في الخلافة بعدي فوجموا فقال لهم ثانية فأجابه الزبير و قال و ما الذي يبعدنا منها وليتها أنت فقمت بها و لسنا دونك في قريش و لا في السابقة و لا في القرابة . قال الشيخ أبو عثمان الجاحظ و الله لو لا علمه أن عمر يموت في مجلسه ذلك لم يقدم على أن يفوه من هذا الكلام بكلمة و لا أن ينبس منه بلفظة . فقال عمر أ فلا أخبركم عن أنفسكم قال قل فإنا لو استعفيناك لم تعفنا فقال أما أنت يا زبير فوعق لقس مؤمن الرضا كافر الغضب يوما إنسان و يوما شيطان و لعلها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مد من شعير أ فرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطانا و من يكون يوم تغضب و ما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمة و أنت على هذه الصفة . ثم أقبل على طلحة و كان له مبغضا منذ قال لأبي بكر يوم وفاته ما قال في عمر فقال له أقول أم أسكت قال قل فإنك لا تقول من الخير شيئا قال أما إني أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أحد و البأو الذي حدث لك و لقد مات رسول الله ص
[ 186 ]

(25/1)

ساخطا عليك بالكلمة التي قلتها يوم أنزلت آية الحجاب . قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ رحمه الله تعالى الكلمة المذكورة أن طلحة لما أنزلت آية الحجاب قال بمحضر ممن نقل عنه إلى رسول الله ص ما الذي يغنيه حجابهن اليوم و سيموت غدا فننكحهن قال أبو عثمان أيضا لو قال لعمر قائل أنت قلت إن رسول الله ص مات و هو راض عن الستة فكيف تقول الآن لطلحة إنه مات ع ساخطا عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه و لكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا فكيف هذا . قال ثم أقبل على سعد بن أبي وقاص فقال إنما أنت صاحب مقنب من هذه المقانب تقاتل به و صاحب قنص و قوس و أسهم و ما زهرة و الخلافة و أمور الناس . ثم أقبل على عبد الرحمن بن عوف فقال و أما أنت يا عبد الرحمن فلو وزن نصف إيمان المسلمين بإيمانك لرجح إيمانك به و لكن ليس يصلح هذا الأمر لمن فيه ضعف كضعفك و ما زهرة و هذا الأمر . ثم أقبل على علي ع فقال لله أنت لو لا دعابة فيك أما و الله لئن وليتهم لتحملنهم على الحق الواضح و المحجة البيضاء ثم أقبل على عثمان فقال هيها إليك كأني بك قد قلدتك قريش هذا الأمر لحبها إياك فحملت بني أمية و بني أبي معيط على رقاب الناس و آثرتهم بالفي ء فسارت إليك عصابة من ذؤبان العرب فذبحوك على فراشك ذبحا و الله لئن فعلوا لتفعلن و لئن فعلت ليفعلن ثم أخذ بناصيته فقال فإذا كان ذلك فاذكر قولي فإنه كائن . ذكر هذا الخبر كله شيخنا أبو عثمان في كتاب السفيانية و ذكره جماعة غيره في باب فراسة عمر و ذكر أبو عثمان في هذا الكتاب عقيب رواية هذا الخبر قال و روى
[ 187 ]

(25/2)

معمر بن سليمان التيمي عن أبيه عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال سمعت عمر بن الخطاب يقول لأهل الشورى إنكم إن تعاونتم و توازرتم و تناصحتم أكلتموها و أولادكم و إن تحاسدتم و تقاعدتم و تدابرتم و تباغضتم غلبكم على هذا الأمر معاوية بن أبي سفيان و كان معاوية حينئذ أمير الشام . ثم رجع بنا الكلام إلى تمام قصة الشورى ثم قال ادعوا إلي أبا طلحة الأنصاري فدعوه له فقال انظر يا أبا طلحة إذا عدتم من حفرتي فكن في خمسين رجلا من الأنصار حاملي سيوفكم فخذ هؤلاء النفر بإمضاء الأمر و تعجيله و اجمعهم في بيت و قف بأصحابك على باب البيت ليتشاوروا و يختاروا واحدا منهم فإن اتفق خمسة و أبى واحد فاضرب عنقه و إن اتفق أربعة و أبى اثنان فاضرب أعناقهما و إن اتفق ثلاثة و خالف ثلاثة فانظر الثلاثة التي فيها عبد الرحمن فارجع إلى ما قد اتفقت عليه فإن أصرت الثلاثة الأخرى على خلافها فاضرب أعناقها و إن مضت ثلاثة أيام و لم يتفقوا على أمر فاضرب أعناق الستة و دع المسلمين يختاروا لأنفسهم . فلما دفن عمر جمعهم أبو طلحة و وقف على باب البيت بالسيف في خمسين من الأنصار حاملي سيوفهم ثم تكلم القوم و تنازعوا فأول ما عمل طلحة أنه أشهدهم على نفسه أنه قد وهب حقه من الشورى لعثمان و ذلك لعلمه أن الناس لا يعدلون به عليا و عثمان و أن الخلافة لا تخلص له و هذان موجودان فأراد تقوية أمر عثمان و إضعاف جانب علي ع بهبة أمر لا انتفاع له به و لا تمكن له منه . فقال الزبير في معارضته و أنا أشهدكم على نفسي أني قد وهبت حقي من الشورى لعلي و إنما فعل ذلك لأنه لما رأى عليا قد ضعف و انخزل بهبة طلحة حقه لعثمان دخلته حمية النسب لأنه ابن عمة أمير المؤمنين ع و هي صفية بنت عبد المطلب و أبو طالب خاله و إنما مال طلحة إلى عثمان لانحرافه عن علي ع باعتبار أنه
[ 188 ]

(25/3)

تيمي و ابن عم أبي بكر الصديق و قد كان حصل في نفوس بني هاشم من بني تيم حنق شديد لأجل الخلافة و كذلك صار في صدور تيم على بني هاشم و هذا أمر مركوز في طبيعة البشر و خصوصا طينة العرب و طباعها و التجربة إلى الآن تحقق ذلك فبقي من الستة أربعة . فقال سعد بن أبي وقاص و أنا قد وهبت حقي من الشورى لابن عمي عبد الرحمن و ذلك لأنهما من بني زهرة و لعلم سعد أن الأمر لا يتم له فلما لم يبق إلا الثلاثة قال عبد الرحمن لعلي و عثمان أيكما يخرج نفسه من الخلافة و يكون إليه الاختيار في الاثنين الباقيين فلم يتكلم منهما أحد فقال عبد الرحمن أشهدكم أنني قد أخرجت نفسي من الخلافة على أن أختار أحدهما فأمسكا فبدأ بعلي ع و قال له أبايعك على كتاب الله و سنة رسول الله و سيرة الشيخين أبي بكر و عمر فقال بل على كتاب الله و سنة رسوله و اجتهاد رأيي فعدل عنه إلى عثمان فعرض ذلك عليه فقال نعم فعاد إلى علي ع فأعاد قوله فعل ذلك عبد الرحمن ثلاثا فلما رأى أن عليا غير راجع عما قاله و أن عثمان ينعم له بالإجابة صفق على يد عثمان و قال السلام عليك يا أمير المؤمنين فيقال إن عليا ع قال له و الله ما فعلتها إلا لأنك رجوت منه ما رجا صاحبكما من صاحبه دق الله بينكما عطر منشم . قيل ففسد بعد ذلك بين عثمان و عبد الرحمن فلم يكلم أحدهما صاحبه حتى مات عبد الرحمن
[ 189 ]

(25/4)

ثم نرجع إلى تفسير ألفاظ الفصل أما قوله ع فصغا رجل منهم لضغنه فإنه يعني طلحة و قال القطب الراوندي يعني سعد بن أبي وقاص لأن عليا ع قتل أباه يوم بدر و هذا خطأ فإن أباه أبو وقاص و اسمه مالك بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب مات في الجاهلية حتف أنفه . و أما قوله و مال الآخر لصهره يعني عبد الرحمن مال إلى عثمان لأن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط كانت تحته و أم كلثوم هذه هي أخت عثمان من أمه أروى بنت كريز . و روى القطب الراوندي أن عمر لما قال كونوا مع الثلاثة التي عبد الرحمن فيها
قال ابن عباس لعلي ع ذهب الأمر منا الرجل يريد أن يكون الأمر في عثمان فقال علي ع و أنا أعلم ذلك و لكني أدخل معهم في الشورى لأن عمر قد أهلني الآن للخلافة و كان قبل ذلك يقول إن رسول الله ص قال إن النبوة و الإمامة لا يجتمعان في بيت فأنا أدخل في ذلك لأظهر للناس مناقضة فعله لروايته الذي ذكره الراوندي غير معروف و لم ينقل عمر هذا عن رسول الله ص و لكنه قال لعبد الله بن عباس يوما يا عبد الله ما تقول منع قومكم منكم قال لا أعلم يا أمير المؤمنين قال اللهم غفرا إن قومكم كرهوا أن تجتمع لكم النبوة و الخلافة فتذهبون في السماء بذخا و شمخا لعلكم تقولون إن أبا بكر أراد الإمرة عليكم و هضمكم كلا لكنه حضره أمر لم يكن عنده أحزم مما فعل و لو لا رأي أبي بكر
[ 190 ]

(25/5)

في بعد موته لأعاد أمركم إليكم و لو فعل ما هنأكم مع قومكم إنهم لينظرون إليكم نظر الثور إلى جازره . فأما الرواية التي جاءت بأن طلحة لم يكن حاضرا يوم الشورى فإن صحت فذو الضغن هو سعد بن أبي وقاص لأن أمه حمنة بنت سفيان بن أمية بن عبد شمس و الضغينة التي عنده على علي ع من قبل أخواله الذين قتل صناديدهم و تقلد دماءهم و لم يعرف أن عليا ع قتل أحدا من بني زهرة لينسب الضغن إليه . و هذه الرواية هي التي اختارها أبو جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التاريخ قال لما طعن عمر قيل له لو استخلفت يا أمير المؤمنين فقال من أستخلف لو كان أبو عبيدة حيا لاستخلفته و قلت لربي لو سألني
سمعت نبيك يقول أبو عبيدة أمين هذه الأمة و لو كان سالم مولى أبي حذيفة حيا استخلفته و قلت لربي إن سألني
سمعت نبيك ع يقول إن سالما شديد الحب لله فقال له رجل ول عبد الله بن عمر فقال قاتلك الله و الله ما الله أردت بهذا الأمر ويحك كيف أستخلف رجلا عجز عن طلاق امرأته لا أرب لعمر في خلافتكم ما حمدتها فأرغب فيها لأحد من أهل بيتي إن تك خيرا فقد أصبنا منه و إن تك شرا يصرف عنا حسب آل عمر أن يحاسب منهم رجل واحد و يسأل عن أمر أمة محمد . فخرج الناس من عنده ثم راحوا إليه فقالوا له لو عهدت عهدا قال قد كنت أجمعت بعد مقالتي لكم أن أولي أمركم رجلا هو أحراكم أن يحملكم على الحق
[ 191 ]

(25/6)

و أشار إلى علي ع فرهقتني غشية فرأيت رجلا يدخل جنة قد غرسها فجعل يقطف كل غضة و يانعة فيضمها إليه و يصيرها تحته فخفت أن أتحملها حيا و ميتا و علمت أن الله غالب أمره عليكم بالرهط الذي قال رسول الله عنهم إنهم من أهل الجنة ثم ذكر خمسة عليا و عثمان و عبد الرحمن و الزبير و سعدا . قال و لم يذكر في هذا المجلس طلحة و لا كان طلحة يومئذ بالمدينة ثم قال لهم انهضوا إلى حجرة عائشة فتشاوروا فيها و وضع رأسه و قد نزفه الدم فقال العباس لعلي ع لا تدخل معهم و ارفع نفسك عنهم قال إني أكره الخلاف قال إذن ترى ما تكره فدخلوا الحجرة فتناجوا حتى ارتفعت أصواتهم فقال عبد الله بن عمر إن أمير المؤمنين لم يمت بعد ففيم هذا اللغط و انتبه عمر و سمع الأصوات فقال ليصل بالناس صهيب و لا يأتين اليوم الرابع من يوم موتي إلا و عليكم أمير و ليحضر عبد الله بن عمر مشيرا و ليس له شي ء من الأمر و طلحة بن عبيد الله شريككم في الأمر فإن قدم إلى ثلاثة أيام فأحضروه أمركم و إلا فأرضوه و من لي برضا طلحة فقال سعد أنا لك به و لن يخالف إن شاء الله تعالى . ثم ذكر وصيته لأبي طلحة الأنصاري و ما خص به عبد الرحمن بن عوف من كون الحق في الفئة التي هو فيها و أمره بقتل من يخالف ثم خرج الناس
فقال علي ع لقوم معه من بني هاشم إن أطيع فيكم قومكم من قريش لم تؤمروا أبدا و قال للعباس عدل بالأمر عني يا عم قال و ما علمك قال قرن بي عثمان و قال عمر كونوا مع الأكثر فإن رضي رجلان رجلا و رجلان رجلا فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن فسعد لا يخالف ابن عمه و عبد الرحمن صهر عثمان لا يختلفان فيوليها أحدهما الآخر فلو كان الآخران معي لم يغنيا شيئا فقال العباس لم أدفعك إلى شي ء إلا رجعت إلي
[ 192 ]

(25/7)

مستأخرا بما أكره أشرت عليك عند مرض رسول الله ص أن تسأله عن هذا الأمر فيمن هو فأبيت و أشرت عليك عند وفاته أن تعاجل البيعة فأبيت و قد أشرت عليك حين سماك عمر في الشورى اليوم أن ترفع نفسك عنها و لا تدخل معهم فيها فأبيت فاحفظ عني واحدة كلما عرض عليك القوم الأمر فقل لا إلا أن يولوك و اعلم أن هؤلاء لا يبرحون يدفعونك عن هذا الأمر حتى يقوم لك به غيرك و ايم الله لا تناله إلا بشر لا ينفع معه خير فقال ع أما إني أعلم أنهم سيولون عثمان و ليحدثن البدع و الأحداث و لئن بقي لأذكرنك و إن قتل أو مات ليتداولنها بنو أمية بينهم و إن كنت حيا لتجدني حيث تكرهون ثم تمثل
حلفت برب الراقصات عشية
غدون خفافا يبتدرن المحصبا
ليجتلبن رهط ابن يعمر غدوة
نجيعا بنو الشداخ وردا مصلبا
قال ثم التفت فرأى أبا طلحة الأنصاري فكره مكانه فقال أبو طلحة لا ترع أبا حسن فلما مات عمر و دفن و خلوا بأنفسهم للمشاورة في الأمر و قام أبو طلحة يحجبهم بباب البيت جاء عمرو بن العاص و المغيرة بن شعبة فجلسا بالباب فحصبهما سعد و أقامهما و قال إنما تريدان أن تقولا حضرنا و كنا في أصحاب الشورى . فتنافس القوم في الأمر و كثر بينهم الكلام فقال أبو طلحة أنا كنت لأن تدافعوها أخوف مني عليكم أن تنافسوها أما و الذي ذهب بنفس عمر لا أزيدكم على الأيام الثلاثة التي وقفت لكم فاصنعوا ما بدا لكم . قال ثم إن عبد الرحمن قال لابن عمه سعد بن أبي وقاص إني قد كرهتها و سأخلع نفسي منها لأني رأيت الليلة روضة خضراء كثيرة العشب فدخل فحل ما رأيت
[ 193 ]

(25/8)

أكرم منه فمر كأنه سهم لم يلتفت إلى شي ء منها حتى قطعها لم يعرج و دخل بعير يتلوه تابع أثره حتى خرج منها ثم دخل فحل عبقري يجر خطامه و مضى قصد الأولين ثم دخل بعير رابع فوقع في الروضة يرتع و يخضم و لا و الله لا أكون الرابع و إن أحدا لا يقوم مقام أبي بكر و عمر فيرضى الناس عنه . ثم ذكر خلع عبد الرحمن نفسه من الأمر على أن يوليها أفضلهم في نفسه و أن عثمان أجاب إلى ذلك و أن عليا ع سكت فلما روجع رضي على موثق أعطاه عبد الرحمن أن يؤثر الحق و لا يتبع الهوى و لا يخص ذا رحم و لا يألو الأمة نصحا و أن عبد الرحمن ردد القول بين علي و عثمان متلوما و أنه خلا بسعد تارة و بالمسور بن مخرمة الزهري تارة أخرى و أجال فكره و أعمل نظره و وقف موقف الحائر بينهما قال
قال علي ع لسعد بن أبي وقاص يا سعد اِتَّقُوا اَللَّهَ اَلَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ اَلْأَرْحامَ أسألك برحم ابني هذا من رسول الله ص و برحم عمي حمزة منك ألا تكون مع عبد الرحمن لعثمان ظهيرا قلت رحم حمزة من سعد هي أن أم حمزة هالة بنت أهيب بن عبد مناف بن زهرة و هي أيضا أم المقوم و حجفل و اسمه المغيرة و الغيداق أبناء عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف هؤلاء الأربعة بنو عبد المطلب من هالة و هالة هذه هي عمة سعد بن أبي وقاص فحمزة إذن ابن عمة سعد و سعد ابن خال حمزة . قال أبو جعفر فلما أتى اليوم الثالث جمعهم عبد الرحمن و اجتمع الناس كافة فقال عبد الرحمن أيها الناس أشيروا علي في هذين الرجلين فقال عمار بن ياسر إن أردت ألا يختلف الناس فبايع عليا ع فقال المقداد صدق عمار و إن بايعت عليا سمعنا و أطعنا فقال عبد الله بن أبي سرح إن أردت ألا تختلف قريش
[ 194 ]

(25/9)

فبايع عثمان قال عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي صدق إن بايعت عثمان سمعنا و أطعنا فشتم عمار ابن أبي سرح و قال له متى كنت تنصح الإسلام . فتكلم بنو هاشم و بنو أمية و قام عمار فقال أيها الناس إن الله أكرمكم بنبيه و أعزكم بدينه فإلى متى تصرفون هذا الأمر عن أهل بيت نبيكم فقال رجل من بني مخزوم لقد عدوت طورك يا ابن سمية و ما أنت و تأمير قريش لأنفسها فقال سعد يا عبد الرحمن افرغ من أمرك قبل أن يفتتن الناس فحينئذ عرض عبد الرحمن على علي ع العمل بسيرة الشيخين فقال بل أجتهد برأيي فبايع عثمان بعد أن عرض عليه فقال نعم
فقال علي ع ليس هذا بأول يوم تظاهرتم فيه علينا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اَللَّهُ اَلْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ و الله ما وليته الأمر إلا ليرده إليك و الله كل يوم في شأن . فقال عبد الرحمن لا تجعلن على نفسك سبيلا يا علي يعني أمر عمر أبا طلحة أن يضرب عنق المخالف فقام علي ع فخرج و قال سيبلغ الكتاب أجله فقال عمار يا عبد الرحمن أما و الله لقد تركته و إنه من الذين يقضون بالحق و به كانوا يعدلون فقال المقداد تالله ما رأيت مثل ما أتى إلى أهل هذا البيت بعد نبيهم وا عجبا لقريش لقد تركت رجلا ما أقول و لا أعلم أن أحدا أقضى بالعدل و لا أعلم و لا أتقى منه أما و الله لو أجد أعوانا فقال عبد الرحمن اتق الله يا مقداد فإني خائف عليك الفتنة .
و قال علي ع إني لأعلم ما في أنفسهم إن الناس ينظرون إلى قريش و قريش تنظر في صلاح شأنها فتقول إن ولي الأمر بنو هاشم لم يخرج منهم أبدا و ما كان في غيرهم فهو متداول في بطون قريش . قال و قدم طلحة في اليوم الذي بويع فيه لعثمان فتلكأ ساعة ثم بايع .
[ 195 ]

(25/10)

و روى أبو جعفر رواية أخرى أطالها و ذكر خطب أهل الشورى و ما قاله كل منهم و ذكر كلاما قاله علي ع في ذلك اليوم و هو الحمد لله الذي اختار محمدا منا نبيا و ابتعثه إلينا رسولا فنحن أهل بيت النبوة و معدن الحكمة أمان لأهل الأرض و نجاة لمن طلب إن لنا حقا إن نعطه نأخذه و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و إن طال السرى لو عهد إلينا رسول الله ص عهدا لأنفذنا عهده و لو قال لنا قولا لجالدنا عليه حتى نموت لن يسرع أحد قبلي إلى دعوة حق و صلة رحم و لا حول و لا قوة إلا بالله العلي العظيم اسمعوا كلامي و عوا منطقي عسى أن تروا هذا الأمر بعد هذا الجمع تنتضى فيه السيوف و تخان فيه العهود حتى لا يكون لكم جماعة و حتى يكون بعضكم أئمة لأهل الضلالة و شيعة لأهل الجهالة . قلت و قد ذكر الهروي في كتاب الجمع بين الغريبين قوله و إن نمنعه نركب أعجاز الإبل و فسره على وجهين أحدهما أن من ركب عجز البعير يعاني مشقة و يقاسي جهدا فكأنه قال و إن نمنعه نصبر على المشقة كما يصبر عليها راكب عجز البعير . و الوجه الثاني أنه أراد نتبع غيرنا كما أن راكب عجز البعير يكون رديفا لمن هو أمامه فكأنه قال و إن نمنعه نتأخر و نتبع غيرنا كما يتأخر راكب البعير .
[ 196 ]

(25/11)

و قال أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل استجيبت دعوة علي ع في عثمان و عبد الرحمن فما ماتا إلا متهاجرين متعاديين أرسل عبد الرحمن إلى عثمان يعاتبه و قال لرسوله قل له لقد وليتك ما وليتك من أمر الناس و إن لي لأمورا ما هي لك شهدت بدرا و ما شهدتها و شهدت بيعة الرضوان و ما شهدتها و فررت يوم أحد و صبرت فقال عثمان لرسوله قل له أما يوم بدر فإن رسول الله ص ردني إلى ابنته لما بها من المرض و قد كنت خرجت للذي خرجت له و لقيته عند منصرفه فبشرني بأجر مثل أجوركم و أعطاني سهما مثل سهامكم و أما بيعة الرضوان فإنه ص بعثني أستأذن قريشا في دخوله إلى مكة فلما قيل له إني قتلت بايع المسلمين على الموت لما سمعه عني و قال إن كان حيا فأنا أبايع عنه و صفق بإحدى يديه على الأخرى و قال يساري خير من يمين عثمان فيدك أفضل أم يد رسول الله ص و أما صبرك يوم أحد و فراري فلقد كان ذلك فأنزل الله تعالى العفو عني في كتابه فعيرتني بذنب غفره الله لي و نسيت من ذنوبك ما لا تدري أ غفر لك أم لم يغفر . لما بنى عثمان قصره طمار بالزوراء و صنع طعاما كثيرا و دعا الناس إليه كان فيهم عبد الرحمن فلما نظر للبناء و الطعام قال يا ابن عفان لقد صدقنا عليك ما كنا نكذب فيك و إني أستعيذ بالله من بيعتك فغضب عثمان و قال أخرجه عني يا غلام فأخرجوه و أمر الناس ألا يجالسوه فلم يكن يأتيه أحد إلا ابن عباس كان يأتيه فيتعلم منه القرآن و الفرائض و مرض عبد الرحمن فعاده عثمان و كلمه فلم يكلمه حتى مات
[ 197 ]

(25/12)

إِلَى أَنْ قَامَ ثَالِثُ اَلْقَوْمِ نَافِجاً حِضْنَيْهِ بَيْنَ نَثِيلِهِ وَ مُعْتَلَفِهِ وَ قَامَ مَعَهُ بَنُو أَبِيهِ يَخْضَمُونَ مَالَ اَللَّهِ خَضْمَ خِضْمَةَ اَلْإِبِلِ نِبْتَةَ اَلرَّبِيعِ إِلَى أَنِ اِنْتَكَثَ عَلَيْهِ فَتْلُهُ وَ أَجْهَزَ عَلَيْهِ عَمَلُهُ وَ كَبَتْ بِهِ بِطْنَتُهُ نافجا حضنيه رافعا لهما و الحضن ما بين الإبط و الكشح يقال للمتكبر جاء نافجا حضنيه و يقال لمن امتلأ بطنه طعاما جاء نافجا حضنيه و مراده ع هذا الثاني و النثيل الروث و المعتلف موضع العلف يريد أن همه الأكل و الرجيع و هذا من ممض الذم و أشد من قول الحطيئة الذي قيل إنه أهجى بيت للعرب
دع المكارم لا ترحل لبغيتها
و اقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
و الخضم أكل بكل الفم و ضده القضم و هو الأكل بأطراف الأسنان و قيل الخضم أكل الشي ء الرطب و القضم أكل الشي ء اليابس و المراد على التفسيرين لا يختلف و هو أنهم على قدم عظيمة من النهم و شدة الأكل و امتلاء الأفواه و قال أبو ذر رحمه الله تعالى إن بني أمية يخضمون و نقضم و الموعد لله و الماضي خضمت بالكسر و مثله قضمت . و النبتة بكسر النون كالنبات تقول نبت الرطب نباتا و نبتة و انتكث فتله انتقض و هذه استعارة و أجهز عليه عمله تمم قتله يقال أجهزت على الجريح مثل ذففت إذا أتممت قتله و كبت به بطنته كبا الجواد إذا سقط لوجهه و البطنة الإسراف في الشبع
[ 198 ]

(25/13)

نتف من أخبار عثمان بن عفان
و ثالث القوم هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف كنيته أبو عمرو و أمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس . بايعه الناس بعد انقضاء الشورى و استقرار الأمر له و صحت فيه فراسة عمر فإنه أوطأ بني أمية رقاب الناس و ولاهم الولايات و أقطعهم القطائع و افتتحت إفريقية في أيامه فأخذ الخمس كله فوهبه لمروان فقال عبد الرحمن بن حنبل الجمحي
أحلف بالله رب الأنام * ما ترك الله شيئا سدى
و لكن خلقت لنا فتنة * لكي نبتلى بك أو تبتلى
فإن الأمينين قد بينا * منار الطريق عليه الهدى
فما أخذا درهما غيلة * و لا جعلا درهما في هوى
و أعطيت مروان خمس البلاد * فهيهات سعيك ممن سعى
الأمينان أبو بكر و عمر . و طلب منه عبد الله بن خالد بن أسيد صلة فأعطاه أربعمائة ألف درهم . و أعاد الحكم بن أبي العاص بعد أن كان رسول الله ص قد سيره ثم لم يرده أبو بكر و لا عمر و أعطاه مائة ألف درهم . و تصدق رسول الله ص بموضع سوق بالمدينة يعرف بمهزور على المسلمين فأقطعه عثمان الحارث بن الحكم أخا مروان بن الحكم . و أقطع مروان فدك و قد كانت فاطمة ع طلبتها بعد وفاة أبيها ص
[ 199 ]

(26/1)

تارة بالميراث و تارة بالنحلة فدفعت عنها . و حمى المراعي حول المدينة كلها من مواشي المسلمين كلهم إلا عن بني أمية . و أعطى عبد الله بن أبي سرح جميع ما أفاء الله عليه من فتح إفريقية بالمغرب و هي من طرابلس الغرب إلى طنجة من غير أن يشركه فيه أحد من المسلمين . و أعطى أبا سفيان بن حرب مائتي ألف من بيت المال في اليوم الذي أمر فيه لمروان بن الحكم بمائة ألف من بيت المال و قد كان زوجه ابنته أم أبان فجاء زيد بن أرقم صاحب بيت المال بالمفاتيح فوضعها بين يدي عثمان و بكى فقال عثمان أ تبكي أن وصلت رحمي قال لا و لكن أبكي لأني أظنك أنك أخذت هذا المال عوضا عما كنت أنفقته في سبيل الله في حياة رسول الله ص و الله لو أعطيت مروان مائة درهم لكان كثيرا فقال ألق المفاتيح يا ابن أرقم فأنا سنجد غيرك . و أتاه أبو موسى بأموال من العراق جليلة فقسمها كلها في بني أمية و أنكح الحارث بن الحكم ابنته عائشة فأعطاه مائة ألف من بيت المال أيضا بعد صرفه زيد بن أرقم عن خزنة . و انضم إلى هذه الأمور أمور أخرى نقمها عليه المسلمون كتسيير أبي ذر رحمه الله تعالى إلى الربذة و ضرب عبد الله بن مسعود حتى كسر أضلاعه و ما أظهر من الحجاب و العدول عن طريقة عمر في إقامة الحدود و رد المظالم و كف الأيدي العادية و الانتصاب لسياسة الرعية و ختم ذلك ما وجدوه من كتابه إلى معاوية يأمره فيه بقتل قوم من المسلمين و اجتمع عليه كثير من أهل المدينة مع القوم الذين وصلوا من مصر لتعديد أحداثه عليه فقتلوه . و قد أجاب أصحابنا عن المطاعن في عثمان بأجوبة مشهورة مذكورة في كتبهم و الذي نقول نحن إنها و إن كانت أحداثا إلا أنها لم تبلغ المبلغ الذي يستباح به دمه
[ 200 ]
و قد كان الواجب عليهم أن يخلعوه من الخلافة حيث لم يستصلحوه لها و لا يعجلوا بقتله و أمير المؤمنين ع أبرأ الناس من دمه و قد صرح بذلك في كثير من كلامه من ذلك

(26/2)

قوله ع و الله ما قتلت عثمان و لا مالأت على قتله و صدق ص : فَمَا رَاعَنِي إِلاَّ وَ اَلنَّاسُ إِلَيَّ كَعُرْفِ اَلضَّبُعِ إِلَيَّ يَنْثَالُونَ عَلَيَّ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ حَتَّى لَقَدْ وُطِئَ اَلْحَسَنَانِ وَ شُقَّ عِطْفَايَ [ عِطَافِي ] مُجْتَمِعِينَ حَوْلِي كَرَبِيضَةِ اَلْغَنَمِ فَلَمَّا نَهَضْتُ بِالْأَمْرِ نَكَثَتْ طَائِفَةٌ وَ مَرَقَتْ أُخْرَى وَ فَسَقَ قَسَطَ [ فَسَقَ ] آخَرُونَ كَأَنَّهُمْ لَمْ يَسْمَعُوا كَلاَمَ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ حَيْثُ يَقُولُ تِلْكَ اَلدَّارُ اَلْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي اَلْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ اَلْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ بَلَى وَ اَللَّهِ لَقَدْ سَمِعُوهَا وَ وَعَوْهَا وَ لَكِنَّهُمْ حَلِيَتِ اَلدُّنْيَا فِي أَعْيُنِهِمْ وَ رَاقَهُمْ زِبْرِجُهَا عرف الضبع ثخين و يضرب به المثل في الازدحام و ينثالون يتتابعون مزدحمين و الحسنان الحسن و الحسين ع و العطفان الجانبان من المنكب إلى الورك و يروى عطافي و العطاف الرداء و هو أشبه بالحال إلا أن الرواية الأولى أشهر و المعنى خدش جانباي لشدة الاصطكاك منهم و الزحام و قال القطب الراوندي الحسنان إبهاما الرجل و هذا لا أعرفه .
[ 201 ]
و قوله كربيضة الغنم أي كالقطعة الرابضة من الغنم يصف شدة ازدحامهم حوله و جثومهم بين يديه . و قال القطب الراوندي يصف بلادتهم و نقصان عقولهم لأن الغنم توصف بقلة الفطنة و هذا التفسير بعيد و غير مناسب للحال . فأما الطائفة الناكثة فهم أصحاب الجمل و أما الطائفة الفاسقة فأصحاب صفين و سماهم رسول الله ص القاسطين و أما الطائفة المارقة فأصحاب النهروان و أشرنا نحن بقولنا سماهم رسول الله ص القاسطين إلى

(26/3)

قوله ع ستقاتل بعدي الناكثين و القاسطين و المارقين و هذا الخبر من دلائل نبوته ص لأنه إخبار صريح بالغيب لا يحتمل التمويه و التدليس كما تحتمله الأخبار المجملة و صدق قوله ع و المارقين
قوله أولا في الخوارج يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية و صدق قوله ع الناكثين كونهم نكثوا البيعة بادئ بدء و قد كان ع يتلو وقت مبايعتهم له فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ . و أما أصحاب صفين فإنهم عند أصحابنا رحمهم الله مخلدون في النار لفسقهم فصح فيهم قوله تعالى وَ أَمَّا اَلْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً . و قوله ع حليت الدنيا في أعينهم تقول حلا الشي ء في فمي يحلو و حلي لعيني يحلى و الزبرج الزينة من وشي أو غيره و يقال الزبرج الذهب . فأما الآية فنحن نذكر بعض ما فيها فنقول إنه تعالى لم يعلق الوعد بترك العلو في الأرض و الفساد و لكن بترك إرادتهما و هو كقوله تعالى وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى اَلَّذِينَ
[ 202 ]
ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ اَلنَّارُ علق الوعيد بالركون إليهم و الميل معهم و هذا شديد في الوعيد .

(26/4)

و يروى عن أمير المؤمنين ع أنه قال إن الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أحسن من شراك نعل صاحبه فيدخل تحت هذه الآية و يقال إن عمر بن عبد العزيز كان يرددها حتى قبض : أَمَا وَ اَلَّذِي فَلَقَ اَلْحَبَّةَ وَ بَرَأَ اَلنَّسَمَةَ لَوْ لاَ حُضُورُ اَلْحَاضِرِ وَ قِيَامُ اَلْحُجَّةِ بِوُجُودِ اَلنَّاصِرِ وَ مَا أَخَذَ اَللَّهُ عَلَى اَلْعُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِمٍ وَ لاَ سَغَبِ مَظْلُومٍ لَأَلْقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا وَ لَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِهَا وَ لَأَلْفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هَذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْزٍ فلق الحبة من قوله تعالى فالِقُ اَلْحَبِّ وَ اَلنَّوى و النسمة كل ذي روح من البشر خاصة . قوله لو لا حضور الحاضر يمكن أن يريد به لو لا حضور البيعة فإنها بعد عقدها تتعين المحاماة عنها و يمكن أن يريد بالحاضر من حضره من الجيش الذين يستعين بهم على الحرب و الكظة بكسر الكاف ما يعتري الإنسان من الثقل و الكرب عند الامتلاء من الطعام و السغب الجوع و قولهم قد ألقى فلان حبل فلان على غاربه
[ 203 ]

(26/5)

أي تركه هملا يسرح حيث يشاء من غير وازع و لا مانع و الفقهاء يذكرون هذه اللفظة في كنايات الطلاق و عفطة عنز ما تنثره من أنفها عفطت تعفط بالكسر و أكثر ما يستعمل ذلك في النعجة فأما العنز فالمستعمل الأشهر فيها النفطة بالنون و يقولون ما له عافط و لا نافط أي نعجة و لا عنز فإن قيل أ يجوز أن يقال العفطة هاهنا الحبقة فإن ذلك يقال في العنز خاصة عفطت تعفط قيل ذلك جائز إلا أن الأحسن و الأليق بكلام أمير المؤمنين ع التفسير الأول فإن جلالته و سؤدده تقتضي أن يكون ذاك أراد لا الثاني فإن صح أنه لا يقال في العطسة عفطة إلا للنعجة قلنا إنه استعمله في العنز مجازا . يقول ع لو لا وجود من ينصرني لا كما كانت الحال عليها أولا بعد وفاة رسول الله ص فإني لم أكن حينئذ واجدا للناصر مع كوني مكلفا إلا أمكن الظالم من ظلمه لتركت الخلافة و لرفضتها الآن كما رفضتها قبل و لوجدتم هذه الدنيا عندي أهون من عطسة عنز و هذا إشارة إلى ما يقوله أصحابنا من وجوب النهي عن المنكر عند التمكن : قَالُوا وَ قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ اَلسَّوَادِ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِلَى هَذَا اَلْمَوْضِعِ مِنْ خُطْبَتِهِ فَنَاوَلَهُ كِتَاباً قِيلَ إِنَّ فِيهِ مَسَائِلَ كَانَ يُرِيدُ اَلْإِجَابَةَ عَنْهَا فَأَقْبَلَ يَنْظُرُ فِيهِ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ [ فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهِ ] قَالَ لَهُ اِبْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا يَا أَمِيرَ اَلْمُؤْمِنِينَ لَوِ اِطَّرَدَتْ مَقَالَتُكَ خُطْبَتُكَ مِنْ حَيْثُ أَفْضَيْتَ فَقَالَ هَيْهَاتَ يَا اِبْنَ عَبَّاسٍ تِلْكَ شِقْشِقَةٌ هَدَرَتْ ثُمَّ قَرَّتْ قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ فَوَاللَّهِ مَا أَسَفْتُ عَلَى كَلاَمٍ قَطُّ كَأَسَفِي عَلَى هَذَا اَلْكَلاَمِ أَلاَّ يَكُونَ أَمِيرُ اَلْمُؤْمِنِينَ بَلَغَ مِنْهُ حَيْثُ أَرَادَ
[ 204 ]

(26/6)

قوله عليه السلام في هذه الخطبة كراكب الصعبة إن أشنق لها خرم و إن أسلس لها تقحم يريد أنه إذا شدد عليها في جذب الزمام و هي تنازعه رأسها خرم أنفها و إن أرخى لها شيئا مع صعوبتها تقحمت به فلم يملكها يقال أشنق الناقة إذا جذب رأسها بالزمام فرفعه و شنقها أيضا ذكر ذلك ابن السكيت في إصلاح المنطق و إنما قال ع أشنق لها و لم يقل أشنقها لأنه جعله في مقابلة قوله أسلس لها فكأنه قال إن رفع لها رأسها بالزمام يعني أمسكه عليها و في الحديث أن رسول الله ص خطب على ناقة و قد شنق لها فهي تقصع بجرتها و من الشاهد على أن أشنق بمعنى شنق قول عدي بن زيد العبادي
ساءها ما لها تبين في الأيدي
و إشناقها إلى الأعناق
سمي السواد سوادا لخضرته بالزروع و الأشجار و النخل و العرب تسمي الأخضر أسود قال سبحانه مُدْهامَّتانِ يريد الخضرة و قوله لو اطردت مقالتك أي أتبعت الأول قولا ثانيا من قولهم اطرد النهر إذا تتابع جريه . و قوله من حيث أفضيت أصل أفضى خرج إلى الفضاء فكأنه شبهه ع حيث سكت عما كان يقوله بمن خرج من خباء أو جدار إلى فضاء من الأرض و ذلك لأن النفس و القوى و الهمة عند ارتجال الخطب و الأشعار تجتمع إلى القلب فإذا قطع الإنسان و فرغ تفرقت و خرجت عن حجر الاجتماع و استراحت
[ 205 ]

(26/7)

و الشقشقة بالكسر فيهما شي ء يخرجه البعير من فيه إذا هاج و إذا قالوا للخطيب ذو شقشقة فإنما شبهوه بالفحل و الهدير صوتها . و أما قول ابن عباس ما أسفت على كلام إلى آخره فحدثني شيخي أبو الخير مصدق بن شبيب الواسطي في سنة ثلاث و ستمائة قال قرأت على الشيخ أبي محمد عبد الله بن أحمد المعروف بابن الخشاب هذه الخطبة فلما انتهيت إلى هذا الموضع قال لي لو سمعت ابن عباس يقول هذا لقلت له و هل بقي في نفس ابن عمك أمر لم يبلغه في هذه الخطبة لتتأسف ألا يكون بلغ من كلامه ما أراد و الله ما رجع عن الأولين و لا عن الآخرين و لا بقي في نفسه أحد لم يذكره إلا رسول الله ص . قال مصدق و كان ابن الخشاب صاحب دعابة و هزل قال فقلت له أ تقول إنها منحولة فقال لا و الله و إني لأعلم أنها كلامه كما أعلم أنك مصدق قال فقلت له إن كثيرا من الناس يقولون إنها من كلام الرضي رحمه الله تعالى فقال أنى للرضي و لغير الرضي هذا النفس و هذا الأسلوب قد وقفنا على رسائل الرضي و عرفنا طريقته و فنه في الكلام المنثور و ما يقع مع هذا الكلام في خل و لا خمر ثم قال و الله لقد وقفت على هذه الخطبة في كتب صنفت قبل أن يخلق الرضي بمائتي سنة و لقد وجدتها مسطورة بخطوط أعرفها و أعرف خطوط من هو من العلماء و أهل الأدب قبل أن يخلق النقيب أبو أحمد والد الرضي . قلت و قد وجدت أنا كثيرا من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البلخي
[ 206 ]
إمام البغداديين من المعتزلة و كان في دولة المقتدر قبل أن يخلق الرضي بمدة طويلة و وجدت أيضا كثيرا منها في كتاب أبي جعفر بن قبة أحد متكلمي الإمامية و هو الكتاب المشهور المعروف بكتاب الإنصاف و كان أبو جعفر هذا من تلامذة الشيخ أبي القاسم البلخي رحمه الله تعالى و مات في ذلك العصر قبل أن يكون الرضي رحمه الله تعالى موجودا
[ 207 ]

(26/8)

4 ـ و من خطبة له ع
بِنَا اِهْتَدَيْتُمْ فِي اَلظَّلْمَاءِ وَ تَسَنَّمْتُمُ تَسَنَّمْتُمْ ذُرْوَةَ اَلْعَلْيَاءَ اَلْعَلْيَاءِ وَ بِنَا اِنْفَجَرْتُمْ أَفْجَرْتُمْ [ اِنْفَجَرْتُمْ ] عَنِ السِّرَارِ وُقِرَ سَمْعٌ لَمْ يَفْقَهِ [ يَسْمَعِ ] اَلْوَاعِيَةَ وَ كَيْفَ يُرَاعِي اَلنَّبْأَةَ مَنْ أَصَمَّتْهُ اَلصَّيْحَةُ رُبِطَ جَنَانٌ لَمْ يُفَارِقْهُ اَلْخَفَقَانُ مَا زِلْتُ أَنْتَظِرُ بِكُمْ عَوَاقِبَ اَلْغَدْرِ وَ أَتَوَسَّمُكُمْ بِحِلْيَةِ اَلْمُغْتَرِّينَ حَتَّى سَتَرَنِي عَنْكُمْ جِلْبَابُ اَلدِّينِ وَ بَصَّرَنِيكُمْ صِدْقُ اَلنِّيَّةِ أَقَمْتُ لَكُمْ عَلَى سَنَنِ اَلْحَقِّ فِي جَوَادِّ اَلْمَضَلَّةِ حَيْثُ تَلْتَقُونَ وَ لاَ دَلِيلَ وَ تَحْتَفِرُونَ وَ لاَ تُمِيهُونَ اَلْيَوْمَ أُنْطِقُ لَكُمُ اَلْعَجْمَاءَ ذَاتَ اَلْبَيَانِ عَزَبَ [ غَرَبَ ] رَأْيُ اِمْرِئٍ تَخَلَّفَ عَنِّي مَا شَكَكْتُ فِي اَلْحَقِّ مُذْ أُرِيتُهُ لَمْ يُوجِسْ مُوسَى ع خِيفَةً عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَشْفَقَ مِنْ غَلَبَةِ اَلْجُهَّالِ وَ دُوَلِ اَلضَّلاَلِ اَلْيَوْمَ تَوَاقَفْنَا عَلَى سَبِيلِ اَلْحَقِّ وَ اَلْبَاطِلِ مَنْ وَثِقَ بِمَاءٍ لَمْ يَظْمَأْ
[ 208 ]

(27/1)

هذه الكلمات و الأمثال ملتقطة من خطبة طويلة منسوبة إليه ع قد زاد فيها قوم أشياء حملتهم عليها أهواؤهم لا توافق ألفاظها طريقته ع في الخطب و لا تناسب فصاحتها فصاحته و لا حاجة إلى ذكرها فهي شهيرة و نحن نشرح هذه الألفاظ لأنها كلامه ع لا يشك في ذلك من له ذوق و نقد و معرفة بمذاهب الخطباء و الفصحاء في خطبهم و رسائلهم و لأن الرواية لها كثيرة و لأن الرضي رحمة الله تعالى عليه قد التقطها و نسبها إليه ع و صححها و حذف ما عداها . و أما قوله ع بنا اهتديتم في الظلماء فيعني بالظلماء الجهالة و تسنمتم العلياء ركبتم سنامها و هذه استعارة . قوله و بنا انفجرتم عن السرار أي دخلتم في الفجر و السرار الليلة و الليلتان يستتر فيهما القمر في آخر الشهر فلا يظهر و روي أفجرتم و هو أفصح و أصح لأن انفعل لا يكون إلا مطاوع فعل نحو كسرته فانكسر و حطمته فانحطم إلا ما شذ من قولهم أغلقت الباب فانغلق و أزعجته فانزعج و أيضا فإنه لا يقع إلا حيث يكون علاج و تأثير نحو انكسر و انحطم و لهذا قالوا إن قولهم انعدم خطأ و أما أفعل فيجي ء لصيرورة الشي ء على حال و أمر نحو أغد البعير أي صار ذا غدة و أجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى و غير ذلك فأفجرتم أي صرتم ذوي فجر . و أما عن في قوله عن السرار فهي للمجاوزة على حقيقة معناها الأصلي أي منتقلين عن السرار و متجاوزين له . و قوله ع وقر سمع هذا دعاء على السمع الذي لم يفقه الواعية بالثقل و الصمم وقرت أذن زيد بضم الواو فهي موقورة و الوقر بالفتح الثقل في الأذن
[ 209 ]

(27/2)

وقرت أذنه بفتح الواو و كسر القاف توقر وقرا أي صمت و المصدر في هذا الموضع جاء بالسكون و هو شاذ و قياسه التحريك بالفتح نحو ورم ورما و الواعية الصارخة من الوعاء و هو الجلبة و الأصوات و المراد العبر و المواعظ . قوله كيف يراعي النبأة هذا مثل آخر يقول كيف يلاحظ و يراعي العبر الضعيفة من لم ينتفع بالعبر الجلية الظاهرة بل فسد عندها و شبه ذلك بمن أصمته الصيحة القوية فإنه محال أن يراعي بعد ذلك الصوت الضعيف و النبأة هي الصوت الخفي . فإن قيل هذا يخالف قولكم إن الاستفساد لا يجوز على الحكيم سبحانه فإن كلامه ع صريح في أن بعض المكلفين يفسد عند العبر و المواعظ . قيل إن لفظة أفعل قد تأتي لوجود الشي ء على صفة نحو أحمدته إذا أصبته محمودا و قالوا أحييت الأرض إذا وجدتها حية النبات فقوله أصمته الصيحة ليس معناه أن الصيحة كانت علة لصممه بل معناه صادفته أصم و بهذا تأول أصحابنا قوله تعالى وَ أَضَلَّهُ اَللَّهُ عَلى عِلْمٍ . قوله ربط جنان لم يفارقه الخفقان هذا مثل آخر و هو دعاء لقلب لا يزال خائفا من الله يخفق بالثبوت و الاستمساك . قوله ما زلت أنتظر بكم يقول كنت مترقبا غدركم متفرسا فيكم الغرر و هو الغفلة . و قيل إن هذه الخطبة خطبها بعد مقتل طلحة و الزبير مخاطبا بها لهما و لغيرهما من أمثالهما كما قال النبي ص يوم بدر بعد قتل من قتل من قريش يا عتبة بن ربيعة
[ 210 ]

(27/3)

يا شيبة بن ربيعة يا عمرو بن هشام و هم جيف منتنة قد جروا إلى القليب . قوله سترني عنكم هذا يحتمل وجوها أوضحها أن إظهاركم شعار الإسلام عصمكم مني مع علمي بنفاقكم و إنما أبصرت نفاقكم و بواطنكم الخبيثة بصدق نيتي كما يقال المؤمن يبصر بنور الله و يحتمل أن يريد سترني عنكم جلباب ديني و منعني أن أعرفكم نفسي و ما أقدر عليه من عسفكم كما تقول لمن استهان بحقك أنت لا تعرفني و لو شئت لعرفتك نفسي . و فسر القطب الراوندي قوله ع و بصرنيكم صدق النية قال معناه أنكم إذا صدقتم نياتكم و نظرتم بأعين لم تطرف بالحسد و الغش و أنصفتموني أبصرتم عظيم منزلتي . و هذا ليس بجيد لأنه لو كان هو المراد لقال و بصركم إياي صدق النية و لم يقل ذلك و إنما قال بصرنيكم فجعل صدق النية مبصرا له لا لهم و أيضا فإنه حكم بأن صدق النية هو علة التبصير و أعداؤه لم يكن فيهم صادق النية و ظاهر الكلام الحكم و القطع لا التعليق بالشرط . قوله أقمت لكم على سنن الحق يقال تنح عن سنن الطريق و سنن الطريق بفتح السين و ضمها فالأول مفرد و الثاني جمع سنة و هي جادة الطريق و الواضح منها و أرض مضلة و مضلة بفتح الضاد و كسرها يضل سالكها و أماه المحتفر يميه أنبط الماء يقول فعلت من إرشادكم و أمركم بالمعروف و نهيكم عن المنكر ما يجب على مثلي فوقفت لكم على جادة الحق و منهجه حيث طرق الضلال كثيرة مختلفة من سائر جهاتي و أنتم تائهون فيها تلتقون و لا دليل لكم و تحتفرون لتجدوا ماء تنقعون به غلتكم فلا تظفرون بالماء و هذه كلها استعارات .
[ 211 ]

(27/4)

قوله اليوم أنطق هذا مثل آخر و العجماء التي لا نطق لها و هذا إشارة إلى الرموز التي تتضمنها هذه الخطبة يقول هي خفية غامضة و هي مع غموضها جلية لأولى الألباب فكأنها تنطق كما ينطق ذوو الألسنة كما قيل ما الأمور الصامتة الناطقة فقيل الدلائل المخبرة و العبر الواعظة و في الأثر سل الأرض من شق أنهارك و أخرج ثمارك فإن لم تجبك حوارا أجابتك اعتبارا . قوله عزب رأي امرئ تخلف عني هذا كلام آخر عزب أي بعد و العازب البعيد و يحتمل أن يكون هذا الكلام إخبارا و أن يكون دعاء كما أن قوله تعالى حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ يحتمل الأمرين . قوله ما شككت في الحق مذ رأيته هذا كلام آخر يقول معارفي ثابتة لا يتطرق إليها الشك و الشبهة . قوله لم يوجس موسى هذا كلام شريف جدا يقول إن موسى لما أوجس الخيفة بدلالة قوله تعالى فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى لم يكن ذلك الخوف على نفسه و إنما خاف من الفتنة و الشبهة الداخلة على المكلفين عند إلقاء السحرة عصيهم فخيل إليه من سحرهم أنها تسعى و كذلك أنا لا أخاف على نفسي من الأعداء الذين نصبوا لي الحبائل و أرصدوا لي المكايد و سعروا علي نيران الحرب و إنما أخاف أن يفتتن المكلفون بشبههم و تمويهاتهم فتقوى دولة الضلال و تغلب كلمة الجهال . قوله اليوم تواقفنا القاف قبل الفاء تواقف القوم على الطريق أي وقفوا كلهم عليها يقول اليوم اتضح الحق و الباطل و عرفناهما نحن و أنتم . قوله من وثق بماء لم يظمأ الظمأ الذي يكون عند عدم الثقة بالماء و ليس
[ 212 ]
يريد النفي المطلق لأن الواثق بالماء قد يظمأ و لكن لا يكون عطشه على حد العطش الكائن عند عدم الماء و عدم الوثوق بوجوده و هذا كقول أبي الطيب
و ما صبابة مشتاق على أمل
من اللقاء كمشتاق بلا أمل

(27/5)

و الصائم في شهر رمضان يصبح جائعا تنازعه نفسه إلى الغذاء و في أيام الفطر لا يجد تلك المنازعة في مثل ذلك الوقت لأن الصائم ممنوع و النفس تحرص على طلب ما منعت منه يقول إن وثقتم بي و سكنتم إلى قولي كنتم أبعد عن الضلال و أقرب إلى اليقين و ثلج النفس كمن وثق بأن الماء في إداوته يكون عن الظمأ و خوف الهلاك من العطش أبعد ممن لم يثق بذلك
[ 213 ]

(27/6)

5 ـ و من كلام خطبة له ع لما قبض رسول الله ص و خاطبه العباس و أبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
و ذلك بعد أن تمت البيعة لأبي بكر في السقيفة و فيها ينهى عن الفتنة و يبين عن خلقه و علمه أَيُّهَا اَلنَّاسُ شُقُّوا أَمْوَاجَ اَلْفِتَنِ بِسُفُنِ اَلنَّجَاةِ وَ عَرِّجُوا عَنْ طَرِيقِ اَلْمُنَافَرَةِ وَ ضَعُوا تِيجَانَ اَلْمُفَاخَرَةِ أَفْلَحَ مَنْ نَهَضَ بِجَنَاحٍ أَوِ اِسْتَسْلَمَ فَأَرَاحَ هَذَا مَاءٌ آجِنٌ وَ لُقْمَةٌ يَغَصُّ بِهَا آكِلُهَا وَ مُجْتَنِي اَلثَّمَرَةِ لِغَيْرِ وَقْتِ إِينَاعِهَا كَالزَّارِعِ بِغَيْرِ أَرْضِهِ فَإِنْ أَقُلْ يَقُولُوا حَرَصَ عَلَى اَلْمُلْكِ وَ إِنْ أَسْكُتْ يَقُولُوا جَزِعَ مِنَ اَلْمَوْتِ هَيْهَاتَ بَعْدَ اَللَّتَيَّا وَ اَلَّتِي وَ اَللَّهِ لاَبْنُ أَبِي طَالِبٍ آنَسُ بِالْمَوْتِ مِنَ اَلطِّفْلِ بِثَدْيِ أُمِّهِ بَلِ اِنْدَمَجْتُ عَلَى مَكْنُونِ عِلْمٍ لَوْ بُحْتُ بِهِ لاَضْطَرَبْتُمْ اِضْطِرَابَ اَلْأَرْشِيَةِ فِي اَلطَّوِيِّ اَلْبَعِيدَةِ المفاخرة أن يذكر كل واحد من الرجلين مفاخره و فضائله و قديمه ثم يتحاكما إلى ثالث و الماء الآجن المتغير الفاسد أجن الماء بفتح الجيم يأجن و يأجن بالكسر و الضم و الإيناع إدراك الثمرة و اللتيا تصغير التي كما أن اللذيا تصغير الذي و اندمجت انطويت و الطوي البئر المطوية بالحجارة يقول تخلصوا عن الفتنة و انجوا منها بالمتاركة و المسالمة و العدول عن المنافرة و المفاخرة .
[ 214 ]

(28/1)

أفلح من نهض بجناح أي مات شبه الميت المفارق للدنيا بطائر نهض عن الأرض بجناحه و يحتمل أن يريد بذلك أفلح من اعتزل هذا العالم و ساح في الأرض منقطعا عن تكاليف الدنيا و يحتمل أيضا أن يريد أفلح من نهض في طلب الرئاسة بناصر ينصره و أعوان يجاهدون بين يديه و على التقادير كلها تنطبق اللفظة الثانية و هي قوله أو استسلم فأراح أي أراح نفسه باستسلامه . ثم قال الإمرة على الناس وخيمة العاقبة ذات مشقة في العاجلة فهي في عاجلها كالماء الآجن يجد شاربه مشقة و في آجلها كاللقمة التي تحدث عن أكلها الغصة و يغص مفتوح حرف المضارعة و مفتوح الغين أصله غصصت بالكسر و يحتمل أن يكون الأمران معا للعاجلة لأن الغصص في أول البلع كما أن ألم شرب الماء الآجن يحدث في أول الشرب و يجوز ألا يكون عنى الإمرة المطلقة بل هي الإمرة المخصوصة يعني بيعة السقيفة . ثم أخذ في الاعتذار عن الإمساك و ترك المنازعة فقال مجتني الثمرة قبل أن تدرك لا ينتفع بما اجتناه كمن زرع في غير أرضه و لا ينتفع بذلك الزرع يريد أنه ليس هذا الوقت هو الوقت الذي يسوغ لي فيه طلب الأمر و أنه لم يأن بعد . ثم قال قد حصلت بين حالين إن قلت قال الناس حرص على الملك و إن لم أقل قالوا جزع من الموت . قال هيهات استبعادا لظنهم فيه الجزع ثم قال اللتيا و التي أي أ بعد اللتيا و التي أجزع أ بعد أن قاسيت الأهوال الكبار و الصغار و منيت بكل داهية عظيمة و صغيرة فاللتيا للصغيرة و التي للكبيرة .
[ 215 ]
ذكر أن أنسه بالموت كأنس الطفل بثدي أمه و أنه انطوى على علم هو ممتنع لموجبه من المنازعة و أن ذلك العلم لا يباح به و لو باح به لاضطرب سامعوه كاضطراب الأرشية و هي الحبال في البئر البعيدة القعر و هذا إشارة إلى الوصية التي خص بها ع إنه قد كان من جملتها الأمر بترك النزاع في مبدأ الاختلاف عليه

(28/2)

استطراد بذكر طائفة من الاستعارات
و اعلم أن أحسن الاستعارات ما تضمن مناسبة بين المستعار و المستعار منه كهذه الاستعارات فإن قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة من هذا النوع و ذلك لأن الفتن قد تتضاعف و تترادف فحسن تشبيهها بأمواج البحر المضطربة و لما كانت السفن الحقيقية تنجي من أمواج البحر حسن أن يستعار لفظ السفن لما ينجي من الفتن و كذلك قوله و ضعوا تيجان المفاخرة لأن التاج لما كان مما يعظم به قدر الإنسان استعارة لما يتعظم به الإنسان من الافتخار و ذكر القديم و كذلك استعارة النهوض بالجناح لمن اعتزل الناس كأنه لما نفض يديه عنهم صار كالطائر الذي ينهض من الأرض بجناحيه . و في الاستعارات ما هو خارج عن هذا النوع و هو مستقبح و ذلك كقول أبي نواس
بح صوت المال مما
منك يبكي و ينوح
و كذلك قوله
ما لرجل المال أضحت
تشتكي منك الكلالا
[ 216 ]
و قول أبي تمام
و كم أحرزت منكم على قبح قدها
صروف النوى من مرهف حسن القد
و كقوله
بلوناك أما كعب عرضك في العلا
فعال و لكن خد مالك أسفل
فإنه لا مناسبة بين الرجل و المال و لا بين الصوت و المال و لا معنى لتصييره للنوى قدا و لا للعرض كعبا و لا للمال خدا . و قريب منه أيضا قوله
لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائي

(29/1)

و يقال إن مخلدا الموصلي بعث إليه بقارورة يسأله أن يبعث له فيها قليلا من ماء الملام فقال لصاحبه قل له يبعث إلي بريشة من جناح الذل لأستخرج بها من القارورة ما أبعثه إليه . و هذا ظلم من أبي تمام المخلد و ما الأمران سوء لأن الطائر إذا أعيا و تعب ذل و خفض جناحيه و كذلك الإنسان إذا استسلم ألقى بيديه ذلا و يده جناحه فذاك هو الذي حسن قوله تعالى وَ اِخْفِضْ لَهُما جَناحَ اَلذُّلِّ أ لا ترى أنه لو قال و اخفض لهما ساق الذل أو بطن الذل لم يكن مستحسنا . و من الاستعارة المستحسنة في الكلام المنثور ما اختاره قدامة بن جعفر في كتاب الخراج نحو قول أبي الحسين جعفر بن محمد بن ثوابة في جوابه لأبي الجيش خمارويه
[ 217 ]

(29/2)

بن أحمد بن طولون عن المعتضد بالله لما كتب بإنفاذ ابنته قطر الندى التي تزوجها المعتضد و ذلك قول ابن ثوابة هذا و أما الوديعة فهي بمنزلة ما انتقل من شمالك إلى يمينك عناية بها و حياطة لها و رعاية لمودتك فيها . و قال ابن ثوابة لما كتب هذا الكتاب لأبي القاسم عبيد الله بن سليمان بن وهب وزير المعتضد و الله إن تسميتي إياها بالوديعة نصف البلاغة . و ذكر أحمد بن يوسف الكاتب رجلا خلا بالمأمون فقال ما زال يفتله في الذروة و الغارب حتى لفته عن رأيه . و قال إسحاق بن إبراهيم الموصلي النبيذ قيد الحديث . و ذكر بعضهم رجلا فذمه فقال هو أملس ليس فيه مستقر لخير و لا شر . و رضي بعض الرؤساء عن رجل من موجدة ثم أقبل يوبخه عليها فقال إن رأيت ألا تخدش وجه رضاك بالتوبيخ فافعل . و قال بعض الأعراب خرجنا في ليلة حندس قد ألقت على الأرض أكارعها فمحت صورة الأبدان فما كنا نتعارف إلا بالآذان . و غزت حنيفة نميرا فأتبعتهم نمير فأتوا عليهم فقيل لرجل منهم كيف صنع قومك قال اتبعوهم و الله و قد أحقبوا كل جمالية خيفانة فما زالوا يخصفون آثار المطي بحوافر الخيل حتى لحقوهم فجعلوا المران أرشية الموت فاستقوا بها أرواحهم . و من كلام لعبد الله بن المعتز يصف القلم يخدم الإرادة و لا يمل الاستزادة
[ 218 ]
و يسكت واقفا و ينطق سائرا على أرض بياضها مظلم و سوادها مضي ء . فأما القطب الراوندي فقال قوله ع شقوا أمواج الفتن بسفن النجاة معناه كونوا مع أهل البيت لأنهم سفن النجاة

(29/3)

لقوله ع مثل أهل بيتي كسفينة نوح من ركبها نجا و من تخلف عنها غرق . و لقائل أن يقول لا شبهة أن أهل البيت سفن النجاة و لكنهم لم يرادوا هاهنا بهذه اللفظة لأنه لو كان ذلك هو المراد لكان قد أمر أبا سفيان و العباس بالكون مع أهل البيت و مراده الآن ينقض ذلك لأنه يأمر بالتقية و إظهار اتباع الذين عقد لهم الأمر و يرى أن الاستسلام هو المتعين فالذي ظنه الراوندي لا يحتمله الكلام و لا يناسبه . و قال أيضا التعريج على الشي ء الإقامة عليه يقال عرج فلان على المنزل إذا حبس نفسه عليه فالتقدير عرجوا على الاستقامة منصرفين عن المنافرة . و لقائل أن يقال التعريج يعدى تارة بعن و تارة بعلى فإذا عديته بعن أردت التجنب و الرفض و إذا عديته بعلى أردت المقام و الوقوف و كلامه ع معدى بعن قال و عرجوا عن طريق المنافرة . و قال أيضا آنس بالموت أي أسر به و ليس بتفسير صحيح بل هو من الأنس ضد الوحشة

(29/4)

اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله
لما قبض رسول الله ص و اشتغل علي ع بغسله و دفنه و بويع أبو بكر خلا الزبير و أبو سفيان و جماعة من المهاجرين بعباس و علي ع
[ 219 ]
لإجالة الرأي و تكلموا بكلام يقتضي الاستنهاض و التهييج فقال العباس رضي الله عنه قد سمعنا قولكم فلا لقلة نستعين بكم و لا لظنة نترك آراءكم فأمهلونا نراجع الفكر فإن يكن لنا من الإثم مخرج يصر بنا و بهم الحق صرير الجدجد و نبسط إلى المجد أكفا لا نقبضها أو نبلغ المدى و إن تكن الأخرى فلا لقلة في العدد و لا لوهن في الأيد و الله لو لا أن الإسلام قيد الفتك لتدكدكت جنادل صخر يسمع اصطكاكها من المحل العلي . فحل علي ع حبوته و قال الصبر حلم و التقوى دين و الحجة محمد و الطريق الصراط أيها الناس شقوا أمواج الفتن . . . الخطبة ثم نهض فدخل إلى منزله و افترق القوم . و قال البراء بن عازب لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص خفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عنهم فأخذني ما يأخذ الوالهة العجول مع ما في نفسي من الحزن لوفاة رسول الله ص فكنت أتردد إلى بني هاشم و هم عند النبي ص في الحجرة و أتفقد وجوه قريش فإني كذلك إذ فقدت أبا بكر و عمر و إذا قائل يقول القوم في سقيفة بني ساعدة و إذا قائل آخر يقول قد بويع أبو بكر فلم ألبث و إذا أنا بأبي بكر قد أقبل و معه عمر و أبو عبيدة و جماعة من أصحاب السقيفة و هم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلا خبطوه و قدموه فمدوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه شاء ذلك أو أبى فأنكرت عقلي و خرجت أشتد حتى انتهيت إلى بني هاشم و الباب مغلق فضربت عليهم الباب ضربا عنيفا و قلت قد بايع الناس لأبي بكر بن أبي قحافة فقال العباس تربت أيديكم إلى آخر الدهر أما إني قد أمرتكم فعصيتموني فمكثت أكابد ما في نفسي و رأيت
[ 220 ]

(30/1)

في الليل المقداد و سلمان و أبا ذر و عبادة بن الصامت و أبا الهيثم بن التيهان و حذيفة و عمارا و هم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين . و بلغ ذلك أبا بكر و عمر فأرسلا إلى أبي عبيدة و إلى المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة الرأي أن تلقوا العباس فتجعلوا له و لولده في هذه الإمرة نصيبا ليقطعوا بذلك ناحية علي بن أبي طالب . فانطلق أبو بكر و عمر و أبو عبيدة و المغيرة حتى دخلوا على العباس و ذلك في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص فحمد أبو بكر الله و أثنى عليه و قال إن الله ابتعث لكم محمدا ص نبيا و للمؤمنين وليا فمن الله عليهم بكونه بين ظهرانيهم حتى اختار له ما عنده فخلى على الناس أمورهم ليختاروا لأنفسهم متفقين غير مختلفين فاختاروني عليهم واليا و لأمورهم راعيا فتوليت ذلك و ما أخاف بعون الله و تسديده وهنا و لا حيرة و لا جبنا و ما توفيقي إلا بالله عليه توكلت و إليه أنيب و ما أنفك يبلغني عن طاعن يقول بخلاف قول عامة المسلمين يتخذكم لجأ فتكونون حصنه المنيع و خطبه البديع فإما دخلتم فيما دخل فيه الناس أو صرفتموهم عما مالوا إليه فقد جئناك و نحن نريد أن نجعل لك في هذا الأمر نصيبا و لمن بعدك من عقبك إذ كنت عم رسول الله ص و إن كان المسلمون قد رأوا مكانك من رسول الله ص و مكان أهلك ثم عدلوا بهذا الأمر عنكم و على رسلكم بني هاشم فإن رسول الله ص منا و منكم . فاعترض كلامه عمر و خرج إلى مذهبه في الخشونة و الوعيد و إتيان الأمر من أصعب جهاته فقال إي و الله و أخرى إنا لم نأتكم حاجة إليكم و لكن كرهنا أن يكون الطعن فيما اجتمع عليه المسلمون منكم فيتفاقم الخطب بكم و بهم فانظروا لأنفسكم و لعامتهم ثم سكت .
[ 221 ]

(30/2)

فتكلم العباس فحمد الله و أثنى عليه ثم قال إن الله ابتعث محمدا نبيا كما وصفت و وليا للمؤمنين فمن الله به على أمته حتى اختار له ما عنده فخلى الناس على أمرهم ليختاروا لأنفسهم مصيبين للحق مائلين عن زيغ الهوى فإن كنت برسول الله طلبت فحقنا أخذت و إن كنت بالمؤمنين فنحن منهم ما تقدمنا في أمركم فرطا و لا حللنا وسطا و لا نزحنا شحطا فإن كان هذا الأمر يجب لك بالمؤمنين فما وجب إذ كنا كارهين و ما أبعد قولك إنهم طعنوا من قولك إنهم مالوا إليك و أما ما بذلت لنا فإن يكن حقك أعطيتناه فأمسكه عليك و إن يكن حق المؤمنين فليس لك أن تحكم فيه و إن يكن حقنا لم نرض لك ببعضه دون بعض و ما أقول هذا أروم صرفك عما دخلت فيه و لكن للحجة نصيبها من البيان و أما قولك إن رسول الله ص منا و منكم فإن رسول الله ص من شجرة نحن أغصانها و أنتم جيرانها و أما قولك يا عمر إنك تخاف الناس علينا فهذا الذي قدمتموه أول ذلك و بالله المستعان . لما اجتمع المهاجرون على بيعة أبي بكر أقبل أبو سفيان و هو يقول أما و الله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم يا لعبد مناف فيم أبو بكر من أمركم أين المستضعفان أين الأذلان يعني عليا و العباس ما بال هذا الأمر في أقل حي من قريش ثم قال لعلي ابسط يدك أبايعك فو الله إن شئت لأملأنها على أبي فصيل يعني أبا بكر . . . خيلا و رجلا فامتنع عليه علي ع فلما يئس منه قام عنه و هو ينشد شعر المتلمس
[ 222 ]
و لا يقيم على ضيم يراد به
إلا الأذلان عير الحي و الوتد
هذا على الخسف مربوط برمته
و ذا يشج فلا يرثي له أحد

(30/3)

قيل لأبي قحافة يوم ولي الأمر ابنه قد ولي ابنك الخلافة فقرأ قُلِ اَللَّهُمَّ مالِكَ اَلْمُلْكِ تُؤْتِي اَلْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ اَلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ ثم قال لم ولوه قالوا لسنه قال أنا أسن منه . نازع أبو سفيان أبا بكر في أمر فأغلظ له أبو بكر فقال له أبو قحافة يا بني أ تقول هذا لأبي سفيان شيخ البطحاء قال إن الله تعالى رفع بالإسلام بيوتا و وضع بيوتا فكان مما رفع بيتك يا أبت و مما وضع بيت أبي سفيان
[ 223 ]

(30/4)

6 ـ و من كلام له ع لما أشير عليه بألا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتال
و فيه يبين عن صفته بأنه ع لا يخدع وَ اَللَّهِ لاَ أَكُونُ كَالضَّبُعِ تَنَامُ عَلَى طُولِ اَللَّدْمِ حَتَّى يَصِلَ إِلَيْهَا طَالِبُهَا وَ يَخْتِلَهَا رَاصِدُهَا وَ لَكِنِّي أَضْرِبُ بِالْمُقْبِلِ إِلَى اَلْحَقِّ اَلْمُدْبِرَ عَنْهُ وَ بِالسَّامِعِ اَلْمُطِيعِ اَلْعَاصِيَ اَلْمُرِيبَ أَبَداً حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيَّ يَوْمِي فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ مَدْفُوعاً عَنْ حَقِّي مُسْتَأْثَراً عَلَيَّ مُنْذُ قَبَضَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اَللَّهُ عَلَيْهِ حَتَّى يَوْمِ اَلنَّاسِ هَذَا يقال أرصد له بشر أي أعد له و هيأه و في الحديث إلا أن أرصده لدين علي و اللدم صوت الحجر أو العصا أو غيرهما تضرب به الأرض ضربا ليس بشديد . و لما شرح الراوندي هذه اللفظات قال و في الحديث و الله لا أكون مثل الضبع تسمع اللدم حتى تخرج فتصاد و قد كان سامحه الله وقت تصنيفه الشرح ينظر في صحاح الجوهري و ينقل منها فنقل هذا الحديث ظنا منه أنه حديث عن رسول الله ص و ليس كما ظن بل الحديث الذي أشار إليه الجوهري هو حديث علي ع الذي نحن بصدد تفسيره . و يختلها راصدها يخدعها مترقبها ختلت فلانا خدعته و رصدته ترقبته و مستأثرا علي أي مستبدا دوني بالأمر و الاسم الأثرة
و في الحديث أنه ص
[ 224 ]

(31/1)

قال للأنصار ستلقون بعدي أثرة فإذا كان ذلك فاصبروا حتى تردوا علي الحوض . و العرب تقول في رموزها و أمثالها أحمق من الضبع و يزعمون أن الصائد يدخل عليها وجارها فيقول لها أطرقي أم طريق خامري أم عامر و يكرر ذلك عليها مرارا معنى أطرقي أم طريق طأطئي رأسك و كناها أم طريق لكثرة إطراقها على فعيل كالقبيط للناطف و العليق لنبت و معنى خامري الزمي وجارك و استتري فيه خامر الرجل منزله إذا لزمه قالوا فتلجأ إلى أقصى مغارها و تتقبض فيقول أم عامر ليست في وجارها أم عامر نائمة فتمد يديها و رجليها و تستلقي فيدخل عليها فيوثقها و هو يقول لها أبشري أم عامر بكم الرجال أبشري أم عامر بشاء هزلى و جراد عظلى أي يركب بعضه بعضا فتشد عراقيبها فلا تتحرك و لو شاءت أن تقتله لأمكنها قال الكميت
فعل المقرة للمقالة
خامري يا أم عامر
و قال الشنفري
لا تقبروني إن قبري محرم
عليكم و لكن خامري أم عامر
إذا ما مضى رأسي و في الرأس أكثري
و غودر عند الملتقى ثم سائري
هنا لك لا أرجو حياة تسرني
سجيس الليالي مبسلا بالجرائر
[ 225 ]

(31/2)

أوصاهم ألا يدفنوه إذا قتل و قال اجعلوني أكلا للسباع كالشي ء الذي يرغب به الضبع في الخروج و تقدير الكلام لا تقبروني و لكن اجعلوني كالتي يقال لها خامري أم عامر و هي الضبع فإنها لا تقبر و يمكن أن يقال أيضا أراد لا تقبروني و اجعلوني فريسة للتي يقال لها خامري أم عامر لأنها تأكل الجيف و أشلاء القتلى و الموتى . و قال أبو عبيدة يأتي الصائد فيضرب بعقبه الأرض عند باب مغارها ضربا خفيفا و ذلك هو اللدم و يقول خامري أم عامر مرارا بصوت ليس بشديد فتنام على ذلك فيدخل إليها فيجعل الحبل في عرقوبها و يجرها فيخرجها يقول لا أقعد عن الحرب و الانتصار لنفسي و سلطاني فيكون حالي مع القوم المشار إليهم حال الضبع مع صائدها فأكون قد أسلمت نفسي فعل العاجز الأحمق و لكني أحارب من عصاني بمن أطاعني حتى أموت ثم عقب ذلك بقوله إن الاستئثار علي و التغلب أمر لم يتجدد الآن و لكنه كان منذ قبض رسول الله ص

(31/3)

طلحة و الزبير و نسبهما
و طلحة هو أبو محمد طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة أبوه ابن عم أبي بكر و أمه الصعبة بنت الحضرمي و كانت قبل أن تكون عند عبيد الله تحت أبي سفيان صخر بن حرب فطلقها ثم تبعتها نفسه فقال فيها شعرا أوله
و إني و صعبة فيما أرى
بعيدان و الود ود قريب
في أبيات مشهورة و طلحة أحد العشرة المشهود لهم بالجنة و أحد أصحاب الشورى و كان له في الدفاع عن رسول الله ص يوم أحد أثر عظيم و شلت بعض
[ 226 ]
أصابعه يومئذ وقى رسول الله ص بيده من سيوف المشركين
و قال رسول الله ص يومئذ اليوم أوجب طلحة الجنة . و الزبير هو أبو عبد الله الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي أمه صفية بنت عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف عمة رسول الله ص و هو أحد العشرة أيضا و أحد الستة و ممن ثبت مع رسول الله ص يوم أحد و أبلى بلاء حسنا
و قال النبي ص لكل نبي حواري و حواري الزبير . و الحواري الخالصة تقول فلان خالصة فلان و خلصانه و حواريه أي شديد الاختصاص به و الاستخلاص له

(32/1)

خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب
خرج طارق بن شهاب الأحمسي يستقبل عليا ع و قد صار بالربذة طالبا عائشة و أصحابها و كان طارق من صحابة علي ع و شيعته قال فسألت عنه قبل أن ألقاه ما أقدمه فقيل خالفه طلحة و الزبير و عائشة فأتوا البصرة فقلت في نفسي إنها الحرب أ فأقاتل أم المؤمنين و حواري رسول الله ص إن هذا لعظيم ثم قلت أ أدع عليا و هو أول المؤمنين إيمانا بالله و ابن عم رسول الله ص و وصيه هذا أعظم ثم أتيته فسلمت عليه ثم جلست إليه فقص علي قصة القوم و قصته ثم صلى بنا الظهر فلما انفتل جاءه الحسن ابنه ع فبكى بين يديه قال ما بالك قال أبكي لقتلك غدا بمضيعة و لا ناصر لك أما إني أمرتك فعصيتني ثم أمرتك فعصيتني فقال ع لا تزال تخن خنين الأمة ما الذي أمرتني به فعصيتك قال أمرتك حين أحاط الناس بعثمان أن تعتزل فإن الناس إذا قتلوه طلبوك أينما كنت حتى يبايعوك فلم تفعل ثم أمرتك لما قتل عثمان ألا توافقهم على
[ 227 ]
البيعة حتى يجتمع الناس و يأتيك وفود العرب فلم تفعل ثم خالفك هؤلاء القوم فأمرتك ألا تخرج من المدينة و أن تدعهم و شأنهم فإن اجتمعت عليك الأمة فذاك و إلا رضيت بقضاء الله فقال ع و الله لا أكون كالضبع تنام على اللدم حتى يدخل إليها طالبها فيعلق الحبل برجلها و يقول لها دباب دباب حتى يقطع عرقوبها . . . و ذكر تمام الفصل فكان طارق بن شهاب يبكي إذا ذكر هذا الحديث دباب اسم الضبع مبني على الكسر كبراح اسم للشمس
[ 228 ]

(33/1)

7 ـ و من خطبة له ع
اِتَّخَذُوا اَلشَّيْطَانَ لِأَمْرِهِمْ مِلاَكاً وَ اِتَّخَذَهُمْ لَهُ أَشْرَاكاً فَبَاضَ وَ فَرَّخَ فِي صُدُورِهِمْ وَ دَبَّ وَ دَرَجَ فِي حُجُورِهِمْ فَنَظَرَ بِأَعْيُنِهِمْ وَ نَطَقَ بِأَلْسِنَتِهِمْ فَرَكِبَ بِهِمُ اَلزَّلَلَ وَ زَيَّنَ لَهُمُ اَلْخَطَلَ فِعْلَ مَنْ قَدْ شَرِكَهُ اَلشَّيْطَانُ فِي سُلْطَانِهِ وَ نَطَقَ بِالْبَاطِلِ عَلَى لِسَانِهِ يجوز أن يكون أشراكا جمع شريك كشريف و أشراف و يجوز أن يكون جمع شرك كجبل و أجبال و المعنى بالاعتبارين مختلف . و باض و فرخ في صدورهم استعارة للوسوسة و الإغواء و مراده طول مكثه و إقامته عليهم لأن الطائر لا يبيض و يفرخ إلا في الأعشاش التي هي وطنه و مسكنه و دب و درج في حجورهم أي ربوا الباطل كما يربي الوالدان الولد في حجورهما ثم ذكر أنه لشدة اتحاده بهم و امتزاجه صار كمن ينظر بأعينهم و ينطق بألسنتهم أي صار الاثنان كالواحد قال أبو الطيب
ما الخل إلا من أود بقلبه
و أرى بطرف لا يرى بسوائه
و قال آخر
كنا من المساعده
نحيا بروح واحده
[ 229 ]
و قال آخر
جبلت نفسك في نفسي كما
تجبل الخمرة بالماء الزلال
فإذا مسك شي ء مسني
فإذا أنت أنا في كل حال
و الخطل القول الفاسد و يجوز أشركه الشيطان في سلطانه بالهمزة و شركه أيضا و بغير الهمزة أفصح
[ 230 ]

(34/1)

8 ـ و من كلام له ع يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك
و يدعوه للدخول في البيعة ثانية يَزْعُمُ أَنَّهُ قَدْ بَايَعَ بِيَدِهِ وَ لَمْ يُبَايِعْ بِقَلْبِهِ فَقَدْ أَقَرَّ بِالْبَيْعَةِ وَ اِدَّعَى اَلْوَلِيجَةَ فَلْيَأْتِ عَلَيْهَا بِأَمْرٍ يُعْرَفُ وَ إِلاَّ فَلْيَدْخُلْ فِيمَا خَرَجَ مِنْهُ الوليجة البطانة و الأمر يسر و يكتم قال الله سبحانه وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اَللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لاَ اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً كان الزبير يقول بايعت بيدي لا بقلبي و كان يدعي تارة أنه أكره و يدعي تارة أنه ورى في البيعة تورية و نوى دخيلة و أتى بمعاريض لا تحمل على ظاهرها فقال ع هذا الكلام إقرار منه بالبيعة و ادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلا و لم ينصب له برهانا فإما أن يقيم دليلا على فساد البيعة الظاهرة و أنها غير لازمة له و إما أن يعاود طاعته .
قال علي ع للزبير يوم بايعه إني لخائف أن تغدر بي و تنكث بيعتي قال لا تخافن فإن ذلك لا يكون مني أبدا فقال ع فلي الله عليك بذلك راع و كفيل قال نعم الله لك علي بذلك راع و كفيل

(35/1)

أمر طلحة و الزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له
لما بويع علي ع كتب إلى معاوية أما بعد فإن الناس قتلوا عثمان عن غير
[ 231 ]
مشورة مني و بايعوني عن مشورة منهم و اجتماع فإذا أتاك كتابي فبايع لي و أوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك فلما قدم رسوله على معاوية و قرأ كتابه بعث رجلا من بني عميس و كتب معه كتابا إلى الزبير بن العوام و فيه بسم الله الرحمن الرحيم لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان سلام عليك أما بعد فإني قد بايعت لك أهل الشام فأجابوا و استوسقوا كما يستوسق الجلب فدونك الكوفة و البصرة لا يسبقك إليها ابن أبي طالب فإنه لا شي ء بعد هذين المصرين و قد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك فأظهرا الطلب بدم عثمان و ادعوا الناس إلى ذلك و ليكن منكما الجد و التشمير أظفركما الله و خذل مناوئكما . فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به و أعلم به طلحة و أقرأه إياه فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية و أجمعا عند ذلك على خلاف علي ع . جاء الزبير و طلحة إلى علي ع بعد البيعة بأيام فقالا له يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها و علمت رأي عثمان كان في بني أمية و قد ولاك الله الخلافة من بعده فولنا بعض أعمالك فقال لهما ارضيا بقسم الله لكما حتى أرى رأيي و اعلما أني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه و أمانته من أصحابي و من قد عرفت دخيلته . فانصرفا عنه و قد دخلهما اليأس فاستأذناه في العمرة .
[ 232 ]

(36/1)

طلب طلحة و الزبير من علي ع أن يوليهما المصرين البصرة و الكوفة فقال حتى أنظر ثم استشار المغيرة بن شعبة فقال له أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس فخلا بابن عباس و قال ما ترى قال يا أمير المؤمنين إن الكوفة و البصرة عين الخلافة و بهما كنوز الرجال و مكان طلحة و الزبير من الإسلام ما قد علمت و لست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمرا فأخذ علي ع برأي ابن عباس و قد كان استشار المغيرة أيضا في أمر معاوية فقال له أرى إقراره على الشام و أن تبعث إليه بعده إلى أن يسكن شغب الناس و لك بعد رأيك فلم يأخذ برأيه . فقال المغيرة بعد ذلك و الله ما نصحته قبلها و لا أنصحه بعدها ما بقيت .
دخل الزبير و طلحة على علي ع فاستأذناه في العمرة فقال ما العمرة تريدان فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة فقال لهما ما العمرة تريدان و إنما تريدان الغدرة و نكث البيعة فحلفا بالله ما الخلاف عليه و لا نكث بيعة يريدان و ما رأيهما غير العمرة قال لهما فأعيدا البيعة لي ثانية فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان و المواثيق فأذن لهما فلما خرجا من عنده قال لمن كان حاضرا و الله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها قالوا يا أمير المؤمنين فمر بردهما عليك قال ليقضي الله أمرا كان مفعولا لما خرج الزبير و طلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحدا إلا و قالا له ليس لعلي في أعناقنا بيعة و إنما بايعناه مكرهين فبلغ عليا ع قولهما فقال أبعدهما الله و أغرب دارهما أما و الله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتل و يأتيان من
[ 233 ]
وردا عليه بأشأم يوم و الله ما العمرة يريدان و لقد أتياني بوجهي فاجرين و رجعا بوجهي غادرين ناكثين و الله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء يقتلان فيها أنفسهما فبعدا لهما و سحقا

(36/2)

و ذكر أبو مخنف في كتاب الجمل أن عليا ع خطب لما سار الزبير و طلحة من مكة و معهما عائشة يريدون البصرة فقال أيها الناس إن عائشة سارت إلى البصرة و معها طلحة و الزبير و كل منهما يرى الأمر له دون صاحبه أما طلحة فابن عمها و أما الزبير فختنها و الله لو ظفروا بما أرادوا و لن ينالوا ذلك أبدا ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد و الله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة و لا تحل عقدة إلا في معصية الله و سخطه حتى تورد نفسها و من معها موارد الهلكة إي و الله ليقتلن ثلثهم و ليهربن ثلثهم و ليتوبن ثلثهم و إنها التي تنبحها كلاب الحوأب و إنهما ليعلمان أنهما مخطئان و رب عالم قتله جهله و معه علمه لا ينفعه و حسبنا الله و نعم الوكيل فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية أين المحتسبون أين المؤمنون ما لي و لقريش أما و الله لقد قتلتهم كافرين و لأقتلنهم مفتونين و ما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا و الله لأبقرن الباطل حتى يظهر الحق من خاصرته فقل لقريش فلتضج ضجيجها ثم نزل
برز علي ع يوم الجمل و نادى بالزبير يا أبا عبد الله مرارا فخرج الزبير فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما فقال له علي ع إنما دعوتك لأذكرك حديثا قاله لي و لك رسول الله ص أ تذكر يوم رآك و أنت معتنقي فقال لك
[ 234 ]

(36/3)

أ تحبه قلت و ما لي لا أحبه و هو أخي و ابن خالي فقال أما إنك ستحاربه و أنت ظالم له فاسترجع الزبير و قال أذكرتني ما أنسانيه الدهر و رجع إلى صفوفه فقال له عبد الله ابنه لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به فقال أذكرني علي حديثا أنسانيه الدهر فلا أحاربه أبدا و إني لراجع و تارككم منذ اليوم فقال له عبد الله ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب إنها لسيوف حداد تحملها فتية أنجاد فقال الزبير ويلك أ تهيجني على حربه أما إني قد حلفت ألا أحاربه قال كفر عن يمينك لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت و ما كنت جبانا فقال الزبير غلامي مكحول حر كفارة عن يميني ثم أنصل سنان رمحه و حمل على عسكر علي ع برمح لا سنان له فقال علي ع أفرجوا له فإنه محرج ثم عاد إلى أصحابه ثم حمل ثانية ثم ثالثة ثم قال لابنه أ جبنا ويلك ترى فقال لقد أعذرت . لما أذكر علي ع الزبير بما أذكره به و رجع الزبير قال
نادى علي بأمر لست أنكره
و كان عمر أبيك الخير مذ حين
فقلت حسبك من عذل أبا حسن
بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني
ترك الأمور التي تخشى مغبتها
و الله أمثل في الدنيا و في الدين
فاخترت عارا على نار مؤججة
أنى يقوم لها خلق من الطين
لما خرج علي ع لطلب الزبير خرج حاسرا و خرج إليه الزبير دارعا مدججا فقال للزبير يا أبا عبد الله قد لعمري أعددت سلاحا و حبذا فهل أعددت عند الله عذرا فقال الزبير إن مردنا إلى الله قال علي ع يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين ثم أذكره الخبر فلما كر
[ 235 ]

(36/4)

الزبير راجعا إلى أصحابه نادما واجما رجع علي ع إلى أصحابه جذلا مسرورا فقال له أصحابه يا أمير المؤمنين تبرز إلى الزبير حاسرا و هو شاك في السلاح و أنت تعرف شجاعته قال إنه ليس بقاتلي إنما يقتلني رجل خامل الذكر ضئيل النسب غيلة في غير مأقط حرب و لا معركة رجال ويلمه أشقى البشر ليودن أن أمه هبلت به أما إنه و أحمر ثمود لمقرونان في قرن . لما انصرف الزبير عن حرب علي ع مر بوادي السباع و الأحنف بن قيس هناك في جمع من بني تميم قد اعتزل الفريقين فأخبر الأحنف بمرور الزبير فقال رافعا صوته ما أصنع بالزبير لف غارين من المسلمين حتى أخذت السيوف منهما مأخذها انسل و تركهم أما إنه لخليق بالقتل قتله الله فاتبعه عمرو بن جرموز و كان فاتكا فلما قرب منه وقف الزبير و قال ما شأنك قال جئت لأسألك عن أمر الناس قال الزبير إني تركتهم قياما في الركب يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف فسار ابن جرموز معه و كل واحد منهما يتقي الآخر فلما حضرت الصلاة قال الزبير يا هذا إنا نريد أن نصلي . فقال ابن جرموز و أنا أريد ذلك فقال الزبير فتؤمني و أؤمنك قال نعم فثنى الزبير رجله و أخذ وضوءه فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله و أخذ رأسه و خاتمه و سيفه و حثا عليه ترابا يسيرا و رجع إلى الأحنف فأخبره فقال و الله ما أدري أسأت أم أحسنت اذهب إلى علي ع فأخبره فجاء إلى علي ع فقال للآذن قل له عمرو بن جرموز بالباب و معه رأس الزبير و سيفه فأدخله و في كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بل بالسيف فقال له و أنت قتلته قال نعم قال و الله ما كان ابن صفية جبانا و لا لئيما و لكن الحين و مصارع السوء
[ 236 ]
ثم قال ناولني سيفه فناوله فهزه و قال سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله ص فقال ابن جرموز الجائزة يا أمير المؤمنين فقال أما إني سمعت رسول الله ص يقول بشر قاتل ابن صفية بالنار فخرج ابن جرموز خائبا و قال
أتيت عليا برأس الزبير

(36/5)

أبغي به عنده الزلفه
فبشر بالنار يوم الحساب
فبئست بشارة ذي التحفه
فقلت له إن قتل الزبير
لو لا رضاك من الكلفه
فإن ترض ذاك فمنك الرضا
و إلا فدونك لي حلفه
و رب المحلين و المحرمين
و رب الجماعة و الألفه
لسيان عندي قتل الزبير
و ضرطة عنز بذي الجحفه
ثم خرج ابن جرموز على علي ع مع أهل النهر فقتله معهم فيمن قتل
[ 237 ]

(36/6)

9 ـ و من كلام له ع
وَ قَدْ أَرْعَدُوا وَ أَبْرَقُوا وَ مَعَ هَذَيْنِ اَلْأَمْرَيْنِ اَلْفَشَلُ وَ لَسْنَا نُرْعِدُ حَتَّى نُوقِعَ وَ لاَ نُسِيلُ حَتَّى نُمْطِرَ أرعد الرجل و أبرق إذا أوعد و تهدد و كان الأصمي ينكره و يزعم أنه لا يقال إلا رعد و برق و لما احتج عليه ببيت الكميت
أرعد و أبرق يا يزيد
فما وعيدك لي بضائر
قال الكميت قروي لا يحتج بقوله . و كلام أمير المؤمنين ع حجة دالة على بطلان قول الأصمي و الفشل الجبن و الخور . و قوله و لا نسيل حتى نمطر كلمة فصيحة يقول إن أصحاب الجمل في وعيدهم و إجلابهم بمنزلة من يدعي أنه يحدث السيل قبل إحداث المطر و هذا محال لأن السيل إنما يكون من المطر فكيف يسبق المطر و أما نحن فإنا لا ندعي ذلك و إنما نجري الأمور على حقائقها فإن كان منا مطر كان منا سيل و إذا أوقعنا بخصمنا أوعدنا حينئذ بالإيقاع به غيره من خصومنا .
[ 238 ]
و قوله ع و مع هذين الأمرين الفشل معنى حسن لأن الغالب من الجبناء كثرة الضوضاء و الجلبة يوم الحرب كما أن الغالب من الشجعان الصمت و السكون . و سمع أبو طاهر الجنابي ضوضاء عسكر المقتدر بالله و دبادبهم و بوقاتهم و هو في ألف و خمسمائة و عسكر المقتدر في عشرين ألفا مقدمهم يوسف بن أبي الساج فقال لبعض أصحابه ما هذا الزجل قال فشل قال أجل . و يقال إنه ما رئي جيش كجيش أبي طاهر ما كان يسمع لهم صوت حتى أن الخيل لم تكن لها حمحمة فرشق عسكر ابن أبي الساج القرامطة بالسهام المسمومة فجرح منهم أكثر من خمسمائة إنسان . و كان أبو طاهر في عمارية له فنزل و ركب فرسات و حمل بنفسه و معه أصحابه حملة على عسكر ابن أبي الساج فكسروه و فلوه و خلصوا إلى يوسف فأسروه و تقطع عسكره بعد أن أتى بالقتل على كثير منهم و كان ذلك في سنة خمس عشرة و ثلاثمائة . و من أمثالهم الصدق ينبئ عنك لا الوعيد
[ 239 ]

(37/1)

10 ـ و من خطبة له ع
أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ جَمَعَ حِزْبَهُ وَ اِسْتَجْلَبَ خَيْلَهُ وَ رَجِلَهُ وَ إِنَّ مَعِي لَبَصِيرَتِي مَا لَبَّسْتُ عَلَى نَفْسِي وَ لاَ لُبِّسَ عَلَيَّ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَأُفْرِطَنَّ لَهُمْ حَوْضاً أَنَا مَاتِحُهُ لاَ يَصْدُرُونَ عَنْهُ وَ لاَ يَعُودُونَ إِلَيْهِ يمكن أن يعني بالشيطان الشيطان الحقيقي و يمكن أن يعني به معاوية فإن عنى معاوية فقوله قد جمع حزبه و استجلب خيله و رجله كلام جار على حقائقه و إن عنى به الشيطان كان ذلك من باب الاستعارة و مأخوذا من قوله تعالى وَ اِسْتَفْزِزْ مَنِ اِسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ و الرجل جمع راجل كالشرب جمع شارب و الركب جمع راكب . قوله و إن معي لبصيرتي يريد أن البصيرة التي كانت معي في زمن رسول الله ص تتغير . و قوله ما لبست تقسيم جيد لأن كل ضال عن الهداية فإما أن يضل من تلقاء نفسه أو بإضلال غيره له . و قوله لأفرطن من رواها بفتح الهمزة فأصله فرط ثلاثي يقال فرط
[ 240 ]

(38/1)

زيد القوم أي سبقهم و رجل فرط يسبق القوم إلى البئر فيهيئ لهم الأرشية و الدلاء و منه قوله ع إنا فرطكم على الحوض و يكون تقدير الكلام و ايم الله لأفرطن لهم إلى حوض فلما حذف الجار عدي الفعل بنفسه فنصب كقوله تعالى وَ اِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ و تكون اللام في لهم إما لام التعدية كقوله و يؤمن للمؤمنين أي و يؤمن المؤمنين أو تكون لام التعليل أي لأجلهم و من رواها لأفرطن بضم الهمزة فهو من أفرط المزادة أي ملأها . و الماتح المستقي متح يمتح بالفتح و المائح بالياء الذي ينزل إلى البئر فيملأ الدلو . و قيل لأبي علي رحمه الله ما الفرق بين الماتح و المائح فقال هما كإعجامهما يعني أن التاء بنقطتين من فوق و كذلك الماتح لأنه المستقي فهو فوق البئر و الياء بنقطتين من تحت و كذلك المائح لأنه تحت في الماء الذي في البئر يملأ الدلاء و معنى قوله أنا ماتحه أنا خبير به كما يقول من يدعي معرفة الدار أنا باني هذه الدار و الكلام استعارة يقول لأملأن لهم حياض الحرب التي هي دربتي و عادتي أو لأسبقنهم إلى حياض حرب أنا متدرب بها مجرب لها إذا وردوها لا يصدرون عنها يعني قتلهم و إزهاق أنفسهم و من فر منهم لا يعود إليها و من هذا اللفظ قول الشاعر
مخضت بدلوه حتى تحسى
ذنوب الشر ملأى أو قرابا
[ 241 ]

(38/2)

11 ـ و من كلام له ع لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
تَزُولُ اَلْجِبَالُ وَ لاَ تَزُلْ عَضَّ عَلَى نَاجِذِكَ أَعِرِ اَللَّهَ جُمْجُمَتَكَ تِدْ فِي اَلْأَرْضِ قَدَمَكَ اِرْمِ بِبَصَرِكَ أَقْصَى اَلْقَوْمِ وَ غُضَّ بَصَرَكَ وَ اِعْلَمْ أَنَّ اَلنَّصْرَ مِنْ عِنْدِ اَللَّهِ سُبْحَانَهُ قوله تزول الجبال و لا تزل خبر فيه معنى الشرط تقديره إن زالت الجبال فلا تزل أنت و المراد المبالغة في أخبار صفين أن بني عكل و كانوا مع أهل الشام حملوا في يوم من أيام صفين خرجوا و عقلوا أنفسهم بعمائمهم و تحالفوا أنا لا نفر حتى يفر هذا الحكر بالكاف قالوا لأن عكلا تبدل الجيم كافا . و الناجذ أقصى الأضراس و تد أمر من وتد قدمه في الأرض أي أثبتها فيها كالوتد و لا تناقض بين قوله ارم ببصرك و قوله غض بصرك و ذلك لأنه في الأولى أمره أن يفتح عينه و يرفع طرفه و يحدق إلى أقاصي القوم ببصره فعل الشجاع المقدام غير المكترث و لا المبالي لأن الجبان تضعف نفسه و يخفق قلبه فيقصر بصره و لا يرتفع طرفه و لا يمتد عنقه و يكون ناكس الرأس غضيض الطرف و في الثانية أمره أن يغض بصره عن بريق سيوفهم و لمعان دروعهم لئلا يبرق بصره و يدهش و يستشعر خوفا و تقدير الكلام و احمل و حذف ذلك للعلم به فكأنه قال إذا عزمت على الحملة
[ 242 ]

(39/1)

و صممت فغض حينئذ بصرك و احمل و كن كالعشواء التي تخبط ما أمامها و لا تبالي . و قوله عض على ناجذك قالوا إن العاض على نواجذه ينبو السيف عن دماغه لأن عظام الرأس تشتد و تصلب و قد جاء في كلامه ع هذا مشروحا في موضع آخر و هو قوله و عضوا على النواجذ فإنه أنبى للصوارم عن الهام و يحتمل أن يريد به شدة الحنق قالوا فلان يحرق علي الأرم يريدون شدة الغيظ و الحرق صريف الأسنان و صوتها و الأرم الأضراس . و قوله أعر الله جمجمتك معناه ابذلها في طاعة الله و يمكن أن يقال إن ذلك إشعار له أنه لا يقتل في تلك الحرب لأن العارية مردودة و لو قال له بع الله جمجمتك لكان ذلك إشعارا له بالشهادة فيها . و أخذ يزيد بن المهلب هذه اللفظة فخطب أصحابه بواسط فقال إني قد أسمع قول الرعاع جاء مسلمة و جاء العباس و جاء أهل الشام و من أهل الشام و الله ما هم إلا تسعة أسياف سبعة منها معي و اثنان علي و أما مسلمة فجرادة صفراء و أما العباس فنسطوس ابن نسطوس أتاكم في برابرة و صقالبة و جرامقة و جراجمة و أقباط و أنباط و أخلاط إنما أقبل إليكم الفلاحون و أوباش كأشلاء اللحم و الله ما لقوا قط كحديدكم و عديدكم أعيروني سواعدكم ساعة تصفقون بها خراطيمهم فإنما هي غدوة أو روحة حتى يحكم الله بيننا و بين القوم الظالمين . من صفات الشجاع قولهم فلان مغامر و فلان غشمشم أي لا يبصر ما بين يديه في الحرب و ذلك لشدة تقحمه و ركوبه المهلكة و قلة نظره في العاقبة و هذا هو معنى قوله ع لمحمد غض بصرك
[ 243 ]

(39/2)

ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب
و كان حمزة بن عبد المطلب مغامرا غشمشما لا يبصر أمامه قال جبير بن مطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف لعبده وحشي يوم أحد ويلك إن عليا قتل عمي طعيمة سيد البطحاء يوم بدر فإن قتلته اليوم فأنت حر و إن قتلت محمدا فأنت حر و إن قتلت حمزة فأنت حر فلا أحد يعدل عمي إلا هؤلاء فقال أما محمد فإن أصحابه دونه و لن يسلموه و لا أراني أصل إليه و أما علي فرجل حذر مرس كثير الالتفات في الحرب لا أستطيع قتله و لكن سأقتل لك حمزة فإنه رجل لا يبصر أمامه في الحرب فوقف لحمزة حتى إذا حاذاه زرقه بالحربة كما تزرق الحبشة بحرابها فقتله

(40/1)

محمد بن الحنفية و نسبه و بعض أخباره
دفع أمير المؤمنين ع يوم الجمل رايته إلى محمد ابنه ع و قد استوت الصفوف و قال له احمل فتوقف قليلا فقال له احمل فقال يا أمير المؤمنين أ ما ترى السهام كأنها شآبيب المطر فدفع في صدره فقال أدركك عرق من أمك ثم أخذ الراية فهزها ثم قال
اطعن بها طعن أبيك تحمد
لا خير في الحرب إذا لم توقد
بالمشرفي و القنا المسدد
ثم حمل و حمل الناس خلفه فطحن عسكر البصرة .
[ 244 ]
قيل لمحمد لم يغرر بك أبوك في الحرب و لا يغرر بالحسن و الحسين ع فقال إنهما عيناه و أنا يمينه فهو يدفع عن عينيه بيمينه كان علي ع يقذف بمحمد في مهالك الحرب و يكف حسنا و حسينا عنها .
و من كلامه في يوم صفين املكوا عني هذين الفتيين أخاف أن ينقطع بهما نسل رسول الله ص . أم محمد رضي الله عنه خولة بنت جعفر بن قيس بن مسلمة بن عبيد بن ثعلبة بن يربوع بن ثعلبة بن الدؤل بن حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . و اختلف في أمرها فقال قوم إنها سبية من سبايا الردة قوتل أهلها على يد خالد بن الوليد في أيام أبي بكر لما منع كثير من العرب الزكاة و ارتدت بنو حنيفة و ادعت نبوة مسيلمة و إن أبا بكر دفعها إلى علي ع من سهمه في المغنم . و قال قوم منهم أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني هي سبية في أيام رسول الله ص قالوا بعث رسول الله ص عليا إلى اليمن فأصاب خولة في بني زبيد و قد ارتدوا مع عمرو بن معديكرب و كانت زبيد سبتها من بني حنيفة في غارة لهم عليهم فصارت في سهم علي ع
فقال له رسول الله ص إن ولدت منك غلاما فسمه باسمي و كنه بكنيتي فولدت له بعد موت فاطمة ع محمدا فكناه أبا القاسم . و قال قوم و هم المحققون و قولهم الأظهر إن بني أسد أغارت على بني حنيفة في خلافة أبي بكر الصديق فسبوا خولة بنت جعفر و قدموا بها المدينة فباعوها من علي ع
[ 245 ]

(41/1)

و بلغ قومها خبرها فقدموا المدينة على علي ع فعرفوها و أخبروه بموضعها منهم فأعتقها و مهرها و تزوجها فولدت له محمدا فكناه أبا القاسم . و هذا القول هو اختيار أحمد بن يحيى البلاذري في كتابه المعروف بتاريخ الأشراف . لما تقاعس محمد يوم الجمل عن الحملة و حمل علي ع بالراية فضعضع أركان عسكر الجمل دفع إليه الراية و قال امح الأولى بالأخرى و هذه الأنصار معك . و ضم إليه خزيمة بن ثابت ذا الشهادتين في جمع من الأنصار كثير منهم من أهل بدر فحمل حملات كثيرة أزال بها القوم عن مواقفهم و أبلى بلاء حسنا فقال خزيمة بن ثابت لعلي ع أما إنه لو كان غير محمد اليوم لافتضح و لئن كنت خفت عليه الحين و هو بينك و بين حمزة و جعفر لما خفناه عليه و إن كنت أردت أن تعلمه الطعان فطالما علمته الرجال .
و قالت الأنصار يا أمير المؤمنين لو لا ما جعل الله تعالى للحسن و الحسين لما قدمنا على محمد أحدا من العرب فقال علي ع أين النجم من الشمس و القمر أما إنه قد أغنى و أبلى و له فضله و لا ينقص فضل صاحبيه عليه و حسب صاحبكم ما انتهت به نعمة الله تعالى إليه فقالوا يا أمير المؤمنين إنا و الله لا نجعله كالحسن و الحسين و لا نظلمهما له و لا نظلمه لفضلهما عليه حقه فقال علي ع أين يقع ابني من ابني بنت رسول الله ص فقال خزيمة بن ثابت فيه
محمد ما في عودك اليوم وصمة
و لا كنت في الحرب الضروس معردا
أبوك الذي لم يركب الخيل مثله
علي و سماك النبي محمدا
فلو كان حقا من أبيك خليفة
لكنت و لكن ذاك ما لا يرى بدا
[ 246 ]
و أنت بحمد الله أطول غالب
لسانا و أنداها بما ملكت يدا
و أقربها من كل خير تريده
قريش و أوفاها بما قال موعدا
و أطعنهم صدر الكمي برمحه
و أكساهم للهام عضبا مهندا
سوى أخويك السيدين كلاهما
إمام الورى و الداعيان إلى الهدى
أبى الله أن يعطي عدوك مقعدا
من الأرض أو في الأوج مرقى و مصعدا
[ 247 ]

(41/2)

12 ـ و من كلام له ع لما أظفره الله بأصحاب الجمل
وَ قَدْ قَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَدِدْتُ أَنَّ أَخِي فُلاَناً كَانَ شَاهِدَنَا لِيَرَى مَا نَصَرَكَ اَللَّهُ بِهِ عَلَى أَعْدَائِكَ فَقَالَ لَهُ ع عَلِيٌّ ع أَ هَوَى أَخِيكَ مَعَنَا فَقَالَ نَعَمْ قَالَ فَقَدْ شَهِدَنَا وَ لَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هَذَا قَوْمٌ أَقْوَامٌ [ قَوْمٌ ] فِي أَصْلاَبِ اَلرِّجَالِ وَ أَرْحَامِ اَلنِّسَاءِ سَيَرْعَفُ بِهِمُ اَلزَّمَانُ وَ يَقْوَى بِهِمُ اَلْإِيمَانُ يرعف بهم الزمان يوجدهم و يخرجهم كما يرعف الإنسان بالدم الذي يخرجه من أنفه قال الشاعر
و ما رعف الزمان بمثل عمرو
و لا تلد النساء له ضريبا
و المعنى مأخوذ من قول النبي ص لعثمان و لم يكن شهد بدرا تخلف على رقية ابنة رسول الله ص لما مرضت مرض موتها لقد كنت شاهدا و إن كنت غائبا لك أجرك و سهمك

(42/1)

من أخبار يوم الجمل
قال الكلبي قلت لأبي صالح كيف لم يضع علي ع السيف في أهل البصرة يوم الجمل بعد ظفره قال سار فيهم بالصفح و المن الذي سار به رسول الله ص
[ 248 ]
في أهل مكة يوم الفتح فإنه أراد أن يستعرضهم بالسيف ثم من عليهم و كان يحب أن يهديهم الله . قال فطر بن خليفة ما دخلت دار الوليد بالكوفة التي فيها القصارون إلا و ذكرت بأصواتهم وقع السيوف يوم الجمل . حرب بن جيهان الجعفي لقد رأيت الرماح يوم الجمل قد أشرعها الرجال بعضهم في صدر بعض كأنها آجام القصب لو شاءت الرجال أن تمشي عليها لمشت و لقد صدقونا القتال حتى ما ظننت أن ينهزموا و ما رأيت يوما قط أشبه بيوم الجمل من يوم جلولاء الوقيعة . الأصبغ بن نباتة لما انهزم أهل البصرة ركب علي ع بغلة رسول الله ص الشهباء و كانت باقية عنده و سار في القتلى يستعرضهم فمر بكعب بن سور القاضي قاضي البصرة و هو قتيل فقال أجلسوه فأجلس فقال له ويلمك كعب بن سور لقد كان لك علم لو نفعك و لكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار أرسلوه ثم مر بطلحة بن عبيد الله قتيلا فقال أجلسوه فأجلس قال أبو مخنف في كتابه فقال ويلمك طلحة لقد كان لك قدم لو نفعك و لكن الشيطان أضلك فأزلك فعجلك إلى النار . و أما أصحابنا فيروون غير ذلك يروون أنه ع قال له لما أجلسوه أعزز علي أبا محمد أن أراك معفرا تحت نجوم السماء و في بطن هذا الوادي أ بعد جهادك في الله و ذبك عن رسول الله ص فجاء إليه إنسان فقال أشهد يا أمير المؤمنين لقد مررت عليه بعد أن أصابه السهم و هو صريع فصاح بي فقال من أصحاب من أنت فقلت من أصحاب أمير المؤمنين ع فقال امدد يدك لأبايع
[ 249 ]
لأمير المؤمنين ع فمددت إليه يدي فبايعني لك

(43/1)

فقال علي ع أبى الله أن يدخل طلحة الجنة إلا و بيعتي في عنقه ثم مر بعبد الله بن خلف الخزاعي و كان ع قتله بيده مبارزة و كان رئيس أهل البصرة فقال أجلسوه فأجلس فقال الويل لك يا ابن خلف لقد عانيت أمرا عظيما . و قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ و مر ع بعبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فقال أجلسوه فأجلس فقال هذا يعسوب قريش هذا اللباب المحض من بني عبد مناف ثم قال شفيت نفسي و قتلت معشري إلى الله أشكو عجري و بجري قتلت الصناديد من بني عبد مناف و أفلتني الأعيار من بني جمح فقال له قائل لشد ما أطريت هذا الفتى منذ اليوم يا أمير المؤمنين قال إنه قام عني و عنه نسوة لم يقمن عنك . قال أبو الأسود الدؤلي لما ظهر علي ع يوم الجمل دخل بيت المال بالبصرة في ناس من المهاجرين و الأنصار و أنا معهم فلما رأى كثرة ما فيه قال غري غيري مرارا ثم نظر إلى المال و صعد فيه بصره و صوب و قال اقسموه بين أصحابي خمسمائة خمسمائة فقسم بينهم فلا و الذي بعث محمدا بالحق ما نقص درهما و لا زاد درهما كأنه كان يعرف مبلغه و مقداره و كان ستة آلاف ألف درهم و الناس اثنا عشر ألفا .
[ 250 ]

(43/2)

حبة العرني قسم علي ع بيت مال البصرة على أصحابه خمسمائة خمسمائة و أخذ خمسمائة درهم كواحد منهم فجاءه إنسان لم يحضر الوقعة فقال يا أمير المؤمنين كنت شاهدا معك بقلبي و إن غاب عنك جسمي فأعطني من الفي ء شيئا فدفع إليه الذي أخذه لنفسه و هو خمسمائة درهم و لم يصب من الفي ء شيئا . اتفقت الرواة كلها على أنه ع قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح و دابة و مملوك و متاع و عروض فقسمه بين أصحابه و أنهم قالوا له اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا فقال لا فقالوا فكيف تحل لنا دماءهم و تحرم علينا سبيهم فقال كيف يحل لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة و إسلام أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم و أما ما وارت الدور و أغلقت عليه الأبواب فهو لأهله و لا نصيب لكم في شي ء منه فلما أكثروا عليه قال فأقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة فقالوا نستغفر الله يا أمير المؤمنين ثم انصرفوا
[ 251 ]

(43/3)

13 ـ و من كلام له ع في ذم أهل البصرة
بعد وقعة الجمل كُنْتُمْ جُنْدَ اَلْمَرْأَةِ وَ أَتْبَاعَ اَلْبَهِيمَةِ رَغَا فَأَجَبْتُمْ وَ عُقِرَ فَهَرَبْتُمْ أَخْلاَقُكُمْ دِقَاقٌ وَ عَهْدُكُمْ شِقَاقٌ وَ دِينُكُمْ نِفَاقٌ وَ مَاؤُكُمْ زُعَاقٌ وَ اَلْمُقِيمُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مُرْتَهَنٌ بِذَنْبِهِ وَ اَلشَّاخِصُ عَنْكُمْ مُتَدَارَكٌ بِرَحْمَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَأَنِّي بِمَسْجِدِكُمْ كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ قَدْ بَعَثَ اَللَّهُ عَلَيْهَا اَلْعَذَابَ مِنْ فَوْقِهَا وَ مِنْ تَحْتِهَا وَ غَرَّقَ مَنْ فِي ضِمْنِهَا وَ فِي رِوَايَةٍ وَ اَيْمُ اَللَّهِ لَتُغْرَقَنَّ بَلْدَتُكُمْ حَتَّى كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَسْجِدِهَا كَجُؤْجُؤِ سَفِينَةٍ أَوْ نَعَامَةٍ جَاثِمَةٍ وَ فِي رِوَايَةٍ كَجُؤْجُؤِ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ وَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى بِلاَدُكُمْ أَنْتَنُ بِلاَدِ اَللَّهِ تُرْبَةً أَقْرَبُهَا مِنَ اَلْمَاءِ وَ أَبْعَدُهَا مِنَ اَلسَّمَاءِ وَ بِهَا تِسْعَةُ أَعْشَارِ اَلشَّرِّ اَلْمُحْتَبَسُ فِيهَا بِذَنْبِهِ وَ اَلْخَارِجُ بِعَفْوِ اَللَّهِ كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى قَرْيَتِكُمْ هَذِهِ قَدْ طَبَّقَهَا اَلْمَاءُ حَتَّى مَا يُرَى مِنْهَا إِلاَّ شُرَفُ اَلْمَسْجِدِ كَأَنَّهُ جُؤْجُؤُ طَيْرٍ فِي لُجَّةِ بَحْرٍ
[ 252 ]
قوله و أتباع البهيمة يعني الجمل و كان جمل عائشة راية عسكر البصرة قتلوا دونه كما تقتل الرجال تحت راياتها . و قوله أخلاقكم دقاق يصفهم باللؤم

(44/1)

و في الحديث أن رجلا قال له يا رسول الله إني أحب أن أنكح فلانة إلا أن في أخلاق أهلها دقه فقال له إياك و خضراء الدمن إياك و المرأة الحسناء في منبت السوء . قوله و عهدكم شقاق يصفهم بالغدر يقول عهدكم و ذمتكم لا يوثق بها بل هي و إن كانت في الصورة عهدا أو ذمة فإنها في المعنى خلاف و عداوة . قوله و ماؤكم زعاق أي ملح و هذا و إن لم يكن من أفعالهم إلا أنه مما تذم به المدينة كما قال
بلاد بها الحمى و أسد عرينة
و فيها المعلى يعتدي و يجور
فإني لمن قد حل فيها لراحم
و إني من لم يأتها لنذير
و لا ذنب لأهلها في أنها بلاد الحمى و السباع . ثم وصف المقيم بين أظهرهم بأنه مرتهن بذنبه لأنه إما أن يشاركهم في الذنوب أو يراها فلا ينكرها و مذهب أصحابنا أنه لا تجوز الإقامة في دار الفسق كما لا تجوز الإقامة في دار الكفر . و جؤجؤ عظم الصدر و جؤجؤ السفينة صدرها .
[ 253 ]
فأما إخباره ع أن البصرة تغرق عدا المسجد الجامع بها فقد رأيت من يذكر أن كتب الملاحم تدل على أن البصرة تهلك بالماء الأسود ينفجر من أرضها فتغرق و يبقى مسجدها . و الصحيح أن المخبر به قد وقع فإن البصرة غرقت مرتين مرة في أيام القادر بالله و مرة في أيام القائم بأمر الله غرقت بأجمعها و لم يبق منها إلا مسجدها الجامع بارزا بعضه كجؤجؤ الطائر حسب ما أخبر به أمير المؤمنين ع جاءها الماء من بحر فارس من جهة الموضع المعروف الآن بجزيرة الفرس و من جهة الجبل المعروف بجبل السنام و خربت دورها و غرق كل ما في ضمنها و هلك كثير من أهلها . و أخبار هذين الغرقين معروفة عند أهل البصرة يتناقلها خلفهم عن سلفهم

(44/2)

من أخبار يوم الجمل أيضا
قال أبو الحسن علي بن محمد بن سيف المدائني و محمد بن عمر الواقدي ما حفظ رجز قط أكثر من رجز قيل يوم الجمل و أكثره لبني ضبة و الأزد الذين كانوا حول الجمل يحامون عنه و لقد كانت الرءوس تندر عن الكواهل و الأيدي تطيح من المعاصم و أقتاب البطن تندلق من الأجواف و هم حول الجمل كالجراد الثابتة لا تتحلحل و لا تتزلزل حتى لقد صرخ ع بأعلى صوته ويلكم اعقروا الجمل فإنه شيطان ثم قال اعقروه و إلا فنيت العرب لا يزال السيف قائما و راكعا حتى يهوي هذا البعير
[ 254 ]
إلى الأرض فصمدوا له حتى عقروه فسقط و له رغاء شديد فلما برك كانت الهزيمة . و من الأراجيز المحفوظة يوم الجمل لعسكر البصرة قول بعضهم
نحن بني ضبة أصحاب الجمل
ننازل الموت إذا الموت نزل
ننعى ابن عفان بأطراف الأسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
الموت أحلى عندنا من العسل
لا عار في الموت إذا حان الأجل
إن عليا هو من شر البدل
إن تعدلوا بشيخنا لا يعتدل
أين الوهاد و شماريخ القلل
فأجابه رجل من عسكر الكوفة من أصحاب أمير المؤمنين ع
نحن قتلنا نعثلا فيمن قتل
أكثر من أكثر فيه أو أقل
أنى يرد نعثل و قد قحل
نحن ضربنا وسطه حتى انجدل
لحكمه حكم الطواغيت الأول
آثر بالفي ء و جافى في العمل
فأبدل الله به خير بدل
إني امرؤ مستقدم غير وكل
مشمر للحرب معروف بطل
و من أراجيز أهل البصرة
يا أيها الجند الصليب الإيمان
قوموا قياما و استغيثوا الرحمن
[ 255 ]
إني أتاني خبر ذو ألوان
إن عليا قتل ابن عفان
ردوا إلينا شيخنا كما كان
يا رب و ابعث ناصرا لعثمان
يقتلهم بقوة و سلطان
فأجابه رجل من عسكر الكوفة .
أبت سيوف مذحج و همدان
بأن ترد نعثلا كما كان
خلقا سويا بعد خلق الرحمن
و قد قضى بالحكم حكم الشيطان
و فارق الحق و نور الفرقان
فذاق كأس الموت شرب الظمآن
و من الرجز المشهور المقول يوم الحمل قاله أهل البصرة
يا أمنا عائش لا تراعي
كل بنيك بطل المصاع
ينعى ابن عفان إليك ناع

(45/1)

كعب بن سور كاشف القناع
فارضي بنصر السيد المطاع
و الأزد فيها كرم الطباع
و منه قول بعضهم
يا أمنا يكفيك منا دنوه
لن يؤخذ الدهر الخطام عنوه
و حولك اليوم رجال شنوه
و حي همدان رجال الهبوه
و المالكيون القليلو الكبوه
و الأزد حي ليس فيهم نبوه
قالوا و خرج من أهل البصرة شيخ صبيح الوجه نبيل عليه جبة وشي يحض الناس على الحرب و يقول
يا معشر الأزد عليكم أمكم
فإنها صلاتكم و صومكم
و الحرمة العظمى التي تعمكم
فأحضروها جدكم و حزمكم
[ 256 ]
لا يغلبن سم العدو سمكم
إن العدو إن علاكم زمكم
و خصكم بجوره و عمكم
لا تفضحوا اليوم فداكم قومكم
قال المدائني و الواقدي و هذا الرجز يصدق الرواية أن الزبير و طلحة قاما في الناس فقالا إن عليا إن يظفر فهو فناؤكم يا أهل البصرة فاحموا حقيقتكم فإنه لا يبقي حرمة إلا انتهكها و لا حريما إلا هتكه و لا ذرية إلا قتلها و لا ذوات خدر إلا سباهن فقاتلوا مقاتلة من يحمي عن حريمه و يختار الموت على الفضيحة يراها في أهله . و قال أبو مخنف لم يقل أحد من رجاز البصرة قولا كان أحب إلى أهل الجمل من قول هذا الشيخ استقتل الناس عند قوله و ثبتوا حول الجمل و انتدبوا فخرج عوف بن قطن الضبي و هو ينادي ليس لعثمان ثأر إلا علي بن أبي طالب و ولده فأخذ خطام الجمل و قال
يا أم يا أم خلا مني الوطن
لا أبتغي القبر و لا أبغي الكفن
من هاهنا محشر عوف بن قطن
إن فاتنا اليوم علي فالغبن
أو فاتنا ابناه حسين و حسن
إذا أمت بطول هم و حزن
ثم تقدم فضرب بسيفه حتى قتل . و تناول عبد الله بن أبزى خطام الجمل و كان كل من أراد الجد في الحرب و قاتل قتال مستميت يتقدم إلى الجمل فيأخذ بخطامه ثم شد على عسكر علي ع و قال
أضربهم و لا أرى أبا حسن
ها إن هذا حزن من الحزن
فشد عليه علي أمير المؤمنين ع بالرمح فطعنه فقتله و قال قد رأيت أبا حسن فكيف رأيته و ترك الرمح فيه .
[ 257 ]

(45/2)

و أخذت عائشة كفا من حصى فحصبت به أصحاب علي ع و صاحت بأعلى صوتها شاهت الوجوه كما صنع رسول الله ص يوم حنين فقال لها قائل و ما رميت إذ رميت و لكن الشيطان رمى و زحف علي ع نحو الجمل بنفسه في كتيبته الخضراء من المهاجرين و الأنصار و حوله بنوه حسن و حسين و محمد ع و دفع الراية إلى محمد و قال أقدم بها حتى تركزها في عين الجمل و لا تقفن دونه فتقدم محمد فرشقته السهام فقال لأصحابه رويدا حتى تنفد سهامهم فلم يبق لهم إلا رشقة أو رشقتان فأنفذا إليه علي ع إليه يستحثه و يأمره بالمناجزة فلما أبطأ عليه جاء بنفسه من خلفه فوضع يده اليسرى على منكبه الأيمن و قال له أقدم لا أم لك فكان محمد رضي الله عنه إذا ذكر ذلك بعد يبكي و يقول لكأني أجد ريح نفسه في قفاي و الله لا أنسى أبدا ثم أدركت عليا ع رقة على ولده فتناول الراية منه بيده اليسرى و ذو الفقار مشهور في يمنى يديه ثم حمل فغاص في عسكر الجمل ثم رجع و قد انحنى سيفه فأقامه بركبته فقال له أصحابه و بنوه و الأشتر و عمار نحن نكفيك يا أمير المؤمنين فلم يجب أحدا منهم و لا رد إليهم بصره و ظل ينحط و يزأر زئير الأسد حتى فرق من حوله و تبادروه و إنه لطامح ببصره نحو عسكر البصرة لا يبصر من حوله و لا يرد حوارا ثم دفع الراية إلى ابنه محمد ثم حمل حملة ثانية وحده فدخل وسطهم فضربهم بالسيف قدما قدما و الرجال تفر من بين يديه و تنحاز عنه يمنة و يسرة حتى خضب الأرض بدماء القتلى ثم رجع و قد انحنى سيفه فأقامه بركبته فاعصوصب به أصحابه و ناشدوه الله في نفسه و في الإسلام و قالوا إنك إن تصب يذهب الدين فأمسك و نحن نكفيك فقال و الله ما أريد بما ترون إلا وجه الله و الدار الآخرة ثم قال لمحمد ابنه هكذا تصنع يا ابن الحنفية فقال الناس من الذي يستطيع ما تستطيعه يا أمير المؤمنين .
[ 258 ]

(45/3)

و من كلماته الفصيحة ع في يوم الجمل ما رواه الكلبي عن رجل من الأنصار قال بينا أنا واقف في أول الصفوف يوم الجمل إذ جاء علي ع فانحرفت إليه فقال أين مثرى القوم فقلت هاهنا نحو عائشة . قال الكلبي يريد أين عددهم و أين جمهورهم و كثرتهم و المال الثري على فعيل هو الكثير و منه رجل ثروان و امرأة ثروى و تصغيرها ثريا و الصدقة مثراة للمال أي مكثرة له . قال أبو مخنف و بعث علي ع إلى الأشتر أن احمل على ميسرتهم فحمل عليها و فيها هلال بن وكيع فاقتتلوا قتالا شديدا و قتل هلال قتله الأشتر فمالت الميسرة إلى عائشة فلاذوا بها و عظمهم بنو ضبة و بنو عدي ثم عطفت الأزد و ضبة و ناجية و باهلة إلى الجمل فأحاطوا به و اقتتل الناس حوله قتالا شديدا و قتل كعب بن سور قاضي البصرة جاءه سهم غرب فقتله و خطام الجمل في يده ثم قتل عمرو بن يثربي الضبي و كان فارس أصحاب الجمل و شجاعهم بعد أن قتل كثيرا من أصحاب علي ع . قالوا كان عمرو أخذ بخطام الجمل فدفعه إلى ابنه ثم دعا إلى البراز فخرج إليه علباء بن الهيثم السدوسي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فخرج إليه هند بن عمرو الجملي فقتله عمرو ثم دعا إلى البراز فقال زيد بن صوحان العبدي لعلي ع يا أمير المؤمنين إني رأيت يدا أشرفت علي من السماء و هي تقول هلم إلينا و أنا خارج إلى
[ 259 ]
ابن يثربي فإذا قتلني فادفني بدمي و لا تغسلني فإني مخاصم عند ربي ثم خرج فقتله عمرو ثم رجع إلى خطام الجمل مرتجزا يقول
أرديت علباء و هندا في طلق
ثم ابن صوحان خضيبا في علق
قد سبق اليوم لنا ما قد سبق
و الوتر منا في عدي ذي الفرق
و الأشتر الغاوي و عمرو بن الحمق
و الفارس المعلم في الحرب الحنق
ذاك الذي في الحادثات لم يطق
أعني عليا ليته فينا مزق

(45/4)

قال قوله و الوتر منا في عدي يعني عدي بن حاتم الطائي و كان من أشد الناس على عثمان و من أشدهم جهادا مع علي ع ثم ترك ابن يثربي الخطام و خرج يطلب المبارزة فاختلف في قاتله فقال قوم إن عمار بن ياسر خرج إليه و الناس يسترجعون له لأنه كان أضعف من برز إليه يومئذ أقصرهم سيفا و أقصفهم رمحا و أحمشهم ساقا حمالة سيفه من نسعة الرحل و ذباب سيفه قريب من إبطه فاختلفا ضربتين فنشب سيف ابن يثربي في حجفة عمار فضربه عمار على رأسه فصرعه ثم أخذ برجله يسحبه حتى انتهى به إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين استبقني أجاهد بين يديك و أقتل منهم مثل ما قتلت منكم فقال له علي ع أ بعد زيد و هند و علباء أستبقيك لاها الله إذا قال فأدنني منك أسارك قال له أنت متمرد و قد أخبرني رسول الله ص بالمتمردين و ذكرك فيهم فقال أما و الله لو وصلت إليك لعضضت أنفك عضة أبنته منك . فأمر به علي ع فضربت عنقه .
[ 260 ]
و قال قوم إن عمرا لما قتل من قتل و أراد أن يخرج لطلب البراز قال للأزد يا معشر الأزد إنكم قوم لكم حياء و بأس و إني قد وترت القوم و هم قاتلي و هذه أمكم نصرها دين و خذلانها عقوق و لست أخشى أن أقتل حتى أصرع فإن صرعت فاستنقذوني فقالت له الأزد ما في هذا الجمع أحد نخافه عليك إلا الأشتر قال فإياه أخاف . قال أبو مخنف فقيضه الله له و قد أعلما جميعا فارتجز الأشتر
إني إذا ما الحرب أبدت نابها
و أغلقت يوم الوغى أبوابها
و مزقت من حنق أثوابها
كنا قداماها و لا أذنابها
ليس العدو دوننا أصحابها
من هابها اليوم فلن أهابها
لا طعنها أخشى و لا ضرابها

(45/5)

ثم حمل عليه فطعنه فصرعه و حامت عنه الأزد فاستنقذوه فوثب و هو وقيذ ثقيل فلم يستطع أن يدفع عن نفسه و استعرضه عبد الرحمن بن طود البكري فطعنه فصرعه ثانية و وثب عليه رجل من سدوس فأخذه مسحوبا برجله حتى أتى به عليا ع فناشده الله و قال يا أمير المؤمنين اعف عني فإن العرب لم تزل قائلة عنك إنك لم تجهز على جريح قط فأطلقه و قال اذهب حيث شئت فجاء إلى أصحابه و هو لما به حضره الموت فقالوا له دمك عند أي الناس فقال أما الأشتر فلقيني و أنا كالمهر الأرن فعلا حده حدي و لقيت رجلا يبتغي له عشرة أمثالي و أما البكري فلقيني و أنا لما بي و كان يبتغي لي عشرة أمثاله و تولى أسري أضعف القوم و صاحبي الأشتر . قال أبو مخنف فلما انكشفت الحرب شكرت ابنة عمرو بن يثربي الأزد و عابت قومها فقالت
[ 261 ]
يا ضب إنك قد فجعت بفارس
حامي الحقيقة قاتل الأقران
عمرو بن يثرب الذي فجعت به
كل القبائل من بني عدنان
لم يحمه وسط العجاجة قومه
و حنت عليه الأزد أزد عمان
فلهم علي بذاك حادث نعمة
و لحبهم أحببت كل يمان
لو كان يدفع عن منية هالك
طول الأكف بذابل المران
أو معشر وصلوا الخطا بسيوفهم
وسط العجاجة و الحتوف دوان
ما نيل عمر و الحوادث جمة
حتى ينال النجم و القمران
لو غير الأشتر ناله لندبته
و بكيته ما دام هضب أبان
لكنه من لا يعاب بقتله
أسد الأسود و فارس الفرسان

(45/6)

قال أبو مخنف و بلغنا أن عبد الرحمن بن طود البكري قال لقومه أنا و الله قتلت عمرا و إن الأشتر كان بعدي و أنا أمامه في الصعاليك فطعنت عمرا طعنة لم أحسب أنها تجعل للأشتر دوني و إنما الأشتر ذو حظ في الحرب و إنه ليعلم أنه كان خلفي و لكن أبى الناس إلا أنه صاحبه و لا أرى أن أكون خصم العامة و إن الأشتر لأهل ألا ينازع فلما بلغ الأشتر قوله قال أما و الله لو لا أني أطفأت جمرته عنه ما دنا منه و ما صاحبه غيري و إن الصيد لمن وقذه فقال عبد الرحمن لا أنازع فيه ما القول إلا ما قاله و أنى لي أن أخالف الناس . قال و خرج عبد الله بن خلف الخزاعي و هو رئيس البصرة و أكثر أهلها مالا و ضياعا فطلب البراز و سأل ألا يخرج إليه إلا علي ع و ارتجز فقال
أبا تراب ادن مني فترا
فإنني دان إليك شبرا
و إن في صدري عليك غمرا
[ 262 ]
فخرج إليه علي ع فلم يمهله أن ضربه ففلق هامته . قالوا استدار الجمل كما تدور الرحى و تكاثفت الرجال من حوله و اشتد رغاؤه و اشتد زحام الناس عليه و نادى الحتات المجاشعي أيها الناس أمكم أمكم و اختلط الناس فضرب بعضهم بعضا و تقصد أهل الكوفة قصد الجمل و الرجال دونه كالجبال كلما خف قوم جاء أضعافهم فنادى علي ع ويحكم ارشقوا الجمل بالنبل اعقروه لعنه الله فرشق بالسهام فلم يبق فيه موضع إلا أصابه النبل و كان مجففا فتعلقت السهام به فصار كالقنفذ و نادت الأزد و ضبة يا لثارات عثمان فاتخذوها شعارا و نادى أصحاب علي ع يا محمد فاتخذوها شعارا و اختلط الفريقان و نادى علي ع بشعار رسول الله ص يا منصور أمت و هذا في اليوم الثاني من أيام الجمل فلما دعا بها تزلزلت أقدام القوم و ذلك وقت العصر بعد أن كانت الحرب من وقت الفجر . قال الواقدي

(45/7)

و قد روي أن شعاره ع كان في ذلك اليوم حم لا ينصرون اللهم انصرنا على القوم الناكثين ثم تحاجز الفريقان و القتل فاش فيهما إلا أنه في أهل البصرة أكثر و أمارات النصر لائحة لعسكر الكوفة ثم تواقفوا في اليوم الثالث فبرز أول الناس عبد الله بن الزبير و دعا إلى المبارزة فبرز إليه الأشتر فقالت عائشة من برز إلى عبد الله قالوا الأشتر فقالت وا ثكل أسماء فضرب كل منهما صاحبه فجرحه ثم اعتنقا فصرع الأشتر عبد الله و قعد على صدره و اختلط الفريقان هؤلاء لينقذوا عبد الله و هؤلاء ليعينوا الأشتر و كان الأشتر طاويا ثلاثة أيام
[ 263 ]
لم يطعم و هذه عادته في الحرب و كان أيضا شيخا عالي السن فجعل عبد الله ينادي
اقتلوني و مالكا
فلو قال اقتلوني و الأشتر لقتلوهما إلا أن أكثر من كان يمر بهما لا يعرفهما لكثرة من وقع في المعركة صرعى بعضهم فوق بعض و أفلت ابن الزبير من تحته و لم يكد فذلك قول الأشتر
أ عائش لو لا أنني كنت طاويا
ثلاثا لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي و الرجال تحوزه
بأضعف صوت اقتلوني و مالكا
فلم يعرفوه إذ دعاهم و غمه
خدب عليه في العجاجة باركا
فنجاه مني أكله و شبابه
و أني شيخ لم أكن متماسكا
و روى أبو مخنف عن الأصبغ بن نباتة قال دخل عمار بن ياسر و مالك بن الحارث الأشتر على عائشة بعد انقضاء أمر الجمل فقالت عائشة يا عمار من معك قال الأشتر فقالت يا مالك أنت الذي صنعت بابن أختي ما صنعت قال نعم و لو لا أني كنت طاويا ثلاثة أيام لأرحت أمة محمد منه فقالت أ ما علمت
أن رسول الله ص قال لا يحل دم مسلم إلا بأحد أمور ثلاثة كفر بعد إيمان أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير حق فقال الأشتر على بعض هذه الثلاثة قاتلناه يا أم المؤمنين و ايم الله ما خانني سيفي قبلها و لقد أقسمت ألا يصحبني بعدها . قال أبو مخنف ففي ذلك يقول الأشتر من جملة هذا الشعر الذي ذكرناه
و قالت على أي الخصال صرعته
بقتل أتى أم رده لا أبا لكا

(45/8)

أم المحصن الزاني الذي حل قتله
فقلت لها لا بد من بعض ذلكا
[ 264 ]
قال أبو مخنف و انتهى الحارث بن زهير الأزدي من أصحاب علي ع إلى الجمل و رجل آخذ بخطامه لا يدنو منه أحد إلا قتله فلما رآه الحارث بن زهير مشى إليه بالسيف و ارتجز فقال لعائشة
يا أمنا أعق أم نعلم
و الأم تغذو ولدها و ترحم
أ ما ترين كم شجاع يكلم
و تختلى هامته و المعصم
فاختلف هو و الرجل ضربتين فكلاهما أثخن صاحبه . قال جندب بن عبد الله الأزدي فجئت حتى وقفت عليهما و هما يفحصان بأرجلهما حتى ماتا قال فأتيت عائشة بعد ذلك أسلم عليها بالمدينة فقالت من أنت قلت رجل من أهل الكوفة قالت هل شهدتنا يوم البصرة قلت نعم قالت مع أي الفريقين قلت مع علي قالت هل سمعت مقالة الذي قال
يا أمنا أعق أم نعلم
قلت نعم و أعرفه قالت و من هو قلت ابن عم لي قالت و ما فعل قلت قتل عند الجمل و قتل قاتله قال فبكت حتى ظننت و الله أنها لا تسكت ثم قالت لوددت و الله أنني كنت مت قبل ذلك اليوم بعشرين سنة . قالوا و خرج رجل من عسكر البصرة يعرف بخباب بن عمرو الراسبي فارتجز فقال
أضربهم و لو أرى عليا
عممته أبيض مشرفيا
أريح منه معشرا غويا
فصمد عليه الأشتر فقتله . ثم تقدم عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس و هو
[ 265 ]
من أشراف قريش و كان اسم سيفه ولول فارتجز فقال
أنا ابن عتاب و سيفي ولول
و الموت دون الجمل المجلل

(45/9)

فحمل عليه الأشتر فقتله ثم خرج عبد الله بن حكيم بن حزام من بني أسد بن عبد العزى بن قصي من أشراف قريش أيضا فارتجز و طلب المبارزة فخرج إليه الأشتر فضربه على رأسه فصرعه ثم قام فنجا بنفسه . قالوا و أخذ خطام الجمل سبعون من قريش قتلوا كلهم و لم يكن يأخذ بخطام الجمل أحد إلا سالت نفسه أو قطعت يده و جاءت بنو ناجية فأخذوا بخطام الجمل و لم يكن يأخذ الخطام أحد إلا سألت عائشة من هذا فسألت عنهم فقيل بنو ناجية فقالت عائشة صبرا يا بني ناجية فإني أعرف فيكم شمائل قريش قالوا و بنو ناجية مطعون في نسبهم إلى قريش فقتلوا حولها جميعا . قال أبو مخنف و حدثنا إسحاق بن راشد عن عبد الله بن الزبير قال أمسيت يوم الجمل و بي سبعة و ثلاثون جرحا من ضربة و طعنة و رمية و ما رأيت مثل يوم الجمل قط ما كان الفريقان إلا كالجبلين لا يزولان .
قال أبو مخنف و قام رجل إلى علي ع فقال يا أمير المؤمنين أي فتنة أعظم من هذه إن البدرية ليمشي بعضها إلى بعض بالسيف فقال علي ع ويحك أ تكون فتنة أنا أميرها و قائدها و الذي بعث محمدا بالحق و كرم وجهه ما كذبت و لا كذبت و لا ضللت و لا ضل بي و لا زللت و لا زل بي و إني لعلى بينة من ربي بينها الله لرسوله و بينها رسوله لي و سأدعى يوم القيامة و لا ذنب لي و لو كان لي ذنب لكفر عني ذنوبي ما أنا فيه من قتالهم قال أبو مخنف و حدثنا مسلم الأعور عن حبة العرني قال فلما رأى علي ع
[ 266 ]

(45/10)

أن الموت عند الجمل و أنه ما دام قائما فالحرب لا تطفأ وضع سيفه على عاتقه و عطف نحوه و أمر أصحابه بذلك و مشى نحوه و الخطام مع بني ضبة فاقتتلوا قتالا شديدا و استحر القتل في بني ضبة فقتل منهم مقتلة عظيمة و خلص علي ع في جماعة من النخع و همدان إلى الجمل فقال لرجل من النخع اسمه بجير دونك الجمل يا بجير فضرب عجز الجمل بسيفه فوقع لجنبه و ضرب بجرانه الأرض و عج عجيجا لم يسمع بأشد منه فما هو إلا أن صرع الجمل حتى فرت الرجال كما يطير الجراد في الريح الشديدة الهبوب و احتملت عائشة بهودجها فحملت إلى دار عبد الله بن خلف و أمر علي ع بالجمل أن يحرق ثم يذرى في الريح
و قال ع لعنه الله من دابة فما أشبهه بعجل بني إسرائيل ثم قرأ وَ اُنْظُرْ إِلى إِلهِكَ اَلَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي اَلْيَمِّ نَسْفاً
[ 267 ]

(45/11)

14 ـ و من كلام له ع في مثل ذلك
أَرْضُكُمْ قَرِيبَةٌ مِنَ اَلْمَاءِ بَعِيدَةٌ مِنَ اَلسَّمَاءِ خَفَّتْ عُقُولُكُمْ وَ سَفِهَتْ حُلُومُكُمْ فَأَنْتُمْ غَرَضٌ لِنَابِلٍ وَ أُكْلَةٌ لآِكِلٍ وَ فَرِيسَةٌ لِصَائِلٍ [ صَائِدٍ ] الغرض ما ينصب ليرمى بالسهام و النابل ذو النبل و الأكلة بضم الهمزة المأكول و فريسة الأسد ما يفترسه . و سفه فلان بالكسر أي صار سفيها و سفه بالضم أيضا فإذا قلت سفه فلان رأيه أو حلمه أو نفسه لم تقل إلا بالكسر لأن فعل بالضم لا يتعدى و قولهم سفه فلان نفسه و غبن رأيه و بطر عيشه و ألم بطنه و رفق حاله و رشد أمره كان الأصل فيه كله سفهت نفس زيد فلما حول الفعل إلى الرجل انتصب ما بعده بالمفعولية هذا مذهب البصريين و الكسائي من الكوفيين . و قال الفراء لما حول الفعل إلى الرجل خرج ما بعده مفسرا ليدل على أن السفاهة فيه و كان حكمه أن يكون سفه زيد نفسا لأن المفسر لا يكون إلا نكرة و لكنه ترك على إضافته و نصب كنصب النكرة تشبيها بها . و يجوز عند البصريين و الكسائي تقديم المنصوب كما يجوز ضرب غلامه زيد و عند الفراء لا يجوز تقديمه لأن المفسر لا يتقدم .
[ 268 ]

(46/1)

فأما قوله أرضكم قريبة من الماء بعيدة من السماء فقد قدمنا معنى قوله قريبة من الماء و ذكرنا غرقها من بحر فارس دفعتين و مراده ع بقوله قريبة من الماء أي قريبة من الغرق بالماء و أما بعيدة من السماء فإن أرباب علم الهيئة و صناعة التنجيم يذكرون أن أبعد موضع في الأرض عن السماء الأبلة و ذلك موافق لقوله ع . و معنى البعد عن السماء هاهنا هو بعد تلك الأرض المخصوصة عن دائرة معدل النهار و البقاع و البلاد تختلف في ذلك و قد دلت الأرصاد و الآلات النجومية على أن أبعد موضع في المعمورة عن دائرة معدل النهار هو الأبلة و الأبلة هي قصبة البصرة . و هذا الموضع من خصائص أمير المؤمنين ع لأنه أخبر عن أمر لا تعرفه العرب و لا تهتدى إليه و هو مخصوص بالمدققين من الحكماء و هذا من أسراره و غرائبه البديعة
[ 269 ]

(46/2)

15 ـ و من كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه
وَ اَللَّهِ لَوْ وَجَدْتُهُ قَدْ تُزُوِّجَ بِهِ اَلنِّسَاءُ وَ مُلِكَ [ تَمَلَّكَ ] بِهِ اَلْإِمَاءُ لَرَدَدْتُهُ فَإِنَّ فِي اَلْعَدْلِ سَعَةً وَ مَنْ ضَاقَ عَلَيْهِ اَلْعَدْلُ فَالْجَوْرُ عَلَيْهِ أَضْيَقُ القطائع ما يقطعه الإمام بعض الرعية من أرض بيت المال ذات الخراج و يسقط عنه خراجه و يجعل عليه ضريبة يسيرة عوضا عن الخراج و قد كان عثمان أقطع كثيرا من بني أمية و غيرهم من أوليائه و أصحابه قطائع من أرض الخراج على هذه الصورة و قد كان عمر أقطع قطائع و لكن لأرباب الغناء في الحرب و الآثار المشهورة في الجهاد فعل ذلك ثمنا عما بذلوه من مهجهم في طاعة الله سبحانه و عثمان أقطع القطائع صلة لرحمه و ميلا إلى أصحابه عن غير عناء في الحرب و لا أثر .
و هذه الخطبة ذكرها الكلبي مروية مرفوعة إلى أبي صالح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا ع خطب في اليوم الثاني من بيعته بالمدينة فقال ألا إن كل قطيعة أقطعها عثمان و كل مال أعطاه من مال الله فهو مردود في بيت المال فإن الحق القديم لا يبطله شي ء و لو وجدته و قد تزوج به النساء و فرق في البلدان لرددته إلى حاله فإن في العدل سعة و من ضاق عنه الحق فالجور عليه أضيق .
[ 270 ]

(47/1)

و تفسير هذا الكلام أن الوالي إذا ضاقت عليه تدبيرات أموره في العدل فهي في الجور أضيق عليه لأن الجائر في مظنة أن يمنع و يصد عن جوره . قال الكلبي ثم أمر ع بكل سلاح وجد لعثمان في داره مما تقوى به على المسلمين فقبض و أمر بقبض نجائب كانت في داره من إبل الصدقة فقبضت و أمر بقبض سيفه و درعه و أمر ألا يعرض لسلاح وجد له لم يقاتل به المسلمون و بالكف عن جميع أمواله التي وجدت في داره و في غير داره و أمر أن ترتجع الأموال التي أجاز بها عثمان حيث أصيبت أو أصيب أصحابها . فبلغ ذلك عمرو بن العاص و كان بأيلة من أرض الشام أتاها حيث وثب الناس على عثمان فنزلها فكتب إلى معاوية ما كنت صانعا فاصنع إذ قشرك ابن أبي طالب من كل مال تملكه كما تقشر عن العصا لحاها . و قال الوليد بن عقبة و هو أخو عثمان من أمه يذكر قبض علي ع نجائب عثمان و سيفه و سلاحه
بني هاشم ردوا سلاح ابن أختكم
و لا تنهبوه لا تحل مناهبه
بني هاشم كيف الهوادة بيننا
و عند علي درعه و نجائبه
بني هاشم كيف التودد منكم
و بز ابن أروى فيكم و حرائبه
بني هاشم إلا تردوا فإننا
سواء علينا قاتلاه و سالبه
بني هاشم إنا و ما كان منكم
كصدع الصفا لا يشعب الصدع شاعبه
قتلتم أخي كيما تكونوا مكانه
كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
[ 271 ]
فأجابه عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بأبيات طويلة من جملتها
فلا تسألونا سيفكم إن سيفكم
أضيع و ألقاه لدى الروع صاحبه
و شبهته كسرى و قد كان مثله
شبيها بكسرى هدبه و ضرائبه
أي كان كافرا كما كان كسرى كافرا . و كان المنصور رحمه الله تعالى إذا أنشد هذا الشعر يقول لعن الله الوليد هو الذي فرق بين بني عبد مناف بهذا الشعر
[ 272 ]

(47/2)

16 ـ و من خطبة له ع لما بويع بالمدينة
ذِمَّتِي بِمَا أَقُولُ رَهِينَةٌ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ إِنَّ مَنْ صَرَّحَتْ لَهُ اَلْعِبَرُ عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ اَلْمَثُلاَتِ حَجَزَتْهُ اَلتَّقْوَى عَنْ تَقَحُّمِ اَلشُّبُهَاتِ أَلاَ وَ إِنَّ بَلِيَّتَكُمْ قَدْ عَادَتْ كَهَيْئَتِهَا يَوْمَ بَعَثَ اَللَّهُ نَبِيَّهُ [ نَبِيَّكُمْ ] ص وَ اَلَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَتُبَلْبَلُنَّ بَلْبَلَةً وَ لَتُغَرْبَلُنَّ غَرْبَلَةً وَ لَتُسَاطُنَّ سَوْطَ اَلْقِدْرِ حَتَّى يَعُودَ أَسْفَلُكُمْ أَعْلاَكُمْ وَ أَعْلاَكُمْ أَسْفَلَكُمْ وَ لَيَسْبِقَنَّ سَابِقُونَ كَانُوا قَصَّرُوا وَ لَيُقَصِّرَنَّ سَبَّاقُونَ كَانُوا سَبَقُوا وَ اَللَّهِ مَا كَتَمْتُ وَشْمَةً وَ لاَ كَذَبْتُ كِذْبَةً وَ لَقَدْ نُبِّئْتُ بِهَذَا اَلْمَقَامِ وَ هَذَا اَلْيَوْمِ أَلاَ وَ إِنَّ اَلْخَطَايَا خَيْلٌ شُمُسٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ خُلِعَتْ لُجُمُهَا فَتَقَحَّمَتْ بِهِمْ فِي اَلنَّارِ أَلاَ وَ إِنَّ اَلتَّقْوَى مَطَايَا ذُلُلٌ حُمِلَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا وَ أُعْطُوا أَزِمَّتَهَا فَأَوْرَدَتْهُمُ اَلْجَنَّةَ حَقٌّ وَ بَاطِلٌ وَ لِكُلٍّ أَهْلٌ فَلَئِنْ أَمِرَ اَلْبَاطِلُ لَقَدِيماً فَعَلَ وَ لَئِنْ قَلَّ اَلْحَقُّ لَرُبَّمَا فَلَرُبَّمَا وَ لَعَلَّ وَ لَقَلَّمَا أَدْبَرَ شَيْ ءٌ فَأَقْبَلَ قال الرضي و أقول إن في هذا الكلام الأدنى من مواقع
[ 273 ]

(48/1)

الإحسان ما لا تبلغه مواقع الاستحسان و إن حظ العجب منه أكثر من حظ العجب به و فيه مع الحال التي وصفنا زوائد من الفصاحة لا يقوم بها لسان و لا يطلع فجها إنسان و لا يعرف ما أقول إلا من ضرب في هذه الصناعة بحق و جرى فيها على عرق وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ اَلْعالِمُونَ و من هذه الخطبة شُغِلَ مَنِ اَلْجَنَّةُ وَ اَلنَّارُ أَمَامَهُ سَاعٍ سَرِيعٌ نَجَا وَ طَالِبٌ بَطِي ءٌ رَجَا وَ مُقَصِّرٌ فِي اَلنَّارِ هَوَى اَلْيَمِينُ وَ اَلشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَ اَلطَّرِيقُ اَلْوُسْطَى هِيَ اَلْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي اَلْكِتَابِ وَ آثَارُ اَلنُّبُوَّةِ وَ مِنْهَا مَنْفَذُ اَلسُّنَّةِ وَ إِلَيْهَا مَصِيرُ اَلْعَاقِبَةِ هَلَكَ مَنِ اِدَّعَى وَ خَابَ مَنِ اِفْتَرَى مَنْ أَبْدَى صَفْحَتَهُ لِلْحَقِّ هَلَكَ عِنْدَ جَهَلَةِ اَلنَّاسِ وَ كَفَى بِالْمَرْءِ جَهْلاً أَلاَّ يَعْرِفَ قَدْرَهُ لاَ يَهْلِكُ عَلَى اَلتَّقْوَى سِنْخُ أَصْلٍ وَ لاَ يَظْمَأُ عَلَيْهَا زَرْعُ قَوْمٍ فَاسْتَتِرُوا فِي بُيُوتِكُمْ وَ أَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَ اَلتَّوْبَةُ مِنْ وَرَائِكُمْ وَ لاَ يَحْمَدْ حَامِدٌ إِلاَّ رَبَّهُ وَ لاَ يَلُمْ لاَئِمٌ إِلاَّ نَفْسَهُ [ ذَنْبَهُ ]
[ 274 ]

(48/2)

الذمة العقد و العهد يقول هذا الدين في ذمتي كقولك في عنقي و هما كناية عن الالتزام و الضمان و التقلد و الزعيم الكفيل و مخرج الكلام لهم مخرج الترغيب في سماع ما يقوله كما يقول المهتم بإيضاح أمر لقوم لهم أنا المدرك المتقلد بصدق ما أقوله لكم و صرحت كشفت و العبر جمع عبرة و هي الموعظة و المثلات العقوبات و حجزه منعه . و قوله لتبلبلن أي لتخلطن تبلبلت الألسن أي اختلطت و لتغربلن يجوز أن يكون من الغربال الذي يغربل به الدقيق و يجوز أن يكون من غربلت اللحم أي قطعته فإن كان الأول كان له معنيان أحدهما الاختلاط كالتبلبل لأن غربلة الدقيق تخلط بعضه ببعض و الثاني أن يريد بذلك أنه يستخلص الصالح منكم من الفاسد و يتميز كما يتميز الدقيق عند الغربلة من نخالته . و تقول ما عصيت فلانا وشمة أي كلمة و حصان شموس يمنع ظهره شمس الفرس بالفتح و به شماس و أمر الباطل كثر . و قوله لقديما فعل أي لقديما فعل الباطل ذلك و نسب الفعل إلى الباطل مجازا و يجوز أن يكون فعل بمعنى انفعل كقوله
قد جبر الدين الإله فجبر
أي فانجبر و السنخ الأصل و قوله سنخ أصل كقوله
إذا حاص عينيه كرى النوم
و في بعض الروايات من أبدى صفحته للحق هلك عند جهلة الناس و التأويل مختلف فمراده على الرواية الأولى و هي الصحيحة من كاشف الحق مخاصما له هلك
[ 275 ]
و هي كلمة جارية مجرى المثل و مراده على الرواية الثانية من أبدى صفحته لنصرة الحق غلبه أهل الجهل لأنهم العامة و فيهم الكثرة فهلك . و هذه الخطبة من جلائل خطبه ع و من مشهوراتها قد رواها الناس كلهم و فيها زيادات حذفها الرضي إما اختصارا أو خوفا من إيحاش السامعين و قد ذكرها شيخنا أبو عثمان الجاحظ في كتاب البيان و التبيين على وجهها و رواها عن أبي عبيدة معمر بن المثنى .

(48/3)

قال أول خطبة خطبها أمير المؤمنين علي ع بالمدينة في خلافته حمد الله و أثنى عليه و صلى على النبي ص ثم قال ألا لا يرعين مرع إلا على نفسه شغل من الجنة و النار أمامه ساع مجتهد ينجو و طالب يرجو و مقصر في النار ثلاثة و اثنان ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده لا سادس هلك من ادعى و ردي من اقتحم اليمين و الشمال مضلة و الوسطى الجادة منهج عليه باقي الكتاب و السنة و آثار النبوة إن الله داوى هذه الأمة بدواءين السوط و السيف لا هوادة عند الإمام فيهما استتروا في بيوتكم و أصلحوا ذات بينكم و التوبة من ورائكم من أبدى صفحته
[ 276 ]
للحق هلك قد كانت لكم أمور ملتم فيها على ميلة لم تكونوا عندي فيها محمودين و لا مصيبين أما إني لو أشاء لقلت عفا الله عما سلف سبق الرجلان و قام الثالث كالغراب همته بطنه ويحه لو قص جناحاه و قطع رأسه لكان خيرا له انظروا فإن أنكرتم فأنكروا و إن عرفتم فآزروا حق و باطل و لكل أهل و لئن أمر الباطل لقديما فعل و لئن قل الحق لربما و لعل و قلما أدبر شي ء فأقبل و لئن رجعت إليكم أموركم إنكم لسعداء و إني لأخشى أن تكونوا في فترة و ما علينا إلا الاجتهاد
قال شيخنا أبو عثمان رحمه الله تعالى و قال أبو عبيدة و زاد فيها في رواية جعفر بن محمد ع عن آبائه ع ألا إن أبرار عترتي و أطايب أرومتي أحلم الناس صغارا و أعلم الناس كبارا ألا و إنا أهل بيت من علم الله علمنا و بحكم الله حكمنا و من قول صادق سمعنا فإن تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا و إن لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا و معنا راية الحق من تبعها لحق و من تأخر عنها غرق ألا و بنا يدرك ترة كل مؤمن و بنا تخلع ربقة الذل عن أعناقكم و بنا فتح لا بكم و منا يختم لا بكم . قوله لا يرعين أي لا يبقين أرعيت عليه أي أبقيت يقول من أبقى على الناس فإنما أبقى على نفسه و الهوادة الرفق و الصلح و أصله اللين و التهويد المشي
[ 277 ]
رويدا

(48/4)

و في الحديث أسرعوا المشي في الجنازة و لا تهودوا كما تهود أهل الكتاب و آزرت زيدا أعنته الترة و الوتر و الربقة الحبل يجعل في عنق الشاة و ردي هلك من الردى كقولك عمي من العمى و شجي من الشجا . و قوله شغل من الجنة و النار أمامه يريد به أن من كانت هاتان الداران أمامه لفي شغل عن أمور الدنيا إن كان رشيدا . و قوله ساع مجتهد إلى قوله لا سادس كلام تقديره المكلفون على خمسة أقسام ساع مجتهد و طالب راج و مقصر هالك ثم قال ثلاثة أي فهؤلاء ثلاثة أقسام و هذا ينظر إلى قوله سبحانه ثُمَّ أَوْرَثْنَا اَلْكِتابَ اَلَّذِينَ اِصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اَللَّهِ ثم ذكر القسمين الرابع و الخامس فقال هما ملك طار بجناحيه و نبي أخذ الله بيده يريد عصمة هذين النوعين من القبيح ثم قال لا سادس أي لم يبق في المكلفين قسم سادس و هذا يقتضي أن العصمة ليست إلا للأنبياء و الملائكة و لو كان الإمام يجب أن يكون معصوما لكان قسما سادسا فإذن قد شهد هذا الكلام بصحة ما تقوله المعتزلة في نفي اشتراط العصمة في الإمامة اللهم إلا أن يجعل الإمام المعصوم داخلا في القسم الأول و هو الساعي المجتهد و فيه بعد و ضعف . و قوله هلك من ادعى و ردي من اقتحم يريد هلك من ادعى و كذب لا بد من تقدير ذلك لأن الدعوى تعم الصدق و الكذب و كأنه يقول هلك من ادعى الإمامة و ردي من اقتحمها و ولجها عن غير استحقاق لأن كلامه ع في هذه الخطبة كله كنايات عن الإمامة لا عن غيرها .
[ 278 ]

(48/5)

و قوله اليمين و الشمال مثال لأن السالك الطريق المنهج اللاحب ناج و العادل عنها يمينا و شمالا معرض للخطر . و نحو هذا الكلام ما روي عن عمر أنه لما صدر عن منى في السنة التي قتل فيها كوم كومة من البطحاء فقام عليها فخطب الناس فقال أيها الناس قد سنت لكم السنن و فرضت لكم الفرائض و تركتم على الواضحة إلا أن تميلوا بالناس يمينا و شمالا ثم قرأ أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ وَ هَدَيْناهُ اَلنَّجْدَيْنِ ثم قال إلا إنهما نجدا الخير و الشر فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير

(48/6)

من كلام للحجاج و زياد نسجا فيه على منوال كلام علي
و قوله إن الله داوى هذه الأمة بدواءين كلام شريف و على منواله نسج الحجاج و زياد كلامهما المذكور فيه السوط و السيف فمن ذلك قول الحجاج من أعياه داؤه فعلي دواؤه و من استبطأ أجله فعلي أن أعجله و من استثقل رأسه وضعت عنه ثقله و من استطال ماضي عمره قصرت عليه باقيه إن للشيطان طيفا و إن للسلطان سيفا فمن سقمت سريرته صحت عقوبته و من وضعه ذنبه رفعه صلبه و من لم تسعه العافية لم تضق عنه الهلكة و من سبقته بادرة فمه سبق بدنه سفك دمه إني لأنذر ثم لا أنظر و أحذر ثم لا أعذر و أتوعد ثم لا أغفر إنما أفسدكم ترقيق ولاتكم و من استرخى لببه ساء أدبه إن الحزم و العزم سلباني
[ 279 ]
سوطي و جعلا سوطي سيفي فقائمه في يدي و نجاده في عنقي و ذبابه قلادة لمن عصاني و الله لا آمر أحدا أن يخرج من باب من أبواب المسجد فيخرج من الباب الذي يليه إلا ضربت عنقه . و من ذلك قول زياد إنما هو زجر بالقول ثم ضرب بالسوط ثم الثالثة التي لا شوى لها فلا يكونن لسان أحدكم شفرة تجري على أوداجه و ليعلم إذا خلا بنفسه أني قد حملت سيفي بيده فإن شهره لم أغمده و إن أغمده لم أشهره . و قوله ع كالغراب يعني الحرص و الجشع و الغراب يقع على الجيفة و يقع على التمرة و يقع على الحبة و في الأمثال أجشع من غراب و أحرص من غراب . و قوله ويحه لو قص يريد لو كان قتل أو مات قبل أن يتلبس بالخلافة لكان خيرا له من أن يعيش و يدخل فيها ثم قال لهم أفكروا فيما قد قلت فإن كان منكرا فأنكروه و إن كان حقا فأعينوا عليه . و قوله استتروا في بيوتكم نهي لهم عن العصبية و الاجتماع و التحزب فقد كان قوم بعد قتل عثمان تكلموا في قتله من شيعة بني أمية بالمدينة .
[ 280 ]

(49/1)

و أما قوله قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين فمراده أمر عثمان و تقديمه في الخلافة عليه و من الناس من يحمل ذلك على خلافة الشيخين أيضا و يبعد عندي أن يكون أراده لأن المدة قد كانت طالت و لم يبق من يعاتبه ليقول قد كانت أمور لم تكونوا عندي فيها محمودين فإن هذا الكلام يشعر بمعاتبة قوم على أمر كان أنكره منهم و أما بيعة عثمان ثم ما جرى بينه و بين عثمان من منازعات طويلة و غضب تارة و صلح أخرى و مراسلات خشنة و لطيفة و كون الناس بالمدينة كانوا حزبين و فئتين إحداهما معه ع و الأخرى مع عثمان فإن صرف الكلام إلى ما قلناه بهذا الاعتبار أليق . و لسنا نمنع من أن يكون في كلامه ع الكثير من التوجد و التألم لصرف الخلافة بعد وفاة الرسول ص عنه و إنما كلامنا الآن في هذه اللفظات التي في هذه الخطبة على أن قوله ع سبق الرجلان و الاقتصار على ذلك فيه كفاية في انحرافه عنهما . و أما قوله حق و باطل إلى آخر الفصل فمعناه كل أمر فهو إما حق و إما باطل و لكل واحد من هذين أهل و ما زال أهل الباطل أكثر من أهل الحق و لئن كان الحق قليلا لربما كثر و لعله ينتصر أهله . ثم قال على سبيل التضجر بنفسه و قلما أدبر شي ء فأقبل استبعد ع أن تعود دولة قوم بعد زوالها عنهم و إلى هذا المعنى ذهب الشاعر في قوله
و قالوا يعود الماء في النهر بعد ما
ذوي نبت جنبيه و جف المشارع
فقلت إلى أن يرجع النهر جاريا
و يعشب جنباه تموت الضفادع
[ 281 ]

(49/2)

ثم قال و لئن رجعت عليكم أموركم أي إن ساعدني الوقت و تمكنت من أن أحكم فيكم بحكم الله تعالى و رسوله و عادت إليكم أيام شبيهة بأيام رسول الله ص و سيرة مماثلة لسيرته في أصحابه إنكم لسعداء . ثم قال و إني لأخشى أن تكونوا في فترة الفترة هي الأزمنة التي بين الأنبياء إذا انقطعت الرسل فيها كالفترة التي بين عيسى ع و محمد ص لأنه لم يكن بينهما نبي بخلاف المدة التي كانت بين موسى و عيسى ع لأنه بعث فيها أنبياء كثيرون فيقول ع إني لأخشى ألا أتمكن من الحكم بكتاب الله تعالى فيكم فتكونوا كالأمم الذين في أزمنة الفترة لا يرجعون إلى نبي يشافههم بالشرائع و الأحكام و كأنه ع قد كان يعلم أن الأمر سيضطرب عليه . ثم قال و ما علينا إلا الاجتهاد يقول أنا أعمل ما يجب علي من الاجتهاد في القيام بالشريعة و عزل ولاة السوء و أمراء الفساد عن المسلمين فإن تم ما أريده فذاك و إلا كنت قد أعذرت . و أما التتمة المروية عن جعفر بن محمد ع فواضحة الألفاظ و قوله في آخرها و بنا تختم لا بكم إشارة إلى المهدي الذي يظهر في آخر الزمان و أكثر المحدثين على أنه من ولد فاطمة ع و أصحابنا المعتزلة لا ينكرونه و قد صرحوا بذكره في كتبهم و اعترف به شيوخهم إلا أنه عندنا لم يخلق بعد و سيخلق . و إلى هذا المذهب يذهب أصحاب الحديث أيضا .
و روى قاضي القضاة
[ 282 ]
رحمه الله تعالى عن كافي الكفاة أبي القاسم إسماعيل بن عباد رحمه الله بإسناد متصل بعلي ع أنه ذكر المهدي و قال إنه من ولد الحسين ع و ذكر حليته فقال رجل أجلى الجبين أقنى الأنف ضخم البطن أزيل الفخذين أبلج الثنايا بفخذه اليمنى شامة و ذكر هذا الحديث بعينه عبد الله بن قتيبة في كتاب غريب الحديث
[ 283 ]

(49/3)

17 ـ و من كلام له ع في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهل
إِنَّ أَبْغَضَ اَلْخَلاَئِقِ إِلَى اَللَّهِ تَعَالَى رَجُلاَنِ رَجُلٌ وَكَلَهُ اَللَّهُ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ جَائِرٌ عَنْ قَصْدِ اَلسَّبِيلِ مَشْغُوفٌ بِكَلاَمِ بِدْعَةٍ وَ دُعَاءِ ضَلاَلَةٍ فَهُوَ فِتْنَةٌ لِمَنِ اِفْتَتَنَ بِهِ ضَالٌّ عَنْ هُدَى مَنْ كَانَ قَبْلَهُ مُضِلٌّ لِمَنِ اِقْتَدَى بِهِ فِي حَيَاتِهِ وَ بَعْدَ وَفَاتِهِ حَمَّالٌ خَطَايَا غَيْرِهِ رَهْنٌ [ رَهِينٌ ] بِخَطِيئَتِهِ وَ رَجُلٌ قَمَشَ جَهْلاً مُوضِعٌ فِي جُهَّالِ اَلْأُمَّةِ عَادٍ [ غَادِرٌ ] فِي أَغْبَاشِ اَلْفِتْنَةِ عَمٍ بِمَا فِي عَقْدِ اَلْهُدْنَةِ قَدْ سَمَّاهُ أَشْبَاهُ اَلنَّاسِ عَالِماً وَ لَيْسَ بِهِ بَكَّرَ [ بَكَرَ ] فَاسْتَكْثَرَ مِنْ جَمْعٍ مَا قَلَّ مِنْهُ خَيْرٌ مِمَّا كَثُرَ حَتَّى إِذَا اِرْتَوَى مِنْ مَاءٍ آجِنٍ وَ اِكْتَنَزَ اِكْتَثَرَ [ اِكْتَنَزَ ] مِنْ غَيْرِ طَائِلٍ جَلَسَ بَيْنَ اَلنَّاسِ قَاضِياً ضَامِناً لِتَخْلِيصِ مَا اِلْتَبَسَ عَلَى غَيْرِهِ فَإِنْ نَزَلَتْ بِهِ إِحْدَى اَلْمُبْهَمَاتِ هَيَّأَ لَهَا حَشْواً رَثًّا مِنْ رَأْيِهِ ثُمَّ قَطَعَ بِهِ فَهُوَ مِنْ لَبْسِ اَلشُّبُهَاتِ فِي مِثْلِ نَسْجِ اَلْعَنْكَبُوتِ لاَ يَدْرِي أَصَابَ أَمْ أَخْطَأَ فَإِنْ أَصَابَ خَافَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخْطَأَ وَ إِنْ أَخْطَأَ رَجَا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَصَابَ جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالاَتٍ عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ لَمْ يَعَضَّ عَلَى اَلْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ يُذْرِي يَذْرُو [ يُذْرِي ] اَلرِّوَايَاتِ إِذْرَاءَ ذَرْوَ [ إِذْرَاءَ ] اَلرِّيحِ اَلْهَشِيمَ لاَ مَلِي ءٌ وَ اَللَّهِ بِإِصْدَارِ مَا وَرَدَ عَلَيْهِ وَ لاَ هُوَ أَهْلٌ لِمَا فُوِّضَ قُرِّظَ [ فُوِّضَ ] بِهِ إِلَيْهِ لاَ يَحْسَبُ اَلْعِلْمَ فِي شَيْ ءٍ مِمَّا

(50/1)

أَنْكَرَهُ وَ لاَ يَرَى أَنَّ مِنْ وَرَاءِ مَا بَلَغَ مَذْهَباً لِغَيْرِهِ وَ إِنْ أَظْلَمَ عَلَيْهِ أَمْرٌ اِكْتَتَمَ بِهِ لِمَا يَعْلَمُ مِنْ جَهْلِ نَفْسِهِ تَصْرُخُ مِنْ جَوْرِ قَضَائِهِ اَلدِّمَاءُ وَ تَعَجُّ مِنْهُ
[ 284 ]
اَلْمَوَارِيثُ إِلَى اَللَّهِ مِنْ مَعْشَرٍ يَعِيشُونَ جُهَّالاً وَ يَمُوتُونَ ضُلاَّلاً لَيْسَ فِيهِمْ سِلْعَةٌ أَبْوَرُ مِنَ اَلْكِتَابِ إِذَا تُلِيَ حَقَّ تِلاَوَتِهِ وَ لاَ سِلْعَةٌ أَنْفَقُ بَيْعاً وَ لاَ أَغْلَى ثَمَناً مِنَ اَلْكِتَابِ إِذَا حُرِّفَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَ لاَ عِنْدَهُمْ أَنْكَرُ مِنَ اَلْمَعْرُوفِ وَ لاَ أَعْرَفُ مِنَ اَلْمُنْكَرِ وكله إلى نفسه تركه و نفسه وكلته وكلا و وكولا و الجائر الضال العادل عن الطريق و قمش جهلا جمعه و موضع مسرع أوضع البعير أسرع و أوضعه راكبه فهو موضع به أي أسرع به . و أغباش الفتنة ظلمها الواحدة غبش و أغباش الليل بقايا ظلمته
و منه الحديث في صلاة الصبح و النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغبش و الماء الآجن الفاسد و أكثر كقولك استكثر و يروى اكتنز أي اتخذ العلم كنزا . و التخليص التبيين و هو و التلخيص متقاربان و لعلهما شي ء واحد من المقلوب . و المبهمات المشكلات و إنما قيل لها مبهمة لأنها أبهمت عن البيان كأنها أصمتت فلم يجعل عليها دليل و لا إليها سبيل أو جعل عليها دليل و إليها سبيل إلا أنه متعسر مستصعب و لهذا قيل لما لا ينطق من الحيوان بهيمة و قيل للمصمت اللون الذي لا شية فيه بهيم . و قوله حشوا رثا كلام مخرجه الذم و الرث الخلق ضد الجديد . و قوله حشوا يعني كثيرا لا فائدة فيه و عاش خابط في ظلام و قوله لم يعض يريد أنه لم يتقن و لم يحكم الأمور فيكون بمنزلة من يعض بالناجذ و هو آخر الأضراس و إنما
[ 285 ]

(50/2)

يطلع إذا استحكمت شبيبة الإنسان و اشتدت مرته و لذلك يدعوه العوام ضرس الحلم كأن الحلم يأتي مع طلوعه و يذهب نزق الصبا و يقولون رجل منجذ أي مجرب محكم كأنه قد عض على ناجذه و كمل عقله . و قوله يذري الروايات هكذا أكثر النسخ و أكثر الروايات يذري من أذرى رباعيا و قد أوضحه قوله إذراء الريح يقال طعنه فأذراه أي ألقاه و أذريت الحب للزرع أي ألقيته فكأنه يقول يلقي الروايات كما يلقي الإنسان الشي ء على الأرض و الأجود الأصح الرواية الأخرى يذرو الروايات ذرو الريح الهشيم و هكذا ذكر ابن قتيبة في غريب الحديث لما ذكر هذه الخطبة عن أمير المؤمنين ع قال تعالى فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ اَلرِّياحُ و الهشيم ما يبس من النبت و تفتت . قوله لا ملي ء أي لا قيم به و فلان غني ملي ء أي ثقة بين الملأ و الملاء بالمد و في كتاب ابن قتيبة تتمة هذا الكلام و لا أهل لما قرظ به قال أي ليس بمستحق للمدح الذي مدح به و الذي رواه ابن قتيبة من تمام كلام أمير المؤمنين ع هو الصحيح الجيد لأنه يستقبح في العربية أن تقول لا زيد قائم حتى تقول و لا عمرو أو تقول و لا قاعد فقوله ع لا ملي ء أي لا هو ملي ء و هذا يستدعي لا ثانية و لا يحسن الاقتصار على الأولى . و قوله ع اكتتم به أي كتمه و ستره و قوله تصرخ منه و تعج العج رفع الصوت و هذا من باب الاستعارة . و في كثير من النسخ إلى الله أشكو فمن روى ذلك وقف على المواريث
[ 286 ]

(50/3)

و من روى الرواية الأولى وقف على قوله إلى الله و يكون قوله من معشر من تمام صفات ذلك الحاكم أي هو من معشر صفتهم كذا . و أبور أفعل من البور الفاسد بار الشي ء أي فسد و بارت السلعة أي كسدت و لم تنفق و هو المراد هاهنا و أصله الفساد أيضا . إن قيل بينوا الفرق بين الرجلين اللذين أحدهما وكله الله إلى نفسه و الآخر رجل قمش جهلا فإنهما في الظاهر واحد . قيل أما الرجل الأول فهو الضال في أصول العقائد كالمشبه و المجبر و نحوهما أ لا تراه كيف قال مشغوف بكلام بدعة و دعاء ضلالة و هذا يشعر بما قلناه من أن مراده به المتكلم في أصول الدين و هو ضال عن الحق و لهذا قال إنه فتنة لمن افتتن به ضال عن هدى من قبله مضل لمن يجي ء بعده و أما الرجل الثاني فهو المتفقه في فروع الشرعيات و ليس بأهل لذلك كفقهاء السوء أ لا تراه كيف يقول جلس بين الناس قاضيا . و قال أيضا تصرخ من جور قضائه الدماء و تعج منه المواريث فإن قيل ما معنى قوله في الرجل الأول رهن بخطيئته قيل لأنه إن كان ضالا في دعوته مضلا لمن اتبعه فقد حمل خطاياه و خطايا غيره فهو رهن بالخطيئتين معا و هذا مثل قوله تعالى وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ . إن قيل ما معنى قوله عم بما في عقد الهدنة قيل الهدنة أصلها في اللغة السكون يقال هدن إذا سكن و معنى الكلام أنه لا يعرف ما في الفتنة من الشر و لا ما في السكون و المصالحة من الخير .
[ 287 ]
و يروى بما في غيب الهدنة أي في طيها و في ضمنها و يروى غار في أغباش الفتنة أي غافل ذو غرة . و روي من جمع بالتنوين فتكون ما على هذا اسما موصولا و هي و صلتها في موضع جر لأنها صفة جمع و من لم يرو التنوين في جمع حذف الموصوف تقديره من جمع شي ء ما قل منه خير مما كثر فتكون ما مصدرية و تقدير الكلام قلته خير من كثرته و يكون موضع ذلك جرا أيضا بالصفة
[ 288 ]

(50/4)

18 ـ و من كلام له ع في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
تَرِدُ عَلَى أَحَدِهِمُ اَلْقَضِيَّةُ فِي حُكْمٍ مِنَ اَلْأَحْكَامِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِرَأْيِهِ ثُمَّ تَرِدُ تِلْكَ اَلْقَضِيَّةُ بِعَيْنِهَا عَلَى غَيْرِهِ فَيَحْكُمُ فِيهَا بِخِلاَفِ قَوْلِهِ ثُمَّ يَجْتَمِعُ اَلْقُضَاةُ بِذَلِكَ عِنْدَ اَلْإِمَامِ اَلَّذِي اِسْتَقْضَاهُمْ فَيُصَوِّبُ آرَاءَهُمْ جَمِيعاً وَ إِلَهُهُمْ وَاحِدٌ وَ نَبِيُّهُمْ وَاحِدٌ وَ كِتَابُهُمْ وَاحِدٌ أَ فَأَمَرَهُمُ اَللَّهُ تَعَالَى سُبْحَانَهُ بِالاِخْتِلاَفِ فَأَطَاعُوهُ أَمْ نَهَاهُمْ عَنْهُ فَعَصَوْهُ أَمْ أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً نَاقِصاً فَاسْتَعَانَ بِهِمْ عَلَى إِتْمَامِهِ أَمْ كَانُوا شُرَكَاءَ لَهُ فَلَهُمْ أَنْ يَقُولُوا وَ عَلَيْهِ أَنْ يَرْضَى أَمْ أَنْزَلَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ دِيناً تَامّاً فَقَصَّرَ اَلرَّسُولُ ص عَنْ تَبْلِيغِهِ وَ أَدَائِهِ وَ اَللَّهُ سُبْحَانَهُ يَقُولُ ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ تِبْيَانٌ لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ ذَكَرَ أَنَّ اَلْكِتَابَ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضاً وَ أَنَّهُ لاَ اِخْتِلاَفَ فِيهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً وَ إِنَّ اَلْقُرْآنَ ظَاهِرُهُ أَنِيقٌ وَ بَاطِنُهُ عَمِيقٌ لاَ تَفْنَى عَجَائِبُهُ وَ لاَ تَنْقَضِي غَرَائِبُهُ وَ لاَ تُكْشَفُ اَلظُّلُمَاتُ إِلاَّ بِهِ
[ 289 ]

(51/1)

الأنيق المعجب و آنقني الشي ء أي أعجبني يقول لا ينبغي أن يحمل جميع ما في الكتاب العزيز على ظاهره فكم من ظاهر فيه غير مراد بل المراد به أمر آخر باطن و المراد الرد على أهل الاجتهاد في الأحكام الشرعية و إفساد قول من قال كل مجتهد مصيب و تلخيص الاحتجاج من خمسة أوجه الأول أنه لما كان الإله سبحانه واحدا و الرسول ص واحدا و الكتاب واحدا وجب أن يكون الحكم في الواقعة واحدا كالملك الذي يرسل إلى رعيته رسولا بكتاب يأمرهم فيه بأوامر يقتضيها ملكه و إمرته فإنه لا يجوز أن تتناقض أوامره و لو تناقضت لنسب إلى السفه و الجهل . الثاني لا يخلو الاختلاف الذي ذهب إليه المجتهدون إما أن يكون مأمورا به أو منهيا عنه و الأول باطل لأنه ليس في الكتاب و السنة ما يمكن الخصم أن يتعلق به في كون الاختلاف مأمورا به و الثاني حق و يلزم منه تحريم الاختلاف . الثالث إما أن يكون دين الإسلام ناقصا أو تاما فإن كان الأول كان الله سبحانه قد استعان بالمكلفين على إتمام شريعة ناقصة أرسل بها رسوله إما استعانة على سبيل النيابة عنه أو على سبيل المشاركة له و كلاهما كفر و إن كان الثاني فإما أن يكون الله تعالى أنزل الشرع تاما فقصر الرسول عن تبليغه أو يكون الرسول قد أبلغه على تمامه و كماله فإن كان الأول فهو كفر أيضا و إن كان الثاني فقد بطل الاجتهاد لأن الاجتهاد إنما يكون فيما لم يتبين فأما ما قد بين فلا مجال للاجتهاد فيه . الرابع الاستدلال بقوله تعالى ما فَرَّطْنا فِي اَلْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ و قوله تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ و قوله سبحانه وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ
[ 290 ]

(51/2)

مُبِينٍ فهذه الآيات دالة على اشتمال الكتاب العزيز على جميع الأحكام فكل ما ليس في الكتاب وجب ألا يكون في الشرع . الخامس قوله تعالى وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اَللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اِخْتِلافاً كَثِيراً فجعل الاختلاف دليلا على أنه ليس من عند الله لكنه من عند الله سبحانه بالأدلة القاطعة الدالة على صحة النبوة فوجب ألا يكون فيه اختلاف . و اعلم أن هذه الوجوه هي التي يتعلق بها الإمامية و نفاه القياس و الاجتهاد في الشرعيات و قد تكلم عليها أصحابنا في كتبهم و قالوا إن أمير المؤمنين ع كان يجتهد و يقيس و ادعوا إجماع الصحابة على صحة الاجتهاد و القياس و دفعوا صحة هذا الكلام المنسوب في هذا الكتاب إلى أمير المؤمنين ع و قالوا إنه من رواية الإمامية و هو معارض بما ترويه الزيدية عنه و عن أبنائه ع في صحة القياس و الاجتهاد و مخالطة الزيدية لأئمة أهل البيت ع كمخالطة الإمامية لهم و معرفتهم بأقوالهم و أحوالهم و مذاهبهم كمعرفة الإمامية لا فرق بين الفئتين في ذلك و الزيدية قاطبة جاروديتها و صالحيتها تقول بالقياس و الاجتهاد و ينقلون في ذلك نصوصا عن أهل البيت ع و إذا تعارضت الروايتان تساقطتا و عدنا إلى الأدلة المذكورة في هذه المسألة و قد تكلمت في اعتبار الذريعة للمرتضى على احتجاجه في إبطال القياس و الاجتهاد بما ليس هذا موضع ذكره
[ 291 ]

(51/3)

19 ـ و من كلام له ع قاله للأشعث بن قيس
و هو على منبر الكوفة يخطب فمضى في بعض كلامه شي ء اعترضه الأشعث فيه فقال يا أمير المؤمنين هذه عليك لا لك فخفض إليه بصره ع ثم قال : وَ مَا يُدْرِيكَ مَا عَلَيَّ مِمَّا لِي عَلَيْكَ لَعْنَةُ اَللَّهِ وَ لَعْنَةُ اَللاَّعِنِينَ حَائِكٌ اِبْنُ حَائِكٍ مُنَافِقٌ اِبْنُ كَافِرٍ وَ اَللَّهِ لَقَدْ أَسَرَكَ اَلْكُفْرُ مَرَّةً وَ اَلْإِسْلاَمُ أُخْرَى [ مَرَّةً ] فَمَا فَدَاكَ مِنْ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَالُكَ وَ لاَ حَسَبُكَ وَ إِنَّ اِمْرَأً دَلَّ عَلَى قَوْمِهِ اَلسَّيْفَ وَ سَاقَ إِلَيْهِمُ اَلْحَتْفَ لَحَرِيٌّ أَنْ يَمْقُتَهُ اَلْأَقْرَبُ وَ لاَ يَأْمَنَهُ اَلْأَبْعَدُ قال الرضي رحمه الله يريد ع أنه أسر في الكفر مرة و في الإسلام مرة . و أما قوله ع دل على قومه السيف فأراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه و مكر بهم حتى أوقع بهم خالد و كان قومه بعد ذلك يسمونه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم
[ 292 ]
خفض إليه بصره طأطأه و قوله فما فداك لا يريد به الفداء الحقيقي فإن الأشعث فدي في الجاهلية بفداء يضرب به المثل فقال أغلى فداء من الأشعث و سنذكره و إنما يريد ما دفع عنك الأسر مالك و لا حسبك و يمقته يبغضه و المقت البغض

(52/1)

الأشعث بن قيس و نسبه و بعض أخباره
اسم الأشعث معديكرب و أبوه قيس الأشج سمي الأشج لأنه شج في بعض حروبهم ابن معديكرب بن معاوية بن معديكرب بن معاوية بن جبلة بن عبد العزى بن ربيعة بن معاوية الأكرمين بن الحارث بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد . و أم الأشعث كبشة بنت يزيد بن شرحبيل بن يزيد بن إمرئ القيس بن عمرو المقصور الملك . كان الأشعث أبدا أشعث الرأس فسمي الأشعث و غلب عليه حتى نسي اسمه و لعبد الرحمن بن محمد بن الأشعث يقول أعشى همدان
يا ابن الأشج قريع كندة
لا أبالي فيك عتبا
[ 293 ]
أنت الرئيس ابن الرئيس
و أنت أعلى الناس كعبا
و تزوج رسول الله ص قتيلة أخت الأشعث فتوفي قبل أن تصل إليه . فأما الأسر الذي أشار أمير المؤمنين ع إليه في الجاهلية فقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة النسب فقال إن مرادا لما قتلت قيسا الأشج خرج الأشعث طالبا بثأره فخرجت كندة متساندين على ثلاثة ألوية على أحد الألوية كبس بن هانئ بن شرحبيل بن الحارث بن عدي بن ربيعة بن معاوية الأكرمين و يعرف هانئ بالمطلع لأنه كان يغزو فيقول اطلعت بني فلان فسمي المطلع و على أحدها القشعم أبو جبر بن يزيد الأرقم و على أحدها الأشعث فأخطئوا مرادا و لم يقعوا عليهم و وقعوا على بني الحارث بن كعب فقتل كبس و القشعم أبو جبر و أسر الأشعث ففدي بثلاثة آلاف بعير لم يفد بها عربي بعده و لا قبله فقال في ذلك عمرو بن معديكرب الزبيدي
فكان فداؤه ألفي بعير
و ألفا من طريفات و تلد

(53/1)

و أما الأسر الثاني في الإسلام فإن رسول الله ص لما قدمت كندة حجاجا قبل الهجرة عرض رسول الله ص نفسه عليهم كما كان يعرض نفسه على أحياء العرب فدفعه بنو وليعة من بني عمرو بن معاوية و لم يقبلوه فلما هاجر ص و تمهدت دعوته و جاءته وفود العرب جاءه وفد كندة فيهم الأشعث و بنو وليعة فأسلموا فأطعم رسول الله ص بني وليعة طعمة من صدقات حضرموت و كان قد استعمل على حضرموت زياد بن لبيد البياضي الأنصاري فدفعها زياد إليهم فأبوا أخذها و قالوا لا ظهر لنا فابعث بها إلى بلادنا على ظهر
[ 294 ]
من عندك فأبى زياد و حدث بينهم و بين زياد شر كاد يكون حربا فرجع منهم قوم إلى رسول الله ص و كتب زياد إليه ع يشكوهم و في هذه الوقعة كان

(53/2)

الخبر المشهور عن رسول الله ص قال لبني وليعة لتنتهن يا بني وليعة أو لأبعثن عليكم رجلا عديل نفسي يقتل مقاتلتكم و يسبي ذراريكم قال عمر بن الخطاب فما تمنيت الإمارة إلا يومئذ و جعلت أنصب له صدري رجاء أن يقول هو هذا فأخذ بيد علي ع و قال هو هذا . ثم كتب لهم رسول الله ص إلى زياد فوصلوا إليه بالكتاب و قد توفي رسول الله ص و طار الخبر بموته إلى قبائل العرب فارتدت بنو وليعة و غنت بغاياهم و خضبن له أيديهن . و قال محمد بن حبيب كان إسلام بني وليعة ضعيفا و كان رسول الله ص يعلم ذلك منهم و لما حج رسول الله ص حجة الوداع و انتهى إلى فم الشعب دخل أسامة بن زيد ليبول فانتظره رسول الله ص و كان أسامة أسود أفطس فقال بنو وليعة هذا الحبشي حبسنا فكانت الردة في أنفسهم . قال أبو جعفر محمد بن جرير فأمر أبو بكر زيادا على حضرموت و أمره بأخذ البيعة على أهلها و استيفاء صدقاتهم فبايعوه إلا بني وليعة فلما خرج ليقبض الصدقات من بني عمرو بن معاوية أخذ ناقة لغلام منهم يعرف بشيطان بن حجر و كانت صفية نفيسة اسمها شذرة فمنعه الغلام عنها و قال خذ غيرها فأبى زياد ذلك و لج فاستغاث شيطان بأخيه العداء بن حجر فقال لزياد دعها و خذ غيرها فأبى زياد ذلك و لج الغلامان في أخذها و لج زياد و قال لهما لا تكونن شذرة عليكما كالبسوس
[ 295 ]
فهتف الغلامان يا لعمرو أ نضام و نضطهد إن الذليل من أكل في داره و هتفا بمسروق بن معديكرب فقال مسروق لزياد أطلقها فأبى فقال مسروق
يطلقها شيخ بخديه الشيب
ملمع فيه كتلميع الثوب
ماض على الريب إذا كان الريب

(53/3)

ثم قام فأطلقها فاجتمع إلى زياد بن لبيد أصحابه و اجتمع بنو وليعة و أظهروا أمرهم فبيتهم زياد و هم غارون فقتل منهم جمعا كثيرا و نهب و سبى و لحق فلهم بالأشعث بن قيس فاستنصروه فقال لا أنصركم حتى تملكوني عليكم فملكوه و توجوه كما يتوج الملك من قحطان فخرج إلى زياد في جمع كثيف و كتب أبو بكر إلى المهاجر بن أبي أمية و هو على صنعاء أن يسير بمن معه إلى زياد فاستخلف على صنعاء و سار إلى زياد فلقوا الأشعث فهزموه و قتل مسروق و لجأ الأشعث و الباقون إلى الحصن المعروف بالنجير فحاصرهم المسلمون حصارا شديدا حتى ضعفوا و نزل الأشعث ليلا إلى المهاجر و زياد فسألهما الأمان على نفسه حتى يقدما به على أبي بكر فيرى فيه رأيه على أن يفتح لهم الحصن و يسلم إليهم من فيه . و قيل بل كان في الأمان عشرة من أهل الأشعث . فأمناه و أمضيا شرطه ففتح لهم الحصن فدخلوه و استنزلوا كل من فيه و أخذوا أسلحتهم و قالوا للأشعث اعزل العشرة فعزلهم فتركوهم و قتلوا الباقين و كانوا ثمانمائة و قطعوا أيدي النساء اللواتي شمتن برسول الله ص و حملوا الأشعث
[ 296 ]

(53/4)

إلى أبي بكر موثقا في الحديد هو و العشرة فعفا عنه و عنهم و زوجه أخته أم فروة بنت أبي قحافة و كانت عمياء فولدت للأشعث محمدا و إسماعيل و إسحاق . و خرج الأشعث يوم البناء عليها إلى سوق المدينة فما مر بذات أربع إلا عقرها و قال للناس هذه وليمة البناء و ثمن كل عقيرة في مالي فدفع أثمانها إلى أربابها . قال أبو جعفر محمد بن جرير في التاريخ و كان المسلمون يلعنون الأشعث و يلعنه الكافرون أيضا و سبايا قومه و سماه نساء قومه عرف النار و هو اسم للغادر عندهم . و هذا عندي هو الوجه و هو أصح مما ذكره الرضي رحمه الله تعالى من قوله في تفسير قول أمير المؤمنين و إن امرأ دل على قومه السيف أنه أراد به حديثا كان للأشعث مع خالد بن الوليد باليمامة غر فيه قومه و مكر بهم حتى قتلهم فإنا لم نعرف في التواريخ أن الأشعث جرى له باليمامة مع خالد هذا و لا شبهه و أين كندة و اليمامة كندة باليمن و اليمامة لبني حنيفة و لا أعلم من أين نقل الرضي رحمه الله تعالى هذا . فأما الكلام الذي كان أمير المؤمنين ع قاله على منبر الكوفة فاعترضه فيه الأشعث فإن عليا ع قام إليه و هو يخطب و يذكر أمر الحكمين رجل من أصحابه بعد أن انقضى أمر الخوارج فقال له نهيتنا عن الحكومة ثم أمرتنا بها فما ندري أي الأمرين أرشد فصفق ع بإحدى يديه على الأخرى و قال هذا جزاء من ترك العقدة و كان مراده ع هذا جزاؤكم إذ تركتم الرأي و الحزم و أصررتم على إجابة القوم إلى التحكيم فظن الأشعث أنه أراد هذا جزائي حيث تركت الرأي و الحزم و حكمت لأن هذه اللفظة محتملة أ لا ترى أن الرئيس
[ 297 ]

(53/5)

إذا شغب عليه جنده و طلبوا منه اعتماد أمر ليس بصواب فوافقهم تسكينا لشغبهم لا استصلاحا لرأيهم ثم ندموا بعد ذلك قد يقول هذا جزاء من ترك الرأي و خالف وجه الحزم و يعني بذلك أصحابه و قد يقوله يعني به نفسه حيث وافقهم أمير المؤمنين ع إنما عنى ما ذكرناه دون ما خطر للأشعث فلما قال له هذه عليك لا لك قال له و ما يدريك ما علي مما لي عليك لعنة الله و لعنة اللاعنين . و كان الأشعث من المنافقين في خلافة علي ع و هو في أصحاب أمير المؤمنين ع كما كان عبد الله بن أبي بن سلول في أصحاب رسول الله ص كل واحد منهما رأس النفاق في زمانه . و أما قوله ع للأشعث حائك ابن حائك فإن أهل اليمن يعيرون بالحياكة و ليس هذا مما يخص الأشعث . و من كلام خالد بن صفوان ما أقول في قوم ليس فيهم إلا حائك برد أو دابغ جلد أو سائس قرد ملكتهم امرأة و أغرقتهم فأرة و دل عليهم هدهد
[ 298 ]

(53/6)

20 ـ و من خطبة له ع
فَإِنَّكُمْ لَوْ قَدْ عَايَنْتُمْ مَا قَدْ عَايَنَ مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ لَجَزِعْتُمْ وَ وَهِلْتُمْ وَ سَمِعْتُمْ وَ أَطَعْتُمْ وَ لَكِنْ مَحْجُوبٌ عَنْكُمْ مَا قَدْ عَايَنُوا وَ قَرِيبٌ مَا يُطْرَحُ اَلْحِجَابُ وَ لَقَدْ بُصِّرْتُمْ إِنْ أَبْصَرْتُمْ وَ أُسْمِعْتُمْ إِنْ سَمِعْتُمْ وَ هُدِيتُمْ إِنِ اِهْتَدَيْتُمْ وَ بِحَقٍّ أَقُولُ لَكُمْ لَقَدْ جَاهَرَتْكُمْ اَلْعِبَرُ وَ زُجِرْتُمْ بِمَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ وَ مَا يُبَلِّغُ عَنِ اَللَّهِ بَعْدَ رُسُلِ اَلسَّمَاءِ إِلاَّ اَلْبَشَرُ الوهل الخوف وهل الرجل يوهل . و ما في قوله ما يطرح مصدرية تقديره و قريب طرح الحجاب يعني رفعه بالموت . و هذا الكلام يدل على صحة القول بعذاب القبر و أصحابنا كلهم يذهبون إليه و إن شنع عليهم أعداؤهم من الأشعرية و غيرهم بجحده . و ذكر قاضي القضاة رحمه الله تعالى أنه لم يعرف معتزليا نفى عذاب القبر لا من
[ 299 ]
متقدميهم و لا من متأخريهم قال و إنما نفاه ضرار بن عمرو لمخالطته لأصحابنا و أخذه عن شيوخنا ما نسب قوله إليهم . و يمكن أن يقول قائل هذا الكلام لا يدل على صحة القول بعذاب القبر لجواز أن يعني بمعاينة من قد مات ما يشاهده المحتضر من الحالة الدالة على السعادة أو الشقاوة
فقد جاء في الخبر لا يموت امرؤ حتى يعلم مصيره هل هو إلى الجنة أم إلى النار و يمكن أن يعني به ما يعاينه المحتضر من ملك الموت و هول قدومه و يمكن أن يعني به ما كان ع يقوله عن نفسه إنه لا يموت ميت حتى يشاهده ع حاضرا عنده و الشيعة تذهب إلى هذا القول و تعتقده
و تروي عنه ع شعرا قاله للحارث الأعور الهمداني
يا حار همدان من يمت يرني
من مؤمن أو منافق قبلا
يعرفني طرفه و أعرفه
بعينه و اسمه و ما فعلا
أقول للنار و هي توقد للعرض
ذريه لا تقربي الرجلا
ذريه لا تقربيه إن له
حبلا بحبل الوصي متصلا

(54/1)

و أنت يا حار إن تمت ترني
فلا تخف عثرة و لا زللا
أسقيك من بارد على ظمإ
تخاله في الحلاوة العسلا
و ليس هذا بمنكر إن صح أنه ع قاله عن نفسه ففي الكتاب العزيز ما يدل على أن أهل الكتاب لا يموت منهم ميت حتى يصدق بعيسى ابن مريم ع و ذلك قوله وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ اَلْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ
[ 300 ]
اَلْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً قال كثير من المفسرين معنى ذلك أن كل ميت من اليهود و غيرهم من أهل الكتب السالفة إذا احتضر رأى المسيح عيسى عنده فيصدق به من لم يكن في أوقات التكليف مصدقا به . و شبيه بقوله ع لو عاينتم ما عاين من مات قبلكم قول أبي حازم لسليمان بن عبد الملك في كلام يعظه به أن آباءك ابتزوا هذا الأمر من غير مشورة ثم ماتوا فلو علمت ما قالوا و ما قيل لهم فقيل إنه بكى حتى سقط
[ 301 ]

(54/2)

21 ـ و من خطبة له ع
فَإِنَّ اَلْغَايَةَ أَمَامَكُمْ وَ إِنَّ وَرَاءَكُمُ اَلسَّاعَةَ تَحْدُوكُمْ تَخَفَّفُوا تَلْحَقُوا فَإِنَّمَا يُنْتَظَرُ بِأَوَّلِكُمْ آخِرُكُمْ قال الرضي رحمه الله أقول إن هذا الكلام لو وزن بعد كلام الله سبحانه و بعد كلام رسول الله ص بكل كلام لمال به راجحا و برز عليه سابقا . فأما قوله ع تخففوا تلحقوا فما سمع كلام أقل منه مسموعا و لا أكثر محصولا و ما أبعد غورها من كلمة و أنقع نطفتها من حكمة و قد نبهنا في كتاب الخصائص و على عظم قدرها و شرف جوهرها غاية المكلفين هي الثواب أو العقاب فيحتمل أن يكون أراد ذلك و يحتمل أن يكون أراد بالغاية الموت و إنما جعل ذلك أمامنا لأن الإنسان كالسائر إلى الموت أو كالسائر إلى الجزاء فهما أمامه أي بين يديه .
[ 302 ]

(55/1)

ثم قال و إن وراءكم الساعة تحدوكم أي تسوقكم و إنما جعلها وراءنا لأنها إذا وجدت ساقت الناس إلى موقف الجزاء كما يسوق الراعي الإبل فلما كانت سائقة لنا كانت كالشي ء يحفز الإنسان من خلفه و يحركه من ورائه إلى جهة ما بين يديه . و لا يجوز أن يقال إنما سماها وراءنا لأنها تكون بعد موتنا و خروجنا من الدنيا و ذلك أن الثواب و العقاب هذا شأنهما و قد جعلهما أمامنا . و أما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله فإن الغاية أمامكم يعني أن الجنة و النار خلفكم و معنى قوله وراءكم الساعة أي قدامكم . و لقائل أن يقول أما الوراء بمعنى القدام فقد ورد و لكن ما ورد أمام بمعنى خلف و لا سمعنا ذلك . و أما قوله تخففوا تلحقوا فأصله الرجل يسعى و هو غير مثقل بما يحمله يكون أجدر أن يلحق الذين سبقوه و مثله قوله نجا المخففون . و قوله ع فإنما ينتظر بأولكم آخركم يريد إنما ينتظر ببعث الذين ماتوا في أول الدهر مجي ء من يخلقون و يموتون في آخره كأمير يريد إعطاء جنده إذا تكامل عرضهم إنما يعطي الأول منهم إذا انتهى عرض الأخير . و هذا كلام فصيح جدا . و الغور العمق و النطفة ما صفا من الماء و ما أنقع هذا الماء أي ما أرواه للعطش
[ 303 ]

(55/2)

22 ـ و من خطبة له ع
أَلاَ وَ إِنَّ اَلشَّيْطَانَ قَدْ ذَمَرَ ذَمَّرَ حِزْبَهُ وَ اِسْتَجْلَبَ جَلَبَهُ لِيَعُودَ اَلْجَوْرُ إِلَى أَوْطَانِهِ وَ يَرْجِعَ اَلْبَاطِلُ إِلَى نِصَابِهِ وَ اَللَّهِ مَا أَنْكَرُوا عَلَيَّ مُنْكَراً وَ لاَ جَعَلُوا بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ نَصَفاً وَ إِنَّهُمْ لَيَطْلُبُونَ حَقّاً هُمْ تَرَكُوهُ وَ دَماً هُمْ سَفَكُوهُ فَإِنْ فَلَئِنْ كُنْتُ شَرِيكَهُمْ فِيهِ فَإِنَّ لَهُمْ لَنَصِيبَهُمْ مِنْهُ وَ إِنْ لَئِنْ كَانُوا وَلُوهُ دُونِي فَمَا اَلتَّبِعَةُ إِلاَّ عِنْدَهُمْ وَ إِنَّ أَعْظَمَ حُجَّتِهِمْ لَعَلَى أَنْفُسِهِمْ يَرْتَضِعُونَ أُمّاً قَدْ فَطَمَتْ وَ يُحْيُونَ بِدْعَةً قَدْ أُمِيتَتْ يَا خَيْبَةَ اَلدَّاعِي مَنْ دَعَا وَ إِلاَمَ أُجِيبَ وَ إِنِّي لَرَاضٍ بِحُجَّةِ اَللَّهِ عَلَيْهِمْ وَ عِلْمِهِ فِيهِمْ فَإِنْ أَبَوْا أَعْطَيْتُهُمْ حَدَّ اَلسَّيْفِ وَ كَفَى بِهِ شَافِياً مِنَ اَلْبَاطِلِ وَ نَاصِراً لِلْحَقِّ وَ مِنَ اَلْعَجَبِ بَعْثُهُمْ بَعْثَتُهُمْ إِلَيَّ أَنْ أَبْرُزَ لِلطِّعَانِ وَ أَنْ أَصْبِرَ لِلْجِلاَدِ هَبِلَتْهُمُ اَلْهَبُولُ لَقَدْ كُنْتُ وَ مَا أُهَدَّدُ بِالْحَرْبِ وَ لاَ أُرَهَّبُ بِالضَّرْبِ وَ إِنِّي لَعَلَى يَقِينٍ مِنْ رَبِّي وَ غَيْرِ شُبْهَةٍ مِنْ دِينِي
[ 304 ]

(56/1)

يروى ذمر بالتخفيف و ذمر بالتشديد و أصله الحض و الحث و التشديد دليل على التكثير . و استجلب جلبه الجلب بفتح اللام ما يجلب كما يقال جمع جمعه و يروى جلبه و جلبه و هما بمعنى و هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه أي جمع قوما كالجهام الذي لا نفع فيه و روي ليعود الجور إلى قطابه و القطاب مزاج الخمر بالماء أي ليعود الجور ممتزجا بالعدل كما كان و يجوز أن يعني بالقطاب قطاب الجيب و هو مدخل الرأس فيه أي ليعود الجور إلى لباسه و ثوبه . و قال الراوندي قطابه أصله و ليس ذلك بمعروف في اللغة . و روي الباطل بالنصب على أن يكون يرجع متعديا تقول رجعت زيدا إلى كذا و المعنى و يرد الجور الباطل إلى أوطانه . و قال الراوندي يعود أيضا مثل يرجع يكون لازما و متعديا و أجاز نصب الجور به و هذا غير صحيح لأن عاد لم يأت متعديا و إنما يعدى بالهمزة . و النصف الذي ينصف . و قال الراوندي النصف النصفة و المعنى لا يحتمله لأنه لا معنى لقوله و لا جعلوا بيني و بينهم إنصافا بل المعنى لم يجعلوا ذا انصاف بيني و بينهم . يرتضعون أما قد فطمت يقول يطلبون الشي ء بعد فواته لأن الأم إذا فطمت ولدها فقد انقضى إرضاعها . و قوله يا خيبة الداعي هاهنا كالنداء في قوله تعالى يا حَسْرَةً عَلَى اَلْعِبادِ و قوله يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها أي يا خيبة احضري فهذا أوانك .
[ 305 ]
و كلامه في هذه الخطبة مع أصحاب الجمل و الداعي هو أحد الثلاثة الرجلان و المرأة . ثم قال على سبيل الاستصغار لهم و الاستحقار من دعا و إلى ما ذا أجيب أي أحقر بقوم دعاهم هذا الداعي و أقبح بالأمر الذي أجابوه إليه فما أفحشه و أرذله . و قال الراوندي يا خيبة الداعي تقديره يا هؤلاء فحذف المنادى ثم قال خيبة الداعي أي خاب الداعي خيبة و هذا ارتكاب ضرورة لا حاجة إليها و إنما يحذف المنادى في المواضع التي دل الدليل فيها على الحذف كقوله
يا فانظر أيمن الوادي على إضم

(56/2)

و أيضا فإن المصدر الذي لا عامل فيه غير جائز حذف عامله و تقدير حذفه تقدير ما لا دليل عليه . و هبلته أمه بكسر الباء ثكلته . و قوله لقد كنت و ما أهدد بالحرب معناه ما زلت لا أهدد بالحرب و الواو زائدة و هذه كلمة فصيحة كثيرا ما تستعملها العرب و قد ورد في القرآن العزيز كان بمعنى ما زال في قوله وَ كانَ اَللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً و نحو ذلك من الآي معنى ذلك لم يزل الله عليما حكيما و الذي تأوله المرتضى رحمه الله تعالى في تكملة الغرر و الدرر كلام متكلف و الوجه الصحيح ما ذكرناه . و هذه الخطبة ليست من خطب صفين كما ذكره الراوندي بل من خطب الجمل و قد ذكر كثيرا منها أبو مخنف رحمه الله تعالى
قال حدثنا مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس .
[ 306 ]

(56/3)

قال لما رجعت رسل علي ع من عند طلحة و الزبير و عائشة يؤذنونه بالحرب قام فحمد الله و أثنى عليه و صلى على رسوله ص ثم قال أيها الناس إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو يرجعوا و وبختهم بنكثهم و عرفتهم بغيهم فلم يستحيوا و قد بعثوا إلي أن أبرز للطعان و أصبر للجلاد و إنما تمنيك نفسك أماني الباطل و تعدك الغرور ألا هبلتهم الهبول لقد كنت و ما أهدد بالحرب و لا أرهب بالضرب و لقد أنصف القارة من راماها فليرعدوا و ليبرقوا فقد رأوني قديما و عرفوا نكايتي فكيف رأوني أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين و فرقت جماعتهم و بذلك القلب ألقى عدوي اليوم و إني لعلى ما وعدني ربي من النصر و التأييد و على يقين من أمري و في غير شبهة من ديني أيها الناس إن الموت لا يفوته المقيم و لا يعجزه الهارب ليس عن الموت محيد و لا محيص من لم يقتل مات إن أفضل الموت القتل و الذي نفس علي بيده لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على الفراش اللهم إن طلحة نكث بيعتي و ألب على عثمان حتى قتله ثم عضهني به و رماني اللهم فلا تمهله اللهم إن الزبير قطع رحمي و نكث بيعتي و ظاهر على عدوي فاكفنيه اليوم بما شئت ثم نزل
[ 307 ]

(56/4)

خطبة علي بالمدينة في أول إمارته
و اعلم أن كلام أمير المؤمنين ع و كلام أصحابه و عماله في واقعة الجمل كله يدور على هذه المعاني التي اشتملت عليها ألفاظ هذا الفصل
فمن ذلك الخطبة التي رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني عن عبد الله بن جنادة قال قدمت من الحجاز أريد العراق في أول إمارة علي ع فمررت بمكة فاعتمرت ثم قدمت المدينة فدخلت مسجد رسول الله ص إذ نودي الصلاة جامعة فاجتمع الناس و خرج علي ع متقلدا سيفه فشخصت الأبصار نحوه فحمد الله و صلى على رسوله ص ثم قال أما بعد فإنه لما قبض الله نبيه ص قلنا نحن أهله و ورثته و عترته و أولياؤه دون الناس لا ينازعنا سلطانه أحد و لا يطمع في حقنا طامع إذ انبرى لنا قومنا فغصبونا سلطان نبينا فصارت الإمرة لغيرنا و صرنا سوقة يطمع فينا الضعيف و يتعزز علينا الذليل فبكت الأعين منا لذلك و خشنت الصدور و جزعت النفوس و ايم الله لو لا مخافة الفرقة بين المسلمين و أن يعود الكفر و يبور الدين لكنا على غير ما كنا لهم عليه فولي الأمر ولاة لم يألوا الناس خيرا ثم استخرجتموني أيها الناس من بيتي فبايعتموني على شين مني لأمركم و فراسة تصدقني ما في قلوب كثير منكم و بايعني هذان الرجلان في أول من بايع تعلمون ذلك و قد نكثا و غدرا و نهضا إلى البصرة بعائشة ليفرقا جماعتكم و يلقيا بأسكم بينكم اللهم فخذهما بما عملا أخذة رابية
[ 308 ]
و لا تنعش لهما صرعة و لا تقل لهما عثرة و لا تمهلهما فواقا فإنهما يطلبان حقا تركاه و دما سفكاه اللهم إني أقتضيك وعدك فإنك قلت و قولك الحق ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اَللَّهُ اللهم فأنجز لي موعدك و لا تكلني إلى نفسي إنك على كل شي ء قدير ثم نزل

(57/1)

خطبته عند مسيره للبصرة
و روى الكلبي قال لما أراد علي ع المسير إلى البصرة قام فخطب الناس فقال بعد أن حمد الله و صلى على رسوله ص إن الله لما قبض نبيه استأثرت علينا قريش بالأمر و دفعتنا عن حق نحن أحق به من الناس كافة فرأيت أن الصبر على ذلك أفضل من تفريق كلمة المسلمين و سفك دمائهم و الناس حديثو عهد بالإسلام و الدين يمخض مخض الوطب يفسده أدنى وهن و يعكسه أقل خلف فولي الأمر قوم لم يألوا في أمرهم اجتهادا ثم انتقلوا إلى دار الجزاء و الله ولي تمحيص سيئاتهم و العفو عن هفواتهم فما بال طلحة و الزبير و ليسا من هذا الأمر بسبيل لم يصبرا علي حولا و لا شهرا حتى وثبا و مرقا و نازعاني أمرا لم يجعل الله لهما إليه سبيلا بعد أن بايعا طائعين غير مكرهين يرتضعان أما قد فطمت و يحييان بدعة قد أميتت أدم عثمان زعما و الله ما التبعة إلا عندهم و فيهم و إن أعظم حجتهم لعلى
[ 309 ]
أنفسهم و أنا راض بحجة الله عليهم و عمله فيهم فإن فاءا و أنابا فحظهما أحرزا و أنفسهما غنما و أعظم بها غنيمة و إن أبيا أعطيتهما حد السيف و كفى به ناصرا لحق و شافيا لباطل ثم نزل

(58/1)

خطبته بذي قار
و روى أبو مخنف عن زيد بن صوحان قال شهدت عليا ع بذي قار و هو معتم بعمامة سوداء ملتف بساج يخطب فقال في خطبة الحمد لله على كل أمر و حال في الغدو و الآصال و أشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا عبده و رسوله ابتعثه رحمة للعباد و حياة للبلاد حين امتلأت الأرض فتنة و اضطرب حبلها و عبد الشيطان في أكنافها و اشتمل عدو الله إبليس على عقائد أهلها فكان محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الذي أطفأ الله به نيرانها و أخمد به شرارها و نزع به أوتادها و أقام به ميلها إمام الهدى و النبي المصطفى ص فلقد صدع بما أمر به و بلغ رسالات ربه فأصلح الله به ذات البين و آمن به السبل و حقن به الدماء و ألف به بين ذوي الضغائن الواغرة في الصدور حتى أتاه اليقين ثم قبضه الله إليه حميدا ثم استخلف الناس أبا بكر فلم يأل جهده ثم استخلف أبو بكر عمر فلم يأل جهده ثم استخلف الناس عثمان فنال منكم و نلتم منه حتى إذا كان من أمره ما كان أتيتموني لتبايعوني لا حاجة لي في ذلك و دخلت منزلي فاستخرجتموني فقبضت يدي فبسطتموها و تداككتم علي حتى ظننت أنكم قاتلي و أن بعضكم قاتل بعض فبايعتموني و أنا غير مسرور بذلك و لا جذل
[ 310 ]

(59/1)

و قد علم الله سبحانه أني كنت كارها للحكومة بين أمة محمد ص و لقد سمعته يقول ما من وال يلي شيئا من أمر أمتي إلا أتي به يوم القيامة مغلولة يداه إلى عنقه على رءوس الخلائق ثم ينشر كتابه فإن كان عادلا نجا و إن كان جائرا هوى حتى اجتمع علي ملؤكم و بايعني طلحة و الزبير و أنا أعرف الغدر في أوجههما و النكث في أعينهما ثم استأذناني في العمرة فأعلمتهما أن ليس العمرة يريدان فسارا إلى مكة و استخفا عائشة و خدعاها و شخص معهما أبناء الطلقاء فقدموا البصرة فقتلوا بها المسلمين و فعلوا المنكر و يا عجبا لاستقامتهما لأبي بكر و عمر و بغيهما علي و هما يعلمان أني لست دون أحدهما و لو شئت أن أقول لقلت و لقد كان معاوية كتب إليهما من الشام كتابا يخدعهما فيه فكتماه عني و خرجا يوهمان الطغام أنهما يطلبان بدم عثمان و الله ما أنكرا علي منكرا و لا جعلا بيني و بينهم نصفا و إن دم عثمان لمعصوب بهما و مطلوب منهما يا خيبة الداعي إلام دعا و بما ذا أجيب و الله إنهما لعلى ضلالة صماء و جهالة عمياء و إن الشيطان قد ذمر لهما حزبه و استجلب منهما خيله و رجله ليعيد الجور إلى أوطانه و يرد الباطل إلى نصابه ثم رفع يديه فقال اللهم إن طلحة و الزبير قطعاني و ظلماني و ألبا علي و نكثا بيعتي فاحلل ما عقدا و انكث ما أبرما و لا تغفر لهما أبدا و أرهما المساءة فيما عملا و أملا . قال أبو مخنف فقام إليه الأشتر فقال الحمد لله الذي من علينا فأفضل و أحسن إلينا فأجمل قد سمعنا كلامك يا أمير المؤمنين و لقد أصبت و وفقت و أنت ابن عم نبينا و صهره و وصيه و أول مصدق به و مصل معه شهدت
[ 311 ]

(59/2)

مشاهده كلها فكان لك الفضل فيها على جميع الأمة فمن اتبعك أصاب حظه و استبشر بفلجه و من عصاك و رغب عنك فإلى أمه الهاوية لعمري يا أمير المؤمنين ما أمر طلحة و الزبير و عائشة علينا بمخيل و لقد دخل الرجلان فيما دخلا فيه و فارقا على غير حدث أحدثت و لا جور صنعت فإن زعما أنهما يطلبان بدم عثمان فليقيدا من أنفسهما فإنهما أول من ألب عليه و أغرى الناس بدمه و أشهد الله لئن لم يدخلا فيما خرجا منه لنلحقنهما بعثمان فإن سيوفنا في عواتقنا و قلوبنا في صدورنا و نحن اليوم كما كنا أمس ثم قعد
[ 312 ]

(59/3)

23 ـ و من خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْأَمْرَ يَنْزِلُ مِنَ اَلسَّمَاءِ إِلَى اَلْأَرْضِ كَقَطْرِ كَقَطَرَاتِ اَلْمَطَرِ إِلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا قُسِمَ لَهَا مِنْ زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ فَإِنْ رَأَى أَحَدُكُمْ لِأَخِيهِ غَفِيرَةً فِي أَهْلٍ أَوْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ فَلاَ تَكُونَنَّ لَهُ فِتْنَةً فَإِنَّ اَلْمَرْءَ اَلْمُسْلِمَ مَا لَمْ يَغْشَ دَنَاءَةً تَظْهَرُ [ تَطْهُرُ ] فَيَخْشَعُ لَهَا إِذَا ذُكِرَتْ وَ يُغْرَى بِهَا لِئَامُ اَلنَّاسِ كَانَ كَالْفَالِجِ اَلْيَاسِرِ اَلَّذِي يَنْتَظِرُ أَوَّلَ فَوْزَةٍ مِنْ قِدَاحِهِ تُوجِبُ لَهُ اَلْمَغْنَمَ وَ يُرْفَعُ بِهَا عَنْهُ بِهَا اَلْمَغْرَمُ وَ كَذَلِكَ اَلْمَرْءُ اَلْمُسْلِمُ اَلْبَرِي ءُ مِنَ اَلْخِيَانَةِ يَنْتَظِرُ مِنَ اَللَّهِ إِحْدَى اَلْحُسْنَيَيْنِ إِمَّا دَاعِيَ اَللَّهِ فَمَا عِنْدَ اَللَّهِ خَيْرٌ لَهُ وَ إِمَّا رِزْقَ اَللَّهِ فَإِذَا هُوَ ذُو أَهْلٍ وَ مَالٍ وَ مَعَهُ دِينُهُ وَ حَسَبُهُ وَ إِنَّ اَلْمَالَ وَ اَلْبَنِينَ حَرْثُ اَلدُّنْيَا وَ اَلْعَمَلَ اَلصَّالِحَ حَرْثُ اَلآْخِرَةِ وَ قَدْ يَجْمَعُهُمَا اَللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اَللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ [ شَخْصِهِ ] وَ اِخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَ اِعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَ لاَ سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اَللَّهِ يَكِلْهُ اَللَّهُ إِلَى مَنْ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اَللَّهَ مَنَازِلَ اَلشُّهَدَاءِ وَ مُعَايَشَةَ اَلسُّعَدَاءِ وَ مُرَافَقَةَ اَلْأَنْبِيَاءِ أَيُّهَا اَلنَّاسُ إِنَّهُ لاَ يَسْتَغْنِي اَلرَّجُلُ وَ إِنْ كَانَ ذَا مَالٍ عَنْ عَشِيرَتِهِ عِتْرَتِهِ [ عَشِيرَتِهِ ] وَ دِفَاعِهِمْ عَنْهُ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَلْسِنَتِهِمْ وَ هُمْ أَعْظَمُ اَلنَّاسِ حَيْطَةً مِنْ

(60/1)

وَرَائِهِ وَ أَلَمُّهُمْ لِشَعَثِهِ وَ أَعْطَفُهُمْ
[ 313 ]
عَلَيْهِ عِنْدَ نَازِلَةٍ إِذَا إِنْ نَزَلَتْ بِهِ وَ لِسَانُ اَلصِّدْقِ يَجْعَلُهُ اَللَّهُ لِلْمَرْءِ فِي اَلنَّاسِ خَيْرٌ لَهُ مِنَ اَلْمَالِ يُوَرِّثُهُ غَيْرَهُ يَرِثُهُ غَيْرُهُ وَ مِنْهَا أَلاَ لاَ يَعْدِلَنَّ أَحَدُكُمْ عَنِ اَلْقَرَابَةِ يَرَى بِهَا اَلْخَصَاصَةَ أَنْ يَسُدَّهَا بِالَّذِي لاَ يَزِيدُهُ إِنْ أَمْسَكَهُ وَ لاَ يَنْقُصُهُ إِنْ أَهْلَكَهُ وَ مَنْ يَقْبِضْ يَدَهُ عَنْ عَشِيرَتِهِ فَإِنَّمَا تُقْبَضُ مِنْهُ عَنْهُمْ يَدٌ وَاحِدَةٌ وَ تُقْبَضُ مِنْهُمْ عَنْهُ أَيْدٍ كَثِيرَةٌ وَ مَنْ تَلِنْ حَاشِيَتُهُ يَسْتَدِمْ مِنْ قَوْمِهِ اَلْمَوَدَّةَ [ اَلْمَحَبَّةَ ] قال الرضي رحمه الله أقول الغفيرة هاهنا الزيادة و الكثرة من قولهم للجمع الكثير الجم الغفير و الجماء الغفير و يروى عفوة من أهل أو مال و العفوة الخيار من الشي ء يقال أكلت عفوة الطعام أي خياره . و ما أحسن المعنى الذي أراده ع بقوله و من يقبض يده عن عشيرته . . . إلى تمام الكلام فإن الممسك خيره عن عشيرته إنما يمسك نفع يد واحدة فإذا احتاج إلى نصرتهم و اضطر إلى مرافدتهم قعدوا عن نصره و تثاقلوا عن صوته فمنع ترافد الأيدي الكثيرة و تناهض الأقدام الجمة
[ 314 ]

(60/2)

الفالج الظافر الفائز فلج يفلج بالضم و في المثل من يأت الحكم وحده يفلج و الياسر الذي يلعب بالقداح و اليسر مثله و الجمع أيسار و في الكلام تقديم و تأخير تقديره كالياسر الفالج أي كاللاعب بالقداح المحظوظ منها و هو من باب تقديم الصفة على الموصوف كقوله تعالى وَ غَرابِيبُ سُودٌ و حسن ذلك هاهنا أن اللفظتين صفتان و إن كانت إحداهما مرتبة على الأخرى . و قوله ليست بتعذير أي ليست بذات تعذير أي تقصير فحذف المضاف كقوله تعالى قُتِلَ أَصْحابُ اَلْأُخْدُودِ اَلنَّارِ أي ذي النار . و قوله هم أعظم الناس حيطة كبيعة أي رعاية و كلاءة و يروى حيطة كغيبة و هي مصدر حاط أي تحننا و تعطفا . و الخصاصة الفقر يقول القضاء و القدر ينزلان من السماء إلى الأرض كقطر المطر أي مبثوث في جميع أقطار الأرض إلى كل نفس بما قسم لها من زيادة أو نقصان في المال و العمر و الجاه و الولد و غير ذلك فإذا رأى أحدكم لأخيه زيادة في رزق أو عمر أو ولد و غير ذلك فلا يكونن ذلك له فتنة تفضي به إلى الحسد فإن الإنسان المسلم إذا كان غير مواقع لدناءة و قبيح يستحيي من ذكره بين الناس و يخشع إذا قرع به و يغرى لئام الناس بهتك ستره به كاللاعب بالقداح المحظوظ منها ينتظر أول فوزة و غلبة من قداحه تجلب له نفعا و تدفع عنه ضرا كذلك من وصفنا حاله يصبر و ينتظر إحدى الحسنيين إما أن يدعوه الله فيقبضه إليه و يستأثر به فالذي عند الله خير له و إما أن ينسأ في أجله فيرزقه الله أهلا و مالا فيصبح و قد اجتمع له ذلك مع حسبه و دينه و مروءته المحفوظة عليه . ثم قال المال و البنون حرث الدنيا و هو من قوله سبحانه اَلْمالُ وَ اَلْبَنُونَ
[ 315 ]

(60/3)

زِينَةُ اَلْحَياةِ اَلدُّنْيا و من قوله تعالى مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ اَلدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي اَلْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ . قال و قد يجمعهما الله لأقوام فإنه تعالى قد يرزق الرجل الصالح مالا و بنين فتجمع له الدنيا و الآخرة . ثم قال فاحذروا من الله ما حذركم من نفسه و ذلك لأنه تعالى قال فَاتَّقُونِ و قال فَارْهَبُونِ و قال فَلا تَخْشَوُا اَلنَّاسَ وَ اِخْشَوْنِ و غير ذلك من آيات التحذير . ثم قال و لتكن التقوى منكم أقصى نهايات جهدكم لا ذات تقصيركم فإن العمل القاصر قاصر الثواب قاصر المنزلة

(60/4)

فصل في ذم الحاسد و الحسد
و اعلم أن مصدر هذا الكلام النهي عن الحسد و هو من أقبح الأخلاق المذمومة
و روى ابن مسعود عن النبي ص ألا لا تعادوا نعم الله قيل يا رسول الله و من الذي يعادي نعم الله قال الذين يحسدون الناس . و كان ابن عمر يقول تعوذوا بالله من قدر وافق إرادة حسود .
[ 316 ]
قيل لأرسطو ما بال الحسود أشد غما من المكروب قال لأنه يأخذ نصيبه من غموم الدنيا و يضاف إلى ذلك غمه بسرور الناس .
و قال رسول الله ص استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان فإن كل ذي نعمة محسود . و قال منصور الفقيه
منافسة الفتى فيما يزول
على نقصان همته دليل
و مختار القليل أقل منه
و كل فوائد الدنيا قليل
و من الكلام المروي عن أمير المؤمنين ع لله در الحسد ما أعدله بدأ بصاحبه فقتله و من كلام عثمان بن عفان يكفيك من انتقامك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك . و قال مالك بن دينار شهادة القراء مقبولة في كل شي ء إلا شهادة بعضهم على بعض فإنهم أشد تحاسدا من السوس في الوبر . و قال أبو تمام
و إذا أراد الله نشر فضيلة
طويت أتاح لها لسان حسود
لو لا اشتعال النار فيما جاورت
ما كان يعرف طيب عرف العود
لو لا محاذرة العواقب لم تزل
للحاسد النعمى على المحسود
و تذاكر قوم من ظرفاء البصرة الحسد فقال رجل منهم إن الناس ربما حسدوا على الصلب فأنكروا ذلك ثم جاءهم بعد ذلك بأيام فقال إن الخليفة قد أمر بصلب
[ 317 ]
الأحنف بن قيس و مالك بن مسمع و حمدان الحجام فقالوا هذا الخبيث يصلب مع هذين الرئيسين فقال أ لم أقل لكم إن الناس يحسدون على الصلب .
و روى أنس بن مالك مرفوعا أن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
و في الكتب القديمة يقول الله عز و جل الحاسد عدو نعمتي متسخط لفعلي غير راض بقسمتي و قال الأصمعي رأيت أعرابيا قد بلغ مائة و عشرين سنة فقلت له ما أطول عمرك فقال تركت الحسد فبقيت . و قال بعضهم ما رأيت ظالما أشبه بمظلوم من حاسد . قال الشاعر

(61/1)

تراه كأن الله يجدع أنفه
و أذنيه إن مولاه ثاب إلى وفر
و قال آخر
قل للحسود إذا تنفس ضغنه
يا ظالما و كأنه مظلوم
و من كلام الحكماء إياك و الحسد فإنه يبين فيك و لا يبين في المحسود . و من كلامهم من دناءة الحاسد أنه يبدأ بالأقرب فالأقرب . و قيل لبعضهم لزمت البادية و تركت قومك و بلدك قال و هل بقي إلا حاسد نعمة أو شامت بمصيبة . بينا عبد الملك بن صالح يسير مع الرشيد في موكبه إذ هتف هاتف يا أمير المؤمنين طأطئ من إشرافه و قصر من عنانه و اشدد من شكاله و كان عبد الملك متهما
[ 318 ]
عند الرشيد بالطمع في الخلافة فقال الرشيد ما يقول هذا فقال عبد الملك مقال حاسد و دسيس حاقد يا أمير المؤمنين قال قد صدقت نقص القوم و فضلتهم و تخلفوا و سبقتهم حتى برز شأوك و قصر عنك غيرك ففي صدورهم جمرات التخلف و حزازات التبلد قال عبد الملك فأضرمها يا أمير المؤمنين عليهم بالمزيد . و قال شاعر
يا طالب العيش في أمن و في دعة
محضا بلا كدر صفوا بلا رنق
خلص فؤادك من غل و من حسد
فالغل في القلب مثل الغل في العنق
و من كلام عبد الله بن المعتز إذا زال المحسود عليه علمت أن الحاسد كان يحسد على غير شي ء . و من كلامه الحاسد مغتاظ على من لا ذنب له بخيل بما لا يملكه . و من كلامه لا راحة لحاسد و لا حياة لحريص . و من كلامه الميت يقل الحسد له و يكثر الكذب عليه و من كلامه ما ذل قوم حتى ضعفوا و ما ضعفوا حتى تفرقوا و ما تفرقوا حتى اختلفوا و ما اختلفوا حتى تباغضوا و ما تباغضوا حتى تحاسدوا و ما تحاسدوا حتى استأثر بعضهم على بعض . و قال الشاعر
إن يحسدوني فإني غير لائمهم
قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا
فدام لي و لهم ما بي و ما بهم
و مات أكثرنا غيظا بما يجد
[ 319 ]

(61/2)

و من كلامهم ما خلا جسد عن حسد . و حد الحسد هو أن تغتاظ مما رزقه غيرك و تود أنه زال عنه و صار إليك و الغبطة ألا تغتاظ و لا تود زواله عنه و إنما تود أن ترزق مثله و ليست الغبطة بمذمومة . و قال الشاعر
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه
فالكل أعداء له و خصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها
حسدا و بغيا إنه لدميم

(61/3)

فصل في مدح الصبر و انتظار الفرج
و اعلم أنه ع بعد أن نهى عن الحسد أمر بالصبر و انتظار الفرج من الله إما بموت مريح أو بظفر بالمطلوب . و الصبر من المقامات الشريفة و قد وردت فيه آثار كثيرة
روى عبد الله بن مسعود عن النبي ص أن الصبر نصف الإيمان و اليقين الإيمان كله و قالت عائشة لو كان الصبر رجلا لكان كريما .
و قال علي ع الصبر إما صبر على المصيبة أو على الطاعة أو عن المعصية و هذا القسم الثالث أعلى درجة من القسمين الأولين
و عنه ع الحياء زينة و التقوى كرم و خير المراكب مركب الصبر
و عنه ع القناعة سيف لا ينبو و الصبر مطية لا تكبو و أفضل العدة الصبر على الشدة
قال الحسن ع جربنا و جرب المجربون فلم نر شيئا أنفع وجدانا و لا أضر فقدانا من الصبر تداوى به الأمور و لا يداوى هو بغيره .
[ 320 ]
و قال سعيد بن حميد الكاتب
لا تعتبن على النوائب
فالدهر يرغم كل عاتب
و اصبر على حدثانه
إن الأمور لها عواقب
كم نعمة مطوية
لك بين أثناء النوائب
و مسرة قد أقبلت
من حيث تنتظر المصائب
و من كلامهم الصبر مر لا يتجرعه إلا حر . قال أعرابي كن حلو الصبر عند مرارة النازلة . و قال كسرى لبزرجمهر ما علامة الظفر بالأمور المطلوبة المستصعبة قال ملازمة الطلب و المحافظة على الصبر و كتمان السر . و قال الأحنف بن قيس لست حليما إنما أنا صبور فأفادني الصبر صفتي بالحلم .
و سئل علي ع أي شي ء أقرب إلى الكفر قال ذو فاقة لا صبر له
و من كلامه ع الصبر يناضل الحدثان و الجزع من أعوان الزمان و قال أعشى همدان
إن نلت لم أفرح بشي ء نلته
و إذا سبقت به فلا أتلهف
و متى تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر فكل غيابة تتكشف

(62/1)

و الأمر يذكر بالأمر و هذا البيت هو الذي قاله له الحجاج يوم قتله ذكر ذلك أبو بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري في الأمالي قال لما أتي الحجاج بأعشى همدان أسيرا و قد كان خرج مع ابن الأشعث قال له يا ابن اللخناء أنت القائل لعدو الرحمن يعني عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث .
[ 321 ]
يا ابن الأشج قريع كندة
لا أبالي فيك عتبا
أنت الرئيس ابن الرئيس
و أنت أعلى الناس كعبا
نبئت حجاج بن يوسف
خر من زلق فتبا
فانهض هديت لعله
يجلو بك الرحمن كربا
و ابعث عطية في الحروب
يكبهن عليه كبا
ثم قال عبد الرحمن خر من زلق فتب و خسر و انكب و ما لقي ما أحب و رفع بها صوته و اهتز منكباه و در ودجاه و احمرت عيناه و لم يبق في المجلس إلا من هابه فقال أيها الأمير و أنا القائل
أبى الله إلا أن يتمم نوره
و يطفئ نار الكافرين فتخمدا
و ينزل ذلا بالعراق و أهله
كما نقضوا العهد الوثيق المؤكدا
و ما لبث الحجاج أن سل سيفه
علينا فولى جمعنا و تبددا
فالتفت الحجاج إلى من حضر فقال ما تقولون قالوا لقد أحسن أيها الأمير و محا بآخر قوله أوله فليسعه حلمك فقال لاها الله إنه لم يرد ما ظننتم و إنما أراد تحريض أصحابه ثم قال له ويلك أ لست القائل
إن نلت لم أفرح بشي ء نلته
و إذا سبقت به فلا أتلهف
و متى تصبك من الحوادث نكبة
فاصبر فكل غيابة تتكشف
أما و الله لتظلمن عليك غيابة لا تنكشف أبدا أ لست القائل في عبد الرحمن
و إذا سألت المجد أين محله
فالمجد بين محمد و سعيد
[ 322 ]
بين الأشج و بين قيس نازل
بخ بخ لوالده و للمولود

(62/2)

و الله لا يبخبخ بعدها أبدا يا حرسي اضرب عنقه . و مما جاء في الصبر قيل للأحنف إنك شيخ ضعيف و إن الصيام يهدك فقال إني أعده لشر يوم طويل و إن الصبر على طاعة الله أهون من الصبر على عذاب الله . و من كلامه من لم يصبر على كلمة سمع كلمات رب غيظ قد تجرعته مخافة ما هو أشد منه . يونس بن عبيد لو أمرنا بالجزع لصبرنا . ابن السماك المصيبة واحدة فإن جزع صاحبها منها صارت اثنتين يعني فقد المصاب و فقد الثواب . الحارث بن أسد المحاسبي لكل شي ء جوهر و جوهر الإنسان العقل و جوهر العقل الصبر .
جابر بن عبد الله سئل رسول الله ص عن الإيمان فقال الصبر و السماحة . و قال العتابي
اصبر إذا بدهتك نائبة
ما عال منقطع إلى الصبر
الصبر أولى ما اعتصمت به
و لنعم حشو جوانح الصدر
و من كلام علي ع الصبر مفتاح الظفر و التوكل على الله رسول الفرج
و من كلامه ع انتظار الفرج بالصبر عبادة . أكثم بن صيفي الصبر على جرع الحمام أعذب من جنا الندم .
[ 323 ]
و من كلام بعض الزهاد و اصبر على عمل لا غناء بك عن ثوابه و اصبر عن عمل لا صبر على عقابك به . و كتب ابن العميد أقرأ في الصبر سورا و لا أقرأ في الجزع آية و أحفظ في التماسك و التجلد قصائد و لا أحفظ في التهافت قافية . و قال الشاعر
و يوم كيوم البعث ما فيه حاكم
و لا عاصم إلا قنا و دروع
حبست به نفسي على موقف الردى
حفاظا و أطراف الرماح شروع
و ما يستوي عند الملمات إن عرت
صبور على مكروهها و جزوع
أبو حية النميري
إني رأيت و في الأيام تجربة
للصبر عاقبة محمودة الأثر
و قل من جد في أمر يحاوله
و استصحب الصبر إلا فاز بالظفر
و وصف الحسن البصري عليا ع فقال كان لا يجهل و إن جهل عليه حلم و لا يظلم و إن ظلم غفر و لا يبخل و إن بخلت الدنيا عليه صبر . عبد العزيز بن زرارة الكلابي
قد عشت في الدهر أطوارا على طرق
شتى فقاسيت منه الحلو و البشعا
كلا بلوت فلا النعماء تبطرني
و لا تخشعت من لأوائها جزعا

(62/3)

لا يملأ الأمر صدري قبل موقعه
و لا يضيق به صدري إذا وقعا
و من كلام بعضهم من تبصر تصبر الصبر يفسح الفرج و يفتح المرتتج المحنة إذا تلقيت بالرضا و الصبر كانت نعمة دائمة و النعمة إذا خلت من الشكر كانت محنة لازمة .
[ 324 ]
قيل لأبي مسلم صاحب الدولة بم أصبت ما أصبت قال ارتديت بالصبر و اتزرت بالكتمان و حالفت الحزم و خالفت الهوى و لم أجعل العدو صديقا و لا الصديق عدوا . منصور النمري في الرشيد
و ليس لأعباء الأمور إذا عرت
بمكترث لكن لهن صبور
يرى ساكن الأطراف باسط وجهه
يريك الهوينى و الأمور تطير
من كلام أمير المؤمنين ع أوصيكم بخمس لو ضربتم إليهن آباط الإبل كانت لذلك أهلا لا يرجون أحدكم إلا ربه و لا يخافن إلا ذنبه و لا يستحين إذا سئل عما لا يعلم أن يقول لا أعلم و لا يستحيي إذا جهل أمرا أن يتعلمه و عليكم بالصبر فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد فكما لا خير في جسد لا رأس له لا خير في إيمان لا صبر معه
و عنه ع لا يعدم الصبور الظفر و إن طال به الزمان . نهشل بن حري
و يوم كأن المصطلين بحرة
و إن لم يكن جمرا قيام على جمر
صبرنا له حتى تجلى و إنما
تفرج أيام الكريهة بالصبر
علي ع اطرح عنك واردات الهموم بعزائم الصبر و حسن اليقين
و عنه ع و إن كنت جازعا على ما تفلت من يديك فاجزع على كل ما لم يصل إليك
و في كتابه ع الذي كتبه إلى عقيل أخيه و لا تحسبن ابن أمك و لو أسلمه الناس متضرعا متخشعا و لا مقرا للضيم واهنا و لا سلس الزمام للقائد و لا وطي ء الظهر للراكب و لكنه كما قال أخو بني سليم
[ 325 ]
فإن تسأليني كيف أنت فإنني
صبور على ريب الزمان صليب
يعز علي أن ترى بي كآبة
فيشمت عاد أو يساء حبيب

(62/4)

فصل في الرياء و النهي عنه
و اعلم أنه ع بعد أن أمرنا بالصبر نهى عن الرياء في العمل و الرياء في العمل منهي عنه بل العمل ذو الرياء ليس بعمل على الحقيقة لأنه لم يقصد به وجه الله تعالى و أصحابنا المتكلمون يقولون ينبغي أن يعمل المكلف الواجب لأنه واجب و يجتنب القبيح لأنه قبيح و لا يفعل الطاعة و يترك المعصية رغبة في الثواب و خوفا من العقاب فإن ذلك يخرج عمله من أن يكون طريقا إلى الثواب و شبهوه بالاعتذار في الشي ء فإن من يعتذر إليك من ذنب خوفا أن تعاقبه على ذلك الذنب لا ندما على القبيح الذي سبق منه لا يكون عذره مقبولا و لا ذنبه عندك مغفورا و هذا مقام جليل لا يصل إليه إلا الأفراد من ألوف الألوف . و قد جاء في الآثار من النهي عن الرياء و السمعة كثير
روي عن النبي ص أنه قال يؤتى في يوم القيامة بالرجل قد عمل أعمال الخير كالجبال أو قال كجبال تهامة و له خطيئة واحدة فيقال إنما عملتها ليقال عنك فقد قيل و ذاك ثوابك و هذه خطيئتك أدخلوه بها إلى جهنم
و قال ع ليست الصلاة قيامك و قعودك إنما الصلاة إخلاصك و أن تريد بها الله وحده و قال حبيب الفارسي لو أن الله تعالى أقامني يوم القيامة و قال هل تعد سجدة سجدت ليس للشيطان فيها نصيب لم أقدر على ذلك .
[ 326 ]
توصل عبد الله بن الزبير إلى امرأة عبد الله بن عمر و هي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي في أن تكلم بعلها عبد الله بن عمر أن يبايعه فكلمته في ذلك و ذكرت صلاته و قيامه و صيامه فقال لها أ ما رأيت البغلات الشهب التي كنا نراها تحت معاوية بالحجر إذا قدم مكة قالت بلى قال فإياها يطلب ابن الزبير بصومه و صلاته .
و في الخبر المرفوع أن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء في العمل ألا و إن الرياء في العمل هو الشرك الخفي
صلى و صام لأمر كان يطلبه
حتى حواه فلا صلى و لا صاما

(63/1)

فصل في الاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة
ثم إنه ع بعد نهيه عن الرياء و طلب السمعة أمر بالاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة فإن الإنسان لا يستغني عنهم و إن كان ذا مال و قد قالت الشعراء في هذا المعنى كثيرا فمن ذلك قول بعض شعراء الحماسة
إذا المرء لم يغضب له حين يغضب
فوارس إن قيل اركبوا الموت يركبوا
و لم يحبه بالنصر قوم أعزة
مقاحيم في الأمر الذي يتهيب
تهضمه أدنى العداة فلم يزل
و إن كان عضا بالظلامة يضرب
فآخ لحال السلم من شئت و اعلمن
بأن سوى مولاك في الحرب أجنب
و مولاك مولاك الذي إن دعوته
أجابك طوعا و الدماء تصبب
فلا تخذل المولى و إن كان ظالما
فإن به تثأى الأمور و ترأب
[ 327 ]
و من شعر الحماسة أيضا
أفيقوا بني حزن و أهواؤنا معا
و أرحامنا موصولة لم تقضب
لعمري لرهط المرء خير بقية
عليه و إن عالوا به كل مركب
إذا كنت في قوم و أمك منهم
لتعزى إليهم في خبيث و طيب
و إن حدثتك النفس أنك قادر
على ما حوت أيدي الرجال فكذب
و من شعر الحماسة أيضا
لعمرك ما أنصفتني حين سمتني
هواك مع المولى و أن لا هوى ليا
إذا ظلم المولى فزعت لظلمه
فحرق أحشائي و هرت كلابيا
و من شعر الحماسة أيضا
و ما كنت أبغي العم يمشي على شفا
و إن بلغتني من أذاه الجنادع
و لكن أواسيه و أنسى ذنوبه
لترجعه يوما إلي الرواجع
و حسبك من ذل و سوء صنيعة
مناواة ذي القربى و أن قيل قاطع
و من شعر الحماسة أيضا
ألا هل أتى الأنصار أن ابن بحدل
حميدا شفى كلبا فقرت عيونها
فإنا و كلبا كاليدين متى تقع
شمالك في الهيجا تعنها يمينها
[ 328 ]
و من شعر الحماسة أيضا
أخوك أخوك من ينأى و تدنو
مودته و إن دعي استجابا
إذا حاربت حارب من تعادي
و زاد غناؤه منك اقترابا
يواسي في كريهته و يدنو
إذا ما مضلع الحدثان نابا

(64/1)

فصل في حسن الثناء و طيب الأحدوثة
ثم إنه ع ذكر أن لسان الصدق يجعله الله للمرء في الناس خيرا له من المال يورثه غيره و لسان الصدق هو أن يذكر الإنسان بالخير و يثنى عليه به قال سبحانه وَ اِجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي اَلْآخِرِينَ . و قد ورد في هذا المعنى من النثر و النظم الكثير الواسع فمن ذلك قول عمر لابنة هرم ما الذي أعطى أبوك زهيرا قالت أعطاه مالا يفنى و ثيابا تبلى قال لكن ما أعطاكم زهير لا يبليه الدهر و لا يفنيه الزمان . و من شعر الحماسة أيضا
إذا أنت أعطيت الغنى ثم لم تجد
بفضل الغنى ألفيت ما لك حامد
و قل غناء عنك مال جمعته
إذا كان ميراثا و واراك لاحد
و قال يزيد بن المهلب المال و الحياة أحب شي ء إلى الإنسان و الثناء الحسن أحب إلي منهما و لو أني أعطيت ما لم يعطه أحد لأحببت أن يكون لي أذن أسمع بها ما يقال في غدا و قد مت كريما . و حكى أبو عثمان الجاحظ عن إبراهيم السندي قال قلت في أيام ولايتي الكوفة
[ 329 ]
لرجل من وجوهها كان لا يجف لبده و لا يستريح قلمه و لا تسكن حركته في طلب حوائج الناس و إدخال السرور على قلوبهم و الرفق على ضعفائهم و كان عفيف الطعمة خبرني عما هون عليك النصب و قواك على التعب فقال قد و الله سمعت غناء الأطيار بالأسحار على أغصان الأشجار و سمعت خفق الأوتار و تجاوب العود و المزمار فما طربت من صوت قط طربي من ثناء حسن على رجل محسن فقلت لله أبوك فلقد ملئت كرما . و قال حاتم
أماوي إن يصبح صداي بقفرة
من الأرض لا ماء لدي و لا خمر
ترى أن ما أنفقت لم يك ضرني
و أن يدي مما بخلت به صفر
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى
إذا حشرجت يوما و ضاق بها الصدر
بعض المحدثين
من اشترى بماله
حسن الثناء غبنا
أفقره سماحه
و ذلك الفقر الغنى
و من أمثال الفرس كل ما يؤكل ينتن و كل ما يوهب يأرج . و قال أبو الطيب
ذكر الفتى عمره الثاني و حاجته
ما قاته و فضول العيش أشغال

(65/1)

فصل في مواساة الأهل و صلة الرحم
ثم إنه ع بعد أن قرظ الثناء و الذكر الجميل و فضله على المال أمر بمواساة
[ 330 ]
الأهل و صلة الرحم و إن قل ما يواسى به فقال ألا لا يعدلن أحدكم عن القرابة إلى آخر الفصل و قد قال الناس في هذا المعنى فأكثروا فمن ذلك قول زهير
و من يك ذا فضل فيبخل بفضله
على قومه يستغن عنه و يذمم
و قال عثمان إن عمر كان يمنع أقرباءه ابتغاء وجه الله و أنا أعطيتهم ابتغاء وجه الله و لن تروا مثل عمر .
أبو هريرة مرفوعا الرحم مشتقة من الرحمن و الرحمن اسم من أسماء الله العظمى قال الله لها من وصلك وصلته و من قطعك قطعته
و في الحديث المشهور صلة الرحم تزيد في العمر . و قال طرفة يهجو إنسانا بأنه يصل الأباعد و يقطع الأقارب
و أنت على الأدنى شمال عرية
شآمية تزوي الوجوه بليل
و أنت على الأقصى صبا غير قرة
تذاءب منها مزرع و مسيل
و من شعر الحماسة
لهم جل مالي إن تتابع لي غنى
و إن قل مالي لا أكلفهم رفدا
و لا أحمل الحقد القديم عليهم
و ليس رئيس القوم من يحمل الحقدا
[ 331 ]

(66/1)

24 ـ و من خطبة له ع
وَ لَعَمْرِي مَا عَلَيَّ مِنْ قِتَالِ مَنْ خَالَفَ اَلْحَقَّ وَ خَابَطَ اَلْغَيَّ مِنْ إِدْهَانٍ وَ لاَ إِيهَانٍ فَاتَّقُوا اَللَّهَ عِبَادَ اَللَّهِ وَ فِرُّوا إِلَى اَللَّهِ مِنَ اَللَّهِ وَ اِمْضُوا فِي اَلَّذِي نَهَجَهُ لَكُمْ وَ قُومُوا بِمَا عَصَبَهُ بِكُمْ فَعَلِيٌّ ضَامِنٌ لِفَلْجِكُمْ آجِلاً إِنْ لَمْ تُمْنَحُوهُ عَاجِلاً الإدهان المصانعة و المنافقة قال سبحانه وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ . و الإيهان مصدر أوهنته أي أضعفته و يجوز وهنته بحذف الهمزة و نهجه أوضحه و جعله نهجا أي طريقا بينا و عصبه بكم ناطه بكم و جعله كالعصابة التي تشد بها الرأس و الفلج الفوز و الظفر . و قوله و خابط الغي كأنه جعله و الغي متخابطين يخبط أحدهما في الآخر و ذلك أشد مبالغة من أن تقول خبط في الغي لأن من يخبط و يخبطه غيره يكون أشد اضطرابا ممن يخبط و لا يخبطه غيره و قوله و فروا إلى الله من الله أي اهربوا إلى رحمة الله من عذابه و قد نظر الفرزدق إلى هذا فقال
إليك فررت منك و من زياد
و لم أحسب دمي لكم حلالا
[ 332 ]

(67/1)

25 ـ و من خطبة له ع و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد
و قدم عليه عاملاه على اليمن و هما عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران لما غلب عليهما بسر بن أرطاة فقام ع على المنبر ضجرا بتثاقل أصحابه عن الجهاد و مخالفتهم له في الرأي فقال مَا هِيَ إِلاَّ اَلْكُوفَةُ أَقْبِضُهَا وَ أَبْسُطُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ تَكُونِي إِلاَّ أَنْتِ تَهُبُّ أَعَاصِيرُكِ فَقَبَّحَكِ اَللَّهُ وَ تَمَثَّلَ بِقَوْلِ اَلشَّاعِرِ
لَعَمْرُ أَبِيكَ اَلْخَيْرِ يَا عَمْرُو إِنَّنِي
عَلَى وَضَرٍ مِنْ ذَا اَلْإِنَاءِ قَلِيلِ
ثُمَّ قَالَ ع أُنْبِئْتُ بُسْراً قَدِ اِطَّلَعَ اَلْيَمَنَ وَ إِنِّي وَ اَللَّهِ لَأَظُنُّ أَنَّ هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمَ سَيُدَالُونَ مِنْكُمْ بِاجْتِمَاعِهِمْ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ وَ بِمَعْصِيَتِكُمْ إِمَامَكُمْ فِي اَلْحَقِّ وَ طَاعَتِهِمْ إِمَامَهُمْ فِي اَلْبَاطِلِ وَ بِأَدَائِهِمُ اَلْأَمَانَةَ إِلَى صَاحِبِهِمْ وَ خِيَانَتِكُمْ وَ بِصَلاَحِهِمْ فِي بِلاَدِهِمْ وَ فَسَادِكُمْ فَلَوِ اِئْتَمَنْتُ أَحَدَكُمْ عَلَى قَعْبٍ لَخَشِيتُ أَنْ يَذْهَبَ بِعِلاَقَتِهِ اَللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ مَلِلْتُهُمْ وَ مَلُّونِي وَ سَئِمْتُهُمْ وَ سَئِمُونِي فَأَبْدِلْنِي بِهِمْ خَيْراً مِنْهُمْ
[ 333 ]
وَ أَبْدِلْهُمْ بِي شَرّاً مِنِّي اَللَّهُمَّ مِثْ قُلُوبَهُمْ كَمَا يُمَاثُ اَلْمِلْحُ فِي اَلْمَاءِ أَمَا وَ اَللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنَّ لِي بِكُمْ أَلْفَ فَارِسٍ مِنْ بَنِي فِرَاسِ بْنِ غَنْمٍ
هُنَالِكَ لَوْ دَعَوْتَ أَتَاكَ مِنْهُمْ
فَوَارِسُ مِثْلُ أَرْمِيَةِ اَلْحَمِيمِ

(68/1)

ثُمَّ نَزَلَ ع مِنَ اَلْمِنْبَرِ قال الرضي رحمه الله أقول الأرمية جمع رمي و هو السحاب و الحميم هاهنا وقت الصيف و إنما خص الشاعر سحاب الصيف بالذكر لأنه أشد جفولا و أسرع خفوقا لأنه لا ماء فيه و إنما يكون السحاب ثقيل السير لامتلائه بالماء و ذلك لا يكون في الأكثر إلا زمان الشتاء و إنما أراد الشاعر وصفهم بالسرعة إذا دعوا و الإغاثة إذا استغيثوا و الدليل على ذلك قوله
هنالك لو دعوت أتاك منهم
تواترات عليه الأخبار مثل ترادفت و تواصلت الناس من يطعن في هذا و يقول التواتر لا يكون إلا مع فترات بين أوقات الإتيان و منه قوله سبحانه ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا ليس المراد أنهم مترادفون بل بين كل نبيين فترة قالوا و أصل تترى من الواو و اشتقاقها من الوتر و هو الفرد و عدوا هذا الموضع مما تغلط فيه الخاصة .
[ 334 ]

(68/2)

نسب معاوية بن أبي سفيان و ذكر بعض أخباره
و معاوية هو أبو عبد الرحمن معاوية بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي . و أمه هند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي و هي أم أخيه عتبة بن أبي سفيان فأما يزيد بن أبي سفيان و محمد بن أبي سفيان و عنبسة بن أبي سفيان و حنظلة بن أبي سفيان و عمرو بن أبي سفيان فمن أمهات شتى . و أبو سفيان هو الذي قاد قريشا في حروبها إلى النبي ص و هو رئيس بني عبد شمس بعد قتل عتبة بن ربيعة ببدر ذاك صاحب العير و هذا صاحب النفير و بهما يضرب المثل فيقال للخامل لا في العير و لا في النفير . و روى الزبير بن بكار أن عبد الله بن يزيد بن معاوية جاء إلى أخيه خالد بن يزيد في أيام عبد الملك فقال لقد هممت اليوم يا أخي أن أفتك بالوليد بن عبد الملك قال بئسما هممت به في ابن أمير المؤمنين و ولي عهد المسلمين فما ذاك قال إن خيلي مرت به فعبث بها و أصغرني فقال خالد أنا أكفيك فدخل على عبد الملك و الوليد عنده فقال يا أمير المؤمنين إن الوليد مرت به خيل ابن عمه عبد الله فعبث بها و أصغره و كان عبد الملك مطرقا فرفع رأسه و قال إِنَّ اَلْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ فقال خالد وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا اَلْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فقال عبد الملك أ في عبد الله تكلمني و الله لقد دخل أمس علي فما أقام لسانه لحنا قال
[ 335 ]

(69/1)

خالد أ فعلى الوليد تعول يا أمير المؤمنين قال عبد الملك إن كان الوليد يلحن فإن أخاه سليمان لا فقال خالد و إن كان عبد الله يلحن فإن أخاه خالدا لا فالتفت الوليد إلى خالد و قال له اسكت ويحك فو الله ما تعد في العير و لا في النفير فقال اسمع يا أمير المؤمنين ثم التفت إلى الوليد فقال له ويحك فمن صاحب العير و النفير غير جدي أبي سفيان صاحب العير و جدي عتبة صاحب النفير و لكن لو قلت غنيمات و حبيلات و الطائف و رحم الله عثمان لقلنا صدقت . و هذا من الكلام المستحسن و الألفاظ الفصيحة و الجوابات المسكتة و إنما كان أبو سفيان صاحب العير لأنه هو الذي قدم بالعير التي رام رسول الله ص و أصحابه أن يعترضوها و كانت قادمة من الشام إلى مكة تحمل العطر و البر فنذر بهم أبو سفيان فضرب وجوه العير إلى البحر فساحل بها حتى أنقذها منهم و كانت وقعة بدر العظمى لأجلها لأن قريشا أتاهم النذير بحالها و بخروج النبي ص بأصحابه من المدينة في طلبها لينفروا و كان رئيس الجيش النافر لحمايتها عتبة بن ربيعة بن شمس جد معاوية لأمه . و أما غنيمات و حبيلات إلى آخر الكلام فإن رسول الله ص لما طرد الحكم بن أبي العاص إلى الطائف لأمور نقمها عليه أقام بالطائف في حبلة ابتاعها و هي الكرمة و كان يرعى غنيمات اتخذها يشرب من لبنها فلما ولي أبو بكر شفع إليه عثمان في أن يرده فلم يفعل فلما ولي عمر شفع إليه أيضا فلم يفعل فلما ولي هو الأمر رده و الحكم جد عبد الملك فعيرهم خالد بن يزيد به . و بنو أمية صنفان الأعياص و العنابس فالأعياص العاص و أبو العاص
[ 336 ]

(69/2)

و العيص و أبو العيص و العنابس حرب و أبو حرب و سفيان و أبو سفيان فبنو مروان و عثمان من الأعياص و معاوية و ابنة من العنابس و لكل واحد من الصنفين المذكورين و شيعتهم كلام طويل و اختلاف شديد في تفضيل بعضهم على بعض . و كانت هند تذكر في مكة بفجور و عهر . و قال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار كان معاوية يعزى إلى أربعة إلى مسافر بن أبي عمرو و إلى عمارة بن الوليد بن المغيرة و إلى العباس بن عبد المطلب و إلى الصباح مغن كان لعمارة بن الوليد قال و قد كان أبو سفيان دميما قصيرا و كان الصباح عسيفا لأبي سفيان شابا وسيما فدعته هند إلى نفسها فغشيها . و قالوا إن عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضا و قالوا إنها كرهت أن تدعه في منزلها فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك و في هذا المعنى يقول حسان أيام المهاجاة بين المسلمين و المشركين في حياة رسول الله ص قبل عام الفتح
لمن الصبي بجانب البطحا
في الترب ملقى غير ذي مهد
نجلت به بيضاء آنسة
من عبد شمس صلتة الخد
و الذين نزهوا هندا عن هذا القذف رووا غير هذا فروى أبو عبيدة معمر بن المثنى أن هندا كانت تحت الفاكه بن المغيرة المخزومي و كان له بيت ضيافة يغشاه الناس فيدخلونه من غير إذن فخلا ذلك البيت يوما فاضطجع فيه الفاكه و هند ثم قام الفاكه و ترك هندا في البيت لأمر عرض له ثم عاد إلى البيت فإذا رجل قد خرج من البيت فأقبل إلى هند فركلها برجله و قال من الذي كان عندك فقالت لم يكن عندي
[ 337 ]

(69/3)

أحد و إنما كنت نائمة فقال الحقي بأهلك فقامت من فورها إلى أهلها فتكلم الناس في ذلك فقال لها عتبة أبوها يا بنية إن الناس قد أكثروا في أمرك فأخبريني بقصتك على الصحة فإن كان لك ذنب دسست إلى الفاكه من يقتله فتنقطع عنك القالة فحلفت أنها لا تعرف لنفسها جرما و إنه لكاذب عليها فقال عتبة للفاكه إنك قد رميت ابنتي بأمر عظيم فهل لك أن تحاكمني إلى بعض الكهنة فخرج الفاكه في جماعة من بني مخزوم و خرج عتبة في جماعة من بني عبد مناف و أخرج معه هندا و نسوة معها فلما شارفوا بلاد الكاهن تغيرت حال هند و تنكر أمرها و اختطف لونها فرأى ذلك أبوها فقال لها إني أرى ما بك و ما ذاك إلا لمكروه عندك فهلا كان هذا قبل أن يشتهر عند الناس مسيرنا قالت يا أبت إن الذي رأيت مني ليس لمكروه عندي و لكني أعلم أنكم تأتون بشرا يخطئ و يصيب و لا آمن أن يسمني ميسما يكون علي عارا عند نساء مكة قال لها فإني سأمتحنه قبل المسألة بأمر ثم صفر بفرس له فأدلى ثم أخذ حبة بر فأدخلها في إحليله و شده بسير و تركه حتى إذا وردوا على الكاهن أكرمهم و نحر لهم فقال عتبة إنا قد جئناك لأمر و قد خبأت لك خبيئا أختبرك به فانظر ما هو فقال ثمرة في كمرة فقال أبين من هذا قال حبة بر في إحليل مهر قال صدقت انظر الآن في أمر هؤلاء النسوة فجعل يدنو من واحدة واحدة منهن و يقول انهضي حتى صار إلى هند فضرب على كتفها و قال انهضي غير رقحاء و لا زانية و لتلدن ملكا يقال له معاوية فوثب إليها الفاكه فأخذها بيده و قال قومي إلى بيتك فجذبت يدها من يده و قالت إليك عني فو الله لا كان منك و لا كان إلا من غيرك فتزوجها أبو سفيان بن حرب . الرقحاء البغي التي تكتسب بالفجور و الرقاحة التجارة .
[ 338 ]

(69/4)

و ولي معاوية اثنتين و أربعين سنة منها اثنتان و عشرون سنة ولي فيها إمارة الشام منذ مات أخوه يزيد بن أبي سفيان بعد خمس سنين من خلافة عمر إلى أن قتل أمير المؤمنين علي ع في سنة أربعين و منها عشرون سنة خليفة إلى أن مات في سنة ستين . و مر به إنسان و هو غلام يلعب مع الغلمان فقال إني أظن هذا الغلام سيسود قومه فقالت هند ثكلته إن كان لا يسود إلا قومه . و لم يزل معاوية ذا همة عالية يطلب معالي الأمور و يرشح نفسه للرئاسة و كان أحد كتاب رسول الله ص و اختلف في كتابته له كيف كانت فالذي عليه المحققون من أهل السيرة أن الوحي كان يكتبه علي ع و زيد بن ثابت و زيد بن أرقم و أن حنظلة بن الربيع التيمي و معاوية بن أبي سفيان كانا يكتبان له إلى الملوك و إلى رؤساء القبائل و يكتبان حوائجه بين يديه و يكتبان ما يجبى من أموال الصدقات و ما يقسم في أربابها . و كان معاوية على أس الدهر مبغضا لعلي ع شديد الانحراف عنه و كيف لا يبغضه و قد قتل أخاه حنظلة يوم بدر و خاله الوليد بن عتبة و شرك عمه في جده و هو عتبة أو في عمه و هو شيبة على اختلاف الرواية و قتل من بني عمه عبد شمس نفرا كثيرا من أعيانهم و أماثلهم ثم جاءت الطامة الكبرى واقعة عثمان فنسبها كلها إليه بشبهة إمساكه عنه و انضواء كثير من قتلته إليه ع فتأكدت البغضة و ثارت الأحقاد و تذكرت تلك الترات الأولى حتى أفضى الأمر إلى ما أفضى إليه . و قد كان معاوية مع عظم قدر علي ع في النفوس و اعتراف العرب بشجاعته و أنه البطل الذي لا يقام له يتهدده و عثمان بعد حي بالحرب و المنابذة و يراسله من الشام رسائل خشنة حتى قال له في وجهه ما رواه أبو هلال العسكري في كتاب الأوائل قال
[ 339 ]

(69/5)

قدم معاوية المدينة قدمة أيام عثمان في أواخر خلافته فجلس عثمان يوما للناس فاعتذر من أمور نقمت عليه فقال إن رسول الله ص قبل توبة الكافر و إني رددت الحكم عمي لأنه تاب فقبلت توبته و لو كان بينه و بين أبي بكر و عمر من الرحم ما بيني و بينه لآوياه فأما ما نقمتم علي أني أعطيت من مال الله فإن الأمر إلي أحكم في هذا المال بما أراه صلاحا للأمة و إلا فلما ذا كنت خليفة فقطع عليه الكلام معاوية و قال للمسلمين الحاضرين عنده أيها المهاجرون قد علمتم أنه ليس منكم رجل إلا و قد كان قبل الإسلام مغمورا في قومه تقطع الأمور من دونه حتى بعث الله رسوله فسبقتم إليه و أبطأ عنه أهل الشرف و الرئاسة فسدتم بالسبق لا بغيره حتى إنه ليقال اليوم رهط فلان و آل فلان و لم يكونوا قبل شيئا مذكورا و سيدوم لكم هذا الأمر ما استقمتم فإن تركتم شيخنا هذا يموت على فراشه و إلا خرج منكم و لا ينفعكم سبقكم و هجرتكم . فقال له علي ع ما أنت و هذا يا ابن اللخناء فقال معاوية مهلا يا أبا الحسن عن ذكر أمي فما كانت بأخس نسائكم و لقد صافحها رسول الله ص يوم أسلمت و لم يصافح امرأة غيرها أما لو قالها غيرك فنهض علي ع ليخرج مغضبا فقال عثمان اجلس فقال له لا أجلس فقال عزمت عليك لتجلسن فأبى و ولى فأخذ عثمان طرف ردائه فترك الرداء في يده و خرج فأتبعه عثمان بصره فقال و الله لا تصل إليك و لا إلى أحد من ولدك . قال أسامة بن زيد كنت حاضرا هذا المجلس فعجبت في نفسي من تألي عثمان فذكرته لسعد بن أبي وقاص فقال لا تعجب فإني
سمعت رسول الله ص يقول لا ينالها علي و لا ولده . قال أسامة فإني في الغد لفي المسجد و علي و طلحة و الزبير و جماعة من المهاجرين جلوس إذ جاء معاوية فتآمروا بينهم ألا يوسعوا له فجاء حتى جلس بين أيديهم
[ 340 ]

(69/6)

فقال أ تدرون لما ذا جئت قالوا لا قال إني أقسم بالله إن لم تتركوا شيخكم يموت على فراشه لا أعطيكم إلا هذا السيف ثم قام فخرج . فقال علي ع لقد كنت أحسب أن عند هذا شيئا فقال له طلحة و أي شي ء يكون عنده أعظم مما قال قاتله الله لقد رمى الغرض فأصاب و الله ما سمعت يا أبا الحسن كلمة هي أملأ لصدرك منها . و معاوية مطعون في دينه عند شيوخنا رحمهم الله يرمى بالزندقة و قد ذكرنا في نقض السفيانية على شيخنا أبي عثمان الجاحظ ما رواه أصحابنا في كتبهم الكلامية عنه من الإلحاد و التعرض لرسول الله ص و ما تظاهر به من الجبر و الإرجاء و لو لم يكن شي ء من ذلك لكان في محاربته الإمام ما يكفي في فساد حاله لا سيما على قواعد أصحابنا و كونهم بالكبيرة الواحدة يقطعون على المصير إلى النار و الخلود فيها إن لم تكفرها التوبة

(69/7)

بسر بن أرطاة و نسبه
و أما بسر بن أرطاة فهو بسر بن أرطاة و قيل ابن أبي أرطاة بن عويمر بن عمران بن الحليس بن سيار بن نزار بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة . بعثه معاوية إلى اليمن في جيش كثيف و أمره أن يقتل كل من كان في طاعة علي ع فقتل خلقا كثيرا و قتل فيمن قتل ابني عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب و كانا غلامين صغيرين فقالت أمهما ترثيهما
يا من أحس بنيي اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
في أبيات مشهورة
[ 341 ]

(70/1)

عبيد الله بن العباس و بعض أخباره
و كان عبيد الله عامل علي ع على اليمن و هو عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي أمه و أم إخوته عبد الله و قثم و معبد و عبد الرحمن لبابة بنت الحارث بن حزن من بني عامر بن صعصعة و مات عبيد الله بالمدينة و كان جوادا و أعقب و من أولاده قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس ولاه أبو جعفر المنصور المدينة و كان جوادا ممدوحا و له يقول ابن المولى
أعفيت من كور و من رحلة
يا ناق إن أدنيتني من قثم
في وجهه نور و في باعه
طول و في العرنين منه شمم
و يقال ما رئي قبور إخوة أكثر تباعدا من قبور بني العباس رحمه الله تعالى قبر عبد الله بالطائف و قبر عبيد الله بالمدينة و قبر قثم بسمرقند و قبر عبد الرحمن بالشام و قبر معبد بإفريقية . ثم نعود إلى شرح الخطبة الأعاصير جمع إعصار و هي الريح المستديرة على نفسها قال الله تعالى فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ . و الوضر بقية الدسم في الإناء و قد اطلع اليمن أي غشيها و غزاها و أغار عليها . و قوله سيدالون منكم أي يغلبونكم و تكون لهم الدولة عليكم و ماث زيد الملح في الماء أذابه . و بنو فراس بن غنم بن ثعلبة بن مالك بن كنانة حي مشهور بالشجاعة منهم
[ 342 ]

(71/1)

علقمة بن فراس و هو جذل الطعان و منهم ربيعة بن مكدم بن حرثان بن جذيمة بن علقمة بن فراس الشجاع المشهور حامى الظعن حيا و ميتا و لم يحم الحريم و هو ميت أحد غيره عرض له فرسان من بني سليم و معه ظعائن من أهله يحميهم وحده فطاعنهم فرماه نبيشة بن حبيب بسهم أصاب قلبه فنصب رمحه في الأرض و اعتمد عليه و هو ثابت في سرجه لم يزل و لم يمل و أشار إلى الظعائن بالرواح فسرن حتى بلغن بيوت الحي و بنو سليم قيام إزاءه لا يقدمون عليه و يظنونه حيا حتى قال قائل منهم إني لا أراه إلا ميتا و لو كان حيا لتحرك إنه و الله لماثل راتب على هيئة واحدة لا يرفع يده و لا يحرك رأسه فلم يقدم أحد منهم على الدنو منه حتى رموا فرسه بسهم فشب من تحته فوقع و هو ميت و فاتتهم الظعائن . و قال الشاعر
لا يبعدن ربيعة بن مكدم
و سقى الغوادي قبره بذنوب
نفرت قلوصي من حجارة حرة
بنيت على طلق اليدين و هوب
لا تنفري يا ناق منه فإنه
شريب خمر مسعر لحروب
لو لا السفار و بعد خرق مهمة
لتركتها تجثو على العرقوب
نعم الفتى أدى نبيشة بزه
يوم اللقاء نبيشة بن حبيب
و قوله ع ما هي إلا الكوفة أي ما ملكتي إلا الكوفة أقبضها و أبسطها أي أتصرف فيها كما يتصرف الإنسان في ثوبه يقبضه و يبسطه كما يريد . ثم قال على طريق صرف الخطاب فإن لم تكوني إلا أنت خرج من الغيبة إلى خطاب الحاضر كقوله تعالى اَلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ اَلْعالَمِينَ اَلرَّحْمنِ اَلرَّحِيمِ مالِكِ يَوْمِ اَلدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ يقول إن لم يكن لي من الدنيا ملك إلا ملك الكوفة ذات الفتن و الآراء المختلفة فأبعدها الله .
[ 343 ]
و شبه ما كان يحدث من أهلها من الاختلاف و الشقاق بالأعاصير لإثارتها التراب و إفسادها الأرض ثم ذكر علة إدالة أهل الشام من أهل العراق و هي اجتماع كلمتهم و طاعتهم لصاحبهم و أداؤهم الأمانة و إصلاحهم بلادهم

(71/2)

أهل العراق و خطب الحجاج فيهم
و قال أبو عثمان الجاحظ العلة في عصيان أهل العراق على الأمراء و طاعة أهل الشام أن أهل العراق أهل نظر و ذوو فطن ثاقبة و مع الفطنة و النظر يكون التنقيب و البحث و مع التنقيب و البحث يكون الطعن و القدح و الترجيح بين الرجال و التمييز بين الرؤساء و إظهار عيوب الأمراء و أهل الشام ذوو بلادة و تقليد و جمود على رأي واحد لا يرون النظر و لا يسألون عن مغيب الأحوال . و ما زال العراق موصوفا أهله بقلة الطاعة و بالشقاق على أولي الرئاسة . و من كلام الحجاج يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق و مساوئ الأخلاق أما و الله لألحونكم لحو العصا و لأعصبنكم عصب السلم و لأضربنكم ضرب غرائب الإبل إني أسمع لكم تكبيرا ليس بالتكبير الذي يراد به الترغيب و لكنه تكبير الترهيب ألا إنها عجاجة تحتها قصف يا بني اللكيعة و عبيد العصا و أبناء الإماء إنما مثلي و مثلكم كما قال ابن براقة
و كنت إذا قوم غزوني غزوتهم
فهل أنا في ذا يال همدان ظالم
[ 344 ]
متى تجمع القلب الذكي و صارما
و أنفا حميا تجتنبك المظالم

(72/1)

و الله لا تقرع عصا عصا إلا جعلتها كأمس الذاهب . و كانت هذه الخطبة عقيب سماعه تكبيرا منكرا في شوارع الكوفة فأشفق من الفتنة . و مما خطب به في ذم أهل العراق بعد وقعة دير الجماجم . يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق إن الشيطان استبطنكم فخالط اللحم و الدم و العصب و المسامع و الأطراف و الأعضاء و الشغاف ثم أفضى إلى الأمخاخ و الأصماخ ثم ارتفع فعشش ثم باض ففرخ فحشاكم نفاقا و شقاقا و ملأكم غدرا و خلافا اتخذتموه دليلا تتبعونه و قائدا تطيعونه و مؤامرا تستشيرونه فكيف تنفعكم تجربة أو تعظكم واقعة أو يحجزكم إسلام أو يعصمكم ميثاق أ لستم أصحابي بالأهواز حيث رمتم المكر و سعيتم بالغدر و ظننتم أن الله يخذل دينه و خلافته و أنا أرميكم بطرفي و أنتم تتسللون لواذا و تنهزمون سراعا ثم يوم الزاوية و ما يوم الزاوية بها كان فشلكم و كسلكم و تخاذلكم و تنازعكم و براءة الله منكم و نكول وليكم عنكم إذ وليتم كالإبل الشوارد إلى أوطانها النوازع إلى أعطانها لا يسأل المرء عن أخيه و لا يلوي الأب على بنيه لما عضكم السلاح و قصمتكم الرماح ثم يوم دير الجماجم و ما يوم دير الجماجم
[ 345 ]

(72/2)

بها كانت المعارك و الملاحم بضرب يزيل الهام عن مقيله و يذهل الخليل عن خليله . يا أهل العراق يا أهل الشقاق و النفاق الكفرات بعد الفجرات و الغدرات بعد الخترات و النزوة بعد النزوات إن بعثتكم إلى ثغوركم غللتم و خنتم و إن أمنتم أرجفتم و إن خفتم نافقتم لا تذكرون حسنة و لا تشكرون نعمة . هل استخفكم ناكث أو استغواكم غاو أو استفزكم عاص أو استنصركم ظالم أو استعضدكم خالع إلا اتبعتموه و آويتموه و نصرتموه و زكيتموه . يا أهل العراق هل شغب شاغب أو نعب ناعب أو زفر كاذب إلا كنتم أشياعه و أتباعه و حماته و أنصاره . يا أهل العراق أ لم تزجركم المواعظ أ لم تنبهكم الوقائع أ لم تردعكم الحوادث . ثم التفت إلى أهل الشام و هم حول المنبر فقال يا أهل الشام إنما أنا لكم كالظليم الرامح عن فراخه ينفي عنها القذر و يباعد عنها الحجر و يكنها من المطر و يحميها من الضباب و يحرسها من الذئاب . يا أهل الشام أنتم الجنة و الرداء و أنتم العدة و الحذاء . ثم نزل .
[ 346 ]

(72/3)

و من خطبة له في هذا المعنى و قد أراد الحج يا أهل الكوفة إني أريد الحج و قد استخلفت عليكم ابني محمدا و أوصيته بخلاف وصية رسول الله ص في الأنصار فإنه أمر أن يقبل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم و إني قد أوصيته ألا يقبل من محسنكم و لا يتجاوز عن مسيئكم ألا و إنكم ستقولون بعدي لا أحسن الله له الصحابة ألا و إني معجل لكم الجواب لا أحسن الله لكم الخلافة . و من خطبة له في هذا المعنى يا أهل الكوفة إن الفتنة تلقح بالنجوى و تنتج بالشكوى و تحصد بالسيف أما و الله إن أبغضتموني لا تضروني و إن أحببتموني لا تنفعوني و ما أنا بالمستوحش لعداوتكم و لا المستريح إلى مودتكم زعمتم أني ساحر و قد قال الله تعالى وَ لا يُفْلِحُ اَلسَّاحِرُ و قد أفلحت و زعمتم أني أعلم الاسم الأكبر فلم تقاتلون من يعلم ما لا تعلمون . ثم التفت إلى أهل الشام فقال لأزواجكم أطيب من المسك و لأبناؤكم آنس بالقلب من الولد و ما أنتم إلا كما قال أخو ذبيان
إذا حاولت في أسد فجورا
فإني لست منك و لست مني
هم درعي التي استلأمت فيها
إلى يوم النسار و هم مجني
[ 347 ]
ثم قال بل أنتم يا أهل الشام كما قال الله سبحانه وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا اَلْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ اَلْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ اَلْغالِبُونَ . و خطب مرة بعد موت أخيه و ابنه قال بلغني أنكم تقولون يموت الحجاج و مات الحجاج فمه و ما كان ما ذا و الله ما أرجو الخير كله إلا بعد الموت و ما رضي الله البقاء إلا لأهون المخلوقين عليه إبليس قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ إِنَّكَ مِنَ اَلْمُنْظَرِينَ ثم قال يا أهل العراق أتيتكم و أنا ذو لمة وافرة أرفل فيها فما زال بي شقاقكم و عصيانكم حتى حص شعري ثم كشف رأسه و هو أصلع و قال
من يك ذا لمة يكشفها
فإنني غير ضائري زعري
لا يمنع المرء أن يسود و أن
يضرب بالسيف قلة الشعر

(72/4)

فأما قوله ع اللهم أبدلني بهم خيرا منهم و أبدلهم بي شرا مني و لا خير فيهم و لا شر فيه ع فإن أفعل هاهنا بمنزلته في قوله تعالى أَ فَمَنْ يُلْقى فِي اَلنَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ اَلْقِيامَةِ و بمنزلته في قوله قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ اَلْخُلْدِ .
[ 348 ]
و يحتمل أن يكون الذي تمناه ع من إبداله بهم خيرا منهم قوما صالحين ينصرونه و يوفقون لطاعته . و يحتمل أن يريد بذلك ما بعد الموت من مرافقة النبي ص . و قال القطب الراوندي بنو فراس بن غنم هم الروم و ليس بجيد و الصحيح ما ذكرناه . و البيت المتمثل به أخيرا لأبي جندب الهذلي و أول الأبيات
ألا يا أم زنباع أقيمي
صدور العيس نحو بني تميم
و هذه الخطبة خطب بها أمير المؤمنين ع بعد فراغه من صفين و انقضاء أمر الحكمين و الخوارج و هي من أواخر خطبه ع . تم الجزء الأول من شرح نهج البلاغة بحمد الله و منه و الحمد لله وحده العزيز و صلى الله على محمد و آله الطيبين الطاهرين

(72/5)

فهرس الجزء الأول
? المقدمة
? القول فيما يذهب إليه أصحابنا المعتزلة في الإمامة و التفضيل و البغاة و الخوارج
? القول في نسب أمير المؤمنين علي ع و ذكر لمع يسيرة من فضائله
? القول في نسب الرضي أبي الحسن رحمه الله و ذكر طرف من خصائصه و مناقبه
? القول في شرح خطبة نهج البلاغة
? باب الخطب و الأوامر
? 1 : فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
? القول في الملائكة و أقسامهم
? اختلاف الأقوال في ابتداء خلق البشر
? تصويب الزنادقة إبليس لامتناعه عن السجود لآدم
? اختلاف الأقوال في خلق الجنة و النار
? القول في آدم و الملائكة أيهما أفضل
? القول في أديان العرب في الجاهلية
? فصل في فضل البيت و الكعبة
? فصل في الكلام على السجع
? 2 و من خطبة له ع بعد انصرافه من صفين
? باب لزوم ما لا يلزم و إيراد أمثلة منه
? ما ورد في الوصاية من الشعر
? 3 و من خطبة له و هي المعروفة بالشقشقية
? نسب أبي بكر و نبذة من أخبار أبيه
? مرض رسول الله و أمره أسامة بن زيد على الجيش
? عهد أبي بكر بالخلافة إلى عمر بن الخطاب
? طرف من أخبار عمر بن الخطاب
? قصة الشورى
? نتف من أخبار عثمان بن عفان
? 4 و من خطبة له ع
? 5 و من كلام خطبة له ع لما قبض رسول الله ص و خاطبه العباس و أبو سفيان بن حرب في أن يبايعا له بالخلافة
? استطراد بذكر طائفة من الاستعارات
? اختلاف الرأي في الخلافة بعد وفاة رسول الله
? 6 : و من كلام له ع لما أشير عليه بألا يتبع طلحة و الزبير و لا يرصد لهما القتال
? طلحة و الزبير و نسبهما
? خروج طارق بن شهاب لاستقبال علي بن أبي طالب
? 7 و من خطبة له ع
? 8 : و من كلام له ع يعني به الزبير في حال اقتضت ذلك
? أمر طلحة و الزبير مع علي بن أبي طالب بعد بيعتهما له
? 9 و من كلام له ع
? 10 و من خطبة له ع
? 11 و من كلام له ع لابنه محمد بن الحنفية لما أعطاه الراية يوم الجمل
? ذكر خبر مقتل حمزة بن عبد المطلب

(73/1)

? محمد بن الحنفية و نسبه و بعض أخباره
? 12 و من كلام له ع لما أظفره الله بأصحاب الجمل
? من أخبار يوم الجمل
? 13 و من كلام له ع في ذم أهل البصرة
? من أخبار يوم الجمل أيضا
? 14 و من كلام له ع في مثل ذلك
? 15 و من كلام له ع فيما رده على المسلمين من قطائع عثمان رضي الله عنه
? 16 و من خطبة له ع لما بويع بالمدينة
? من كلام للحجاج و زياد نسجا فيه على منوال كلام علي
? 17 و من كلام له ع في صفة من يتصدى للحكم بين الأمة و ليس لذلك بأهل
? 18 و من كلام له ع في ذم اختلاف العلماء في الفتيا
? 19 و من كلام له ع قاله للأشعث بن قيس
? الأشعث بن قيس و نسبه و بعض أخباره
? 20 و من خطبة له ع
? 21 و من خطبة له ع
? 22 و من خطبة له ع
? خطبة علي بالمدينة في أول إمارته
? خطبته عند مسيره للبصرة
? خطبته بذي قار
? 23 و من خطبة له ع
? فصل في ذم الحاسد و الحسد
? فصل في مدح الصبر و انتظار الفرج
? فصل في الرياء و النهي عنه
? فصل في الاعتضاد بالعشيرة و التكثر بالقبيلة
? فصل في حسن الثناء و طيب الأحدوثة
? فصل في مواساة الأهل و صلة الرحم
? 24 و من خطبة له ع
? 25 : و من خطبة له ع و قد تواترت عليه الأخبار باستيلاء أصحاب معاوية على البلاد
? نسب معاوية بن أبي سفيان و ذكر بعض أخباره
? بسر بن أرطاة و نسبه
? عبيد الله بن العباس و بعض أخباره
? أهل العراق و خطب الحجاج فيهم

(73/2)

شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
الجزء الثاني

(74/1)

تتمة الخطب و الأوامر

(75/1)

تتمة خطبة 25
بسم الله الرحمن الرحيم

(76/1)

بعث معاوية بسر بن أرطاة إلى الحجاز و اليمن
فأما خبر بسر بن أرطاة العامري من بني عامر بن لؤي بن غالب و بعث معاوية له ليغير على أعمال أمير المؤمنين ع و ما عمله من سفك الدماء و أخذ الأموال فقد ذكر أرباب السير أن الذي هاج معاوية على تسريح بسر بن أرطاة و يقال ابن أبي أرطاة إلى الحجاز و اليمن أن قوما بصنعاء كانوا من شيعة عثمان يعظمون قتله لم يكن لهم نظام و لا رأس فبايعوا لعلي ع على ما في أنفسهم و عامل علي ع على صنعاء يومئذ عبيد الله بن عباس و عامله على الجند سعيد بن نمران . فلما اختلف الناس على علي ع بالعراق و قتل محمد بن أبي بكر بمصر و كثرت غارات أهل الشام تكلموا و دعوا إلى الطلب بدم عثمان فبلغ ذلك عبيد الله بن عباس فأرسل إلى ناس من وجوههم فقال ما هذا الذي بلغني عنكم قالوا إنا لم نزل ننكر قتل عثمان و نرى مجاهدة من سعى عليه فحبسهم فكتبوا إلى من بالجند من أصحابهم فثاروا بسعيد بن نمران فأخرجوه من الجند و أظهروا أمرهم و خرج إليهم من كان بصنعاء و انضم إليهم كل من كان على رأيهم و لحق بهم قوم لم يكونوا على رأيهم إرادة أن يمنعوا الصدقة و التقى عبيد الله بن عباس و سعيد بن نمران و معهما شيعة علي ع فقال ابن عباس لابن نمران و الله لقد اجتمع هؤلاء و إنهم لنا
[ 4 ]

(77/1)

لمقاربون و إن قاتلناهم لا نعلم على من تكون الدائرة فهلم لنكتب إلى أمير المؤمنين ع بخبرهم و قدحهم و بمنزلهم الذي هم به . فكتبا إلى أمير المؤمنين ع أما بعد فإنا نخبر أمير المؤمنين أن شيعة عثمان وثبوا بنا و أظهروا أن معاوية قد شيد أمره و اتسق له أكثر الناس و أنا سرنا إليهم بشيعة أمير المؤمنين و من كان على طاعته و أن ذلك أحمشهم و ألبهم فعبئوا لنا و تداعوا علينا من كل أوب و نصرهم علينا من لم يكن له رأي فيهم إرادة أن يمنع حق الله المفروض عليه و ليس يمنعنا من مناجزتهم إلا انتظار أمر أمير المؤمنين أدام الله عزه و أيده و قضى له بالأقدار الصالحة في جميع أموره و السلام . فلما وصل كتابهما ساء عليا ع و أغضبه و
كتب إليهما من علي أمير المؤمنين إلى عبيد الله بن العباس و سعيد بن نمران سلام الله عليكما فإني أحمد إليكما الله الذي لا إله إلا هو أما بعد فإنه أتاني كتابكما تذكران فيه خروج هذه الخارجة و تعظمان من شأنها صغيرا و تكثران من عددها قليلا و قد علمت أن نخب أفئدتكما و صغر أنفسكما و شتات رأيكما و سوء تدبيركما هو الذي أفسد عليكما من لم يكن عليكما فاسدا و جزأ عليكما من كان عن لقائكما جبانا فإذا قدم رسولي عليكما فامضيا إلى القوم حتى تقرءا عليهم كتابي إليهم و تدعواهم إلى حظهم و تقوى ربهم فإن أجابوا حمدنا الله و قبلناهم و إن حاربوا استعنا بالله عليهم و نابذناهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين
قالوا و قال علي ع ليزيد بن قيس الأرحبي أ لا ترى إلى ما صنع قومك
[ 5 ]

(77/2)

فقال إن ظني يا أمير المؤمنين بقومي لحسن في طاعتك فإن شئت خرجت إليهم فكفيتهم و إن شئت كتبت إليهم فتنظر ما يجيبونك فكتب علي ع إليهم من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى من شاق و غدر من أهل الجند و صنعاء أما بعد فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو الذي لا يعقب له حكم و لا يرد له قضاء و لا يرد بأسه عن القوم المجرمين و قد بلغني تجرؤكم و شقاقكم و إعراضكم عن دينكم بعد الطاعة و إعطاء البيعة فسألت أهل الدين الخالص و الورع الصادق و اللب الراجح عن بدء محرككم و ما نويتم به و ما أحمشكم له فحدثت عن ذلك بما لم أر لكم في شي ء منه عذرا مبينا و لا مقالا جميلا و لا حجة ظاهرة فإذا أتاكم رسولي فتفرقوا و انصرفوا إلى رحالكم أعف عنكم و أصفح عن جاهلكم و أحفظ قاصيكم و أعمل فيكم بحكم الكتاب فإن لم تفعلوا فاستعدوا لقدوم جيش جم الفرسان عظيم الأركان يقصد لمن طغى و عصى فتطحنوا كطحن الرحى فمن أحسن فلنفسه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ . و وجه الكتاب مع رجل من همدان فقدم عليهم بالكتاب فلم يجيبوه إلى خير فقال لهم إني تركت أمير المؤمنين يريد أن يوجه إليكم يزيد بن قيس الأرحبي في جيش كثيف فلم يمنعه إلا انتظار جوابكم فقالوا نحن سامعون مطيعون إن عزل عنا هذين الرجلين عبيد الله و سعيدا . فرجع الهمداني من عندهم إلى علي ع فأخبره خبر القوم . قالوا و كتبت تلك العصابة حين جاءها كتاب علي ع إلى معاوية يخبرونه و كتبوا في كتابهم
معاوي إلا تسرع السير نحونا
نبايع عليا أو يزيد اليمانيا
[ 6 ]

(77/3)

فلما قدم كتابهم دعا بسر بن أبي أرطاة و كان قاسي القلب فظا سفاكا للدماء لا رأفة عنده و لا رحمة فأمره أن يأخذ طريق الحجاز و المدينة و مكة حتى ينتهي إلى اليمن و قال له لا تنزل على بلد أهله على طاعة علي إلا بسطت عليهم لسانك حتى يروا أنهم لا نجاء لهم و أنك محيط بهم ثم اكفف عنهم و ادعهم إلى البيعة لي فمن أبى فاقتله و اقتل شيعة علي حيث كانوا . و روى إبراهيم بن هلال الثقفي في كتاب الغارات عن يزيد بن جابر الأزدي قال سمعت عبد الرحمن بن مسعدة الفزاري يحدث في خلافة عبد الملك قال لما دخلت سنة أربعين تحدث الناس بالشام أن عليا ع يستنفر الناس بالعراق فلا ينفرون معه و تذاكروا أن قد اختلفت أهواؤهم و وقعت الفرقة بينهم قال فقمت في نفر من أهل الشام إلى الوليد بن عقبة فقلنا له إن الناس لا يشكون في اختلاف الناس على علي ع بالعراق فادخل إلى صاحبك فمره فليسر بنا إليهم قبل أن يجتمعوا بعد تفرقهم أو يصلح لصاحبهم ما قد فسد عليه من أمره فقال بلى لقد قاولته في ذلك و راجعته و عاتبته حتى لقد برم بي و استثقل طلعتي و ايم الله على ذلك ما أدع أن أبلغه ما مشيتم إلي فيه . فدخل عليه فخبره بمجيئنا إليه و مقالتنا له فأذن لنا فدخلنا عليه فقال ما هذا الخبر الذي جاءني به عنكم الوليد فقلنا هذا خبر في الناس سائر فشمر للحرب و ناهض الأعداء و اهتبل الفرصة و اغتنم الغرة فإنك لا تدري متى تقدر على عدوك على مثل حالهم التي هم عليها و أن تسير إلى عدوك أعز لك من أن يسيروا إليك و اعلم
[ 7 ]

(77/4)

و الله أنه لو لا تفرق الناس عن صاحبك لقد نهض إليك فقال لنا ما أستغني عن رأيكم و مشورتكم و متى أحتج إلى ذلك منكم أدعكم إن هؤلاء الذين تذكرون تفرقهم على صاحبهم و اختلاف أهوائهم لم يبلغ ذلك عندي بهم أن أكون أطمع في استئصالهم و اجتياحهم و أن أسير إليهم مخاطرا بجندي لا أدري علي تكون الدائرة أم لي فإياكم و استبطائي فإني آخذ بهم في وجه هو أرفق بكم و أبلغ في هلكتهم قد شننت عليهم الغارات من كل جانب فخيلي مرة بالجزيرة و مرة بالحجاز و قد فتح الله فيما بين ذلك مصر فأعز بفتحها ولينا و أذل به عدونا فأشراف أهل العراق لما يرون من حسن صنيع الله لنا يأتوننا على قلائصهم في كل الأيام و هذا مما يزيدكم الله به و ينقصهم و يقويكم و يضعفهم و يعزكم و يذلهم فاصبروا و لا تعجلوا فإني لو رأيت فرصتي لاهتبلتها . فخرجنا من عنده و نحن نعرف الفصل فيما ذكر فجلسنا ناحية و بعث معاوية عند خروجنا من عنده إلى بسر بن أبي أرطاة فبعثه في ثلاثة آلاف و قال سر حتى تمر بالمدينة فاطرد الناس و أخف من مررت به و انهب أموال كل من أصبت له مالا ممن لم يكن دخل في طاعتنا فإذا دخلت المدينة فأرهم أنك تريد أنفسهم و أخبرهم أنه لا براءة لهم عندك و لا عذر حتى إذا ظنوا أنك موقع بهم فاكفف عنهم ثم سر حتى تدخل مكة و لا تعرض فيها لأحد و أرهب الناس عنك فيما بين المدينة و مكة و اجعلها شردا حتى تأتي صنعاء و الجند فإن لنا بهما شيعة و قد جاءني كتابهم . فخرج بسر في ذلك البعث حتى أتى دير مروان فعرضهم فسقط منهم أربعمائة فمضى في ألفين و ستمائة فقال الوليد بن عقبة أشرنا على معاوية برأينا أن يسير
[ 8 ]

(77/5)

إلى الكوفة فبعث الجيش إلى المدينة فمثلنا و مثله كما قال الأول أريها السها و تريني القمر . فبلغ ذلك معاوية فغضب و قال و الله لقد هممت بمساءة هذا الأحمق الذي لا يحسن التدبير و لا يدري سياسة الأمور ثم كف عنه قلت الوليد كان لشدة بغضه عليا ع القديم التالد لا يرى الأناة في حربه و لا يستصلح الغارات على أطراف بلاده و لا يشفي غيظه و لا يبرد حزازات قلبه إلا باستئصاله نفسه بالجيوش و تسييرها إلى دار ملكه و سرير خلافته و هي الكوفة و أن يكون معاوية بنفسه هو الذي يسير بالجيوش إليه ليكون ذلك أبلغ في هلاك علي ع و اجتثاث أصل سلطانه و معاوية كان يرى غير هذا الرأي و يعلم أن السير بالجيش للقاء علي ع خطر عظيم فاقتضت المصلحة عنده و ما يغلب على ظنه من حسن التدبير أن يثبت بمركزه بالشام في جمهور جيشه و يسرب الغارات على أعمال علي ع و بلاده فتجوس خلال الديار و تضعفها فإذا أضعفتها أضعفت بيضة ملك علي ع لأن ضعف الأطراف يوجب ضعف البيضة و إذا أضعفت البيضة كان على بلوغ إرادته و المسير حينئذ إن استصوب المسير أقدر . و لا يلام الوليد على ما في نفسه فإن عليا ع قتل أباه عقبة بن أبي معيط صبرا يوم بدر و سمي الفاسق بعد ذلك في القرآن لنزاع وقع بينه و بينه
[ 9 ]

(77/6)

ثم جلده الحد في خلافة عثمان و عزله عن الكوفة و كان عاملها و ببعض هذا عند العرب أرباب الدين و التقى تستحل المحارم و تستباح الدماء و لا تبقى مراقبة في شفاء الغيظ لدين و لا لعقاب و لا لثواب فكيف الوليد المشتمل على الفسوق و الفجور مجاهرا بذلك و كان من المؤلفة قلوبهم مطعونا في نسبه مرميا بالإلحاد و الزندقة . قال إبراهيم بن هلال روى عوانة عن الكلبي و لوط بن يحيى أن بسرا لما أسقط من أسقط من جيشه سار بمن تخلف معه و كانوا إذا وردوا ماء أخذوا إبل أهل ذلك الماء فركبوها و قادوا خيولهم حتى يردوا الماء الآخر فيردون تلك الإبل و يركبون إبل هؤلاء فلم يزل يصنع ذلك حتى قرب إلى المدينة . قال و قد روي أن قضاعة استقبلتهم ينحرون لهم الجزر حتى دخلوا المدينة قال فدخلوها و عامل علي ع عليها أبو أيوب الأنصاري صاحب منزل رسول الله ص فخرج عنها هاربا و دخل بسر المدينة فخطب الناس و شتمهم و تهددهم يومئذ و توعدهم و قال شاهت الوجوه إن الله تعالى يقول وَ ضَرَبَ اَللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها الآية و قد أوقع الله تعالى ذلك المثل بكم و جعلكم أهله كان بلدكم مهاجر النبي ص و منزله و فيه قبره و منازل الخلفاء من بعده فلم تشكروا نعمة ربكم و لم ترعوا حق نبيكم و قتل خليفة الله بين أظهركم فكنتم بين قاتل و خاذل و متربص و شامت إن كانت للمؤمنين قلتم أ لم نكن معكم و إن كان للكافرين نصيب قلتم أ لم نستحوذ عليكم و نمنعكم من
[ 10 ]

(77/7)

المؤمنين ثم شتم الأنصار فقال يا معشر اليهود و أبناء العبيد بني زريق و بني النجار و بني سلمة و بني عبد الأشهل أما و الله لأوقعن بكم وقعة تشفي غليل صدور المؤمنين و آل عثمان أما و الله لأدعنكم أحاديث كالأمم السالفة . فتهددهم حتى خاف الناس أن يوقع بهم ففزعوا إلى حويطب بن عبد العزى و يقال إنه زوج أمه فصعد إليه المنبر فناشده و قال عترتك و أنصار رسول الله و ليسوا بقتلة عثمان فلم يزل به حتى سكن و دعا الناس إلى بيعة معاوية فبايعوه و نزل فأحرق دورا كثيرة منها دار زرارة بن حرون أحد بني عمرو بن عوف و دار رفاعة بن رافع الزرقي و دار أبي أيوب الأنصاري و تفقد جابر بن عبد الله فقال ما لي لا أرى جابرا يا بني سلمة لا أمان لكم عندي أو تأتوني بجابر فعاذ جابر بأم سلمة رضي الله عنها فأرسلت إلى بسر بن أرطاة فقال لا أؤمنه حتى يبايع فقالت له أم سلمة اذهب فبايع و قالت لابنها عمر اذهب فبايع فذهبا فبايعاه . قال إبراهيم و روى الوليد بن كثير عن وهب بن كيسان قال سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول لما خفت بسرا و تواريت عنه قال لقومي لا أمان لكم عندي حتى يحضر جابر فأتوني و قالوا ننشدك الله لما انطلقت معنا فبايعت فحقنت دمك و دماء قومك فإنك إن لم تفعل قتلت مقاتلينا و سبيت ذرارينا فاستنظرتهم الليل فلما أمسيت دخلت على أم سلمة فأخبرتها الخبر فقالت يا بني انطلق فبايع احقن دمك و دماء قومك فإني قد أمرت ابن أخي أن يذهب فيبايع و إني لأعلم أنها بيعة ضلالة .
[ 11 ]

(77/8)

قال إبراهيم فأقام بسر بالمدينة أياما ثم قال لهم إني قد عفوت عنكم و إن لم تكونوا لذلك بأهل ما قوم قتل إمامهم بين ظهرانيهم بأهل أن يكف عنهم العذاب و لئن نالكم العفو مني في الدنيا إني لأرجو ألا تنالكم رحمة الله عز و جل في الآخرة و قد استخلفت عليكم أبا هريرة فإياكم و خلافه ثم خرج إلى مكة . قال إبراهيم روى الوليد بن هشام قال أقبل بسر فدخل المدينة فصعد منبر الرسول ص ثم قال يا أهل المدينة خضبتم لحاكم و قتلتم عثمان مخضوبا و الله لا أدع في المسجد مخضوبا إلا قتلته ثم قال لأصحابه خذوا بأبواب المسجد و هو يريد أن يستعرضهم فقام إليه عبد الله بن الزبير و أبو قيس أحد بني عامر بن لؤي فطلبا إليه حتى كف عنهم و خرج إلى مكة فلما قرب منها هرب قثم بن العباس و كان عامل علي ع و دخلها بسر فشتم أهل مكة و أنبهم ثم خرج عنها و استعمل عليها شيبة بن عثمان . قال إبراهيم و قد روى عوانة عن الكلبي أن بسرا لما خرج من المدينة إلى مكة قتل في طريقه رجالا و أخذ أموالا و بلغ أهل مكة خبره فتنحى عنها عامة أهلها و تراضى الناس بشيبة بن عثمان أميرا لما خرج قثم بن العباس عنها و خرج إلى بسر قوم من قريش فتلقوه فشتمهم ثم قال أما و الله لو تركت و رأيي فيكم لتركتكم و ما فيكم روح تمشي على الأرض فقالوا ننشدك الله في أهلك و عترتك فسكت ثم دخل و طاف بالبيت و صلى ركعتين ثم خطبهم فقال الحمد لله الذي أعز دعوتنا و جمع ألفتنا و أذل عدونا بالقتل و التشريد هذا ابن أبي طالب بناحية العراق في ضنك و ضيق قد ابتلاه الله بخطيئته و أسلمه بجريرته
[ 12 ]

(77/9)

فتفرق عنه أصحابه ناقمين عليه و ولي الأمر معاوية الطالب بدم عثمان فبايعوا و لا تجعلوا على أنفسكم سبيلا فبايعوا . و تفقد سعيد بن العاص فطلبه فلم يجده و أقام أياما ثم خطبهم فقال يا أهل مكة إني قد صفحت عنكم فإياكم و الخلاف فو الله إن فعلتم لأقصدن منكم إلى التي تبير الأصل و تحرب المال و تخرب الديار . ثم خرج إلى الطائف فكتب إليه المغيرة بن شعبة حين خرج من مكة إليها أما بعد فقد بلغني مسيرك إلى الحجاز و نزولك مكة و شدتك على المريب و عفوك عن المسي ء و إكرامك لأولي النهى فحمدت رأيك في ذلك فدم على صالح ما كنت عليه فإن الله عز و جل لن يزيد بالخير أهله إلا خيرا جعلنا الله و إياك من الآمرين بالمعروف و القاصدين إلى الحق و الذاكرين الله كثيرا قال و وجه رجلا من قريش إلى تبالة و بها قوم من شيعة علي ع و أمره بقتلهم فأخذهم و كلم فيهم و قيل له هؤلاء قومك فكف عنهم حتى نأتيك بكتاب من بسر بأمانهم فحبسهم و خرج منيع الباهلي من عندهم إلى بسر و هو بالطائف يستشفع إليه فيهم فتحمل عليه بقوم من الطائف فكلموه فيهم و سألوه الكتاب بإطلاقهم فوعدهم و مطلهم بالكتاب حتى ظن أنه قد قتلهم القرشي المبعوث لقتلهم و أن كتابه لا يصل إليهم حتى يقتلوا ثم كتب لهم فأتى منيع منزله و كان قد نزل على امرأة بالطائف و رحله عندها فلم يجدها في منزلها فوطئ على ناقته بردائه و ركب فسار يوم الجمعة و ليلة السبت لم ينزل عن راحلته قط فأتاهم ضحوة و قد أخرج القوم ليقتلوا و استبطئ كتاب بسر فيهم فقدم رجل منهم فضربه رجل من أهل الشام فانقطع سيفه فقال الشاميون بعضهم لبعض شمسوا سيوفكم حتى تلين فهزوها و تبصر منيع
[ 13 ]

(77/10)

الباهلي بريق السيوف فألمع بثوبه فقال القوم هذا راكب عنده خير فكفوا و قام به بعيره فنزل عنه و جاء على رجليه يشتد فدفع الكتاب إليهم فأطلقوا و كان الرجل المقدم الذي ضرب بالسيف فانكسر السيف أخاه . قال إبراهيم و روى علي بن مجاهد عن ابن إسحاق أن أهل مكة لما بلغهم ما صنع بسر خافوه و هربوا فخرج ابنا عبيد الله بن العباس و هما سليمان و داود و أمهما جويرية ابنة خالد بن قرظ الكنانية و تكنى أم حكيم و هم حلفاء بني زهرة و هما غلامان مع أهل مكة فأضلوهما عند بئر ميمون بن الحضرمي و ميمون هذا هو أخو العلاء بن الحضرمي و هجم عليهما بسر فأخذهما و ذبحهما فقالت أمهما
ها من أحس بابني اللذين هما
كالدرتين تشظى عنهما الصدف
ها من أحس بابني اللذين هما
سمعي و قلبي فقلبي اليوم مختطف
ها من أحس بابني اللذين هما
مخ العظام فمخي اليوم مزدهف
نبئت بسرا و ما صدقت ما زعموا
من قولهم و من الإفك الذي اقترفوا
أنحى على ودجي ابني مرهفة
مشحوذة و كذاك الإثم يقترف
من دل والهة حرى مسلبة
على صبيين ضلا إذ مضى السلف
[ 14 ]
و قد روي أن اسمهما قثم و عبد الرحمن و روي أنهما ضلا في أخوالهما من بني كنانة و روي أن بسرا إنما قتلهما باليمن و أنهما ذبحا على درج صنعاء . و روى عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن أبيه أن بسرا لما دخل الطائف و قد كلمه المغيرة قال له لقد صدقتني و نصحتني فبات بها و خرج منها و شيعه المغيرة ساعة ثم ودعه و انصرف عنه فخرج حتى مر ببني كنانة و فيهم ابنا عبيد الله بن العباس و أمهما فلما انتهى بسر إليهم طلبهما فدخل رجل من بني كنانة و كان أبوهما أوصاه بهما فأخذ السيف من بيته و خرج فقال له بسر ثكلتك أمك و الله ما كنا أردنا قتلك فلم عرضت نفسك للقتل قال أقتل دون جاري أعذر لي عند الله و الناس ثم شد على أصحاب بسر بالسيف حاسرا و هو يرتجز
آليت لا يمنع حافات الدار
و لا يموت مصلتا دون الجار
إلا فتى أروع غير غدار

(77/11)

فضارب بسيفه حتى قتل ثم قدم الغلامان فقتلا فخرج نسوة من بني كنانة فقالت امرأة منهن هذه الرجال يقتلها فما بال الولدان و الله ما كانوا يقتلون في جاهلية و لا إسلام و الله إن سلطانا لا يشتد إلا بقتل الضرع الضعيف و الشيخ الكبير و رفع الرحمة و قطع الأرحام لسلطان سوء فقال بسر و الله لهممت أن أضع فيكن السيف قالت و الله إنه لأحب إلي إن فعلت . قال إبراهيم و خرج بسر من الطائف فأتى نجران فقتل عبد الله بن عبد المدان و ابنه مالكا و كان عبد الله هذا صهرا لعبيد الله بن العباس ثم جمعهم و قام فيهم و قال
[ 15 ]
يا أهل نجران يا معشر النصارى و إخوان القرود أما و الله إن بلغني عنكم ما أكره لأعودن عليكم بالتي تقطع النسل و تهلك الحرث و تخرب الديار . و تهددهم طويلا ثم سار حتى بلغ أرحب فقتل أبا كرب و كان يتشيع و يقال إنه سيد من كان بالبادية من همدان فقدمه فقتله . و أتى صنعاء و قد خرج عنها عبيد الله بن العباس و سعيد بن نمران و قد استخلف عبيد الله عليها عمرو بن أراكة الثقفي فمنع بسرا من دخولها و قاتله فقتله بسر و دخل صنعاء فقتل منها قوما و أتاه وفد مأرب فقتلهم فلم ينج منهم إلا رجل واحد و رجع إلى قومه فقال لهم أنعى قتلانا شيوخا و شبانا . قال إبراهيم و هذه الأبيات المشهورة لعبد الله بن أراكة الثقفي يرثي بها ابنه عمرا
لعمري لقد أردى ابن أرطاة فارسا
بصنعاء كالليث الهزبر أبي الأجر
تعز فإن كان البكا رد هالكا
على أحد فاجهد بكاك على عمرو
و لا تبك ميتا بعد ميت أجنه
علي و عباس و آل أبي بكر
قال و روى نمير بن وعلة عن أبي وداك قال كنت عند علي ع لما قدم عليه سعيد بن نمران الكوفة فعتب عليه و على عبيد الله ألا يكونا قاتلا بسرا
[ 16 ]

(77/12)

فقال سعيد قد و الله قاتلت و لكن ابن عباس خذلني و أبى أن يقاتل و لقد خلوت به حين دنا منا بسر فقلت إن ابن عمك لا يرضى مني و منك بدون الجد في قتالهم قال لا و الله ما لنا بهم طاقة و لا يدان فقمت في الناس فحمدت الله ثم قلت يا أهل اليمن من كان في طاعتنا و على بيعة أمير المؤمنين ع فإلي إلي فأجابني منهم عصابة فاستقدمت بهم فقاتلت قتالا ضعيفا و تفرق الناس عني و انصرفت . قال ثم خرج بسر من صنعاء فأتى أهل جيشان و هم شيعة لعلي ع فقاتلهم و قاتلوه فهزمهم و قتلهم قتلا ذريعا ثم رجع إلى صنعاء فقتل بها مائة شيخ من أبناء فارس لأن ابني عبيد الله بن العباس كانا مستترين في بيت امرأة من أبنائهم تعرف بابنة بزرج . و قال الكلبي و أبو مخنف فندب علي ع أصحابه لبعث سرية في إثر بسر فتثاقلوا و أجابه جارية بن قدامة السعدي فبعثه في ألفين فشخص إلى البصرة ثم أخذ طريق الحجاز حتى قدم اليمن و سأل عن بسر فقيل أخذ في بلاد بني تميم فقال أخذ في ديار قوم يمنعون أنفسهم و بلغ بسرا مسير جارية فانحدر إلى اليمامة و أغذ جارية بن قدامة السير ما يلتفت إلى مدينة مر بها و لا أهل حصن و لا يعرج على شي ء إلا أن يرمل بعض أصحابه من الزاد فيأمر أصحابه بمواساته أو يسقط بعير رجل أو تحفى دابته فيأمر أصحابه بأن يعقبوه حتى انتهوا إلى أرض اليمن فهربت شيعة عثمان حتى لحقوا بالجبال و اتبعهم شيعة علي ع و تداعت عليهم من كل جانب و أصابوا منهم و صمد نحو بسر و بسر بين يديه يفر من جهة إلى جهة أخرى حتى أخرجه من أعمال علي ع كلها . فلما فعل به ذلك أقام جارية بحرس نحوا من شهر حتى استراح و أراح أصحابه و وثب الناس ببسر في طريقه لما انصرف من بين يدي جارية لسوء سيرته و فظاظته و ظلمه و غشمه و أصاب بنو تميم ثقلا من ثقله في بلاده و صحبه إلى معاوية ليبايعه على الطاعة ابن مجاعة
[ 17 ]

(77/13)

رئيس اليمامة فلما وصل بسر إلى معاوية قال يا أمير المؤمنين هذا ابن مجاعة قد أتيتك به فاقتله فقال معاوية تركته لم تقتله ثم جئتني به فقلت اقتله لا لعمري لا أقتله ثم بايعه و وصله و أعاده إلى قومه . و قال بسر أحمد الله يا أمير المؤمنين أني سرت في هذا الجيش أقتل عدوك ذاهبا جائيا لم ينكب رجل منهم نكبة فقال معاوية الله قد فعل ذلك لا أنت . و كان الذي قتل بسر في وجهه ذلك ثلاثين ألفا و حرق قوما بالنار فقال يزيد بن مفرغ
تعلق من أسماء ما قد تعلقا
و مثل الذي لاقى من الشوق أرقا
سقى هزم الأرعاد منبعج الكلى
منازلها من مسرقان فسرقا
إلى الشرف الأعلى إلى رامهرمز
إلى قريات الشيخ من نهر أربقا
إلى دشت بارين إلى الشط كله
إلى مجمع السلان من بطن دورقا
إلى حيث يرفا من دجيل سفينه
إلى مجمع النهرين حيث تفرقا
إلى حيث سار المرء بسر بجيشه
فقتل بسر ما استطاع و حرقا
و روى أبو الحسن المدائني قال اجتمع عبيد الله بن العباس و بسر بن أرطاة يوما عند معاوية بعد صلح الحسن ع فقال له ابن عباس أنت أمرت اللعين السيئ الفدم أن يقتل ابني فقال ما أمرته بذلك و لوددت أنه لم يكن قتلهما فغضب بسر و نزع سيفه فألقاه و قال لمعاوية اقبض سيفك قلدتنيه و أمرتني أن أخبط به الناس ففعلت حتى إذا بلغت ما أردت قلت لم أهو و لم آمر فقال خذ سيفك إليك فلعمري
[ 18 ]
إنك ضعيف مائق حين تلقي السيف بين يدي رجل من بني عبد مناف قد قتلت أمس ابنيه . فقال له عبيد الله أ تحسبني يا معاوية قاتلا بسرا بأحد ابني هو أحقر و ألأم من ذلك و لكني و الله لا أرى لي مقنعا و لا أدرك ثأرا إلا أن أصيب بهما يزيد و عبد الله . فتبسم معاوية و قال و ما ذنب معاوية و ابني معاوية و الله ما علمت و لا أمرت و لا رضيت و لا هويت و احتملها منه لشرفه و سؤدده .

(77/14)

قال و دعا علي ع على بسر فقال اللهم إن بسرا باع دينه بالدنيا و انتهك محارمك و كانت طاعة مخلوق فاجر آثر عنده مما عندك اللهم فلا تمته حتى تسلبه عقله و لا توجب له رحمتك و لا ساعة من نهار اللهم العن بسرا و عمرا و معاوية و ليحل عليهم غضبك و لتنزل بهم نقمتك و ليصبهم بأسك و رجزك الذي لا ترده عن القوم المجرمين فلم يلبث بسر بعد ذلك إلا يسيرا حتى وسوس و ذهب عقله فكان يهذي بالسيف و يقول أعطوني سيفا أقتل به لا يزال يردد ذلك حتى اتخذ له سيف من خشب و كانوا يدنون منه المرفقة فلا يزال يضربها حتى يغشى عليه فلبث كذلك إلى أن مات . قلت كان مسلم بن عقبة ليزيد و ما عمل بالمدينة في وقعة الحرة كما كان بسر لمعاوية و ما عمل في الحجاز و اليمن و من أشبه أباه فما ظلم
نبني كما كانت أوائلنا
تبني و نفعل مثل ما فعلوا
[ 19 ]

(77/15)

26 ـ و من خطبة له ع
إِنَّ اَللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّداً ص نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ أَمِيناً عَلَى اَلتَّنْزِيلِ وَ أَنْتُمْ مَعْشَرَ اَلْعَرَبِ عَلَى شَرِّ دِينٍ وَ فِي شَرِّ دَارٍ مُنِيخُونَ بَيْنَ حِجَارَةٍ خُشْنٍ وَ حَيَّاتٍ صُمٍّ تَشْرَبُونَ اَلْكَدِرَ وَ تَأْكُلُونَ اَلْجَشِبَ وَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَ تَقْطَعُونَ أَرْحَامَكُمْ اَلْأَصْنَامُ فِيكُمْ مَنْصُوبَةٌ وَ اَلآْثَامُ بِكُمْ مَعْصُوبَةٌ يجوز أن يعني بقوله بين حجارة خشن و حيات صم الحقيقة لا المجاز و ذلك أن البادية بالحجاز و نجد و تهامة و غيرها من أرض العرب ذات حيات و حجارة خشن و قد يعني بالحجارة الخشن الجبال أيضا أو الأصنام فيكون داخلا في قسم الحقيقة إذا فرضناه مرادا و يكون المعني بذلك وصف ما كانوا عليه من البؤس و شظف العيشة و سوء الاختيار في العبادة فأبدلهم الله تعالى بذلك الريف و لين المهاد و عبادة من يستحق العبادة . و يجوز أن يعني به المجاز و هو الأحسن يقال للأعداء حيات و الحية الصماء أدهى من التي ليست بصماء لأنها لا تنزجر بالصوت و يقال للعدو أيضا إنه لحجر خشن المس إذا كان ألد الخصام . و الجشب من الطعام الغليظ الخشن .
[ 20 ]

(78/1)

و قال أبو البختري وهب بن وهب القاضي كنت عند الرشيد يوما و استدعى ماء مبردا بالثلج فلم يوجد في الخزانة ثلج فاعتذر إليه بذلك و أحضر إليه ماء غير مثلوج فضرب وجه الغلام بالكوز و استشاط غضبا فقلت له أقول يا أمير المؤمنين و أنا آمن فقال قل قلت يا أمير المؤمنين قد رأيت ما كان من الغير بالأمس يعني زوال دولة بني أمية و الدنيا غير دائمة و لا موثوق بها و الحزم ألا تعود نفسك الترفه و النعمة بل تأكل اللين و الجشب و تلبس الناعم و الخشن و تشرب الحار و القار فنفحني بيده و قال لا و الله لا أذهب إلى ما تذهب إليه بل ألبس النعمة ما لبستني فإذا نابت نوبة الدهر عدت إلى نصاب غير خوار . و قوله و الآثام بكم معصوبة استعارة كأنها مشدودة إليهم . و عنى بقوله تسفكون دماءكم و تقطعون أرحامكم ما كانوا عليه في الجاهلية من الغارات و الحروب : وَ مِنْهَا صِفَتُهُ قَبْلَ اَلْبَيْعَةِ لَهُ فَنَظَرْتُ فَإِذَا لَيْسَ لِي مُعِينٌ إِلاَّ أَهْلُ بَيْتِي فَضَنِنْتُ بِهِمْ عَنِ اَلْمَوْتِ وَ أَغْضَيْتُ عَلَى اَلْقَذَى وَ شَرِبْتُ عَلَى اَلشَّجَا وَ صَبَرْتُ عَلَى أَخْذِ اَلْكَظَمِ وَ عَلَى أَمَرَّ مِنْ طَعْمِ [ حُزْنِ ] اَلْعَلْقَمِ
[ 21 ]
الكظم بفتح الظاء مخرج النفس و الجمع أكظام و ضننت بالكسر بخلت و أغضيت على كذا غضضت طرفي و الشجا ما يعترض في الحلق

(78/2)

حديث السقيفة
اختلفت الروايات في قصة السقيفة فالذي تقوله الشيعة و قد قال قوم من المحدثين بعضه و رووا كثيرا منه أن عليا ع امتنع من البيعة حتى أخرج كرها و أن الزبير بن العوام امتنع من البيعة و قال لا أبايع إلا عليا ع و كذلك أبو سفيان بن حرب و خالد بن سعيد بن العاص بن أمية بن عبد شمس و العباس بن عبد المطلب و بنوه و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب و جميع بني هاشم و قالوا إن الزبير شهر سيفه فلما جاء عمر و معه جماعة من الأنصار و غيرهم قال في جملة ما قال خذوا سيف هذا فاضربوا به الحجر و يقال إنه أخذ السيف من يد الزبير فضرب به حجرا فكسره و ساقهم كلهم بين يديه إلى أبي بكر فحملهم على بيعته و لم يتخلف إلا علي ع وحده فإنه اعتصم ببيت فاطمة ع فتحاموا إخراجه منه قسرا و قامت فاطمة ع إلى باب البيت فأسمعت من جاء يطلبه فتفرقوا و علموا أنه بمفرده لا يضر شيئا فتركوه . و قيل إنهم أخرجوه فيمن أخرج و حمل إلى أبي بكر فبايعه و قد روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري كثيرا من هذا . فأما حديث التحريق و ما جرى مجراه من الأمور الفظيعة و قول من قال إنهم أخذوا عليا ع يقاد بعمامته و الناس حوله فأمر بعيد و الشيعة تنفرد به على أن جماعة من أهل الحديث قد رووا نحوه و سنذكر ذلك .
[ 22 ]

(79/1)

و قال أبو جعفر إن الأنصار لما فاتها ما طلبت من الخلافة قالت أو قال بعضها لا نبايع إلا عليا و ذكر نحو هذا علي بن عبد الكريم المعروف بابن الأثير الموصلي في تاريخه . فأما قوله لم يكن لي معين إلا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت فقول ما زال علي ع يقوله و لقد قاله عقيب وفاة رسول الله ص قال لو وجدت أربعين ذوي عزم . ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين و ذكره كثير من أرباب السيرة . و أما الذي يقوله جمهور المحدثين و أعيانهم فإنه ع امتنع من البيعة ستة أشهر و لزم بيته فلم يبايع حتى ماتت فاطمة ع فلما ماتت بايع طوعا . و في صحيحي مسلم و البخاري كانت وجوه الناس إليه و فاطمة باقية بعد فلما ماتت فاطمة ع انصرفت وجوه الناس عنه و خرج من بيته فبايع أبا بكر و كانت مدة بقائها بعد أبيها ع ستة أشهر . و روى أبو جعفر محمد بن جرير الطبري في التاريخ عن ابن عباس رضي الله عنه قال قال لي عبد الرحمن بن عوف و قد حججنا مع عمر شهدت اليوم أمير المؤمنين بمنى و قال له رجل إني سمعت فلانا يقول لو قد مات عمر لبايعت فلانا فقال عمر إني لقائم العشية في الناس أحذرهم هؤلاء الرهط الذين يريدون أن
[ 23 ]

(79/2)

يغتصبوا الناس أمرهم قال عبد الرحمن فقلت يا أمير المؤمنين إن الموسم يجمع رعاع الناس و غوغاءهم و هم الذين يقربون من مجلسك و يغلبون عليه و أخاف أن تقول مقالة لا يعونها و لا يحفظونها فيطيروا بها و لكن أمهل حتى تقدم المدينة و تخلص بأصحاب رسول الله فتقول ما قلت متمكنا فيسمعوا مقالتك فقال و الله لأقومن بها أول مقام أقومه بالمدينة . قال ابن عباس فلما قدمناها هجرت يوم الجمعة لحديث عبد الرحمن فلما جلس عمر على المنبر حمد الله و أثنى عليه ثم قال بعد أن ذكر الرجم و حد الزناء إنه بلغني أن قائلا منكم يقول لو مات أمير المؤمنين بايعت فلانا فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك و لكن الله وقى شرها و ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر و إنه كان من خبرنا حين توفي رسول الله ص أن عليا و الزبير تخلفا عنا في بيت فاطمة و من معهما و تخلفت عنا الأنصار و اجتمع المهاجرون إلى أبي بكر فقلت له انطلق بنا إلى إخواننا من الأنصار فانطلقنا نحوهم فلقينا رجلان صالحان من الأنصار قد شهدا بدرا أحدهما عويم بن ساعدة و الثاني معن بن عدي فقالا لنا ارجعوا فاقضوا أمركم بينكم فأتينا الأنصار و هم مجتمعون في سقيفة
[ 24 ]

(79/3)

بني ساعدة و بين أظهرهم رجل مزمل فقلت من هذا قالوا سعد بن عبادة وجع فقام رجل منهم فحمد الله و أثنى عليه فقال أما بعد فنحن الأنصار و كتيبة الإسلام و أنتم يا معشر قريش رهط نبينا قد دفت إلينا دافة من قومكم فإذا أنتم تريدون أن تغصبونا الأمر . فلما سكت و كنت قد زورت في نفسي مقالة أقولها بين يدي أبي بكر فلما ذهبت أتكلم قال أبو بكر على رسلك فقام فحمد الله و أثنى عليه فما ترك شيئا كنت زورت في نفسي إلا جاء به أو بأحسن منه و قال يا معشر الأنصار إنكم لا تذكرون فضلا إلا و أنتم له أهل و إن العرب لا تعرف هذا الأمر إلا لقريش أوسط العرب دارا و نسبا و قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين و أخذ بيدي و يد أبي عبيدة بن الجراح و الله ما كرهت من كلامه غيرها إن كنت لأقدم فتضرب عنقي فيما لا يقربني إلى إثم أحب إلى من أن أؤمر على قوم فيهم أبو بكر . فلما قضى أبو بكر كلامه قام رجل من الأنصار فقال أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب منا أمير و منكم أمير
[ 25 ]

(79/4)

و ارتفعت الأصوات و اللغط فلما خفت الاختلاف قلت لأبي بكر ابسط يدك أبايعك فبسط يده فبايعته و بايعه الناس ثم نزونا على سعد بن عبادة فقال قائلهم قتلتم سعدا فقلت اقتلوه قتله الله و أنا و الله ما وجدنا أمرا هو أقوى من بيعة أبي بكر خشيت إن فارقت القوم و لم تكن بيعة أن يحدثوا بعدنا بيعة فإما أن نبايعهم على ما لا نرضى أو نخالفهم فيكون فساد . هذا حديث متفق عليه من أهل السيرة و قد وردت الروايات فيه بزيادات روى المدائني قال لما أخذ أبو بكر بيد عمر و أبي عبيدة و قال للناس قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين قال أبو عبيدة لعمر امدد يدك نبايعك فقال عمر ما لك في الإسلام فهة غيرها أ تقول هذا و أبو بكر حاضر ثم قال للناس أيكم يطيب نفسا أن يتقدم قدمين قدمهما رسول الله ص للصلاة رضيك رسول الله ص لديننا أ فلا نرضاك لدنيانا ثم مد يده إلى أبي بكر فبايعه . و هذه الرواية هي التي ذكرها قاضي القضاة رحمه الله تعالى في كتاب المغني . و قال الواقدي في روايته في حكاية كلام عمر و الله لأن أقدم فأنحر كما ينحر البعير أحب إلى من أن أتقدم على أبي بكر . و قال شيخنا أبو القاسم البلخي قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ إن الرجل الذي قال لو قد مات عمر لبايعت فلانا عمار بن ياسر قال لو قد مات عمر لبايعت عليا ع فهذا القول هو الذي هاج عمر أن خطب بما خطب به . و قال غيره من أهل الحديث إنما كان المعزوم على بيعته لو مات عمر طلحة بن عبيد الله .
[ 26 ]

(79/5)

فأما حديث الفلتة فقد كان سبق من عمر أن قال إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه . و هذا الخبر الذي ذكرناه عن ابن عباس و عبد الرحمن بن عوف فيه حديث الفلتة و لكنه منسوق على ما قاله أولا أ لا تراه يقول فلا يغرن امرأ أن يقول إن بيعة أبي بكر كانت فلتة فلقد كانت كذلك فهذا يشعر بأنه قد كان قال من قبل إن بيعة أبي بكر كانت فلتة . و قد أكثر الناس في حديث الفلتة و ذكرها شيوخنا المتكلمون فقال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى الفلتة ليست الزلة و الخطيئة بل هي البغتة و ما وقع فجأة من غير روية و لا مشاورة و استشهد بقول الشاعر
من يأمن الحدثان بعد
صبيرة القرشي ماتا
سبقت منيته المشيب
و كان ميتته افتلاتا
يعني بغتة . و قال شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى ذكر الرياشي أن العرب تسمي آخر يوم من شوال فلتة من حيث إن كل من لم يدرك ثأره فيه فاته لأنهم كانوا إذا دخلوا في الأشهر الحرم لا يطلبون الثأر و ذو القعدة من الأشهر الحرم فسموا ذلك اليوم فلتة لأنهم إذا أدركوا فيه ثأرهم فقد أدركوا ما كان يفوتهم فأراد عمر أن بيعة أبي بكر تداركها بعد أن كادت تفوت . و قوله وقى الله شرها دليل على تصويب البيعة لأن المراد بذلك أن الله تعالى دفع شر الاختلاف فيها .
[ 27 ]

(79/6)

فأما قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه فالمراد من عاد إلى أن يبايع من غير مشاورة و لا عدد يثبت صحة البيعة به و لا ضرورة داعية إلى البيعة ثم بسط يده على المسلمين يدخلهم في البيعة قهرا فاقتلوه . قال قاضي القضاة رحمه الله تعالى و هل يشك أحد في تعظيم عمر لأبي بكر و طاعته إياه و معلوم ضرورة من حال عمر إعظامه له و القول بإمامته و الرضا بالبيعة و الثناء عليه فكيف يجوز أن يترك ما يعلم ضرورة لقول محتمل ذي وجوه و تأويلات و كيف يجوز أن تحمل هذه اللفظة من عمر على الذم و التخطئة و سوء القول . و اعلم أن هذه اللفظة من عمر مناسبة للفظات كثيرة كان يقولها بمقتضى ما جبله الله تعالى عليه من غلظ الطينة و جفاء الطبيعة و لا حيلة له فيها لأنه مجبول عليها لا يستطيع تغييرها و لا ريب عندنا أنه كان يتعاطى أن يتلطف و أن يخرج ألفاظه مخارج حسنة لطيفة فينزع به الطبع الجاسي و الغريزة الغليظة إلى أمثال هذه اللفظات و لا يقصد بها سوءا و لا يريد بها ذما و لا تخطئة كما قدمنا من قبل في اللفظة التي قالها في مرض رسول الله ص و كاللفظات التي قالها عام الحديبية و غير ذلك و الله تعالى لا يجازي المكلف إلا بما نواه و لقد كانت نيته من أطهر النيات و أخلصها لله سبحانه و للمسلمين و من أنصف علم أن هذا الكلام حق و أنه يغني عن تأويل شيخنا أبي علي . و نحن من بعد نذكر ما قاله المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي لما تكلم في هذا الموضع قال أما ما ادعي من العلم الضروري برضا عمر ببيعة أبي بكر و إمامته فالمعلوم ضرورة بلا شبهة أنه كان راضيا بإمامته و ليس كل من رضي شيئا
[ 28 ]

(79/7)

كان متدينا به معتقدا لصوابه فإن كثيرا من الناس يرضون بأشياء من حيث كانت دافعة لما هو أضر منها و إن كانوا لا يرونها صوابا و لو ملكوا الاختيار لاختاروا غيرها و قد علمنا أن معاوية كان راضيا ببيعة يزيد و ولاية العهد له من بعده و لم يكن متدينا بذلك و معتقدا صحته و إنما رضي عمر ببيعة أبي بكر من حيث كانت حاجزة عن بيعة أمير المؤمنين ع و لو ملك الاختيار لكان مصير الأمر إليه أسر في نفسه و أقر لعينه و إن ادعي أن المعلوم ضرورة تدين عمر بإمامة أبي بكر و أنه أولى بالإمامة منه فهذا مدفوع أشد دفع مع أنه قد كان يبدر من عمر في وقت بعد آخر ما يدل على ما أوردناه روى الهيثم بن عدي من عبد الله بن عياش الهمداني عن سعيد بن جبير قال ذكر أبو بكر و عمر عند عبد الله بن عمر فقال رجل كانا و الله شمسي هذه الأمة و نوريها فقال ابن عمر و ما يدريك قال الرجل أ و ليس قد ائتلفا قال ابن عمر بل اختلفا لو كنتم تعلمون أشهد أني كنت عند أبي يوما و قد أمرني أن أحبس الناس عنه فاستأذن عليه عبد الرحمن بن أبي بكر فقال عمر دويبة سوء و لهو خير من أبيه فأوحشني ذلك منه فقلت يا أبت عبد الرحمن خير من أبيه فقال و من ليس بخير من أبيه لا أم لك ائذن لعبد الرحمن فدخل عليه فكلمه في الحطيئة الشاعر أن يرضى عنه و قد كان عمر حبسه في شعر قاله فقال عمر إن في الحطيئة أودا فدعني أقومه بطول حبسه فألح عليه عبد الرحمن و أبى عمر
[ 29 ]

(79/8)

فخرج عبد الرحمن فأقبل علي أبي و قال أ في غفلة أنت إلى يومك هذا عما كان من تقدم أحيمق بني تيم علي و ظلمه لي فقلت لا علم لي بما كان من ذلك قال يا بني فما عسيت أن تعلم فقلت و الله لهو أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم قال إن ذلك لكذلك على رغم أبيك و سخطه قلت يا أبت أ فلا تجلي عن فعله بموقف في الناس تبين ذلك لهم قال و كيف لي بذلك مع ما ذكرت أنه أحب إلى الناس من ضياء أبصارهم إذن يرضخ رأس أبيك بالجندل قال ابن عمر ثم تجاسر و الله فجسر فما دارت الجمعة حتى قام خطيبا في الناس فقال أيها الناس إن بيعة أبي بكر كانت فلتة وقى الله شرها فمن دعاكم إلى مثلها فاقتلوه . و روى الهيثم بن عدي عن مجالد بن سعيد قال غدوت يوما إلى الشعبي و أنا أريد أن أسأله عن شي ء بلغني عن ابن مسعود أنه كان يقوله فأتيته و هو في مسجد حيه و في المسجد قوم ينتظرونه فخرج فتعرفت إليه و قلت أصلحك الله كان ابن مسعود يقول ما كنت محدثا قوما حديثا لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة قال نعم كان ابن مسعود يقول ذلك و كان ابن عباس يقوله أيضا و كان عند ابن عباس دفائن علم يعطيها أهلها و يصرفها عن غيرهم فبينا نحن كذلك إذ أقبل رجل من الأزد فجلس إلينا فأخذنا في ذكر أبي بكر و عمر فضحك الشعبي و قال لقد كان في صدر عمر ضب على أبي بكر فقال الأزدي و الله ما رأينا و لا سمعنا برجل قط كان أسلس قيادا لرجل
[ 30 ]

(79/9)

و لا أقول فيه بالجميل من عمر في أبي بكر فأقبل على الشعبي و قال هذا مما سألت عنه ثم أقبل على الرجل و قال يا أخا الأزد فكيف تصنع بالفلتة التي وقى الله شرها أ ترى عدوا يقول في عدو يريد أن يهدم ما بنى لنفسه في الناس أكثر من قول عمر في أبي بكر فقال الرجل سبحان الله أنت تقول ذلك يا أبا عمرو فقال الشعبي أنا أقوله قاله عمر بن الخطاب على رءوس الأشهاد فلمه أو دع فنهض الرجل مغضبا و هو يهمهم في الكلام بشي ء لم أفهمه قال مجالد فقلت للشعبي ما أحسب هذا الرجل إلا سينقل عنك هذا الكلام إلى الناس و يبثه فيهم قال إذن و الله لا أحفل به و شي ء لم يحفل به عمر حين قام على رءوس الأشهاد من المهاجرين و الأنصار أحفل به أنا أذيعوه أنتم عني أيضا ما بدا لكم . و روى شريك بن عبد الله النخعي عن محمد بن عمرو بن مرة عن أبيه عن عبد الله بن سلمة عن أبي موسى الأشعري قال حججت مع عمر فلما نزلنا و عظم الناس خرجت من رحلي أريده فلقيني المغيرة بن شعبة فرافقني ثم قال أين تريد فقلت أمير المؤمنين فهل لك قال نعم فانطلقنا نريد رحل عمر فإنا لفي طريقنا إذ ذكرنا تولى عمر و قيامه بما هو فيه و حياطته على الإم و نهوضه بما قبله من ذلك ثم خرجنا إلى ذكر أبي بكر فقلت للمغيرة يا لك الخير لقد كان أبو بكر مسددا في عمر لكأنه ينظر إلى قيامه من بعده و جده و اجتهاده و غنائه في الإسلام فقال المغيرة لقد كان ذلك و إن كان قوم كرهوا ولاية عمر ليزووها عنه و ما كان لهم في ذلك من حظ فقلت له لا أبا لك و من القوم الذين كرهوا ذلك لعمر فقال المغيرة لله أنت كأنك
[ 31 ]

(79/10)

لا تعرف هذا الحي من قريش و ما خصوا به من الحسد فو الله لو كان هذا الحسد يدرك بحساب لكان لقريش تسعة أعشاره و للناس كلهم عشر فقلت مه يا مغيرة فإن قريشا بانت بفضلها على الناس فلم نزل في مثل ذلك حتى انتهينا إلى رحل عمر فلم نجده فسألنا عنه فقيل قد خرج آنفا فمضينا نقفو أثره حتى دخلنا المسجد فإذا عمر يطوف بالبيت فطفنا معه فلما فرغ دخل بيني و بين المغيرة فتوكأ على المغيرة و قال من أين جئتما فقلنا خرجنا نريدك يا أمير المؤمنين فأتينا رحلك فقيل لنا خرج إلى المسجد فاتبعناك فقال اتبعكما الخير ثم نظر المغيرة إلي و تبسم فرمقه عمر فقال مم تبسمت أيها العبد فقال من حديث كنت أنا و أبو موسى فيه آنفا في طريقنا إليك قال و ما ذاك الحديث فقصصنا عليه الخبر حتى بلغنا ذكر حسد قريش و ذكر من أراد صرف أبي بكر عن استخلاف عمر فتنفس الصعداء ثم قال ثكلتك أمك يا مغيرة و ما تسعة أعشار الحسد بل و تسعة أعشار العشر و في الناس كلهم عشر العشر بل و قريش شركاؤهم أيضا فيه و سكت مليا و هو يتهادى بيننا ثم قال أ لا أخبركما بأحسد قريش كلها قلنا بلى يا أمير المؤمنين قال و عليكما ثيابكما قلنا نعم قال و كيف بذلك و أنتما ملبسان ثيابكما قلنا يا أمير المؤمنين و ما بال الثياب قال خوف الإذاعة منها قلنا له أ تخاف الإذاعة من الثياب أنت و أنت من ملبس الثياب أخوف و ما الثياب أردت قال هو ذاك ثم انطلق و انطلقنا معه حتى انتهينا إلى رحله فخلى أيدينا من يده ثم قال لا تريما و دخل فقلت للمغيرة لا أبا لك لقد عثرنا بكلامنا معه و ما كنا فيه و ما نراه حبسنا إلا ليذاكرنا إياها قال فإنا لكذلك إذ أخرج إذنه إلينا فقال ادخلا فدخلنا فوجدناه مستلقيا على برذعة برحل فلما رآنا تمثل بقول كعب بن زهير
لا تفش سرك إلا عند ذي ثقة
أولى و أفضل ما استودعت أسرارا
[ 32 ]
صدرا رحيبا و قلبا واسعا قمنا
ألا تخاف متى أودعت إظهارا

(79/11)

فعلمنا أنه يريد أن نضمن له كتمان حديثه فقلت أنا له يا أمير المؤمنين الزمنا و خصنا و صلنا قال بما ذا يا أخا الأشعرين فقلت بإفشاء سرك و أن تشركنا في همتك فنعم المستشاران نحن لك قال إنكما كذلك فاسألا عما بدا لكما ثم قام إلى الباب ليعلقه فإذا الآذن الذي أذن لنا عليه في الحجرة فقال امض عنا لا أم لك فخرج و أغلق الباب خلفه ثم أقبل علينا فجلس معنا و قال سلا تخبرا قلنا نريد أن يخبرنا أمير المؤمنين بأحسد قريش الذي لم يأمن ثيابنا على ذكره لنا فقال سألتما عن معضلة و سأخبركما فليكن عندكما في ذمة منيعة و حرز ما بقيت فإذا مت فشأنكما و ما شئتما من إظهار أو كتمان قلنا فإن لك عندنا ذلك قال أبو موسى و أنا أقول في نفسي ما يريد إلا الذين كرهوا استخلاف أبي بكر له كطلحة و غيره فإنهم قالوا لأبي بكر أ تستخلف علينا فظا غليظا و إذا هو يذهب إلى غير ما في نفسي فعاد إلى التنفس ثم قال من تريانه قلنا و الله ما ندري إلا ظنا قال و ما تظنان قلنا عساك تريد القوم الذين أرادوا أبا بكر على صرف هذا الأمر عنك قال كلا و الله بل كان أبو بكر أعق و هو الذي سألتما عنه كان و الله أحسد قريش كلها ثم أطرق طويلا فنظر المغيرة إلي و نظرت إليه و أطرقنا مليا لإطراقه و طال السكوت منا و منه حتى ظننا أنه قد ندم على ما بدا منه ثم قال وا لهفاه على ضئيل بني تيم بن مرة لقد تقدمني ظالما و خرج إلي منها آثما فقال المغيرة أما تقدمه عليك يا أمير المؤمنين ظالما فقد عرفناه كيف خرج إليك منها آثما قال ذاك لأنه لم يخرج إلي منها إلا بعد يأس منها أما و الله لو كنت أطعت يزيد بن الخطاب و أصحابه لم يتلمظ من حلاوتها بشي ء أبدا و لكني قدمت و أخرت و صعدت و صوبت و نقضت و أبرمت فلم أجد إلا الإغضاء على ما نشب به منها و التلهف على نفسي و أملت إنابته و رجوعه فو الله ما فعل حتى نغر بها بشما
[ 33 ]

(79/12)

قال المغيرة فما منعك منها يا أمير المؤمنين و قد عرضك لها يوم السقيفة بدعائك إليها ثم أنت الآن تنقم و تتأسف قال ثكلتك أمك يا مغيرة إني كنت لأعدك من دهاة العرب كأنك كنت غائبا عما هناك إن الرجل ماكرني فماكرته و ألفاني أحذر من قطاة إنه لما رأى شغف الناس به و إقبالهم بوجوههم عليه أيقن أنهم لا يريدون به بدلا فأحب لما رأى من حرص الناس عليه و ميلهم إليه أن يعلم ما عندي و هل تنازعني نفسي إليها و أحب أن يبلوني بإطماعي فيها و التعريض لي بها و قد علم و علمت لو قبلت ما عرضه علي لم يجب الناس إلى ذلك فألفاني قائما على أخمصي مستوفزا حذرا و لو أجبته إلى قبولها لم يسلم الناس إلي ذلك و اختبأها ضغنا علي في قلبه و لم آمن غائلته و لو بعد حين مع ما بدا لي من كراهة الناس لي أ ما سمعت نداءهم من كل ناحية عند عرضها علي لا نريد سواك يا أبا بكر أنت لها فرددتها إليه عند ذلك فلقد رأيته التمع وجهه لذلك سرورا و لقد عاتبني مرة على كلام بلغه عني و ذلك لما قدم عليه بالأشعث أسيرا فمن عليه و أطلقه و زوجه أخته أم فروة فقلت للأشعث و هو قاعد بين يديه يا عدو الله أ كفرت بعد إسلامك و ارتددت ناكصا على عقبيك فنظر إلي نظرا علمت أنه يريد أن يكلمني بكلام في نفسه ثم لقيني بعد ذلك في سكك المدينة فقال لي أنت صاحب الكلام يا ابن الخطاب فقلت نعم يا عدو الله و لك عندي شر من ذلك فقال بئس الجزاء هذا لي منك قلت و علام تريد مني حسن الجزاء قال لأنفتي لك من اتباع هذا الرجل و الله ما جرأني على الخلاف عليه إلا تقدمه عليك و تخلفك عنها و لو كنت صاحبها لما رأيت مني خلافا عليك قلت لقد كان ذلك فما تأمر الآن قال إنه ليس بوقت أمر بل وقت صبر و مضى و مضيت و لقي الأشعث الزبرقان بن بدر فذكر له ما جرى بيني و بينه فنقل ذلك إلى أبي بكر فأرسل إلي بعتاب مؤلم فأرسلت إليه أما و الله
[ 34 ]

(79/13)

لتكفن أو لأقولن كلمة بالغة بي و بك في الناس تحملها الركبان حيث ساروا و إن شئت استدمنا ما نحن فيه عفوا فقال بل نستديمه و إنها لصائرة إليك بعد أيام فظننت أنه لا يأتي عليه جمعة حتى يردها علي فتغافل و الله ما ذاكرني بعد ذلك حرفا حتى هلك . و لقد مد في أمدها عاضا على نواجذه حتى حضره الموت و أيس منها فكان منه ما رأيتما فاكتما ما قلت لكما عن الناس كافة و عن بني هاشم خاصة و ليكن منكما بحيث أمرتكما قوما إذا شئتما على بركة الله فقمنا و نحن نعجب من قوله فو الله ما أفشينا سره حتى هلك . قال المرتضى و ليس في طعن عمر على أبي بكر ما يؤدي إلى فساد خلافته إذ له أن يثبت إمامة نفسه بالإجماع لا بنص أبي بكر عليه و أما الفلتة فإنها و إن كانت محتملة للبغتة كما قاله أبو علي رحمه الله تعالى إلا أن قوله وقى الله شرها يخصصها بأن مخرجها مخرج الذم و كذلك قوله فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه و قوله المراد وقى الله شر الاختلاف فيها عدول عن الظاهر لأن الشر في الكلام مضاف إليها دون غيرها و أبعد من هذا التأويل قوله إن المراد من عاد إلى مثلها من غير ضرورة و أكره المسلمين عليها فاقتلوه لأن ما جرى هذا المجرى لا يكون مثلا لبيعة أبي بكر عندهم لأن كل ذلك ما جرى فيها على مذاهبهم و قد كان يجب على هذا أن يقول فمن عاد إلى خلافها فاقتلوه . و ليس له أن يقول إنما أراد بالمثل وجها واحدا و هو وقوعها من غير مشاورة لأن ذلك إنما تم في أبي بكر خاصة بظهور أمره و اشتهار فضله و لأنهم بادروا إلى العقد خوفا من الفتنة و ذلك لأنه غير منكر أن يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و اشتهار أمره و خوف الفتنة ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق قتلا و لا ذما على أن قوله مثلها يقتضي وقوعها على الوجه الذي وقعت عليه فكيف يكون ما وقع من غير مشاورة لضرورة داعية و أسباب موجبة مثلا لما وقع بلا مشاورة و من غير ضرورة و لا أسباب و الذي رواه عن أهل اللغة
[ 35 ]

(79/14)

من أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة من حيث إن من لم يدرك فيه الثأر فإنه قول لا نعرفه و الذي نعرفه أنهم يسمون الليلة التي ينقضي بها آخر الأشهر الحرم و يتم فلتة و هي آخر ليلة من ليالي الشهر لأنه ربما رأى الهلال قوم لتسع و عشرين و لم يبصره الباقون فيغير هؤلاء على أولئك و هم غارون فلهذا سميت تلك الليلة فلتة على أنا قد بينا أن مجموع الكلام يقتضي ما ذكرناه من المعنى لو سلم له ما رواه عن أهل اللغة في احتمال هذه اللفظة . قال و قد ذكر صاحب كتاب العين أن الفلتة الأمر الذي يقع على غير إحكام فقد صح أنها موضوعة في اللغة لهذا و إن جاز ألا تختص به بل تكون لفظة مشتركة . و بعد فلو كان عمر لم يرد بقوله توهين بيعة أبي بكر بل أراد ما ظنه المخالفون لكان ذلك عائدا عليه بالنقص لأنه وضع كلامه في غير موضعه و أراد شيئا فعبر عن خلافه فليس يخرج هذا الخبر من أن يكون طعنا على أبي بكر إلا بأن يكون طعنا على عمر . و اعلم أنه لا يبعد أن يقال إن الرضا و السخط و الحب و البغض و ما شاكل ذلك من الأخلاق النفسانية و إن كانت أمورا باطنة فإنها قد تعلم و يضطر الحاضرون إلى تحصيلها بقرائن أحوال تفيدهم العلم الضروري كما يعلم خوف الخائف و سرور المبتهج و قد يكون الإنسان عاشقا لآخر فيعلم المخالطون لهما ضرورة أنه يعشقه لما يشاهدونه من قرائن الأحوال و كذلك يعلم من قرائن أحوال العابد المجتهد في العبادة و صوم الهواجر و ملازمة الأوراد و سهر الليل أنه يتدين بذلك فغير منكر أن يقول قاضي القضاة رحمه الله
[ 36 ]

(79/15)

تعالى إن المعلوم ضرورة من حال عمر تعظيم أبي بكر و رضاه بخلافته و تدينه بذلك فالذي اعترضه رحمه الله تعالى به غير وارد عليه و أما الأخبار التي رواها عن عمر فأخبار غريبة ما رأيناها في الكتب المدونة و ما وقفنا عليها إلا من كتاب المرتضى و كتاب آخر يعرف بكتاب المسترشد لمحمد بن جرير الطبري و ليس هو محمد بن جرير صاحب التاريخ بل هو من رجال الشيعة و أظن أن أمه من بني جرير من مدينة آمل طبرستان و بنو جرير الآمليون شيعة مستهترون بالتشيع فنسب إلى أخواله و يدل على ذلك شعر مروي له و هو
بآمل مولدي و بنو جرير
فأخوالي و يحكي المرء خاله
فمن يك رافضيا عن أبيه
فإني رافضي عن كلاله
و أنت تعلم حال الأخبار الغريبة التي لا توجد في الكتب المدونة كيف هي فأما إنكاره ما ذكره شيخنا أبو علي رحمه الله تعالى من أن الفلتة هي آخر يوم من شوال و قوله إنا لا نعرفه فليس الأمر كذلك بل هو تفسير صحيح ذكره الجوهري في كتاب الصحاح قال الفلتة آخر ليلة من كل شهر و يقال هي آخر يوم من الشهر الذي بعده الشهر الحرام و هذا يدل على أن آخر يوم من شوال يسمى فلتة و كذلك آخر يوم من جمادى الآخرة و إنما التفسير الذي ذكره المرتضى غير معروف عند أهل اللغة . و أما ما ذكره من إفساد حمل الفلتة في الخبر على هذه الوجوه المتأولة فجيد إلا أن الإنصاف أن عمر لم يخرج الكلام مخرج الذم لأمر أبي بكر و إنما أراد باللفظة محض حقيقتها في اللغة ذكر صاحب الصحاح أن الفلتة الأمر الذي يعمل فجأة من
[ 37 ]

(79/16)

غير تردد و لا تدبر و هكذا كانت بيعة أبي بكر لأن الأمر لم يكن فيها شورى بين المسلمين و إنما وقعت بغتة لم تمحص فيها الآراء و لم يتناظر فيها الرجال و كانت كالشي ء المستلب المنتهب و كان عمر يخاف أن يموت عن غير وصية أو يقتل قتلا فيبايع أحد من المسلمين بغتة كبيعة أبي بكر فخطب بما خطب به و قال معتذرا إلا أنه ليس فيكم من تقطع إليه الأعناق كأبي بكر . و أيضا قول المرتضى قد يتفق من ظهور فضل غير أبي بكر و خوف الفتنة مثل ما اتفق لأبي بكر فلا يستحق القتل فإن لقائل أن يقول إن عمر لم يخاطب بهذا إلا أهل عصره و كان هو رحمه الله يذهب إلى أنه ليس فيهم كأبي بكر و لا من يحتمل له أن يبايع فلتة كما احتمل ذلك لأبي بكر فإن اتفق أن يكون في عصر آخر بعد عصره من يظهر فضله و يكون في زمانه كأبي بكر في زمانه فهو غير داخل في نهي عمر و تحريمه . و اعلم أن الشيعة لم تسلم لعمر أن بيعة أبي بكر كانت فلتة قال محمد بن هانئ المغربي
و لكن أمرا كان أبرم بينهم
و إن قال قوم فلتة غير مبرم
و قال آخر
زعموها فلتة فاجئة
لا و رب البيت و الركن المشيد
إنما كانت أمورا نسجت
بينهم أسبابها نسج البرود
و روى أبو جعفر أيضا في التاريخ أن رسول الله ص لما قبض اجتمعت الأنصار في سقيفة بني ساعدة و أخرجوا سعد بن عبادة ليولوه الخلافة و كان
[ 38 ]

(79/17)

مريضا فخطبهم و دعاهم إلى إعطائه الرئاسة و الخلافة فأجابوه ثم ترادوا الكلام فقالوا فإن أبى المهاجرون و قالوا نحن أولياؤه و عترته فقال قوم من الأنصار نقول منا أمير و منكم أمير فقال سعد فهذا أول الوهن و سمع عمر الخبر فأتى منزل رسول الله ص و فيه أبو بكر فأرسل إليه أن اخرج إلي فأرسل أني مشغول فأرسل إليه عمر أن اخرج فقد حدث أمر لا بد أن تحضره فخرج فأعلمه الخبر فمضيا مسرعين نحوهم و معهما أبو عبيدة فتكلم أبو بكر فذكر قرب المهاجرين من رسول الله ص و أنهم أولياؤه و عترته ثم قال نحن الأمراء و أنتم الوزراء لا نفتات عليكم بمشورة و لا نقضي دونكم الأمور . فقام الحباب بن المنذر بن الجموح فقال يا معشر الأنصار املكوا عليكم أمركم فإن الناس في ظلكم و لن يجترئ مجترئ على خلافكم و لا يصدر أحد إلا عن رأيكم أنتم أهل العزة و المنعة و أولو العدد و الكثرة و ذوو البأس و النجدة و إنما ينظر الناس ما تصنعون فلا تختلفوا فتفسد عليكم أموركم فإن أبى هؤلاء إلا ما سمعتم فمنا أمير و منهم أمير . فقال عمر هيهات لا يجتمع سيفان في غمد و الله لا ترضى العرب أن تؤمركم و نبيها من غيركم و لا تمتنع العرب أن تولي أمرها من كانت النبوة منهم من ينازعنا سلطان محمد و نحن أولياؤه و عشيرته . فقال الحباب بن المنذر يا معشر الأنصار املكوا أيديكم و لا تسمعوا مقالة هذا و أصحابه فيذهبوا بنصيبكم من هذا الأمر فإن أبوا عليكم فأجلوهم من هذه البلاد فأنتم أحق بهذا الأمر منهم فإنه بأسيافكم دان الناس بهذا الدين أنا جذيلها المحكك و عذيقها المرجب
[ 39 ]

(79/18)

أنا أبو شبل في عريسة الأسد و الله إن شئتم لنعيدنها جذعة . فقال عمر إذن يقتلك الله قال بل إياك يقتل . فقال أبو عبيدة يا معشر الأنصار إنكم أول من نصر و آزر فلا تكونوا أول من بدل و غير . فقام بشير بن سعد والد النعمان بن بشير فقال يا معشر الأنصار ألا إن محمدا من قريش و قومه أولى به و ايم الله لا يراني الله أنازعهم هذا الأمر . فقال أبو بكر هذا عمر و أبو عبيدة بايعوا أيهما شئتم فقالا و الله لا نتولى هذا الأمر عليك و أنت أفضل المهاجرين و خليفة رسول الله ص في الصلاة و هي أفضل الدين ابسط يدك فلما بسط يده ليبايعاه سبقهما إليه بشير بن سعد فبايعه فناداه الحباب بن المنذر يا بشير عققت عقاق أ نفست على ابن عمك الإمارة . فقال أسيد بن حضير رئيس الأوس لأصحابه و الله لئن لم تبايعوا ليكونن للخزرج عليكم الفضيلة أبدا فقاموا فبايعوا أبا بكر . فانكسر على سعد بن عبادة و الخزرج ما اجتمعوا عليه و أقبل الناس يبايعون أبا بكر من كل جانب ثم حمل سعد بن عبادة إلى داره فبقي أياما و أرسل إليه أبو بكر ليبايع فقال لا و الله حتى أرميكم بما في كنانتي و أخضب سنان رمحي و أضرب بسيفي ما أطاعني و أقاتلكم بأهل بيتي و من تبعني و لو اجتمع معكم الجن و الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي . فقال عمر لا تدعه حتى يبايع فقال بشير بن سعد إنه قد لج و ليس بمبايع لكم
[ 40 ]

(79/19)

حتى يقتل و ليس بمقتول حتى يقتل معه أهله و طائفة من عشيرته و لا يضركم تركه إنما هو رجل واحد فتركوه . و جاءت أسلم فبايعت فقوي بهم جانب أبي بكر و بايعه الناس . و في كتب غريب الحديث في تتمة كلام عمر فأيما رجل بايع رجلا بغير مشورة من الناس فلا يؤمر واحد منهما تغرة أن يقتلا . قالوا غرر تغريرا و تغرة كما قالوا حلل تحليلا و تحلة و علل تعليلا و تعلة و انتصب تغرة هاهنا لأنه مفعول له و معنى الكلام أنه إذا بايع واحد لآخر بغتة عن غير شورى فلا يؤمر واحد منهما لأنهما قد غررا بأنفسهما تغرة و عرضاهما لأن تقتلا . و روى جميع أصحاب السيرة أن رسول الله ص لما توفي كان أبو بكر في منزله بالسنح فقال عمر بن الخطاب فقال ما مات رسول الله ص و لا يموت حتى يظهر دينه على الدين كله و ليرجعن فليقطعن أيدي رجال و أرجلهم ممن أرجف بموته لا أسمع رجلا يقول مات رسول الله إلا ضربته بسيفي فجاء أبو بكر و كشف عن وجه رسول الله ص و قال بأبي و أمي طبت حيا و ميتا و الله لا يذيقك الله الموتتين أبدا ثم خرج و الناس حول عمر و هو يقول لهم إنه لم يمت و يحلف فقال له أيها الحالف على رسلك ثم قال من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات و من كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت قال الله تعالى إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ و قال أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ اِنْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ قال عمر فو الله
[ 41 ]

(79/20)

ما ملكت نفسي حيث سمعتها أن سقطت إلى الأرض و علمت أن رسول الله ص قد مات و قد تكلمت الشيعة في هذا الموضع و قالوا إنه بلغ من قلة علمه أنه لم يعلم أن الموت يجوز على رسول الله ص و أنه أسوة الأنبياء في ذلك و قال لما تلا أبو بكر الآيات أيقنت الآن بوفاته كأني لم أسمع هذه الآية فلو كان يحفظ القرآن أو يتفكر فيه ما قال ذلك و من هذه حاله لا يجوز أن يكون إماما . و أجاب قاضي القضاة رحمه الله تعالى في المغني عن هذا فقال إن عمر لم يمنع من جواز موته ع و لا نفى كونه ممكنا و لكنه تأول في ذلك قوله تعالى هُوَ اَلَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ اَلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى اَلدِّينِ كُلِّهِ و قال كيف يموت و لم يظهر ص على الدين كله فقال أبو بكر إذا ظهر دينه فقد ظهر هو و سيظهر دينه بعد وفاته . فحمل عمر قوله تعالى أَ فَإِنْ ماتَ على تأخر الموت لا على نفيه بالكلية قال و لا يجب فيمن ذهل عن بعض أحكام القرآن ألا يحفظ القرآن لأن الأمر لو كان كذلك لوجب ألا يحفظ القرآن إلا من عرف جميع أحكامه على أن حفظ جميع القرآن غير واجب و لا يقدح الإخلال به في الفضل . و اعترض المرتضى رحمه الله تعالى في كتاب الشافي هذا الكلام فقال لا يخلو خلاف عمر في وفاة رسول الله ص من أن يكون على سبيل الإنكار لموته على كل حال و الاعتقاد أن الموت لا يجوز عليه على كل وجه أو يكون منكرا لموته في
[ 42 ]

(79/21)

تلك الحال من حيث لم يظهر على الدين كله فإن كان الأول فهو مما لا يجوز خلاف عاقل فيه و العلم بجواز الموت على جميع البشر ضروري و ليس يحتاج في حصول هذا العلم إلى تلاوة الآيات التي تلاها أبو بكر و إن كان الثاني فأول ما فيه أن هذا الاختلاف لا يليق بما احتج به أبو بكر عليه من قوله إِنَّكَ مَيِّتٌ لأن عمر لم ينكر على هذا الوجه جواز الموت عليه و صحته و إنما خالف في وقته فكان يجب أن يقول لأبي بكر و أي حجة في هذه الآيات علي فإني لم أمنع جواز موته و إنما منعت وقوع موته الآن و جوزته في المستقبل و الآيات إنما تدل على جواز الموت فقط لا على تخصيصه بحال معينة . و بعد فكيف دخلت هذه الشبهة البعيدة على عمر من بين سائر الخلق و من أين زعم أنه سيعود فيقطع أيدي رجال و أرجلهم و كيف لم يحصل له من اليقين لما رأى من الواعية و كآبة الخلق و إغلاق الباب و صراخ النساء ما يدفع به ذلك الوهم و الشبهة البعيدة فلم يحتج إلى موقف . و بعد فيجب إن كانت هذه شبهته أن يقول في مرض النبي ص و قد رأى جزع أهله و خوفهم عليه الموت و قول أسامة صاحب الجيش لم أكن لأرحل و أنت هكذا و أسأل عنك الركب يا هؤلاء لا تخافوا و لا تجزعوا و لا تخف أنت يا أسامة فإن رسول الله ص لا يموت الآن لأنه لم يظهر على الدين كله . و بعد فليس هذا من أحكام الكتاب التي يعذر من لا يعرفها على ما ظن المعتذر له . و نحن نقول إن عمر كان أجل قدرا من أن يعتقد ما ظهر عنه في هذه الواقعة
[ 43 ]

(79/22)

و لكنه لما علم أن رسول الله ص قد مات خاف من وقوع فتنة في الإمامة و تقلب أقوام عليها إما من الأنصار أو غيرهم و خاف أيضا من حدوث ردة و رجوع عن الإسلام فإنه كان ضعيفا بعد لم يتمكن و خاف من ترات تشن و دماء تراق فإن أكثر العرب كان موتورا في حياة رسول الله ص لقتل من قتل أصحابه منهم و في مثل ذلك الحال تنتهز الفرصة و تهتبل الغرة فاقتضت المصلحة عنده تسكين الناس بأن أظهر ما أظهره من كون رسول الله ص لم يمت و أوقع تلك الشبهة في قلوبهم فكسر بها شرة كثير منهم و ظنوها حقا فثناهم بذلك عن حادث يحدثونه تخيلا منهم أن رسول الله ص ما مات و إنما غاب كما غاب موسى عن قومه و هكذا كان عمر يقول لهم إنه قد غاب عنكم كما غاب موسى عن قومه و ليعودن فليقطعن أيدي قوم أرجفوا بموته . و مثل هذا الكلام يقع في الوهم فيصد عن كثير من العزم أ لا ترى أن الملك إذا مات في مدينة وقع فيها في أكثر الأمر نهب و فساد و تحريق و كل من في نفسه حقد على آخر بلغ منه غرضه إما بقتل أو جرح أو نهب مال إلى أن تتمهد قاعدة الملك الذي يلي بعده فإذا كان في المدينة وزير حازم الرأي كتم موت الملك و سجن قوما ممن أرجف نداء بموته و أقام فيهم السياسة و أشاع أن الملك حي و أن أوامره و كتبه نافذة و لا يزال يلزم ذلك الناموس إلى أن يمهد قاعدة الملك للوالي بعده و كذلك عمر أظهر ما أظهر حراسة للدين و الدولة إلى أن جاء أبو بكر و كان غائبا بالسنح و هو منزل بعيد عن المدينة فلما اجتمع بأبي بكر قوي به جأشه و اشتد به أزره و عظم طاعة الناس له و ميلهم إليه فسكت حينئذ عن تلك الدعوى التي كان ادعاها لأنه قد أمن بحضور أبي بكر من خطب يحدث أو فساد يتجدد و كان أبو بكر محببا إلى الناس لا سيما المهاجرين .
[ 44 ]

(79/23)

و يجوز عند الشيعة و عند أصحابنا أيضا أن يقول الإنسان كلاما ظاهر الكذب على جهة المعاريض فلا وصمة على عمر إذا كان حلف أن رسول الله ص لم يمت و لا وصمة عليه في قوله بعد حضور أبي بكر و تلاوة ما تلا كأني لم أسمعها أو قد تيقنت الآن وفاته ص لأنه أراد بهذا القول الأخير تشييد القول الأول و كان هو الصواب و كان من سيئ الرأي و قبيحه أن يقول إنما قلته تسكينا لكم و لم أقله عن اعتقاد فالذي بدا به حسن و صواب و الذي ختم به أحسن و أصوب . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري في كتاب السقيفة عن عمر بن شبة عن محمد بن منصور عن جعفر بن سليمان عن مالك بن دينار قال كان النبي ص قد بعث أبا سفيان ساعيا فرجع من سعايته و قد مات رسول الله ص فلقيه قوم فسألهم فقالوا مات رسول الله ص فقال من ولي بعده قيل أبو بكر قال أبو فصيل قالوا نعم قال فما فعل المستضعفان علي و العباس أما و الذي نفسي بيده لأرفعن لهما من أعضادهما . قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و ذكر الراوي و هو جعفر بن سليمان أن أبا سفيان قال شيئا آخر لم تحفظه الرواة فلما قدم المدينة قال إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم قال فكلم عمر أبا بكر فقال إن أبا سفيان قد قدم و أنا لا نأمن شره فدع له ما في يده فتركه فرضي . و روى أحمد بن عبد العزيز أن أبا سفيان قال لما بويع عثمان كان هذا الأمر في تيم و أنى لتيم هذا الأمر ثم صار إلى عدي فأبعد و أبعد ثم رجعت إلى منازلها و استقر الأمر قراره فتلقفوها تلقف الكرة .
[ 45 ]

(79/24)

قال أحمد بن عبد العزيز و حدثني المغيرة بن محمد المهلبي قال ذاكرت إسماعيل بن إسحاق القاضي بهذا الحديث و أن أبا سفيان قال لعثمان بأبي أنت أنفق و لا تكن كأبي حجر و تداولوها يا بني أمية تداول الولدان الكرة فو الله ما من جنة و لا نار و كان الزبير حاضرا فقال عثمان لأبي سفيان اعزب فقال يا بني أ هاهنا أحد قال الزبير نعم و الله لا كتمتها عليك قال فقال إسماعيل هذا باطل قلت و كيف ذلك قال ما أنكر هذا من أبي سفيان و لكن أنكر أن يكون سمعه عثمان و لم يضرب عنقه .
و روى أحمد بن عبد العزيز قال جاء أبو سفيان إلى علي ع فقال وليتم على هذا الأمر أذل بيت في قريش أ ما و الله لئن شئت لأملأنها على أبي فصيل خيلا و رجلا فقال علي ع طالما غششت الإسلام و أهله فما ضررتهم شيئا لا حاجة لنا إلى خيلك و رجلك لو لا أنا رأينا أبا بكر لها أهلا لما تركناه و روى أحمد بن عبد العزيز قال لما بويع لأبي بكر كان الزبير و المقداد يختلفان في جماعة من الناس إلى علي و هو في بيت فاطمة فيتشاورون و يتراجعون أمورهم فخرج عمر حتى دخل على فاطمة ع و قال يا بنت رسول الله ما من أحد من الخلق أحب إلينا من أبيك و ما من أحد أحب إلينا منك بعد أبيك و ايم الله ما ذاك بمانعي إن اجتمع هؤلاء النفر عندك أن آمر بتحريق البيت عليهم فلما خرج عمر جاءوها فقالت تعلمون أن عمر جاءني و حلف لي بالله إن عدتم ليحرقن عليكم البيت و ايم الله ليمضين لما حلف له فانصرفوا عنا راشدين فلم يرجعوا إلى بيتها و ذهبوا فبايعوا لأبي بكر . و روى أحمد و روى المبرد في الكامل صدر هذا الخبر عن عبد الرحمن
[ 46 ]

(79/25)

بن عوف قال دخلت على أبي بكر أعوده في مرضه الذي مات فيه فسلمت و سألته كيف به فاستوى جالسا فقلت لقد أصبحت بحمد الله بارئا فقال أما إني على ما ترى لوجع و جعلتم لي معشر المهاجرين شغلا مع وجعي و جعلت لكم عهدا مني من بعدي و اخترت لكم خيركم في نفسي فكلكم ورم لذلك أنفه رجاء أن يكون الأمر له و رأيتم الدنيا قد أقبلت و الله لتتخذن ستور الحرير و نضائد الديباج و تألمون ضجائع الصوف الأذربي كأن أحدكم على حسك السعدان و الله لأن يقدم أحدكم فتضرب عنقه في غير حد خير له من أن يسبح في غمرة الدنيا و إنكم غدا لأول ضال بالناس يجورون عن الطريق يمينا و شمالا يا هادي الطريق جرت إنما هو البجر أو الفجر فقال له عبد الرحمن لا تكثر على ما بك فيهيضك و الله ما أردت إلا خيرا و إن صاحبك لذو خير و ما الناس إلا رجلان رجل رأى ما رأيت فلا خلاف عليك منه و رجل رأى غير ذلك و إنما يشير عليك برأيه فسكن و سكت هنيهة فقال عبد الرحمن ما أرى بك بأسا و الحمد لله فلا تأس على الدنيا فو الله إن علمناك إلا صالحا مصلحا فقال أما إني لا آسى إلا على ثلاث فعلتهن وددت أني لم أفعلن و ثلاث لم أفعلهن وددت أني فعلتهن و ثلاث وددت أني سألت رسول الله ص عنهن فأما الثلاث التي فعلتها و وددت أني لم أكن فعلتها فوددت أني لم أكن كشفت
[ 47 ]

(79/26)

عن بيت فاطمة و تركته و لو أغلق على حرب و وددت أني يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين عمر أو أبي عبيدة فكان أميرا و كنت وزيرا و وددت أني إذ أتيت بالفجاءة لم أكن أحرقته و كنت قتلته بالحديد أو أطلقته . و أما الثلاث التي تركتها و وددت أني فعلتها فوددت أني يوم أتيت بالأشعث كنت ضربت عنقه فإنه يخيل إلي أنه لا يرى شرا إلا أعان عليه و وددت أني حيث وجهت خالدا إلى أهل الردة أقمت بذي القصة فإن ظفر المسلمون و إلا كنت ردءا لهم و وددت حيث وجهت خالدا إلى الشام كنت وجهت عمر إلى العراق فأكون قد بسطت كلتا يدي اليمين و الشمال في سبيل الله . و أما الثلاث اللواتي وددت أني كنت سألت رسول الله ص عنهن فوددت أني سألته فيمن هذا الأمر فكنا لا ننازعه أهله و وددت أني كنت سألته هل للأنصار في هذا الأمر نصيب و وددت أني سألته عن ميراث العمة و ابنة الأخت فإن في نفسي منهما حاجة . و من كتاب معاوية المشهور إلى علي ع و أعهدك أمس تحمل قعيدة بيتك ليلا على حمار و يداك في يدي ابنيك الحسن و الحسين يوم بويع أبو بكر الصديق فلم تدع أحدا من أهل بدر و السوابق إلا دعوتهم إلى نفسك و مشيت إليهم بامرأتك و أدليت إليهم بابنيك و استنصرتهم على صاحب رسول الله فلم يجبك منهم إلا أربعة أو خمسة و لعمري لو كنت محقا لأجابوك و لكنك ادعيت باطلا و قلت ما لا تعرف و رمت ما لا يدرك و مهما نسيت فلا أنسى قولك لأبي سفيان لما حركك و هيجك لو وجدت أربعين ذوي عزم منهم لناهضت القوم فما يوم المسلمين منك بواحد و لا بغيك على الخلفاء بطريف و لا مستبدع .
[ 48 ]

(79/27)

و سنذكر تمام هذا الكتاب و أوله عند انتهائنا إلى كتب علي ع . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري عن أبي المنذر و هشام بن محمد بن السائب عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال كان بين العباس و علي مباعدة فلقي ابن عباس عليا فقال إن كان لك في النظر إلى عمك حاجة فأته و ما أراك تلقاه بعدها فوجم لها و قال تقدمني و استأذن فتقدمته و استأذنت له فأذن فدخل فاعتنق كل واحد منهما صاحبه و أقبل علي ع على يده و رجله يقبلهما و يقول يا عم ارض عني رضي الله عنك قال قد رضيت عنك . ثم قال يا ابن أخي قد أشرت عليك بأشياء ثلاثة فلم تقبل و رأيت في عاقبتها ما كرهت و ها أنا ذا أشير عليك برأي رابع فإن قبلته و إلا نالك ما نالك مما كان قبله قال و ما ذاك يا عم قال أشرت عليك في مرض رسول الله ص أن تسأله فإن كان الأمر فينا أعطاناه و إن كان في غيرنا أوصى بنا فقلت أخشى إن منعناه لا يعطيناه أحد بعده فمضت تلك فلما قبض رسول الله ص أتانا أبو سفيان بن حرب تلك الساعة فدعوناك إلى أن نبايعك و قلت لك ابسط يدك أبايعك و يبايعك هذا الشيخ فإنا إن بايعناك لم يختلف عليك أحد من بني عبد مناف و إذا بايعك بنو عبد مناف لم يختلف عليك أحد من قريش و إذا بايعتك قريش لم يختلف عليك أحد من العرب فقلت لنا بجهاز رسول الله ص شغل و هذا الأمر فليس نخشى عليه فلم نلبث أن سمعنا التكبير من سقيفة بني ساعدة فقلت يا عم ما هذا قلت ما دعوناك إليه فأبيت قلت سبحان الله أ و يكون هذا قلت نعم قلت أ فلا يرد قلت لك و هل رد مثل هذا قط ثم أشرت عليك حين طعن عمر فقلت لا تدخل نفسك في الشورى فإنك إن اعتزلتهم قدموك و إن ساويتهم تقدموك فدخلت معهم فكان ما رأيت
[ 49 ]

(79/28)

ثم أنا الآن أشير عليك برأي رابع فإن قبلته و إلا نالك ما نالك مما كان قبله إني أرى أن هذا الرجل يعني عثمان قد أخذ في أمور و الله لكأني بالعرب قد سارت إليه حتى ينحر في بيته كما ينحر الجمل و الله إن كان ذلك و أنت بالمدينة ألزمك الناس به و إذا كان ذلك لم تنل من الأمر شيئا إلا من بعد شر لا خير معه قال عبد الله بن عباس فلما كان يوم الجمل عرضت له و قد قتل طلحة و قد أكثر أهل الكوفة في سبه و غمصه فقال علي ع أما و الله لئن قالوا ذلك لقد كان كما قال أخو جعفي
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
إذا ما هو استغنى و يبعده الفقر
ثم قال و الله لكان عمي كان ينظر من وراء ستر رقيق و الله ما نلت من هذا الأمر شيئا إلا بعد شر لا خير معه . و روى أبو بكر أحمد بن عبد العزيز عن حباب بن يزيد عن جرير بن المغيرة أن سلمان و الزبير و الأنصار كان هواهم أن يبايعوا عليا ع بعد النبي ص فلما بويع أبو بكر قال سلمان أصبتم الخبرة و أخطأتم المعدن . قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا علي بن أبي هاشم قال حدثنا عمر بن ثابت عن حبيب بن أبي ثابت قال قال سلمان يومئذ أصبتم ذا السن منكم و أخطأتم أهل بيت نبيكم لو جعلتموها فيهم ما اختلف عليكم اثنان و لأكلتموها رغدا . قال أبو بكر و أخبرنا عمر بن شبة قال حدثني محمد بن يحيى قال حدثنا غسان
[ 50 ]
بن عبد الحميد قال لما أكثر الناس في تخلف علي ع عن بيعة أبي بكر و اشتد أبو بكر و عمر عليه في ذلك خرجت أم مسطح بن أثاثة فوقفت عند القبر و قالت
كانت أمور و أبناء و هنبثة
لو كنت شاهدها لم تكثر الخطب
إنا فقدناك فقد الأرض وابلها
و اختل قومك فاشهدهم و لا تغب

(79/29)

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز و أخبرنا أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا إبراهيم بن المنذر عن ابن وهب عن ابن لهيعة عن أبي الأسود قال غضب رجال من المهاجرين في بيعة أبي بكر بغير مشورة و غضب علي و الزبير فدخلا بيت فاطمة ع معهما السلاح فجاء عمر في عصابة منهم أسيد بن حضير و سلمة بن سلامة بن وقش و هما من بني عبد الأشهل فصاحت فاطمة ع و ناشدتهم الله فأخذوا سيفي علي و الزبير فضربوا بهما الجدار حتى كسروهما ثم أخرجهما عمر يسوقهما حتى بايعا ثم قام أبو بكر فخطب الناس و اعتذر إليهم و قال إن بيعتي كانت فلتة وقى الله شرها و خشيت الفتنة و ايم الله ما حرصت عليها يوما قط و لقد قلدت أمرا عظيما ما لي به طاقة و لا يدان و لوددت أن أقوى الناس عليه مكاني و جعل يعتذر إليهم فقبل المهاجرون عذره و قال علي و الزبير ما غضبنا إلا في المشورة و إنا لنرى أبا بكر أحق الناس بها إنه لصاحب الغار و إنا لنعرف له سنه و لقد أمره رسول الله ص بالصلاة بالناس و هو حي . قال أبو بكر و قد روي بإسناد آخر ذكره أن ثابت بن قيس بن شماس كان مع الجماعة الذين حضروا مع عمر في بيت فاطمة ع و ثابت هذا أخو بني الحارث بن الخزرج .
[ 51 ]
و روي أيضا أن محمد بن مسلمة كان معهم و أن محمدا هو الذي كسر سيف الزبير .

(79/30)

قال أبو بكر و حدثني يعقوب بن شيبة عن أحمد بن أيوب عن إبراهيم بن سعد عن ابن إسحاق عن الزهري عن عبد الله بن عباس قال خرج علي ع على الناس من عند رسول الله ص في مرضه فقال له الناس كيف أصبح رسول الله ص يا أبا حسن قال أصبح بحمد الله بارئا قال فأخذ العباس بيد علي ثم قال يا علي أنت عبد العصا بعد ثلاث أحلف لقد رأيت الموت في وجهه و إني لأعرف الموت في وجوه بني عبد المطلب فانطلق إلى رسول الله ص فاذكر له هذا الأمر إن كان فينا أعلمنا و إن كان في غيرنا أوصى بنا فقال لا أفعل و الله إن منعناه اليوم لا يؤتيناه الناس بعده قال فتوفي رسول الله ذلك اليوم . و قال أبو بكر حدثني المغيرة بن محمد المهلبي من حفظه و عمر بن شبة من كتابه بإسناد رفعه إلى أبي سعيد الخدري قال سمعت البراء بن عازب يقول لم أزل لبني هاشم محبا فلما قبض رسول الله ص تخوفت أن تتمالأ قريش على إخراج هذا الأمر عن بني هاشم فأخذني ما يأخذ الواله العجول . ثم ذكر ما قد ذكرناه نحن في أول هذا الكتاب في شرح قوله ع أما و الله لقد تقمصها فلان و زاد فيه في هذه الرواية فمكثت أكابد ما في نفسي فلما كان بليل خرجت إلى المسجد فلما صرت فيه تذكرت أني كنت أسمع همهمة رسول الله ص بالقرآن فامتنعت من مكاني فخرجت إلى الفضاء فضاء بني بياضة و أجد نفرا يتناجون فلما دنوت منهم سكتوا فانصرفت عنهم فعرفوني و ما أعرفهم فدعوني إليهم فأتيتهم فأجد المقداد بن الأسود و عبادة بن الصامت و سلمان الفارسي و أبا ذر و حذيفة و أبا الهيثم بن التيهان و إذا حذيفة يقول لهم و الله ليكونن ما أخبرتكم
[ 52 ]

(79/31)

به و الله ما كذبت و لا كذبت و إذا القوم يريدون أن يعيدوا الأمر شورى بين المهاجرين . ثم قال ائتوا أبي بن كعب فقد علم كما علمت قال فانطلقنا إلى أبي فضربنا عليه بابه حتى صار خلف الباب فقال من أنتم فكلمه المقداد فقال ما حاجتكم فقال له افتح عليك بابك فإن الأمر أعظم من أن يجرى من وراء حجاب قال ما أنا بفاتح بابي و قد عرفت ما جئتم له كأنكم أردتم النظر في هذا العقد فقلنا نعم فقال أ فيكم حذيفة فقلنا نعم قال فالقول ما قال و بالله ما أفتح عني بابي حتى يجرى على ما هي جارية و لما يكون بعدها شر منها و إلى الله المشتكى . قال و بلغ الخبر أبا بكر و عمر فأرسلا إلى أبي عبيدة و المغيرة بن شعبة فسألاهما عن الرأي فقال المغيرة أن تلقوا العباس فتجعلوا له في هذا الأمر نصيبا فيكون له و لعقبه فتقطعوا به من ناحية علي و يكون لكم حجة عند الناس على علي إذا مال معكم العباس . فانطلقوا حتى دخلوا على العباس في الليلة الثانية من وفاة رسول الله ص ثم ذكر خطبة أبي بكر و كلام عمر و ما أجابهما العباس به و قد ذكرناه فيما تقدم من هذا الكتاب في الجزء الأول و روى أبو بكر قال أخبرنا أحمد بن إسحاق بن صالح قال حدثنا عبد الله بن عمر عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد عن القاسم بن محمد قال لما توفي النبي ص اجتمعت الأنصار إلى سعد بن عبادة فأتاهم أبو بكر و عمر و أبو عبيدة فقال الحباب
[ 53 ]

(79/32)

بن المنذر منا أمير و منكم أمير إنا و الله ما ننفس هذا الأمر عليكم أيها الرهط و لكنا نخاف أن يليه بعدكم من قتلنا أبناءهم و آباءهم و إخوانهم فقال عمر بن الخطاب إذا كان ذلك قمت إن استطعت فتكلم أبو بكر فقال نحن الأمراء و أنتم الوزراء و الأمر بيننا نصفان كشق الأبلمة فبويع و كان أول من بايعه بشير بن سعد والد النعمان بن بشير . فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسم قسما بين نساء المهاجرين و الأنصار فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت ما هذا قال قسم قسمه أبو بكر للنساء قالت أ تراشونني عن ديني و لله لا أقبل منه شيئا فردته عليه . قلت قرأت هذا الخبر على أبي جعفر يحيى بن محمد العلوي الحسيني المعروف بابن أبي زيد نقيب البصرة رحمه الله تعالى في سنة عشر و ستمائة من كتاب السقيفة لأحمد بن عبد العزيز الجوهري قال لقد صدقت فراسة الحباب فإن الذي خافه وقع يوم الحرة و أخذ من الأنصار ثأر المشركين يوم بدر ثم قال لي رحمه الله تعالى و من هذا خاف أيضا رسول الله ص على ذريته و أهله فإنه كان ع قد وتر الناس و علم أنه إن مات و ترك ابنته و ولدها سوقة و رعية تحت أيدي الولاة كانوا بعرض خطر عظيم فما زال يقرر لابن عمه قاعدة الأمر بعده حفظا لدمه و دماء أهل بيته فإنهم إذا كانوا ولاة الأمر كانت دماؤهم أقرب إلى الصيانة و العصمة مما إذا كانوا سوقة تحت يد وال من غيرهم فلم يساعده القضاء و القدر و كان من الأمر ما كان ثم أفضى أمر ذريته فيما بعد إلى ما قد علمت .
[ 54 ]

(79/33)

قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز حدثني يعقوب بن شيبة بإسناد رفعه إلى طلحة بن مصرف قال قلت لهذيل بن شرحبيل إن الناس يقولون إن رسول الله ص أوصى إلى علي ع فقال أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه . قلت هذا الحديث قد خرجه الشيخان محمد بن إسماعيل البخاري و مسلم بن الحجاج القشيري في صحيحيهما عن طلحة بن مصرف قال سألت عبد الله بن أبي أوفى أوصى رسول الله ص قال لا قلت فكيف كتب على المسلمين الوصية أو كيف أمر بالوصية و لم يوص قال أوصى بكتاب الله قال طلحة ثم قال ابن أوفى ما كان أبو بكر يتأمر على وصي رسول الله ص ود أبو بكر أنه وجد من رسول الله ص عهدا فخزم أنفه بخزامه . و روى الشيخان في الصحيحين عن عائشة أنه ذكر عندها أن رسول الله ص أوصى قالت و متى أوصى و من يقول ذلك قيل إنهم يقولون قالت من يقوله لقد دعا بطست ليبول و إنه بين سحري و نحري فانخنث في صدري فمات و ما شعرت . و في الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس أنه كان يقول يوم الخميس و ما يوم الخميس ثم بكى حتى بل دمعه الحصى فقلنا يا ابن عباس و ما يوم الخميس
[ 55 ]
قال اشتد برسول الله ص وجعه فقال ائتوني بكتاب أكتبه لكم لا تضلوا بعدي أبدا فتنازعوا فقال إنه لا ينبغي عندي تنازع فقال قائل ما شأنه أ هجر استفهموه فذهبوا يعيدون عليه فقال دعوني و الذي أنا فيه خير من الذي أنتم فيه ثم أمر بثلاثة أشياء فقال أخرجوا المشركين من جزيرة العرب و أجيزوا الوفد بنحو ما كنت أجيزهم و سئل ابن عباس عن الثالثة فقال إما ألا يكون تكلم بها و إما أن يكون قالها فنسيت . و في الصحيحين أيضا خرجاه معا عن ابن عباس رحمه الله تعالى قال لما احتضر رسول الله ص و في البيت رجال منهم عمر بن الخطاب

(79/34)

قال النبي ص هلم أكتب لكم كتابا لا تضلون بعده فقال عمر إن رسول الله ص قد غلب عليه الوجع و عندكم القرآن حسبنا كتاب الله فاختلف القوم و اختصموا فمنهم من يقول قربوا إليه يكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده و منهم من يقول القول ما قاله عمر فلما أكثروا اللغو و الاختلاف عنده ع قال لهم قوموا فقاموا فكان ابن عباس يقول إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله ص و بين أن يكتب لكم ذلك الكتاب . قال أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري و حدثني أحمد بن إسحاق بن صالح قال حدثني عبد الله بن عمر بن معاذ عن ابن عون قال حدثني رجل من زريق
[ 56 ]

(79/35)

أن عمر كان يومئذ قال يعني يوم بويع أبو بكر محتجزا يهرول بين يدي أبي بكر و يقول ألا إن الناس قد بايعوا أبا بكر قال فجاء أبو بكر حتى جلس على منبر رسول الله ص فحمد الله و أثنى عليه ثم قال أما بعد فإني وليتكم و لست بخيركم و لكنه نزل القرآن و سنت السنن و علمنا فتعلمنا أن أكيس الكيس التقى و أحمق الحمق الفجور و إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ له بالحق و أضعفكم عندي القوي حتى آخذ منه الحق أيها الناس إنما أنا متبع و لست بمبتدع إذا أحسنت فأعينوني و إذا زغت فقوموني . قال أبو بكر و حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال حدثنا أحمد بن معاوية قال حدثني النضر بن شميل قال حدثنا محمد بن عمرو عن سلمة بن عبد الرحمن قال لما جلس أبو بكر على المنبر كان علي ع و الزبير و ناس من بني هاشم في بيت فاطمة فجاء عمر إليهم فقال و الذي نفسي بيده لتخرجن إلى البيعة أو لأحرقن البيت عليكم فخرج الزبير مصلتا سيفه فاعتنقه رجل من الأنصار و زياد بن لبيد فبدر السيف فصاح به أبو بكر و هو على المنبر اضرب به الحجر فدق به قال أبو عمرو بن حماس فلقد رأيت الحجر فيه تلك الضربة و يقال هذه ضربة سيف الزبير ثم قال أبو بكر دعوهم فسيأتي الله بهم قال فخرجوا إليه بعد ذلك فبايعوه . قال أبو بكر و قد روي في رواية أخرى أن سعد بن أبي وقاص كان معهم في بيت فاطمة ع و المقداد بن الأسود أيضا و أنهم اجتمعوا على أن يبايعوا عليا ع فأتاهم عمر ليحرق عليهم البيت فخرج إليه الزبير بالسيف و خرجت فاطمة ع تبكي و تصيح فنهنهت من الناس و قالوا ليس عندنا معصية و لا خلاف في خير اجتمع عليه الناس و إنما اجتمعنا لنؤلف القرآن في مصحف واحد ثم بايعوا أبا بكر فاستمر الأمر و اطمأن الناس .
[ 57 ]

(79/36)

قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال أخبرنا أبو بكر الباهلي قال حدثنا إسماعيل بن مجالد عن الشعبي قال سأل أبو بكر فقال أين الزبير فقيل عند علي و قد تقلد سيفه فقال قم يا عمر قم يا خالد بن الوليد انطلقا حتى تأتياني بهما فانطلقا فدخل عمر و قام خالد على باب البيت من خارج فقال عمر للزبير ما هذا السيف فقال نبايع عليا فاخترطه عمر فضرب به حجرا فكسره ثم أخذ بيد الزبير فأقامه ثم دفعه و قال يا خالد دونكه فأمسكه ثم قال لعلي قم فبايع لأبي بكر فتلكأ و احتبس فأخذ بيده و قال قم فأبى أن يقوم فحمله و دفعه كما دفع الزبير فأخرجه و رأت فاطمة ما صنع بهما فقامت على باب الحجرة و قالت يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله و الله لا أكلم عمر حتى ألقى الله قال فمشى إليها أبو بكر بعد ذلك و شفع لعمر و طلب إليها فرضيت عنه . قال أبو بكر و حدثنا أبو زيد قال حدثنا محمد بن حاتم قال حدثنا الحرامي قال حدثنا الحسين بن زيد عن جعفر بن محمد عن أبيه عن ابن عباس قال مر عمر بعلي و عنده ابن عباس بفناء داره فسلم فسألاه أين تريد فقال مالي بينبع قال علي أ فلا نصل جناحك و نقوم معك فقال بلى فقال لابن عباس قم معه قال فشبك أصابعه في أصابعي و مضى حتى إذا خلفنا البقيع قال يا ابن عباس أما و الله إن كان صاحبك هذا أولى الناس بالأمر بعد وفاة رسول الله إلا أنا خفناه على اثنتين قال ابن عباس فجاء بمنطق لم أجد بدا معه من مسألته عنه فقلت يا أمير المؤمنين ما هما قال خشيناه على حداثة سنه و حبه بني عبد المطلب . قال أبو بكر و حدثني أبو زيد قال حدثنا هارون بن عمر بإسناد رفعه إلى ابن عباس رحمه الله تعالى قال تفرق الناس ليلة الجابية عن عمر فسار
[ 58 ]

(79/37)

كل واحد مع إلفه ثم صادفت عمر تلك الليلة في مسيرنا فحادثته فشكا إلي تخلف علي عنه فقلت أ لم يعتذر إليك قال بلى فقلت هو ما اعتذر به قال يا ابن عباس إن أول من ريثكم عن هذا الأمر أبو بكر إن قومكم كرهوا أن يجمعوا لكم الخلافة و النبوة قلت لم ذاك يا أمير المؤمنين أ لم ننلهم خيرا قال بلى و لكنهم لو فعلوا لكنتم عليهم جحفا جحفا .
قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد قال حدثنا عبد العزيز بن الخطاب قال حدثنا علي بن هشام مرفوعا إلى عاصم بن عمرو بن قتادة قال لقي علي ع عمر فقال له علي ع أنشدك الله هل استخلفك رسول الله ص قال لا قال فكيف تصنع أنت و صاحبك قال أما صاحبي فقد مضى لسبيله و أما أنا فسأخلعها من عنقي إلى عنقك فقال جدع الله أنف من ينقذك منها لا و لكن جعلني الله علما فإذا قمت فمن خالفني ضل قال أبو بكر و أخبرنا أبو زيد عن هارون بن عمر عن محمد بن سعيد بن الفضل عن أبيه عن الحارث بن كعب عن عبد الله بن أبي أوفى الخزاعي قال كان خالد بن سعيد بن العاص من عمال رسول الله ص على اليمن فلما قبض رسول الله ص جاء المدينة و قد بايع الناس أبا بكر فاحتبس عن أبي بكر فلم يبايعه أياما و قد بايع الناس و أتى بني هاشم فقال أنتم الظهر و البطن و الشعار دون الدثار و العصا دون اللحا فإذا رضيتم رضينا و إذا سخطتم سخطنا حدثوني إن كنتم قد بايعتم هذا الرجل قالوا نعم قال على برد و رضا من جماعتكم قالوا نعم قال
[ 59 ]

(79/38)

فأنا أرضى و أبايع إذا بايعتم أما و الله يا بني هاشم إنكم الطوال الشجر الطيبو الثمر ثم إنه بايع أبا بكر و بلغت أبا بكر فلم يحفل بها و اضطغنها عليه عمر فلما ولاه أبو بكر الجند الذي استنفر إلى الشام قال له عمر أ تولي خالدا و قد حبس عليك بيعته و قال لبني هاشم ما قال و قد جاء بورق من اليمن و عبيد و حبشان و دروع و رماح ما أرى أن توليه و ما آمن خلافه فانصرف عنه أبو بكر و ولى أبا عبيدة بن الجراح و يزيد بن أبي سفيان و شرحبيل بن حسنة . و اعلم أن الآثار و الأخبار في هذا الباب كثيرة جدا و من تأملها و أنصف علم أنه لم يكن هناك نص صريح و مقطوع به لا تختلجه الشكوك و لا تتطرق إليه الاحتمالات كما تزعم الإمامية فإنهم يقولون إن الرسول ص نص على أمير المؤمنين ع نصا صريحا جليا ليس بنص يوم الغدير و لا خبر المنزلة و لا ما شابههما من الأخبار الواردة من طرق العامة و غيرها بل نص عليه بالخلافة و بإمرة المؤمنين و أمر المسلمين أن يسلموا عليه بذلك فسلموا عليه بها و صرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده و أمرهم بالسمع و الطاعة له و لا ريب أن المنصف إذا سمع ما جرى لهم بعد وفاة رسول الله ص يعلم قطعا أنه لم يكن هذا النص و لكن قد سبق إلى النفوس و العقول أنه قد كان هناك تعريض و تلويح و كناية و قول غير صريح و حكم غير مبتوت و لعله ص كان يصده عن التصريح بذلك أمر يعلمه و مصلحة يراعيها أو وقوف مع إذن الله تعالى في ذلك . فأما امتناع علي ع من البيعة حتى أخرج على الوجه الذي أخرج عليه فقد
[ 60 ]

(79/39)

ذكره المحدثون و رواه أهل السير و قد ذكرنا ما قاله الجوهري في هذا الباب و هو من رجال الحديث و من الثقات المأمونين و قد ذكر غيره من هذا النحو ما لا يحصى كثرة . فأما الأمور الشنيعة المستهجنة التي تذكرها الشيعة من إرسال قنفذ إلى بيت فاطمة ع و أنه ضربها بالسوط فصار في عضدها كالدملج و بقي أثره إلى أن ماتت و أن عمر أضغطها بين الباب و الجدار فصاحت يا أبتاه يا رسول الله و ألقت جنينا ميتا و جعل في عنق علي ع حبل يقاد به و هو يعتل و فاطمة خلفه تصرخ و تنادي بالويل و الثبور و ابناه حسن و حسين معهما يبكيان و أن عليا لما أحضر سألوه البيعة فامتنع فتهدد بالقتل فقال إذن تقتلون عبد الله و أخا رسول الله فقالوا أما عبد الله فنعم و أما أخو رسول الله فلا و أنه طعن فيهم في أوجههم بالنفاق و سطر صحيفة الغدر التي اجتمعوا عليها و بأنهم أرادوا أن ينفروا ناقة رسول الله ص ليلة العقبة فكله لا أصل له عند أصحابنا و لا يثبته أحد منهم و لا رواه أهل الحديث و لا يعرفونه و إنما هو شي ء تنفرد الشيعة بنقله : وَ مِنْهَا وَ لَمْ يُبَايِعْ حَتَّى شَرَطَ أَنْ يُؤْتِيَهُ عَلَى اَلْبَيْعَةِ ثَمَناً فَلاَ ظَفِرَتْ يَدُ اَلْبَائِعِ وَ خَزِيَتْ أَمَانَةُ اَلْمُبْتَاعِ فَخُذُوا لِلْحَرْبِ أُهْبَتَهَا وَ أَعِدُّوا لَهَا عُدَّتَهَا فَقَدْ شَبَّ لَظَاهَا وَ عَلاَ سَنَاهَا وَ اِسْتَشْعِرُوا اَلصَّبْرَ فَإِنَّهُ أَدْعَى إِلَى اَلنَّصْرِ هذا فصل من كلام يذكر فيه ع عمرو بن العاص و قوله فلا ظفرت يد البائع يعني معاوية و قوله و خزيت أمانة المبتاع يعني عمرا و خزيت أي
[ 61 ]

(79/40)

خسرت و هانت و في أكثر النسخ فلا ظفرت يد المبايع بميم المفاعلة و الظاهر ما رويناه . و في بعض النسخ فإنه أحزم للنصر من حزمت الشي ء إذا شددته كأنه يشد النصر و يوثقه و الرواية التي ذكرناها أحسن . و الأهبة العدة و شب لظاها استعارة و أصله صعود طرف النار الأعلى و السنا بالقصر الضوء و استشعروا الصبر اتخذوه شعارا و الشعار ما يلي الجسد في الثياب و هو ألزم الثياب للجسد يقول لازموا الصبر كما يلزم الإنسان ثوبه الذي يلي جلده لا بد له منه و قد يستغني عن غيره من الثياب

(79/41)

قدوم عمرو بن العاص على معاوية
لما نزل علي ع الكوفة بعد فراغه من أمر البصرة كتب إلى معاوية كتابا يدعوه إلى البيعة أرسل فيه جرير بن عبد الله البجلي فقدم عليه به الشام فقرأه و اغتم بما فيه و ذهبت به أفكاره كل مذهب و طاول جريرا بالجواب عن الكتاب حتى كلم قوما من أهل الشام في الطلب بدم عثمان فأجابوه و وثقوا له و أحب الزيادة في الاستظهار فاستشار أخاه عتبة بن أبي سفيان فقال له استعن بعمرو بن العاص فإنه من قد علمت في دهائه و رأيه و قد اعتزل عثمان في حياته و هو لأمرك أشد اعتزالا إلا أن يثمن له دينه فسيبيعك فإنه صاحب دنيا . فكتب إليه معاوية أما بعد فإنه كان من أمر علي و طلحة و الزبير ما قد بلغك و قد سقط إلينا مروان بن الحكم في نفر من أهل البصرة و قدم علينا جرير بن عبد الله في بيعة علي و قد حبست نفسي عليك فأقبل أذاكرك أمورا لا تعدم صلاح مغبتها إن شاء الله
[ 62 ]
فلما قدم الكتاب على عمرو استشار ابنيه عبد الله بن عمرو و محمد بن عمرو فقال لهما ما تريان فقال عبد الله أرى أن رسول الله ص قبض و هو عنك راض و الخليفتان من بعده و قتل عثمان و أنت عنه غائب فقر في منزلك فلست مجعولا خليفة و لا تزيد على أن تكون حاشية لمعاوية على دنيا قليلة أوشكتما أن تهلكا فتستويا في عقابها و قال محمد أرى أنك شيخ قريش و صاحب أمرها و أن تصرم هذا الأمر و أنت فيه غافل تصاغر أمرك فالحق بجماعة أهل الشام و كن يدا من أيديها طالبا بدم عثمان فإنه سيقوم بذلك بنو أمية . فقال عمرو أما أنت يا عبد الله فأمرتني بما هو خير لي في ديني و أنت يا محمد فأمرتني بما هو خير لي في دنياي و أنا ناظر فلما جنه الليل رفع صوته و أهله يسمعون فقال
تطاول ليلي بالهموم الطوارق
و خوف التي تجلو وجوه العوائق
و إن ابن هند سألني أن أزوره
و تلك التي فيها بنات البوائق
أتاه جرير من علي بخطة
أمرت عليه العيش ذات مضايق
فإن نال مني ما يؤمل رده

(80/1)

و إن لم ينله ذل ذل المطابق
فو الله ما أدري و ما كنت هكذا
أكون و مهما قادني فهو سابقي
أخادعه إن الخداع دنية
أم أعطيه من نفسي نصيحة وامق
[ 63 ]
أم أقعد في بيتي و في ذاك راحة
لشيخ يخاف الموت في كل شارق
و قد قال عبد الله قولا تعلقت
به النفس إن لم تقتطعني عوائقي
و خالفه فيه أخوه محمد
و إني لصلب العود عند الحقائق
فقال عبد الله رحل الشيخ و دعا عمرو غلامه وردان و كان داهيا ماردا فقال ارحل يا وردان ثم قال احطط يا وردان ثم قال ارحل يا وردان احطط يا وردان فقال له وردان خلطت أبا عبد الله أما إنك إن شئت أنبأتك بما في قلبك قال هات ويحك قال اعتركت الدنيا و الآخرة على قلبك فقلت علي معه الآخرة في غير دنيا و في الآخرة عوض من الدنيا و معاوية معه الدنيا بغير آخرة و ليس في الدنيا عوض من الآخرة و أنت واقف بينهما قال قاتلك الله ما أخطأت ما في قلبي فما ترى يا وردان قال أرى أن تقيم في بيتك فإن ظهر أهل الدين عشت في عفو دينهم و إن ظهر أهل الدنيا لم يستغنوا عنك قال الآن لما أشهرت العرب سيري إلى معاوية فارتحل و هو يقول
يا قاتل الله وردانا و قدحته
أبدى لعمرك ما في النفس وردان
لما تعرضت الدنيا عرضت لها
بحرص نفسي و في الأطباع إدهان
نفس تعف و أخرى الحرص يغلبها
و المرء يأكل تبنا و هو غرثان
أما علي فدين ليس يشركه
دنيا و ذاك له دنيا و سلطان
[ 64 ]
فاخترت من طمعي دنيا على بصر
و ما معي بالذي أختار برهان
إني لأعرف ما فيها و أبصره
و في أيضا لما أهواه ألوان
لكن نفسي تحب العيش في شرف
و ليس يرضى بذل العيش إنسان

(80/2)

فسار حتى قدم على معاوية و عرف حاجة معاوية إليه فباعده من نفسه و كايد كل واحد منهما صاحبه . فقال له معاوية يوم دخل عليه أبا عبد الله طرقتنا في ليلتنا ثلاثة أخبار ليس فيها ورد و لا صدر قال و ما ذاك قال منها أن محمد بن أبي حذيفة كسر سجن مصر فخرج هو و أصحابه و هو من آفات هذا الدين و منها أن قيصر زحف بجماعة الروم ليغلب على الشام و منها أن عليا نزل الكوفة و تهيأ للمسير إلينا . فقال عمرو ليس كل ما ذكرت عظيما أما ابن أبي حذيفة فما يتعاظمك من رجل خرج في أشباهه أن تبعث إليه رجلا يقتله أو يأتيك به و إن قاتل لم يضرك و أما قيصر فأهد له الوصائف و آنية الذهب و الفضة و سله الموادعة فإنه إليها سريع و أما علي فلا و الله يا معاوية ما يسوي العرب بينك و بينه في شي ء من الأشياء و إن له في الحرب لحظا ما هو لأحد من قريش و إنه لصاحب ما هو فيه إلا أن تظلمه هكذا في رواية نصر بن مزاحم عن محمد بن عبيد الله . و روى نصر أيضا عن عمر بن سعد قال قال معاوية لعمرو يا أبا عبد الله إني أدعوك إلى جهاد هذا الرجل الذي عصى الله و شق عصا المسلمين و قتل الخليفة و أظهر الفتنة و فرق
[ 65 ]

(80/3)

الجماعة و قطع الرحم فقال عمرو من هو قال علي قال و الله يا معاوية ما أنت و علي بحملي بعير ليس لك هجرته و لا سابقته و لا صحبته و لا جهاده و لا فقهه و لا علمه و و الله إن له مع ذلك لحظا في الحرب ليس لأحد غيره و لكني قد تعودت من الله تعالى إحسانا و بلاء جميلا فما تجعل لي إن شايعتك على حربه و أنت تعلم ما فيه من الغرر و الخطر قال حكمك فقال مصر طعمة فتلكأ عليه معاوية . قال نصر و في حديث غير عمر بن سعد فقال له معاوية يا أبا عبد الله إني أكره لك أن تتحدث العرب عنك أنك إنما دخلت في هذا الأمر لغرض الدنيا قال عمرو دعني عنك فقال معاوية إني لو شئت أن أمنيك و أخدعك لفعلت قال عمرو لا لعمر الله ما مثلي يخدع لأنا أكيس من ذلك قال معاوية ادن مني أسارك فدنا منه عمرو ليساره فعض معاوية أذنه و قال هذه خدعة هل ترى في البيت أحدا ليس غيري و غيرك . قلت قال شيخنا أبو القاسم البلخي رحمه الله تعالى قول عمرو له دعني عنك كناية عن الإلحاد بل تصريح به أي دع هذا الكلام لا أصل له فإن اعتقاد الآخرة و أنها لا تباع بعرض الدنيا من الخرافات . و قال رحمه الله تعالى و ما زال عمرو بن العاص ملحدا ما تردد قط في الإلحاد و الزندقة و كان معاوية مثله و يكفي من تلاعبهما بالإسلام حديث السرار المروي و أن معاوية عض أذن عمرو أين هذا من سيرة عمر و أين هذا من أخلاق علي ع و شدته في ذات الله و هما مع ذلك يعيبانه بالدعابة .
[ 66 ]
قال نصر فأنشأ عمرو يقول
معاوي لا أعطيك ديني و لم أنل
به منك دنيا فانظرن كيف تصنع
فإن تعطني مصرا فأربح بصفقة
أخذت بها شيخا يضر و ينفع
و ما الدين و الدنيا سواء و إنني
لآخذ ما تعطي و رأسي مقنع
و لكنني أغضي الجفون و إنني
لأخدع نفسي و المخادع يخدع
و أعطيك أمرا فيه للملك قوة
و ألفي به إن زلت النعل أصرع
و تمنعني مصرا و ليست برغبة
و إني بذا الممنوع قدما لمولع

(80/4)

قال شيخنا أبو عثمان الجاحظ كانت مصر في نفس عمرو بن العاص لأنه هو الذي فتحها في سنة تسع عشرة من الهجرة في خلافة عمر فكان لعظمها في نفسه و جلالتها في صدره و ما قد عرفه من أموالها و سعة الدنيا لا يستعظم أن يجعلها ثمنا من دينه و هذا معنى قوله
و إني بذا الممنوع قدما لمولع
قال نصر فقال له معاوية يا أبا عبد الله أ ما تعلم أن مصر مثل العراق قال بلى و لكنها إنما تكون لي إذا كانت لك و إنما تكون لك إذا غلبت عليا على العراق . قال و قد كان أهل مصر بعثوا بطاعتهم إلى علي ع . فلما حضر عتبة بن أبي سفيان قال لمعاوية أ ما ترضى أن تشتري عمرا بمصر
[ 67 ]
إن هي صفت لك ليتك لا تغلب على الشام فقال معاوية يا عتبة بت عندنا الليلة فلما جن الليل على عتبة رفع صوته ليسمع معاوية و قال
أيها المانع سيفا لم يهز
إنما ملت على خز و قز
إنما أنت خروف ماثل
بين ضرعين و صوف لم يجز
أعط عمرا إن عمرا تارك
دينه اليوم لدنيا لم تحز
يا لك الخير فخذ من دره
شخبه الأول و ابعد ما غرز
و اسحب الذيل و بادر فوقها
و انتهزها إن عمرا ينتهز
أعطه مصرا و زده مثلها
إنما مصر لمن عز فبز
و اترك الحرص عليها ضلة
و اشبب النار لمقرور يكز
إن مصرا لعلي أو لنا
يغلب اليوم عليها من عجز
قال فلما سمع معاوية قول عتبة أرسل إلى عمرو فأعطاه مصر فقال عمرو لي الله عليك بذلك شاهد قال نعم لك الله علي بذلك إن فتح الله علينا الكوفة فقال عمرو و اَللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ . فخرج عمرو من عنده فقال له ابناه ما صنعت قال أعطانا مصر طعمة قالا و ما مصر في ملك العرب قال لا أشبع الله بطونكما إن لم تشبعكما مصر . قال و كتب معاوية له بمصر كتابه و كتب على ألا ينقض شرط طاعة فكتب عمرو على ألا تنقض طاعة شرطا فكايد كل واحد منهما صاحبه . قلت قد ذكر هذا اللفظ أبو العباس محمد بن يزيد المبرد في كتابه الكامل
[ 68 ]

(80/5)

و لم يفسره و تفسيره أن معاوية قال للكاتب اكتب على ألا ينقض شرط طاعة يريد أخذ إقرار عمرو له أنه قد بايعه على الطاعة بيعة مطلقة غير مشروطة بشي ء و هذه مكايدة له لأنه لو كتب ذلك لكان لمعاوية أن يرجع في إعطائه مصر و لم يكن لعمرو أن يرجع عن طاعته و يحتج عليه برجوعه عن إعطائه مصر لأن مقتضى المشارطة المذكورة أن طاعة معاوية واجبة عليه مطلقا سواء أ كانت مصر مسلمة إليه أم لا . فلما انتبه عمرو إلى هذه المكيدة منع الكاتب من أن يكتب ذلك و قال بل اكتب على ألا تنقض طاعة شرطا يريد أخذ إقرار معاوية له بأنه إذا كان أطاعه لا تنقض طاعته إياه ما شارطه عليه من تسليم مصر إليه و هذا أيضا مكايدة من عمرو لمعاوية و منع له من أن يغدر بما أعطاه من مصر قال نصر و كان لعمرو بن العاص عم من بني سهم أريب فلما جاء عمرو بالكتاب مسرورا عجب الفتى و قال أ لا تخبرني يا عمرو بأي رأي تعيش في قريش أعطيت دينك و تمنيت دنيا غيرك أ ترى أهل مصر و هم قتلة عثمان يدفعونها إلى معاوية و علي حي و أ تراها إن صارت لمعاوية لا يأخذها بالحرف الذي قدمه في الكتاب فقال عمرو يا ابن أخي إن الأمر لله دون علي و معاوية فقال الفتى
ألا يا هند أخت بني زياد
رمي عمرو بداهية البلاد
رمي عمرو بأعور عبشمي
بعيد القعر مخشي الكياد
له خدع يحار العقل منها
مزخرفة صوائد للفؤاد
فشرط في الكتاب عليه حرفا
يناديه بخدعته المنادي
[ 69 ]
و أثبت مثله عمرو عليه
كلا المرأين حية بطن واد
ألا يا عمرو ما أحرزت مصرا
و لا ملت الغداة إلى الرشاد
أ بعت الدين بالدنيا خسارا
فأنت بذاك من شر العباد
فلو كنت الغداة أخذت مصرا
و لكن دونها خرط القتاد
وفدت إلى معاوية بن حرب
فكنت بها كوافد قوم عاد
و أعطيت الذي أعطيت منها
بطرس فيه نضح من مداد
أ لم تعرف أبا حسن عليا
و ما نالت يداه من الأعادي
عدلت به معاوية بن حرب
فيا بعد البياض من السواد
و يا بعد الأصابع من سهيل
و يا بعد الصلاح من الفساد

(80/6)

أ تأمن أن تدال على خدب
يحث الخيل بالأسل الحداد
ينادي بالنزال و أنت منه
قريب فانظرن من ذا تعادي
فقال عمرو يا ابن أخي لو كنت عند علي لوسعني و لكني الآن عند معاوية قال الفتى إنك لو لم ترد معاوية لم يردك و لكنك تريد دنياه و هو يريد دينك و بلغ معاوية قول الفتى فطلبه فهرب فلحق بعلي ع فحدثه أمره فسر به و قربه . قال و غضب مروان و قال ما بالي لا أشتري كما اشتري عمرو فقال معاوية إنما يشترى الرجال لك
فلما بلغ عليا ع ما صنع معاوية قال
يا عجبا لقد سمعت منكرا
كذبا على الله يشيب الشعرا
يسترق السمع و يعشي البصرا
ما كان يرضى أحمد لو أخبرا
[ 70 ]
أن يقرنوا وصيه و الأبترا
شاني الرسول و اللعين الأخزرا
كلاهما في جنده قد عسكرا
قد باع هذا دينه فأفجرا
من ذا بدنيا بيعه قد خسرا
بملك مصر أن أصاب الظفرا
إني إذا الموت دنا و حضرا
شمرت ثوبي و دعوت قنبرا
قدم لوائي لا تؤخر حذرا
لا يدفع الحذار ما قد قدرا
لما رأيت الموت موتا أحمرا
عبأت همدان و عبوا حميرا
حي يمان يعظمون الخطرا
قرن إذا ناطح قرنا كسرا
قل لابن حرب لا تدب الخمرا
أرود قليلا أبد منك الضجرا
لا تحسبني يا ابن هند غمرا
و سل بنا بدرا معا و خيبرا
يوم جعلناكم ببدر جزرا
لو أن عندي يا ابن هند جعفرا
أو حمزة القرم الهمام الأزهرا
رأت قريش نجم ليل ظهرا
قال نصر فلما كتب الكتاب قال معاوية لعمرو ما ترى الآن قال أمض الرأي الأول فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة فأدركه فقتله و بعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه ثم قال ما ترى في علي قال أرى فيه
[ 71 ]

(80/7)

خيرا إنه قد أتاك في طلب البيعة خير أهل العراق و من عند خير الناس في أنفس الناس و دعواك أهل الشام إلى رد هذه البيعة خطر شديد و رأس أهل الشام شرحبيل بن السمط الكندي و هو عدو لجرير المرسل إليك فابعث إليه و وطن له ثقاتك فليفشوا في الناس أن عليا قتل عثمان و ليكونوا أهل رضا عند شرحبيل فإنها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحب و إن تعلقت بقلب شرحبيل لم تخرج منه بشي ء أبدا . فكتب إلى شرحبيل أن جرير بن عبد الله قدم علينا من عند علي بن أبي طالب بأمر مفظع فاقدم . و دعا معاوية يزيد بن أسد و بسر بن أرطاة و عمرو بن سفيان و مخارق بن الحارث الزبيدي و حمزة بن مالك و حابس بن سعد الطائي و هؤلاء رءوس قحطان و اليمن و كانوا ثقات معاوية و خاصته و بني عم شرحبيل بن السمط فأمرهم أن يلقوه و يخبروه أن عليا قتل عثمان فلما قدم كتاب معاوية على شرحبيل و هو بحمص استشار أهل اليمن فاختلفوا عليه فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي و هو صاحب معاذ بن جبل و ختنه و كان أفقه أهل الشام فقال يا شرحبيل بن السمط إن الله لم يزل يزيدك خيرا منذ هاجرت إلى اليوم و إنه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس و إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم إنه قد ألقي إلى معاوية أن عليا قتل عثمان و لهذا يريدك فإن كان قتله فقد بايعه المهاجرون و الأنصار و هم الحكام على الناس و إن لم يكن قتله فعلام تصدق معاوية عليه لا تهلكن نفسك و قومك فإن كرهت أن يذهب بحظها جرير فسر إلى علي فبايعه عن شامك و قومك فأبى شرحبيل إلا أن يسير إلى معاوية فكتب إليه عياض الثمالي و كان ناسكا
[ 72 ]
يا شرح يا ابن السمط إنك بالغ
بود علي ما تريد من الأمر
و يا شرح إن الشام شامك ما بها
سواك فدع عنك المضلل من فهر
فإن ابن هند ناصب لك خدعة
تكون علينا مثل راغية البكر
فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا
هنيئا له و الحرب قاصمة الظهر
فلا تبغين حرب العراق فإنها

(80/8)

تحرم أطهار النساء من الذعر
و إن عليا خير من وطئ الثرى
من الهاشميين المداريك للوتر
له في رقاب الناس عهد و ذمة
كعهد أبي حفص و عهد أبي بكر
فبايع و لا ترجع على العقب كافرا
أعيذك بالله العزيز من الكفر
و لا تسمعن قول الطغاة فإنهم
يريدون أن يلقوك في لجة البحر
و ما ذا عليهم أن تطاعن دونهم
عليا بأطراف المثقفة السمر
فإن غلبوا كانوا علينا أئمة
و كنا بحمد الله من ولد الطهر
و إن غلبوا لم يصل بالخطب غيرنا
و كان علي حربنا آخر الدهر
يهون على عليا لؤي بن غالب
دماء بني قحطان في ملكهم تجري
فدع عنك عثمان بن عفان إنما
لك الخبر لا تدري بأنك لا تدري
على أي حال كان مصرع جنبه
فلا تسمعن قول الأعيور أو عمرو
قال فلما قدم شرحبيل على معاوية أمر الناس أن يتلقوه و يعظموه فلما
[ 73 ]
دخل على معاوية تكلم معاوية فحمد الله و أثنى عليه ثم قال يا شرحبيل إن جرير بن عبد الله قدم علينا يدعونا إلى بيعة علي و علي خير الناس لو لا أنه قتل عثمان بن عفان و قد حبست نفسي عليك و إنما أنا رجل من أهل الشام أرضى ما رضوا و أكره ما كرهوا . فقال شرحبيل أخرج فأنظر فلقيه هؤلاء النفر الموطئون له فكلهم أخبره أن عليا قتل عثمان فرجع مغضبا إلى معاوية فقال يا معاوية أبى الناس إلا أن عليا قتل عثمان و الله إن بايعت له لنخرجنك من شامنا أو لنقتلنك فقال معاوية ما كنت لأخالف عليكم ما أنا إلا رجل من أهل الشام قال فرد هذا الرجل إلى صاحبه إذن فعرف معاوية أن شرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب أهل العراق و أن الشام كله مع شرحبيل و كتب إلى علي ع ما سنورده فيما بعد إن شاء الله تعالى
[ 74 ]

(80/9)

27 ـ و من خطبة له ع
أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اَلْجِهَادَ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ اَلْجَنَّةِ فَتَحَهُ اَللَّهُ لِخَاصَّةِ أَوْلِيَائِهِ وَ هُوَ لِبَاسُ اَلتَّقْوَى وَ دِرْعُ اَللَّهِ اَلْحَصِينَةُ وَ جُنَّتُهُ اَلْوَثِيقَةُ فَمَنْ تَرَكَهُ رَغْبَةً عَنْهُ أَلْبَسَهُ اَللَّهُ ثَوْبَ اَلذُّلِّ وَ شَمِلَهُ اَلْبَلاَءُ وَ دُيِّثَ بِالصَّغَارِ وَ اَلْقَمَاءَةِ وَ ضُرِبَ عَلَى قَلْبِهِ بِالْإِسْهَابِ [ اَلْأَسْدَادِ ] وَ أُدِيلَ اَلْحَقُّ مِنْهُ بِتَضْيِيعِ اَلْجِهَادِ وَ سِيمَ اَلْخَسْفَ وَ مُنِعَ اَلنَّصَفَ أَلاَ وَ إِنِّي قَدْ دَعَوْتُكُمْ إِلَى قِتَالِ [ حَرْبِ ] هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ لَيْلاً وَ نَهَاراً وَ سِرّاً وَ إِعْلاَناً وَ قُلْتُ لَكُمْ اُغْزُوهُمْ قَبْلَ أَنْ يَغْزُوكُمْ فَوَاللَّهِ مَا غُزِيَ قَوْمٌ قَطُّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إِلاَّ ذَلُّوا فَتَوَاكَلْتُمْ وَ تَخَاذَلْتُمْ حَتَّى شُنَّتْ عَلَيْكُمُ اَلْغَارَاتُ وَ مُلِكَتْ عَلَيْكُمُ اَلْأَوْطَانُ فَهَذَا وَ هَذَا أَخُو غَامِدٍ قَدْ وَرَدَتْ خَيْلُهُ اَلْأَنْبَارَ وَ قَدْ قَتَلَ حَسَّانَ بْنَ حَسَّانَ اَلْبَكْرِيَّ وَ أَزَالَ خَيْلَكُمْ عَنْ مَسَالِحِهَا وَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّ اَلرَّجُلَ مِنْهُمْ كَانَ يَدْخُلُ عَلَى اَلْمَرْأَةِ اَلْمُسْلِمَةِ وَ اَلْأُخْرَى اَلْمُعَاهِدَةِ فَيَنْتَزِعُ حِجْلَهَا وَ قُلُبَهَا وَ قَلاَئِدَهَا وَ رُعُثَهَا مَا تَمْتَنِعُ [ تَمْنَعُ ] مِنْهُ إِلاَّ بِالاِسْتِرْجَاعِ وَ اَلاِسْتِرْحَامِ ثُمَّ اِنْصَرَفُوا وَافِرِينَ مَا نَالَ رَجُلاً مِنْهُمْ كَلْمٌ وَ لاَ أُرِيقَ لَهُمْ دَمٌ فَلَوْ أَنَّ اِمْرَأً مُسْلِماً مَاتَ مِنْ بَعْدِ هَذَا أَسَفاً مَا كَانَ بِهِ مَلُوماً بَلْ كَانَ بِهِ عِنْدِي جَدِيراً فَيَا عَجَباً عَجَباً وَ اَللَّهِ يُمِيتُ اَلْقَلْبَ وَ يَجْلِبُ اَلْهَمَّ مِنَ اِجْتِمَاعِ

(81/1)

هَؤُلاَءِ اَلْقَوْمِ عَلَى بَاطِلِهِمْ وَ تَفَرُّقِكُمْ عَنْ حَقِّكُمْ فَقُبْحاً لَكُمْ وَ تَرَحاً حِينَ صِرْتُمْ غَرَضاً يُرْمَى يُغَارُ
[ 75 ]
عَلَيْكُمْ وَ لاَ تُغِيرُونَ وَ تُغْزَوْنَ وَ لاَ تَغْزُونَ وَ يُعْصَى اَللَّهُ وَ تَرْضَوْنَ فَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي أَيَّامِ اَلْحَرِّ [ اَلصَّيْفِ ] قُلْتُمْ هَذِهِ حَمَارَّةُ اَلْقَيْظِ أَمْهِلْنَا يُسَبَّخْ عَنَّا اَلْحَرُّ وَ إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِالسَّيْرِ إِلَيْهِمْ فِي اَلشِّتَاءِ قُلْتُمْ هَذِهِ صَبَارَّةُ اَلْقُرِّ أَمْهِلْنَا يَنْسَلِخْ عَنَّا اَلْبَرْدُ كُلُّ هَذَا فِرَاراً مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْقُرِّ فَإِذَا كُنْتُمْ مِنَ اَلْحَرِّ وَ اَلْقُرِّ تَفِرُّونَ فَأَنْتُمْ وَ اَللَّهِ مِنَ اَلسَّيْفِ أَفَرُّ يَا أَشْبَاهَ اَلرِّجَالِ وَ لاَ رِجَالَ حُلُومُ اَلْأَطْفَالِ وَ عُقُولُ رَبَّاتِ اَلْحِجَالِ لَوَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَرَكُمْ وَ لَمْ أَعْرِفْكُمْ مَعْرِفَةً وَ اَللَّهِ جَرَّتْ نَدَماً وَ أَعْقَبَتْ سَدَماً [ ذَمّاً ] قَاتَلَكُمُ اَللَّهُ لَقَدْ مَلاَتُمْ قَلْبِي قَيْحاً وَ شَحَنْتُمْ صَدْرِي غَيْظاً وَ جَرَّعْتُمُونِي نُغَبَ اَلتَّهْمَامِ أَنْفَاساً وَ أَفْسَدْتُمْ عَلَيَّ رَأْيِي بِالْعِصْيَانِ وَ اَلْخِذْلاَنِ حَتَّى لَقَدْ قَالَتْ قُرَيْشٌ إِنَّ اِبْنَ أَبِي طَالِبٍ رَجُلٌ شُجَاعٌ وَ لَكِنْ لاَ عِلْمَ لَهُ بِالْحَرْبِ لِلَّهِ أَبُوهُمْ وَ هَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَشَدُّ لَهَا مِرَاساً [ مُقَاماً ] وَ أَقْدَمُ فِيهَا مُقَاماً مِنِّي لَقَدْ نَهَضْتُ فِيهَا وَ مَا بَلَغْتُ اَلْعِشْرِينَ وَ هَا أَنَا ذَا قَدْ ذَرَّفْتُ عَلَى اَلسِّتِّينَ وَ لَكِنْ لاَ رَأْيَ لِمَنْ لاَ يُطَاعُ هذه الخطبة من مشاهير خطبه ع قد ذكرها كثير من الناس و رواها أبو العباس المبرد في أول الكامل و أسقط من هذه الرواية

(81/2)

ألفاظا و زاد فيها ألفاظا و قال في أولها إنه انتهى إلى علي ع أن خيلا وردت الأنبار لمعاوية فقتلوا عاملا له
[ 76 ]
يقال له حسان بن حسان فخرج مغضبا يجر رداءه حتى أتى النخيلة و اتبعه الناس فرقي رباوة من الأرض فحمد الله و أثنى عليه و صلى على نبيه ص
ثم قال أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة فمن تركه رغبة عنه ألبسه الله الذل و سيما الخسف . و قال في شرح ذلك قوله و سيما الخسف هكذا حدثونا به و أظنه سيم الخسف من قوله تعالى يَسُومُونَكُمْ سُوءَ اَلْعَذابِ و قال فإن نصرنا ما سمعناه فسيما الخسف تأويله علامة الخسف قال الله تعالى سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ و قال يُعْرَفُ اَلْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ و سيما مقصور و في معناه سيمياء ممدود قال الشاعر
غلام رماه الله بالحسن يافعا
له سيمياء لا تشق على البصر
و نحن نقول إن السماع الذي حكاه أبو العباس غير مرضي و الصحيح ما تضمنه نهج البلاغة و هو سيم الخسف فعل ما لم يسم فاعله و الخسف منصوب لأنه مفعول و تأويله أولي الخسف و كلف إياه و الخسف الذل و المشقة . و أيضا فإن في نهج البلاغة لا يمكن أن يكون إلا كما اخترناه لأنه بين أفعال متعددة بنيت للمفعول به و هي ديث و ضرب و أديل و منع
[ 77 ]

(81/3)

و لا يمكن أن يكون ما بين هذه الأفعال معطوفا عليها إلا مثلها و لا يجوز أن يكون اسما . و أما قوله ع و هو لباس التقوى فهو لفظة مأخوذة من الكتاب العزيز قال الله سبحانه قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ اَلتَّقْوى . و الجنة ما يجتن به أي يستتر كالدرع و الحجفة . و تركه رغبة عنه أي زهدا فيه رغبت عن كذا ضد رغبت في كذا . و ديث بالصغار أي ذلل بعير مديث أي مذلل و منه الديوث الذي لا غيرة له كأنه قد ذلل حتى صار كذلك . و الصغار الذل و الضيم . و القماء بالمد مصدر قمؤ الرجل قماء و قماءة أي صار قميئا و هو الصغير الذليل فأما قمأ بفتح الميم فمعناه سمن و مصدره القموء و القموءة . و روى الراوندي و ديث بالصغار و القما بالقصر و هو غير معروف . و قوله ع و ضرب على قلبه بالإسهاب فالإسهاب هاهنا هو ذهاب العقل و يمكن أن يكون من الإسهاب الذي هو كثرة الكلام كأنه عوقب بأن يكثر كلامه فيما لا فائدة تحته . قوله و أديل الحق منه بتضييع الجهاد قد يظن ظان أنه يريد ع و أديل الحق منه بأن أضيع جهاده كالباءات المتقدمة و هي قوله و ديث بالصغار و ضرب على قلبه بالإسهاب و ليس كما ظن بل المراد و أديل الحق منه
[ 78 ]
لأجل تضييعه الجهاد فالباء هاهنا للسببية كقوله تعالى ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ . و النصف الإنصاف و عقر دارهم بالضم أصل دارهم و العقر الأصل و منه العقار للنخل كأنه أصل المال و تواكلتم من وكلت الأمر إليك و وكلته إلي أي لم يتوله أحد منا و لكن أحال به كل واحد على الآخر و منه رجل وكل أي عاجز يكل أمره إلى غيره و كذلك وكله . و تخاذلتم من الخذلان . و شنت عليكم الغارات فرقت و ما كان من ذلك متفرقا نحو إرسال الماء على الوجه دفعة بعد دفعة فهو بالشين المعجمة و ما كان أرسالا غير متفرق فهو بالسين المهملة و يجوز شن الغارة و أشنها . و المسالح جمع مسلحة و هي كالثغر و المرقب

(81/4)

و في الحديث كان أدنى مسالح فارس إلى العرب العذيب و المعاهدة ذات العهد و هي الذمية و الحجل الخلخال و من هذا قيل للفرس محجل و سمي القيد حجلا لأنه يكون مكان الخلخال و رعثها شنوفها جمع رعاث بكسر الراء و رعاث جمع رعثة فالأول مثل خمار و خمر و الثاني مثل جفنة و جفان و القلب جمع قلب و هو السوار المصمت و الاسترجاع قوله إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ و الاسترحام أن تناشده الرحم و انصرفوا وافرين أي تامين وفر الشي ء نفسه أي تم فهو وافر و وفرت الشي ء متعد أي أتممته . و في رواية المبرد موفورين قال من الوفر أي لم ينل أحد منهم بأن يرزأ في بدن أو مال .
[ 79 ]
و في رواية المبرد أيضا فتواكلتم و تخاذلتم و ثقل عليكم قولي وَ اِتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا قال أي رميتم به وراء ظهوركم أي لم تلتفتوا إليه يقال في المثل لا تجعل حاجتي منك بظهر أي لا تطرحها غير ناظر إليها قال الفرزدق
تميم بن مر لا تكونن حاجتي
بظهر و لا يعيا عليك جوابها
و الكلم الجراح
و في رواية المبرد أيضا مات من دون هذا أسفا و الأسف التحسر
و في رواية المبرد أيضا من تضافر هؤلاء القوم على باطلهم أي من تعاونهم و تظاهرهم
و في رواية المبرد أيضا و فشلكم عن حقكم الفشل الجبن و النكول عن الشي ء فقبحا لكم و ترحا دعاء بأن ينحيهم الله عن الخير و أن يخزيهم و يسوءهم . و الغرض الهدف و حمارة القيظ بتشديد الراء شدة حره و يسبخ عنا الحر أي يخف
و في الحديث أن عائشة أكثرت من الدعاء على سارق سرق منها شيئا فقال لها النبي ص لا تسبخي عنه بدعائك . و صبارة الشتاء بتشديد الراء شدة برده و لم يرو المبرد هذه اللفظة

(81/5)

و روى إذا قلت لكم اغزوهم في الشتاء قلتم هذا أوان قر و صر و إن قلت لكم اغزوهم في الصيف قلتم هذه حمارة القيظ أنظرنا ينصرم عنا الحر الصر شدة البرد قال تعالى كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ . و لم يرو المبرد حلوم الأطفال و روى عوضها يا طغام الأحلام و قال الطغام من لا معرفة عنده و منه قولهم طغام أهل الشام . و رباب الحجال النساء و الحجال جمع حجلة و هي بيت يزين بالستور و الثياب و الأسرة
[ 80 ]
و السدم الحزن و الغيظ و القيح ما يكون في القرحة من صديدها و شحنتم ملأتم . و النغب جمع نغبة و هي الجرعة و التهمام بفتح التاء الهم و كذلك كل تفعال كالترداد و التكرار و التجوال إلا التبيان و التلقاء فإنهما بالكسر . و أنفاسا أي جرعة بعد جرعة يقال أكرع في الإناء نفسين أو ثلاثة . و ذرفت على الستين أي زدت و رواها المبرد نيفت . و روى المبرد في آخرها فقام إليه رجل و معه أخوه فقال يا أمير المؤمنين إني و أخي هذا كما قال الله تعالى رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فمرنا بأمرك فو الله لننتهين إليه و لو حال بيننا و بينه جمر الغضا و شوك القتاد فدعا لهما بخير و قال و أين تقعان مما أريد ثم نزل

(81/6)

استطراد بذكر كلام لابن نباتة في الجهاد
و اعلم أن التحريض على الجهاد و الحض عليه قد قال فيه الناس فأكثروا و كلهم أخذوا من كلام أمير المؤمنين ع فمن جيد ذلك ما قاله ابن نباتة الخطيب أيها الناس إلى كم تسمعون الذكر فلا تعون و إلى كم تقرعون بالزجر فلا تقلعون كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ و كأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ و عدوكم يعمل
[ 81 ]
في دياركم عمله و يبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله و صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه و ندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه و هذه البهائم تناضل عن ذمارها و هذه الطير تموت حمية دون أوكارها بلا كتاب أنزل عليها و لا رسول أرسل إليها و أنتم أهل العقول و الأفهام و أهل الشرائع و الأحكام تندون من عدوكم نديد الإبل و تدرعون له مدارع العجز و الفشل و أنتم و الله أولى بالغزو إليهم و أحرى بالمغار عليهم لأنكم أمناء الله على كتابه و المصدقون بعقابه و ثوابه خصكم الله بالنجدة و البأس و جعلكم خير أمة أخرجت للناس فأين حمية الإيمان و أين بصيرة الإيقان و أين الإشفاق من لهب النيران و أين الثقة بضمان الرحمن فقد قال الله عز و جل في القرآن بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فاشترط عليكم التقوى و الصبر و ضمن لكم المعونة و النصر أ فتتهمونه في ضمانه أم تشكون في عدله و إحسانه فسابقوا رحمكم الله إلى الجهاد بقلوب نقية و نفوس أبية و أعمال رضية و وجوه مضية و خذوا بعزائم التشميز و اكشفوا عن رءوسكم عار التقصير و هبوا نفوسكم لمن هو أملك بها منكم و لا تركنوا إلى الجزع فإنه لا يدفع الموت عنكم لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي اَلْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا فالجهاد الجهاد أيها الموقنون و الظفر الظفر أيها الصابرون و الجنة الجنة أيها الراغبون و النار النار أيها الراهبون فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان و أوسع

(82/1)

أبواب الرضوان و أرفع درجات الجنان و إن من ناصح الله لبين منزلتين مرغوب فيهما مجمع على تفضيلهما إما السعادة بالظفر في العاجل و إما الفوز بالشهادة في الأجل و أكره المنزلتين إليكم أعظمهما نعمة
[ 82 ]
عليكم فانصروا الله فإن نصره حرز من الهلكات حريز وَ لَيَنْصُرَنَّ اَللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اَللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ . هذا آخر خطبة ابن نباتة فانظر إليها و إلى خطبته ع بعين الإنصاف تجدها بالنسبة إليها كمخنث بالنسبة إلى فحل أو كسيف من رصاص بالإضافة إلى سيف من حديد و انظر ما عليها من أثر التوليد و شين التكلف و فجاجة كثير من الألفاظ أ لا ترى إلى فجاجة قوله كأن أسماعكم تمج ودائع الوعظ و كأن قلوبكم بها استكبار عن الحفظ و كذلك ليس يخفى نزول قوله تندون من عدوكم نديد الإبل و تدرعون له مدارع العجز و الفشل . و فيها كثير من هذا الجنس إذا تأمله الخبير عرفه و مع هذا فهي مسروقة من كلام أمير المؤمنين ع أ لا ترى أن قوله ع أما بعد فإن الجهاد باب من أبواب الجنة قد سرقه ابن نباتة فقال فإن الجهاد أثبت قواعد الإيمان و أوسع أبواب الرضوان و أرفع درجات الجنان و قوله ع من اجتماع هؤلاء على باطلهم و تفرقكم عن حقكم سرقه أيضا فقال صرخ بهم الشيطان إلى باطله فأجابوه و ندبكم الرحمن إلى حقه فخالفتموه و قوله ع قد دعوتكم إلى قتال هؤلاء القوم إلى آخره سرقه أيضا فقال كم تسمعون الذكر فلا تعون و تقرعون بالزجر فلا تقلعون و قوله ع حتى شنت عليكم الغارات و ملكت عليكم الأوطان سرقه أيضا و قال و عدوكم يعمل في دياركم عمله و يبلغ بتخلفكم عن جهاده أمله و أما باقي خطبة ابن نباتة فمسروق من خطب لأمير المؤمنين ع أخر سيأتي ذكرها .
[ 83 ]

(82/2)

و اعلم أني أضرب لك مثلا تتخذه دستورا في كلام أمير المؤمنين ع و كلام الكتاب و الخطباء بعده كابن نباتة و الصابي و غيرهما انظر نسبة شعر أبي تمام و البحتري و أبي نواس و مسلم إلى شعر إمرئ القيس و النابغة و زهير و الأعشى هل إذا تأملت أشعار هؤلاء و أشعار هؤلاء تجد نفسك حاكمة بتساوي القبيلين أو بتفضيل أبي نواس و أصحابه عليهم ما أظن أن ذلك مما تقوله أنت و لا قاله غيرك و لا يقوله إلا من لا يعرف علم البيان و ماهية الفصاحة و كنه البلاغة و فضيلة المطبوع على المصنوع و مزية المتقدم على المتأخر فإذا أقررت من نفسك بالفرق و الفضل و عرفت فضل الفاضل و نقص الناقص فاعلم أن نسبة كلام أمير المؤمنين ع إلى هؤلاء هذه النسبة بل أظهر لأنك تجد في شعر إمرئ القيس و أصحابه من التعجرف و الكلام الحوشي و اللفظ الغريب المستكره شيئا كثيرا و لا تجد من ذلك في كلام أمير المؤمنين ع شيئا و أكثر فساد الكلام و نزوله إنما هو باستعمال ذلك . فإن شئت أن تزداد استبصارا فانظر القرآن العزيز و اعلم أن الناس قد اتفقوا على أنه في أعلى طبقات الفصاحة و تأمله تأملا شافيا و انظر إلى ما خص به من مزية الفصاحة و البعد عن التقعير و التقعيب و الكلام الوحشي الغريب و انظر كلام أمير المؤمنين ع فإنك تجده مشتقا من ألفاظه و مقتضبا من معانيه و مذاهبه و محذوا به حذوه و مسلوكا به في منهاجه فهو و إن لم يكن نظيرا و لا ندا يصلح أن يقال إنه ليس بعده كلام أفصح منه و لا أجزل و لا أعلى و لا أفخم و لا أنبل إلا أن يكون كلام ابن عمه ع و هذا أمر لا يعلمه إلا من ثبتت له قدم راسخة في علم هذه الصناعة و ليس كل الناس يصلح لانتقاد الجوهر بل و لا لانتقاد الذهب و لكل صناعة أهل و لكل عمل رجال . و من خطب ابن نباتة التي يحرض فيها على الجهاد
[ 84 ]

(82/3)

ألا و إن الجهاد كنز وفر الله منه أقسامكم و حرز طهر الله به أجسامكم و عز أظهر الله به إسلامكم فإن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم فانفروا رحمكم الله جميعا و ثبات و شنوا على أعدائكم الغارات و تمسكوا بعصم الإقدام و معاقل الثبات و أخلصوا في جهاد عدوكم حقائق النيات فإنه و الله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا و لا قعدوا عن صون ديارهم إلا اضمحلوا و اعلموا أنه لا يصلح الجهاد بغير اجتهاد كما لا يصلح السفر بغير زاد فقدموا مجاهدة القلوب قبل مشاهدة الحروب و مغالبة الأهواء قبل محاربة الأعداء و بادروا بإصلاح السرائر فإنها من أنفس العدد و الذخائر و اعتاضوا من حياة لا بد من فنائها بالحياة التي لا ريب في بقائها و كونوا ممن أطاع الله و شمر في مرضاته و سابقوا بالجهاد إلى تملك جناته فإن للجنة بابا حدوده تطهير الأعمال و تشييده إنفاق الأموال و ساحته زحف الرجال و طريقه غمغمة الأبطال و مفتاحه الثبات في معترك القتال و مدخله من مشرعة الصوارم و النبال . فلينظر الناظر في هذا الكلام فإنه و إن كان قد أخذ من صناعة البديع بنصيب إلا أنه في حضيض الأرض و كلام أمير المؤمنين ع في أوج السماء فإنه لا ينكر لزومه فيه لما لا يلزمه اقتدارا و قوة و كتابة نحو قوله كنز فإنه بإزاء حرز و عز و قوله مشاهدة بإزاء قوله مجاهدة و مغالبة بإزاء محاربة و حدوده بإزاء تشييده لكن مثله بالقياس إلى كلام أمير المؤمنين ع كدار مبنية من اللبن و الطين مموهة الجدران بالنقوش و التصاوير مزخرفة بالذهب من فوق الجص و الإسفيداج بالقياس إلى دار مبنية بالصخر الأصم الصلد المسبوك بينه عمد الرصاص و النحاس المذاب و هي مكشوفة غير مموهة و لا مزخرفة فإن بين هاتين الدارين بونا بعيدا و فرقا عظيما و انظر قوله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا كيف تصيح من بين الخطبة صياحا و تنادي على نفسها نداء فصيحا و تعلم سامعها أنها ليست من المعدن
[ 85 ]
(82/4)

Aucun commentaire: