رأي في المحنة
في مقال ، نشرته جريدة الحياة ، وهو القسم الأول من قسمين ، يظهر أنَّ القسم الثاني سينشر فيما بعد ، كاتب المقال هو [ ثابت عيد ] وهو مصري مقيم في زوريخ بسويسرا ، يكتب عن وضع تأريخي ، محاولا إنصاف المعتزلة ، لكنه ظلّ أسيراً لمقولات تاريخية
 ، أثبتت الدراسات الجادة عدم صحتها ، فمثلا لا زال الباحث يرى : أنَّ 
للمعتزلة دوراً في أحداث المحنة ، مع أنَّ الثابت الآن ، أنْ لا علاقة 
للمعتزلة من قريب ، أو من بعيد ، في القيام بأحـداث المحنة ، أو الإشارة 
بها ، سوى مشاركة القاضي [ أحمد بن أبي دُؤاد ] في مسائلةِ الممتَحَنين ، 
والمشهودُ  له ، بأنه عمل على منح الممتَحَنين العذر ، لكنَّ أعداءَ الفكر 
الإسلامي العدلي ، من الأشاعرة ومن أهل الحديث الحشوية ، وهم العاجزون عن 
الوقوف في وجه جور السلاطين ، صبُّوا غضبهم وأكاذيبهم على المعتزلة ، وكان 
على الباحث ، أنْ يشير إلى ما كشفته الدراسات الجادة الآن .
الأمر الثاني
 : الذي ينقص الدراسة ، هو عدم توظيف التاريخ ، لتهيئة الأمة ، في عقلها 
ومشاعرها ، لتعمل على بعث الحركة في مشروع النهضة ، الإسلامي مضموناً ، 
العربي لساناً ، ولهذا جاء البحث لحساب التاريخ فقط .وأخيرا
 لم يستطع الباحث تحريك التفكير ، من خلال قراءة تاريخ الأمة ، قراءةً 
نقديةً ، بحيث تتحول القراءة إلى حركة حضارية ، تبادر إلى الإنجاز ، 
والاكتشاف ، والإختراع ومن  ثمّ  التقدم الصناعي والتقني ، من خلال امتلاك 
المعلومات ، بالانتفاع من الغير ، أو بالوصول إليها ، بالتجارب والتوليد ، 
وبصورة أخرى ، محاولة توظيف القراءة في إنتاج حداثتنا ، لا استيرادها ،
 في عهد تعالت أصوات الداعين ، لاندثار الأمة ، عبر تمجيد العولمة ، 
والتغزل بالخصخصة ، والدعوة لاعتبار العدو اليهودي شريكاً في أرضنا وقبول 
الإحتكام إلى الويلات المتحدة وشرعة الأمم المتحدة ، مخترعي المكيال 
المزدوج ! .
إنَّ بلادة الحس الجماعي السائدة عند مجمل الأمة ، وسطحية التفكير ، وذاتيته ، كلها أمور : تحتاج إلى عمل تغييري عبر التمعن بحوادث التاريخ لإعادة بناء الوعي الحقيقي الصادق المنتج .تُصِرُّ
 الذاكرة الجماعية للأمة سواء أكانت ذاكرة أساتذة أكادميين ، أو رجال حركات
 إسلامية أو ما يُسَمَّى بحركات المثقفين العرب ، أو المثقفين الإسلاميين ،
 أو وعاظ المساجد ، على الدعوى دون تحقيق : بأنَّ المعتزلة مع كونهم ، دعاة
 عدل ، لا جبر ، إلاَّ أنهم خالفوا مفاهيمهم ، حين صاروا أصحاب الأمر ، 
فالمحنة فعلهم ، إن الحقيقة الواضحة تظهر عكس ذلك تماماً ، فلا هم صاروا 
أصحاب أمر ،  والمحنة صراع بين ملك جبري عضوض [ وليس حُكْماً عَدْلياً 
معتزلياً ] وأهل الحديث ، الذين هم قوة إسناد الملك الجبري العضوض ، ولهذا 
لم تدر مناقشات المحنة حول مفهوم العدل ، [ أي تمكين الإنسان من خلق أفعاله
 ] وإنما دارت حول خلق القرآن ، وهي ليست قضية خاصة بالمعتزلة ، بل يقول 
بها أهل الجبر أيضاً ، وخاصة الجهمية ، وخلطُ الجهميةِ الجبرية بالمعتزلة 
العدلية ، هو نوع من التضليل ! .
لقد رسم المأمون لاحتواء الدعوة الشيعية [ إسماعلية تعمل سراً ] إذ في زمنه نُشرتْ رسائلُ إخوان الصفا ،
 الأمر الذي جعل المثقفين يقعون تحت تأثيرها ، وهكذا فقدت العباسية 
المثقفين بسبب ميلهم للدعوة الإسماعيلية ، فشكلت خطراً ماثلا على الدولة 
العباسية ، فعمد المأمون إلى تبني الشيعة ظاهريا ،ً ولم يستطع أهل الحديث 
أدراك ما رمى إليه المأمون ، من هذا التبني  فأصابهم الهلع ، وانحازوا إلى 
العمل ضد المأمون بكل الطرق : من وضع الأحاديث ضد المأمون كما فعل نُعيم بن
 حماد ، واشترك أبو مسهر [ عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي الغساني ] المحدث المشهور محدث الشام بثورة الأموي [ أبي العميطر علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ]
 ورغم هزيمة أبي العميطر ، إلاّ أنَّ أبا مسهر ، بقي في حالة عداء ظاهر 
للمأمون ، وأخذ أحمد بن نصر الخزاعي يتحفز لإعلان الثورة ، ضد الدولة 
العباسية ، وإذا كانت الدعوة الإسماعيلية احتوت المثقفين ، فإن دعوة أهل 
الحديث تحتوي العامة ، وهي العامة التي شكلت هاجسا للمأمون ، من هنا قام 
المأمون ـ وهو في حالة غزو وحرب مع الروم ـ بمراسلة نائبه وقائد شرطته اسحق
 بن إبراهيم المصعبي ، في رسالتين مشهورتين ، وثقهما ابن جرير الطبري ، في 
حوادث 218 هـ ، ذكر فيها معايب الممتَحَنين واحداً واحدا ،
 لقد بقي المصعبي ـ وهو محسوب على أهل الحديث ـ في مركزه أيام المأمون ، 
والمعتصم ، والواثق ، والمتوكل ، وقد جَزِعَ المتوكل لموته .
إنَّ
 المحنة لم تكن بتأثير المعتزلة ، وهذا ما يكشفه أقدم نص كُتِبَ حول المحنة
 ، من قبل حنبل بن اسحق بن حنبل ( ابن عم أحمد وتلميذه ) ولهذا لم يرد اسم أهم الجدليين المعتـزلة مثل : ثُمـأمـة ، والعلاف ، والنَّظام ، والجاحظ ، بل وردت أسماء مجهولين ، ولم يرد من أسماء المعتزلة غير أحمد بن أبي دؤاد ، بحكم كونه قاضي الدولة ، ومن المعلوم أن اسـتلام ابن دؤاد القضاء  كان بناء على رأي قاضي المأمون يحيى بن أكثم ، الذي لم يكن معتزليا ، بل كان حنبليا ، وردت ترجمته في طبقات الحنابلة ترجمة رقم ( 539 ) ، ولم يكن المراد من المحنة الإنحياز لأراء المعتزلة  بل المراد تحجيم دور المحدثين أمام العامة ، وباحتواء خطر الشيعة الإمامية ، وخطر الهوى الأموي ودعاته أهل الحديث ، وبإلقاء القبض على أحمد بن نصر الخزاعي وقتله بيد الواثق ، زالت كل الأخطار ، ولهذا عاد العباسيون لتبني رأي أهل الحديث ، في قضية خلق القرآن ،
 على يد المتوكل الذي مدحه أهل الحديث ، رغم شهرته بارتكاب المحرمات ، 
فالمسألة المهمة لا تزال عند المحدثين هي قضايا حشو المعتقدات أمسِ واليوم 
وغداً  .
إنَّ الدليلَ على أنَّ المحنة ،
 لم تكن من صنيع المعتزلة ـ رغم قول المعتزلة بخلق القرآن إجماعا ـ فأساس 
قول المعتزلة بخلق القرآن ، بُني على أنها مسألة من مسائل العدل ، بينما هي
 عند الجبرية من مسائل التوحيد ، والقارئ لنقاشات المحنة ، يراها تدور حول 
التوحيد ، أي حول انفراد الله بالخالقية ، وحول علم الله الأزلي ، وليس حول
 العدل ، وهذا يكشف أنَ أيام المأمون ، والمعتصم  والواثق لم تكن زمناً 
إعتزالياً وإنما هو زمن عباسي ، يرفض التشبيه ، ويقبل الجبر ويمارس الجور 
أما في أيام المتوكل فهو يقبل التشبيه ، والجبر ، ويمارس الجور ، ويزيد على
 ذلك إرتكاب الأعمال الحرام [ يقصد من إرتكاب الأعمال الحرام أعمال المتوكل
 نفسه في شربه المسكر ]  ويقهر التفكير ، ويمنع الجدل ، ويهبط مستوى العلم ،
 ويبدأ عصر إستهانة العسكر التركي بالخلفاء  وزيادة في التقرب للنواصب ، يعمد إلى هدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام .
لقد طالت المحنة الكثير من أهل الحديث ، وبعض الفقهاء ، وعم المأمون أبراهيم بن محمد المهدي ، وكان حاذقاً بصنعة الغناء ، ومعلوم أنه بويع بالخلافة من 202-204 هـ وقتل
 بسبب المحنة أحمد بن نصر الخزاعي ومات محمد بن نوح أثناء حمله وأحمد إلى 
المأمون ، ومات في السجن كل من نعيم بن حماد وأبي مسهر الدمشقي وقد أجاب في
 المحنة كل الممتَحَنين أما أحمد فلم يُصَرِّحْ أثناءَ الإمتحان بأن القرآن
 غير مخلوق ، وإنما كان يعمد إلى المراوغة ، ولم يكن الجلد [ الضرب ] 
بالصورة الدرامية ، التي ينشرها جهلة اليوم ، فقد كان مجموع ما جُلد أحمد ،
 على ثلاث مرات 68 جلدة في أغصان من الشجر فيها أوراقها [ في مفهوم اليوم 
لم تُحسلك ( الفعل الرباعي "حَسْلَكَ" ليس عربيا والمراد أن الأغصان لم 
تهيأ لشدة الضرب ] وفي أخبار أوردها ، حنبل بن اسحق بن حنبل ذكر 
أحمد أربعا وعشرين حديثا ، من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم ، تحث على 
طاعة ولي الأمر وإن جار وظلم ، فأحمد لا يهتم بزوال المظالم ، وإنما همه 
أنْ يكون متقدما بين العامة ، عبر نشر الأحاديث ، والأساطير ، والزعم بأنَّ الرسول هو قائلها .
 
كان للأعلام الحنبلي دور في تضخيم موقف أحمد ،
 وإعطائه صورة درامية ، والذي يقرأ أخبار المحنة يظن أنَّ الممتَحَنَ 
الوحيد هو أحمد وللعباسية دور في هذا التضخيم لتستفيد من موقف الطاعة 
للحكام والتقوي به على الشيعة المتربصة آنذاك ، بلغ من قوة الحنابلة ، منعهم دفن العالم الطبري المشهور في مقبرة بغداد ، وتهيا الأمر لانقلاب الأشعري على المعتزلة ، بتسويغات غير مقنعة .


 
 
 
 
 
 
 
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire