vendredi 8 août 2014

سيد قطب بين مؤيديه ومعارضيه







سيد قطب بين مؤيديه ومعارضيه

محتويات

مقدمة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ
من هو سيد قطب ..؟
يتطلب الأمر هنا إعطاء نبذة عن حياة الأستاذ الشهيد سيد قطب باعتباره موضوع الدراسة وهي حياة حافلة بالعطاء المتدفق ، سواء الأدبي أو الصحفي أو الإسلامي ، ونقول بعون الله تعالي :-
هو سيد بن قطب بن إبراهيم - ولد سنة 1906م ( نفس العام الذي ولد فيه الإمام الشهيد حسن البنا ) بقرية (موشي) بمحافظة أسيوط ، من عائلة موسرة نسبياً ، كان والده رجلاً متديناً ووالدته ، كذلك كان له أخ أصغر منه هو محمد ، وثلاث أخوات هن : نفيسة ، أمينة ، وحميدة .
تخرج من كلية دار العلوم ، وهي نفس الكلية التي تخرج منها الإمام حسن البنا ، سافر في أغسطس عام 1948 إلي الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة المناهج التعليمية هناك ، واستمر بها عامين حيث عاد في أغسطس عام 1950م .
انضم إلي جماعة الإخوان المسلمين عام 1951 ، تولي رئاسة تحرير جريدة الإخوان ، اعتقل مع آلاف الإخوان عام 1954 وحكم عليه بالسجن 15 عاماً بالأشغال الشاقة قضي منها عشر سنوات معظمها في مستشفي ليمان طره ، حيث كان مريضاً بعدة أمراض مزمنة ومستعصية ، وأفرج عنه عام 1964م ، وأعيد اعتقاله في أغسطس عام 1965 ، بتهمة قلب نظام الحكم وحكم عليه يوم 22/8/1966م بالإعدام شنقاً ونفذ الحكم بعدها بسبعة أيام
له كتب عديدة في موضوعات مختلفة : أدبية ، تربوية ، اقتصادية ، اجتماعية ، وسياسية ، وأكثرها شهرة الكتب الإسلامية ، خاصة " في ظلال القرآن " ومعالم في الطريق ، وخصائص التصور الإسلامي ، ومقومات التصور الإسلامي وهو آخر ما كتبه في حياته ، منه فصلين كتبهما في السجن الحربي ، كما ذكر شقيقه الأستاذ محمد في المقدمة .
وهي تزيد علي الخمسين كتاباً خلاف المقالات التي نشرت في الصحف والمجلات الأدبية .
فوالد سيد قطب عميد الأسرة وكبيرها ، ووجيهاً مكرماً في القرية ، ينظر أهله له بإكرام واحترام وإجلال ، ووالدته كذلك من عائلة مرموقة ، وقد جمعت أسرته بين الوجاهة الاجتماعية والرقي العلمي ، وكان سيد الطفل يري المظاهر الاجتماعية والدينية والسياسية في الأسرة فيتأثر بها وتنطبع في ذاكرته .
وقد دخل سيد المدرسة عام 1912 وعمره السادسة ، وبدأ حفظ القرآن وهو في الصف الثاني الابتدائي وعمره لم يتجاوز الثامنة وأتم حفظه بإتقان وعمره عشر سنوات ، وأنهي الدراسة الابتدائية وعمره اثني عشر سنة وتخرج منها عام 1918 .
وقد نشأ علي محبة المطالعة والقراءة والتزود من المعرفة والثقافة .
سيد قطب ودراسته في القاهرة
قررا والدا سيد سفره للقاهرة لإكمال دراسته الثانوية والجامعية ، وكان يقيم مع خاله ، وقد سافر للقاهرة عام 1920.
وقد التحق بكلية دار العلوم عام 1929 ودرس بها أربع سنوات وتخرج منها عام 1933
عُين مُدرساً في وزارة المعارف ، وتنقل في عدة مدارس ، حتى نقل إلي وزارة المعارف في 1/3/1940.
سافر إلي أمريكا في مهمة علمية للتخصص في التربية وأصول المناهج عام 1948، وبقي في أمريكا حتى عاد في 22/10/1951، وتنقل في عدة وظائف حتى استقال من الوزارة في 18/10/1952.
هذا وقد ظل في الوظائف الحكومية حوالي تسعة عشر سنة ، واضطر لتقديم الاستقالة ، عندما لم يعد يتحمل المزيد من المكائد والدسائس والمضايقات .
وبعد عودته من أمريكا عام 1951، كان يكتب في الصحف والمجلات ، واستمرت كتابته ، حتى قرر مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين إصدار صحيفة باسم الجماعة ، وأسند رئاسة تحريرها إلي [سيد قطب] ، حتى قرر مكتب الإرشاد إغلاقها بسبب تفاقم الخلاف بين الإخوان والثورة .
ولما توجه سيد للفكر الإسلامي ، خاض معارك أدبية ونقدية مع عدد من الأدباء مثل : الرافعي ، محمد مندور ، صلاح ذهني ، دريني خشبه ... وغيرهم .
سيد قطب وتوجهه الإسلامي
لاشك أن جو الأسرة وتوجهها الإسلامي كان بداية التأثر في شخصيته ، وشعر بضياعه وغربته أثناء الرحلة الأدبية وانتهت به لهذه الصلة بعودته إلي القرآن ، وكان ذلك في أواخر عام 1939 ، بدءاً بنشر مقالتين بعنوان : " التصوير الفني في القرآن الكريم " بمجلة المقتطف ، واستمر علي هذا الحال حتى عام 1944 حيث أصدر كتاباً بنفس العنوان ، وأقبل علي القرآن يدرسه ويتذوق أسلوبه وبلاغته ، وبعد عامين أصدر كتاب : " مشاهد القيامة في القرآن " وصدر له بعد ذلك كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " عام 1949 أثناء وجوده في أمريكا .. وتعمق فكره الإسلامي أثناء وجوده هناك ، ولما عاد أصدر عدة كتب إسلامية كان قمتها بدء " في ظلال القرآن " عام 1952 .
انضمام سيد قطب للإخوان المسلمين
لقد اقترب كثيراً من الإخوان بعد عودته من الولايات المتحدة الأمريكية ، وقال عن ذلك : " لقد ولدت من جديد عام 1952 " ، وانضم ذلك رسمياً عام 1953 ، وذكر ذلك كتابة منه وأهم عمل له هو رئاسة تحرير جريدة الإخوان المسلمين ، بدءاً من 20/5/1954 إلي 5/8/1954 ، وتولي داخل الجماعة بعض الأعمال الدعوية والثقافية .
اعتقل سيد قطب مرتين المرة الأولي في مقدمة الإخوان المعتقلين عام 1954 ، وبعد فترة قصيرة تم الإفراج عنه مع بقية الإخوان ، أما الاعتقال الثاني فكان بعد مسرحية حادث المنشية في 26/10/1954، وحكم عليه بالسجن خمسة عشر عاماً مع الأشغال الشاقة ، وأفرج عنه عام 1964 ، بناء علي وساطة الرئيس العراقي عبد السلام عارف ، أما الاعتقال الثالث فكان عام 1965 ، الذي انتهي به إلي حبل المشنقة .
ومن المعلوم أن نشاط الإخوان كان قد توقف بعد محنة 1954 ، وقامت بعض المحاولات المتواضعة ولم تستمر ، إلا أن المحاولة الهامة التي ارتبط بها وتولي قيادتها هي تنظيم 1965 ، الذي تأسس عام 1957 بين كل من الضابط المهندس أمين شاهين - رحمه الله تعالي - وأحمد عبد المجيد وعلي عشماوي من جهة ، والشيخ عبد الفتاح إسماعيل التاجر والشيخ محمد فتحي رفاعي المدرس بالمعاهد الأزهرية من جهة أخري .
تم دمجهما عام 1962 ، وانضم لهم بعد ذلك تنظيم الإسكندرية والبحيرة ومثله بقيادة التنظيم مجدي عبد العزيز متولي ، وانضم كذلك صبري عرفة الكومى بدلا من الشيخ فتحي رفاعي الذي سافر للجزائر وكان الشهيد سيد قطب علي صلة بالتنظيم وهو بداخل السجن عن طريق شقيقته حميدة ، فزينب الغزالي ثم إلي الشيخ عبد الفتاح ، ويمد التنظيم بمذكرات وبحوث .
ولما تم الإفراج عنه عام 1964، اتصل به أعضاء قيادة التنظيم وبعد مشاورات عرضوا عليه قيادته للتنظيم ، وتم ذلك بعد مقابلته لفضيلة الأستاذ حسن الهضيبي ، وأخذ الموافقة منه وانتظم العمل في التنظيم بقيادة الأستاذ سيد
قطب ، وبدأ يوجه أعضاء القيادة ويشرح لهم بعض الأمور الهامة ، خاصة موضوع العقيدة يرجع لها من يريد في كتاب الإخوان وعبد الناصر .
صدور الأحكام
في صباح يوم 21/9/1966 توجه المتهمون في القضية الأولي لسماع النطق بالأحكام في نفس مبني المحكمة بمبني قيادة الثورة بالجزيرة ، وصدر الحكم علي أعضاء القيادة السبعة بالإعدام وفي مقدمتهم سيد قطب ، وتم التخفيف علي أربعة منهم ، وتم تنفيذ الحكم علي المتهمين الثلاثة الأولي هم : سيد قطب إبراهيم ، محمد يوسف هواش ، وعبد الفتاح إسماعيل ، رحمهم الله جميعاً وتقبلهم من الشهداء ، وكان ذلك يوم الاثنين 29/9/1966 .

شهادات إنصاف وتقدير

هذا الرجل :-
" الذين يعرفون الشهيد سيد قطب ، ودماثة خلقه ، وجم أدبه ، وتواضعه ، ورقة مشاعره ، يعرفون أنه لا يُكفر أحداً ، إنه داعية إسلامي ، من عيون دعاة المسلمين ! ظلمه من أخذ كلامه علي غير مقاصده ، ومن هاجموه متجنين ، لما رأوا من عميق تأثير كلماته وكتاباته علي الشباب الطاهر النظيف ....."
الأستاذ / عمر التلمساني
المرشد العام الثالث للإخوان المسلمين - رحمه الله
" إن كتاب معالم في الطريق قد حصر أملي كله في سيد قطب ! فقد قرأته وأعدت قراءاته !
وإن سيد قطب هو الأمل المرتجي للدعوة الآن ، إن شاء الله !" الأستاذ / حسن الهضيبي
" إنني متأكد كاملاً إن شاء الله أنه ليس في كتابات سيد قطب ما يخالف الكتاب والسنة ، اللذين قامت عليهما دعوة الإخوان المسلمين ، وتأكدي الكامل من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف أفكار وأقوال الشهيد حسن البنا ن مؤسس هذه الجماعة .." .
الأستاذ / محمد قطب ..
" كان سيد قطب رحمه الله رحيماً ، لا يغضب إلا للحق .
وما رأيته مرة واحدة غاضباً ، عف اللسان حتى عند ذكر أعداء الله ، لطيف المجلس ، حلو المعشر ، لا تفارقه الابتسامة الوقور ، ذو دعابة مؤدبة ، رقيق المشاعر ، مرهف الحس ... إذا سألت أو ناقشت يستمع إليك ، حتى تنتهي من كلامك تماماًَ ، ولا يقاطعك ، ولا يعرض برأيك ولو خالفته الرأي ، ولا يرفع صوته حتى ولو رفعت صوتك ، ولا ينفعل حتى لو انفعلت ...." .
الأستاذ / أحمد عبد المجيد
من قادة التنظيم الإخواني الجديد عام 1965
" كتاب التصوير الفني في القرآن فتح والله جديد ، وسيد قطب وقع علي كنز من كنوز القرآن ، كأن الله ادخره له فلم يعط مفتاحه لأحد قبله ، حتى جاء هو ففتحه ..." .
الأستاذ / علي الطنطاوي - رحمه الله
"لقد برهن سيد قطب بمواقفه في عهد الطغيان علي أنه يحسن القول في تأييد الحق يوم يتجهم وجه الباطل القوي للحق ، إذا انصرف عنه جنوده ، وهناك كثيرون من حملة الأقلام يحسنون تأييد الحق إذا كانت له سوق يروج فيها ، أو دولة تخطب ود مؤيديه ولو إلي حين ، وهم علي استعداد لأن يقولوا غير ذلك أيضاً" .
" لقد تعاملت مع سيد قطب فرأيته متواضعاً ، لم يتطلع إلي شيء من المناصب أو الألقاب " .
الأستاذ / علال الفاسي
"قابلت سيد قطب في السجن بعد محاكمته والحكم عليه بالإعدام ، فقلت ، له : ماذا تنتظر يا أستاذ سيد ؟ فقال : انتظر القدوم علي ربي !! " .
الأستاذ / أحمد رائف
"المدير الفعلي للسجن هو سيد قطب وليس أنا ! لأنه موضع احترام السجانين والمسجونين جميعا" .
المدير الرسمي لسجن طره
" أعترف أنني أحب سيد قطب محبة عظيمة ، كما يحبه العديد من المسلمين الصالحين في مختلف بقاع العالم ، أحبه في الله ، لما وقفت عليه من مواقف إيمانية في سيرته وحياته الإسلامية ، ولما وقفت عليه من إضافات ثمينة أضافها إلي العلم والفكر والمعرفة والثقافة ، في التفسير والعقيدة والدعوة والجهاد ... أُحبه محبة عظيمة في الله ، وأتقرب بذلك إلي الله ، وأرجوا الله أن يجمعني به يوم القيامة هو وإخوانه الذين أنعم الله عليهم من العلماء الأعلام الربانيين الذين ينطبق عليهم قول الله سبحانه : (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا ) وروي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : جاء رجل إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقال ، يا رسول الله : كيف تقول في رجل أحب قوماً ولو يلحق بهم ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم : " المرء مع من أحب " .
وروي ابن جرير الطبري عن أنس ابن مالك رضي الله عنه ، قال : سئل رسول الله صلي الله عليه وسلم عن الرجل يحب قوماً ولم يلحق بهم ؟فقال صلي الله عليه وسلم : المرء مع من أحب " ! .
وأثارت مقالات أبي عزة في مجلة الشهاب اللبنانية ردود فعل عديدة حادة عنيفة قاسية ، وانقسم المتجادلون من الإسلاميين علي صفحات المجلة إلي فريقين :
فريق منصف لسيد قطب وفكره ، بين وجه الحق في المسائل الفكرية والفقهية والدعوية المثارة ، وحقيقة رأي سيد قطب الموضوعي فيها .
وفريق متحامل علي سيد قطب وفكره وفقهه الدعوي ، كالَ لسيد قطب الاتهامات جزافاً ، وأساء فهم واستيعاب وتأويل كلامه ! واستاء كثير من الإسلاميين من هذه المعركة ، ومن تحامل بعض الدعاة علي سيد قطب ، واتهامهم له بالباطل ، ولما يمض علي استشهاده سبع سنوات ! واطلع الأستاذ محمد قطب علي بعض هذا الصخب ، وكان حديث عهد في الخروج من السجن ، لأنه أفرج عنه عام 1972 وبعد توقيف زاد عن سبع سنوات
رسالة محمد قطب إلي كمال السنانيري
كتب الأستاذ محمد قطب رسالة إلي الأستاذ الشهيد كمال السنانيري - أحد قادة الإخوان المسلمين في مصر - وهو زوج المجاهدة أمينة قطب ، وقد استشهد بعد ذلك في سجن السادات ! وقد وضح في رسالته وجه الحق في كثير من القضايا المثارة .
ونشرت مجلة الشهاب اللبنانية رسالة الأستاذ محمد قطب إلي السنانيري : وفيما يلي نص الرسالة :
" أخي
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعد...
فإنك تعلم يا أخي ما دار من لغط في محيط الإخوان ، حول كتابات الشهيد سيد قطب ، وما قيل من كونها مخالفة لفكر الإخوان ، أو جديد عليه .
وأحب في هذا المجال أن أثبت مجموعة من الحقائق أحس بأنني مطالب أمام الله بتوضيحها ، حتى لا يكون في الأمر شبهة ..
إن كتابات سيد قطب قد تركزت حول موضوع معين ، هو : بيان المعني الحقيقي للا إله إلا الله ، شعوراً منه بأن كثيراً من الناس لا يدركون هذا المعني علي حقيقته ، وبيان المواصفات الحقيقية للإيمان ، كما وردت في الكتاب والسنة ، شعوراً منه بأن كثيرا من هذه المواصفات قد أُهمل ، أو غفل الناس عنه ! ولكنه مع ذلك حرص حرصاً شديداً علي أن يبين أن كلامه هذا ليس مقصودا إصدار أحكام علي الناس ، وإنما المقصود به تعريفهم بما غفلوا عنه من هذه الحقيقة ، ليتبنوا هم لأنفسهم : إن كانوا مستقيمين علي طريق الله كما ينبغي ، أم أنهم بعيدون عن هذه الطريق ، فينبغي إليهم أن يعودوا إليه ....
ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول : " نحن دعاة ولسنا قضاة " إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام علي الناس ، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة " لا غله إلا الله " لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي ، وهو التحاكم إلي شريعة الله ! كما سمعته أكثر من مرة يقول : إن الحكم علي الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك ! وهذا أمر ليس في أيدينا ، ولذلك نحن لا نتعرض لقضية الحكم علي الناس ، فضلا عن كوننا دعوة ولسنا دولة ، دعوة مهمتنا بيان الحقائق للناس ، لا إصدار الأحكام عليهم ....
أما بالنسبة لقضية المفاصلة ، فقد بين في كلامه أنها المفاصلة الشعورية ، التي لابد أن تنشأ تلقائياً في حس المسلم الملتزم ، تجاه من لا يلتزمون بأوامر الإسلام ، ولكنها ليست المفاصلة الحسية المادية ، فنحن نعيش في هذا المجتمع ، وندعوه إلي حقيقة الإسلام ، ولا نعتزله ! وإلا فكيف ندعوه ؟ .
تعقيب محمد قطب علي أفكار شقيقه الشهيد
تلك خلاصة كتابات سيد قطب .. ولي علي هذه الخلاصة تعقيبان :
الأول : هو تأكدي الكامل - بإذن الله - من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف الكتاب والسنة ، الذين تقوم عليهم دعوة الإخوان المسلمين .
الثاني : هو تأكدي الكامل - أيضاً - من أنه ليس في هذه الكتابات ما يخالف أفكار الشهيد حسن البنا مؤسس هذه الجماعة ، ولا يخالف أقواله ....
وهو الذي قال في رسالة " التعاليم" - في البند العشرين - علي أن المسلم الذي لا يجوز تكفيره هو :
الذي نطق بالشهادتين ، وعمل بمقتضاها ، وأدي الفرائض ..
وذلك فضلاً عن كون كتابات سيد قطب - كما أسلفت - لم يقصد بها إصدار الأحكام علي الناس ، وإنما كان قصده منها - كما قصد الإمام الشهيد بالضبط - وهو بيان حقيقة الإسلام ، ومواصفات المسلم ، كما وردت في كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم .
تلك حقائق ، أري أن من واجبي أن أُبينها وأُوضحها ، أداء للشهادة لله ، فإننا لا ندري متى نلقي الله ...
ولا ينبغي لنا أن نلقاه وقد كتمنا شهادة لله ! والله الموفق إلي سواء السبيل ..." .

شهادة عمر التلمساني

المرشد العام للإخوان المسلمين
الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني هو المرشد العام الثالث لجماعة الإخوان المسلمين ، وقدم شهادة لسيد قطب وفكره ، ثمينة قيمة ، وقيمة هذه الشهادة أنها صادرة من مرشد عام الإخوان وقائدهم ، وصاحب المرجعية القيادية الأولي فيهم ، ونقدم هذه الشهادة للذين يستمرون في الطعن في سيد قطب وفكره ، وهم من الإخوان المسلمين الملتزمين بتنظيم الجماعة ! ونقول لهم : ألا تكفيكم شهادة المرشد العام للجماعة ؟
قال التلمساني رحمه الله في كتابه " ذكريات لا مذكرات " عن فكر سيد قطب :
" أذكر أن الشهيد سيد قطب له مؤلفات عدة وجيدة ، علي مستوي رفيع ، منها : في ظلال القرآن ، والعدالة الاجتماعية في الإسلام ، ومعالم في الطريق .
وتمتاز هذه المؤلفات بالنقمة علي الظلم في كل مظاهره ، والحرص علي رفع المعاناة عن كل الطبقات ، وأن تسود مصر الحرية ، التي ليس لها حدود إلا فيما أحل الله وحرم ، وما تواضعت عليه الأمم الراقية ذات الحريات الواسعة ..." .
هذه هي المبادئ والمتطلبات التي تسود مؤلفاته ، والتي تسعي إلي تحقيقها طوال حياته ، مع إيمانه الكامل بأن ذلك لن يكون إلا إذ طبقت الحكومات شرع الله .
فهو لا يري في غيره إصلاحاً ولا نجاحاً ، أي في شرع الله .
ثناء التلمساني علي سيد قطب وكتبه :
فليس إذن في " معالم الطريق " جديد في فكر سيد قطب ، ولكن بما أن " معالم الطريق " كتبه الشهيد في السجن ، بعد أن ذاق ألوان العذاب علي مختلف قسوتها ووحشيتها ، فقد بدت نقمته علي مخالفة الشرع أوضح وأظهر .. وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب في يوم من الأيام أن يكفر مسلماً ، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال في أكثر من حديث : " إن من قال لا إله إلا الله ، مؤمنا بها قلبه ، لن يخلد في النار .. ولن يخلد في النار إلا الكافرون ، وهم الذين ينكرون وحدانية الواحد القهار !
هذه واحدة والثانية : أن كثرة ترداده لكلمة " المجتمع الجاهلي " لم يقصد بها تكفير المجتمع ، ولكن تشديد النكير علي الظلمة والطغاة والمستغلين والمشككين ! وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية ، ففي العذاب - ترهيب وتخويف - يقول الله : " فبشره بعذاب أليم " والبشري لا تساق " إلا في مجال الخير والنعيم ، وفي كثير من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم : " ليس منا من فعل كذا " .
لو قال كذا" ولم يقصد بذلك التكفير ، ولكن أن ذلك من سنتنا أو عملنا ، والقصد تقليل الدرجات !!
والذين يعرفون الشهيد سيد قطب ودمثة خلقه ، وجم أدبه وتواضعه ، ورقة مشاعره ، ويعرفون أنه لا يكفر أحداً ! إنه داعية إسلامي ، من عيون دعاة المسلمين ! ظلمه من أخذ كلامه علي غير مقاصده ، ومن هاجموه متجنين لما رأوا من عميق تأثير كلماته وكتاباته علي الشباب الطاهر النظيف !
هذا موجز مقتضب للمبادئ التي قام عليها كتاب " معالم في الطريق " .. وقد كان لي شرف الإطلاع عليه قبل طبعه ، ونحن في مستشفي " ليمان طره " .
ولا يسع المجال لأكثر من ذلك ، في موضوع يحتاج إلي مؤلفات ! لقد تحدثت عن الشهيد " سيد قطب " بما فيه الكفاية ... وأضيف أنه لما أُفرج عنه أول الأمر أرسل إلي وأنا في السجن ، يخبرني أن الجمهورية العراقية طلبته ليعمل في مجالات التعليم والتربية هناك ! واستشارني في الرفض أو القبول !
وكان رأيي أن يقبل ، لتخوفي مما كنت أتوقعه بالنسبة له من رجال الانقلاب .. ولكنه أثر البقاء في مصر ، ليدافع عن رأيه .. وهو قدر الله ، الذي لا ينفع معه احتياط ولا حذر .. " .
شهادة الدكتور بكر أبو زيد " عضو هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية " :
كتب " ربيع بن هادي عمير المدخلي " - عضو هيئة التدريس في الجامعة الإسلامية في المدينة - أكثر من كتاب في الطعن في سيد قطب وفكره .
ومن أشهر كتبه في ذلك كتابان :
الأول : " أضواء إسلامية علي عقيدة سيد قطب وفكره " .
الثاني : " مطاعن سيد قطب في أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم " .
وأصدر الكتابين عام 1414هـ - 1993م .
ونشرتها " مكتبة الغرباء الأثرية " في المدينة .
وقد أساء ربيع بن هادي المدخلي القول في سيد قطب وفكره ، وكان كلامه " متجنيا متحاملا " عليه ، وقد توفرت فيه الأخطاء التي سجلناها سابقاً ، في تعامل بعضهم مع بعض مع سيد قطب وفكره .. يبدو ذلك من بعض العناوين الصارخة المثيرة في كتاب " أضواء إسلامية علي عقيدة سيد قطب وفكره " منها : شذوذ سيد قطب في تفسير " لا إله إلا الله " عن أهل العلم .
عدم وضوح الربوبية والإلوهية عند سيد وفي ذهنه .
سيد وتكفير المجتمعات الإسلامية ، قول سيد بخلق القرآن وأن كلام الله عبارة عن الإرادة .
قول سيد بعقيدة وحدة الوجود والحلول والجبر .
غلو سيد في تعطيل صفات الله كما هو شأن الجهمية ، إنكار للميزان علي طريقة المعتزلة والجهمية .
اعتقاد سيد أن الروح أزلية منفصلة عن ذات الله .
سيد يجوز للبشر أن يشرعوا قوانين لتحقيق حياة إسلامية صحيحة .

إيمان سيد قطب بالاشتراكية المادية الغالية

وإذا كانت هذه العناوين بهذه الحدة والتحامل ، فكيف يكون تحامل وتجني كاتبها في المضمون ؟ ولا يعنينا هنا تفنيد اتهامات " ربيع بن هادي " لسيد قطب وفكره ، وبيان تحامله عليه ، وإنما يعنينا تسجيل شهادة منصفة للدكتور بكر أبو زيد .
بكر أبو زيد يرفض تجني ربيع بن هادي علي سيد قطب :
لما أنهي ربيع بن هادي المدخلي كتابه " أضواء إسلامية علي عقيدة سيد قطب وفكره " وقبل أن يدفعه للطبع أرسله إلي الأستاذ " بكر بن عبد الله أبو زيد " ليقرأه ، وينظر في الملاحظات التي قد تسجل عليه !
وقرأ بكر أبو زيد كتاب ربيع بن هادي ، وساءه اتهامات المدخلي لسيد قطب ، ورأي أن كتابه لا يصلح للبشر .
وأرسل إلي ربيع المدخلي رسالة قيمة ، سجل فيها نصحه له ، وأبرز له فيها أخطاءه التي وقع فيها ، وأثبت فيها شهادة إنصاف لسيد قطب قيمة ، لأنها صادرة عن رجل عالم ، من كبار علماء " الاتجاه السفلي " لها منزلة عالية عند هؤلاء في داخل السعودية وخارجها ، وله منزلة عالية عند المسلمين المعاصرين .
نص رسالة بكر أبي زيد لربيع بن هادي
ونثبت في ما يلي الرسالة الناصحة التي أرسلها الدكتور بكر أبو زيد لربيع المدخلي :
فضيلة الأخ الشيخ : ربيع بن هادي مدخلي الموقر .
بسم الله الرحمن الرحيم
وبعد ...
فأشير إلي رغبتكم قراءة الكتاب المرفق : " أضواء إسلامية علي عقيدة سيد قطب وفكره " . هل من ملاحظات عليه ؟ ثم هذه الملاحظات هل تقضي علي المشروع ، فيطوي ولا يروي ؟ أم هي مما يمكن تعديلها ، فيترشح الكتاب بعد للطبع والنشر ؟ ويكون ذخيرة لكم في الآخرة ، بصيرة لمن شاء من شاء من عباده في الدنيا ! .
ملاحظات بكر أبو زيد علي كتاب ربيع بن هادي :
لهذا أبدي ما يلي :
1 - نظرت في أول صفحة منه " فهرس الموضوعات " فوجدتها عناوين قد جمعت في سيد قطب - رحمه الله تعالي - أصول الكفر ، والإلحاد والزندقة : القول بوحدة الوجود ، القول بخلق القرآن ، يجوز لغير الله أن يُشرع ، غلوه في تعطيل صفات الله تعالي ، ولا يقبل الأحاديث المتواترة ، يشكك في أمور العقيدة التي يجب الجزم بها ، يُكفر المجتمعات ..
إلي آخر العناوين ، التي تقشعر منها جلود المؤمنين !! .
وأسفت علي أحوال علماء المسلمين في الأقطار ، الذين لم ينبهوا علي هذه الموبقات ! وكيف بين هذا وبين انتشار كتبه في الآفاق انتشار الشمس وعامتهم يستفيدون منها ، حتى أنت في بعض ما كتبت ! عند هذا أخذت بالمطابقة بين العنوان والموضوع ، فوجدت الخبر يكذبه الخبر ... ونهايتها بالجملة عناوين استفزازية ، تجذب القارئ العادي إلي الوقيعة في سيد رحمه الله تعالي .
وأما القارئ الذي عنده قدر يسير من البصيرة ، فإنه إذا قرأ الموضوع داخل الكتاب ، سيجد عنده ردة فعل قوية نحو ما كتبت ، وعودة الحنين إلي كتب سيد - رحمه الله تعالي - وإني أكره لي ولكم ولكل مسلم ، مواطن الإثم والنجاح ..وإن من الغبن الفاحش إهداء الإنسان حسناته إلي من يعتقد بغضه وعداوته ! .
2 - نظرت ، فوجدت هذا الكتاب يفتقد " أصول البحث العلمي " : الحيدة العلمية ، منهج النقد ، أمانة النقل والعلم ، عدم هضم الحق! .
كتاب ربيع بن هادي يفتقد أدب الحوار وأمانة النقل :
أما أدب الحوار ، وسمو الأسلوب ، ورصانة العرض ، فلا تمت إلي الكتاب بهاجس !! وإليك التدليل .
أولاً : رأيت الاعتماد في النقل من كتب سيد - رحمه الله تعالي - من طبعات سابقة مثل " الظلال "و"العدالة الاجتماعية " .
مع معلمكم أن لهم طبعات معدلة لاحقة ! والواجب حسب أصول النقد والأمانة العلمية تسليط النقد - إذا كان - علي النص من الطبعة الأخيرة لكل كتاب ، لأن ما فيها من تعديل ينسخُ ما في سابقتها !
وهذا غير خافٍ - إنشاء الله تعالي - علي معلوماتكم الأولية .
لكل لعلها غلطة طالب ، حضر لكم المعلومات ، ولما يعرف هذا ، غير خافٍ أيضاً ما لهذا من نظائر لدي أهل العلم ! فمثلاً كتاب " الروح " لابن القيم - رحمه الله تعالي - لما رأي بعضهم فيه ما رأي ، قال : لعله في أول حياته !.. وهكذا في مواطن لغيره .. وكتاب " العدالة الاجتماعية " هو أول ما ألفه في الإسلاميات والله المستعان ! .
ثانياً : لقد اقشعر جلدي حينما قرأت في فهرس هذا الكتاب قولكم : " سيد قطب يجوز لغير الله أن يشرع" !! فهرعت إليها قبل كل شيء ، فرأيت الكلام بمجموعة نقلاً واحداً لسطور معدودة من كتاب " العدالة الاجتماعية " وكلامه لا يفيد هذا العنوان الاستفزازي !! .
ولنفرض أن به عبارة موهمة أو مطلقة فكيف نحولها إلي مؤاخذة مكفرة ؟ تنسف ما بني عليه سيد - رحمه الله تعالي - حياته ، ووظف له قلمه ، من الدعوة إلي توحيد الله تعالي في " الحكم والتشريع " ورفض سن القوانين الوضعية ، والوقوف في وجود الفعلة لذلك !! إن الله يحب العدل والإنصاف في كل شيء ، ولا أراك - إن شاء الله تعالي - إلا في أوبة العدل والإنصاف !! .
ثالثاً : ومن العناوين الاستفزازية قولكم : " قول سيد قطب بوحدة الوجود " إن سيداً - رحمه الله تعالي - قال كلاماً متشابهاً ، حلق فيه بالأسلوب ، في تفسير سورتي الحديد والإخلاص ، وقد اعتمد عليه بنسبة القول بوحدة إليه ! وأحسنتم حينما نقلتم قوله في تفسير سورة البقرة، من رده الواضح الصريح لفكرة وحدة الوجود ، ومنه قوله : " ومن هنا تنتفي من التكفير الإسلامي الصحيح فكرة وحدة الوجود " .
لهذا فنحن نقول : غفر الله لسيد كلامه المتشابه ، الذي جنح فيه بأسلوب ، وسع فيه العبارة والمتشابه لا يقاوم النص الصريح القاطع من كلامه ! .
لهذا أرجو المبادرة إلي شطب هذا التكفير الضمني لسيد - رحمه الله تعالي - وإني مشفق عليكم ..! .
رابعاً : وهنا أقول لجنابكم الكريم بكل وضوح : إنك تحت هذه العناوين " مخالفته في فسير لا إله إلا الله للعلماء وأهل اللغة " و" عدم وضوح الربوبية والإلوهية عن سيد " ..
أقول : أيها المحب الحبيب - لقد نسفت بلا تثبت ، جميع ما قرره سيد - رحمه الله عالي - من معالم التوحيد ومقتضياته ولوازمه التي تحتل السمة البارزة في حياته الطويلة !
فجميع ما ذكرتم يلغيه واحدة ، وهي :
إن توحيد الله في الحكم والتشريع من مقتضيات كلمة التوحيد ! وسيد - رحمه الله تعالي - ركز علي هذا كثيراً ، لما رأي من هذه الجرأة الفاجرة علي إلغاء شرع الله من القضاء وغيرهُ وإحلال القوانين الوضعية بدلاً عنها ، ولاشك أن هذه جرأة عظيمة ، ما عهدتها الأمة الإسلامية في مشوارها الطويل ، قبل عام 1432هـ .
خامساً : ومن عناوين الفهرس : " قول سيد بخلق القرآن ، وأن كلام الله عبارة عن الإرادة " ! .
ولما رجعت إلي الصفحات المذكورة ، لم أجد حرفاً واحداً ، يصرح فيه سيد - رحمه الله تعالي - بهذا اللفظ :
القرآن مخلوق ! كيف يكون هذا الاستسهال للرمي بهذه المكفرات ؟ إن نهاية ما رأيت له تمدد في الأسلوب ، كقوله : " ولكنهم لا يملكون أن يؤلفوا منها - أي الحروف المقطعة - مثل هذا الكتاب ، لأنه من صنع الله ،لا من صنع الناس "! وهي عبارة لاشك في خطئها ! لكن : هل نحكم من خلالها
أن سيد يقول بهذه المقولة الكفرية " خلق القرآن " ؟ اللهم إني لا أستطيع تحمل عهدة ذلك !! .
ولقد ذكرني قوله بقول نحوه ، للشيخ " محمد بن عبد الله عظيمة " - رحمه الله تعالي - في مقدمة كتابه :
دراسات في أسلوب القرآن الكريم ، الذي طبعته - مشكورة - جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية ! فهل نرمي الجميع بالقول بخلق القرآن ؟ اللهم لا !! وأكتفي بهذه من الناحية الموضوعية - وهي المهمة .
ست ملاحظات أخري لبكر أبو زيد علي كتاب ربيع بن هادي وهي :
1 - مسودة هذا الكتاب تقع في (161) صفحة بقلم اليد وهي بخطوط مختلفة ! ولا أعرف منه صفحة واحدة بقلمكم حسب المعتاد !! إلا أن يكون اختلف خطكم ، أو اختلط علي !! أم أنه عُهد بكتب سيد قطب - رحمه الله تعالي - لعدد من الطلاب ، فاستخرج كل طالب ما بدا له ، تحت إشرافكم أو بإملائكم ؟؟؟ لهذا فلا أتحقق من نسبته إليكم ، إلا أن ما كتبته علي طرته أنه من تأليفكم ! وهذا عندي كافٍ في التوثيق بالنسبة لشخصكم الكريم !! .
2 - مع اختلاط الخطوط ، إلا أن الكتاب من أوله إلي آخره يجري علي وتيرة واحدة ، وهي : أنه بنفس متوترة ، وتهيج مستمر ، ووثبة تضغط علي النص ، حتى يتولد منه أخطاء الكبار ، وتجعل محل الاحتمال ومشتبه الكلام محل قطع ، لا يقبل الجدال ... وهذا نكث لمنهج النقد : الحيدة العلمية !! .
3 - من حيث الصياغة : إن قارنا بينه وبين أسلوب سيد - رحمه الله تعالي - فهو في نزول ، وسيد قد سما ! وإن اعتبرناه من جانبكم الكريم ، فهو أسلوب " إعدادي " لا يناسب إبرازه من طالب علمٍ حاز العالمية العالية .. لابد من تكافؤ القدرات في الذوق الأدبي ، والقدرة علي البلاغة والبيان ، وحسن العرض .. وإلا فليُكسر القلم !! .
4 - لقد طغي أسلوب التهيج والفزع ، العلمي للنقد ! ولهذا افتقد الرد أدب الحوار !! .
5 - في الكتاب من أوله إلي آخره تهجم ، وضيق عطن ، وتشنج في العبارات ، فلماذا هذا ؟ .
6 - هذا الكتاب ينشط الحزبية الجديدة، التي أنشأت في نفوس الشبيبة جنوح الفكر ، بالتحريم تارة ، وأن هذا بدعة ، أو ذلك مبتدع ، وهذا ضلال ، وذاك ضال .. ولا بينة كافية للإثبات !! .
وولدت غرور التدين والاستعلاء ! حتى كأنما الواحد عند فعلته هذه يُلقي حملاً عن ظهره ، قد استراح من عناء حمله ، وأنه يأخذ بحجز الأمة عن الهاوية ، وأنه في اعتبار الآخرين قد حلق في الورع والغيرة علي حرمات الشرع المطهر !! وهذا من غير تحقيق ، هو في الحقيقة هدم وإن اعتبرناه بناء علي الشرفات فهو إلي التساقط ثم التبرٌَد في أدراج الرياح العاتية !
هذه سمات ست ، تمتع بها هذا الكتاب ، فكان غير ممتع !! هذا ما بدا لي ، حسب رغبتكم ... .

ثناء بكر أبو زيد علي سيد قطب

وأعتذر من تأخر الجواب ، لأنني من ليس لي عناية بقراءة كتب هذا الرجل ، وإن تداولها الناس !! لكن هول ما ذكرتم ، دفعني إلي قراءات متعددة في عامة كتبه ، فوجدت في كتبه خيراً كثيراً وإيماناً مشرقاً ، وحقاً أبلجاً ، وتشريحاً فاضحاً لمخططات العداء للإسلام ! علي عثرات في سياقاته ، واسترسال بعباراته ! ليته لم يفه بها ! وكثير منها ينقضها قوله الحق في مكان آخر ! والكمال عزيز !! والرجل كان أدبياً نقادة ، ثم اتجه إلي خدمة الإسلام من خلال القرآن العظيم ، والسنة المشرفة ، وسخر قلمه ووقته ودمه في سبيلها ، فشرق بها طغاة عصره !!
وأصر علي موقفه في سبيل الله تعالي ، وكشف عن سالفته ... وطلب منه أن يسطر بقلمه كلمات اعتذار ! وقال كلمته الإيمانية المشهورة : إن أصبعاً أرفعه للشهادة ، لن أكتب كلمة تضارها أو كلمة نحو ذلك !
فالواجب علي الجميع الدعاء له بالمغفرة ! والاستفادة من علمه ! وبيان ما تحققنا خطأه فيه ! وإن خطأه لا يوجب حرماتنا من علمه ، ولا هجر كتبه ! واعتبر - رعاك الله - حال بحال أسلاف مضوا ، أمثال أبي إسماعيل الهروى والجيلاني ، كيف دافع عنهما شيخ الإسلام ابن تيميه - رحمه الله تعالي - ما لديها من الطوام ! لأن الأصل في مسلكهما نصرة الإسلام والسنة ..
وانظر " منازل السائرين " للهروى - رحمه الله تعالي - تري عجائب لا يمكن قبولها !
ومع ذلك فابن القيم - رحمه الله تعالي - يعتذر عنه أشد الاعتذار ، ولا يجرمه فيها ، وذلك في شرحه " مدارج السالكين " ! وقد بسطت في كتاب " تصنيف الناس بين الظن واليقين " ما تيسر لي من قواعد ضابطة في ذلك !
حكم بكر أبو زيد علي كتاب ربيع بن هادي :
وفي الختام : فإني أنصح فضيلة الأخ في الله ، بالعدول عن طبع هذا الكتاب " أضواء إسلامية ..." وإنه لا يجوز نشره ، ولا طبعه ، لما فيه من التحامل الشديد ، والتدريب القوى لشباب الأمة علي الوقيعة في العلماء وتشذيبهم ، والحط من أقدارهم ، والانصراف عن فضائلهم !! وامح لي - بارك الله فيك - إن كنت قسوت في العبارة ، فإنه بسبب ما رأيته من تحاملكم الشديد ، وشفقتي عليكم ، ورغبتكم الملحة بمعرفة ما لدي نحوه ، جري القلم بما تقدم !!
سدد الله خطي الجميع
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم
بكر بن عبد الله أبو زيد 20/1/1414هـ

شهادة الدكتور عبد الله عزام

رحمه الله
" والحق أنني ما تأثرت بكاتب كتب في الفكر الإسلامي أكثر مما تأثرت بسيد قطب ، وإني لأشعر بفضل الله العظيم علي أن شرح صدري وفتح قلبي لدراسة كتب سيد قطب ، فقد وجهني سيد قطب فكرياً وابن تيمية عقدياً وابن القيم روحيًا والنووي فقهياً فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياتي أثراً عميقاً .
لقد كان لاستشهاد سيد قطب أثر في إيقاظ العالم الإسلامي أكثر من حياته ، ففي السنة التي استشهد فيها يطبع الظلال سبع طبعات بينما لم تتم الطبعة الثانية أثناء حياته .. ولقد مضي سيد قطب إلي ربه رافع الرأس ناصح الجبين عالي الهامة ، وترك التراث الضخم من الفكر الإسلامي الذي تتوارثه الأجيال ، بعد أن وضح معان غابت عن الأذهان طويلاً ، وضع معاني ومصطلحات الطاغوت ، الجاهلية ، الحاكمية ، العبودية ، والإلوهية ، ووضح بوقفته المشرفة معاني البراء والولاء ، والتوحيد والتوكل علي الله والخشية منه والالتجاء إليه " .
فتوى سماحة الشيخ عبد الله بن جبريل عن حسن البنا وسيد قطب - رحمهما الله تعالي :
بعض الشباب يبدعون الشيخ سيد قطب وينهون عن قراءة كتبه ويقولون أيضاً نفس عن حسن البنا ويقولون عن بعض العلماء أنهم خوارج وحجتهم تبين الأخطاء للناس ، وهم طلبة حتى الآن .
أرجو الإجابة حتى إزالة الريب لنا ولغيرنا حتى لا يعم هذا الشيء .
الجواب : الحمد لله وحده ...
وبعد ...
لا يجوز التبديع والتفسيق للمسلمين لقول النبي صلي الله عليه وسلم : " من قال لأخيه يا عدو الله وليس كذلك حار عليه " ، وفي الحديث : " أن من كفر مسلماً فقد باء بها أحدهما ، وفي الحديث : " أن رجلا مر برجل وهو يعمل ذنباً فقال والله لا يغفر الله لك ، فقال من ذا الذي يتأني عليٌَ أني لا أغفر لفلان ، إني غفرت له وأحبطت عملك " .
ثم أقول إن سيد قطب وحسن البنا من علماء المسلمين ومن أهل الدعوة وقد نفع الله بهما وهدي بدعوتهما خلقاً كثيراً ولهما جهود لا تنكر ولأجل ذلك شفع الشيخ عبد العزيز بن باز في سيد قطب عندما قرر عليه القتل وتلطف في الشفاعة فلم يقبل شفاعته الرئيس جمال - عليه من الله ما يستحق - ولما قتل كل منهما ( يقصد : سيد قطب وحسن البنا ) أطلق علي كل واحد أنه شهيد لأنه قتل ظلماً ، وشهد بذلك الخاص والعام ونشر ذلك في الصحف والكتب بدون إنكار ثم تلقي العلماء كتبهما ، ونفع الله بهما ولم يطعن أحد فيهما منذ أكثر من عشرين عامًا .

شهادة العالم الجليل الأستاذ أبو الحسن الندوى

هذه الشهادة لها وزنها وثقلها لأنها صادره من عالم الهند الشهير ، ومؤلف الكتاب الرائع ":" ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين" حيث قال عندما سمع خبر إعدام سيد قطب : " إن هذه الشهادة ليست شهادة الأفراد ، وإنها ليست هدراً للدماء وعبثاً بالحقوق البشرية والكرامة الإنسانية فحسب ، وإنها ليست همجية وعداء سافراً للإسلام فحسب ، بل إنها خسارة فادحه للدعوة الإسلامية والعلم والأدب ، والدراسة والبحث والأدب والنقد ، ومأساة علمية ضخمة ، إن سيد قطب من أولئك الأفذاذ الذين يسعد بهم العالم الإسلامي ، وهو في الطراز الأول من صفوة الدعاة ورجال الفكر والأدب الذين تحظي بهم الأمم بعد فترات طويلة .
وأخيرًا ...

شهادة الأستاذ محمد مهدي عاكف

- المرشد العام للإخوان المسلمين :
في حوار مع مجلة المختار الإسلامي ، قال فضيلته : الشهيد سيد قطب عليه رحمة الله لم يكفر مسلمًا ، فقد كان مفكراً وعالمًا وأدبيًا ، وهؤلاء الذين يتحاملون علي الشهيد لم يعرفوا مقصده مما قال ، ولا الظروف التي قيل فيها هذا الكلام .

حول فكر سيد قطب

أثار فكر وتوجه سيد قطب الإسلامي جدلاً كبيراً ، رغم مرور أكثر من خمسة وثلاثين عامًا ، ومازال يثير جدلاً وحواراً ونقاشاً بين مؤيد ومعارض ومنتقد له .
ولاشك أن هذا مظهراً من مظاهر القوة والحيوية والأصالة ، فبعض الناس يبقي فكره حياً بعد موته بعشرات السنين ، ومرور القرون ، وسيد قطب من هذا النوع مثله كمثل ابن تيميه وابن القيم ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم .
ولقد ووجه فكر سيد قطب بالفئات التالية :
1 - الأعداء لهذا الدين : من الغربيين والشيوعيين والصهيونيين والعلمانيين وأعوانهم من الظالمين المزورين في بلاد المسلمين ، وهؤلاء تولوا فكر سيد قطب من منطق مهاجمة الإسلام نفسه ومحاربة رجاله وجنوده وعلمائه
وموقف هؤلاء طبيعي مفهوم .
لأن حربهم لهذا الدين دعتهم إلي حرب فكره فها هو موجود منتشر في العالم الإسلامي ، ولله الحمد .
2 - الجاهلون من المسلمين : وهو الذين لم يحسنوا فهم فكر سيد قطب ، لضيق أفقهم ، وقلة علمهم ، ولهوي في نفوسهم ، فقولوه ما لمخ يقل ، ونادرا بأفكار باطلة نسبوها لسيد قطب ، مثل : دعوي تكفير المخالفين من المسلمين ، وحرمة العمل في الوزارات والوظائف العامة ، ومنع التعامل مع الفقه الإسلامي ، ووجوب العزلة الحسية المادية .. والانقطاع عن المجتمع ! .
3 - المتعصبون ضد سيد قطب من الإسلاميين : من هؤلاء من ينتمي لما يسمي بالتيار " السلفي " ، الذي يتبني أفكاراً خاصة معينة في بعض فرعيات العقيدة والدعوة ، كالكلام علي بعض صفات الله ، والكلام علي الاستواء والعلو والنزول والمعية لله تعالي ، فرفضوا القول بإتباع سيد قطب للكتاب والسنة ، وفهم سلف الأمة ، واعتبروهُ في العقيدة مخالفاً للفهم السلفي ، ومن ثم اتهموه في عقيدته ، وفي دينه وإسلامه ، وفي علمه وفهمه ، وبعضهم أصدر كتباً أدارها علي هذا ، وبعضهم أخرجه من دائرة العلم ، وبعضهم أخرجه من دائرة الإسلام ! .
ومن المتعصبين ضد سيد قطب وفكره الحركي الدعوي :
بعض الدعاة إلي الإسلام ، وهؤلاء تعصبوا ضد فكر سيد وأرائه في فقه الدعوة والحركة ، واتهموا فكره بأنه مرفوض غريب علي العمل الإسلامي وأنه نتاج التجربة المريرة التي عاشها في السجن ، وأنه من ثم " فكر سجون ضيق منغلق متشنج " متكلس " ولا يصلح للإخوان المسلمين الإصلاحيين المنفتحين علي المؤسسات والناس ، والمجتمع وأنظمته ! ولهذا حارب هؤلاء المتعصبون فكره وآراءه الدعوية والحركية .
4 - المتزنون المنصفون : وهم الذين تعاملوا مع فكر سيد قطب بمنهجية وموضوعية ، فلم يبالغوا في تقديره إلي مرحلة التقديس وادعاء العصمة وقبول كل حرف كتبه ولم يغالوا في التعصب ضده ومجافاته ومهاجمته ، كما فعل الآخرون من الإسلاميين - من بعض السلفيين وبعض الإخوان المسلمين .
وهؤلاء المتزنون طبقوا علي فكر سيد قطب الميزان الإسلامي العادل في النظر والتقويم ، ووزنوا هذا الفكر بالحق المتمثل بالكتاب والسنة فأخذوا ما وافق هذا الحق ، وهو كثير ورفضوا من فكره ما خالف الحق ، وهو قليل نادر ، ومثلوا بهذا الوسطية الإسلامية الواعية ، والإنصاف الإسلامي المطلوب .
وهؤلاء المتزنون المنصفون هم القطاع الكبير من دعاة الإسلام الملتزمين بالكتاب والسنة، ومن جمهور المثقفين ثقافة إسلامية ، المحبين للإسلام ، والملتزمين به ، الداعين إليه ، وهم كثيرون من وسط الأمة ، ولله الحمد .
نقد واعتراضات لفكر سيد قطب
لاشك أن التعامل مع العلماء والدعاة والمجاهدين يكون من باب التقدير والإعجاب ، والاعتراف لهم بالفضل ، سيد قطب يستحق ذلك ومن التقدير والإعجاب مع الاستفادة من علمه وفكره ، مع النظرة الموضوعية لما كتب وأثار من قضايا نذكر منها هنا بعضها ونلقي عليها الضوء - باختصار - لعلها ترد له الاعتبار فيما أثير وتدحض شبهات النقاد والمعترضين له ولأفكاره :
1 - الجاهلية : وقد كثر استخدامه لها في موضوعات شتى ، وقد اعترض الكثير علي استعماله لهذه الكلمة ، وقالوا أنها تعني الحكم بالمفر علي الناس والمجتمعات ، وقال آخرون إنه لا يجوز وصف المجتمعات المعاصرة بعد أن وصلت لدرجة متقدمة من العلوم والمخترعات والتكنولوجيا ، ونصفها بالجاهلية .
وقد استعملها سيد قطب علي أنها مصطلح قرآني " أفحكم الجاهلية يبغون " وليست محددة بزمن معين أو مكان معين ، وهي تعني الجهل بحقيقة الإلوهية ، والجهل بما يحبه الله سبحانه من إخلاص العبودية له وحده دون شريك ، ولا يقصد بها الكفر ، بل يقع تحتها أصناف شتى من الناس ، الذين يسودهم ويحكمهم وينظم حياتهم نظام غير إسلامي ، ويقول رحمه الله تعالي في هذا الوصف " ما هو المجتمع الجاهلي ؟ .. إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده .. ممثلة هذه العبودية في الصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية وفي الشرائع القانونية " .
ويقول كذلك عن الجاهلية في آخر كتاب كتبه في حياته :-
" إن العبرة في اعتبار أي نظام - أو عدم اعتباره - إسلامياً ، هو الجهة التي يصدر عنها هذا النظام ، فإن كان صادراً عن الله - سبحانه فهو إسلامي ، والإسلام هو الدين الساند يومذاك .
وإن كان صادراً عن غير الله ، فهو جاهلي والجاهلية هي السائدة يومذاك ..
وهذا هو مفرق الطريق بين الجاهلية والإسلام ، في كل وضع وفي كل نظام دون دخول في جزيئات وتفصيلات هذا النظام ! .
في جميع الأنظمة الأرضية - إذن - يتخذ الناس بعضهم بعضا أربابًا من دون الله .. وفي النظام الإسلامي
- وحده - يتحرر الإنسان " من هذه الربقة ويصبح حراً .
حراً يتلقي التصورات والمناهج والشرائع والقوانين والقيم والموازين من الله وحده شأن كل إنسان .
فهو وكل إنسان آخر علي سواء ، كلهم يقفون في مستوي واحد ويتطلعون إلي سيد واحد ، ولا يتخذ بعضهم بعضا أربابًا من دون الله " .
2 - الحاكمية : وقد قيل إن هذا مصطلح لم يرد ذكره لا في الكتاب ولا في السنة وغير ذلك من الاعتراضات .
ومعني هذا المصطلح عنده هو رد الحكم والتشريع إلي الله وحده ، وليس لأحد كائناً من كان أن ينتزع هذه الحاكمية لنفسه أو لأي شخص ، وهي تختلف عنده عن مفهوم الدولة الدينية ، بقوله سبحانه (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) ، ويقول سبحانه (!بbخ) الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) يقول الدكتور سعيد رمضان البوطي : " فالحاكمية إنما لله وحده هو المشرع لعباده في شتى شئونهم المتعلقة بدنياهم وآخرتهم ، وهو المرجع في حل كل مشكلة من مشاكلهم " ويقول الإمام السيف الآمدى يرحمه الله تعالي : " إعلم أنه لا حاكم سوي الله ، ولا حكم إلا ما حكم به " ويقول الدكتور يوسف القرضاوي : " وقد زعم بعض الناس أن فكرة الحاكمية فكرة مودودية قطبية ، وهذا جهل وغلط ، فهذا أمر اتفق عليه الأصوليون ، وصرحوا في مبحث الحكم من علم أصول الفقه ، أن الحاكم هو الله ، لا حاكم غيره " .
المفاصلة : وهذه أيضاً كانت ولازالت من الموضوعات موضع النقد والاعتراض ، وقبل أنه يقصد اعتزال الناس والمجتمع وقيل مقاطعة مؤسسات معينة كالوظائف والتعليم وغيرها .
وهي تعني عنده المفاصلة الشعورية المعنوية التي تكون بالقلب ولا يطلع عليها أحد إلا الله سبحانه ، وهذه يجب أن تكون يقينية ، فلا محبة ولا مناصرة مع أهل الباطل ، وتكون في حالة القوة والمنعة ، أو في حالة الاستضعاف .
ولا تمنع المفاصلة من إحسان الصلة والمعاملة الطيبة مع الأهل والأقارب والناس ، وتقديم القدوة الطيبة لهم من حسن المعاشرة ماداموا لم يظهروا العداء .
أما المفاصلة المادية : فتكون في المعاملات المادية الظاهرة ، وقد يكون في موقف أو كثر ، حسب ما يقابل الشخص ويفاصل الناس في المعاصي وفيما يخالف شرع الله .
ولا يخالطهم أو يشاركهم في باطلهم .
يقول يرحمه الله : " إن العظمة الحقيقية أن نخالط هؤلاء الناس متشبعين بروح السماحة ، والعطف علي ضعفهم ونقصهم وخطئهم ، وروح الرغبة الحقيقية في تطهيرهم وتنقيتهم ، ورفعهم إلي مستوانا بقدر ما نستطيع .
فهل من يعطف علي الناس ويحنو عليهم وتقديم القدوة الطبية مع المعاشرة لهم ، يقاطعهم ويعاديهم ولا يتمني أو يسعي بالخير لهم ؟ ، أو يحكم عليهم بالكفر ! .
4 - التكفير : هذه التهمة من أكثر التهم التي كثر الحديث عنها عن سيد قطب ، وقد اتهم بها الكثير قبل ذلك ..
نذكر منهم : الشيخ العالم المجدد / محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله تعالي - وهي تهمة هو منها بريء ، وقد حمل البعض كلامه علي غير مقصده ومراده ، ولم تشغله هذه القضية أو أخذت حيزاً من كلامه ، ولكن الذي أهتم به وأخذ مساحة كبيرة من كلامه ، أو قل معظم كلامه هو أمر الدعوة ، وإيصال الحق لهم ناصعًا .
وقد أخذت هذه القضية اهتمامًا خاصاً سواء المتهم له فيها أو المدافع عنه ودفع هذه الشبهة عنه ، وقد رأينا - بعد توفيق الله تعالي - أن نجمع معظم ما قيل سواء بالاتهام أو بالدفاع ، وهو ما نعرضه في الصفحات القادمة إن شاء الله ، مع التعليق البسيط إذا لزم الأمر .
دراسة منصفة ومعتدلة
سيد قطب فوق الاتهام ... ولكن !
قد يبدو غريباً أن يكون شخص فوق الاتهام ! لكن هذا جاء ليمايز تناول ملفنا حول الشهيد " سيد قطب " عن تلك "القراءة المريضة" ، وربما سماها البعض بـ" القراءة الظاهرية وفي هذا ظلم لمذهب إمام كبير بوزن ابن حزم رحمه الله ، مهما يكن موقفنا منه ، فآفة تلك القراءة المريضة في عقول أصحابها وقلوبهم التي سولت لهم القول بكفر قطب نفسه أو أنه يقول بوحدة الوجود أو ما شابه ذلك !
كما أن نفي الاتهام وضع ليميز بين الطعن في الأشخاص ومناقشة الأفكار ، فلسنا هنا معنيين بشخص قطب - رحمه الله - جرحًا أو تعديلاً علي طريقة المتسلفين الجدد الذين شوهوا علمًا جليلاً اسمه " الجرح والتعديل " فجعلوه مطية لادعاءاتهم وتصفية حساباتهم ! .
إنه يجب الفصل بحدة بين الأفكار والأشخاص ، وبين صحة الأفكار وتضحية أصحابها ومصيرهم ، فموت الأشخاص في سبيل فكرة لا يعني صحتها ، ولكن لاشك أننا نقدر هذا الصدق والإخلاص للأفكار - مهما تكن - وقد عز في زماننا !
وهذان موقفان متمايزان : موقف أخلاقي نلتزمه ، وموقف فكري نناقشه ونأخذ منه وندع
سيد قطب فوق الاتهام كشخص دفع حياته لأفكاره ، وشد أن شرع الله - وفق اجتهاده وإن اختلفنا معه - أغلي من حياته ، ورفض أن يشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول ! وقال : إنه يرفض أن يكتب بسبابة توحد الله ما يضرها !.
وهو القائل :" إن كلماتنا ستبقي عرائس من الشموع حتى إذا متنا من أجلها انتقضت حية وعاشت بين الأحياء " ، وهذا ما يجعل من الفصل بين صحة الفكرة وتضحية أصحابها في سبيلها صعبًا علي المستوي المنهجي فالناس تعاطف دائماً مع الضحية ، وأفكار الموتى تقدس فكيف بمن وصفوا بالشهادة ؟ إنها بهذا تتغذي من معين الثورية والقدسية معاً .
سيد قطب .. وجماعات العنف
أول ما يلحظ في التعامل مع فكر سيد قطب - رحمه الله - أن الكثيرين يقرؤونه بمعزل عن سياقه زماناً ومكانًا وظروفاً ، وتكوينا شخصياً ، وهذا يرتد إلي النزعة الإطلاقية السائدة لدي كثير من الإسلاميين حين يتصورون الأفكار متعالية تهبط من السماء ، لا تتبع من الأرض .
وهذه الملحوظة المنهجية لها تأثيرها الكبير في الموقف الذي سنتخذه مع أو ضد ، ومن الأفكار التي سنناقشها سواء وصفناها بالتطرف أم الاعتدال ، فهما وصفان غير كافيين بذاتهما ، دون النظر إلي بيئة تشكل ذلك الفكر ، وروافده ، وفي مواجهة من وماذا ؟ هذا النظر سيؤدي بنا - علي مستوي الفكرة - إلي مسألة أخري لصيقة به وهي : هل يصلح لزماننا هذا كلاً أو جزءاً ؟ وإن كان يصلح جزئياً فما التعديل الواجب عليه ؟ وما الذي تغير ؟
وعلي مستوي الموقف سيؤدي بنا إلي تقدير أهمية الرجل في زمنه ، وعدم غمطه حقه ، لا تقديساً ولا تهويناً !.
فقطب برز في خضم الصراعات الفكرية ، وحصول " المثال" الغربي علي قدر كبير من السيادة في القيم السياسية وفي العادات وأساليب العيش ، وفي ظل صعود نجم الاشتراكية والفكر القومي لدرجة ظهور محاولات تحمل الربط بين الإسلام والاشتراكية والقومية ، ولو عنواناً .
فكر قطب .. وسياقه التاريخي
كانت الصراعات الفكرية الدائرة آنذاك ، سواء التغريبية أم الإسلامية الإصلاحية ، تعكس - في أحد جوانبها - حالة نفسية تجاه الغرب ، انبهاراً بمنجزاته ، ومع سقوط الخلافة وقيام الدولة الوطنية العلمانية ، سادت أجواء من اهتزاز الثقة بالنفس ، وفي هذا السياق جاء السؤال الكبير والمؤثر الذي صاغه أبو الحسن الندوى (1950م) - رحمه الله - " ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين ؟" ، واعتبره سيد قطب من خير ما قرأ من الكتب التي تتناول الإسلام كـ" عقيدة استعلاء " من أخص خصائصها أنها تبعث في روح المؤمن بها إحساس العزة من غير كبر ، وروح الثقة من غير اغترار ، وشعور الاطمئنان من دون تواكل ، وتشعر المسلمين بالتبعة الإنسانية الملقاة علي كواهلهم ، تبعة الوصاية علي هذه البشرية في مشارق الأرض ومغاربها ، وتبعة القيادة في هذه الأرض للقطعان الضالة ، بعد أن انتكس المسلمون " إلي الجاهلية الأولي "
علي حد تعبير سيد قطب في مقدمته للكتاب :- .
سيد قطب كانت كتاباته مشبعة بالحديث عن زيف الحضارة الجديدة ، وجنايتها علي الإنسان ، وفقدان الرجل الأبيض لدوره .
كان يكتب من منطلق استعلاء إيماني ، وكان مشروعه هون تجديد إيمان المؤمن بدينه ، وشحذ همته ، ليكون مؤهلاً لدور الوصاية ، فأعاد تعريف مفهوم " الجهاد " وحمل علي القائلين بكونه دفاعياً بشدة ، واتخذ موقف المفاصلة من الأنظمة التي وصفها بـ " الجاهلية " ، وتحدث عن ضرورة بناء الطليعة المؤمنة التي ستكون نواة للمجتمع الإسلامي علي صورته الأولي ، ونقاؤه لا يتأتي إلا من عزلته عن " الجاهلية " السائدة ، ومن ثم فإن الحديث عن الاجتهاد الفقهي هو - بمنظوره - عبث قبل إنشاء المجتمع الإسلامي ، فالاجتهاد يكون لمجتمع إسلامي لا جاهلي ! .
كان الخيار الراديكالي للأمة حسب ما تصوره نخبها في تلك الوقت هو إما التغريب الذي كان يعني التقدم ، أو الأسلمة والتي تعني لدي التغريبيين التخلف والرجعية ، وكانت مظاهر المجتمع تسير باتجاه التغريب ، الأمر الذي أدي إلي نشوء فكر الهوية ، وهنا مثل قطب أحد أركانه فعبث الكثير من الثقة في نفوس قرائه بدينهم ونصرته وعظمته ، وزهدهم بالنموذج الغربي وحضارته ، وبين لهم أن الإسلام هو الحضارة حين رفض وصفه بـ" المتحضر" .
واللافت أن قطباً كان يري أن دور الإسلام المنتظر يقتصر علي دائرة القيم فقط والتي ترتكس فيها الحضارة المعاصرة ، فقيادة العالم الغربي أوشكت علي الزوال ، لأنه لم يعد يملك رصيداً من القيم يسمح له بالقيادة" , ولابد من قيادة تملك إبقاء وتنمية الحضارة المادية التي وصلت إليها البشرية ، عن طريق العبقرية الأوروبية في الإبداع المادي ، وتزود البشرية بقيم جديدة جدة كاملة " هذه القيادة هي الإسلام كما يقول قطب .
لكن في المقابل لم يكن نقاء تصورات قطب ونزعته الطهورية لتعكس بالضرورة واقعيتها ، وصحتها أيضاً ، فقد كان مسكوناً بالمفاصلة الحدية مع جاهلية المجتمع ، وبهاجس أن الصراع مع العالم بأسره ومع الأنظمة هو عقدي ، وأن نقطة البدء في إقامة المجتمع الإسلامي هي تعبيد الناس - بحق - لله وفق مدلول الحاكمية عنده والتي هي من العقيدة (كلمة لا إله إلا الله ) ، ومن هنا كانت المفاهيم المركزية التي ميزت فكره هي : الجاهلية ، الحاكمية ، ومن باب هاتين الفكرتين ( العقديتين ) دخلت إلي الفكر السياسي الإسلامي والعمل الحركي جميع أفكار المقاطعة والتكفير والاستحلال واستباحة الدماء والأموال ، وعدد من النتوءات التي نسيت إلي الإسلام ! .
لم تكن أفكار قطب تتناول مسائل فقهية فرعية ، بل كان ينأي بنفسه عن ذلك أيضاً ، ليس لأنه بفقيه فقط ، ولكن بناء علي رؤيته الخاصة بخصوص " حضور " الفقه في المجتمع " الجاهلي" ، وهو إن لم يكن يهدف - كما يبدو وكما صرح هو في بعض شهاداته - إلي الحكم علي الناس ، لكن أصول أفكاره هي أفكار عقدية ، فهو قد جعل نظرية " الحاكمية " مسألة عقدية لصيقة بالإيمان والكفر ، بل داخله في مفهوم " التوحيد " الذي هو أخص خصائص مسائل الاعتقاد ، وربما يكون متأثراً في تقرير هذا بعكوفه علي كتب الإمامين الكبيرين ابن تيمية وابن القيم - رحمهما الله - في سجنه ، حيث بلور " حاكميته" في صورتها الأخيرة في كتاب " المعالم" ، وهو بهذا قدم للسلفية الجهادية المعاصرة معيناً ثرياً أدركت من خلاله " الشرك المعاصر" الذي يعكر صفاء التوحيد ، ولزم منه تكفير الحكام والأنظمة .
هذا فضلاً عن أنه شكل مع المودودي - ومن قبلهما البنا - ريادة لفكرة " النظام الإسلامي الشامل " طوال الخمسينيات والتي كان لها كبير أثر علي رؤية الحركات الإسلامية لدورها ، وذلك عندما كتبا في مكافحة الرأسمالية ، ومحاسن النظام الاجتماعي والاقتصادي الإسلامي ، كما كتب محمد الغزالي والسباعي - رحمهما الله - في مكافحة الشيوعية ، وفي القراءة النقدية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ، إلا أن قطباً سقي ذلك النظام بفكره الثوري ، وأمده ببرنامج عمل لتنفيذه في " معالمه " وبينة ذلك كانت أجواء القطعية والاشتباك مع النظام الحاكم .
يقوم النزاع هنا كثيراً حول مسألتين أساسيتين :
الأولي هل لفكر قطب علاقة بجماعات العنف والجهاد التي ظهرت ؟
والثانية : هل يتحمل قطب مسئولية هذا كله ؟
فيما يخص المسألة الأولي : يبدو للعديدين ولي أن فكر قطب شكل معيناً لكل الفكر الجهادي والحركي ، ومن السهل أن نلحظ كاريزما قطب لدي عدد من الحركات الإسلامية بدءاً من الحديث عن علاقته بالتنظيم الخاص الإخواني ودوره في الانشقاقات التي حدثت داخله أثناء فترة سجنه حتى قيل : إن تنظيم الإخوان غص بفكر سيد فلا هو قدر علي هضمه ولا هو قدر علي لفظه ، مروراً بعبد الله عزام رائد " الجهاد الأفغاني " الذي يقول : " وجهني سيد قطب فكرياً وابن تيمية عقدياً وابن القيم روحياً والنووي فهؤلاء أكثر أربعة أثروا في حياي أثراً عميقاً " وكذلك يذكر أبو قتادة عن الظواهري أنه عاش شبابه " منفعلاً بما كتبه سيد قطب " إلي أن التقي شباباً مثله وأسسوا التنظيم ، كما أن أبا قتادة شديد الاحتفاء بفكر سيد قطب يقول : إن " الحركات الإسلامية توقفت عموماً في التقدم نحو الأفضل ، ومن الأمثلة الصريحة علي ذلك صنيع الإخوان المسلمين ، فقد كان سيد قطب رحمه الله تعالي هو النتيجة الجيدة ، والموقع المتقدم بعد حسن البنا .
وهو يعتبر الحركات " الجهادية السلفية " هي " الطائفة المنصورة " ، وأن أول أسس شرعية عملها هو أن دار الإسلام قد انقلبت إلي دار كفر وردة ، لأنها حكمت من قبل المرتدين ، ولأن الكفر قد بسط سلطانه عليها من خلال أحكامه ودساتيره " ، وهذا ذاته مضمون ما نجده لدي قطب في كتبه ، ومع ذلك فهذا ليس حكماً علي الأفراد كما ينبه .
كما أن صالح سرية وهو صاحب أول تطبيق فعلي للعنف في مصر عام 1974 ( تنظيم الفنية العسكرية ) يقول في " رسالة الإيمان " التي كتبها سنة (1973م) :
" إن كل الأنظمة ، كذلك كل البلاد الإسلامية التي اتخذت لها مناهج ونظماً وتشريعات غير الكتاب والسنة فقد كفرت بالله واتخذت من نفسها آلهة وأرباباً .
فكل من أطاعها مقتنعاً بها فهو كافر" ، معتبراً هذا " الفرض الأول لأنها أساس التوحيد والشرك في هذا العصر " ، ومحيلاً إلي سيد قطب .
بل إنه اعتبر في مقدمة رسالته تلك أن من خير التفاسير لمعرفة التفسير الحق للقرآن " في ظلال القرآن " في طبعاته الأخيرة .
وبالرغم من أن محمد عبد السلام فرج صاحب الدور البارز في اغتيال السادات ، لم يأت علي ذكر قطب في " الفريضة الغائبة " الذي كتبه 1981م وشحنه بنقول عن ابن تيمية فإن جوهر الكتاب يقوم علي البدء بجهاد الأنظمة الكافرة ، وأن " الأحكام التي تعلو المسلمين اليوم هي أحكام الكفر " علي حد قوله ، ففكرة الحاكمية وروح كتابات سيد قطب غير خافية في رسالته وإن لم يذكره ، فهو يتحدث عن تكفير الأنظمة وجهادها ، ومفاصلة المجتمع ، " ودعوة الناس إلي الإسلام" وغير ذلك .
كما أن أفكار وإصدارات الجماعة الإسلامية المصرية عن الجهاد وتحكيم الشرع والمواجهة مع الأنظمة لابد أن تتماس مع فكر سيد قطب ، وليس بالضرورة أن يكون الشكل الوحيد للتفاعل هو النقل والاقتباس ، ففكر العنف يبدو لي بطبيعته لا يقف عند مرجعية ثابتة ، بل يطور نفسه وفق تعقيدات مختلفة تتعلق بالظرف والزمان والأشخاص ، ولا يمكن السيطرة عليه ، وهو الأمر الذي يفسر الانشقاقات التي تحصل داخل بعض التنظيمات الجهادية والعنفية .
إن أي حركة جهادية أو تغييرية عنفية لا يمكن لها أن تزهد بالمعين الثوري الذي تركه قطب ، ومن هنا نجد أنه حتى حركات الجهاد الحقيقي كحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين تحتفي بسيد قطب مع علي شريعتي ، ومالك بن نبي ، وثلاثتهم يشكلون وفق تعبير زعيمها الشهيد فتحي الشقاقي " مثلثاً خطيراً في الفكر الإسلامي الحديث " ، وكان كتاب " المعالم " من ضمن ما استند إليه الشقاقي في " كيفية الصياغة الثورية للفكر الإسلامي " . فسيد قطب تم النظر إليه في حركة الجهاد من زاوية تحقيقه " للشرط الذاتي " لعمليتي البعث والنهضة ، الشرط الذاتي كمحرك للذات الإسلامية التي أرادها متميزة وواعية بأزمة التحدي الغربي للأمة .
إذن إن ثورية قطب وأفكاره نشطت علي مجموعات ورجالات مختلفة التوجهات والعمل الحركي الإسلامي .
اعتذارات القطبيين ... ومنهجية قراءة فكر قطب
أما فيما يخص المسألة الثانية فيميل المدافعون عن قطب ، إلي أن المسألة لا تعدو أن تكون مشكلة قرائه ، لا مشكلته هو .
ويعتذرون بأدبيته عن فقهيته ، وبليونة تعبيراته عن دقة مدلولاتها ، وبأفعاله مع أقواله عن أقواله فقط ، وبالجمع بين نصوصه عن بعضها فقط ، وبظروف المولعين به عن مدلولات أفكاره في ذاتها ، وأن الظروف أوصلتهم إلي ما أوصلتهم إليه .
وهنا يحسن أن نذكر ملحوظات منهجية في التعامل مع الأفكار ، ومع فكر سيد رحمه الله تحديداً .
1 - ضرورة النظر لملابسات تأليف الكتاب :
إنه لابد من النظر مرة أخري في ملابسات تأليف الكتاب الذي يرجع إليه ، وأن مصنفات كاتب ما ليست جميعها علي درجة نفسها من العمق والتحرير أولاً ، فمنها قديماً أن يصنفوا الكتب في بداية طلبهم ، لمجرد النفع الذاتي ، وثانياً لأن الكاتب نفسه قد يقرأ عليه تغيير في فكره فيرجع عن شيء دونه قبل .
وهذا لابد من تحريه بالوسائل المنهجية المعروفة لدي المعنيين بهذا الشأن .
نضرب مثلاً للأول ، فالإمام الحافظ ابن حجر الذي قال في آخرة من حياته :
" لست راضياً عن شيء من تصانيفي ، لأني عملتها في ابتداء الأمر ، ثم لم يتسن لي تحريرها سوي شرح البخاري ومقدمته والمشتبه ، والتهذيب ، ولسان الميزان .
وأما سائر المجموعات فهي كثيرة العدد ، ضعيفة القوى ، خافية الرؤى .
ونضرب مثلاً آخر بالإمام الحافظ الذهبي الذي قال : " كتاب مستدرك الحاكم كتاب مفيد ، وقد اختصرته ويعوز عملاً وتحريراً ".
وأمام هذه النصوص يتبين لنا الخطأ الذي يقع فيه عديد من الباحثين المعاصرين حتى يتجاهلون هذه الكلمات أثناء تعاملهم مع تلك المصنفات فيشنع بعضهم علي الذهبي مثلاً لكونه سكت عن حديث ضعيف أو موضوع في المستدرك !
أو لخطأ وقع من ابن حجر في كتبه التي لم يحررها ومات غبر راض عنها !.
وللثاني نضرب مثالاً بالإمام الكبير الشافعي رضي الله عنه ، ومعلوم أنه تراجع عن مذهبه القديم ولم يحل الرجوع إليه باستثناء مسائل معدودة يعرفها أهل الفقه .
وفيما يخص سيداً ، وهو قاصر عمن ذكره مكانة ، غير أن المنهج نفسه ينطبق عليه ، فقد ذكر القرضاوي في مذكراته فقال : " حدثني الأخ د. محمد المهدي البدري أن أحد الإخوة المقربين من سيد قطب - وكان معه معتقلاً في محنة 1965م - أخبره أن الأستاذ سيد قطب عليه رحمة الله ، قال له : إن الذي يمثل فكري هو كتبي الأخيرة : المعالم ، والأجزاء الأخيرة من الظلال ، والطبعة الثانية من الأجزاء الأولي ، وخصائص التصور الإسلامي ومقوماته ، والإسلام ومشكلات الحضارة ، ونحوها مما صدر له وهو في السجن ، أما كتبه القديمة فهو لا يتبناها ، فهي تمثل تاريخاً لا أكثر .
فقال له هذا الأخ من تلاميذه : إذن أنت كالشافعي مذهبان : قديم وجديد والذي تتمسك به هو الجديد لا القديم من مذهبك ؟
قال سيد رحمه الله : نعم ، غيرت كما غير الشافعي رضي الله عنه ، ولكن الشافعي غير في الفروع ، وأنا غيرت في الأصول " .
هذه الشهادة التاريخية لها قيمتها التي لا تنكر ، ومع ذلك يجب أن نحتاط منهجياً فيها ، ويكون ذلك بالدراسة المتأنية لأفكاره قبل السجن وبعده ، ورصد المتغيرات التي طرأت عليه ، ويدعم تلك الشهادة شهادة أحمد عبد المجيد الذي كان من الدائرة الأولي التي تجالس " قطب " وتأخذ منه مباشرة ؛ وتأثرت بأفكار تأثراً كبيراً ، وهو يقرر أن التغير طرأ في السجن وفي أصول أفكاره ( الجاهلية ، الحاكمية ، المفاصلة الشعورية ، ...) ولاشك أن آخر ما يكتب الرجل هو آخر ما ينتهي إليه فكره في كمال نضجه .
2 - تاريخ الأفكار وخطأ الجمع بين الأقوال :
بناء علي ما سبق فإن من الخطأ الجمع الاعتباطي بين أفكاره ، وحمل بعض نصوصه علي بعض ، فمعلوم أن فكر سيد مر بمراحل وظروف مختلفة ، وتاريخ أفكاره هنا بالغ الأهمية ، فلا يمكن مثلاً الاستدلال علي فكره بنصوص من رسائله لأخته أيام إقامته في أمريكا (48-1950م) والتي نشرت في كتابه " أفراح الروح " للبرهنة علي أن قائل هذا الكلام لا يمكن أن يكفر المجتمع ! فلابد لمن يريد أن يفهم سيد قطب أن يحيط بمراحل حياته وتطوره فيها ، حتى يعرف حقيقة موقفه الذي انتهي إليه .
إن مشكلة البعض ممن تحدث عما أسماه بـ" المنهج الإسلامي في الجمع بين الأقوال المتعارضة " بين أقوال سيد قطب : أنه يقع في مشابهة مذمومة ، فيستعير المنهج الإسلامي للتعامل مع نصوص الوحي ، ليطبقها علي أقوال البشر !!.
والفوارق المنهجية - فضلاً عن الدينية - كبيرة ، فالجمع والترجيح والنسخ والتوقف ، وهي الخيارات المطروحة بضوابطها للتعامل مع نص الوحي (قرآن أو سنة) المتعارضة أو التي " ظاهرها التعرض " : مبنية أصلاً علي نزاهة النص الديني لأنه لا ينطبق عن الهوى ، وعلي براءة القائل من الوقوع في التناقض أو النسيان الذي هو شأن البشر ، وعلي عصمة التشريع الإلهي من خضوعه للتطور ، أو اكتشاف مجهول ونحو ذلك من الفروق ، دون أن ندخل في الفروق المرجعية بين نص وحي لا مناص من الاحتكام إليه ، وبين بشري لا يضير تجاهله وعدم معرفته أصلاً ! .
فكيف بعد هذه الفوارق لو علمنا أن فكر سيد نفسه تعرض لتطورات وتغيرات حكمت بها ظروفه النفسية والفكرية والوجدانية ، قبل وبعد السجن ؟ ضمنية إلي ما نقل من شهادة عنه سابقة ؟! .
3 - لغة الكاتب وبناؤه المفاهيمي :
مسألة أخري تثار في الاعتذاريات عن قطب ، وهي أدبيته ، ولابد أن نقرر أن المعاني تطلب من المفاهيم لا من الألفاظ ، فمن طلب المعاني من الألفاظ ضل وتاه ، وقوام الأدبية قائم علي التشبيه والتخييل والتمثيل ، ورقة العبارة ، وسعة التعبير ، وفي هذا غلبة للحس علي اللفظ ، وللعاطفة علي الفكر ، ومشكلة قطب أنه خاض بعباراته المرنة هذه في قضايا عقدية ولابد ، والمسائل العقدية يطلبها الناس من الألفاظ ، والأحكام الشرعية تقوم في الحدود والعبارات ، فلا يمكن تبرئة الأديب سيد قطب رحمه الله من مسئولية عباراته .
ثم إن المفاهيم التي شرحها ونظر لها حين تضم إلي بعضها لا يمكن إلا أن تؤدي إلي نتائج عنيفة ، من الجاهلية والحاكمية - علي ما شرحه وأفاض فيه - والجهاد وفق شرحه ، والبرنامج الحركي الذي رسمه في معالمه ، ومنعه الاجتهاد الفقهي بتعليله السابق ، والقول بتوقف وجود الإسلام ، وبإنشاء المسلمين من جديد ، وحصر الإسلام في الطليعة المؤمنة التي ستشكل نواة المجتمع المسلم المنشود ، إلي غير ذلك .
إن إطلاقية قطب الصارمة في مجمل ما يصدر عنه بوصفه يقيناً لا يحمل الاجتهاد ، وصوابًا لا يحمل شائبة من الخطأ ، كل هذا يبني تصوراً ويشيد قلاعًا ، ويحكم كل الجسور ، لأن المسألة لديه أبيض وأسود فقط والثالث مرفوع !.
أقول هذا مع علمي بأنه هو نفسه حين سُئل عن التكفير قال : إن " المسألة تتعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم علي الناس !" ، وهو بالفعل كان معنياً بهذا في فكره وكتاباته ، وكذلك أنا لست معنياً هنا بأن قطبًا يكفر المجتمع أو لا ، غير أن مفاهيمه لم تكن لتقف عند حدود المقدمات التي تبينها دون النتائج التي تسكت عنها ، بل كان من المنطقي أن يأتي من يستنتج من تلك المقدمات ما تحمله في طياتها وفي ذاتها !.
فكر قطب ... وضرورة المراجعة :
أميل إلي النظر إلي الفكر الإسلامي - بما هو نتاج بشري - كحركة كلية بكل تنويعاته وانشقاقاته ، مع ربطها في سياقاتها زماناً ومكانًا وأفكاراً ، وبأن كل فصيل يؤدي دوراً في زمنه ، اتفقنا أو اختلفنا معه ، وهذا يكمن في بحث التساؤل الكبير أمام نشأة كل فكر أو اتجاه : لماذا نشأ هنا والآن ، زماناً ومكاناً وفكراً ؟ وفي مواجهة من .. وماذا ؟ ولماذا ينمو ولماذا يخبو ؟ غير أن الحركة (الكلية) للفكر لابد أن تحصل فوائد في نهاية النظر ، بحسب النتائج التي أنتجها هذا الفكر أو الاتجاه ، والأغراض التي أداها ، سلباً وإيجاباً ، وهكذا يمكن أن تقرأ المسارات البارزة في الفكر الإسلامي من ظهور الشافعي - مثلاً - إلي ابن تيمية إلي .. سيد قطب مع حفظ التفاوت في المكانة بينهم .
وإذا كان فكر قطب قد نشأ في الظرف الذي شرحته ومتزامناً مع سؤال الندوي ، فنشأة ظاهرة " الصحوة الإسلامية " التي اكتسحت المجتمعات الإسلامية برمتها منذ منتصف الثمانينات لابد أن تفرض نظراً جديداً في تشخيصات قطب للمجتمع والأمة ، والتغير الكبير الذي طرأ علي الغرب طوال العقود الثلاثة الأخيرة جعل من تشخيصاتقطب له جزءاً من التاريخ ، وقصر قطب الدور الإسلامي المنشود ضمن إطار القيم فقط ، منبن علي ذلك التصور البسيط عن الغرب ، كما كان شأن الندوي - رحمه الله - في سؤاله وتشخيصه .
أمكن الآن الحديث أيضاً عن ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين معرفياً أيضاً ، فقد نضح العقل العربي والمسلم عبر هذه العقود ، وتعقبت معرفته بالغرب ، معايشة ودراسة ، وفهماً ، فنخبنا الثقافية تعلمت هناك ، وتجاوزت حالة " الانبهار " به ، وبدأت حقبة جديدة أظهرت نقداً لاذعًا وعميقا للغرب بمختلف أطياف ، وبالتأكيد ساعد علي ذلك أيضاً كتابات فلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال هابرماس وفوكو وهايدغر .. وغيرهم .
في حين أن سيد قطب عاش سنتين فقط في أمريكا ، ويبدو لي تشخيصه لأزمة القيم الغربية الذي هو غير خارج عن التصور العام السائد في ذلك الحين : من خلال اعتماده علي أمثال ألكسيس كاريل الذي اعتمد عليه بكثرة في تشخيصه للحضارة الغربية والدور المنشود للإسلام ، فضلاً عن إفادته من تشخيص الندوي الذي كانت كتبه معه في سجنه ، وقد كانت معرفته بالغرب كما بدت من خلال نقول بعض الغربيين التي اطلع عليها ، ومن خلال " مشاهدات " عابرة وقعت له من حوله .
وخلص إلي أن الذي يقبله الإسلام من الحضارة الغربية المادية هو الجانب المتعلق بالأمور المادية الصناعية التكنولوجية ، وهو التصور البسيط الذي كان سائداً أيضًا .
إنه انطلاقاً من نقد الحداثة ، تفتحت معرفة العرب والمسلمين بالغرب فبصروا بالعيوب المزمنة داخل النسق الثقافي والعلمي والغربي ، وأصبح ممكناً الآن بهذه المعرفة إقامة مقارنات بين أنظمة معرفية مختلفة ، والتعرف علي بنية الأجهزة المعرفية ( مفهوم العقل ، ونظرية المعرفة ) ، واكتشاف مميزاتها وعيوبها .
ولم تعد تلك الرؤية البسيطة للفصل بين الآلة والقيمة في الحضارة الغربية دقيقة ، بل هناك حديث عن بعد أنطولوجي للتقنية الآن ، وحيادية التقنية ما عادت موضوع تسليم كما كانت .
فضلاً عن أن نظرية المواجهة العنيفة مع الأنظمة الحاكمة ، والمواجهة العنيفة مع " الجاهلية الغربية " - وقطب يقول بكل ذلك - أثبتت التجارب فشلها ، وبينت الأحداث التي شهدناها داخلياً في الثمانينات والتسعينات ، خارجياً بدءاً من أحداث سبتمبر كارثية هذا الخيار ، وأضراره علي الأمة .
كما أن الهيمنة الأمريكية العسكرية علي قلب العالم الإسلامي ، والمقاومة الفلسطينية ، والمحن المتوالية علي الأمة ، والتحديات التي تواجهها الآن ، واتخاذ الصراع عناوين وممارسات دينية : أدت إلي تمسك شديد بالهوية الإسلامية ، فما عدنا بحاجة إلي الحافظ علي إسلامنا بالوقوف عند تخوم " المشاعر " ببث الثقة في النفوس ، والوقوف عند فكر الهوية والعودة إليه من شأنه أن يزيد من تأخرنا ويضيع علينا المزيد من الوقت لأجل البناء الطويل الذي نحتاجه ، والتغيير والتطوير لا يمكن أن يتوقف لأجل أنه يوافق هوى أو شعاراً خارجياً أو داخلياً ، المهم أن نعلم ما نحن بحاجه إليه ونعمل وفق أولوياتنا دون تجاهل لما يجري حولنا ، مع الحرص علي الفصل والتمييز بين ما هو سياسي داخلي أو خارجي وما هو معرفي يميله البحث والدرس للواقع .
ومن مثل تشبيهه المجتمع الإسلامي الذي يصفه بالجاهلية .. تشبيهه إياه بمشركي الجاهلية ، حيث ينبغي أن يفهم علي أساس أن التشبيه غير تام ، وهكذا ...
سبيل التغيير عندقطب
أما عن رأي الشهيد في كيفية خروج المجتمع من حضيض " جاهلية القرن العشرين " حسب تصوره ، فقد قدم نظريته حسب رؤيته وحددها متكاملة في كتابه "معالم الطريق " خاصة - بعيداً عن تلمس الفتاوى الجديدة والتواءاتها واجتهاداتها وتيسيراتها ، وتسامحاتها ...- وفيها تكمن شخصية الشهيد وتميزه وتفرده وإيجابيته .
وهي للأسف لم تأخذ ما تستحقه من المناقشة الجادة شرعياً وسياسياً واجتماعياً ونفسياً وتاريخياً وحركياً وعملياً ... بعيداً عن المقتطفات المتناثرة التي تأتي حول هذا المصطلح أو ذاك .
إن كتاب " معالم علي الطريق " هو في قدير الكثيرين الإنجاز الفكري الإسلامي الوحيد تقريباً الذي يرسم طريقاً حركياً إيجابياً للتغيير يقوم علي بساطة مبدأ " المفاصلة " بأبعادها المختلفة في العلاقة مع خصوم الدعوة الإسلامية .
ومن هنا جاءت خطورة الكتاب الثورية كما أدركها قاتلوه ، ومن هنا حاكموه وأعدموه لا لشيء من مصطلحات يجهلونها حول التكفير وعدمه وإن استغلوا ذلك إعلامياً ، ومن هنا كذلك جاءت أهمية الكتاب وتميزه .
لقد كان من واجب المفكرين والعلماء ورفاق الدرب ممن لم يجعلوا ضغناً للشهيد أن يبادروا إلي إزالة ما علق بأفكاره من أوهام الظاهر وحقد الخصوم : حدباً عليه ، وتبرئة له ، وتحصيناً للأفهام السطحية التي يمكن أن تحوم حوله وفي أسلوبه ما يشجعهم ، خاصة أن الرجل عاجلته المحاكمة ، ولم يمتد به العمر لهذه المهمة .
ومن هنا كان لإعدامه - لسوء الحظ - أثر في من يقترب من فكره .
والله أعلم .
المعارضون
لاشك أن صاحب الحق ورجل الدعوة محارب ومطارد ومخالق ، وبكل الطرق والوسائل ومنها الكلمة المسموعة أو المقرؤة ورسل الله الكرام - عليهم السلام - لاقوا الكثير من أقوامهم .
وأصحاب الدعوة في هذا العصر لاقوا الكثير وصبروا علي ما كذبوا وأوذوا في بدنه ونفسه وقلمه وأهله جميعاً ، ومن هؤلاء موضوع حديثا - سيد قطب - يرحمه الله ، وسوف نفرد هنا بعض النقد له ، سواء من الإسلاميين الكرام خاصة ، ومن غيرهم ، ويغلب علي النقد الجانب الفكري في بعض المسائل التي أثيرت ولازالت تثير جدلاً علي الساحة ، خاصة بين الإسلاميين .
ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم !
أ . ديوسف القرضاوي
وفي تفسيره لآية : ( واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ... ) ، وإشارته إلي ما روي فيها خلافات حول توزيع الخمس الذي يبقي بعد أخذ المقاتلين أربعة أخماسهم ، وما ورد فيه من أقوال ، يقول رحمه الله : " ونحن - علي طريقتنا في هذا الظلال - لا ندخل في هذه التفريعات الفقهية التي يحسن أن تطلب في مباحثها .. هذا بصفة عامة .. وبصفة خاصة فإن موضوع الغنائم بجملته ليس واقعا إسلاميا يواجهنا اليوم أصلا .. فنحن اليوم لسنا أمام قضية واقعة ، لسنا أمام دولة مسلمة وإمامة وأمة مسلمة تجاهد في سبيل الله ، ثم تقع لها غنائم تحتاج إلي التصرف فيها ! لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلي البشرية أول مرة ، ورجع الناس إلي الجاهلية التي كانوا عليها ، فأشركوا مع الله أرباباً أخري تصرف حياتهم بشرائعها البشرية !
ولقد عاد هذا الدين أدراجه ليدعو الناس من جديد إلي الدخول فيه .. إلي شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. إلي إفراد الله سبحانه بالإلوهية والحاكمية والسلطان والتلقي في هذا الشأن عن رسول الله وحده ! وإلي التجمع تحت قيادة مسلمة تعمل لإعادة إنشاء هذا الدين في حياة البشر ، والتوجه بالولاء كله لهذا الجمع ولقيادته المسلمة ، ونزع هذا الولاء من المجتمعات الجاهلية وقيادتها جميعاً .
هذه هي القضية الحية الواقعية التي تواجه اليوم هذا الدين ، وليس هناك - في البدء - قضية أخري سواها ليس هناك قضية جهاد ! بل ليس هناك قضية تنظيمية واحدة ، لا في العلاقات الداخلية ولا في العلاقات الخارجية ، وذلك لسبب بسيط هو أنه ليس هناك مجتمع إسلامي ذو كيان قائم مستقل ، يحتاج إلي الأحكام التي تضبط العلاقات فيه والعلاقات بينه وبين غيره من المجتمعات الأخرى .
والمنهج الإسلامي منهج واقعي ، لا يشغل بقضايا ليست قائمة بالفعل ، ومن ثم لا يشتغل أصلا بأحكام تتعلق بهذه القضايا التي لا وجود لها من ناحية الواقع ! .. إنه منهج أكثر جدية وواقعية من أن يشتغل بالأحكام ! هذا ليس منهج هذا الدين .
هذا منهج الفارغين الذين ينفقون أوقات الفراغ في البحوث النظرية وفي الأحكام الفقهية ، حيث لا مقابل لها من الواقع أصلاً! بدلا من أن ينفقوا هذه الجهود في إعادة إنشاء المجتمع المسلم وفق المنهج الحركي الواقعي لهذا الدين نفسه : دعوة إلي لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، ينشأ عنها دخول فئة في هذا الدين من جديد - كما دخل فيه الناس أول مرة - كما ينشأ عن هذا الدخول في الدين تجمع حركي ذو قيادة مسلمة وذو ولاء خاص به وذو كينونة مستقلة عن المجتمعات الجاهلية .. ثم يفتح الله بينه وبين قومه بالحق .. ثم يحتاج حينئذ - وحينئذ فقط - إلي الأحكام التي تنظم علاقاته فيما بينه ، كما يحتاج إلي الأحكام التي تنظم علاقاته مع غيره .. وحينئذ - وحينئذ فقط - يجتهد المجتهدون فيه لاستنباط الأحكام التي تواجه قضاياه الواقعية في الداخل وفي الخارج ، وحينئذ - وحينئذ فقط - تكون لهذا الاجتهاد قيمته ، لأنه تكون لهذا الاجتهاد جديته واقعيته ! .
من أجل هذا الإدراك لجدية المنهج الحي الواقعي الحركي لهذا الدين لا ندخل في تلك التفصيلات الفقهية الخاصة بالأنفال والغنائم ، حتى يحين وقتها عندما يشاء الله ، وينشأ المجتمع الإسلامي ، ويواجه حالة جهاد فعلي ، تنشأ عنه غنائم تحتاج إلي أحكام !.
وأود أن أقول للأستاذ سيد هنا : إن الحاكمية التي يلح عليها ويستدل عليها بآيات القرآن عني أمرين : الحاكمية الكونية ، والحاكمية الشرعية .
فمن أقر بالحاكمية الكونية القدرية فقد أقر بالحاكمية ، ولم يعطل اللفظ عن معناه ، بمعني أنه لا يتصرف في الكون كله إلا الله ، إذا قضي أمراً فإنما يقول له :
كن فيكون ، علي أن المرء قد يقر بحاكمية الله الأمرية التشريعية وبنصه ولا ينفذ أحكامه .
نقطة البدء - كأول عهد الإسلام - إيجاد " مسلمين " ! :
وفي تعقيباته علي تفسير آية الجزية من سورة التوبة ، يقول رحمه الله :
ولا نحب أن نستطرد هنا إلي الخلافات الفقهية حول من تؤخذ منهم الجزية ومن لا تؤخذ منهم ولا عن مقادير هذه الجزية ولا عن طريق ربطها ومواضع هذا الربط .. ذلك أن هذه القضية برمتها ليست معروضة علينا اليوم ، كما كانت معروضة علي عهود الفقهاء الذين أفتوا فيها واجتهدوا رأيهم في وقتها .
إنها قضية تعتبر اليوم " تاريخية " وليست " واقعية " .. إن المسلمين اليوم لا يجاهدون !.. ذلك أن المسلمين اليوم لا يوجدون !.. إن قضية " وجود " الإسلام ووجود المسلمين هي التي تحتاج اليوم إلي علاج !
والمنهج الإسلامي - كما قلنا مراراً - منهج واقعي جاد ، يأبي أن يناقش القضايا المعلقة في الفضاء ، ويرفض أن يتحول إلي مباحث فقهية لا تنطبق في عالم الواقع - لأن الواقع لا يضم مجتمعا مسلما تحكمه شريعة الله ، ويصرف حياته الفقه الإسلامي - ويحتقر الذين يشغلون أنفسهم ويشغلون الناس بمثل هذه المباحث في أقضية لا وجود لها بالفعل ، ويسميهم " الأرأيتيين " الذين يقولون : " أرأيت لو أن كذا وقع فما هو الحكم ؟" إن نقطة البدء الآن في أول عهد الناس برسالة الإسلام .. أن يوجد في بقعة من الأرض ناس
يدينون الحق ، فيشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله .. ومن ثم يدينون لله وحده بالحاكمية والسلطان والتشريع ، ويطبقون هذا في واقع الحياة .. ثم يحاولون أن ينطلقوا في الأرض بهذا الإعلان العام لتحرير الإنسان .. ويومئذ فقط - سيكون هناك مجال لتطبيق النصوص القرآنية والأحكام الإسلامية في مجال العلاقات بين المجتمع المسلم وغيره من المجتمعات .. ويومئذ - ويومئذ فقط - يجوز الدخول في تلك المباحث الفقهية ، والاشتغال بصياغة الأحكام ، والتقنين للحالات الواقعة التي يواجهها الإسلام بالفعل ، لا في علم النظريات !
وإذا كنا قد تعرضنا لتفسير هذه الآية - من ناحية الأصل والمبدأ - فإنما فعلنا هذا لأنها تتعلق بمسألة اعتقادية ، وترتبط بطبيعة المنهج الإسلامي .
وعند هذا الحد نقف ، فلا نتطرق وراءه إلي المباحث الفقهية الفرعية احتراما لجدية المنهج الإسلامي وواقعيته وترفعه علي هذا الهزال .
وقد ناقشنا الشهيد رحمه الله مناقشة مفصلة حول هذه النقطة حينما عرضنا لرأيه في " إحياء الفقه الإسلامي " ، وتجديد الاجتهاد ومدي جديته وجدواه ، وبينا انفراده رحمه الله - أو قل شذوذه - عن سائر علماء الأمة بهذا الرأي الذي يتبني فيه جانب الغلو والتعسير علي الأمة ، ولكنه لا يري الأمة موجودة ، حتى تستحق منه التيسير لا التعسير ، وأنصح قارئي أن يراجع هذه المناقشة في كتابي " الاجتهاد في الشريعة الإسلامية " أو كتابي " الاجتهاد المعاصر بين الانضباط والانفراط " .
تعليق :عجيب أن يستعمل الشيخ القرضاوي ، هذه الألفاظ مع الأستاذ سيد مثل : يلح ، شذوذه ، الغلو والتعسير ، وكلمة إعتسف بعد ذلك .
وكان يجب أن يستعمل ألفاظاً تليق بشخصه ووضعه ، ومع من ...؟
مع سيد قطب عملاق الأدب والفكر الإسلامي الحديث .
الدين الحق .. وشرك " المسلمين " ! :
وفي تفسير قوله تعالي في سورة التوبة : ( اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح بن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون ) نقل ما رواه أحمد والترمذي وابن جرير عن عدى بن حاتم (وكان قد تنصر في الجاهلية) لما سمع الآية من النبي صلي الله عليه وسلم يتلوها ، قال : يا رسول الله إنهم لم يعبدوهم ! قال : " بلي حرموا عليهم الحلال ، وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم ، فذلك عبادتهم إياهم ... " .
والحديث - وإن بلغ درجة الصحة - قد اعتمده المفسرون ، وقبله العلماء في الجملة ، ونقلوه بعضهم عن بعض .
وقد كان هذا الحديث عمدة وركيزة أساسية عند الشهيد ، وبني عليه ما بني ، وهو من ناحية سنده كما تري ، قال في الظلال : " ومن النص القرآني الواضح الدلالة ، ومن تفسير رسول الله صلي الله عليه وسلم - وهو فصل الخطاب - ثم من مفهومات المفسرين الأوائل والمتأخرين تخلص لنا حقائق في العقائد والدين ذات أهمية نشير إليها بغاية الاختصار :
- العبادة هي الإتباع في الشرائع ، بنص القرآن وتفسير الرسول .. فاليهود والنصارى لم يتخذوا الأحبار والرهبان أرباباً الاعتقاد ، بمعني الاعتقاد بإلوهيتهم ، أو تقديم الشعائر التعبدية إليهم .. ومع هذا حكم الله سبحانه عليهم بالشرك في هذه الآية ، وبالكفر في آية تالية في السياق ، لمجرد أنهم تلقوا منهم الشرائع فأطاعوها واتبعوها ..
- أن النص القرآني يسوى في الوصف بالشرك واتخاذ الأرباب من دون الله بين اليهود الذين قبلوا التشريع من أحبارهم وأطاعوه واتبعوه ، والنصارى الذين قالوا بإلوهية المسيح اعتقاداً ، وقدموا إليه الشعائر في العبادة ، فهذه كتلك سواء في اعتبار فاعلها مشركا بالله ، الشرك الذي يخرجه من عداد المؤمنين ويدخله في عداد الكافرين ..
- أن الشرك بالله يتحقق بمجرد إعطاء حق التشريع لغير الله من عباده ، ولو لم يصحبه شرك في الاعتقاد بإلوهيته ، ولا تقديم الشعائر التعبدية له .. كما هو واضح من الفقرة السابقة .. ولكنا إنما نزيدها هنا بياناً ! .
وهذه الحقائق وإن كان المقصود الأول بها في السياق هو مواجهة الملابسات التي كانت قائمة في المجتمع المسلم يومذاك من التردد والتهيب للمعركة مع الروم ، وجلاء شبهة أنهم مؤمنون بالله لأنهم أهل كتاب .. هي كذلك حقائق مطلقة تقيدنا في تقرير " حقيقة الدين " عامة .. إن دين الحق الذي لا قبل الله من الناس كلهم دينا غيره هو " الإسلام " .. والإسلام لا يقوم إلا بإتباع الله وحده في الشريعة - بعد الاعتقاد بإلوهيته وحده وتقديم الشعائر التعبدية له وحده - فإذا اتبع الناس شريعة غير شريعة الله صح فيهم ما صح في اليهود والنصارى من أنهم مشركون لا يؤمنون بالله - مهما كانت دعواهم في الإيمان - لأن هذا الوصف يلحقهم بمجرد إتباعهم لتشريع العباد لهم من دون الله ، بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعون إلا عن إكراه واقع بهم ، لا طاقة لهم بدفعه وأنهم لا يقرون هذا الافتئات علي الله .
إن مصطلح " الدين " قد انحسر في نفوس الناس اليوم ، حتى باتوا يحسبونه عقيدة في الضمير ، وشعائر تعبدية تقام !
وهذا ما كان عليه اليهود الذين يقرر هذا النص المحكم ، ويقرر تفسير رسول الله صلي الله عليه وسلم أنهم لم يكونوا يؤمنون بالله وأنهم أشركوا به ، وأنهم خالفوا عن أمره بألا يعبدوا إلا إلها واحدا ، وأنهم اتخذوا أحبارهم أربابًا من دون الله .
إن المعني الأول للدين هو الدينونة ( أي الخضوع والاستسلام والإتباع ) ، وهذا يتجلي في إتباع الشرائع كما يتجلي في تقديم الشعائر .
والأمر جد لا يقبل هذا التميع في اعتبار من يتبعون شرائع غير الله - دون إنكار منهم يثبتون به عدم الرضا عن الافتئات علي سلطان الله - مؤمنين بالله ، مسلمين لمجرد أنهم يعتقدون بإلوهية الله سبحانه ويقدمون له وحده الشعائر .. وهذا التميع هو أخطر ما يعانيه هذا الدين في هذه الحقبة من التاريخ ، وهو أفتك الأسلحة التي يحارب بها أعداؤه ، الذين يحرصون علي تثبيت لافتة "الإسلام" علي أوضاع ، وعلي أشخاص ، يقرر الله سبحانه في أمثالهم أنهم مشركون لا يدينون دين الحق ، وأنهم يتخذون أربابًا من دون الله ..
وإذا كان أعداء هذا الدين يحرصون علي تثبيت لافتة الإسلام علي تلك الأوضاع وهؤلاء الأشخاص ، فواجب حماة هذا الدين أن ينزعوا هذه اللافتات الخادعة ، وأن يكشفوا ما تحتها من شرك وكفر واتخاذ أرباب من دون الله .. ( وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه عما يشركون ) .
إن سيد قطب أديب من كبار أدباء العربية ، وله قدرة هائلة علي التعبير عن الفكرة الواحدة بصيغ متعددة وأساليب شتى ، فلا عجب أن نري " الظلال " حافلا بفكرته المحورية عن انقطاع الإسلام من الأرض ، وغياب أمته من الوجود ، رغم وجود مئات الملايين الذين ينسبون إلي الإسلام ، ويزعمون أنهم مسلمون !
تعرية الجاهلية وتكفير " المسلمين " .. لبعث الإسلام ! :
وبعد حديث عن اللافتات التي تحمل عنوان الإسلام ، لتوضع علي المجتمعات والدول والأوضاع والمؤسسات يحذر الشهيد - رحمه الله - من الانخداع بهذه العناوين الكاذبة والمضللة فيقول في " الظلال " :
" والسذج ممن يدعون أنفسهم مسلمين يخدعون في هذه اللافتة .. ومن هؤلاء السذج كثير من الدعاة إلي الإسلام في الأرض ! فيتحرجون من إنزالها عن الجاهلية القائمة تحتها ، ويتحرجون من وصف هذه الأوضاع بصفتها الحقيقية التي تحجبها هذه اللافتة الخادعة .. صفة الشرك والكفر الصريحة .. ويتحرجون من وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع بصفتهم الحقيقية كذلك ! وكل هذا يحول دون الانطلاق الحقيقي الكامل لمواجهة هذه الجاهلية مواجهة صريحة ، لا تحرج فيها ولا تأثم من وصفها بصفتها الحقيقية الواقعة ! بذلك تقوم اللافتة بعملية تخدير خطرة لحركات البعث الإسلامي ، كما تقوم حاجزا دون الوعي الحقيقي ، ودون الانطلاق الحقيقي لمواجهة جاهلية القرن العشرين التي تتصدى لسحق الجذور الباقية لهذا الدين .
هؤلاء السذج - من الدعاة إلي الإسلام - أخطر في نظري علي حركات البعث الإسلامي من أعداء هذا الدين الواعين ، الذين يرفعون لافتة الإسلام علي الأوضاع والحركات والاتجاهات والأفكار والقيم والتقاليد التي يقيمونها ويكفلونها لتسحق لهم هذا الدين !
إن هذا الدين يغلب دائماً عندما يصل الوعي بحقيقته وحقيقة الجاهلية إلي درجة معينة في نفوس العصبة المؤمنة - في أي زمان وفي أي مكان - والخطر الحقيقي علي هذا الدين ليس كامنا في أن يكون له أعداء أقوياء واعون مدربون ، بقدر ما يكون في أن يكون له أصدقاء سذج مخدوعون ، يتحرجون في غير تحرج ، ويقبلون أن يتترس أعداؤهم بلافتة خادعة من الإسلام ، بينما هم يرمون الإسلام من وراء هذه اللافتة الخادعة ! .
إن الواجب الأول للدعاة إلي هذا الدين في الأرض أن ينزلوا تلك اللافتات الخادعة المرفوعة علي الأوضاع الجاهلية ، والتي تحمي هذه الأوضاع المقامة لسحق جذور هذا الدين في الأرض جميعاً ! وإن نقطة البدء في أية حركة إسلامية هي : تعرية الجاهلية من ردائها الزائف ، وإظهارها علي حقيقتها .. شركا وكفرا.. ووصف الناس بالوصف الذي يمثل واقعهم ، كيفما تواجههم الحركة الإسلامية بالطلاقة الكاملة .. بل كيفما ينتبه هؤلاء الناس أنفسهم إلي حقيقة ما انتهي إليه حالهم ، وهي الحقيقة التي انتهي إليها حال أهل الكتاب كما يقررها الحكيم الخبير .
تعليق :
يصر ويكرر الدكتور القرضاوي علي اتهام سيد قطب بإطلاق الكفر علي أعيان المسلمين ، مع نفي الكثير ممن ذكروا هنا ذلك ومنهم شقيقة الأستاذ محمد .
ويقول - يرحمه الله - : في وصف الناس الراضين بهذه الأوضاع ، فاشرط لوصف الناس الرضي بهذه الأوضاع ، وليس مجرد الوصف والحكم بدون الرضي ، كما يقول الشيخ القرضاوي .
ويقول سيد قطب علي لسان شقيقه محمد : " ولقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول " نحن دعاة ولسنا قضاه " .
إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام علي الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة " لا إله إلا الله " لأن الناس لا يعرفون مقتضاها الحقيقي ، وهو التحاكم إلي شريعة الله " .
كما سمعته أكثر من مرة يقول : " إن الحكم علي الناس يستلزم وجود قرينة قاطعة لا تقبل الشك ! وهذا أمر ليس بأيدينا ، ولذلك نحن لا نتعرض لقضية الحكم علي الناس ، فضلاً عن كوننا دعوة وليس دولة ، دعوة مهمتنا بيان الحقائق للناس ، لا إصدار الأحكام عليهم ... "
" المجتمع الجاهلي " ومنهج " قطب " في مواجهته !
أ . د. يوسف القرضاوي
ويعود الشهيد سيد قطب إلي الموضوع في كتابه " معالم علي الطريق " ليتحدث عنه في أكثر من مناسبة ونختار هنا فقرات من فصل " لا إله إلا الله منهج حياة " يقول رحمه الله :
ولكن ما هو " المجتمع الجاهلي " ؟ وما هو منهج الإسلام في مواجهته ؟
" إن المجتمع الجاهلي هو كل مجتمع غير المجتمع المسلم ! وإذا أردنا التحديد الموضوعي قلنا : إنه هو كل مجتمع لا يخلص عبوديته لله وحده .. متمثلة هذه العبودية في التصور الاعتقادي ، وفي الشعائر التعبدية ، وفي الشرائع القانونية .. وبهذا التعريف الموضوعي تدخل في إطار " المجتمع الجاهلي " جميع المجتمعات القائمة اليوم في الأرض فعلاً !! .
تدخل فيه المجتمعات الشيوعية ..
أولاً : بإلحادها في الله - سبحانه - وبإنكار وجوده أصلاً ، وإرجاع الفاعلية في هذا الوجود إلي " المادة " أو " الطبيعية " ، وإرجاع الفاعلية في حياة الإنسان وتاريخه إلي " الاقتصاد " أو " أدوات الإنتاج "
ثانياً : بإقامة نظام العبودية فيه للحزب - علي فرض أن القيادة الجماعية في هذا النظام حقيقة واقعة ! - لا لله سبحانه ! .
وتدخل فيه المجتمعات الوثنية وهي ما تزال قائمة في الهند واليابان والفلبين وإفريقية ، تدخل فيه أولاً : بتصورها الاعتقادي القائم علي تأليه غير الله - معه أو من دونه - وتدخل فيه ثانياً : بتقديم الشعائر التعبدية لشتى الآلهة والمعبودات التي تعتقد بإلوهيتها .. كذلك تدخل فيه بإقامة أنظمة وشرائع ، المرجع فيها لغير الله وشريعته سواء استمدت هذه الأنظمة والشرائع من المعابد والكهنة والسدنة والسحرة والشيوخ ، أو استمدتها من هيئات مدنية " علمانية " تملك سلطة التشريع دون الرجوع إلي شريعة الله ..
وتدخل فيه المجتمعات اليهودية والنصرانية في أرجاء الأرض جميعا ..
تدخل فيه هذه المجتمعات أولاً :
بتصورها المحرف الذي لا يفرد الله - سبحانه - بالإلوهية بل يجعل له شركاء في صورة من صور الشرك ، سواء بالبنوة أو بالتثليث ، أو بتصور الله سبحانه علي غير حقيقته ، وتصور علاقة خلقه به علي غير حقيقتها
وأخيراً يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها " مسلمة " !
وهذه المجتمعات لا تدخل في هذا الإطار لأنها تعتقد بإلوهية أحد غير الله ، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضاً ، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها ، فهي وإن لم تعتقد بإلوهية أحد إلا الله تعطي أخص خصائص الإلوهية لغير الله ، فتدين بحاكمية غير الله ، فتلقي من هذه الحاكمية نظامها ، وشرائعها وقيمها ، وموازينها ، وعاداتها وتقاليدها وكل مقومات حياتها تقريباً ! كما أنه سبحانه قد وصف اليهود والنصارى من قبل بالشرك والكفر والحيدة عن عبادة الله وحده ، واتخاذ الأحبار والرهبان أربابًا من دونه ، لمجرد أن جعلوا للأحبار والرهبان ما يجعله الذين يقولون عن أنفسهم إنهم " مسلمون " لناس منهم ! واعتبر الله سبحانه ذلك من اليهود والنصارى شركا كاتخاذهم عيسي ابن مريم ربا يؤلهونه ويعبدونه سواء .
فهذه كتلك خروج من العبودية لله وحده ، فهي خروج من دين الله ، ومن شهادة أن لا إله إلا الله .
وهذه المجتمعات بعضها يعلن صراحة " علمانيته " وعدم علاقته بالدين أصلاً ، وبعضها يعلن أنه " يحترم الدين " ، ولكنه يخرج الدين من نظامه الاجتماعي أصلا ، ويقول : إنه ينكر " الغيبية " ويقيم نظامه علي " العلمية " ، باعتبار أن العلمية تناقض الغيبية ! وهو زعم جاهل لا يقول به إلا الجهال ، وبعضها يجعل الحاكمية الفعلية لغير الله ويشرع ما يشاء ، ثم يقول عما يشرعه من عند نفسه : هذه شريعة الله ! .. وكلها سواء في أنها لا تقوم علي العبودية لله وحده .. وإذا تعين هذا فإن موقف الإسلام من هذه المجتمعات الجاهلية كلها يتحدد في عبارة واحدة : إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات كلها وشرعيتها في اعتباره .
إن الإسلام لا ينظر إلي العنوانات واللافتات والشارات التي تحملها هذه المجتمعات علي اختلافها .. إنها كلها تلتقي في حقيقة واحدة .. وهي أن الحياة فيها لا تقوم علي العبودية الكاملة لله وحده .
وهي من ثم تلتقي مع سائر المجتمعات الأخرى في صفة واحدة .. صفة الجاهلية .
الجهر يتوقف " وجود " الإسلام .. ضرورة ! :
ولا تقتصر النصوص التي تحمل معني تكفير مسلمي اليوم في مشارق الأرض ومغاربها إلا من آمن بأفكار الشهيد حول معني " لا إله إلا الله " وما يتعلق بالحاكمية ، ودخل فيما دخلت فيه " العصبة المؤمنة " التي تقوم بما قام به الصحابة من قبل علي " الظلال " و" المعالم " بل نجد ذلك في كتب أخرى كثيرة .
ومنها : كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " الذي ألفه في المرحلة السابقة علي مرحلته الأخيرة هذه ، ولكنه أضاف إليه فصلا مهماً ضمنه أفكاره الأخيرة تحت عنوان "حاضر الإسلام ومستقبله " ، ونكتفي هنا بنقل فقرات منه قال : " نحن ندعو إلي الحياة الإسلامية - علي هذا النحو - قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض ، وأن " وجود " الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك ! ونحن نجهر بهذه الحقيقة الأخيرة - علي الرغم مما قد تحدثه من صدمة وذعر وخيبة أمل للكثيرين ممن لا يزالون يحبون أن يكونوا " مسلمين " - ونجر بها علي هذا النحو في الوقت الذي ندعو فيه إلي استئناف حياة إسلامية ، في مجتمع إسلامي تحكمه العقيدة الإسلامية والتصور الإسلامي كما تحكمه الشريعة الإسلامية والنظام الإسلامي .
ولا نري أن رؤية تلك الحقيقة والجهر بها كذلك ما يدعو إلي خيبة الأمل أو اليأس من هذه الدعوة ومن هذه المحاولة .
علي العكس نري أن الجهر بهذه الحقيقة المؤلمة - حقيقة أن الحياة الإسلامية قد توقفت منذ فترة طويلة في جميع أنحاء الأرض ، وأن " وجود " الإسلام ذاته من ثم قد توقف كذلك - نري أن الجهر بهذه الحقيقة ضرورة الدعوة إلي الإسلام ، ومحاولة استئناف حياة إسلامية .. ضرورة لا مفر منها .
إن الأمر المستيقن في هذا الدين أنه لا يمكن أن يقوم في الضمير " عقيدة ، ولا في واقع الحياة " دين " إلا أن يشهد الناس : أن لا إله إلا الله أي لا " حاكمية " إلا لله .. حاكمية تتمثل في قضائه وقدره كما تتمثل في شرعه وأمره - وهذه كلها سواء في كونها أساساً للعقيدة لا تقوم ابتداء في الضمير إلا به - كذلك هو لا يمكن أن يقوم في واقع الحياة " دين " إلا أن تتمثل العقيدة في نظام واقعي للحياة هو " الدين " ، فتفرد فيه شريعة الله بالهيمنة علي حياة الناس جملة وتفصيلاً ، يبرأ فيه الحاكم والمحكوم من ادعاء حق " الإلوهية " عن طريق ادعاء حق " الحاكمية " ومزاولة التشريع فعلا بما لم يأذن به الله ، مما يتخذه البشر لأنفسهم من أنظمة وأوضاع وتشريعات وقوانين ، غير مستمدة من شريعة الله
نصا حين يوجد النص ، واجتهادا في حدود المبادئ العامة حين لا يوجد نص طاعة لأمر الله سبحانه ( فإن تنازعتم في شيء فردوه إلي الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ) .. ونحن لا نحدد مدلول " الدين " ولا مفهوم " الإسلام " علي هذا النحو من عند أنفسنا .. ففي مثل هذا الأمر الخطير الذي يترتب عليه تقرير مفهوم لدين الله ، كما يترتب الحكم بتوقف " وجود " الإسلام في الأرض اليوم ، وإعادة النظر في دعوى مئات الملايين من الناس أنهم " مسلمون " .. في مثل هذا الأمر لا يجوز أن يفتي الإنسان فيما يقصم الظهر في الدنيا والآخرة جميعاً !
إنما الذي يحدد مدلول " الدين " علي هذا النحو ، ومفهوم " الإسلام " هو الله - سبحانه - إنه هذا الدين ورب هذا الإسلام .. وذلك في نصوص قاطعة لا سبيل إلي تأويلها ولا الاحتيال عليها : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ) ، (y وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) ، (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) ، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ) .
وكلها تقرر حقيقة واحدة ، أنه الإسلام .. لا إيمان بغير الإقرار بالحاكمية لله وحده ، والرجوع إليه فيما يقع التنازع مما لم يرد به نص ، إذ لا أري مع النص ولا نزاع ، والحكم بما أنزل دون سواه في كل شئون الحياة ، والرضا بهذه الحكم رضا قلبي بعد الاستسلام له عمليا .. وأن هذا هو " الدين القيم " .. وهذا هو " الإسلام " الذي أراده الله من الناس .
وحين نستعرض وجه الأرض كله اليوم - علي ضوء التقرير الإلهي لمفهوم الدين والإسلام - لا نري لهذا الدين " وجوداً " .. إن هذا الوجود قد نوقف منذ أن تخلت آخر مجموعة من المسلمين عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية في حياة البشر ، وذلك يوم أن تخلت عن الحكم بشريعته وحدها في كل شئون الحياة .
ويجب أن نقرر هذه الحقيقة الأليمة ، وان نجهر بها ، وألا نخشى خيبة الأمل التي تحدثها في قلوب الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا " مسلمين " ..
فهؤلاء من حقهم أن يستيقنوا : كيف يكونون مسلمين !
إن أعداء هذا الدين بذلوا طوال قرون كثيرة وما يزالون يبذلون جهوداً ضخمة ماكرة خبيثة ، ليستغلوا إشفاق الكثيرين الذين يحبون أن يكونوا مسلمين ، من وقع هذه الحقيقة المريرة ، ومن مواجهتها في النور !
وتحرجهم كذلك من إعلان أن " وجود " هذا الدين قد توقف ، منذ أن تخلت آخر مجموعة مسلمة في الأرض عن تحكيم شرعية الله في أمرها كله ، فتخلت بذلك عن إفراد الله سبحانه بالحاكمية ( أو بالإلوهية ) ، فهذه مرادفة لتلك ، أو لازمة لها لا تتخلف .
هؤلاء الأعداء الماكرون الخبثاء يستغلون ذلك الإشفاق وهذا التحرج لتخدير مشاعر الكثيرين في الأرض الذين يحبون أن يكونوا "مسلمين " وإيهامهم أنهم ما يزالون " مسلمين " فعلاً ! وان " الإسلام بخير" ! وأن الناس يمكن أن يكونوا "مسلمين" دون أن تحكمهم شريعة هذا الدين ، بل دون أن يعتقدوا أن الحاكمية لله وحده ، من ادعاها لنفسه فقد ادعي الإلوهية ، وكفر ، وخرج من هذا الدين ! .
وكذلك ينبغي أن نجهر نحن بالحقيقة المقابلة التي قد يشفق منها الكثيرون ممن يحبون أن يكونوا مسلمين ، وممن يتحرجون أن يعلنوا أن وجود هذا الدين قد توقف .. لنبطل مفعول " المخدر " الخبيث الذي يخدر به أعداء هذا الدين محبي هذا الدين !!" .
الإسلام إذن غير موجود اليوم علي الأرض ، والمسلمون غير موجودين ، وإن كان الكثيرون منهم يحبون أن يكونوا مسلمين ، ولكن يجب أن نصارحهم بالحقيقة المرة - وإن كانت مؤلمة - أنهم ليسوا مسلمين ، هم إذن كفار ومشركون ويجب أن يدخلوا في الإسلام من جديد ، علي أساس جديد !!.

فكرة تكفير المسلمين

للدكتور / يوسف القرضاوي
ومن أبرز هذه الأفكار ، وأشدها خطراً ، وأبعدها أثراً :فكرة ( تكفير المسلمين الموجودين في العالم اليوم ) إلا فئة قليلة منهم .
أما مئات الملايين في العالم الإسلامي - أو العالم الذي كان إسلامياً حسب تعبيره في بعض المواطن - الذين يظنون أنفسهم (مسلمين) أو يحبون أن يكونوا (مسلمين) ، فهم ليسوا من الإسلام في شيء ، وإن كانوا يشهدون أن (لا إله إلا الله) لأنهم يفهمونها علي غير مدلولها الحقيقي الذي لا معني لها - في نظره - غيره ، وهو الذي يتضمن معني (الحاكمية) .
بل لا يغني عنهم أن يكونوا من المصلين والصائمين والمزكين وحجاج بيت الله الحرام ! وهو هنا لا يتحدث عن الحكام وحواشيهم ، كما يزعم بعض الناس ، بل يتحدث عن ( مئات الملايين) من المسلمين ، أو ممن يظنون أنفسهم مسلمين ، والحكام ومن حولهم إنما هم ألوف من الناس لا ملايين ولا عشرات الملايين .
هذه الفكرة الخطيرة التي فتحت أبواب التكفير والعنف واستباحة الدماء والأموال من المسلمين ، وقامت عليها - في أوطاننا الإسلامية - جماعات تقاتل قومهما ، وتحارب أهل وطنها ، هي الجديرة بأن يقف العلماء والدعاء في وجهها ، ويتصدوا لبيان ما فيها من انحراف عن الأحكام الشرعية المقررة .
ويبينوا بطلانها بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم ، مسترشدين بأقوال الأئمة والراسخين من علماء السلف والخلفاء .
وقد اجتهدت أن أقاوم خطورة هذه الأفكار بهدوء وحكمة ، وأن أحمى عقائد الشباب المسلم المخلص وعقولهم من أن تتسرب إليهم ، فتفسد عليهم دينهم ودنياهم ، وتسقط إلي هاوية الغلو ، كما حدث في طائفة (الخوارج) من قبل ، الذين كانوا صواماً قواماً متعبدين ، مبالغين في التعبد ، قارئين للقرآن ، ولكنه - كما صح في الحديث - لم يتجاوز حناجرهم ، أي لم ينتقل من حناجرهم إلي رءوسهم وعقولهم ، ومعني ذلك :
أنهم لم يفهموه حق الفهم ، ولم يفقهوا مقاصده ، ويردوا متشابهه إلي محكمه ، فاستباحوا دماء غيرهم من المسلمين وأموالهم وحرماتهم ، واستحلوا قتل أعظم رجل في أمة الإسلام في وقته : علي ابن أبي طالب رضي الله عنه .
وفي سبيل ذلك : نشرت رسالة ( ظاهرة الغلو في التكفير ) التي تبنتها (الجماعة الإسلامية) في جامعة القاهرة ، وصدرت في سلسلتها (صوت الحق) ووزعت منها عشرات الألوف .
وقد كنت نشرتها أولاً بوصفها (مقالة) في مجلة ( المسلم المعاصر) ثم نشرتها باعتبارها (فتوى) في الجزء الأول من كتابي (فتاوى معاصرة) ، ثم رأيت أن أنشرها مستقلة لتعميم النفع بها .
وكان الذي يهمني هو نقض فكرة (التكفير) لا الرد علي صاحبها ، فقد كنت حريصاً علي أن لا أنقذ سيد قطب في هذا الوقت خاصة ، لأن السلطة الحاكمة وأبواقها المختلفة كانت تهاجمه ، فلم أكن أحب أن يذكر اسمي مع هؤلاء ، كما أن كثيراً من الإسلاميين كانوا يحبون انتقاد سيد قطب ، كأنما هو اتهام له في إيمانه ، أو تشكيك في بطولته وشهادته رحمه الله وغفر له ، ولكن عندما يلتبس الحق بالباطل يجب علي أهل العلم : البيان ، وإقامة الحجة ، والإعذار إلي الله سبحانه .
تعليق :
يقول فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي في كتاب العبادة في الإسلام كلاماً مطابق لكلام الشهيد سيد ما نصه :
" من اتبع غير منهج الله فقد أشرك في عبادته : إن من العبادة التي يغفلها كثير من الناس :
الخضوع لشرع الله أو الانقياد لأحكامه التي أحل بها الحلال وحرم الحرام ، وفرض الفرائض ، وحدد الحدود .
فمن أدي الشعائر وصلي وصام وحج واعتمر ، ولكنه رضي أن يحتكم في شئون حياته الخاصة والعامة ، أو في شئون المجتمع والدولة ، إلي غير شرع الله وحكمه ، فقد عبد غير الله ، وأعطي غيره ما هو خالص حقه سبحانه .
إن الله وحده هو المشرع الحاكم لخلقه ، لأن الكون كله مملكته ، والناس جميعاً عباده ، وهو وحده الذي له أن يأمر وأن ينهي وأن يقول : هذا حلال وهذا حرام ، لمقتضي ربوبيته وملكه وإلوهيته للناس ، فهو رب الناس ، ملك الناس ، إله الناس .
فمن ادعي من الخلق أن له أن يشرع ما شاء أمراً ونهياً وتحليلاً وتحريماً ، بدون إذن من الله ، فقد تجاوز حده ، وعدا طوره ، وجعل نفسه رباً أو إلهًا من حيث يدري أو لا يدري .
ومن أقر له بهذا الحق ، وانقاد لتشريعه ونظامه ، وخضع لمذهبه وقانونه ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، فقد اتخذه ربًٌا ، وعبده مع الله ، أو من دون الله ، ودخل في زمرة المشركين من حيث يشعر أو لا يشعر !.
إن القرآن الكريم دمغ أهل الكتاب بالشرك ورماهم بأنهم عبدوا أحبارهم ورهبانهم ، واتخذوهم أربابًا من دون الله ، وذلك حين أطاعوهم واتبعوهم فيما شرعوا لهم مما لم يأذن به الله " .
نقطة الضعف في المشروع القطبي :
نقطة الضعف الأساسية في المشروع الفكري والدعوي لسيد قطب - وهو مشروع عملاق بلا ريب - أنه كان شديد الإعجاب بعلامة الهند الكبرى : الأستاذ أبي الأعلى المودودي ، وأنه اقتبس منه - تقريباً - جميع الأفكار التي كانت موضع الانتقاد في مشروع المودودي ، مثل : الحاكمية والجاهلية ، والقسوة علي التاريخ الإسلامي
بل الواقع : أنه رتب علي هذه الأفكار من النتائج والآثار ما لم يرتبه المودودي نفسه ، ساعده علي ذلك قلمه البليغ ، وأدبه الرفيع ، وبيانه الحي الدافق .
فقد تحدث المودودي عن قضية (الحاكمية) ا؟لإلهية لهذا الكون ، الذي هو مملكة الله وحده ، وهو سبحانه ملكها كما أنه مالكها .
فله وحده التصرف في الحكم فيها ، فهو الذي يأمر وينهي كما يشاء ، ويحلل ويحرم كما يريد ، ويشرع للناس ما يشاء دون منازع ، ولا يسأل عما يفعل :وهو ما نطقت به آيات القرآن الصريحة ، كما ذكرنا من قبل ، مثل : ( إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ) ، (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا ) .
وهذه قضية مسلمة كما نقلنا من قبل عن علماء أصول الفقه ، ولكن المشكلة تقع في الإيحاءات التي تركتها هذه المسألة في الأنفس والعقول ، حتى فهم بعض الناس مما قيل في شرحها وتفسيرها : أن لا دور للبشر في التشريع والتقنين ، وإن كان تفصيلياً ، أو مصلحياً ، أو إدارياً ، أو جزائياً .
ولقد وقف كثير من الدعاة والمفكرين موقف النقد لمقولات (الفكر القطبي) التي انفرد بها ، واقتبسها من المودودي ، والتي انتشرت في (الظلال) وتجسدت في (المعالم) .
ومن هؤلاء من لا يمكن أن يُتهم بأنه يعمل لحساب سلطة أو جهة غير إسلامية .
أذكر من هؤلاء : المفكر المسلم المعروف د. محمد عمارة ، الذي نقد المودودي في شدته القاسية ، أو قسوته الشديدة علي التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية ، في عبارات صدرت عنه ، يقف شعر الرأس عند قراءتها .
والله يغفر له ، ويأجره علي اجتهاده من فضله أجراً واحداً .

مرحلة الثورة الإسلامية

وهذه مرحلة جديدة تطور إليه فكر سيد قطب ، يمكن أن نسميها (مرحلة الثورة الإسلامية) :
الثورة علي كل (الحكومات الإسلامية) ، أو التي تدعي أنها إسلامية ، والثورة علي كل (المجتمعات الإسلامية) أو التي تدعي أنها إسلامية ، فالحقيقية في نظر سيد قطب : أن كل المجتمعات القائمة في الأرض أصبحت مجتمعات جاهلية
تكون هذا الفكر الثوري الرافض لكل من حوله وما حوله ، والذي ينضح بتكفير المجتمع وتكفير الناس عامة ، لأنهم (أسقطوا حاكمية الله تعالي) ورضوا بغيره حكماً ، واحتكموا إلي أنظمة بشرية ، وقوانين وضعية ، وقيم أرضية ، واستوردوا الفلسفات والمناهج التربوية والثقافية والإعلامية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والإدارية وغيرها من غير المصادر الإسلامية ومن خارج مجتمعات الإسلام .
فبماذا يوصف هؤلاء إلا بالردة عن دين الإسلام ؟ .
بل الواقع عنده : أنهم لم يدخلوا الإسلام قط حتى يحكم عليهم بالردة .
إن دخول الإسلام إنما هو النطق بالشهادتين : أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً رسول الله ، وهم لم يفهموا معني هذه الشهادة ، لم يفهموا أن (لا إله إلا الله ) منهج حياة للمسلم ، تميزه عن غيره من أصحاب الجاهليات المختلفة ، ممن يعتبرهم الناس أهل العلم والحضارة .
أقول : تكون هذا الفكر الثوري الرافض ، في داخل السجن ، وخصوصاً بعد أن أعلنتمصر زعيمها عبد الناصر ، عن ضرورة التحول الاشتراكي ، وحتمية الحل الاشتراكي ، وصدر (الميثاق) الذي سماه بعضهم (قرآن الثورة) ! وبعد الاقتراب المصري السوفيتي ، ومصالحة الشيوعيين ، ووثوبهم علي أجهزة الإعلام والثقافة والأدب والفكر ، ومحاولتهم تغيير وجه مصر الإسلامي التاريخي .
هنالك رأي سيد قطب : أن الكفر قد كشف اللثام عن نفسه ، وأنه لم يعد في حاجة إلي أن يخفيه بأغطية وشعارات لإسكات الجماهير ، وتضليل العوام .
هنالك رأي أن يخوض المعركة وحده ، راكباً أو رجلاً ، حاملاً بسيفه (ولا سيف له غير القلم) لقتال خصومه ، وما أكثرهم ، سيقاتل الملاحدة الجاحدين ، ويقاتل المشركين الوثنيين ، ويقاتل أهل الكتاب من إليه ود والنصارى ، ويقاتل المسلمين أيضاً الذين اغتالهم الجاهلية ، فعاشوا مسلمين بلا إسلام !
وأنا برغم إعجابي بذكاء سيد قطب ونبوغه وتفوقه ، وبرغم حبي وتقديري الكبيرين له ، وبرغم إيماني بإخلاصه وتجرده فيما وصل إليه من فكر ، نتيجة اجتهاد وإعمال فكر : أخالفه في جملة توجهاته الفكرية الجديدة التي خالف فيها سيد قطب الجديد : سيد قطب القديم .. وعارض فيها سيد قطب الثائر الرافض : سيد قطب الداعية المسالم ،أو سيد قطب صاحب (العدالة) : سيد قطب صاحب (المعالم) .
ولقد ناقشت المفكر الشهيد في بعض كتبي في بعض أفكاره الأساسية ، وإن لامني بعض الإخوة علي ذلك ، ولكني في الواقع ، كتبت ما كتبت وناقشت ما ناقشت ، من باب النصيحة في الدين والإعذار إلي الله ، وبيان ما أعتقد أنه الحق ، وإلا كنت ممن كتم العلم ، أو جامل في الحق ، أو داهن في الدين ، أو أثر رضا الأشخاص علي رضا الله تبارك وتعالي .
ونحن نؤمن بأنه لا عصمة لأحد بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم ، وكل أحد غيره يؤخذ من كلامه ويرد عليه
وأن ليس في العلم كبير ، وأن خطأ العالم لا ينقص من قدره ، إذا توافرت النية الصالحة ، والاجتهاد من أهله ، وأن المجتهد المخطئ معذور ، بل مأجور أجراً واحداً كما في الحديث الشريف سواء كان خطؤه في المسائل العلمية أو العملية ، الأصولية أم الفرعية ، كما حقق ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، وابن القيم وغيرهما .
وأخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة في هذه المرحلة لسيد قطب هو : ركونه إلي فكرة (التكفير) والتوسع فيه ، بحيث يفهم قارئه من ظاهر كلامه في مواضع كثيرة ومتفرقة من (الظلال) ومما أفرغه في كتابه (معالم في الطريق) : أن المجتمعات كلها قد أصبحت (جاهلية) وهو لا يقصد بـ(الجاهلية) جاهلية العمل والسلوك فقط ، بل (جاهلية العقيدة) .
إنها الشرك والكفر بالله ، حيث لم ترض بحاكميته تعالي ، وأشركت معه آلهة أخري ، استوردت من عندهم :
الأنظمة والقوانين ، والقيم والموازين ، والأفكار والمفاهيم ، واستبدلوا بها شريعة الله ، وأحكام كتابه وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم .
وعلي هذا ، ليس في حاجة إلي أن نعرض عليهم نظام الإسلام الاجتماعي ، أو الاقتصادي ، أو السياسي ، أو القانوني ، ونحو ذلك ، لأن هذه الأنظمة إنما ينتفع بها المؤمنون بها ، وبأنها من عند الله .
أما من لا يؤمن بها ، فيجب أن نعرض عليه (العقيدة أولاً) حتى يؤمن بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً وبالشريعة حاكمة .
وهذا ما أشار إليه في كتابه (المعالم) وفصله في كتاب (الإسلام ومشكلات الحضارة) وشبه مجتمعاتنا اليوم بمجتمع مكة في عهد الرسالة ، وأن الرسول لم يعرض عليه النظام والتشريع ، بل عرض عليه العقيدة والتوحيد .
كما رأي - عليه رحمة الله - أن لا معني لما يحاوله المحاولون من علماء العصر لما سموه (تطوير) الفقه الإسلامي أو (تجديده) أو (إحياء الاجتهاد) فيه .
إذ لا فائدة من ذلك كله مادام المجتمع المسلم غائباً .
يجب أن يقوم المجتمع المسلم أولاً ، ثم نجتهد له في حل مشاكله في ضوء واقعنا الإسلامي .
وقد ناقشت أفكاره عن (الاجتهاد) وعدم حاجتنا إليه قبل أن يقوم المجتمع الإسلامي : في كتابي (الاجتهاد في الشريعة الإسلامية) وبينت بالأدلة خطأ فكرته هذه .
وكما ناقشت الشهيد سيد قطب في رأيه حول قضية (الاجتهاد) : ناقشته في رأيه في (الجهاد) ، وقد تبني أضيق الآراء وأشدها في الفقه الإسلامي ، مخالفاً اتجاه كبار الفقهاء والدعاة المعاصرين ، داعياً إلي أن علي المسلمين أن يعدوا أنفسهم لقتال العالم كله ، حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد ، وهم صاغرون
تحامل علي سيد قطب في فكرة الحاكمية :
للدكتور يوسف القرضاوي
ولقد اتهم بعض الكاتبين سيد قطب بأنه تبني فكرة (الحاكمية) التي أخذها عن المودودي ، وجعلها من صلب عقيدة التوحيد ، ورتب عليها أحكاماً خطيرة ، منها : أن الدولة التي تقوم علي أساسها :
أشبه ما تكون بالدولة الدينية ، التي تقوم علي الحكم بالحق الإلهي .
وهذا تحامل ظالم علي الرجل .
والحق أن فكرة الحاكمية أساء فهمها الكثيرون ، وأدخلوا في مفهومها ما لم يرده أصحابها .
وأود أن أنبه هنا علي جملة ملاحظات حول هذه القضية :
الملاحظة الأولي : أن الحاكمية التي ركز عليها سيد قطب والمودودي ، وهو الذي يأمرهم وينهاهم ، ويحل لهم ويحرم عليهم ، وهذا ليس من ابتكار المودودي ولا سيد قطب ، بل هو مقرر عند المسلمين جميعاً .
ولهذا حين قال الخوارج لعلي : " لا حكم إلا لله " لم يعترض علي رضي الله عنه علي المبدأ ، وإنما اعرض علي الباعث والهدف المقصود من وراء الكلمة فقال رداً عليهم : " كلمة حق يراد بها باطل " .
وقد بحث في هذه القضية علماء (أصول الفقه) في مقدماتهم الأصولية التي بحثوا فيها عن الحكم الشرعي ، والحاكم ، والمحكوم به ، والمحكوم عليه .
فها نحن إمامًا مثل أبي حامد الغزالي يقول في مقدمات كتابه الشهير (المستصفي من علم الأصول) عن (الحكم) الذي هو أول مباحث العلم ، وهو عبارة عن خطاب الشرع ، ولا حكم قبل ورود الشرع ، وله تعلق بالحاكم ، وهو الشارع وبالمحكوم عليه ، وهو المكلف ، وبالمحكوم فيه ، وهو فعل المكلف .
ثم يقول : " وفي البحث عن الحاكم يتبين : أن " لا حكم إلا لله " وأن لا حكم للرسول ، ولا للسيد علي العبد ، ولا لمخلوق علي مخلوق ، بل كل ذلك حكم لله تعالي ووضعه ، لا حكم لغيره "
ثم يعود إلي الحديث عن (الحاكم) وهو صاحب الخطاب الموجه إلي المكلفين ، فيقول : " أما استحقاق نفوذ الحكم ، فليس إلا لمن له الخلق والأمر ، فإنما النافذ حكم المالك علي مملوكه ، ولا مالك إلا الخالق ، فلا حكم ولا أمر إلا له .
أما النبي صلي الله عليه وسلم ، والسلطان والسيد والأب والزوج ، فإذا أمروا وأوجبوا لم يجب شيء بإيجابهم ، بل بإيجاب من الله تعالي طاعتهم ، ولولا ذلك لكان كل مخلوق أوجب علي غيره شيئاً كان للموجب طاعة الله تعالي ، وطاعة من أوجب الله تعالي طاعته " وبهذا نعلم أن فكرة (الحاكمية) ليست من اختراع سيد قطب ولا المودودي بل هي فكرة إسلامية أصلية ، قررها علماء الأصول ، واتفق عليها أهل السنة والمعتزلة جميعاً .
الملاحظة الثانية : أن (الحاكمية) التي قال بها المودودي وقطب ، وجعلاها لله وحده ن لا تعني أن الله تعالي هو الذي يولي العلماء والأمراء ، يحكمون باسمه ، بل المقصود بها الحاكمية التشريعية فحسب .
أما سند السلطة السياسية فمرجعه إلي الأمة ، هي التي تختار حكامها ، وهي التي تحاسبهم وتراقبهم ، بل تعتزلهم ، والتفريق بين الأمرين مهم ، والخلط بينهما موهم ومضلل ، كما أشار إلي ذلك الدكتور أحمد كمال أبو المجد .
بحق .
فليس معني الحاكمية الدعوة إلي دولة ثيوقراطية ، بل هذا ما نفاه كل من سيد قطب والمودودي رحمهما الله
وحسبي هنا أن أذكر قول سيد قطب في (معالمه) : " ومملكة الله في الأرض لا تقوم بأن يتولي الحاكمية في الأرض رجال بأعيانهم - هم رجال الدين - كما كان الأمر في سلطان الكنيسة ،ولا رجال ينطقون باسم الآلهة ، كما كان الحال فيما يعرف باسم (الثيوقراطية) أو الحكم الإلهي المقدس !! تقوم بأن تكون شريعة الله هي الحاكمة ، وأن يكون مرد الأمر إلي الله وفق ما قرره من شريعة مبينة " .
الملاحظة الثالثة : أن الحاكمية التشريعية التي يجب أن تكون لله وحده ، وليست لأحد من خلقه ، ونادي بها المودودي وقطب ، هي :الحاكمية (العليا) و(المطلقة) التي لا يحدها ولا يقيدها شيء فهي من دلائل وحدانية الإلوهية ، بل من مقومات الوحيد ،كما بين القرآن في قوله عالي : (أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ) وهذه الحاكمية - بهذا المعني - لا تنفي أن يكون للبشر قدر من التشريع أذن به الله لهم .
إنما هي تمنع أن يكون لهم استقلال بالتشريع غير مأذون به من الله ، وذلك مثل التشريع الديني المحض ، كالتشريع في أمر العبادات ، والتشريع الذي يحل ما حرم الله ، ويحرم ما أحل الله ، ويسقط ما فرض الله .
أما التشريع فيما لا نص فيه ، أو في المصالح المرسلة ، وفيما للاجتهاد فيه نصيب ، فهذا من حق المسلمين ، ولهذا كانت نصوص الدين في غالب الأمر كلية إجمالية لا تفصيلية ، ليتاح للناس أن يشرعوا لأنفسهم ، ويملأوا الفراغ التشريعي بما يناسبهم .
تمييز المؤمنين من المجرمين .. أولي المهام !
أ .د يوسف القرضاوي
من قرأ "ظلال القرآن" لسيد قطب في طبعته الأولي لم يجد فيه شيئاً يدل علي هذه الفكرة :
تكفير المسلمين الذين يعيشون في العالم الإسلامي اليوم .
ولكن من قرأ الأجزاء الأخيرة منه التي كتبها وهو في السجن بعد تغير اتجاهه الفكري ، وكذلك الأجزاء الأولي التي عدلها ، وظهر ذلك في طبعته الثانية وما بعدها يجد هذه الفكرة المحورية تسري في الكتاب في عشرات المواضع ، بل في مئاتها ، يذكرها ويؤكدها كلما جاءت مناسبة ، بل في أدني مناسبة لها .
وسنكتفي هنا بالاقتباس من تفسير سورة الأنعام ، ومن الجزء السابع ، ومن سورة الأنفال والتوبة من الجزء العاشر ، علي اعتبار أن سورة الأنعام من القرآن المكي ، وسورتي الأنفال والتوبة من القرآن المدني .
وحسبنا هذا النص الصريح المعبر عن فكرة الشهيد رحمه الله عند تفسيره لقوله تعالي : ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين )قال رحمه الله : ( إن سفور الكفر والشر والإجرام ضروري لوضوح الإيمان والخير والصلاح .
واستبانة سبيل المجرمين هدف من أهداف التفصيل الرباني للآيات .
ذلك أن أي غبش أو شبهة في موقف المجرمين وفي سبيلهم ترتد غبشاً وشبهة في موقف المؤمنين وفي سبيلهم .
فهما صفحتان متقابلتان ، وطريقان مفترقان ولابد من وضوح الألوان والخطوط .
ومن هنا يجب أن تبدأ كل حركة إسلامية بتحديد سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين ، يجب أن تبدأ من تعريف سبيل المؤمنين وتعريف سبيل المجرمين ، ووضع العنوان المميز للمؤمنين ، والعنوان المميز للمجرمين ، في عالم الواقع لا في عالم النظريات .
فيعرف أصحاب الدعوة الإسلامية والحركة الإسلامية من هم المؤمنون ممن حولهم ومن هم المجرمون ، بعد تحديد سبيل المؤمنين ومنهجهم وعلامتهم ، وتحديد سبيل المجرمين ومنهجهم وعلامتهم ، بحيث لا يختلط السبيلان ولا يتشابه العنوانان ، ولا تلتبس الملامح والسمات بين المؤمنين والمجرمين ... وهذا التحديد كان قائماً ، وهذا فكانت سبيل المسلمين الصالحين هي سبيل الرسول صلي الله عليه وسلم ومن معه .
وكانت سبيل المشركين المجرمين هي سبيل من لم يدخل معهم في هذا الدين .. ومع هذا التحديد وهذا الوضوح كان القرآن يتنزل وكان الله - سبحانه - يفصل الآيات علي ذلك النحو الذي سبقت منه نماذج في السورة ، ومنها ذلك النموذج الأخير (لتستبين سبيل المجرمين) .
وحيثما واجه الإسلام الشرك والوثنية والإلحاد والديانات المنحرفة المتخلفة في الديانات ذات الأصل السماوي بعدما بدلتها وأفسدتها التحريفات البشرية .. حيثما واجه الإسلام هذه الطوائف والملل كانت سبيل المؤمنين الصالحين واضحة ، وسبيل المشركين الكافرين المجرمين واضحة كذلك .. لا يجدي معها التلبيس ! .
ولكن المشقة الكبرى التي تواجه حركات الإسلام الحقيقية اليوم ليست في شيء من هذا .. إنها تتمثل في وجود أقوام من الناس من سلالات المسلمين ، في أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام ، يسيطر عليها دين الله ، وتحكم بشريعته .. ثم إذا هذه الأرض ، وإذا هذه الأقوام تهجر الإسلام حقيقة ، وتعلنه إسما .
وإذا هي تتنكر لمقومات الإسلام اعتقاداً وواقعاً .
وإن ظنت أنها تدين بالإسلام اعتقاداً ، فالإسلام شهادة أن لا إله إلا الله .. وشهادة أن لا إله إلا الله تتمثل في الاعتقاد بأن الله - وحده - هو خالق هذا الكون المتصرف فيه .
وأن الله - وحده - هو الذي يتقدم إليه العباد بالشعائر التعبدية ونشاط الحياة كله .
وأن الله - وحده - هو الذي يتلقي منه العباد الشرائع ، ويخضعون لحكمه في شأن حياتهم كله .. وأيما فرد لم يشهد أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فإنه لم يشهد ولم يدخل في الإسلام بعد ، كائناً ما كان اسمه ولقبه ونسبه .
وأيما أرض لم تتحقق فيها شهادة أن لا إله إلا الله - بهذا المدلول - فهي أرض لم تدن بدين الله ، ولم تدخل في الإسلام بعد ..
وفي الأرض اليوم أقوام من الناس أسماؤهم أسماء المسلمين ، وهم من سلالات المسلمين .
وفيها أوطان كانت في يوم من الأيام داراً للإسلام .. ولكن لا الأقوام اليوم تشهد أن لا إله إلا الله بذلك المدلول ، ولا الأوطان اليوم تدين لله بمقتضي هذا المدلول .. وهذا أشق ما تواجهه حركات الإسلام الحقيقية في هذه الأوطان مع هؤلاء الأقوام ! أشق ما تعانيه هذه الحركات هو الغبش والغموض واللبس الذي أحاط بمدلول " لا إله إلا الله " ، ومدلول الإسلام في جانب ، وبمدلول الشرك وبمدلول الجاهلية في الجانب الآخر .
أشق ما تعانيه هذه الحركات هو عدم استبانة طريق المسلمين الصالحين ، وطريق المشركين المجرمين ، واختلاط الشارات والعناوين ، والتباس الأسماء والصفات ، وانتبه الذي لا تتحدد فيه مفارق الطريق !
ويعرف أعداء الحركات الإسلامية هذه الثغرة .
فيعكفون عليها توسيعا وتمييعا وتلبيسا وتخليطا !.. تهمة تكفير (المسلمين) !! ويصبح الحكم في أمر الإسلام والكفر مسألة المرجع فيها لعرف الناس واصطلاحهم ، لا إلي قول الله ولا إلي رسول الله ! هذه هي المشقة الكبرى .. وهذه كذلك هي العقبة الأولي التي لابد أن يجتازها أصحاب الدعوة إلي الله في كل جيل !
يجب أن تبدأ الدعوة إلي الله باستبانة سبيل المؤمنين وسبيل المجرمين .. ويجب ألا تأخذ أصحاب الدعوة إلي الله في كلمة الحق والفصل هوادة ولا مداهنة .
وألا تأخذهم فيها خشية ولا خوف ، وألا تقعدهم عنها لومة لائم ، ولا صيحة صائح :
" انظروا .. إنهم يكفرون المسلمين !" .
إن الإسلام ليس بهذا التميع الذي يظنه المخدوعون ، إن الإسلام بين الكفر بين .. الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله بذلك المدلول ، فمن لم يشهدها علي هذا النحو ، ومن لم يقهما في الحياة علي هذا النحو ، فحكم الله ورسوله فيه أنه من الكافرين الظالمين الفاسقين .. المجرمين .. ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) .
أجل .. يجب أن يجتاز أصحاب الدعوة إلي الله هذه العقبة ، وأن تتم في نفوسهم هذه الاستبانة ، كي تنطلق طاقاتهم كلها في سبيل الله لا تصدها شبهة ، ولا يعوقها غبش ، ولا يميعها لبس .
فإن طاقاتهم لا تنطلق إلا إذا اعتقدوا في يقين أنهم هم " المسلمون " ، وأن الذين يقفون في طريقهم ويصدونهم ويصدون الناس عن سبيل الله هم " المجرمون " .. كذلك فإنهم لن يتحملوا متاعب الطريق إلا إذا استيقنوا أنها قضية كفر وإيمان .
وأنهم وقومهم علي مفرق الطريق ، وأنهم علي ملة وقومهم علي ملة وأنهم في دين وقومهم في دين : ( وكذلك نفصل الآيات ولتستبين سبيل المجرمين ) انتهي كلام الشيخ سيد قطب .
هذا هو الرجل يصرح - بل يصرخ - بما لا يدع مجالا للشك والاحتمال : أن الأوطان التي كانت تعتبر في يوم من الأيام "داراً للإسلام "، وأن هؤلاء الأقوام (من سلالات المسلمين ) الذين كان أجدادهم مسلمين في يوم من الأيام .. لم يعودوا مسلمين ، وإن ظنوا أنهم يدينون بالإسلام اعتقاداً ، في حين أنهم ليسوا مسلمين لا عملا ولا اعتقادا ، لأنهم لم يشهدوا أن " لا إله إلا الله " بمدلولها الحقيقي كما حدده هو ، وأشق ما تعانيه الحركات الإسلامية أنها لم يتضح لها هذا المفهوم الجديد .. أن الذين يظنون أنفسهم مسلمين اليوم هم كفار في الحقيقة ، وهو يريد من هذه الحركات ودعاتها أن يجهروا بكلمة الفصل ولا يبالوا بـ" تهمة تكفير المسلمين " فالحقيقة أنهم ليسوا مسلمين !! .
مفاصلة " العصبة المسلمة " للجاهلية من حولها :
وفي موضع آخر من تفسير السورة عند قوله تعالي : ( لو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) قال رحمه الله : " وهذا يقودنا إلي موقف العصبة المسلمة في الأرض وضرورة مسارعتها بالتميز عن الجاهلية المحيطة بها - والجاهلية كل وضع وكل حكم وكل مجتمع لا تحكمه شريعة الله وحدها ، ولا يفرد الله سبحانه بالإلوهية والحاكمية - وضرورة مفاصلتها للجاهلية من حولها ، باعتبار نفسها أمة متميزة من قومها الذين يؤثرون البقاء في الجاهلية ، والتقيد بأوضاعها وشرائعها وأحكامها وموازينها وقيمها .
إنه لا نجاة للعصبة المسلمة في كل الأرض من أن يقع عليها هذا العذاب : ( أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) .. إلا بأن تنفصل هذه العصبة عقيديا وشعوريا ، ومنهج حياة عن أهل الجاهلية من قومها - حتى يأذن الله لها بقيام " دار إسلام " تعتصم بها - وإلا أن تشعر شعوراً كاملاً بأنها هي " الأمة المسلمة " ، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية .
وأن تفاصل قومها علي العقيدة والمنهج ، وأن تطلب بعد ذلك من الله أن يفتح بينها وبين قومها بالحق وهو خير الفاتحين .
فإذا لم تفاصل هذه المفاصلة ، ولم تتميز هذا التميز .. حق عليها وعيد الله هذا وهو أن تظل شيعة من الشيع في المجتمع ، شيعة تتلبس بغيرها من الشيع ، ولا تتبين نفسها ، ولا يتبينها الناس مما حولها ، وعندئذ يصيبها ذلك العذاب المقيم المديد ، دون أن يدركها فتح الله الموعود ! إن موقف التميز والمفاصلة قد يكلف العصبة المسلمة تضحيات ومشقات غير أن هذه التضحيات والمشقات لن تكون أشد ولا أكبر من الآلام والعذاب الذي يصيبها نتيجة التباس موقفها وعدم تميزه ، ونتيجة اندماجها وتميعها في قومها والمجتمع الجاهلي من حولها .. ومراجعة تاريخ الدعوة إلي الله علي أيدي جميع رسل الله يعطينا اليقين الجازم بأن فتح الله ونصره
وتحقيق وعده بغلبة رسله والذين آمنوا معهم .. لم يقع في مرة واحدة ، قبل تميز العصبة المسلمة ومفاصلتها لقومهما علي العقيدة وعلي منهج الحياة - أي الدين - وانفصالها بعقيدتها وديتها عن عقيدة الجاهلية ودينها - أي نظام حياتها - وأن هذه كانت هي نقطة الفصل ومفرق الطريق في الدعوات جميعا .
النص واضح تمام الوضوح : إن الكاتب لا يعتبر مسلماً إلا من آمن بفكرته هذه ، وهي الفئة التي يسميها " العصبة المسلمة " ، وهي التي يجب أن تشعر بأنها وحدها هي " الأمة المسلمة " ، وأن ما حولها ومن حولها ممن لم يدخلوا فيما دخلت فيه جاهلية وأهل جاهلية ، أي هم مشركون وكفار ، ليس لهم في الإسلام نصيب ، وإن كانوا يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ! فكأنما المسلمون جميعا بمثابة مشركي مكة عند البعثة المحمدية ، وكأنما دعوته بمثابة دعوة محمد صلي الله عليه وسلم ، من آمن بها دخل في الإسلام ، ومن لم يؤمن بها فهو جاهلي كافر حلال الدم !! .
مسلمو اليوم .. كمشركي الجاهلية !
ومن أجل ذلك أكد سيد قطب مرات ومرات العناية بدعوة الناس الذين " يسمون أنفسهم مسلمين " إلي اعتناق العقيدة قبل كل شيء قبل أن تدعوهم إلي التشريع الإسلامي ، أو النظام الإسلامي ، بل الواجب الأساسي أن ندعوهم ليسلموا أولاً ، ليشهدوا أن لا إله إلا الله بمفهومها القطبي الجديد ، وبهذا يخرجون من الجاهلية التي ارتكسوا فيها ، ويدخلون في الإسلام .
والحق أننا لم نر الرسول صلي الله عليه وسلم ، ولا الصحابة ، ولا التابعين ، ولا أحداً من السلف أو الخلف فسر كلمة التوحيد بما فسرها به سيد رحمه الله .
إنما كانوا يدعون الناس من العرب والعجم إلي " لا إله إلا الله " التي يعرف الناس مدلولها بفطرتهم ، فحين يدعي المجوسي إلي " لا إله إلا الله " يفهم أن معناها أن يترك عبادة النار ، وألا يقول بإلهين اثنين : إله للخير والنور ، وإله للشر والظلمة ، ويتجه بصلاته ونسكه وتذلله لله وحده .
والهندوسي حينما يدعي إلي ط لا إله إلا الله " يفهم منها أن يدع عبادة البقر وغيرها من الحيوانات وقوي الطبيعة المختلفة ، ويتجه بعبادته لله رب العالمين .
وننقل هنا هذا النص من تقديم سورة الأنعام ، يقرر هذا المعني الذي ألمحنا إليه .
قال صاحب الظلال : " والذين يريدون من الإسلام اليوم أن يصوغ قوالب نظام ، وأن يصوغ تشريعات حياة .. بينما ليس علي وجه الأرض مجتمع قد قرر فعلا تحكيم شريعة الله وحدها ورفض كل شريعة سواها مع تملكه للسلطة التي تفرض هذا وتنفذه .. الذين يريدون من الإسلام ذلك لا يدركون طبيعة هذا الدين ولا كيف يعمل في الحياة كما يريد له الله .
إنهم يريدون منه أن يغير طبيعته ومنهجه وتاريخه ليشابه أنظمة بشرية ، ومناهج بشرية ويحاولون أن يستعجلوه عن طريقه وخطواته ليلبي رغبات وقتية في نفوسهم ، وإنما تنشئها الهزيمة الداخلية في أرواحهم تجاه أنظمة بشرية صغيرة .. إنهم يريدون منه أن يصوغ نفسه في قالب فروض تواجه مستقبلا غير موجود ..
والله يريد لهذا الدين أن يكون كما أراده : عقيدة تملأ القلب ، وتفرض سلطانه علي الضمير ، عقيدة مقتضاها ألا يخضع الناس إلا لله ، ولا يتلقوا الشرائع إلا من الله وبعد أن يوجد الناس الذين هذه عقيدتهم ، ويصبح لهم السلطان في مجتمعهم تبدأ التشريعات لمواجهة حاجاتهم الواقعية ، وتنظيم حياتهم الواقعية كذلك .
كذلك يجب أن يكون مفهوما لأصحاب الدعوة الإسلامية أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين يجب أن يدعوهم أولا إلي اعتناق العقيدة - حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين ! وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون - يجب أن يعلموهم أن الإسلام هو أولاً إقرار عقيدة " لا إله إلا الله " بمدلولها الحقيقي ، وهو رد الحاكمية لله في أمرهم كله ، وطرد المعتدين علي سلطان الله بإدعاء هذا الحق لأنفسهم .. إقرارهم في ضمائرهم وشعائرهم ، وإقرارها في أوضاعهم وواقعهم .
ولتكن هذه القضية هي أساس دعوة الناس إلي الإسلام ، كما كانت هي أساس دعوتهم إلي الإسلام أول مرة .. هذه الدعوة التي تكفل بها القرآن المكي طوال ثلاثة عشر عاما كاملة .
فإذا دخل في هذا الدين - بمفهومه هذا الأصيل - عصبة من الناس ، فهذه العصبة هي التي تصلح لمزاولة النظام الإسلامي في حياتها الاجتماعية .
لأنها قررت بينها وبين نفسها أن تقوم حياتها علي هذا الأساس .
وألا تحكم في حياتها كلها إلا الله " .
النص من الوضوح بحيث لا يحتاج إلي تعليق ، فالكاتب ينظر إلي مسلمي اليوم نظرته إلي مشركي العرب في الجاهلية تماما عند البعثة ، لا فرق بين هؤلاء ولا أولئك ، إلا أن هؤلاء يسمون أنفسهم مسلمين وهذه لا تغني عنهم شيئاً ، ولهذا كان علي أصحاب الدعوة الإسلامية أن يدعوا الناس إلي اعتناق العقيدة أولا ، حتى ولو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين ، وتشهد لهم شهادات الميلاد أنهم مسلمون !
وقد اعتسف الشهيد رحمه الله في إلزامه الناس جميعا بتفسيره لكلمة التوحيد ( لا إله إلا الله ) ، والمسلمون جميعا يفهمون معناها أنه لا معبود بحق إلا الله والعبادة تعرفها الأمم جميعا ، فمنهم من يوجهها إلي الله وحده وهم مسلمون ، ومنهم من يشرك مع الله غيره ، ومنهم من يعبد هذا القبر من دون الله ، ولا يمكن أن نسوى بين المسلم والهندوسي الذي يعبد البقرة ، أو البوذي الذي يعبد " بوذا " ! .
ومشكلة الأستاذ سيد أنه لا يعرف إلا الإيمان أو الكفر ، ولكن يوجد بينهما منزلة هي الفسوق والعصيان ، فقد يوجد اليوم مئات الملايين من المسلمين ولكنهم - كلهم أو جلهم - عصاه مفرطون ، في حاجة إلي أن يتوبوا ، أو جهلة بدينهم في حاجة إلي أن يعلموا .
فلو قال الأستاذ سيد : لا يوجد مسلمون كاملون في إسلامهم فهما وسلوكا غلا القليل ، لكان كلامه مقبولا ، أما أن يقول : لا يوجد مسلمون قط ، وإنما يوجد أقوام من سلالات المسلمين ، وأن الوجود الإسلامي قد انتهي أو توقف من زمن طويل ، فهذا إسراف في النظر إلي الأمة التي لم تكفر بربها ولا بقرآنها ولا برسولها ، ولا تزال تتجمع بالملايين في شهر رمضان لصلاة التراويح ، وفي مواسم الحج والعمرة .
فمن يقول إن هؤلاء جميعا كفار؟! بل نقول ما قال الله تعالي : (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ) .

كلمة أخيرة حول سيد قطب

لا أريد أن أحول هذه المذكرات إلي مناقشة علمية تدور حول أشخاص أو أفكار ، فهذا ليس من شأن السيرة الذاتية ، وإذا تكرر ذلك واتسع فربما أفسدها .
ولم أكن أقصد أن أخوض هذه المعركة التي دخلتها علي كره مني ، فليس بيني وبين سيد قطب إلا كل مودة ومحبة واحترام ، بل أكن له ما أكنه لائمة الدعوة مثل حسن البنا ، والمودودي ، والسباعي ، والغزالي وغيرهم
وأنا لست من أقران سيد قطب حتى يتصور البعض أن يكون بيني وبينه من التغاير ما بين الأقران بعضهم وبعض .
علي أنٌا - وإن جمعتنا ساحة الدعوة - يظل لكل منا ميدانه وحلبته التي يصول فيها ويجول ، فبيننا عموم وخصوص من وجه كما يقول المناطقة .
ولكني فوجئت بما أثارته مذكراتي من ( وقفة مع سيد قطب ) وما ذكرته عما تحمله في المرحلة الأخيرة من حياته الفكرية من ميل إلي ( تكفير مسلمي اليوم ) - مع محاولتي التخفيف من عباراتي ما استطعت - مما جعل كثيرا من قراء المذكرات يطالبونني بالأدلة التي تثبت هذه الدعوى .
ولم يسعني إلا أن انقل من ثلاثة كتب ( نصوصا صريحة ) تصرح بتكفير مسلمي اليوم .
واكتفي معظم القراء بهذه الشواهد الناطقة ، ولكن عدداً من الإخوان المتحمسين - الذين لا أشك في إخلاصهم - مثل جمال سلطان و
أحمد عبد المجيد ومحمود عزت وغيرهم - عز عليهم أن ينصف سيد بتلك الصفة ( تكفير المسلمين ) وأنا والله يعز عليٌ ذلك ، ولكن ما حيلتي والشواهد تدمغني ، والنصوص الواضحة المتكررة لا تدع لي مجالاً .
وليست الأمور بالتمني !.
علي أن هذا لم يكن مجرد فكر تجريدي معلق في الهواء ، بل هو فكر موصول بالواقع بني صاحبه علي أساسه جدرانا وسقوفا ، ورتب عليه نتائج وآثارا كررها وأكدها في كتبه .
ومن ذلك : أنه رأي التركيز علي وجوب الدعوة إلي اعتناق هذه العقيدة ، لا علي عرض التشريع أو النظام الإسلامي السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي .
فإنما يتأتي ذلك بعد وجود الجماعة المسلمة .
ومن ذلك السخرية بدعوى إحياء الفقه الإسلامي وتطويره وفق حاجات العصر ، وتجديد الاجتهاد ، ونحو ذلك ، مع غيبة المجتمع المسلم ، بل مع انقطاع الوجود الإسلامي منذ زمن بعيد !
وأذكر أن الأخ الفاضل عادل الصلاحي - مترجم (الظلال) إلي الانجليزية - طلب لقائي في لندن ، وأخبرني بأنه فوجئ بما كتبت عن سيد ، وأنه لقي سيدا قبل استشهاده ، وعلم منه : أنه يركز قبل كل شيء علي التربية .
قلت له : وهذا صحيح ، ولكن علي أي شيء يربي من انضم إليه ؟ هنا مربط الفرس كما يقولون .
ثم قلت له : كيف تترجم العبارات التي تحمل دلالة واضحة علي تكفير مسلمي اليوم ؟ قال : بصراحة أنا لا أترجمها حرفيا ، بل أذكر معنى عاما يقرب من مدلولها إلى القارئ ، وإن لم ينقل إليه المعنى المراد ! قلت له : وهل ترى أنك بهذا تكون قد أديت أمانة المترجم تعمد تحريف الترجمة؟! فسكت الرجل ،ثم قال : وما الحل؟
قلت :ولا حل عندي إلا الصدق ومواجهة الحقائق مكشوفة ، وكل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلي الله عليه وسلم .
علي أن الذي يهون من هذه القضية عدة أمور :
1 - أن هذا الفكر نتيجة اجتهاد من قائله ، أسسه علي ظواهر واعتبارات شرعية وعقلية ، وهو اجتهاد يعذر صاحبه ، بل يؤجر عليه أجرا واحدا ، وإن كان في القضايا الأصولية والعلمية كما حقق شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وغيرهما من علماء الأمة .
2 - أن الظرف الذي ظهر فيه هذا الفكر ، وصاحبه في سجن الطغاة ، ودعاة الإسلام يشنقون ويعذبون ويشردون ، والشيوعيون يمكُن لهم : يجعل لمتبنيه عذرا أكبر .
3 - أن صاحب هذا الفكر لم يكن من المتاجرين بالدين ، أو المتزيين بزي أهله ، بل كان رجلا صادقا مخلصا ، وعاش لهذا الدين حتى قدم رقبته رخيصة في سبيل الله .
وعلي كره مني سأضطر أن أقول بعض كلمات أعقب بها علي الذين ناقشوا هذه القضية علي موقع إسلام أون لاين. نت ، وبعضهم من إخواني وبعضهم من تلاميذي ، وليس في العلم كبير " وفوق كل ذي علم عليم " ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة .
بعض الأخوة لم يعترضوا علي الموضوع ، ولكنهم اعترضوا علي " التوقيت " ، قائلين : ليس هذا أوان إثارة هذا الأمر ، وقد قلت : إني دفعت إليه دفعا ، ثم ما هو الوقت المناسب لإثارة ذلك وقد مضي علي الشهيد قطب ثلث قرن أو يزيد ؟ ثم إن الأمانة العلمية ، وما أخذه الله علي العلماء من البيان وعدم الكتمان : يوجب علي أن أقول الحق لأمة الإسلام ، وأنا هنا أقول ما قاله الحافظ الذهبي في ابن تيمية :
شيخ الإسلام حبيب إلينا ولكن الحق أحب إلينا منه .
وتمني بعضهم لو أني استمررت في نهجي الذي عرفت به ، وهو نهج تجميعي بيني ولا يهدم ، يجمع ولا يفرق ، فلماذا أثير هذه القضية وأفرق الصفوف اليوم ؟ ومعاذ الله أن أكون داعي فتنة أو مفرق صف ، وقد علم الجميع : أني أدعو غلي التقريب بين المذاهب والفرق الإسلامية من سنة وشيعة وزيدية وإياضية فكيف أفرق بين أهل السنة- بل أهل الدعوة - بعضهم وبعض ؟! .
ومما أذهلني وأذاني ما ذكره الأخ أحمد عبد المجيد - تعريضا - أن إلصاق همة التكفير بسيد قصد بها الإساءة إلي الرموز الإسلامية .
ويعلم الله كم كنت حريصا ألا أدخل هذا المعترك ، وكم أجلته وأجلته ، ولكن متى كان الأشخاص مقدسين عندنا ؟ لقد كنت مترددا بين الإبقاء علي سمعة الشهيد من ناحية ، وبيان الحقيقة الشرعية من ناحية أخري ، فترجحت الثانية علي الأولي ؛ لأن البيان فريضة ، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة ، وخطأ سيد لا ينقص من منزلته ولا من مثوبته عند الله ، فإنما الأعمال بالنيات ، وإنما لكل امرئ ما نوى .
ومما ذكره الأخ عبد المجيد بحق قوله : " حدث تغير في أفكار سيد قطب ، فعندما كان في مستشفي ليمان طره ، طلب من أسرته كتب الشهيد حسن البنا والأستاذ المودودي ، فبدأ يتنبه إلي أمور كانت غائبة عنه وخصوصا في ضرورة التركيز علي موضوع العقيدة ، ثم بدأ يطلب كتب ابن تيمية وابن القيم ، وبدأ التغير في تفكيره وكتاباته ، وظهر ذلك جليا في الطبعة الثانية من الظلال ، والأجزاء الأخيرة منه حتى الجزء 13 ، وكتاب : خصائص التصور الإسلامي (ومقوماته) ، ومعالم في الطريق ، ولو فرضنا أن هناك أخطاء عند سيد قطب - وهو بشر - فإن التقييم العادل أن نأخذ الأفكار الراشدة ونترك غيرها ولا نرفض المنهج بأكمله ، انتهي .
وهذا كلام منصف متزن ، وهو العدل الذي أمرنا به ( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي ) ، وأنا لا أقول غير ذلك ، فلم أقل يوما : اعدموا تراث سيد قطب ، أو احرقوا كتبه كما أحرقت كتب الإمام الغزالي وغيره قديما ، ففي هذا التراث كنوز لا ينبغي أن تهمل إلي جوار (المطبات) التي يجب أن تحذر .
وهذا ما أدين الله تعالي به .
ومما دهشت له أن أكثر المعلقين دفعهم الحماس بعيدا عن لب الموضوع ، فتحدثوا في أشياء جانبية ، وتركوا الجوهر ، وهو (النصوص الصريحة) المنقولة من كتب سيد رحمه الله .
ومما قاله بعضهم : إن الناس قرءوا (الظلال) ولو يفهموا ما فهمته من فكرة (التكفير) .
وهذا الكلام غير صحيح ، فقد أثار جدلا طويلا داخل الإخوان في السجون ، ومن آثاره بحث قضية : هل نحن جماعة المسلمين ؟ أم نحن جماعة من المسلمين ؟ حتى أن مكتب الإرشاد أرسل إلي سيد الأخ عبد الرءوف أبو الوفا يسأله عن هذه المسألة ، ومن ذلك سؤال الأستاذ عمر التلمساني له وسؤال الحاجة زينب الغزالي له .
وقد رأينا تجمعات في أقطار مختلفة يسمون (القطبيين) ، ويتبنون فكرة التكفير ، وقد رأيت من آثار ذلك : من سألوني عن الصلاة في البيوت ، وترك المساجد باعتبارها معابد الجاهلية ، وهو مما فهموه من الظلال في تفسير قوله تعالي ( واجعلوا بيوتكم قبلة) ، وقد رددت عليهم في الجزء الأول من كتابي (فتاوى معاصرة ) .
ومن قرأ أدبيات جماعات التكفير يجد آثار هذا الفكر وعباراته المعروفة في صلب هذا الفكر ، وإن لم يصرحوا بالنقل عنه .
وانتبه هنا علي مسألة مهمة ، وهي : أن أكثر الإخوان قرءوا الظلال ، ولم يفهموا منه أمر التكفير ، لأنهم قرءوه وهم يحملون فكر البنا ، فلم يتأثروا بالفكر الجديد ، وحملوه علي ما في رءوسهم من أفكار سابقة غرستها فيهم تربية البنا ، حتى أكثر الذين كانوا في تنظيم 1965- وسيد علي رأسه - لم يكونوا يحملون مبدأ التكفير .
علي أن هؤلاء - عادة - لا يقرءون الظلال ، وإنما يقرءون فقرات منه علي فترات ، ربما كانت متباعدة ، وقلما يربطون بين الفقرات بعضها وبعض .
علي أن الذين لم يأخذوا فكرة التكفير لم تخطئهم رشحات من تأثير هذا الفكر الثائر الرافض علي مفاهيمهم وعلاقاتهم بالآخرة ، ورفض الانفتاح والحوار ، والمفاصلة الشعورية مع المجتمع ، وإعلان الحرب علي العالم كله ، حتى المسالمين ، والسخرية بدعاة الاجتهاد وتطوير الفقه ، وغير ذلك ، واتهام دعاة التسامح والموسعين بالهزيمة النفسية والسذاجة الفكرية ... إلخ .
قد ينطبق حكم سيد قطب على بعض الأنظمة الحاكمة التي تتبنى ( التطرف العلماني) الذي يجاهر بالعداوة لشريعة الإسلام ،ويحارب دعاته ، ويعمل على تجفيف منابع التدين في الحياة من التعليم والإعلام والثقافة
وهم الذين تحدثت عنهم في كتابي (التطرف العلماني في مواجهة الإسلام ) ،هؤلاء فئة قليلة مبغوضة من الآمة وموالية لأعدائها.
أما تكفير الجماهير من مسلمي اليوم ،كما تنطق بذلك ظواهر نصوص سيد قطب ، فلا نوافقه عليها بحال من الأحوال والله يغفر له.
نقطة"الأدبية "و"الفقهية"
ومما أثاره عدد من الإخوة المعقبين : ما تعلق بـ( أدبية) سيد رحمه الله لا(فقهيته)،وأنه كان (أديبا)،ولم يكن (فقيها)، وأنه أعلن ذلك مرارا .
فلا ينبغي أن نحاسبه بما يحاسب به الفقهاء بعضهم بعضا إذ لم يكن واحدا منهم .
وأود أن أقول لهؤلاء الإخوة:ٌ إنني أحترم النزعة أو الملكة الأدبية عند وأراه من أعظم أدباء العصر ،ومن أجل هذا لا أطالبه بتدقيق الفقهاء،ولا بتعمق الأصوليين ، وهذا ما أوافق فيه الإخوة المعقبين ، ولا اعتراض لي عليه .
ولكن الذي أخالفهم فيه هو اعتبارهم الأدب أو التعبير الأدبي سببا في غموض الكتب ، وضبابية ما يكتب ،والتباسه على قارئه؛ فالأمر عندي بالعكس تماما ،فالكاتب الأديب الأصيل إذا كتب في أي علم أضفى عليه من إشراق يراعه ومن نصاعة بيانه ما يجليه ويقربه إلى القارئ ،ويزيح عنه أي لون من الغموض ،وهو ما يسمونه (الأسلوب العلمي المتأدب ).
وقد رأينا هذا في كتابات العلماء الأدباء، مثل: محمد عبده ، ود. محمد عبد الله دراز ، وحسن البنا ، ومحمد الغزالي ، وعلي الطنطاوي ، و[مصطفي السباعي] ، والبهي الخولي وغيرهم .
وسيد قطب يأتي في مقدمة هؤلاء فلم أر أدبيا هو أنصع منه بيانا ، ولا أوضح أسلوبا في كل ما يكتبه ، في التفسير وفي غيره ، وقد يقال : إنه لم يكتب (تفسيرا) بالمعني الحرفي للكلمة ، وهذا صحيح بالنسبة للنصف الأول من الطبعة الأولي من الظلال ، ولكنه في الأجزاء الثلاثة عشر الأخيرة ، وفي الأجزاء الأولي من الطبعة الثانية ، اجتهد أن يكون مفسرا ، ويكاد أفرغ تفسير ابن كثير - أو خلاصته - في الظلال .
ولم يكن الرجل من دعاة الرمزية أو السريالية أو غيرها من المذاهب الأدبية التي تعمد إلي الغموض وتغلف مقولاتها وأفكارها بأغلفة تحجب معانيها عن جماهير القراء. ،
ولم يكن سيد كذلك من دعاة الباطنية الذين يقولون القول ، ولا يريدون به ما يفهمه سائر الناس . بل كان رجلا صريحا بينُا لا يحب الظلام ولا الضبابية فيما يقول ولا فيما يفعل .
والقضية التي نتحدث عنها - قضية تكفير مسلمي اليوم - ليست قضية فقيهة بعيدة عن اختصاص سيد كما يتصور أو يصور بعض الإخوة المتحمسين ، بل هي قضية فكرية محورية أساسية ،أو قل هي : قضية أصولية اعتقادية ، هي ألصق بعلم العقائد والكلام منها بعلم الفقه والفروع .
ولأنها قضية فكرية محورية مركزية عند سيد ، رأيناه يلح عليها ، ويكررها ويؤكدها بأساليبه البيانية الرائقة والرائعة حتى تتضح كالشمس في رابعة النهار .
شهود النفي في القضية
وما آلمني كثيراً : دخول بعض الإخوة في هذا الميدان ، وبضاعتهم مزجاة من العلم الشرعي ، وحتى من المنطق العقلي ، وظنوا أن الحماس ورض الكلام يغني شيئاً في القضايا العلمية الكبيرة .
لقد جاءوا بمن يمكن أن يسموا (شهود النفي) في القضية ، ليقولوا : إنهم لقوا سيدا رحمه الله ولم يجدوه يكفر المسلمين ، أو سألوه : هل تكفر المسلمين ؟ فنفي ذلك ، وقال من قال : يجب أن نضم أفعال سيد إلي أقواله حتى نكون منصفين معه .
ونسي هؤلاء ما قرره علماؤنا من (قواعد علمية) تحكم الأمور وتضبطها ، من هذه القواعد : أن المثبت مقدم علي النافي ، وأن من حفظ حجة علي من لم يحفظ .
فإذا جاء عشرة ثقات وقالوا : لم نسمع فلانا يشتم فلانا ، وجاء رجل ثقة ، وقال : إنه سمعه يشتمه ، وكان من أهل العدالة والضبط ، أخذ يقول هذا الواحد ؛ لأنه علم ما لم يعلموا ، فهم حدثوا بما يعلمون وهو حدث بما يعلم ، وحفظ ما لم يحفظوا ، ومن حفظ حجة علي من لم يحفظ .
وما ذكره الإخوة من تعارض فعل سيد مع أقواله : قد غفلوا عن أصل مهم ، وهو : أن الذي يحكم علي العالم ويعبر عن رأيه هو قوله لا فعله ؛ لأنه فعل امرئ غير معصوم ، فلا غرابة أن يناقض فعله قوله ، وسلوكه عمله ، مادام لا عصمة له ،وقد قال بعض الأئمة : اعمل بقولي ولا تركن إلي عملي ينفعك علمي ولا يضرك تقصيري
وإن كنت أحي - علي وجه الخصوص - مقالة الأخ معتز الخطيب التي ناقشت الموضوع مناقشة علمية مستنيرة وموضوعية ، كذلك أحيي مقالات أخري جيدة مثل العالم الأزهري المتمكن الدكتور يحيي هاشم فرغلي ، علي ما فيها من تمحل ، وإن كان يبدو لي أن بعض هذه المقالات لم تكتب تعليقا علي كلامي .
وأريد أن أؤكد للمعلقين جميعا أني لم أدع علي الرجل دعوى من كيسي بل من كيسه هو ، وما آخذته إلا بكلامه البين الجلي المفهوم ، فإن كان رجع عن مضمون هذا الكلام الجلي في أواخر حياته - رحمه الله - فليُقل هذا ولا حرج ، إنه تراجع عن هذا الفكر ولم يعد يلتزمه أو يؤمن به .
وحبذا أن يقول ذلك أولي الناس به ؛ شقيقه الكاتب الكبير الأستاذ محمد قطب حفظه الله ، فليت صديقنا العزيز يفعلها فيربح ويستريح ، فيعلق علي الأقوال التي نقلتها من الظلال ومن غيره وأمثالها بسطر واحد يضع الأمور في نصابها .
لقد درسنا علي شيوخنا في الأزهر علما يسمونه (أدب البحث والمناظرة) ، ومن قواعده المقررة : إن كنت ناقلا فالصحة ، وإن كنت مدعيا فالدليل ، فلا يطلب من ناقل قول إلا أن يكون نقله صحيحا ثابتا عمن نقله عنه ، ولا يطلب من صاحب دعوى إلا أن يقيم الدليل علي ثبوتها .
وأنا أدعيت دعوى أقمت الدليل عليها بنقول صحيحة ، ولا يشكك أحد في صحة النقول ، وإنما يشكك المشككون في ثبوت الدليل ، وأنا لا أدري وجها للتشكيك فيه بحال ، وقد قيل : توضيح الواضحات من المشكلات ، وقال الشاعر :
وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلي دليل
ولا يفوتني هنا أن أنبه علي حقيقة لا ريب فيها وهي : أنني - وحاشى الله - لا أكفر سيد قطب ، ولا أؤثمه ولا أضلله ، بل أخطئه في اجتهاده ، فلا يخلط الإخوة بيني وبين من اتهموا سيدا بالكفر والضلال ومن رموه بالقول بوحدة الوجود ، أخذا من متشابه كلامه في سورة "الحديد" وسورة "الإخلاص" ، ولم يردوا المتشابه إلي المحكم الذي امتلأت به كتبه كلها ، وهي تكذب هذه الدعوى التي لا تقوم علي رجلين .

بين حسن البنا وسيد قطب

ويحلو لبعض الإخوة أن يعقدوا مقارنة بين حسن البنا وسيد قطب ، محاولين أن يثبتوا أنهما كانا علي خط واحد ، ونهج واحد ، وأن سيدا لم يتجاوز خط البنا ورحم الله الرجلين وأنا أقول أن سيدا أشاد بالبنا في كتاباته القديمة التي جمعها في كتاب (دراسات إسلامية) فكتب عن حسن البنا وعبقرية البناء .
ولكنه لم يتحدث - فيما علمت - عن فكر البنا ومقاصده ، ولم ينقل عنه في كتبه كما تقل عن المودودي والندوي ، وإن كان يجمعه بحسن البنا الاتجاه العام لنصرة الإسلام ، والذود عن حماه .
أما المنهج فكان لكل شخصيته وتميزه ، من حيث المنطلق ، ومن حيث الغاية ، ومن حيث الوسيلة ومن حيث الروح العامة .
فأما المنطلق - وإن كان إسلاميا لكليهما - نجده مختلفا كثيرا بينهما ؛ فحسن البنا ينطلق من أن الأمة الإسلامية موجودة ، وأن المسلمين موجودون ، ولكنهم يحتاجون - إلي عمل كبير لتفقيههم بالإسلام ، وتربيتهم عليه ، بدءا بالفرد المسلم ، فالبيت المسلم ، فالشعب المسلم ، فالحكومة المسلمة ، فالأمة المسلمة .
وسيد قطب ينطلق من أن الأمة المسلمة قد انقطع وجودها منذ زمن ، ولابد من إعادتها من جديد ، وكل الموجودين اليوم من سلالات أقوام كانوا مسلمين ، وأوطانهم من قبل دارا للإسلام ، ولم تعد اليوم دارا للإسلام ، وإذا لم يكونوا مسلمين ، فعلينا أن ندعوهم إلي اعتناق العقيدة الإسلامية ، وأن يدخلوا في الإسلام من جديد .
حسن البنا يري أن الإسلام - باعتباره دينا - قائم وموجود ، وأن هناك أمة تؤمن به من المحيط إلي المحيط ، وأن الأمة المسلمة من أشد الأمم في الأرض تمسكا بدينها ، وان الإنسان العاصي من عامة المسلمين نجد أصل الإيمان مغروسا في أعماقه ، ولكنه إيمان نائم أو مخدر ، وهو في حاجة إلي إيقاظ وبعث وتنبيه ، وهذه مهمة الدعوة الإسلامية ورجالها .
نجد حسن البنا يقول في رسالته : يا قومنا - وكل المسلمين قومنا - ندعوكم إلي كذا وكذا ، بخلاف سيد قطب ، فهو يري أن الإسلام قد انقطع وجوده من الأرض ، فلا توجد أمة مسلمة ، ولا يوجد مجتمع مسلم ، بل لا يوجد أفراد مسلمون ، لا بمعني أنهم ارتدوا عن الإسلام ، بل لأنهم لم يدخلوا أصلا في الإسلام ؛ لأن دخول الإسلام لا يتحقق إلا بشهادة أن (لا إله إلا الله) ، بما تتضمنه من إفراد الله تعالي بالحاكمية ، وهم لم ينطقوا بالشهادة بهذا المدلول .
وهذا هو المفهوم الذي أنكره العلامة الندوي علي سيد وعلي المودودي من قبله ، وسماه (التفسير السياسي للإسلام) .
حسن البنا يشعر بوجود الإسلام وأمته ، ويتعاطف معها ، ويعيش بهمومها ، وسيد قطب لا يحس للإسلام ولا لأمته بوجود من حوله ، بل يقول : قومنا علي ملة ونحن علي ملة ، وهم علي دين ونحن علي دين آخر .
غاية حسن البنا أن يصحح فهم المسلمين للإسلام الذي يعتنقونه بحيث لا يقتصر علي المعني اللاهوتي أو التعبدي الشعائري ، بل يجب أن يفهموه بشموله وتكامله وتوازنه : عبادة وجهادا ، ودينا ودولة ، خلقا وقوة ، ثروة وغني ، تربية وتشريعا ، وبعد تصحيح الفهم تبدأ عملية تجديد الإيمان وغرس المعاني الربانية والأخلاقية .
وغاية سيد قطب : أن يعلن رفض هذا المجتمع كله من حوله - فهو مجتمع جاهلي ، لم يدخل بعد الإسلام المطلوب - وأن ندخل الناس في الإسلام من جديد ، لم يدخل بعد في الإسلام المطلوب - وأن ندخل الناس في الإسلام من جديد ، وندعوهم إلي اعتناق عقيدته ، كما دعاهم الرسول وأصحابه ، وأن نشعرهم بأنهم شيء ونحن شيء ، وأن نصارحهم بذلك بلا وجل ولا خجل حتى يعرفوا حقيقة أنفسهم .
وسيلة حسن البنا : هي الدعوة والحوار والتربية والتغلغل في المجتمع ، والعناية به بحل مشاكله وأخذه بالرفق والتدرج والانفتاح علي المخالفين ، والتسامح معهم دون تفريط في حقوق الأمة .
وسيلة سيد قطب : هي الدعوة والتربية أيضا مع غرس الشعور في العصبة المؤمنة القليلة - التي هي المسلمة دون من عداها - بالعزلة الشعورية من المجتمع ، ورفض الانفتاح والتحاور مع الآخر ، بل وتجب التعبئة الفكرية والشعورية ضده ، وتقديم سوء الظن بهؤلاء الذين لا يضمرون إلا الشر والعداوة للمسلمين
الروح العامة في منهج حسن البنا هي : التسامح والانفتاح والحكمة والتدرج .
والروح العامة في منهج قطب هي : التشدد والصرامة وإغلاق الأبواب ، ومن أجمل ما عبر عن اختلاف المنهجين : المفكر المؤرخ المستشار طارق البشري حين قال :" إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيرا عن فكر حسن البنا - رحمهما الله - ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة ، وإنما يجري وصف كل فكر وظروف وإعماله ، وفكر حسن البنا - لمن يطالعه - فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة وهو فكر تجميع وتوثيق للعراء ، وفكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة وفكر امتناع عن الآخرين .
فكر البنا : يزرع أرضًا وينثر حبًا ، ويسقي شجراً وينتشر مع الشمس والهواء وفكر قطب :' يحفر خندقاً ويبني قلاعاً ممتنعة عالية الأسوار ، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب .
موقف الإخوان في معتقل 1965
وقد حاول بعض الإخوة المحبين لسيد ، والمعظمين له : أن يؤولوا كلماته هذه الظاهرة في دلالاتها علي ما نقول .
وقال أحدهم - الأخ د.. إبراهيم عبيد - في تعقيب له : أليست هذه العبارات التي قالها سيد ، مثل ما قاله الإمام حسن البنا في بعض الناس : ليسوا إخوانا ، وليسوا مسلمين ! ونقول : إن هذه العبارة التي صدرت من حسن البنا - برغم شدتها وقسوتها حتى أن بعضهم أنكر صدورها عنه ، وبعضهم زعم أنه أكره عليها - لا يمكن أن تحمل علي ظاهرها ؛ لأنها ضد منهج حسن البنا ، وضد كتاباته كلها ، وضد الأصل العشرين الذي ختم به الأصول التي وضعها لفهم الإسلام في إطارها وفي حدودها .
فلهذا يجب أن تؤول لتتفق مع الاتجاه الفكري والعقدي العام لحسن البنا ؛ فهي كلمة متشابهة ، يجب أن ترد إلي سائر كلامه المحكم .
وهذا بخلاف ما نقلناه عن سيد قطب ، فهي ليست كلمة ولا كلمتين ، ولا عبارة ولا عبارتين قيلت في موضع أو موضعين ، بل هي فكرة تجري في كتبه الأخيرة مجري الدم في العروق ، ولا نجد في كلامه الآخر ما ينقضها إلا كلامه القديم .
وقد نقلها كثيرون عنه ممن لقوه وسمعوه منه في مستشفي طره ، كما حكي ذلك الأخ إبراهيم عبده نفسه حين قال : لما دخلنا المعتقلات سنة 1965 فوجئت - كما فوجئ كثيرون غيري من الإخوان - بفتنة عارمة ، تقول بتكفير المسلمين جميعا! وتزعم أن هذا القول مرجعه الأستاذ سيد قطب ، أوحي به إلي الذين التقوه في مستشفي طره .
وكانت فتنة مزلزلة ، رفضناها جميعا .
واستعبدنا أن تصدر من الأستاذ سيد .
وكانت فتنة هددت المجتمع الإخواني داخل السجن بالانقسام ، حتى وصل فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي ، فحسم هذه القضية ، وقف - كعهدنا به - وقفته الصلبة المنضبطة ، وأصدر دراسته تحت عنوان (دعاة لا قضاة) وانتهت الفتنة والتزام الإخوان إلا قليلا .
وقد بدأت الدراسة التي أملاها الأستاذ الهضيبي - أو أقرها - بنقد بعض كلمات الأستاذ المودودي في تفسير (لا إله إلا الله) وهو بهذا يرد - ضمنيا - علي سيد قطب ؛ لأن سيد أخذ كلام المودودي وعمقه وفصله ، ورتب عليه آثاراً وأحكاماً ، لم يرتبها المودودي نفسه .
وأعتقد اعتقادا جازما أن الأستاذ الهضيبي لم يقرأ ما كتبه سيد ، ولا أحد من إخوانه في ذلك الوقت ، ولذلك كانت كل المحاورات والمجالات حول ما سمعه بعض الأشخاص من سيد مشافهة .
وهذا باستثناء جماعة (القطبيين) الذين قرءوا ودققوا وعرفوا وآمنوا بما دعوا والتزموا به وتحمسوا له ، ودافعوا عنه ، ودخلوا السجون في سبيله .
موقف سيد قطب من جمهور المسلمين فترة خروجه من السجن :
كما لاحظت أن الإخوة الذين عقبوا علي كلهم - إلا واحدا- أغفلوا شيئا مهما ، هو محور القضية ، وهو ما نقلته عن سيد رحمه الله من كتبه .
فقد تناسوا هذا تماما ، وظلوا يركضون بعيدا : يبحثون عمن لقي سيدا ، من سأله فأجابه .
ومن سمع منه كذا وكذا ، وأنا لا دخل لي بهذا كله .
أنا أحكم علي فكر الرجل من خلال نصوصه المكتوبة .
والنص المكتوب هو أدل شيء علي فكر الإنسان .
بخلاف ما يقوله شفهيا ، مما لا ينقل بنصه تماما ، وما قد ينقل حسب فهم السامع ، وما ينقل بعيدا عن سياقه وملابساته .
كنت أود من الإخوة المعقبين - ماداموا يحترمون المنطق العلمي ، والبحث الموضوعي - أن يقفوا عند النصوص التي نقلتها - وهي ليست كل ما قاله الشهيد رحمه الله - ويبينوا لنا المراد منها نصا نصًا .
لينظر القارئ في تفسيرهم لها ؛ أهو مقبول أم مرفوض ؟ طبيعي أم متكلف ؟ ولكنهم - للأسف - لم يجشموا أنفسهم مشقة هذا الجهد .
وعندي رأي في تفسير الموقف العلمي لسيد ، وهو ما شهده الناس منه ، وسمعوه منه ، في الفترة التي خرج فيها من ضيق السجن علي باحة المجتمع ، فقد واجه الجمهور الأعظم من الناس - التي شهدت نصوصه بأنه لم يدخل في الإسلام بعد ، ولم يفهم (لا إله إلا الله) بمدلولها الحقيقي الذي حدده - فوجد هذا الجمهور يستقبله في كل مكان بالفرحة والترحاب ، ويتعاطف معه ، من كان منهم من الإخوان ومن لم يكن ، ووجدهم في المساجد مقبلين علي الله ، تالين لكتاب الله أو مستمعين له ، متأثرين به ، فلم يكن من السهل عليه أن يحكم هؤلاء الناس بالكفر .
حقيقة الناس في الواقع الذي يراه أوضح وأكبر مما سطره في الكتب .
فلهذا سمعوا منه ما سمعوا ، ورأوا منه ما رأوه ، وأجابهم حين سئل بما أجاب .
مما قد يعتبر تراجعا عما قرره في كتبه .

سيد قطب .. والتكفير والعنف

متى تعود الجماعة عن التبرير الاعتذاري للقطبية ؟
في 23 فبراير 1969م أنهي الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام الثاني لجماعة الإخوان المسلمين في معتقله ، مراجعته لرسالة " دعاة لا قضاة " التي أعدها بعض فقهاء الجماعة ، وصادق علي تدريسها في حلقات الإخوان المعتقلين ، للرد علي أطروحات التكفير الراديكالية التي تنامت وتبلورت داخل المعتقل ، ولاسيما بين من يسمون في حوليات الجماعة بـ"الإخوان 1969" الذين حاولوا في ضوء كتاب سيد قطب " معالم علي الطريق " الذي كتب معظم فصوله في المعتقل قبل الإفراج عنه في عام 1964م ، أن يعيدوا بناء الجماعة في طور محنتها الكبرى علي أساس تنظيم تكفيري راديكالي طليعي جديد ، تم القبض علي أعضائه وإعدام رموزه ، وفي مقدمتهم سيد قطب نفسه الذي كان كتابه " معالم علي الطريق " أحد مستندات الحكم عليه بالإعدام .
بين " فتية دقطب " .. وتنظيم لينين الصلب ! :
في رسالة " دعاة لا قضاة" يرد الهضيبي علي مفاهيم الأستاذ أبو الأعلى المودودي أمير الجماعة الإسلامية في الباكستان بالاسم ، ويبدي قلقه من أن يتحول مصطلح الحاكمية - "الذي بلوره المودودي كمعادل " إسلامي " لمفهوم " السيادة " الأوروبي في نظرية الدولة الحديثة - إلي الحكم الكلي الجامع الذي تتفرغ عنه مختلف الأحكام التفصيلية فـ" يجعل الناس أساساً لمعتقدهم مصطلحاً لم يرد فيه نص في كتاب الله أو سنة الرسول " ، لكنه لا يذكر اسم سيد قطب ولا مرة واحدة ، مع أن استراتيجية الرسالة موجهة برمتها للرد علي أفكار قطب التي طرحها في "المعالم" ، وأعاد فيها تأويل مفاهيم المودودي في منظومة تكفيرية انقلابية راديكالية ، تفتح الباب علي مصراعيه إلي اعتبار المجتمعات الإسلامية مجتمعات مرتدة عن الإسلام بعد الإسلام ، وتحولها من "دار إسلام" إلي "دار حرب" ، وبالتالي لا تتوقف عند حدود تكفير الدولة بل تمضي فعلياً إلي تكفير الأمة ، والدعوة إلي " أسلمتها" من جديد علي أساس تنظيم نخبوي راديكالي إسلامي ، استعاره فعلياً عن نمط التنظيم اللينيني الصلب في الأحزاب الشيوعية .
" الحاكمية " .. في مقابل " الوسطية " :
إنه واضح لشيوخ الجماعة يومئذ ، وفي طليعتهم الأستاذ الهضيبي ، أن سيد قطب قد بلور منطلقات أو معالم نظرية لا تستمد مرجعيها من الرؤية الإخوانية التاريخية التي تمثل في بنيتها الأساسية رؤية " وسطية " أو " اعتدالية " ، بل ترتكز علي مرجعية جديدة ستتكشف برمتها في نظرية الحاكمية الجديدة ، التي تحولت فعليًا هنا مع قطب إلي نوع من الأصول " الاعتقادية " وليس الفروع " الفقهية " .
من هنا شكلت هذه المنطلقات النظرية " منحنى خطيراً في فكر الإخوان يتناقض مع رسالة المرشد العام الأول : إنه وضع الخلاف ما بين المسلمين في حيز " خطأ وصواب " وليس في حيز " كفر وإيمان " وشكلت " فكراً جديداً أوجد مساراً له بين نفر من الإخوان وغيرهم في ظروف سياسية واجتماعية معقدة " علي حد تعبير الشيخ محمد الغزالي .
في " دعاة لا قضاة " رفض الهضيبي هذا الفكر ومضاعفاته وكتب ضده " ، لكن دون الإشارة إلي اسم منظره سيد قطب كما فعل مع المودودي ، ولكن كل من قرأ الرسالة في المعتقل وخارجه من الإخوان كان متيقناً من أن المقصود بالرد هو فكر سيد قطب ومضاعفاته ، التي بين الهضيبي منهجي محكم هشاشتها الفقهية " ، لا ريب أن الهضيبي قد حسم في هذه الرسالة المنهج الحركي للجماعة في كونه منهج " الدعاة " وليس منهج " القضاة " ، فالداعية - علي حد تعبيره - " يقرر الأحكام الشرعية .. لكنه لا ينصب نفسه قاضياً ليحكم علي الأفراد " ، فالأصل لدي الهضيبي " ألا نتعرض للأشخاص بحكم " ، ورسخ تصور الجماعة لموقعها في خريطة العمل الإسلامي بأنها " جماعة المسلمين " التي يشكل الخروج عنها أو تركها ، خارجاً من الإيمان إلي الكفر علي حد التأويل البسيط .
ولقد قام الهضيبي في ذلك بشكل مبكر نسبياً ببلورة معالم الأسس الجوهرية للقطيعة بين التيارين الراديكالي المتطرف والدعوي الوسطي المعتدل .
أدلوجة قطب بين النقد والاستقطاب
لقد أخذ نقد أدلوجة قطب الانقلابية المبسطة والمتصلبة التي فتحت الباب أمام التكفير المجتمعات الإسلامية القائمة ، والقول المتعسف الخطر بارتدادها عن الإسلام بعد الإسلام ، يأخذ طريقه عند بعض الإخوان في الخارج ، وكان نقد الأستاذ حسن العشماوي ، وهو من كوادر الجماعة التي اضطرت للجوء إلي خارج مصر إبان محنة الجماعة ، والذي يمثل اليوم أحد مراجع التكفير التجديدي للجيل الجديد والجماعة من أبرزها وخلال صعود الجماعات الإسلامية في السبعينات ، كان الاستقطاب يشتد ما بين المدرسة الإخوانية - التي تؤول إلي مدرسة معتدلة وسطية فيما إذا قشرناها من تجربة النظام الخاص التي كانت وبالاً عليها - وبين الاتجاهات الإسلامية الشبابية الراديكالية الجديدة المسحورة بأدلوجة قطب .
هل يكفر " سيد قطب " مسلمي اليوم ؟ :
هل يكفر الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالي عامة المسلمين ؟ وهل في نصوصه من كتبه ما يدل علي ذلك ، أم أن الأمر لا يعدو استنتاجات بنيت علي كلامه ؟ يورد الشيخ القرضاوي - حفظه الله تعالي - هنا نصوصاً من كتب سيد قطب ("ظلال القرآن " ، ومعالم في الطريق" ، والعدالة الاجتماعية في الإسلام ") تحمل تكفير مسلمي اليوم بشكل صريح وواضح لا يدع مجالاً للشك ، ويبين خطأها بإيجاز في بعض المواضع ، ويسكت معتمداً علي " فطرة " المسلم في مواضع أخري .
وقد قسمنا نصوص قطب التي جمعها الشيخ القرضاوي إلي ثلاثة محاور مع بعض التجوز ، نظراً لعبارات " قطب " الأدبية المسترسلة ، وتكراره لفكرته في أكثر من موضع وفي أكثر من كتاب .
المحاور هي : أولوية تمييز المؤمنين من المجرمين عند سيد ، وغياب المجتمع الإسلامي وأولوية إيجاد " مسلمين "! ، وجاهلية المجتمع وضرورة الجهر بتوقف " وجود " الإسلام !
تتضمن هذه المحاور الثلاثة - علي مرونتها - عدداً من الجزيئات ، ففي كتابه " ظلال القرآن " يعتبر سيد أن تتميز المؤمنين من المجرمين أولي المهام ، ومن ثم فهو يشرح مفهوم شهادة التوحيد في الإسلام (بل عنده!) ويؤكد علي أن تكفير المسلمين إن هو إلا جهر بكلمة الفصل ، ومع القول بجاهلية المجتمع الإسلامي اليوم يتوجب - عند قطب - مفاصلة " العصبة المسلمة " - كما يسميها ووفق شرحه هو - للجاهلية من حولها ، معتبراً مسلمي اليوم كمشركي الجاهلية ! .
وكلام لمعترض :
انقسم "الإخوان" حول أفكار قطب التكفيرية فأفتي المرشد بأنها " صحيحة شرعاً ... وخطأ سياسيةً (1من2) صلاح عيسي (الحياة 26/5/2004) يقول :
حسن الهضيبي
جددت شهادة فريد عبد الخالق ، العضو السابق في الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد لجماعة " الإخوان المسلمين " ، التي أذاعتها قناة الجزيرة القطرية علي امتداد شهرين ، الجدل القديم حول كثير من الوقائع الغامضة أو الملتبسة في تاريخ الجماعة ، من بينها ما أثاره ، في الحلقة الأخيرة ، حول موقف المرشد العام الثاني لـ"الإخوان" حسن الهضيبي (1891-1973) من كتاب "معالم علي الطريق" الذي ألفه سيد قطب ، ومن تنظيم 1965 الذي قام علي أساس الأفكار الواردة فيه ، وحول موقف سيد قطب نفسه من أفكاره في ختام الأقوال التي أدلي بها أثناء التحقيق معه ومحاكمته في أعقاب افتضاح أمر التنظيم .
هنا مناقشة في الموضوع تذهب إلي نتائج مختلفة : يذهب فريد عبد الخالق (الحياة 13آذار / مارس 2004) إلي أن الهضيبي ، علي عكس ما ذكرته زينب الغزالي وغيرها في ما نشر من منكرات ، لم يوافق علي قيام تنظيم 1965 أو نشاطه .
وأن كان وافق علي نشر " معالم علي الطريق " الذي كان الأساس النظري الذي استند إليه التنظيم ، علي رغم أن عبد الخالق كان طلب إلي الهضيبي أن يوصي بعدم نشره لما تضمن من أفكار تخالف فكر جماعة "الإخوان" ، خصوصاً ما يتعلق بتكفير المجتمع .
ويضيف أن سيد قطب تراجع كتابة عن أفكاره التي ضمنها في الكتاب أثناء التحقيق معه ومحاكمته وأن الأوراق المتعلقة بذلك كانت لدي شمس بدران الذي كان يحقق شخصياً معه .
علم المرشد بأمر "تنظيم 1965" منذ تأسيسه ورشح اثنين من " خبراء" منظمات العنف لقيادته (2من3) :
صلاح عيسي الحياة 27/05/2004

من محاكمات الإسلاميين في مصر

تحاول هذه الدراسة تدقيق بعض الوقائع التاريخية الخاصة بمدي معرفة المرحوم حسن الهضيبي ، المرشد العام الثاني لجماعة "الإخوان المسلمين" بـ" تنظيم الإخوان " في مصر الذي كان يقوده المرحوم سيد قطب واكتشف أمره عام 1965، ومدي صحة ما أثير حول أن الذين شكلوه استأذنوا الهضيبي قبل أن يباشروا نشاطهم ، وهي تستند إلي ما ورد في أقوال الشهود الرئيسيين علي الواقعتين في محاضر تحقيقات النيابة العامة المصرية ، في قضايا هذا التنظيم .
وكان القسم الأول انتهي إلي أن أفكار سيد قطب حول جاهلية المجتمعات ونظم الحكم الإسلامية ، ودعوته إلي استبدال حاكمية الله بحاكمية البشر تبلورت عام 1959 ، ونشرت عام 1961 في الطبعة الثالثة من تفسير "في ظلال القرآن" ، وأنه بدأ التبشير بها بين مسجوني الإخوان عام 1962 ، فأثارت عاصفة من الخلافات وصل أمرها إلي المرشد العام ، الذي أعلن إيمانه بصحتها ، لكنه انتقد أسلوب وتوقيت إذاعتها ، باعتبارها خطأ سياسياً ، ورك لـ "الإخوان " حرية الأخذ بها أو تركها من دون خلاف .
وبين عامي 1957و1962 استعر الخلاف بين مسجوني " الإخوان المسلمين " حول موقف من حكم عبد الناصر ، وتحول من مسألة سياسية إلي مسألة فقهية بدأت بسؤال : هل يجوز اعتبار عبد الناصر مسلماً لمجرد أنه نطق بالشهادتين علي رغم جرائم التعذيب التي ارتكبها نظامه في حق المسلمين لا لشيء إلا لأنهم يدعون إلي الإسلام ؟ وتطرح الإجابة عن هذا السؤال الأول سؤالاً آخر هو : هل جماعة "الإخوان" هي "جماعة مسلمين" التي يعتبر الخارج منها
ناهيك عمن يضطهد أعضاءها ويعذبهم خارجاً عن الملة أم هي "جماعة من المسلمين" ؟ وأثناء ذلك ، كان بعض "الإخوان" الذين أفلتوا من حملة محاكمات واعتقالات 1954 ، وبخاصة الذين ينتمون إلي الجيل الذي كان حديث السن وحديث العضوية في الجماعة يتحركون في محاولة للانتقام من الضربة القاصمة التي وجهها إليه عبد الناصر ، فيما كان آخرون.
وبخاصة من الجيل الأكبر سناً الذي لم يقدم إلي المحاكمة وظل رهن الاعتقال إلي أن أفرج عنه عند انتهاء فترة الانتقال في تموز (يوليو) 1956 ، ينشطون علي صعيد جمع تبرعات لإعالة أسر المسجونين المحكوم عليهم بأحكام تراوح بين خمسة و 25 عاماً .
وفي مجري هذه التحركات ، نشأت مجموعات عدة كان بعضها يخطط لمحاولة اغتيال عبد الناصر ، واقتصر نشاط بعضها الآخر علي تشكيل "أسر" وهي الوحدة القاعدية للتنظيم "الإخواني" لحفظ القرآن الكريم والأحاديث ، فيما تحرك آخرون علي صعيد جمع تبرعات مالية لمساعدة أسر المسجونين من " الإخوان " علي القيام بأمور حياتها ، وكان الجميع يجدون تحفيزاً من قادة " الإخوان " الذين هربوا أثناء الحملة إلي بعض الدول المجاورة ، ومن بعض الإخوان الذين كانوا ضباطاً في القوات المسلحة ، وأعضاء في تنظيم الضباط الأحرار ، ثم طردوا من وظائفهم في أعقاب الصدام بين الطرفين .
وكان طبيعياً أن يتعرف أعضاء هذه المجموعات ببغضهم بعضاً ، وأن يدخل قادتهم في محادثات لتوحيد أنشطتهم ، وأن تتعثر محاولات التوحيد نتيجة الخلاف حول أهداف العمل ، فتعود بعض المجموعات للاستقلال .
وما كاد العام 1962يبدأ حتى كان قادة أهم هذه المجموعات اتفقوا علي توحيدها ، وعلي كوين لجنة خماسية لإدارة هذا التنظيم الموحد الذي ولي سيد قطب في ما بعد قيادته .
بدأت صلة هذا التنظيم بالمرشد العام حسن الهضيبي عبر إحدى المجموعات التي تكون منها ، وهي المجموعة التي شكلها تاجر الغلال الشيخ عبد الفتاح إسماعيل ، ولدينا عن توقيت بداية هذه الصلة تاريخان ، ورد أقدمهما في مذكرات زينب الغزالي التي نشرت عام 1987 في عنوان "أيام من حياتي" ، وهي تذهب فيها إلي أنها اشتركت مع عبد الفتاح إسماعيل في تشكيل هذه المجموعة خلال العام 1958 ، وأن الدراسة الفقهية التي قامت بها انتهت بهما إلي أن قرار حل جماعة "الإخوان المسلمين" ، الذي أصدره مجلس قيادة الثورة عام 1954 باطل "لأن عبد الناصر ليس له أي ولاء ولا تجب له طاعة علي المسلمين ، إذ أنه يحارب الإسلام ولا يحكم بكتاب الله تعالي .
وانطلاقاً من ذلك كان لابد كما تقول من استئذان الهضيبي باعتباره مرشداً عاماً للجماعة .
وطبقاً لروايتها ، التقت به وكانت تتردد علي منزله بحكم صداقتها لزوجته وبناته وشرحت له خلال لقاءات عدة تفاصيل الدراسات التي قاما بها والغاية من التنظيم ، فأذن لهما بالعمل .
وتضيف أنها كانت تزوره وتعرض عليه نشاط التنظيم وما يلاقيه من صعوبات ، وأنه كان يقرأ أحياناً بعض ما يعرض عليه ويعطي في أحيان أخري بعض التوجيهات التي لم تذكر منها سوي واحد ، هو أنه أشار عليها بأن يضيفوا كتاب " المحلي " لابن حزم ضمن الكتب التي يدرسونها .
وتتناقض هذه الرواية ، من حيث التاريخ والوقائع ، مع ما ورد في أقوال الغزالي نقسها قي محضر تحقيق محمد وجيه قناوي وكيل نيابة أمن الدولة العليا ، وهي الأقوال التي أدلت بها علي امتداد خمسة أيام بدأت في 30 تشرين الثاني (نوفمبر ) 1965 ، إذ ذكرت فيها أن هذا اللقاء تم عام 1962 ، بعد أربع سنوات من التاريخ الذي سجلته في مذكراتها .
وأضافت أنها حين التقت بالمرشد ، أبلغته بأن شخصًا اسمه عبد الفتاح إسماعيل يجمع الإخوان للدراسة وسألته عن رأيه ، فقال لها أنه لا يخرج من بيته ، وهم ، أي " الإخوان " ، أدرى بمصلحة أنفسهم .
وطبقًا لأقوالها فهمت زينب الغزالي من ذاك أن المرشد لم يوافق ولم يعارض .
وتبدو الرواية التي أدلت بها الغزالي أمام النيابة أقرب إلي روايات الأطراف الأخرى في الواقعة ، منها إلي الرواية التي وردت في مذكراتها .
وطبقًا لأقوال عبد الفتاح إسماعيل أمام رئيس نيابة أمن الدولة العليا صلاح نصار في 21 تشرين الثاني 1965 وما بعده ، فإن التفكير في استئذان المرشد العام لم ينشأ إلا عام 1962 ، اذ كان اصطحب معه زميله في قيادة المجموعة في تلك الفترة ، المهندس عبد الفتاح الشريف ، إلي مدينة الزقازيق ، ليفاتحا احد المفرج عنهم من معتقلي " الإخوان " في محافظة الشرقية قي الانضمام إليه ، وأن يكون مسئولاً عن " الإخوان " في المنطقة ، ففوجئا به يسألهما عما إذا كانا حصلا علي إذن من المرشد العام بذلك .
فلما نفيا قال لهما : " أنا مقدرش أمشي في حاجة الا بإذن المرشد " .
ومع تكرار إصرار " الإخوان " علي استئذان المرشد العام ، ذهب الاثنان إلي منزل زينب الغزالي التي كان عبد الفتاح إسماعيل تغرف عليها أثناء موسم الحج عام 1958 ، وكان يعرف منها أنها علي صلة طيبة بمنزل المرشد ، وأنها تتولي ترتيب مواعيد لبعض الذين يرغبون في لقائه ، وطلبا منها أن تخطره بأن عبد الفتاح الشريف يطلب الإذن بلقائه وتمت المقابلة في الليلة ذاتها .
وطبقاً لما في أقوال عبد الفتاح الشريف في محضر التحقيق الذي أجراه معه ممدوح البلتاجي وكيل نيابة أمن الدولة العليا في 21 تشرين الأول ( أكتوبر ) 1965 وما بعده ، فإن المقابلة لم تستغرق سوي ربع ساعة ، وانه بدأها بمحاولة تذكير الهضيبي بنفسه وبأنه من " إخوان " البحيرة ، ثم عطف علي ما جاء من أجله ، فقال للمرشد انه وعبد الفتاح إسماعيل ومجموعة أخري من " الإخوان " في سبيلهم لتكوين أسر لـ" الإخوان " وتنظيم جديد لهم ، فقال له المرشد : " كل ما يعمل للإسلام وللدعوة خير ، علي أن يتم كل شيء بعقل وهدوء " .
وهو ما فهم منه الشريف ان المرشد ينصحهم بألا يقوموا بعمل يكشفهم .
وتتضمن أقوال المرشد العام في التحقيقات ، وقد أدلي بها الإمام إسماعيل زعزوع وكيل نيابة أمن الدولة العليا في 28 تشرين الثاني 1965 تفصيلات إضافية ، وهو يقول أن عبد الفتاح الشريف سأله : هل يمكن أن ننشئ أسراً للإخوان كما كانت الحال في الماضي ؟ فردٌُ عليه قائلاً : " شوف .. أنا لم أقرأ قرار الحل وليست لدي نية لمخالفته ، فإذا كنت تريد أن تعمل سرا في حدود هذا القرار ..... والمجموعة في تلك الفترة ، عقد في منزل أحدهم ، حيث عرض عليهم رد الهضيبي الذي كان يعتبره موافقة ، فيما رأي آخرون أن الموافقة غير صريحة ، وبعد مناقشة الأمر انتهي رأيهم إلي أنه بالنسبة إلي ظروف المرشد وبعده عن الحياة العامة ، كبر سنه فإن موافقته أو عدمها ، غير لازمة لهم في القيام بالنشاط .
في السنة نفسها تقريباً (1962) ، تشكلت مجموعة أخري من الإخوان يقودها علي عشماوي كاتب الحسابات الشاب في إحدى شركات القطاع العام ، وكانت أولي العقبات التي واجهتها في بداية نشاطها ، كما يقول في مذكراته التي نشرتها عام 1993 في عنوان " التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين " ، هي "المشكلة الشرعية " ، إذ تحرج كثير من "الإخوان" الذين دعاهم للانضمام إلي تنظيم من القبول إلا بعد التأكد من أنه حصل علي موافقة " ممن له الأمر في الجماعة " علي تشكيل هذا التنظيم .
ومع أنه كان يري أن العمل لله لا يحتاج إلي تفويض من أحد وأن شرعيته تستند إلي القرآن والسنة ، إلا أنه اضطر إزاء تزايد المطالبين بالإذن إلي تكليف أحد أعضاء المجموعة زيارة شقيقه الذي كان يمضي عقوبة الأشغال الشاقة في سجن الواحات ، ليطلب إليه إبلاغ أعضاء مكتب الإرشاد المسجونين هناك بخير تأسيس المجموعة ، بأنها تنتظر الإذن " ممن له حق الأمر في الجماعة " بأن تواصل نشاطها ، لكن الرسول عاد لينقل عن شقيقه صورة طبيعية عن الخلافات التي كانت سائدة منذ سنوات بين مسجوني " الإخوان " ، بسبب اختلافهم حول تأييد حكومة عبد الناصر ، والتي وصلت إلي حد الاشتباك بالأيدي وتكفير الطرفين كل منهما الآخر مما يستحيل معه التوصل إلي جهة يمكن إن تتحمل مسؤولية إصدار الأمر باستئناف النشاط ، وإن الجهة الوحيدة التي تملك حق إصدار هذا الإذن ، في رأي الشقيق ، هو المرشد العام فقط .
ويضيف عشماوي أنه التقي آنذاك بعض أعضاء المجموعة الأولي ، التي يقودها عبد الفتاح إسماعيل ، وبدأ معهم مفاوضات لتوحيد المجموعتين تعرف أثناءها علي إلي السيدة زينب الغزالي ، التي قالت له في سياق حوار طويل ، وفي معرض إغرائه بدمج المجموعتين ، إنها علي اتصال دائم بالأستاذ المرشد وإنها تأتي معه بالتعليمات ، وأنه - المرشد - حينما أخبر عن التنظيم الذي يتبع الشيخ عبد الفتاح إسماعيل وعن أهدافه أقرها ، وبهذا فإن التنظيم أصبحت له الشرعية ، فإذا اندمجت مجموعته فيه ، سوف تمتد إليه تلقائياً مظلة الشرعية التي أضافها المرشد عليه ، ولما قال لها : إنني لا أمانع في اندماج التنظيمين ولكن اعتراضي ينصب علي هدف التنظيم الآخر ، وهو اغتيال جمال عبد الناصر ، فأنا لا أري أن هذا هو الطريق ، ردُت عليه بعصبية قائلة : بل إن هذا هو الطريق ، ولا طريق غيره ، وهذا ما أقره المرشد .
زينب الغزالي
وتكتشف المقارنة بين هذه الروايات جميعها أن المرحوم حسن الهضيبي ، كان يعلم بأمر التنظيم الذي اكتشف عام 1965، منذ بداية تأسيسه ، وأنه أذن له بالنشاط صحيح أنه - طبقاً لرواية معظم الشهود - لم يقل ذلك في شكل صريح وواضح وقاطع ، إلا أنه قاله بالطريقة التي كانت شائعة ومعروفة عنه بين "الإخوان" ، في ما يشبه الشفرة المتفق عليها بينه وبينهم .
وكان الهضيبي اكتسب من عمله الطويل كقاضٍ جنائي خبرة دفعته لأن يكون قليل الكلام بالغ الحذر .
وفي المسائل الحساسة ، كان حريصاً علي أن يصوغ آراءه في عبارات قصيرة وموجزة تحتمل أكثر من تفسير ، تاركاً لمن يستمع إليه تأويلها كما يشاء ، ومحتفظاً لنفسه بالحق في تفسيرها علي النحو الذي يخيله من أي مسؤولية عنها إذا ما أذاعها المستمع أو اعترف بها تحت وطأة التعذيب ، وهو ما حدث بالفعل حين واجهه المحقق ، أثناء التحقيق ، باعتراف عبد الفتاح الشريف بأنه أثناء لقائه به أذن للتنظيم بالعمل فردُ قائلاً : " يبقي فهم غلط " .
وتحسم أقوال المحامي إسماعيل الهضيبي ، أحد أبناء المرشد العام ، في محضر التحقيق الذي أجراه معه محمد وجيه قناوي ، وكيل نيابة أمن الدولة العليا في 21تشرين 1965 ، هذه النقطة ، إذ ذكر فيها أنه نقل لوالده في تموز 1965 ، وقبل أسابيع قليلة من اكتشاف أمر التنظيم ، المخاوف في صفوف بعض "الإخوان " بسبب ما يشاع عن أن عبد الفتاح إسماعيل أسس تنظيماً جديداً لـ "الإخوان " وأنه يتحرك في شكل غير متزن ، فرد عليه الهضيبي الأب أن عبد الفتاح إسماعيل بعث له زمن يستأذنه القيام بعمل تنظيمي ، وأنه أذن له بـ " بتجميع خفيف للإخوان بقصد الدراسة " .
ويبرز اسم الهضيبي مرة أخري في تاريخ التنظيم حين وجد قادته الخمسة ، وهم من الشبان ، أن هناك ضرورة لأن ترأسه شخصية إخوانية بارزة ليستفيدوا من خبرتها ولتضفي علي التنظيم مشروعية وثقلا يجعلانه محل ثقة " الإخوان " .
وفي تلك الفترة أواخر عام 1963 ، عرفت زينب الغزالي عبد الفتاح إسماعيل إلي الوزير السابق عبد العزيز علي ، وكان وزيراً للشؤون البلدية والقروية في بداية الثورة ، وأسرت إليه قبل التعريف بأن عبد العزيز " رجل طيب ومسلم وعلي صلة بالمرشد " ، فيما قدمت عبد الفتاح إلي الوزير السابق باعتباره " رجلا طيباً ومسلماً ومن الإخوان المسلمين " .
وفهم عبد الفتاح إسماعيل من ذلك كما يقول في أقواله خلالها بأمر التنظيم عرض عليه أن يتولي رئاسته فقبل الآخر ، وبدأ بالفعل يعقد اجتماعات دورية مع القيادة الخماسية للتنظيم .
ويقول عبد العزيز علي في أقواله أمام عبد السلام حامد ، رئيس نيابة أمن الدولة العليا في 14تشرين الثاني 1965، أنه أراد أن يستوثق من أن المرشد العام لـ"الإخوان المسلمين " يوافق علي قيامه بتوجيه المجموعة بدلاً منه ، فسألهم عما إذا كانوا استأذنوا الهضيبي في الاتصال به ، فوعدوه بأن يفعلوا ، وذلك ما حدث .
اتصلت زينب الغزالي بالمرشد ، وطبقاً لما في أقوالها ، قالت له : " إن عبد الفتاح إسماعيل يستشيره عن رأيه في التعارف بعبد العزيز علي " ، فقال لها الهضيبي " عبد العزيز علي رجل فاضل ومش عاوز استشارتي في معرفته " .
ويجمع القادة الميدانيون الخمسة للتنظيم ، في أقوالهم أمام النيابة أنهم بدأوا يشعرون بالقلق من شخصية عبد العزيز علي الذي أصر علي أن يعرف أسماء كل أعضاء التنظيم وعناوينهم ، فضلاً عن أن أفكاره بدت لهم بعيدة عما عرفوه عن قادة " الإخوان " ففكروا أن يضيفوا إليه شخصية " إخوانية " تتقاسم معه رئاسة التنظيم ، ووقع اختيارهم علي فريد عبد الخالق ، عضو مكتب الإرشاد والمسئول عن قسم الطلاب في الجماعة لسنوات طويلة وكان من بين أسباب اختيارهم له أن أنباء تواترت بينهم تقول أنه يدير تنظيماً يتولي جمع تبرعات من " الإخوان " لتوزيعها علي أسر المسجونين ، وأن المنتمين لهذا التنظيم يتصدون لكل نشاط يقوم به غيرهم من
" الإخوان " ويقيمون العراقيل أمام التنظيم الجديد في الصعيد والإسكندرية ، ويحذرون " الإخوان من الانضمام إليه .
ويقول عبد الفتاح إسماعيل أنه تنفيذاً لذلك سعي في ربيع عام 1964 للالتقاء بفريد عبد الخالق ، وقال له إن في " الإخوان " تيارات كثيرة ، بعضها عنيف والآخرة ليس كذلك ، وأن تركهم من دون قيادة يعرضهم للخطر ، وإن من واجبه ، وهو أحد القيادات التاريخية للجماعة ، أن ينهض بقيادتهم في هذه المرحلة ، وصارحه بأنه ومجموعة من الشباب يقومون بعمل تنظيمي ، وأن الذي يقودهم هو عبد العزيز علي ، واقترح عليه أن يلتقي به ليبحثا سبل التعاون بينهما .
ويضيف علي عشماوي ، أحد أعضاء اللجنة الخماسية ، في أقواله أمام صلاح نصار رئيس نيابة أمن الدولة العليا في 4 تشرين الأول 1965 إلي هذه الرواية ، تفاصيل مهمة تتعلق بطبيعة الصلة بين حسن الهضيبي والتنظيم ، إذ يقول أن فريد عبد الخالق ردُ عرض عبد الفتاح إسماعيل قائلاً : " أنا مقدرش أتعاون معاكم إلا بموافقة حسن الهضيبي " ، وهي إضافة تؤكدها زينب الغزالي التي تقول في اعترافاتها أن عبد الفتاح إسماعيل كلفها بأن تنقل إلي المرشد رغبة التنظيم في أن يتعاون معه فريد عبد الخالق ، وأمله في تدخله لكي يأمر فريد بأن يقبل ذلك ، وأنها نقلت الرسالة إلي حسن الهضيبي قائلة لعبد الفتاح إسماعيل : " يطلب من فضيلتك إنك تخلي فريد عبد الخالق يتعاون معاه" .
فقال لها : " عاوز يقابله ، يروح يقابله ... هوُا مش أخوه ؟! .
ويكشف هذا الحوار عن الأسلوب الذي اختاره حسن الهضيبي لاستقبال الرسائل التي ترد إليه من التنظيم وطبيعة ردوده عليها ، فمع أن زينب الغزالي لم تشر في حديثها معه إلي نوع التعاون المطلوب ، إلا أنها ، في أقوالها ، فسرت ذلك بأنه التعاون في النشاط الذي يقوم به عبد الفتاح إسماعيل لإحياء جماعة " الإخوان " وهو ما حرص الهضيبي علي أن يومئ إليه رده عندما وصف العلاقة بينهما بأنها " أخوة " في إشارة إلي الصلة التنظيمية التي تجمعهما ، فكان طبيعياً استناداً إلي هذه الشفرة أن تنقل الغزالي إلي عبد الفتاح إسماعيل أن المرشد يوافق علي أن يتصل بفريد عبد الخالق وأنه سيأمره بالتعاون معه .
وفي أعقاب ذلك اجتمع عبد العزيز علي مع فريد عبد الخالق في لقاء في بيت زينب الغزالي التي لم تحضر اللقاء ، فيما حضر عبد الفتاح إسماعيل الذي قال لهما في بدايته : " إحنا جُند تحت أيديكم فوجهونا إلي عمل الخير " .
إلا أن الرجلين أمضيا نصف ساعة ، هي كل مدة اللقاء ، في تبادل المجاملات والذكريات ، وأنهي عبد الخالق اللقاء علي وعد بتحديد موعد آخر لمناقشة الموضوع .
وبدلاً من تحديد الموعد ، فوجئ أعضاء التنظيم بحملة همس تنسب إليهم أنهم أسسوا تنظيماً يضم بين قيادته شخصيتين مربيتين هما عبد العزيز علي ، الذي اتهمته الحملة بأنه علي صلة مشبوهة بالأمريكيين ، وزينب الغزالي التي نسبت إليها الحملة أنها علي صلة غامضة بالمملكة العربية السعودية .
علي عشماوي :
وأزعج ما حدث القادة الميدانيين للتنظيم خشية أن تنتهي الحملة التي تداولت أسماؤهم بكشف أمر التنظيم أمام سلطات الأمن ، فضلاً عن عبد العزيز علي .
فلما عادت بالرد الذي أكد بالفعل أنه يعرفه ، اعتبروا ذلك دليلاً علي براءة الاثنين ، عبد العزيز وزينب ، من التهم التي أشاعها عنهما فريد عبد الخالق الذي تنصل في مقابلة له مع عبد الفتاح إسماعيل جرت في أعقاب ذلك من المسؤولية عن الحملة قائلاً أن الذين قاموا بها هم فريق من قيادات " الإخوان " كان استشارهم في ما عرض عليه ، فعارضوا الفكرة للأسباب التي أشاعوها بعد ذلك بين الإخوان .
ويقول حسن الهضيبي أن فريد عبد الخالق زاره في أعقاب اللقاء الذي جمع بينه وبين عبد الفتاح إسماعيل وعبد العزيز علي وأبلغه أن هناك شباناً طائشين من " الإخوان " يتحركون للقيام بإحياء الجماعة ، وإنهم يشيعون بين " الإخوان " أن ذلك يتم يعلم المرشد العام وبإذن منه ، وأنه يخشي أن يقوموا بعمل أحمق يدفع ثمنه الجميع وأنه قال له : " يا فريد عليك أن تقف في الشارع ، وتقول إنني أنا لا علم لي بهذه الحكاية ، وإنني لا أسمح بشيء من هذا ، ولكن أنا لا سبيل أمامي لوقف هؤلاء الأشخاص لأنني لا أقابلهم " .
أما علي عشماوي فيقول في مذكراته أن المرشد العام أخذ علي قادة التنظيم أنهم عرضوا علي فريد عبد الخالق أن يكون أحد قائدين للتنظيم ، وأنهم جمعوا بينه وبين عبد العزيز علي .
وفي ما يمكن اعتباره رأياً للمرشد العام ، في مدي " صلاحية " فريد عبد الخالق للمهمة التي فوتح في القيام بها ، يضيف عشماوي : " أن الهضيبي كان رأيه أن عليهم أن يستفيدوا من عبد الخالق بصورة أخري بأن يعرضوا عليه أن يكون عضواً قاعدياً في التنظيم " .
وينفرد عشماوي بالقول إن الهضيبي رشح لهم في أعقاب ذلك شخصية إخوانية أخري لتتولي قيادة التنظيم هو حلمي عبد المجيد ، الذي تولي لفترة قصيرة عام 1954 رئاسة " الجهاز الخاص " - الجناح المسلح للجماعة .
ويضيف أن زينب الغزالي سافرت إلي بورسعيد لكي تعرض عليه الأمر ، لكنه لم يوافق .
وقد يبدو موقف الهضيبي من النشاط الذي كان يبذل لإعادة تجميع وتنظيم فلول " الإخوان " بعد ضربة 1954 ، ملتبساً ومتناقضاً وباعثاً علي الحيرة ، وإلا يعارض كل نشاط تنظيمي ، ويعتبر أن أفضل تنظيم هو ألا يكون هناك تنظيم ، علي أن المرشد كان يقف في صفهم ، فيما أصر الذين أسسوا التنظيم الذي انتهت قيادته إلي سيد قطب ، والذي اكتشف في العام 1965 ، علي أنه أذن لهم بالنشاط وباركه .
وقد يفيد في فض هذا الالتباس أن نضع في اعتبارنا طبيعة شخصية الهضيبي الحذرة والمتشككة إلي حد كبير في الآخرين ، وبراعته - من جانب آخر - في المنارة السياسية ، مما قد يدفعه أحياناً لكي يخاطب كل شخص علي ضوء ما يستشفه من موقفه ، وانطلاقاً من ذلك ، ولا نستعبد أن يكون ما قاله لفريد عبد الخالق عن موقفه من التنظيم ، منارة سياسية أراد أن يشفط بها غضبه ، بعدما ، أدرك أنه خائف .
أما الذي لا يمكن إنكاره ، فهو أنه كان متحمساً لكل نشاط يقوم به أحد " الإخوان " لإعادة تجميعهم ، وما لم يكن الشخص المعني محل ريبته ! أما الذي ينبغي التأمل فيه فهو أن الاثنين اللذين رشحهما لقيادة التنظيم وهما عبد العزيز علي وحلمي عبد المجيد ، كانا من أصحاب الخبرة السابقة في قيادة منظمات العنف المسلحة .
ولم يكن الثالث ، الذي ظهر في تلك الأثناء علي شاشة التنظيم ، وهو سيد قطب بعيداً من الأفكار الداعية إلي هذا العنف .
المؤيدون
لا شك أن سيد قطب لا ينكر عليه أحد أنه كان يتدفق إخلاصاً وصدقاً وهمة ، حتى معارضوه يعترفون بذلك ، وقد دفعه هنا الإخلاص الانشغال والاهتمام بأمر هذا الدين سواء قبل السجن عام 1954 ، أو أثناء السجن بمستشفي ليمان طره بالقاهرة ، بل في أصعب الأوقات ، وأحلك الظلمات في السجن الحربي عام 1965، وكتب فصلين إضافيين لكاب "مقومات التصور الإسلامي " ، وهو آخر مؤلف له كتبه في مستشفي ليمان طره .
وقد رأينا أن نفرد فصلاً للمؤيدين والمناصرين لسيد قطب وفكره وهم يفوقوا المعارضون بكثير من مختلفي التوجه والثقافة والانتماء .
ونعرض هنا نماذج لبعض الأساتذة والإخوة الكرام ، الذين ساهموا في الدفاع والتأييد للرجل ، ودفع الشبهات والتهم عنه ، وتقديراً وإعزازاً له .
فكر سيد قطب في ميزان الشرع
تمثل كتابات الأستاذ سيد قطب علامة بارزة في الفكر الإسلامي المعاصر .
تأثر بها كثيرون من شباب الصحوة الإسلامية ، وكان لها في مسار الحركات الإسلامية المعاصرة فهموا منها أفكاراً ومفاهيم خاطئة لم يردُها سيد قطب رحمه الله أو يهدف إليها ، وتأولوا عبارات وألفاظ في كتاباته تأويلاً متعسفاً متكلفاً ، واستنبطوا منها جملة من المفاهيم والأفكار ، بل والأحكام الشرعية توافق فهمهم القاصر أو المغلوط للإسلام ولأساليب الدعوة والحركة ومناهج التغيير ... وعلي الجانب الآخر تناولها بعض العلمانيين من الكتاب والباحثين وتأولوها تأويلاً خاطئاً يتناسب مع أهدافهم التي يسعون إليها من تشويه صورة الحركة الإسلامية ودعاتها ومفكريها ، وإظهارها بصورة سوداء يحوطها التطرف والإرهاب .
وكلا الطرفين اعتمد علي منهج خاطئ في تناول كتابات الأستاذ سيد قطب وتفسيرها واستنباط المعاني والمفاهيم منها ، شوه به كتابات الكاتب الكريم ، واستغلها استغلالا سيئاً في خدمة أفكاره واتجاهه وأهدافه .. من هنا جاءت أهمية كتاب المستشار سالم البهنساوي " فكر سيد قطب في ميزان الشرع " كبحث دقيق وإن كان موجزاً ، فقد تناول الكتاب :
1 - تقييم فكر سيد قطب تقييماً منصفاً موضوعياً ، بعيداً عن الانفعالات والعواطف والأغراض الخاصة والنتائج المسبقة .
2 - وضع هذا الفكر في موضعه الصحيح من الفكر الإسلامي ، ووزنه بميزان الشرع ومبادئ الإسلام وأحكام الشريعة .
3 - مناقشة الشبهات التي أثيرت حول هذا الفكر والاتهامات التي وجهت لصاحبه .
ويتكون الكتاب من خمسة فصول .

الفصل الأول

المنهج الإسلامي بين العاطفة والموضوعية
تناول المؤلف عدة نقاط ، كان أولها : طور فكر سيد قطب ، وكيف بدأ حياته أدبياً صرفاً ، ومن خلال دراسته الأدبية تناول النواحي الجمالية والفنية في القرآن الكريم ، فأصدر كتابه "التصوير الفني في القرآن" و"مشاهد القيامة في القرآن" ثم بدأ اهتمامه بالنواحي الفكرية والإصلاحية للمجتمع مع نهاية الأربعينات ، فأصدر كتابيه "العدالة الاجتماعية في الإسلام" و" معرفة الإسلام الرأسمالية " ثم ارتبط بحركة الإخوان المسلمين ونشاطها ، وبدأ إصداره لكتاب " في ظلال القرآن " .
ثم مروره بتجربة السجن والاعتقال مع الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية في عام 1954م ، ومعايشته للمحنة الرهيبة التي مرت بها الحركة الإسلامية في حقبة الخمسينات والستينات ، وما لاقاه رجالها من تنكيل علي أيدي الأنظمة الحاكمة ، وتأثير ذلك علي فكر سيد قطب وكتاباته ، فأعاد تلقيح "الظلال" وأصدر بعض الكتب التي تتناول الصراع بين الإسلام وخصومه ، ومنهج التغيير ووسائله وأساليبه ، وكان أهم هذه الكتب كتابه الشهير : " معالم علي الطريق " المنهج الغائب .
وتحت هذا العنوان تناول المؤلف الأخطاء المنهجية التي وقع فيها الباحثون والنقاد في تناولهم لكتابات سيد قطب وأهمها :
- تعمد البحث عن الأخطاء وتسجيل العيوب .
- عدم التفرقة بين الخطأ في المنهج - كخطأ الخوارج - والخطأ في الفروع والآراء ، والذي هو من طبيعة البشر .
- قياس فكر الكاتب علي ما يحمله الناقد من معتقد أو مذهب .
- وإغفال المنهج الإسلامي في الحكم علي الفكر عند تعارضه .
- وعدم جمع أقواله في الموضوع الواحد ، ثم التركيز علي موضوع واحد ، وتفسيره طبقاً لانطباع الباحث وهواه .
وينتقل الكاتب إلي المنهج الإسلامي الصحيح في الحكم علي الأقوال والأفكار ويشمل عدة قواعد أصولية .

القاعدة الأولي

عدم أتباع المتشابه
فإذا كان الموضوع قد ورد بشأنه عدة أقوال فلا يتم تصيد القول الذي يثير الفتنة ، بل يجب جمع الأقوال في الموضوع الواحد لنصل إلي الحكم الصحيح .
ويفند الكاتب هنا ما نسب إلي سيد قطب من القول بتكفير المسلمين ، ويدلل علي ذلك بما ورد عنه حول المصطلحات والمفاهيم التالية :
أولاً : المجتمع الجاهلي .
ثانياً : الجماعة والكفار .
ومن تجاهلوا هذه القاعدة تلمسوا أقوالاً لسيد قطب ظاهرها يريد الكفر ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث في مؤلفاته لإثبات هذه الافتراضات أو نفيها ، فيزعمون أنه يكفر من ليس في جماعته ، وخير ما يرد علي ذلك قوله حين سأل في تحقيقات النيابة : هل تري فرق بين المسلم المنتمي لجماعة الإخوان وغير المنتمي لتلك الجماعة ؟ فقال : الذي يميز الإخوان أن لهم برنامجاً محدداً في تحقيق الإسلام ، فيكونون مقدمين في نظري علي من ليس لهم برنامج محدد .
ثالثاً : دار الحرب .
وبالأدلة والبراهين من كتابات سيد قطب ، ينفي ما نسب إليه من اعتبار غير المسلمين ، دار الحرب ، ويجب استخدام السيف معهم حتى ولم يكن منهم اعتداء علي المسلمين ، وينتهي الكاتب إلي أن هذا كذب صراح عليه

القاعدة الثانية

الاحتكام إلي القرآن والسنة
وهذه القاعدة تعني أنه عند الاختلاف والتنازع يجب الاحتكام إلي القرآن والسنة ، وليس العكس .. ومن أمثلة ذلك : نسبوا إليه فكرة المرحلية في عصرنا ، ومقتضاها أن المجتمعات المعاصرة تشبه المجتمع الملكي قبل الهجرة وتأخذ حكمه ، من حيث وجوب الهجرة منها واعتزالها ، والكف عن القتال (في حين أن المرحلية عند سيد قطب تتعلق بالحركة الجهادية ، ولا تشير من قريب أو بعيد إلي القول بالمرحلية في الأحكام الشرعية في عصرنا) .
والأعجب إدعاء البعض أن هذه المرحلية تفيد حل زواج المسلم بالمشركات في عصرنا بدعوى أننا في العصر المكي ، رغم قوله صراحة في تفسير الظلال الحكم الأول يتضمن النهي عن زواج المسلم بمشركة وعن تزوج المشرك بمسلمة .

القاعدة الثالثة

التفرقة بين القضاة والدعاة
وهنا يشير المؤلف إلي خطأ جسيم يقع فيه من يقرأ كتب الدعاة ، مثل سيد قطب وغيره ، هذا الخطأ هو اعتبار أقوال هؤلاء أحكاماً شرعية وهؤلاء الدعاة لم يقصدوا إصدار أحكاماً علي المسلمين .. بل إن سيد قطب صرح أكثر من مرة وفي أكثر من موضع أن من رغب في معرفة الحكم الشرعي في المسألة فليرجع إلي كتب الفقه ، وأعلن أكثر من مرة أننا دعاة ولسنا قضاة .

القاعدة الأخيرة

المنهج الإسلامي في التوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض
ومنهج الإسلام في التعامل مع النصوص الشرعية التي ظاهرها التعارض يضع القواعد التالية :
1 - جمع كل النصوص الواردة بالموضوع .
ثم التوفيق بين النصوص التي ظاهرها التعارض .
2 - الترجيح بين النصوص إذا تعذر التوفيق بينها .
3 - عند تعذر الترجيح يلجأ إلي الاستثناء بالنسخ والتخصيص .
وهذا المنهج الذي طبقه العلماء علي نصوص الكتاب والسنة يأبي البعض تطبيقه علي كتابات الأستاذ سيد قطب وغيره ، ويصرون علي اعتبار هذه الأقوال غير قابلة للتأويل والترجيح بما يوافق مع الكتاب والسنة .

الفصل الثاني

بين الكفر ولزوم الجماعة
ويبدأ هذا الفصل بتساؤل استنكاري من المؤلف إذا كان التخلف عن بيعة الخليفة أو الإمام ليس كفراً ، فهل التخلف عن البيعة للجماعة كفر ؟! .
والذين يزعمون أن المسلم غير المنخرط في جماعتهم قد كفر يسندون مزاعمهم بمقتضات من كتابات سيد قطب حول آيات الأنفال .. يتحدث فيها عن نفي الولاية عن المؤمنين الذين آمنوا وظلوا بمكة ولم يهاجروا ، وهو إذ ينفي الولاية عنهم إنما يريد نفي ولاء النصرة لا نفي ولاء العقيدة .
وفات هؤلاء أن تحقق الولاء أو انعدامه شيء الكفر شيء آخر ، فهؤلاء الأفراد ليسوا أعضاء في المجتمع المسلم ، ومن ثم لا تكون بينهم وبينه ولاية ، ولكن هناك رابطة العقيدة .
وليس أدل علي براءة سيد قطب من هذه الانحرافات من أنه كان يصلي في سجن ليمان طره خلف إمام من غير الإخوان ، لأنه كان أكثر حفظاً .
سيد قطب والخروج علي الحاكم :
يتعرض الكاتب لهذا الموضوع وينقل عن مذكرات سيد قطب قبيل إعدامه قوله واتفقنا علي مبدأ عدم استخدام القوة لقلب نظام الحكم ، وفرض النظام الإسلامي من أعلى منطقة البدء ، وهي نقل المجتمعات ذاتها إلي المفهومات الإسلامية الصحيحة ، وهو في هذا يتفق مع رأي الجمهور أهل السنة من العلماء والفقهاء ، كما بينه الكاتب بالتفصيل .

الفصل الثالث

المجتمع بين المفاصلة والاتصال
يقرر الكاتب أن إطلاق وصف الجاهلية علي أشخاص معينين يراد به جاهلية الاعتقاد إن كانوا كفاراً ، وجاهلية المعصية إن كانوا مسلمين ، وبهذا التقرير نستطيع أن نفهم أقوال سيد قطب عن الجاهلية والمجتمع الجاهلي ، دون لبس أو تجن .
بين المساجد ومعابد الجاهلية :
أخذ بعض الشباب من أقوال سيد قطب قاعدة عامة هي أن اعتزال معابد الجاهلية ليس خاصاً ببني إسرائيل في زمن نبي الله موسي ، بل هو موجه إلي المؤمنين في عصرنا ، باعتزال المساجد لأنها معابد جاهلية .
وينتهي المؤلف إلي نتيجة هامة وهي حتمية تأويل أقوال سيد قطب ، ويشير إلي ما نشره محمد قطب - شقيق سيد قطب - ويقول فيه : "لقد سمعته بنفسي أكثر من مرة يقول : نحن دعاة ولسنا قضاة .. إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام علي الناس ، ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة "لا إله إلا الله" .

الفصل الرابع

اعتزال المجتمع وتحطيمه
وردت عبارات لسيد قطب قد يؤولها من أراد علي أنه يربط الهجرة بالعقيدة ، وليس لديهم أي سند بهذا الادعاء ، فهل في كلمات سيد قطب استنتاج هؤلاء ؟ وبمراجعة أقوال سيد قطب نري أنه في إيجابه الهجرة من جديد إنما يريد الهجرة إلي الإسلام وجماعته وكيانه الحركي ، ولا يقصد بها الهجرة إلي الكهوف والجبال وهجرة المعاهد والجامعات .
ويطيل الكاتب في مناقشة أفكار اعتزال المجتمع وتحطيمه ، واستحلال أموال الأفراد وممتلكاهم في مناقشة فقهية جديدة ، وإن كانت بعيدة عن مناقشة أفكار سيد قطب وآراؤه .

الفصل الخامس

أنواع الكفر
يناقش الكاتب في هذا الفصل موضوع الكفر ، هل يتحقق بمجرد المعصية والكبيرة أم لا ؟ وموضوع الحكم بغير ما أنزل الله وما ورد فيه من آيات سورة المائدة ومحاولة حديد المقصود من الظلم والفسق والكفر الوارد بالآيات .
وفي رأينا أن هذا الموضوع لم يأخذ حقه من العرض والدراسة ربما لطبيعة البحث الموجزة .

الخاتمة

سيد قطب بين الأصحاب والخصوم
عرض فيها الكاتب لبعض آراء الباحثين ونقدهم وتقييمهم لفكر سيد قطب عرضاً سريعاً ، ورد عليهم أيضاً رداً سريعاً ، كرر فيه ما سبق أن بينه في الفصول الأولي من الكتاب .
وبعد ..
فالكتاب في مجمله جيد علي إيجازه ، وخصوصاً الفصول الأولي منه ، وإن كان لنا علية ملاحظات نجملها فيما يلي :
1 - عدم استقصاء كل أفكار سيد قطب محل الخلاف والنقاش ، وجمع ما ورد فيها من نصوص ، وتطبيق منهج النقد الإسلامي وقواعده عليها ، وإن تم ذلك بصورة جزئية .
2 - الاستطراد لمناقشة أفكار اتجاهات التكفير والعزلة والهجرة وغيرهم ذاتها ، والرد عليها دون ربط لذلك بفكر سيد قطب ، مما حول البحث في كثير من الأحيان إلي فكر التكفير والهجرة في ميزان الشرع وكان الأولي الاقتصار علي ما يستندون إليه من أقوال وكتابات سيد قطب .
3 - تكرار نقاط البحث ، وتكرار ما ورد فيها بنفس الألفاظ قريباً .
ويقول حسن الهضيبي أن فريد عبد الخالق زاره في أعقاب اللقاء الذي جمع بينه وبين عبد الفتاح إسماعيل وعبد العزيز علي وأبلغه أن هناك شباناً طائشين من "الإخوان" يتحركون للقيام بإحياء الجماعة وإنهم يشيعون بين الإخوان أن ذلك يتم بعلم المرشد العام وبإذن منه وانه يخشي أن يقوموا بعمل أحمق يدفع ثمنه الجميع وأنه قال له : يا فريد عليك أن تقف في الشارع ، ونقول إنني لا أعلم بهذه الحكاية وإنني لا أسمع بشيء من هذا ، ولكن أنا لا سبيل أمامي لوقف هؤلاء الأشخاص لأنني لا أقابلهم .
شهادة سيد قطب نفسه :
أرسل أحد أعضاء مكتب الإرشاد "عبد الرءوف أبو الوفا " إلي سيد قطب في سجن طره يستفسر منه ، لأن المخالفين اتهموه بأنه يكفر الناس ! فقال سيد في كتابه "لماذا أعدموني" : " وقد حضر من عندهم للعلاج في طره الأخ عبد الرءوف أبو الوفا فأبلغني خبر هذا الانزعاج من ناحية ، واتجاه المجموعة في الواحة إلي عدم تكفير الناس من ناحية أخري ! وقد قلت له : إننا لم نكفر الناس وهذا نقل مشوه إنما نحن نقول : إنهم صاروا من ناحية الجهل بحقيقة العقيدة
وعدم تصور مدلولها الصحيح ، والبعد عن الحياة الإسلامية ، إلي حال تشبه حال المجتمعات في الجاهلية ، وإنه من أجل هذا لا تكون نقطة البدء في الحركة هي قضية إقامة النظام الإسلامي ، ولكن تكون إعادة زرع العقيدة والتربية الأخلاقية الإسلامية فالمسألة تعلق بمنهج الحركة الإسلامية أكثر مما تتعلق بالحكم علي الناس !
ولما عاد أبلغهم الصورة الصحيحة ، بقدر ما فهم منها ، ولكن ظل الآخرون في القناطر يلحون عليهم بوجوب وقف ما أسموه بالفتنة في صفوف الجماعة .
وظل الحال كذلك حتى نقل إلي مستشفي طره الأستاذان عبد العزيز عطية وعمر التلمساني من أعضاء مكتب الإرشاد الباقين في السجون ، والتقيا بي وأفهمتهما حقيقة المسألة فاستراحا لها " .
وكانت بداية هذه الأفكار والأحداث عام 1962م واستمرت حتى 1964م .
ويوضح سيد قطب عدم تكفيره للأفراد في اعترافه المسجل في محضر التحقيق الذي أجراه معه صلاح نصر ونقله سامي جوهر في كتابه " الموتى يتكلمون " .
س : هل كنتم ترون أن وجود الأمة المسلمة قد انقطع منذ مدة طويلة ولابد من إعادتها للوجود ؟
ج : لابد من تفسير مدلول كلمة " الأمة المسلمة " التي أعنيها فالأمة المسلمة هي التي يحكم كل جانب من جوانب حياتها ( الفردية والعامة ، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية ) شريعة الله ومنهجه .
وهي بهذا الوصف غير قائمة الآن في مصر ، ولا في أي مكان في الأرض ، وإن كان هذا لا يمنع من وجود الأفراد المسلمين ، لأنه فيما يتعلق بالفرد الاحتكام إلي عقيدته وخلقه ، وفيما يتعلق بالأمة الاحتكام إلي نظام حياتها كله .
شهادة المرشد العام عمر التلمساني
قال الأستاذ عمر التلمساني في كتابه : " ذكريات لا مذكرات " :
"وأذكر أن الشهيد سيد قطب له مؤلفات عدة وجيدة ، وعلي مستوي رفيع ، منها " في ظلال القرآن " ، و"العدالة الاجتماعية في الإسلام" ، "ومعالم في الطريق " وتمتاز هذه المؤلفات بالنقمة علي الظلم في كل مظاهره ، والحرص علي رفع المعاناة عن كل الطبقات ، وأن تسود مصر الحرية التي ليس لها حدود إلا فيما أحل الله وحرم ، وما تواضعت عليه الأمم الراقية ذات الحريات الواسعة .
وهذه هي المبادئ والمتطلبات التي تسود مؤلفاته ، والتي سعي إلي تحقيقها طوال حياته ، مع إيمانه الكامل بأن ذلك لن يكون إلا إذا طبقت الحكومات شرع الله فهو لا يري في غيره إصلاحاً ولا نجاحاً .
فليس في "معالم علي الطريق" جديد في فكر سيد قطب ، ولكن بما أن الشهيد كتبه في السجن ، بعد أن ذاق ألوان العذاب علي مختلف قسوتها ووحشيتها ، فقد بدت نقمته علي مخالفة الشرع أوضح وأظهر!.
وما أراد الشهيد الأستاذ سيد قطب في يوم من الأيام أن يكفر مسلماً ، لأنه من أعلم الناس بأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال في أكثر من حديث : " إن من قال لا إله إلا الله موقناً بها قلبه لن يخلد إلي النار " .
ونحن نعلم أنه لن يخلد إلي النار إلا الكافرون ! وهم الذين ينكرون وحدانية الواحد القهار ! هذه واحدة والثانية : إن كثرة تردده "للمجتمع الجاهلي" لم يقصد بها تكفير المجتمع ، ولكن تشديد النكير علي الظلمة والطغاة والمستغلين والمشككين .. وهو أسلوب تعرفه اللغة العربية ، ففي العذاب - وهو ترهيب وتخويف - يقول الله تعالي : ( فبشره بعذاب أليم ) والبشري لا تساق إلا في مجال الخير والنعيم ..
وفي كثير بذلك التكفير ، ولكن : أن ذلك ليس من سنتنا أو عملنا ، والقصد تقليل الدرجات !.
والذين يعرفون الشهيد سيد قطب يعرفون أنه لا يكفر أحداً ! إنه داعية إسلامي من عيون المسلمين .. ظلمه من أخذ كلامه علي غير مقاصده ، ومن هاجموه متجنين ، لما رأوه من عميق تأثير كلماته وكتاباته علي الشباب الطاهر النظيف .
هذا موجز مقتضب للمبادئ التي قام عليها كتاب " معالم في الطريق " وقد كان لي شرف الاطلاع عليه قبل طبعه ، ونحن في مستشفي ليمان طره " .
شهادة زينب الغزالي وعبد الحليم خفاجي
أثير لغط علي كتاب " معالم في الطريق " في حياة سيد قطب وبعد استشهاده ، وصدر هذا اللغط في محيط الإخولان المسلمين وغيرهم ، واعتمدوا عليه في تكفير المسلمين ، ورد عليهم آخرون متهمين سيد بأنه خرج عن خط اإسلام والدعوة وفهم الإخوان ، لأنه يكفر المسلمين ! أجرت مجلة المجتمع الكويتية عام 1402هـ -1982م مقابلة مع المجاهدة زينب الغزالي ، وطرحت عليها في المقابلة هذا السؤال : هل حقاً أن الفكر الذي كان يتبناه سيد قطب ويدرسه الإخوان ، هو تكفير أفراد المجتمع ؟
أجابت زينب الغزالي علي ذلك فقالت : هذا وهم ، توهمه بعض تلاميذ الشهيد سيد .. لقد جلست مع سيد في منزلي عندما سمعت بتلك الشائعة ، وقلت له : إن منزلتي عند " السيدات المسلمات " تجعلهن يحترمنني احتراماً عظيماً ، ولكنهن مستعدان أن ينسفن كل هذا الاحترام إذا علموا أنني أقول عنهن - أو عن أحد من أقاربهم - إنهن كفار ! .
واستغرب نفسه هذا القول ! وبين هذا فهم خاطئ لما كتبه .. وبين أنه سيوضح هذا الجزء الثاني من " المعالم " .
ويروي الأخ عبد الحليم خفاجي في كتابه " عندما غابت الشمس " أن فكرة التكفير نبتت في السجون ، من قبل بعض الشباب ، وأنهم ادعوا نسبتها لسيد قطب ، وزعموا أنه يقول بها ، وهذا في حياته فتبرأ من ذلك !
شهادة " سيد نزيلي " من قيادات تنظيم 65
كان لدعوة الإخوان المسلمين أثرها الملحوظ علي كثير من رجالات مصر منذ نشأتها وحتى اليوم ، غير أن أثرها الأكبر وزخمها الأكثر كان علي رجالاتها الأول الذي عاصروا ولادتها ونشأتها ، وإذا كان الشهيد "سيد قطب" قد انضم إلي الدعوة بعد وفاة مؤسسها الأول "حسن البنا" ، فإن تأثير الرجل في الدعوة وفي الفكر الإسلامي المعاصر كان كبيرا وغير محدود ، بل ومتجدداً أيضاً ، ومن ثم كانت موجات المد والانحسار متكررة في مسيرتنا الفكرية والحركية الإسلامية حول الرجل وأفكاره ، بل وحول البعض من أفكاره فرفعه بعضهم مكاناً علياً ، أما الآخرون فتوزع موقفهم منه بين متهم له بـ "التكفير" أو "المنهج العنيف " الذي نمت جماعات عالة علي ما كتب وأنتج من أفكار .
وإذا كان الشهيد "سيد قطب " وهو في ذمة الله فإن من الحق والإنصاف ألا نصدر الحكم عليه من خلال انتزاع بعض أفكاره من سياقها ثم تحميلها ما لا تحمل ثم إصدار الحكم علي الرجل ، وإذا كان تاريخنا الثقافي غير مدون في كثير من فصوله ، فإن شهادة المعاصرين للتجربة ونمو الفكرة قد تمثل ضوءاً هادياً في الحكم علي الأشخاص والأحداث ، خاصة أن الفترة التي نشأت فيها أفكار "قطب" وتجربته كانت فترة عصيبة في وجدان من عايشها من أبناء الحركة الإسلامية في مصر ، وكانت فترة بدون تاريخ وفكر الحركة من خلال المحاكمات والتحقيقات ، وليس من خلال التفاعل الفكري الحر والديمقراطي .
وشهادة الأستاذ "سيد نزيلي" لها أهمية كبيرة ، فهو من كبار قيادات الإخوان المسلمين ، وأحد قيادات تنظيم 1965م الذين تأثروا وتربوا علي أفكار سيد قطب ، التمسك بها ، ويرفض ما يتردد عن وجود تعارض بين ما جاء به "حسن البنا" وما طرحه "سيد قطب" من أفكار ، بل يري أنها اجتهادات متنوعة في حقل دعوة الإخوان و"سيد نزيلي" من مواليد قرية كرداسة بمحافظة الجيزة في مارس 1938م ، خريج كلية الآداب جامعة القاهرة 1961م ، "والعريس" الذي لم يهنأ بعرسه
إلا أياماً معدودات حتى سبق إلي السجن الحربي ، وتعرضت قريته الكبيرة لمحنة كبيرة ذكرتها أدبيات الإخوان ، وكان ممن حكم عليه بالمؤبد في تنظيم 1965 ، وكان من آخر من خرج من السجن في مارس 1975 .
شخصية سيد قطب
تحدث الأستاذ "نزيلي" عن شخصية سيد قطب وأدبه حديثاً مستفيضاً ، ومما ذكره "أن للأديب العقاد بصماته الواضحة علي سيد قطب ، وأن قطباً تأثر بالمناخ الفكري والثقافي والكتابات في الفترة التي سبقت انتماءه للإخوان ، إلا أنه كان متأثراً بالفكرة والمرجعية الإسلامية ، وظهر في كتابيه "دراسات إسلامية" و"العدالة الاجتماعية في الإسلام" ، وكانت نزعته الأدبية تلمح فيها النضج الروحي واللمسة الأدبية والعاطفية التي لم تقتصر عليه وحده ، بل شملت أخاه محمداً وأختيه حميدة وأمينة حيث أخرج الأربعة ديواناً واحدا باسم " الأطياف الأربعة " .
وتعرض الأستاذ "نزيلي" لكيفية انضمام "قطب " لجماعة الإخوان حيث جاءت استجابة لما لاحظه من ابتهاج غربي أثناء بعثته في الولايات المتحدة الأمريكية لمقتل الشهيد " حسن البنا " ، ومن ثم عزم علي الانضمام لصفوف الإخوان ، وبايع الأستاذ " حسن الهضيبي " ووضعته الجماعة في مكانته اللائقة به ، فكان مسئولا عن جريدة الإخوان المسلمين .
بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ
قطب والتكفير :
أكد الأستاذ " نزيلي " أن " للمحنة بصماتها علي فكر سيد قطب ، ليس من حيث انقلابه علي الماضي ، ولكن من ناحية شحنة العاطفة التي غلفت كل أفكاره ، وفتحت عينيه علي أمور كثيرة تحاك للإسلام ، حيث وقف طويلاً أمام الآيات التي تتحدث عن الصراع بين الحق والباطل ، ومن تداعيات المحنة عليه : أنها جعلته يتعمق في جذور هذا الصراع ، ووجد ضالته عندما دخل السجن ، وذاق ما ذاق ، ورأي ما يفعل به وبإخوانه من صفوف العذاب ، والإعدامات ، وما حدث في مذبحة طره (22 شهيداً من الإخوان) ، ولكن كل هذا لم يجعله ينقلب علي ماضيه ، وإنما نظر للصراع نظرة معمقة ، ولم يكن يري أن هذا الصراع هو صراع بينه وبين الأنظمة التي تحكم العرب والمسلمين ، وإنما ذهب بعيداً ورأي صراع الإسلام مع الصهيونية والصليبية والشيوعية ، فهذه هي رءوس العداوة للمسلمين ، ولم يكن ينشغل بزعامات أو رئاسات البلاد العربية .
تجربة شخصية مع دعوي التكفير :
ففي سجن قنا أثيرت قضية التكفير عام 1968م ، بعد تلك الفترة العصيبة الدامية في السجن الحربي (18شهراً) حيث كنا محبوسين سبعة أفراد في زنزانة واحدة ضيقة لا يكاد المرء ينام فيها علي شقة (استمرت 22 شهراً) ، هذه المرحلة تركت بصماتها علي ذوى النظرة المحدودة وغير المتعمقة في الفقه الإسلامي ، والذين لم ينالوا قدرا مناسبا من التربية الإخوانية ، وما يتصل فيها بقضية التكفير ، مما جعل البعض يتجه نفسياً إلي التكفير ، فكيف يساوي بينه وبين الجلاد ، أو بينه وبين من يأمر بتعذيبه ، ومن ثم فإن التكفير هو في حقيقته "فكر أزمة" معاصرة لم تخضع للدراسة ، ووجد التكفير بعيداً عن "سيد قطب" ، حيث وجد التكفير بعد عام 1965م ، وكان متغلغلا في الجيل الذي لم يدخل الإخوان ، ولم يتأثروا بسيد قطب ، وفي هذه الفترة تدخل الأستاذ "حسن الهضيبي" وأرسل إلينا ملازم من الكتاب الفيصل في هذه القضية وهو "دعاة لا قضاة" الذي كنا نسميه "البحث " ، وقد دفعني ذلك إلي أن ألتقي بمن كان معي قبل 1965، وأتذكر معهم ما كنا عليه قبل السجن ، والحال الذي وصلنا إليه بعد أربع سنوات ، وكانت الأسئلة التي طرحتها محددة وهي :-
- هل كنا نكفر قبل دخولنا السجن ؟
- الجواب : لا
- هل كنا لا نصل وراء الإمام الذي ليس منا ؟
- الجواب : لا
- هل كنا لا نأكل ذبيحة المسلمين العادية ؟
- الجواب : لا
- هل كنا نكفر والدينا وأشقاءنا ؟
- الجواب : لا
إن ما دخل علي فكر بعض الذين يتمسحون في فكر سيد قطب هو من آثار المحنة ، وكرد فعل علي القسوة التي تعرضوا لها في السجن ، وهو ما انعكس علي أحكامهم وتعاملهم مع آيات القرآن الكريم ، وبعضهم لصق ذلك زوراً بسيد قطب .
وقد انتهي بعد لقائي بإخواني واستجلاء حقائق الأمور إلي : أننا لم نكفر مسلماً ، ولم نعلم من الأستاذ سيد قطب أنه يأمرنا بالتكفير ، أو الانعزال عن المجتمع ، أو المفاصلة الشعورية التي يفهمها البعض خطأ بمعني الانعزال .
والذي كنا نفهمه من "المفاصلة الشعورية" هو البعد النفسي عن المسلم الذي يرتكب المعاصي والموبقات ، وهذه مسألة مطلوبة منا جميعا ، ولكن ليس معناها أن أشعر أنني مسلم ، وأن هذا المسلم العاصي كافر !
وعموما فإن سيد قطب كان أدبياً يمتلك ناصية قلمه ، وتعبيره في أغلب القضايا التي عالجها هي تعبيرات المحب لدينه ، الغيور علي دعوته ، الكاره للظلم والظالمين ، المشفق علي أمته من الانزلاق بعيداً عن دينها وهداية ربها .
التغير في فكر سيد قطب
ما طرأ علي فكر "سيد قطب" في المحنة من 1954 إلي 1965م لا نقول إنه انقلاب علي أفكاره السابقة ، ولكن أعطي لكتاباته لوناً متميزاً ، فقد لاحظ بثاقب نظره أن المشروع العلماني الذي تبنته الأنظمة الحاكمة في البلاد الإسلامية ، من شأنه أن يفصل بين الدين والدولة ، بحيث يتسنى للدولة أن تصبغ حياة المسلمين بعيداً عن الإسلام وهو ما أصاب "سيد قطب" بنوع من القلق والخوف علي الدعوة ، وهذا الأمر مؤكد ومهم في أدبيات هذه الفترة ، فليس عندنا الكنيسة المتسلطة ، وليس لدينا الذين يستعبدون الناس بذواتهم أو برامجهم ، وكما نعلم أن شعار العلمانية : " اشنقوا أخر ملك بأمعاء آخر قسيس " ، ومن هنا فإن " قطباً " استشعر خطورة الفصل العلماني بين الدين والحياة ، وكانت كتاباته تنقض هذه الأفكار ، وتربي أجيال المسلمين علي الإسلام الشامل ، ويفهم من كتاباته أن عامة المسلمين ليسوا متهمين بالعلمانية ، وأنه يتهم الأنظمة القائمة التي تحذو حذو العلمانية الغربية ، وكانت آراؤه اتهاماً لهذه الأنظمة بالسير في العلمانية ، وليست تكفيراً .
إلي فضيلة الشيخ القرضاوي ! :
وبعث "نزيلي" برسالة إلي فضيلة الشيخ القرضاوي في هذا الشأن حيث قال : " كنت أود أن يظل الأستاذ الفاضل يوسف القرضاوي علي ما هو عليه من تجميع الأمة والعاملين للإسلام بكل توجهاتهم ، بعيداً عن نقاط الاختلاف والخلاف ، وألا ينكأ جراحاً قديمة ، حيث أن الوقت غير مناسب ، خاصة مع الحملة الشرسة ضد الإسلام والمسلمين ببرامج ووسائل معلومة ومعروفة ، يرصد لها الأعداء الأموال الطائلة ، ويضغطون علي الأمة بكل الوسائل حتى يغيروا من هوية الأمة وأريد أن أستعير الكلمات الآتية : " إننا لا نجمع ولا نفرق ، ونتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه " والله علي ما أقول شهيد .
شهادة أحمد عبد المجيد من قادة تنظيم 65
يبدو أن الأفكار الحية لا ينتهي ما تثيره من جدل وتجانب ، واختلاف في القراءة ، رغم مضي السنين ، وقد أثارت مقالات العلامة الجليل فضيلة الشيخ القرضاوي حول الشهيد " سيد قطب" وأفكاره وقراءاته الفقهية لما ورد في بعض كتابات " قطب" خاصة تفسير" في ظلال القرآن" وكتاب " معالم في الطريق" ، كثيراً من ردود الأفعال ، خاصة ممن عاصر " قطب" وأخذ عنه واقترب منه ، كما أن تأكيد فضيلة الشيخ "القرضاوي" علي أن " أخطر ما تحتويه التوجهات الجديدة لسيد قطب في مرحلة (منتصف الستينات) هي ركونة إلي التكفير " ، وأن " سيد قطب ينظر إلي مسلمي اليوم نظرته إلي مشركي الجزيرة العربية قبل البعثة " وأن " مشكلة سيد قطب أنه لا يعرف سوي الإيمان والكفر " ، دفع بعض المعاصرين للمرحلة والتجربة إلي الإدلاء بشهاداتهم اعتقادا منهم بأن هذه الشهادة هي واجب ديني وتاريخي .
ومن هنا تأتي شهادة المعاصرين والقريبين للشهيد " سيد قطب " ، والمتأثرين بأفكاره ، أو بالأحرى الذين أخذوا منه مباشرة ، وتربوا علي دينه ، وملأت أفكاره نفوسهم ، وكانت سبباً في تعرضهم للإيذاء الشديد ، كنوع من الدليل القوى حول منهج الرجل الذي تعرض لكثر من الظلم في حياته وبعد مماته .
تأتي شهادة الأستاذ "أحمد عبد المجيد" لتلقي الضوء علي شخصية الشهيد " سيد قطب " باعتباره كان من الدائرة الأولي التي تجالس " قطب " وتأخذ منه مباشرة ، وتأثرت بأفكاره تأثراً كبيراً ، لم تستطع أربعة وثلاثون عاماً أن تمحو منه هذه الأثير رغم تقلبات الدهر ، لذا يحسبه البعض علي التيار القطبي ، والرجل حقوقي من مواليد 1933م ، وحكم عليه بالإعدام في قضية تنظيم 1965م ، لكن خفف الحكم إلي المؤبد ، وبالمناسبة فإنه متزوج من ابنة الشهيد " محمد الهواش" الذي كان من كبار قادة التنظيم 1965م ، ونفذ فيه حكم الإعدام ، ثم خرج الأستاذ " أحمد عبد المجيد " في السبعينيات ، وله كتاب حول حقيقة تنظيم 1965 صادر عن دار الزهراء للإعلام العربي ، وعدد من المقالات عن الحركة الإسلامية في مجلةالمدار الجديد .
شخصية سيد قطب
تحدث الأستاذ " أحمد عبد المجيد " عن شخصية "قطب" ، وأشار إلي نقطتين مهمتين كانت تتميز بهما تلك الشخصية وهما : الحب للمجتمع ، وعدم الانعزال عن هذا المجتمع فأكد أنه "كان رحيماً لا يغضب ، عف اللسان ، لا تفارقه الابتسامة الوقور ، وذا دعابة مؤدبة ، رقيق المشاعر مرهف الحس ، وأنه كان في فترة شهرته الأدبية من مؤيدي "العقاد" ، وكان ممن له سبب في شهرة الأديب الكبير "نجيب محفوظ" ، وأن " محفوظاً" ممن زاره في بيته بعد خروجه من السجن عام 1964م ، بحكم الصلة والمعرفة القديمة بينهما ، وهو دليل علي أنه غير منغلق ، وغير انعزالي ، كما كانت صلته بالضباط والجنود في السجن صلة طيبة ، حتى إن مأمور سجن طره قال : " إن سيداً هو مدير السجن لصلته القوية بالجميع " .
سيد قطب .. والتكفير
وتعرض الأستاذ "أحمد عبد المجيد" في شهادته لمسألة "التكفير" ، وأكد " أن سيد قطب لم يكن من دعاة التكفير ، لأن هذا الاتجاه نشأ في سجن "مزرعة ليمان طره " عام 1968م وما بعدها ، علي يد "شكري مصطفي" وأمثاله ، ولو كانت هذه الفكرة عند سيد قطب لكان من باب أولي أن تكون عند من تتلمذ علي يديه ، ومن كان يقابله ويجالسه ، وهو ما لم يحدث ، وأحب أن أقول : إنه هو أول من قال عبارة " نحن دعاة ولسنا قضاة" .
وأذكر أنه قال لنا : " عندما تعرضون الإسلام علي الناس ، اعرضوا الإسلام بوضوحه ونصاعته ، وإياكم أن تعرضوا عليهم النتائج ، واتركوا للمستمع أن يستنتج موقعه في أي مرحلة هو من هذا الدين " .
" فلم تكن قضية التكفير تشغل باله ، وإنما الذي كان يشغله هو قضية الدعوة وكشف مخططات أعداء الإسلام ، والدليل علي أننا لم نعرف قضية التكفير إلا أوائل عام 1968م عندما ذهبنا إلي سجن قنا أبلغنا الإخوان القدامى في المعتقل أن موضوع التكفير أثير حولنا في الصحف ، ولم نكن نعلم عنه شيئاً منذ اعتقالنا ، لأننا كنا نعيش في عزلة تامة لأكثر من عامين عن العالم ، أما المرة الثانية التي سمعنا فيها عن موضوع التكفير فكان في نهاية 1968 عندما أثير في سجن مزرعة طره " .
الموقف مما طرحه الشيخ القرضاوي
وابدي الأستاذ "أحمد عبد المجيد" استغرابه مما طرحه فضيلة الشيخ "القرضاوي" حول "سيد قطب" وأفكاره ، وتوقيت طرح هذا الكلام بعد مرور أكثر من (34) عاما فقال : " أنا أعجب لإثارة مثل هذا الموضوع حالياً بعد مرور حوالي (34) عاماً عليه ، وما الدافع له وما المصلحة في ذلك ، في وقت نحن محتاجون فيه إلي التئام الصف ، وسد الثغرات ، وما المصلحة الدافعة لمثل هذا الكلام ، وكنت أتمني أن ينأي فضيلة الشيخ القرضاوي عن الخوض في هذا الموضوع ، وإن كانت هذه ليست المرة الأولي التي يقول فيها فضيلته مثل هذا الكلام ، ففي مقالا نشرتها بجريدة الشعب الصادرة 25،18،11 نوفمبر 1968م ، انتقد فضيلته وعقب علي آراء سيد قطب ، وكذلك في ندوة "اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر " 1405هـ1985م قدم الشيخ " جعفر شيخ إدريس" - وهو من إخوان السودان - بحثاً بعنوان "قضية المنهج عند سيد قطب في معالم في الطريق" ، وكان تعليق الشيخ "القرضاوي" : " وهذا اتجاه يجب أن يقوم " يعني اتجاه سيد قطب كله يجب أن يُقوٌَم وليست مسألة أو مسائل فيه ، وأخشى أن يستفيد أعداء الحركة الإسلامية من كلام فضيلته .
شهادات حو " قطب والتكفير "
أنا أحد الذين عايشوا الأستاذ سيد قطب - رحمه الله تعالي - أثناء محاكمات الإخوان أمام الفريق الدجوى عام 65 ، وأورد شهادتي وبعض شهادات من عاصروه من إخواننا وأساتذتنا .
الشهادة الأولي :
قبيل انتهاء محاكمة الأستاذ سيد سنة 65 ، وهو داخل قفص الاتهام سأله أحد الإخوان : هل يا أستاذ قد تم البلاغ المبين الذي علينا أن نقوم به ؟ فقال الأستاذ سيد : "لا" ، إنكم لا تدرون ما يقال عنكم وعن الدعوة في الصحف وفي وسائل الإعلام ، وإن كنا أدينا بلاغا فقد أديناه أمام من يحاكموننا علي قدر ما أفسحوا لنا " فإذا كان الأستاذ يقصد من كلامه في الظلال وغيره إلي إصدار حكم علي الأفراد والمجتمعات بالكفر المخرج من الملة؟! .
الشهادة الثانية :
وأضيف إلي الشهادة السابقة شهادة المرشد العام الأسبق لجماعة الإخوان المسلمين الأستاذ عمر التلمساني - رحمه الله - الذي تحري هذا الأمر وسأل الأستاذ سيداً رحمه الله سؤالاً مباشراً ، هل يا أستاذ سيد أنت تحكم علي الناس بالكفر ؟ فأجاب "لا" .
ونقل الأستاذ عمر - وكان وقتها أحد أعضاء مكتب الإرشاد المحبوسين - هذه الشهادة إلي الإخوان عندما كثر اللغط في السجون عن شائعة الكفر التي أشاعها بعض من كان ينزل إلي العلاج في مستشفي ليمان طره ، حيث كان يعالج الأستاذ سيد رحمه الله .
الشهادة الثالثة :
أن فضيلة العالم الجليل الشيخ محمد عبد الله الخطيب عضو مكتب الإرشاد في جماعة الإخوان المسلمين ، أخبرني أنه زار الأستاذ سيداً في الفترة القصيرة التي خرج فيها من السجن عام 64 ، حيث أعيد إليه عام 65 قبل استشهاده ، وأنه في هذه الفترة زاره في بيته يوم جمعة فوجده عائداً من صلاة الجمعة ، وحكي لأحد الإخوان أنه رأي الأستاذ سيداً يصلي خلف أحد المسجونين الجنائيين في فترة حبسه , فهل يعقل أن الأستاذ يحكم بالكفر علي عموم الأفراد والمجتمعات ؟! .
وأضيف علي ذلك شهادة آخر من لقي الأستاذ سيداًَ قبل استشهاده وهو أحد كبار الإخوان وما يزال علي فيد الحياة ، حكي لي أنه يوم استشهاده - رضي الله عنه - أخذوه من زنزانته في المستشفي " شفخانة السجن الحربي" ، وكان هذا الأخ الكبير بجواره في زنزانة أخري والباب مفتوح ، فجاء الجندي ، وقال للأستاذ سيد : إن عليه أن يأتي معه ، فلما أخذ الأستاذ سيد يجهز الأدوية التي يتعاطاها أثناء ذلك ، قال له العسكري : لست في حاجة إليها ، فعلم الأستاذ أنه سينفذ فيه الحكم ، فطلب من الأخ الكبير الذي يجاره في الزنزانة الأخرى أن يبلغ فضيلة المرشد الأستاذ حسن الهضيبي أنه علي العهد ، ولم يبدل ولم يغير ، وأنه علي بيعته ثابت إن شاء الله حتى يلقي ربه ... ولاشك أن هذه اللحظات هي لحظات تمام الصدق والعبد مقبل علي لقاء ربه .
اللهم تقبله في الشهداء ، واحشرنا وإياه مع الصادقين ومع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، وحسن أولئك رفيقا .
بينقطب والبنا
إن سيد قطب صاحب فكر يختلف كثيراً عن فكر حسن البنا - رحمهما الله - ولكن الأمر لا يقوم بالمقارنة بموازين مطلقة ، إنما يجري وصف كل فكر وظروف إعماله ، وفكر حسن البنا - لمن يطالعه - فكر انتشار وذيوع وارتباط بالناس عامة ، وهو فكر تجميع وتوثيق للعرى .
فكر سيد قطب فكر مجانبة ومفاصلة وفكر امتناع عن الآخرين .
فكر البنا يزرع أرضاً وينثر حباً ويسقي شجراً وينتشر مع الشمس والهواء ، وفكر قطب يحفر خندقاً ويبني قلاعاً ممتنعة عالية الأسوار ، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب
لقد نشأت جماعة الإخوان كتنظيم علني منشور ، ثم ما لبث أن ظهر بداخلها ما عرف باسم "النظام الخاص" ، وهو تنظيم أكثر أحكاماً وأوثق رباطاً يمثل كتيبة صدام عندما ظهر الحاجة لكتائب الصدام ، ولاسيما أن البلاد كانت محتلة .
ولكن وجود التنظيميين في بردة واحدة لم يكن له أن يبقي طويلاً ، لأن لكل من التنظيمين تكوينه المتميز والوسط الملائم الذي يحيا فيه ، من حيث اختبار الرجال والعلاقات التنظيمية وأدوات العمل ووجود العطاء المطلوب والمبذول .
والمفروض أن يكون لكل منهما فكر أو "فقه" يلائم وظيفته ، الانتشار أو الصدام ، والفكر هو ماء الحياة , وماء الحياة الذي يلزم الجماعة مفتوحة تعمل لنشر دعوة بين العامة ليس هو ماء الحياة الذي يلزم لجماعة أعدت نفسها كتيبة صدام وعضلة امتناع ومحاربة .
وليس الفكر اللازم لبناء مجلس نيابي هو عينه الفكر اللازم لبناء جيش مقاتل ، ولا الرجال هم هم ، ولا علاقات العمل ومستويات النظم هي هي .
لذلك فقد حدث بين نظامي جماعة الإخوان ما عرفنا عن وقائع الحركة الإسلامية في نهايات الأربعينيات وبدايات الخمسينيات .
لم يكن سيد قطب في ذلك الوقت من رجال المغالاة في الفكر السياسي الإسلامي ، ولم يعرف "النظام الخاص" ، ولكن ظروف الخمسينيات والسينيات من بعد ، والأوضاع التي خضعت لها تجربته الفكرية وملكاته الوجدانية والعقلية ، كل ذلك اجتمع ليخرج من يراع هذا الرجل جوهرة الفكرة الأساسية التي تقوم عليها كتائب الصدام ، وقدم الرجل حياته ثمناً لهذا الصنيع .
الفكر .. استجابة للتاريخ
إن الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث كما يتراءى لنا الآن هو حصيلة استجابات تاريخية لهذه المرحلة من حياة جماعة المسلمين ، وإنه محصلة تراكمت عناصرها لبنة لبنة ، بواسطة عدد غير محصور من رجال الفكر والسياسة الإسلامية في عصرنا ، ومنها أن الخلافات بين الاتجاهات المختلفة إنما هي خلافات تحسمها الحاجة التاريخية والاجتماعية للأمة الإسلامية في كل حال ، وأن الحاسم في الحكم علي الجوانب الإيجابية لكل اتجاه إنما يتعلق بمدي الاستجابة للشكل الأساسي الذي يطبع عصرنا كله ، وهو مشكل التبعية ومطلب التحرر الإسلامي من هذه التبعية للأجنبي .
وهذا ما يحدد وجوه التجديد ووجوه المحافظة وأنماط الوحدة والتنوع وأساليب الاعتدال والغلو وملائمات كل وجه من وجوه النشاط .
أخذني العجب الشديد من عالم كبير بحجم الشيخ القرضاوي - حفظه الله - وهو يكتب عن الأستاذ سيد قطب - رحمه الله - سواء في مذكراته أو بعض مقالاته وكذلك في كتبه ، إذ كان ملاحظا ذلك الإلحاح الغريب من قبل الشيخ علي اتهام سيد قطب بأنه كان " تكفيرياً " متطرفا بكفر المسلمين جماعات وأفراداً ، وحكومات ومحكومين ، دولا وشعوباً ، وخاصة في مرحلته الأخيرة (مرحلة المعالم) ، حيث يقسم الشيخ حياة سيد قطب الفكرية إلي مرحلتين : العدالة الاجتماعية في الإسلام ومرحلة : معالم في الطريق .
وعلي الرغم من أن الشيخ يوسف قدم الكثير من التبجيل والتوفير والإجلال لسيد قطب وعطائه وتضحياته في تلك الكتابات .. فإنها كانت أشبه بمقدمة اعتذار عن القسوة اللاحقة في الكتابة عن الرجل وتاريخه وفكره ، ولقد تعجبت كثيراً من إجهاد الشيخ يوسف نفسه - مع كثرة مشاغله وأعبائه - لكي يثبت للقارئ أن سيد قطب كان تكفيرياً ، ويأتي بنصوص كثيرة مطولة من كتاباته ، خاصة مما يتحدث فيه عن الجاهلية والكفر والردة التي رآها انتشرت في جنبات الأرض في العصر الحديث ، ويطالب القارئ بأن يتأمل بعض العبارات والمصطلحات ، ويحرص حرصاً مثيراً علي وضع خطوط تحت كلمات وألفاظ بعينها ، لكي يلفت ذهن القارئ إليها ويستحثه علي تأمل تطرفها وروح التكفير فيها ، ويدقق لكي يثبت له أن الرجل ليس كاتباً معتدلا أو حاداً في عبارته فقط ، وإنما كان كاتباً تكفيرياً ، وبالتالي متطرفاً .
الشيخ لم يذكر - للأمانة - صفة التطرف أو الإرهاب ، ولكن الأمر لا يحتاج إلي كثير شرح لكي يطبق القارئ الذي يري الشيخ يوسف - علي قدره - يثبت له ويحاصره بالشواهد والسقطات التي تؤكد أن الرجل كان تكفيرياً ، أقول : لا يحتاج القارئ كثير جهد لكي يطلق صفة " المتطرف" علي سيد قطب ، ومن ثم "الإرهابي" بالضرورة .
هل هذا هو المآل الذي يقصده الشيخ يوسف من جهده المتتالي والمتكرر من أجل إثبات أن سيد قطب كان تكفيرياً
يكفر المجتمعات والحكومات والأفراد والشعوب ؟ الأمر محير للغاية .
ثم ما هي القيمة العملية التي يمكن أن يحصلها الشيخ القرضاوي أو قارئه من هذا الجهد المضني الذي يثبت به - بكل سبيل - أن سيد قطب كان تكفيرياً ؟ هل هو تحذير القارئ من كتابات سيد قطب ، والنظر إلي كتاباته بحذر وريبة ، والتشكك في كل سطر يقرؤه له ، ولا يدع مجالا لحديثه أن يصل إلي قلبه ووعيه ؟ هل المقصود هو تنفير المثقف المسلم من كتب سيد قطب ودعوته إلي الارتياب في كتاباته والتحقير من رشده الدعوي ومكانته في الفكر الإسلامي ؟ هل هذا هو المطلوب .
أنا لم أتصور أن الأمر فيه من حظوظ النفس أو ما يعرف بالغيرة بين العلماء من القبول الواسع لأحدهم دون سواه ، وذلك أنه علي الرغم من البون الكبير بين الرجلين ، والحضور المهيب لسيد قطب في أجيال الإسلاميين علي مدار نصف قرن كامل .. فإن الشيخ القرضاوي أيضاً له مكانته الكبيرة في قلوبنا وقلوب أبناء الحركة الإسلامية والمثقفين الإسلاميين بغزارة إنتاجه وعلمه وسعة أفقه ، فما هو السبب إذن الذي يجعل الرجل يجهد نفسه وقارئه كل هذا الإجهاد من أجل أن يثبت له أن سيد قطب كان تكفيرياً ؟
فكر سيد قطب ثورة متجددة في عالم الفكر وعالم الواقع وهي تزهر في عقول ووجدانات من قرؤوه ويقرؤونه علي مر السنين ، ولا يوجد أديب إسلامي من بعده ، ولا مفكر إسلامي ، ولا داعية إلا وكان للرجل بصمته في فكره وفي مواقفه ، حتى من تكلف مخالفته أو التحفظ علي بعض كتاباته ، ومن ثم يبقي مشروع سيد قطب مشروعاً مستقبلياً تجديدياً ، يليهم الأجيال الجديدة بروح العطاء للإسلام والعمل علي نهضة أمته ، ويجعل نفوسهم بالهمم العالية المستعلية علي ضغوطات الواقع وتحديات الطريق ، موصولة بمسيرة التاريخ الفذ والأمة الواحدة منذ آدم عليه السلام وحتى يرث الأرض ومن عليها .
ولذلك لا يعيد القارئ لكتاب الظلال علي سبيل المثال قراءته الآن إلا ويجد فيه الروح ذاتها التي وجدها منذ سنوات بعيدة يقرؤها الشيخ أو الكهل فيستحضر بها مشاعره وهو شاب متدفق الحماسة والإقبال ، وتنفعل بها نفسه من جديد ، وهذه خصيصة يصعب حضورها في آية كتابات فكرية أو أدبية أخري .
وللأمانة فإن توالي الأحداث الجديدة في العالم ، وانكشاف مواقف السياسات الدولية ومعها الأخلاق والطموحات عارية مفضوحة بصورة لم تشهدها البشرية من قبل .. هي من الأمور الواضحة التي تعيد الاعتبار لسطور سيد قطب عندما عرى هذه المعاني كلها قبل أربعين سنة مضت ، في الوقت الذي كان ينظر الكثيرون - حتى من أهل الإسلام - إلي ما يقوله نظرة شفقة واستهتار .
سيد قطب .. قراءة جديدة
لا يوجد قارئ في العربية مر علي سيد قطب إلا وترك الرجل فيه أثراً لا يمحي عبر الزمن ، وهي ظاهرة تتصل عادة بالأشخاص أو المواقف الفاصلة والمميزة في حياة البشر ، حيث تلتصق بالذاكرة الصورة أو الكلمة أو الذكري بحيث يصعب معها تصاريف الزمن أن تمحوها من ذاكرة الإنسان مهما مرت الأيام ومهما تعاورت الإنسان تصاريفها وأحوالها ، من يقرأ سيد قطب يجد هذه الروح العجيبة التي تتسلل إلي حنايا النفس وتلمس أدق ما فيها وأرق ما فيها من مشاعر لكي تأخذ بها وبلباب العقل معها إلي آفاق بعيدة في عمق التاريخ وعمق النفس وعمق الحياة ، بل إنها تجمع عليك كل هذا في سياق واحد ولحظة واحدة وشعور واحد ، ليس الأمر متصلاً فقط بعبقرية الأدب وبراعة الأديب
وإنما هناك روح الفكرة وصدقها توهجها المذهل في نفس صاحبها ، وعندما يجتمع مع قلم حساس وشعور مرهف ، وإيمان بالله عميق ، تجد هذا الشعور المتدفق الذي تستشعره في عقلك ووجدانك عندما تقرأ لسيد قطب ، وخاصة في تحفته الكبيرة " في ظلال القرآن" ، ولم أجد أصدق تعبيراً عن حالها وقيمتها وأسلوبها من الكلمات التي وصف بها الزعيم المصري سعد زغلول كتاباً للأديب الكبير مصطفي صادق الرافعي فقال : كأنه تنزيل من التنزيل .
تعقيباً علي مقال "سيد قطب .. قراءة جديدة "
سيد قطب .. ظلموه حياً وميتاً
إطلعت علي المقالة (الافتتاحية) لعدد المنار الجديدة 25 والذي كتبه الأستاذ جمال سلطان ، وقد أعجبني كثيراً - كما أعجب غيري - لا أسلوبه العذب فقط ، ولا الصياغة المحكمة المتسقة ، بل أسعدني الموضوع وهو رد بعض الاعتبار لسيد قطب ، بعد أن تناساه الكثير ، وهاجمه أفراد من اتجاهات متباينة ، ولكن هيهات مع ذلك كله وغيره .. لازال رصيده العلمي ومواقفه الرائدة الصلبة تجعله كالطود الشامخ ، أو كالجبل الأشم , رحمة الله عليه .
ولعل الأستاذ جمال كتب ذلك بدافع الإخوة (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) ، أو بدافع الولاء بين المؤمنين (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ) ، أو الاثنين معاً .. أو استجابة لحديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ( أنصر أخوك ظالماً أو مظلوماً ) .. رواه البخاري
ولقد لاقي الرجل ما لاقي وانطلقت عليه الألسنة ، وتسابقت للنيل منه الأقلام سواء في أجهزة الإعلام ، أو في الكتب والبحوث وغيرها ، ونري أنه من حقه علينا ، سواء من عايشه وجلس معه واستمع له ، أو ممن كان منصفاً وقرأ له أن يرد له بعض الاعتبار ، أو يدافع عنه ، أو يقول كلمة حق في شخصه .. ونحاول بعون الله تعالي إلقاء الضوء علي ما لاقاه في حياته ، أو بعد تنفيذ الحكم عليه ، واستشهاده .
في حياته
مما لاشك فيه أننا ندرك ونعلم أن أي مصلح أو صاحب دعوة لابد أن يحارب ويضطهد ، وقد يعذب ، بل قد يقتل كذلك (t×ضةڑقےtbqè=çFّ)s?r& رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ ) وأشد الناس بلاء واضطهاداً الرسل صلوات الله عليهم جميعاً .
وقد لاقي سيد قطب من الصدم والهجوم في حياته خلال فترتين ، الفترة الأولي : كان سيد قطب منهوماً بالبحث والإطلاع والثقافة منذ طفولته ، وكان توجهه للألوان الأدبية والنقدية في عالم الأدب والنقد والشعر عن طريق المقالة والقصيدة والقصة والكتاب والمحاضرة ، وقد امتد نتاجه الغزير حوالي عشرين عاماً .
وكان ينشر في الصحف خاصة الأدبية كمجلة الرسالة ، ودارت بينه وبين الأدباء معارك أدبية ، خاصة معارضي العقاد ، لأن سيد قطب كان من مؤيدي عباس العقاد .
أما الفترة الثانية : فهي بعد توجهه الوجهة الإسلامية الرائدة في السجن أثناء قضاء العقوبة الصادرة ضده عام 1954 ومدتها 15 عاماً ، والتي فتح الله بها عليه وألف فيها خلاف "في ظلال القرآن " [ الطبعة الثانية ] .. كتب أخري منها : " هذا الدين " ، " المستقبل لهذا الدين " ، " خصائص التصور الإسلامي " ، " مقومات التصور الإسلامي " ، " الإسلام ومشكلات الحضارة " ، " العدالة الاجتماعية " [ الطبعة الثامنة ] " معالم في الطريق " وكان مما ورد في كتاباته غريب علي الكثير سواء من حيث الموضوعات وعرضها ، أو من حيث القوة والصلابة في العرض ، مثل كشف أعداء الإسلام وفضح مؤامراتهم وأعمالهم ، وكان هذا العجب والاندهاش حتى من بعض الإسلاميين ومن ذلك بعض الإخوان المحكوم عليهم بسجن الواحات ، الذين اشتكوا الأستاذ سيد وكتاباته مع نقدها ، وبيان خطورتها ، فرد عليهم فضيلة المرشد العام وقتها الأستاذ المستشار حسن الهضيبي ، وقال قولته المشهورة : " ما قاله صاحب الظلال فهو الحق الذي لاشك فيه " .. وصمت الجميع والتزموا كلام الأستاذ المرشد ، وبدءوا يتدارسوا الظلال في حلقات .
وبدأت كتبه تنتشر في هدوء في أوائل الستينات خاصة الظلال ومعالم في الطريق (صدر عام 1964) حتى عام 1965 حين تم اكتشاف التنظيم الذي كان يقوده سيد قطب ، وهنا انطلقت جميع الأجهزة علي الإخوان عامة والتنظيم خاصة ، وفي المقدمة سيد قطب ، كان الهجوم علي شخصه وعلي كتبه وآرائه ، سواء في أجهزة الإعلام المقروءة أو المرئية أو المسموعة ، أو في المدارس والجامعات ، أو بالخطابة والندوات ، بل توزيع النشرات ووضع الملصقات في الشوارع ، وكان لسيد قطب النصيب الأوفى في ذلك ، ولم تترك هذه الحملة أي جهة رسمية ، أو شخص في السلطة إلا قام بدور الهجوم والتشويه حتى من شيخ الأزهر وقتها الشيخ حسن مأمون ، الذي أصدر بياناً قال فيه : " رأي الإسلام في جماعة الإجرام " .. دون أن يسمع من الطرف الآخر ، هكذا كان هو وغيره يجري ويلهث وراء الموجة السائدة وبعد ذلك انتشرت كتبه لا في مصر فقط ، بل خارج مصر وخاصة في بيروت ، حيث تسابقت دور النشر علي طبعها جرياً وراء التجارة والربح ، وهكذا ( ويأبي الله إلا أن يتم نوره ..) .
بعد استشهاده
هذه الفترة هي قمة النقد والهجوم علي سيد قطب وكتبه ومناقشة أفكاره ، وقد بدأت في سجن مزرعة طره بالقاهرة حوالي عام 1968 ، وكان دافع إثارة هذه الموضوعات أن ذهب بعض الشباب المتحمس ، والذي تنقصه الخبرة وقلة العلم الشرعي ، إلي جانب عدم توافر المراجع الشرعية ، مع ظروف السجن النفسية ، فأشاعوا إصدار الأحكام بالتكفير ، وادعي البعض منهم أن ذلك مفهوم كلام سيد قطب ، فتصدي لهم فضيلة المرشد حسن الهضيبي ، أولاً بخطاب كان مما ورد فيه : " .. وما كنت أعلم أن صاحب الظلال قد غير في مفهوم الجماعة " .
وكان لهذا الكلام صدمة ورد فعل عند بعض الشباب خاصة أفراد تنظيم 1965 ، ثم أعقب ذلك بحث القضايا الشائعة في بحث تم تسميته بعد ذلك " دعاة لا قضاة " ، ودارت بعهد ذلك رحى النقد والهجوم علي سيد قطب والتحذير من كتبه والإعراض عنها وعدم قراءتها ، خاصة الحذر من تعبيرات ومصطلحات شاع استعماله لها مثل : الحاكمية : فالحاكمية عند سيد قطب هو رد الحكم والتشريع لله وحده ( إن الحكم إلا لله ) ( أفغير الله ابتغي حكماً ) .
أما كلمة الجاهلية فهي مصطلح قرآني من صيغة الفاعلية وهي تعني الجهل بحقيقة الإلوهية ، والجهل بما يحب الله سبحانه وتعالي من إخلاص العبادة له وحده دون شريك ، وهي ليست محددة بزمن معين أو مكان معين ( أفحكم الجاهلية يبغون ) ، أما دار الإسلام عند وعند من سبقه من العلماء ، فهي الدار التي يسود فيها حكم الإسلام ، ودار الحرب أو الكفر التي لا تحكم بشرع الله .
ومن الذين انتقد وعقب علي آراء سيد قطب فضيلة الدكتور يوسف القرضاوي ، يقول تحت عنوان ملاحظات وتعقيبات علي آراء الشهيد سيد قطب ، بجريدة الشعب الصادرة في 25،18،11 نوفمبر عام 1986م .
كذلك في ندوة اتجاهات الفكر الإسلامي المعاصر عام 1405هـ 1985 قدم الشيخ الدكتور جعفر شيخ إدريس بحثاً بعنوان " قضية المنهج عند سيد قطب في معالم في الطريق " ، وكان تعليق الشيخ يوسف القرضاوي عليه " .
وهذا الاتجاه يجب أن يقوم " بتشديد الواو ، يعني اتجاه سيد قطب يجب تقويمه أي اتجاهه كله ، وليس مسألة أو مسائل فيه ، سامحه الله .. وبدلاً من الدراسة والتريث بما جاء به سيد قطب من زيارة النقاط إيضاحاً ، وتجلية الغبش الذي ران علي كثير من المفاهيم والقضايا ، كانت الموافقة المبدئية علي كتبه وآرائه ، وربما كانت الموافقة بها من العمومية التي لم تثر أمامها المشاكل أو القضايا بحجمها ووزنها .. لذا قد بدأ في الأفق خط جديد ومخالف لكل أو معظم ما جاء به سيد قطب .
ومع هذا وما كيل لسيد قطب لازالت كتاباته لها الصدارة في عالم الفكر الإسلامي الحديث ، ولم ينتقص منه النقد أو الظلم له ، وقد كتب عنه الكثير وتناولوا أفكاره وكتبه بالثناء والمديح ، خاصة الرسائل الجامعية في مصر وغيرها من البلدان حتى صار رائد الفكر الإسلامي المعاصر بلا منازع له ، وعلي من يوجه له سهام النقد أن يدرس منهج أهل السنة والجماعة أولاً ، ثم يقيس كلامه عليه إن كان مطابقاً زكيناه وانتفعنا به ، وإن كان غير ذلك يرد ما لا يطابق ، حتى نكون أهل عدل واتزان وإنصاف ونذكره بالخير وندعو له ، والله سبحانه هو حسبه ووكيله ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ) .
يقول الدكتور صلاح الخالدي " كان رائداً في عالم الأدب والنقد ، وصار رائداً في الفكر الإسلامي ، ثم رائداً في الدعوة والمواجهة والجهاد وأخيراً ختم حياته رائداً في الثبات والاستشهاد .
وصدق الله العظيم (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا )
مراجعات حول فكر الشهيد سيد قطب
فضيلة أستاذي وشيخي ومعلمي أ.د يوسف القرضاوي :
لقد من الله علينا بنعمة الإسلام وهي أيما نعمة ، ومن علينا أيضاً بنعمة الإخوان المسلمين وأنتم في الطليعة ، في هذه الكوكبة التي تدعو إلي الله بالحكمة والموعظة الحسنة .
وأنا متابع جيد لكتبكم ومذكراتكم في جريدةآفاق عربيةوبرنامجكم الناجح (الشريعة والحياة) .
ولكني عجبت لكتاباتكم في المذكرات عن موقفكم من فكر الأستاذ سيد قطب .. وعن تحليلكم النفسي لشخصية هذا الكاتب الشهيد .
ودعني أستاذي الجليل أن أوضح لكم بعضاً من شخصية الأستاذ سيد قطب .
أولاً : انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين فهذه تمت علي مرحلتين
المرحلة الأولي في أواخر الأربعينات - وهو في أمريكا - عندما علم باستشهاد الإمام حسن البنا ، ورأي الضجة الكبرى في الأوساط الثقافية في المجتمع الأمريكي والابتهاج والفرحة الغامرة وشرب الأنخاب لاغتيال هذا الرجل مما جعله يطلب من إخوانه أن يرسلوا له مؤلفات حسن البنا رضوان الله عليه - ولكن ردوا عليه بأنه ليس له كتابات كثيرة ولكن مجموعة من الرسائل قرأها في أمريكا ، وكان دائماً يقارن بين مفهوم هذه الرسائل وبين ما يراه في المجتمع الأمريكي - قمة الحضارة الغربية - وزادته هذه التجربة اقتناعا فوق اقتناع عن سيادة هذا الدين - كنظام اجتماعي واقتصادي وسياسي علاوة علي العيدة والعبادات علي كل النظم الوضعية التي صنعها البشر .
ولما كان فكر حسن البنا يتمثل في جماعة الإخوان المسلمين .
فقد عاد إلي مصر وهو ينظر إليهم بفكر حسن البنا ، وبدأ الاتصال بهم والتعرف عليهم وعلي مرشدهم الجديد الأستاذ حسن الهضيبي .. عليه رضوان الله ، وكانت تلك المرحلة الثانية وانضم إلي الإخوان رسمياً بعد فترة وتولي منصب رئاسة قسم نشر الدعوة ، وهو من أهم الأقسام الموجودة في الجماعة في هذه الفترة ، وكان ذلك قبل الثورة لا كما ذكرت سيادتكم بعد أن خاب ظنه في رجال الثورة ، حيث قامت بعد انضمام سيد قطب رسمياً إلي جماعة الإخوان .
ثانيا : ذكرت سيادتكم أن الأستاذ سيد قطب كان يتهم عارضيه من العلماء بالسذاجة والغفلة والبله والوهن والضعف النفسي والهزيمة .
بالله عليك يا شيخنا وأستاذنا هل هذه أوصاف تصدر من مثل الشهيد سيد قطب في حق 34 من كبار علماء الأمة ومفكريها منهم حسن البنا والسيد سابق ومحمد أبو زهرة ومصطفي السباعي ؟! .
لقد علمتنا سيادتكم أنه لابد عند أي حكم من الدليل عليه ، فما هو دليل سيادتكم علي أن سيد قطب أهان علماء الأمة بهذه الأوصاف ؟ أما أنا فعندي الدليل المعاكس :
1 - هل يعقل أن ينضم إلي جماعة يري في نؤسسها حسن البنا أنه ساذج وغافل وأبله ومهزوم نفسياً ؟!
أنا أشهد أنه عندما كان يذكر اسم حسن البنا أو حسن الهضيبي أما سيد قطب فإنه كان يعتدل في جلسته احتراماً وإجلالاً لهذين الشيخين الجليلين وعندما كان يحاكم في عام 65 ظل رئيس النيابة يهاجمه لمدة ثلاث أيام وعندما وقف سيد قطب للدفاع لم يدافع عن نفسه ولكنه دافع عن الإمام الشهيد (حسن البنا) ومضابط المحكمة والحاضرون - وأنا منهم - خير شاهد علي ذلك .
2 - من المعلوم لدي بعض الإخوان الذين عاشوا مع الأستاذ الهضيبي في آخر أيامه - عليه رحمة الله - وكانوا يطالبونه باستخلاف أحد الإخوان لمنصب المرشد العام ، كان يردد دائماً " لا أحمل أمانتها حياً أو ميتاً " وردد أكثر من مرة لو كان سيد قطب حياً لاستخلفته .
فهل الأستاذ يستخلف رجلاً ينظر إلي علماء مصر بأنهم بلهاء وسذج وغافلون ؟ حاشا الله .
3 - عندما كان يذكر اسم سيد قطب أمام الأستاذ عمر التلمساني - المرشد العام الثالث - رحمة الله - كان يبكي ويقول : " كنت أتمني أن يمد الله في عمره حتى نستزيد من علمه " فهل كان الأستاذ عمر التلمساني ساذجاً وأبله وغافلاً في نظر سيد قطب ؟! .
4 - إن من عايش الأستاذ سيد قطب عن قرب يشعر بأدبه الجم وتواضعه وعفة لسانه ، وكان كثيراً ما يردد : " إننا نحب الناس جميعاً ولكن نكره معصيتهم ، وهل أحداً تحرص عليه وتشد من أزره وتدله علي الطريق السليم ، وهل نحن نفعل مع الناس غير ذلك ؟ لذلك فنحن نحب كل الناس ولكن نكره المعصية .
هذه هي أخلاقيات شهيد الإسلام سيد قطب كما عايشتها وعايشها كثيرون غيري عن قرب
ثالثاً : أما عن قضية تكفير الناس والمجتمع فأنا أشهد بالآتي : ( والله علي ما أقول شهيد ) : في أثناء محاكمة الإخوان في عام 1965 كان الأستاذ سيد قطب هو المتهم رقم واحد وكنت أنا - فؤاد حسن علي - المتهم رقم 23 وعلي ذلك كنا جميعاً في قفص واحد أثناء المحاكمة وفي إحدى الاستراحات أثناء المحاكمة سألنا الأستاذ سيد أنا والأخ فاروق المنشاوي - رحمه الله - توفي في حادث جنائي في السجن سألناه عن رأيه في تكفير المجتمع والأفراد فيشهد الله أنه أحمر وجهه وقال : من يستطيع أن يقول 'ن هذا المجتمع كافر أو أفراده كافرون ؟! أن شرط الحكم علي كفر أي إنسان هو إقراره بالكفر بمعني أن يبلغه عن الإسلام بلاغاً مبيناً فيقصر علي رفضه وفي هذه الحالة لابد أن نبلغه أن رفضك هذا كفر فيقرٌ بهذا ، وقد سألناه : أليس ما نشر في الجرائد عن الإسلام وعن جماعة الإخوان المسلمين يعتبر بلاغاً مبيناً ؟ فأجاب : بل هو بلاغاً مسيء .
أما عن استعماله كتاب " معالم في الطريق " لفظ المجتمع الجاهلي فشرحه الآتي : إن لفظ الجاهلية جاء في القرآن الكريم في أربعة سور ( آل عمران ، الأحزاب ، الفتح ، المائدة ) ثلاث آيات تعتبر عن جاهلية السلوك ولا تخرج من الملة ، والآية الرابعة العي هي في سورة أل عمران هي التي تخرج عن الملة أي فيها الكفر بالله ونص الآية : ( يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية ) ، فعندما أقول مجتمع جاهلي أو جاهلية القرن العشرين لا أقصد بها آية أل عمران ولكن الجاهلية السلوك ، وقد قال صلي الله عليه وسلم لأبي ذر الغفاري : " أنت امرؤ فيك جاهلية " وذلك في الواقعة المشهورة مع بلال رضي الله عنه .
فهل كان رسول الله يتهم أبا ذر بالكفر ؟ وأظن أن التفسير واضح وفكر سيد قطب في قضية التكفير واضح تماماً .
أخوكم وتلميذكم
فؤاد حسن علي
منهج جديد لقراءة سيد قطب
يمثل سيد قطب علامة فارقة في تاريخ الفكر الإسلامي عامة وتاريخ الأفكار داخل الحركات الإسلامية ، فهو انتقل بالفكر الإسلامي كله نقلة نوعية كبيرة جعلته يمثل ملمحاً فاتحاً في التطور الفكري العام داخل العالم الإسلامي وداخل الحركات الإسلامية الحديثة المعاصرة .
سيد قطب يعتبر أن المجتمع المسلم لا يمكنه أن يتحقق إلا بقيام عصبة مؤمنة تفاصل المجتمعات الجاهلية التي تسود العالم اليوم ثم تتحرك لإزالة هذه المجتمعات .
فعلي المستوي الفكري العام أرسي سيد قطب النواة الأولي لمدرسة أسلمة العلوم الإسلامية والتأسيس لمنهج التعامل مع الجانب الثقافي والفكري والعقدي والحضاري العام في الظاهرة الإسلامية .
وكما كانت مدرسة سيد قطب ثورية في الحركات كانت كذلك في منهج التعامل مع الحضارة الإسلامية ، حيث اعتبر مناهج المستشرقين في تناول الجانب غير المادي بالحضارة الإسلامية ، حيث اعتبر المناهج منحازة وبالتالي يجب استبعادها ، كما قدم الفكر الإسلامي بشكل فيه طابع التميز والاستعلاء الإيماني حيث مصادر خصوصية تتبع من كونه يستلهم قوته من الوحي وهو مصدر أعلي منه قوة .
وهو يطرح الفكر الإسلامي بسعته ومرونته التي تجعله يرفض التلفيق والترقيع ، فهو يتشابه مع غيره في بعض الجزيئات لكنه لا يلتقي مع غيره في بعض الجزيئات لكنه لا يلتقي مع غيره بحيث نقول اشتراكية الإسلام أو ليبرالية الإسلام .
وهو فوق ذلك طرح العدالة الاجتماعية في الإسلام وتكلم عن الإسلام ومشكلات الحضارة ، ولكن الإضافة الكبرى التي جعلت من فكر قطب قامة تناطح الأيام هو استلهام الحركات الإسلامية التي جاءت بعد استشهاده لأفكاره بحيث مثلت هذه الأفكار منبعاً ثورياً متجدداً يدعو للتغيير والحركة التي لا تتوقف ضد الطواغيت الذين ينازعون الله حقه في التشريع والحكم ، لذا أقلقت أفكاره مضاجع النظم التسلطية والاستبدادية ، كما أقلقت بعض الحركات الإسلامية التي تهادن الواقع وتسعي للتكيف معه والتعايش في ظله .
وهنا يؤسس سيد قطب لمواجهة النظم الداخلية التي يري أنها جاهلية ، بيد أنه يقف مع العالم كله وقفة مفاصلة ومواجهة أيضاً حيث يعتبر أن الوطن الإسلامي أو دار الإسلام هي الدار الوحيدة التي يمنحها المسلم ولاءه والعالم كله هو دار حرب يقف المسلم معه موقف حرب أو مهادنة يدفع فيها الجزية .
إن هذا يبرر في الواقع الفزع من أفكارقطب لأنها لا تزال تمثل مصدراً للثورة علي النظم السياسية في الداخل وعلي النظام العالمي الذي يري سيد أنه نظام ضد الإسلام .
ولكن الجديد والمهم هنا والذي أريد إضافته هو أن سيد في كل ما طرحه في الظلال والمعالم ومقومات التصور الإسلامي وخصائصه كان يؤسس لمستوي العقيدة والمبدأ وهي تمثل في النسق الإسلامي موضعاً للإجماع ، ومن ثم فكل جهاد وأطروحات سيد قطب تدور في مستوي العقيدة والمبدأ ولم يتجاوز قط لما نسميه مناطق الاجتهاد .
الضغط الذي مثله النظام الناصري علي جماعة الإخوان وعلي المجتمع المصري كله وعلي الجوفة العلمانية التي دهمها انتفاشه وعلوه مثل السياق الاجتماعي الذي كتب فيه أفكاره :
هو يتحدث عن قضايا عقيدية مثل الحاكمية والتشريع والإيمان والإسلام والوحي ومصادر المرجعية ، وهذه جميعها يطلق عليها الأصوليون " الثابت الذي لا يتغير" فهي مسائل يتلقاها المسلم بالتسليم والطاعة ، أما المسائل المتغيرة التي تكون موضعاً للاجتهاد وإعمال العقل وهي من مظاهر التنوع والتعدد في الشريعة الإسلامية فلم يتعرض لها قطب قط في أطروحته التي يمكن وصفها بأنها أطروحة للأصول في الإيمان والإسلام والجاهلية والحاكمية والتشريع .
وللحق فإن الضغط الذي مثله نظام الرئيس جمال عبد الناصر عليجماعة [الإخوان] وعلي المجتمع المصري كله وعلي الجوفة العلمانية التي دهمها انتفاشه وعلوه مثل السياق الاجتماعي الذي كتب فيه قطب أفكاره .
وانهي أهل السنة إلي أن هناك فرقاً بين القول العام بالكفر الخاص المعين ، فليس القول العام معناه تكفير الأعيان أو الحكم علي الأشخاص ولكنه تعبير عن حالة من سيادة وضع عام ، وهذا ما يجب أن نفهم في سياقه فكر سيد قطب ، لأن التراث الفكري لسيد قطب تراث مهم وكبير ولا يمكن القفز عليه أو تجاوزه ولكنه بحاجة إلي وضع أسس للتعامل معه وضبطه بدلاً من شن هجوم علي شخصه وأفكاره .
حين غالي المسلمون في الإمام مالك وظنوا أنه لا يصيبه الخطأ ووضعوا شخصه وفقهه فوق قدره ألف الشافعي كتابه الرائع " خلاف مالك " ليثبت أنه بشر يصيب ويخطئ .
والواقع أن السياق التاريخي الذي وضعت فيه أفكار سيد قطب كان استثنائيا عكس الهزيمة الساحقة التي عاشتها المجتمعات الإسلامية مع مجيء النظم العسكرية وهيمنة الأفكار العلمانية ، ومع التراجع الحضاري العام للعالم الإسلامي أمام الحضارة الغربية قويت عند سيد قطب فكرة المؤامرة علي العالم الإسلامي التي يقف ورائها اليهود والصليبيين ، وبالطبع فإنه مع الحرب الفكرية التي يجري شنها علي الحركات الإسلامية بعد أحداث سبتمبر/ أيلول تمثل أفكار قطب الثورية مقصداً للهجوم والتهميش باعتبارها خطراً علي المقاصد الغربية ذات الطابع الاستعماري تجاه عالم الإسلام ، لكن هجمة التيارات التي تصف نفسها بالوسطية علي أفكار قطب سوف تفسر علي أنها تعبير عن المخطط الغربي لجعل الصراع والصدام الفكري داخل العالم الإسلامي وليس بين العالم الإسلامي والغرب .
ومن مفارقات القدر الإلهي فينا ، أن يستلهم أفكار قطب تيار الشباب الجديد داخل الصحوة الإسلامية في مصر ، كما تأثر بأفكاره تيار الصحوة الإسلامية في السعودية وأثر بأفكاره عامة الحركات الإسلامية في العالم التي ظهرت في السبعينات .
السياق التاريخي الذي وضعت فيه أفكار قطب كان سياقاً استثنائياً عكس الهزيمة الساحقة التي عاشتها المجتمعات الإسلامية مع مجيء النظم العسكرية وهيمنة الأفكار العلمانية :
ويمثل الإنتاج الفكري لسيد قطب قمة كبيرة ومتميزة في أوساط الحركة الإسلامية بالعالم الإسلامي كله ، وسيظل لهذا الإنتاج دوره الكبير في المستقبل لكنه بحاجة إلي فهم السياق الذي ظهر فيه من ناحية ، وإلي فهم أن ما طرحه كان في المستوي الثابت في النسق التشريعي الإسلامي ، وهذا المستوي له منهج في التعامل معه حيث إنه موضع للإجماع وإنه يتلقي كمبادئ هي جزء من نظام القيم الإسلامية ، وهو في ذلك يختلف عن المستوي المتغير الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان .
ومن يقرأ أبو الأعلى المودودي الذي أثر به سيد قطب ومثل أحد المصادر الأساسية لتحوله الفكري ، سوف يجد أنه في القضايا التي تناول فيها مسائل في المستوي الثابت من النسق التشريعي الإسلامي استخدم لغة أشد قطيعة من قطب ، لكنه في القضايا المتصلة بتفصيلات النظام السياسي مثل تدوين الدستور الإسلامي استخدم لغة مختلفة فيها التسامح والسعة .
بينما كان قطب يري أن تفصيلات النظم في الواقع الإسلامي لا يجوز التعرض لها إلا حين يقوم المجتمع الإسلامي نفسه .
إن الذي كتب الحياة لأفكار سيد قطب هو إخلاصه لها واقتناعه بها وضربه المثل والنموذج للمثقف المكافح الثائر ، ومن المهم الحفاظ عليه كنموذج لإعادة الاعتبار لتقاليد الحضارة الإسلامية التي عرفت نموذج المثقف المكافح الذي يفضل الموت علي الخضوع للحاكم والسير في زفته كأحد غلمانه .
دفاع عن " قطب " أمام محكمة الإخوان:
من الإنصاف أن نعترف للشهيد بثباته المتميز وتماسكه الفريد أمام الغزو الفكري والاجتياح الثقافي ، كما يجب أن نعترف بعبقريته - بين المفكرين الإسلاميين في القرن العشرين - في نظرته الشمولية للمعرفة ، ومن ثم في صنع "الحضارة" وعلاقتها بالعلم التجريبي من ناحية - وهو من صلاحية العقل البشري - والإيمان من ناحية أخري : كبديل إلهي عن حتمية عجز هذا العقل عن التشريع خاصة ، أو الخوض في العلوم الإنسانية عامة ، مما قاده منطقياً في تسلسل معين إلي وصف المجتمع الإنساني المعاصر بـ" المجتمع الجاهلي " ، أو " جاهلية القرن العشرين " ، ومن ثم إلي تشكيكه في جدوى الاجتهاد الفقهي لهذا المجتمع .
بين الجاهلية والتكفير :
إن جاهلية المجتمع لا تعني التصريح بكفره مادمنا التزمنا بالمصطلحات العلمية الشرعية ، ولا أحسب الشهيد إلا قاصداً للبعد عن مصطلح التكفير عمداً والحكم علي " المجموع " - مجموع المجتمع - لا يعني الحكم علي الجميع : جميع الأفراد ، وهي قاعدة مقررة منطقياً وشرعياً .
ولا أعلم أن الشهيد سيد قطب صرح بتكفيره مسلماً بعينه ، وإن يكن .. فقد يكون له سند فيما يكون داخلاً من ذلك تحت مفهوم قوله صلي الله عليه وسلم :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم علي الله " ( صحيح مسلم وللبخاري مثله ) وله مخرج فيما اشترطه فيمن "لا يكون مؤمناً " ، حيث صرح بأن هذا الوصف إنما يلحقهم إذا كان أتباعهم لتشريع العباد لم ( بغير إنكار منهم يثبت منه أنهم لا يتبعوه إلا عن إكراه واقع بهم لا طاقة لهم بدفعه ) ، وهو شرط محوري لا يصح التعتيم عليه ونحن نعرض فكر الشهيد .
وله فسحة فيما اصطلح عليه العلماء من القول بدرجات من الكفر " لا تخرج من الملة " ، وله فسحة في بعض أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم من تكفير لا يخرج من الملة .
أحسب أنه لم يقل الأستاذ الدكتور يوسف القرضاوي بأن سيد قطب كفر مسلماً بعينه ، لأنه يعلم أن من كفر مسلماً فقد باء بها أحدهما ، وتقريظه للشهيد سيد قطب وثناؤه عليه ودعاؤه له لا يسمح بذلك .
أما ما ينسب إلي الشهيد سيد قطب من نقد طائفة من العلماء والمفكرين المحدثين مثل محمد عبده ومحمد مصطفي المراغي ومحمد فريد وجدي ... إلخ فمقبول مبدئياً علي أساس التشكيك ، والتشكيك يعني أن الأفراد يشتركون في أصل المعني ويتفاوتون في حظهم منه : شدة أو ليناً ، قوة أو ضعفاً ، يقظة أو غفلة ، ظهوراً أو خفاء كثرة أو قلة .. إلخ ، وعلي سبيل المثال فقد كان بعض هؤلاء قد انتسب في فترة من حياته إلي الماسونية ، وتعاون بعضهم تعاوناً واضحاً مع رأس الاستعمار كما هو معروف .
الجاهلية والاجتهاد الفقهي
ينبهنا الشهيد إلي سؤال يأتي سابقاً - في تقديره - علي سؤالنا الذي يتردد كثيراً ويبحث كثيراً في المؤتمرات ومجالس البحوث : عمن تصدر الاجتهادات الفقهية والإصلاحية ظ في أي شيء تكون الفتوى الاجتهادية أو الرأي الإصلاحي ؟ وهذا السؤال الذي ينبغي أن يأتي أولاً هو : إلي من توجه هذه الفتاوى والاجتهادات ؟ وذلك إذ نبه الشهيد إلي أن المجتمع الإسلامي - في وقته - كان قد انحط إلي درجة غير مسبوقة ، وهي أنه صار مجتمعاً جاهلياً حسب وصفه - وهو وصف لا يقتضي بالضرورة تكفير الجميع - وأنه قبل الخوض في بعض الاجتهادات الفقهية أو الإصلاحية الجديدة التي تساق لهذا المجتمع يجب أن يتأهل المجتمع للتعامل
معها بإيجابية ، وشرط ذلك أن يخرج المجتمع أولاً من حالة الجاهلية ، وإلا فالتجربة ظهرت أمام أعيننا في اجتهادات تتخبط في موضوعات الاقتصاد والجهاد والسياسة والتعليم والمرأة والفن والثقافة ، وهي لا مفر من أن تتأثر باتجاهات هذا المجتمع في حالته الراهنة : إما أن " تيسر" له جاهليته وهذا هو الغالب ، وإما أن تنحرف عند التنفيذ إلي ما كان مقصوداً عند الفتوى :
أ - ومن ذلك ما حدث في الفتاوى التي أقامت البنوك الإسلامية ، إذ تعامل معها الجمهور بالنفسية الربوية ذاتها التي ذاق فوائدها في البنوك الربوية ن مما أدخل البنوك الإسلامية في مأزق حتمية توزيع الأرباح ، وأصابها بالأنيميا أو التبعية .
ب - من تلك الفتاوى أو الاجتهادات ترديد مصطلح " التكفير " والتكفيريين " و " الفكر التكفيري " وصماً لبعض المفكرين ممن يتهمون بالتطرف - ومنهم الشهيد جدلاً - مما وصل إلي طرح مصطلح : " تعددية النجاة في ذيل " تعددية الأديان " ، ويكاد يضعنا في تصور مغلوط عن دين الإسلام ، وأصبح يوحي بعدم جواز اتهام الكافر كافراً فقد كفر " ، والله سبحانه وتعالي يخاطب من يقول لهم :" لكم دينكم ولي دين " بتصدير قوله تعالي : ( قل يا أيها الكافرون ) .
ج - ومن ذلك محاولات الإصلاح في مؤسسة كالأزهر لن يستقيم حالها ما لم تعد إلي ما كانت عليه في عنفوانها من إمكانية استمداد طلابها من المستوي الأرقى أو الأعلى ذكاء وتعليماً وتديناً ، وهيهات في مجتمع كالذي يصفه الشهيد سيد قطب .
د - والمقاومة والثورة أتكون بشرط كفر الحاكم البواح أم يسبقها العصيان بحكم قوله صلي الله عليه وسلم : " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق " .
هـ -ويمكن تحليل أمثلة أخري في مجالات المرأة والتعليم الديني والدعوة والترفيه والسياسة ... إلخ ، وهي مواطن تتعثر فيها الخطوات أو تطيش لا لمحض العجز عن الاجتهاد الفقهي أو الإصلاحي ، ولكن لأمراض في المجتمع أبعدته عن جو العقيدة والشريعة ، مما كان الدعاة قبل الشهيد وبعده يلحون في وعظهم علي " شدة بعد المجتمع عن الدين " واستحقاقه من ثم الهزيمة والبلاء ، مما سماه الشهيد جاهلية القرن العشرين ، والخطب فيما اصطلح عليه الشهيد يسير لو كنا قد تابعنا مصطلحه بالتوضيح والتفسير .
المسامحة مع عبارات الشهيد :
إنه لا مفر من التسامح أو المصالحة أو الإصلاح !! مع بعض عبارات الشهيد التي تأتي في سياق النحت الأدبي والاسترسال الأسلوبي الرفيع بعيداً عن المصطلحات العلمية والفقهية المقررة : مثل قوله بـ " توقف وجود الإسلام " فهو تعبير ينبغي أن يؤخذ بتجوز ، وهو لا يصلح - إن أردنا الدقة - حتى علي مذهبه في وصف المجتمعات الإسلامية المعاصرة بالجاهلية ، لأنه بالرغم من ذلك فهو - أي الشهيد - يفترض وجود " العصبة الإسلامية " - حسب تعبيره - التي تنطلق منها " عودة الإسلام كما بدأ " كما جاء في الحديث الشريف .
الجاهلية .. حالة موضوعية أم فترة تاريخية :
لفظ الجاهلية من مبتكرات القرآن ، فلم يسمع لدي العرب إلا بعد نزوله ثم استخدام في السنة النبوية ، فكان له حينئذ معني واضح ومحدد ، ولئن شابه الكثير من الغموض والاضطراب في الفكر الإسلامي الحديث .
فلعل ذلك يرجع في كثير من جوانبه إلي انتقاد التأصيل المنهجي الواضح لهذا العموم ، انطلاقاً من دلالته في اللغة العربية أولاً ثم في الأصول المنزلة بعد ذلك .
وفي محاولتنا لتحديد هذا المفهوم يبرز علي جانب كبير من الأهمية وهو هل الجاهلية حالة موضوعية أم فترة تاريخية : انقسم الفكر الإسلامي في الإجابة علي هذا السؤال إلي تيارين :
الأول : نظر إلي الجاهلية باعتبارها فترة انقضت ولا يمكن تكرارها ، فهي تصف حالة مكانية زمانية محددة ، وتنطبق فقط علي المشركين من القبائل العربية قاطني الجزيرة العربية قبل بعثة النبي صلي الله عليه وسلم دون أهل الكتاب من العرب المعاصرين لهم في الزمان .
بعبارة أخري فإن الجاهلية وفقاً لهذا التيار هي الحال التي كان عليها مشركو العرب قبل الإسلام من الجهل بالخالق سبحانه وتعالي ، ومن المفاخرة بالأنساب ، والكبر والتجبر ، وما كان أهل الجاهلية يعتمدونه من أخذ الجار بجاره والحليف بحليفه نحو ذلك .
الثاني : وهو اتجاه في الفكر الإسلامي المعاصر والحديث يذهب إلي اعتبار الجاهلية حالة موضوعية تقوم متى توافرت مجموعة من السمات والخصائص في فرد أو مجتمع أو نظام ، بصرف النظر عن مكانه أو زمانه وقد كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله (1115-1206هـ / 1703-1791) أول من استخدم المفهوم بهذا المعني في رسالة صغيرة الحجم سماها مسائل الجاهلية ، وليس أبا الأعلى المودودي كما هو شائع .
ويلاحظ علي هذا الطور من مسيرة المفهوم ما يلي :
1 - سعة المفهوم بدرجة كبيرة ، فقد بلغت مسائل الجاهلية عند ابن عبد الوهاب مائة مسألة ، وقد كانت كلها بمثابة بدع عقدية وعملية ، وبدع عبادية .
2 - كما أن وصف الجاهلية لحق الكتابيين بالإضافة إلي مشركي العرب أيضاً .
3 - فمفهوم الجاهلية في هذا الطور قد طرح تعبيراً عن واقع الانحراف في حياة المسلمين عن دينهم ، وظل أصحاب هذا الطور يطلقون مسمي الإسلام علي من اتصف بصفة من صفات الجاهلية ، ولا يجعلون منها وصفاً يشمل جميع المسلمين ، فالألوسي في مؤلفه نهاية الأرب في معرفة أحوال العرب يميز بين نوعين من الجاهلية :
الجاهلية المقيدة والجاهلية المطلقة ، ويجعل من الأولي وصفاً يمكن أن يقوم في بعض ديار المسلمين وفي كثير من الأشخاص المسلمين ، أما الجاهلية المطلقة فقد تكون في مصر دون مصر كما هي في دار غير الإسلام ، وقد تكون في شخص دون شخص كالرجل قبل أن يسلم ، وأما في زمان مطلقا فلا جاهلية بعد بعثة النبي صلي الله عليه وسلم فإنه لا تزال من أمته طائفة ظاهرين علي الحق إلي قيام الساعة .
4 - وإذا كان منشأ الجاهلية كحالة موضوعية في الفكر الإسلامي الحديث عربياً ، فإن تطويراتها التالية قد جاءت من الهند ، والذي أرجحه أن المفهوم قد انتقل إليها من خلال طبع رسالة ابن عبد الوهاب في فترة مبكرة بها .
بين الأستاذ الكبير .... والشيخ الجليل :
تابعت باهتمام الحلقات المسلسلة التي نشرت من مذكرات الشيخ القرضاوي - وفقه الله إلي ما فيه الخير - وفيها من المعلومات المهمة والفوائد الشيء الكثير ، ولكن استوقفني كثيراً الحلقتان اللتان نشرتا في عددي الثاني عشر والتاسع عشر من جمادى الأولي ، واللتان تحدث فيهما شيخنا القرضاوي عن فكر الأستاذ سيد قطب بعد أن أثني عليه جميل الثناء كما عودنا الشيخ بدماثة خلقه وحبه لمن سبقه في الطريق إلي الله ، وذكر شيخنا أن حبه لسيد قطب لا يمنعه من أن يخالفه في جملة توجهاته الفكرية الأخيرة ، وذكر شيخنا قاعدة ذهبية في هذا الأمر أنه لا لوم عليه في هذا : العصمة ليست لأحد بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم وأن ما يذكره هو من باب النصيحة في الدين ، والأعذار إلي الله وبيان ما يعتقد أنه الحق ، وأنه كل يؤخذ من كلامه ويُرد عليه إلا الرسول صلي الله عليه وسلم .
وعملاً بنفس تلك القاعدة الذهبية أناقش شيخنا القرضاوي فيما وصل إليه من استنتاجات بخصوص فكر الأستاذ سيد قطب ، وأقول "استنتاجات " لأن الشيخ لم يُكتب له وللأستاذ سيد أن يتقابلا بعد خروج الأستاذ من السجن عام 1964 وحتى ألقي القبض عليه مرة أخري في العام التالي ثم إعدامه ، وبالتالي لم يتحقق مباشرة من مرادات الأستاذ سيد ولم يحادثه مباشرة ، وإنما هي قراءات قارئ ، له أن يقرأها بفهم معين مهما كان ثاقباً، ولغيره أن يقرأها قراءة أخري ، والبينة لمن استطاع أن يشد الكتابات بعضها إلي بعض فيفهم مراد الكاتب منها فيما غمض أو التبس ، دون أن يطلق للظنون العنان .
يقول الشيخ القرضاوي إن أخطر توجهات الأستاذ سيد الجديدة هي ركونه إلي التكفير والتوسع فيه ، بحيث يفهم القارئ من ظاهر كلامه في مواضيع كثيرة ومتفرقة في (الظلال) وفي (المعالم) أن المجتمعات كلها قد أصبحت جاهلية وهو لا يقصد بالجاهلية جاهلية العمل والسلوك فقط ، بل جاهلية العقيدة .
وإنها الشرك والكفر بالله !
ويمضي الشيخ في قراءته لفكر الشهيد سيد قطب ، وهي التي تلتقي مع قراءات الخوارج المتطرفين لنفس الفكر ، فهؤلاء قرأوه نفس القراءة فتذرعوا بفكر الرجل لتكفير المجتمعات ، وهكذا قرأها الشيخ القرضاوي مثلما قرأوها فانتقد الرجل ، والحق - كما أري - أن كتابات سيد قطب بريئة من تلك القراءة ، ولقد طبعت كتبه عشرات الطبعات وخاصة ( في ظلال القرآن ) ووزعت منها مئات الآلاف من النسخ صارت نبراساً للآلاف من السائرين في طريق الله وأكثرهم من الشباب ، فلم يكفروا المجتمع ، وأنا أعرف العشرات ممن يقتنون كتب سيد قطب وقرأوها مثني وثلاث ، فلم تصل إليهم تلك القراءة المتعسفة ، ولذلك كم كان بليغاً أن يتحدي الأستاذ أحمد منصور - كما ذكر الشيخ القرضاوي نفسه - أن يأتي أحد من كتابات سيد قطب بكلمة التكفير للمجتمعات الإسلامية ، وقبل شيخنا التحدي
وقال إنه سيأتي بنصوص أوضح من الشمس في رابعة النهار ، فإذا به يأتي بنصوص ليس فيها كلمة الكفر مطلقاً ، وهذا يؤكد ما وصل إليه جل من يقرأون لسيد قطب أن الرجل لم يقصد التكفير ولا استخدام لفظته مطلقاً ، ولو أراده لاستخدام لفظته لو مرة واحدة !! تحدث سيد قطب عن انقطاع الأمة المسلمة منذ قرون ، وأن الأمة البعيدة عن كتاب ربها وتحيا حياة جاهلية ( فهذا ليس إسلاماً ، وليس هؤلاء مسلمين ) تلك الفقرة هي قصارى ما أتي به شيخنا القرضاوي ، ولو رده إلي باقي كتابات سيد قطب لعلم مراده منها ، ففي اللغة العربية كما يعلم شيخنا يكون هناك محذوف بين السطور ولكنه ظاهر في المعني ، وكلام سيد قطب فيه محذوف واضح عندما يقول :
" هذا ليس إسلاماً " فالمقصود هذا ليس الإسلام كما أراد الله ، وليس المقصود أنهم كفرة وتجد هذا الأسلوب البلاغي في أحاديث كثيرة للرسول صلي الله عليه وسلم ، يقول الرسول : " والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن ، ولا يأمن جاره بوائقه " فهل يفهم من ذلك أن نكفر من يؤذي جاره ؟! ويقول الرسول
صلي الله عليه وسلم : " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " فهل نفهم من ذلك كفر كل من يؤذي المسلمين بلسانه ويده ، أم أن المحذوف هنا واضح ، وأن المقصود ( لا يؤمن حق الإيمان ) و( المسلم الحق هو من سلم المسلمون من لسانه ويده ) ؟! .
ويؤكد هنا إلي كلام سيد قطب نفسه في الظلال ، ففي فسير قوله تعالي : ( وكذلك جعلناكم أمة وسطاً ) يقول : " وما يعوق هذه الأمة اليوم عن تأخذ مكانها الذي وهبه الله لها ، إلا أنها تخلت عن منهج الله الذي اختاره الله لها ، واتخذت لها مناهج مختلفة ليست هي التي اختارها الله لها واصطبغت بصبغات شتى ليست صبغة الله واحدة منها ، والله يريد لها أن تصطبغ بصبغاته وحدها " ، وهكذا يقرر سيد قطب أن أمة الإسلام موجودة لكنها معوقة لأنها ابتعدت عن منهج الله ، وهذا الإقرار الصريح ينفي كل مزاعم التكفير ، أما انقطاعها عن الدنيا كما ذكره في موضع آخر فهو انقطاعها كأمة قائدة ملتزمة بدينها كما يريد الله لها أن تكون ، ولو كان سيد قطب يقصد انقطاع الإسلام وإحلاله بالكفر لما كان للفقرة السالفة الذكر معني ، وهي من أواخر ما كتب سيد قطب فلم ينسخها رأي جديد ، والمعروف أن الرجل أعاد مراجعة الأجزاء الأولي من الظلال وهذه منها ، فهي من آخر ما راجعه رحمه الله .
وانقطاع أمة الإسلام بماهيتها التي أرادها الله لها شيء معلوم أخبر به رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم يبتدعه سيد قطب ، قال رسول الله صلي الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه أحمد : " تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون خلافة علي منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون ملكًا عاضاً فيكون ما شاء الله أن يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إن شاء الله أن يرفعها ، ثم تكون خلافة علي منهج النبوة " وقال صلي الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد " لينقضن عرى الإسلام عروة عروة فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها ، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة " وقد تتبع الأستاذ محمد قطب خط الانحراف عن منهج الله في مؤلفه العظيم ( واقعنا المعاصر ) وكيف أن حكم الخلافة الراشدة حل محله الملك الأموي بتجاوزاته ، تلك التجاوزات التي تعاظمت في عهود العباسيين وما تلاها حتى صارت قواعد راسخة باعدت بين الأمة وبين ما أراده الله منها وأراده لها ، حتى لم تعد هي أمة الإسلام التي تحدث عنها القرآن وحضت عليه سنة الرسول صلي الله عليه وسلم وأفني الصحابة أعمارهم في سبيل إقامتها .
وما أتي سيد قطب بجديد ، والغلو ليس في كلماته وإنما في قراءتها ، فإن التطرف وفكر الخوارج تصنعه عوامل كثيرة ، والخوارج في كل زمان ومكان يعمدون إلي النصوص فيحملونها ما لم تحمل ، ويئولونها علي ما لم تتجه ، فيخرجون بها عن معناها ، وهكذا فعلوا مع كتابات سيد قطب كما فعل أسلافهم الخوارج الأولون الذين كانت كل استدلالاتهم من خلال آيات القرآن يؤولونها علي ما يريدون ، فهل كان العيب في القرآن أم في تأويلاتهم ؟! ويكفي أن نراجع كتاب المستشار سالم البهنساوي ( فكر سيد قطب في ميزان الشرع ) حتى نتيقن من براءة الرجل وفكره من تلك
القراءات ، أسأل الله أن يهدينا إلي ما فيه الخير ، وكل التحية لشيخنا الجليل .
في حب سيد قطب
لا يشك إنسان منصف ومحق في أن سيد قطب الأديب الفاضل والشيخ الشهيد كان كله للإسلام عاش به وعاش من أجله فهو شخصية إسلامية بناءة في فكرها وتوجهها .. ما كان إلا أن يعيد الإسلام مجده المسلوب المنهوب حتى يعود الحكم الراشد إلي الأرض ويسود العدل بين العباد كما كان في عهد النبي صلي الله عليه وسلم ، وعهد الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ..
لقد عاش سيد قطب لدعوة الإسلام خالصاً مخلصاً لها جاءته الشهادة فلم يتأخر أو يتوان أو يرجع ، بل كان شجاعاً جريئاً مقدماً .. تقدم بثبات وخطى نحو بلاء الدنيا ليلقي ربه راضياً مرضيا يشكو له ظلم العباد والطواغيت .
لقد اتجه سيد لدعوة الإخوان المسلمين عندما رأي بعينه فرحة الشعب الأمريكي لمقتل حسن البنا لأنه كان مصدر خطر علي الاستعماريين الغربيين وعملائهم في الشرق .. فاتجه إلي دعوة الحق والقوة والحرية وحارب بكتاباته النارية مظاهر الفساد السياسية والاجتماعية والاقتصادية وهاجم المفسدين ودعا إلي الإصلاح علي الإسلام .
لقد كان يدعو إلي منهاج الإسلام الصحيح علي بينة .. ففكره سلفي خالص خالٍ من الشوائب والرواسب .
ولم يقم بتكفير الناس وإنما قال في ذلك : " إن مهمتنا ليست إصدار الأحكام علي الناس ولكن مهمتنا تعريفهم بحقيقة ( لا إله إلا الله ) لأن الناس لا يعرفون مقتضاها وهو التحاكم إلي شريعة الله " .
كانت حياة سيد قطب منقسمة إلي قسمين أو مرحلتين ، الأولي : هي التي غلب عليها الطابع الأدبي من نقد وشعر وقصص وأدب والمرحلة الثانية : وهي تغيير جزري عن الأولي وفيها اتجه سيد إلي العطاء الفكري الإسلامي ، وإذا كانت ثورة يوليو أعدمت سيد قطب فإنها لم تعدم كتبه أو مقالاته ومؤلفاته وأفكاره القوية البناءة الأصيلة .. فمازالت حية بيننا من نور تضيء الطريق إلي الحيارى والمريدين .. يقول سيد : إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها دبت فيها الحياة ( الروح ) وكتبت لها الحياة .
ويقول سيد : " إن دعوة الإخوان المسلمين ، دعوة مجردة من التعقب ، وإن الذين يقاومونها هم المتعقبون أو هم الجهلاء الذين لا يعرفون ما يقولون " ويقول أيضاً : " الحقيقة الكبرى لحسن البنا هي البناء ، وإحسان البناء ، بل عبقرية البناء " .
وأخيراً .. أقول : سيظل دم الشهيد سيد قطب ومن قبله حسن البنا وإخوانهم من بعدهم علي الدرب ، ستظل دماؤهم لعنة علي من سفكوها من رجال الثورة .. تطاردهم حتى يثأر لهم القدر من الطغاة والظالمين والله مستجيب لدعاء المظلومين .
عن سيد قطب والإخوان والمحرقة:
سيظل سيد قطب (1906-1966 ) علماً من إعلام الفكر والعقيدة والإسلام علي مدار التاريخ الإنساني كله ، وقد رصد قلمه لأداء الكلمة الحرة الصادقة مهما كانت مرارتها ، وكان قوى العارضة ، حاضر الذهن ، واسع الثقافة ، قديراً علي الأداء مؤمناً بأن الكلمة عبث وضياع إن لم تنتصر للقيم الإنسانية عقيدة ، أو فكراً ، أو أدباً .
استدراك .. :
تعرضنا فيما سبق لما قيل عن الأستاذ سيد قطب من اتهامات واعتراضات لبعض أفكاره التي ذكرها ورددها كثيراً في كتبه خاصة في ظلال القرآن ومعالم في الطريق مثل موضوعات الجاهلية ، الحاكمية ، والمفاصلة ، وعرضنا ما ذكره المعترضون ، مع الشرح والتعليق إذا كان يقتضي الأمر لذلك .
وأما الأمر الذي كثر الحديث عنه من نقد وتعريض ، بل وهجوم حتى من بعض فصائل رجال الدعوة والحركة الإسلامية هو اتهامه بالتكفير للأفراد أو الناس ، وذكرنا كلام المعترضين مع التعقيب عليه عند الضرورة ، وأخذ هذا الموضوع حيزاً أكبر من غيره من الموضوعات حتى تتضح الحقيقة ، وتظهر الصورة لمن يريد الوصول لجوهر الموضوع ولب المشكلة ، بعيداً عن التعصب والتحزب للموضوع أو للأشخاص .
ونعرض هنا عن هذا الموضوع كلاماً لسيد قطب نفسه ، خاصة ما ذكره في آخر كتبه ، وما ذكره شقيقه نقلاً عنه ، أو تعليقاً وتعقيباً عليه ، وأخيراً فقرات من مقال للدكتور جعفر شيخ إدريس :-
(أ )" يقول الأستاذ محمد قطب في مقدمة كتاب " مقومات التصور الإسلامي " تعليقاً علي كلام شقيقه : " من هذه النصوص التي توسعنا في إثباتها يتبين بوضوح أنه يشترط لإطلاق حكم الكفر فيما يتعلق بقضية الحاكمية - إرادة التحاكم إلي الطاغوت .
والرضي بغير حكم الله .
وهذا هو الذي اتفق عليه علماء المسلمين في جميع الأمصار وجميع الأعصار .
وبخاصة علماء السلف من هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم .
أما الحكم علي هذا الجيل من الناس . هل هم مريدون للتحاكم إلي الطاغوت ، رضوان بغير حكم الله ، أم لا تتوافر فيه الإرادة والرضي .. فمسألة قد تختلف فيها وجهات النظر ، ولكن العبرة ليست بهذا الاختلاف .
وإنما العبرة بالقواعد الشرعية التي تبني عليها الأحكام " .
ومن ه1ذا يتضح أن اتجاه سيد قطب ، بل وشقيقه محمد هو رفض إطلاق الكفر ، ولا تطلق إلا عند إرادة التحاكم إلي الطاغوت ، والرضي بغير حكم الله ، وبدون الإرادة والرضي لا يحكم علي الشخص ، بل حتى عند توافر ذلك ليست هذه قضيته ولا اهتمامه ، كما ورد عنه في غير الشخص ، بل حتى عند توافر ذلك ليست هذه قضيته ولا اهتمامه ، كما ورد عنه في غير الموضوع من هذا الكتاب .
(ب ) ويقول الأستاذ محمد قطب كذلك في مقدمة كتابه : " مقومات التصور الإسلامي " للأستاذ سيد : " وحتى حين قيل إن الشقيق - في دعوته - يجافي أمر الله في استخدام " الحكمة والموعظة الحسنة في الدعوة "! وأمره تعالي باستخدام " القول اللين " .. لِلَّهِ .
وهكذا نري أن سيد قطب لم يقل بالتكفير وأن هذا الأمر كان شغله الشاغل واهتمامه ، بل كان شاغله ودأبه الدعوة إلي الله بلطف ولين وإظهار الحق بحسم ، لا إخفائه ، ولا تشغله قضية الحكم علي الناس بالكفر ، كما يؤكد ذلك شقيقه الأستاذ محمد ، واقتفي أثره من بعده حتى أورد فصلاً لذلك في كتابه " واقعنا المعاصر " بعنوان " قضية الحكم علي الناس " .
(ج) تكلمنا فيما سبق عن رفض فكرة إطلاق حكم التكفير علي الناس ، أو أحد الناس ، وأن هذا الموضوع ليس شغل الدعاة ولا دأبهم وذكرت ما يتعلق بهذا الموضوع عن الأستاذ سيد .
ونود أن نذكر هنا كلمة تعقيب علي ذلك ، وهي أنه رغم عدم الاهتمام والانشغال بهذا الموضوع سلباً أو إيجاباً ، نقول ما وجه الغرابة إذا حكم شخص علي آخرين بالكفر ، وكان عنده من الأدلة لذلك ومن العلم الشرعي والضوابط ما يؤكد ويدمغ ذلك الشخص بذلك ، ألم يقل الله سبحانه : ( قل يا أيها الكافرون ) وحتى يكون الميزان متزناً ، ننظر هل ما قاله شخص بتكفير غيره صحيحا أم لا ، تكرار ذلك لهذا المبدأ وعدم أخذ مساحة كبيرة لذلك ، بل الاهتمام بالدعوة وعرض الحق بالحكمة والموعظة الحسنة .
ونعرض هنا كلاماً للأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس - رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة - من مقال له منشور بعنوان " دين لا تكفير فيه ليس بدين " ، يقول فضيلته : : " ... نحن مأمورون بأن ندعو بالحكمة والموعظة الحسنة ، لكن الذي نحن مأمورون بالدعوة إليه هو سبيل ربنا ، وهو أمر واضح المعالم ، بين الحدود .
فنحن نفهم السبيل إلي الدعوة بالتي هي أحسن ، لكننا لا نفهم من الدعوة بالحكمة وبالتي هي أحسن أن نميع حقائق هذا الدين ، أو نطمس معالمه ، أو نزيل الحدود التي تميزه عن غيره فيكون شيئاً هلامياً لا يعرف أوله من آخره ، ولا يعثر فيه علي ما يميزه عن غيره ، فلا يمكن لذلك أن يحكم علي إنسان بأنه داخل أو خارج عنه ، وما هكذا يكون الدين المنزل من عند الله ، بل ما هكذا يكون أي مذهب : حقاً كان أم باطلاً .
لابد لكل مذهب من معالم تحدد هويته ، وتميزه عن غيره ، حتى يقال عن إنسان منتم إليه أو ليس منتم ، وإنه مؤمن به أو كافر به .
وإن المذهب الذي ليس فيه ما يميزه عن غيره ليس بمذهب ، والإسلام دين منزل من عند الله مرتكز علي مجموعة من الحقائق ، من آمن بها كان مسلماً ، ومن أنكرها أو سخر منها أو استهزأ بها كان كافراً ، فإمكانية الحكم علي إنسان بالكفر أمر لازم لهوية الدين .
فالدين الذي لا إكفار فيه ليس بدين ، لأنه لا هوية له إذا لم تكن للدين هوية ولم تكن له معالم فإلي أي شيء تكون الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة؟ .
نضيف أيضاً أنه علينا أن نبتعد عن تكفير المعين بأي حال ، ولا بأس - في نظري - من التحدث بالكفر كقواعد عامة دون تعيين لأشخاص كالحكم علي المستهزئ بالدين ، أو من يسب الرسول ، أو يهين المصحف أو يسجد لصنم وما شابه ذلك ، مع وضع الضوابط الشرعية وعدم الانشغال أو الاهتمام بهذا الموضع كما ذكرنا ، والاهتمام بعرض الإسلام بصورته النقية الصافية : ( قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )
وبعد...
وبعد هذا الكلام الذي ذكرناه هنا من منصف محايد ، ومعارض منتقد بأسلوب هادئ يتميز بأدب الحوار ، وبين معارض مهاجم لا يتصف بأدب الحوار ، بل قد يكون دافعه الهوى والتجريح ، وهذا ولله الحمد شخص واحد ذكرناه هنا ومثله نفر قليل ، وقام بهذه الحملة من عدة سنوات متأولاً كلام سيد قطب علي غير مقصده ومحمله ، مثل كلامه علي وحدة الوجود .
ولقد ذكرنا بعد ذلك كلام المؤمنين والمناصرين وهم كثير ولله الحمد ، اخترنا منهم عدة أشخاص في الطرفين .
هذا ولعلنا قد أدينا بعض المقصود ، وبيان الحقيقة الغائبة أو الغامضة ، وحتى تكون صورة سيد قطب ناصعة ، وكتبه نبراسًا لمن يريد أن يهتدي بها وينهل من معينها الصافي ، ولعل الله سبحانه يلحقنا وإياه في جنات النعيم مع النبيين والصديقين والشهداء الصالحين وحسن أولئك رفيقا ، اللهم آمين .


للمزيد عن الأستاذ سيد قطب

كتب ودراسات في سيرتة


مؤلفاتة


مقالات متعلقة


متعلقات أخري

وصلات خارجية
مقالات متعلقة

.
تابع وصلات خارجية
مقالات متعلقة


متعلقات


شهادات


بعض أقوال أهل العلم فى الشهيد سيد قطب

.
وصلات فيديو

.

Aucun commentaire: