samedi 9 août 2014

الزيدية الجزء 1





بحوث في الملل والنّحل - ج ٧

المؤلف:

الشيخ جعفر السبحاني

المحقق: المترجم: الموضوع : الفرق والمذاهب الناشر: مؤسسة الامام الصادق عليه السلام 


بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين ، والصّلاة والسلام على نبيّه وصفيّه محمّد وآله الطيبين الطاهرين.
أمّا بعد : فهذا هو الجزء السابع من موسوعتنا في الملل والنحل نقدّمه إلى القرّاء الكرام راجين منهم النقد والاِصلاح ، فإنّ العصمة للّه ولمن عصمه.
ونخصّ هذا الجزء ببيان مذهب الزيدية المنتمية إلى الاِمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ذلك الاِمام الثائر الّذي ضمَّ إلى ثورته العارمة بوجه الظلم والطغيان ، التجافيَ عن الدنيا ، والزهدَ في صفرها وبيضها ، والتهجّد آناء الليل وغياهبه بالصلاة وتلاوة القرآن ، وكان فقيهاً في الدين ، محدّثاً في الاِسلام ، مفسّـراً للقرآن ، ولم يكن له في الفقه منهج كما لم يكن له في مجال الأصول والعقائد مذهب خاص سوى ما عليه العترة الطاهرة عليهم‌السلام عامة ، من أُصول التوحيد والعدل وبطلان الجبر والتشبيه ، وقد نشرت منه آثار في الحديث والتفسير والفقه وسيوافيك تفصيلها.
نعم تأثّر المذهب الزيدي الحاضر بمبادىَ الاعتزال كثيراً كما تأثّر بفقه ببعض المذاهب الأربعة ، وأمّا ما هو السبب لتأثّره بآراء المعتزلة في العقائد ،
٣
وتفتّحه مع مدرسة الرأي في الفقه ، فيحتاج إلى بسط في الكلام وسنوقفك على جليّة الحال في المستقبل.
وبما أنّ لزيد الشهيد بين الأمة الاِسلامية ، وعند أئمة العترة الطاهرة مكانة خاصة ، ومنزلة كبيرة لم تكن لسائر أئمة الزيدية ، من الحسنيّين والحسينيّين الذين شايعوا زيداً في الخروج على الخلفاء ، ومارسوا خطّه في الجهاد ، ـ وكانت مساعي الجميع مشكورة ـ لم نجد بدّاً من فتح بابين ، يتكفّل أحدهما ، لبيان حياة زيد وآثاره وجهاده ونضاله ، ويختص الآخر ، ببيان حياة أئمة الزيدية والاِيعاز إلى الدول الّتي أسّسوها ، والأصول التي اختاروها في مجال العقيدة ، والمنهج الذي سلكوه في استنباط الأحكام الشرعية إلى غير ذلك من مباحث جانبيّة ، تسلّط الضوء على الموضوع.
ولأجل إيضاح تاريخ زيد وأتباعه قسمنا الكتاب إلى قسمين :
١ ـ ما يرجع إلى زيد من ولادته إلى شهادته وذلك في ضمن أربعة عشر فصلاً.
٢ ـ يتكفل ببيان السائرين على دربه وما يمت إليهم بصلة.
وقبل أن ندخل في صلب الموضوع نشير إلى بعض الفرق التي خلقتها السياسة في أوساط الشيعة في عصر الأئمّة الثلاثة : السجّاد والباقر والصادق عليهم‌السلام بوجه موجز ، مع الاِشارة إلى الفرق الواقعية وإن كانت قليلة.


المؤلف
٢٩ ربيع الثاني ١٤١٥

٤

القسم الأوّل :

وإليك مجمل ما فيه من فصول :

الفصل الأوّل : فرق الشيعة بين الحقائق والأوهام.
الفصل الثاني : في حياة زيد في عصر الأئمّة الثلاثة عليهم‌السلام.
الفصل الثالث : في خطبه ، وكلماته ، وأشعاره ، ومناظراته ، وعبادته.
الفصل الرابع : في مشايخ زيد وتلاميذه في الحديث والتفسير.
الفصل الخامـس : الآثار العلمية الباقية عن زيد.
الفصل السادس : دراسة مسند الاِمام زيد سنداً ومضموناً.
الفصل السابع : هل كان زيد معتزلي المبدأ والفكرة.
الفصل الثامن : هل كان زيد أماماً في الأصول والعقائد ، والفروع والأحكام.
الفصل التاسع : هل دعا إلى نفسه أو دعا إلى الرضا من العترة.
الفصل العاشر : موقف أئمّة أهل البيت من خروج زيد وجهاده.
الفصل الحادي عشر : الخط الثوري المدعَم من قبل أئمّة أهل البيت.
الفصل الثاني عشر : موقف علماء الشيعة من زيد الشهيد.
الفصل الثالث عشر : الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين عليه‌السلام.
الفصل الرابع عشر : ثورة زيد كانت استمراراً لثورة الحسين عليه‌السلام.
٥
٦

الفصل الأوّل

فرق الشيعة
بين الحقائق والأوهام
إنّ من ثمرات وجود النبي المعصوم بين الأمّة هو رأب الصدع بعد ظهوره بينهم ، وفصل القول ، عند اندلاع النزاع ، والقضاء على الفتنة في مهدها ، وكان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يلمّ الشمل ، ويُزيل الخلاف عند بروزه فلأجل ذلك كان اختلاف الصحابة في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير موَثر في تفرق الأمّة ، لأنّه صلوات اللّه عليه وآله بحنكته ، واعتقاد الأمّة بعصمته ، كان يأخذ بزمام الأمور ، ويكسح أسباب الشقاق من جذوره.
فعندما اعترض عليه ذو الخويصرة عند توزيع الغنائم بين المسلمين بقوله : إعدل يامحمّد فإنّك لم تعدل ، فقال عليه الصلاة والسلام : « إن لم أعدل ، فمن يعدل » ثم أعاد اللعين وقال : هذه قسمة ما أُريد بها وجه اللّه ، فعند ذاك لم يجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بُدّاً من أن يعرّفه للأمّة الاِسلامية وقال : « سيخرج من ضئضىَ هذا الرجل قوم يمرقون من الدين ، كما يمرق السهم من الرمية » (١).
__________________
١ ـ مضت اسناد الرواية في : ٥ / ٤٨٠ ـ ٥٠٢ ، من هذه الموسوعة
٧
وليست قصة ذي الخويصرة وحيدة في بابها ، فقد حدثت حوادث وكوارث في زمانه كادت تفرّق الأمّة ولكنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قضى عليها بعلمه وحلمه وحكمته ، ولا يقصر حديث الاِفك (١) عن قصة ذي الخويصرة ، أو قعود بعض الصحابة عن الخروج مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جيش العسرة ، أو ما حدث في أيّام مرضه ، حيث طلب دواة وقرطاساً حتى يكتب كتاباً لاتضل الأمّة بعده ، فخالف بعضهم ، ووافق البعض الآخر ، فقضى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الاختلاف وقال : « قوموا عنّي ، لا ينبغي عندي التنازع » (٢). إلى غير ذلك من حوادث مريرة في عصر الرسالة ، فقد استقبلها القائد الكبير برحابة صدر في غزواته وفي إقامته في المدينة.
وقد كانت وحدة الأمّة الاِسلامية رهن قائد مطاع معصوم ، لا يخضع لموَثرات الهوى ، وتكون الأمّة مأمورة باتّباعه قال تعالى : ( وَما كَانَ لِمُوَْمِنٍ وَلا مُوَْمِنَةٍ إذا قَضَى اللّهُ وَرَسُولُهُ أمْراً أنْ تَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أمرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَقَد ضَلَّ ضَلالاً مُبِينا ) (الأحزاب ـ ٣٦).
ولئن تفرقت الأمّة إلى فرقتين أو أكثر فإنّما تفرّقوا بعد رحيله ، وسرُّ الاختلاف يكمن في تناسي الأمّة الاِمام المعصوم الذي نصبه النبي مرجعاً عند الخلاف ، غير أنّ المهتمّين بأمر الرسول ونصوصه تعلّقوا به تعلّقاً دينياً ولأجل ذلك قلّ الاختلاف بينهم أو لم يتحقق إلى عصر الصادقين عليهما‌السلام وما يذكر من الفرق في عهدهما ، لا صلة لهم بالاِسلام فضلاً عن التشيّع وإنّما كان التفرّق آنذاك ارتداداً عن الاِسلام وخروجاً عن الدين كما سيتضح.
__________________
١ ـ اقرأ تفصيل القصة وتشاجر الحيّين : الأوس والخزرج في مسجد النبي بحضرته في صحيح البخاري : ٥ / ١١٩ باب غزوة بني المصطلق ، والسيرة النبوية : لابن هشام : ٣ / ٣١٢. وذكرها الشهرستاني في الملل والنحل في فصل بدايات الخلاف : ١ / ٢١.
٢ ـ لاحظ صحيح البخاري : ١ / ٢٢ ، كتاب العلم ، و ٢ / ١٤ ، والملل والنحل : للشهرستاني : ١ / ٢٢ عند البحث في بدايات الخلاف.
٨
يقول أبو حاتم أحمد بن حمدان الرازي صاحب كتاب الزينة : « كانت طائفة من (١) الشيعة قبل ظهور زيد بن علي مجتمعين على أمر واحد ، فلمّا قتل زيد انحازت منهم طائفة إلى جعفر بن محمّد وقالوا بإمامته » (٢).
إنّ الشيعة هم الذين شايعوا علياً وولديه الحسن والحسين عليهم‌السلام وكانوا متمسّكين بإمامتهم وقيادتهم ولم يبرز أيُّ اختلاف ديني بينهم إلى زمن الاِمام الصادق عليه‌السلام ، لأنّ الاعتقاد بوجود المعصوم ، كان يدفعهم إلى سوَاله ورفع الاِبهام عن الملابسات في وجوه المسألة ، وأمّا تاريخ الكيسانية الناجمة في عصر الاِمام السجاد عليه‌السلام فسندرسها حسب التاريخ وكلمات أصحاب المقالات.
هذا ما يلمسه الاِنسان من قراءة تاريخ الشيعة ، ولكن نرى أنّ أصحاب المقالات يذكرون للشيعة فرقاً كثيرة ، وهم بين غلاة وغيرها.
قال الشهرستاني تبعاً لعبد القاهر البغدادي (٣) : والشيعة خمس فرق : كيسانية ، وزيدية ، وإمامية ، وغلاةوإسماعيلية (٤). ثم ذكر لكل فرقة طوائف كثيرة ولعل الغاية من إكثار الفرق تطبيق حديث الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في انقسام أُمّته إلى ثلاث وسبعين فرقة ، عليهم.
ونحن نقف أمام هذا التقسيم وقفة غير طويلة ، فنذكر أمرين :
الأوّل : إنّ الغلاة ليسوا من الشيعة ، ولا من المسلمين ، وإنّ عدهم من الطوائف الاِسلامية جناية على المسلمين والشيعة ، وعلى فرض كونهم فرقاً ، فلم يكن لهم أتباع ولم يكتب لهم البقاء إلاّ أياماً قلائل.
__________________
١ ـ كذا في النسخة ، ولعل لفظة « من » زائدة أو بيانيّة.
٢ ـ أبو حاتم الرازي : كتاب الزينة : ٢٠٧.
٣ ـ عبد القاهر البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢١. تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد.
٤ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٤٧.
٩
الثاني : إنّ الكيسانية لم تكن فرقة نجمت بين الشيعة ، وإنّما خلقتها أعداء أئمة أهل البيت ، ليستغلّوها ويقضوا بها على تماسك الشيعة ووحدتهم ، وأكثر ما يمكن أن يقال في المقام : إنّه كانت هناك شكوك وأوهام عرت بعض البسطاء ثم أُزيلت ، فتجلى الصبح لذي عينين ، وإليك الكلام في كلا المقامين :
* * *

الغلاة ليسوا من المسلمين :

قد ذكر أصحاب الفرق فرقاً للشيعة باسم الغلاة ومع أنّهم يصرّحون بأنّهم ليسوا من فرق المسلمين ولكن يذكرونها فرقاً للشيعة ويحملون أوزار الغلاة على الشيعة. والشيعة طائفة من المسلمين فكيف يصح عدّ الغلاة منهم!!.
قال البغدادي : « فأمّا غلاتهم الذين قالوا بإلهية الأئمّة وأباحوا محرّمات الشريعة وأسقطوا وجوب فرائض الشريعة كالبيانية ، والمغيرية ، والجناحية ، والمنصورية ، والخطابية ، والحلولية ، ومن جرى مجراهم فماهم من فرق الاِسلام وإن كانوا منتسبين إليه » (١).
وقال أيضاً : الكلام في ذلك (الفرق الاِسلامية) يدور على اختلاف المتكلمين فيمن يعد من أُمّة الاِسلام وملّته ـ إلى أن قال : ـ فإن كان على بدعة الباطنية ، أو البيانية ، أو المغيرية ، أو المنصورية ، أو الجناحية ، أو السبئية ، أو الخطابية من الرافضة ، أو كان على دين الحلولية أو على دين أصحاب التناسخ أو على دين الميمونية ، أو اليزيدية من الخوارج أو على دين الخابطية ، أو الحمارية من
__________________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٣ ـ ٢٤.
١٠
القدرية ، أو كان ممن يحرّم شيئاً ممن نصّ القرآن على إباحته باسمه ، أو أباح ما حرّم القرآن باسمه فليس هو من جملة أُمّة الاِسلام ـ إلى أن قال : ـ فالفرق المنتسبة إلى الاِسلام في الظاهر مع خروجها عن جملة الأمّة ، عشرون فرقة هذه ترجمتها :
سبئية ، وبيانية ، وحربية ، ومغيرية ، ومنصورية ، وجناحية ، وخطّابية ، وغرابية ، ومفوضية ، وحلولية ، وأصحاب التناسخ ، وخابطية ، وحمارية ، ومقنّعية ، ورزامية ، ويزيدية ، وميمونية ، وباطنية ، وحلاّجية ، وعذافرية ، وأصحاب إباحة ، وربما انشعبت الفرقة الواحدة من هذه الفرق أصنافاً كثيرة (١).
أقول : إنّ البحث في هذا الفصل في كتب الملل والنحل هو التحدث عن الفرق الاِسلامية ولا تكون الفرقة ، إسلامية إلاّ إذا كان المقسم (الاِسلام) موجوداً فيها ، فالاِسلام هو الشهادة على توحيده ورسالة نبيّه وحشر الخلق يوم المعاد ، والتصديق بما جاء به النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على وجه الاِجمال ، فمن أنكر واحداً من هذه ، فليس بمسلم ولا يحمل عقيدة إسلامية ، وهذه الفرق التي جاء بها الأشعري في كتاب مقالات الاِسلاميين وتبعه البغدادي في الفرق بين الفرق ليسوا من الاِسلام ولا الشيعة بشيء وإنّما هي فرق مرتدة عن الاِسلام ولايمكن الحكم عليهم بالاِسلام ، فالأولى حذف هوَلاء المرتدين عن كتب الملل والنحل ، والبحث عنهم تاريخياً فقط.
لا شك أنّ هوَلاء تنزلوا من علياء الاِسلام إلى حضيض الكفر وما جرَّتهم إلى ذلك إلاّ مطامع وشهوات استهوتهم إلى هذه المقالات الباطلة ومن حسن الحظ أنّه لم تكتب عليهم حياة معروفة إنّما كانت أيّاماً قلائل قطعت معرّتَهم حمامُهم فلم يبق منهن ذكر إلاّ بين أسطر التاريخ.
على أنّ قسماً منهم قاموا بهذه الدعايات من قبل السياسات الزمنية روماً
____________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٣٢.
١١
لتشتيت كلمة الشيعة أو المسلمين ، لكن سرعان ما قلب عليهم الدهر ظهر المجنّ لما تمكنت السياسة من الحصول على غاياتها المنشودة فأُخذوا وقتلوا تقتيلاً.
هكذا يعامل مع كل عميل يعمل لصالح المستكبر. على أنّه لم يكن لمنهجهم معتنق قابل للذكر إلاّ شذاذ الآفاق أو ساقة الناس فمن مال إليهم لغاية دنيوية أو لشكوك وأوهام عرت لهم لا يتجاوز عددهم عدد الأصابع إلاّ شيئاً طفيفاً حتى أصبح الجميع في حديث الأمس الدابر.
والذي يتحمّل وزر ذكر هوَلاء من الفرق الاِسلامية الشيعية هو الشيخ المتكلّم الجليل الحسن بن موسى النوبختي (١) الشيعي من أعلام القرن الثالث المتوفّى حوالي عام ٣١٠ هـ في كتابه « فرق الشيعة » ثم الشيخ الأشعري (٢) في كتابه « مقالات الاِسلاميين واختلاف المصلّين » ، وتبعهما من جاء بعدهما كالبغدادي في « الفرق بين الفرق » (٣) والاِسفرائيني في « التبصير » (٤) والشهرستاني في « الملل والنحل » (٥).
وإنّي لأضن بالحبر والورق على تسطير عقائد هوَلاء وكفرياتهم الذين قضى عليهم الدهر وشرب ، ولكن لأجل إيقاف القارىَ على إجمال ما كانوا يعتقدونه نذكر أسماء الفرق مع التعريف الاِجمالي لمبادئهم حتى يقف على صدق ما قلناه.
قال الأشعري : فمنهم الغالية وإنّما سمّوا الغالية لأنّـهم غلوا في علي عليه‌السلام وقالوا فيه قولاً عظيماً وهم خمس عشرة فرقة :
____________
١ ـ الحسن بن موسى النوبختي : فرق الشيعة : ٣٦ ، وما بعدها.
٢ ـ الاِمام الأشعري : مقالات الاِسلاميين واختلاف المصلين : ٥ ، وما بعدها.
٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٢٥ ، وما بعدها.
٤ ـ الاِسفرائيني : التبصير : ١٢٣ ، وما بعدها.
٥ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٥٠ ، وما بعدها.
١٢

الأولى : البيانية :

وهوَلاء يزعمون أنّ أبا هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية (١) نص على إمامة بيان بن سمعان التميمي ونصبه إماماً ، يقولون بأنّ اللّه عزّ وجلّ على صورة الاِنسان وأنّه يهلك كلّه إلاّ وجهه وادّعى « بيان » أنّه يدعو (كوكب) الزهرة فتجيبه وأنّه يفعل ذلك بالاسم الأعظم فقتله خالد بن عبد اللّه القسري ، وقيل : إنّ كثيراً منهم يثبت لبيان بن سمعان ، النبوة (٢).
وقال النوبختي : فكان « بيان » تبّاناً يتبن التبن في الكوفة وأخذه خالد بن عبد اللّه القسري هو وخمسة عشر رجلاً من أصحابه ، فشدّهم بأطنان القصب وصبّ عليهم النفط في مسجد الكوفة وألهب فيهم النار فأفلت منهم رجل فخرج بنفسه ثم التفت فرأى أصحابه تأخذهم النار فكرّ راجعاً إلى أن ألقى نفسه في النار فأُحرق معهم (٣).
أقول : إنّ البيانية ـ على فرض صحّة وجودها ـ مشتقة من القول بإمامة محمد ابن الحنفية بعد شهادة السبط الأكبر الحسين بن علي سلام اللّه عليهما وانتقال الاِمامة منه إلى ابنه أبي هاشم ، فلما مات أبو هاشم اختلفوا في وصيّه إلى أقوال فمن قائل بأنّه ابن أخيه الحسن بن علي بن محمد الحنفية ، إلى آخر بأنّه أخوه علي بن محمد ، وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن فالاِمامة عندهم في بني الحنفية لاتخرج إلى غيرهم ، إلى ثالث أنّه عبد اللّه بن عمرو بن الكنديّ ، وأنّ الاِمامة خرجت من بني هاشم وتحرّكت روح أبي هاشم إلى عبد اللّه الكندي ، إلى رابع بأنّه أوصى إلى بيان ابن سمعان التميمي (٤).
__________________
١ ـ كل فرقة تنتمي إلى أبي هاشم فهي من فروع الكيسانية الممسوخة والفرق الثلاث الأول : البيانية ، الجناحيّة ، والحربية ، من هذا الصنف.
٢ ـ الاِمام الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٥ ـ ٦.
٣ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٢٨ ، طبع بيروت ، تحقيق محمد صادق بحر العلوم ، ولاحظ الفرق بين الفرق : ٢٣٦.
٤ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٥١ ـ ١٥٢.
١٣

الثانية : الجناحية :

أصحاب عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر ذي الجناحين ، يزعمون أنّ عبد اللّه بن معاوية كان يدّعي أنّ العلم ينبت في قلبه كما ينبت الكماة والعشب وأنّ الأرواح تناسخت وأنّ روح اللّه جلّ اسمه كانت في آدم ثم تناسخت حتى صارت فيه ، قال : وزعم أنّه ربّ وأنّه نبي فعبدته شيعته وهم يكفرون بالقيامة ويدعون أنّ الدنيا لاتفنى ويستحلّون الميتة والخمر وغيرهما من المحارم ويتأوّلون قول اللّه عزّ وجلّ : « لَيسَ عَلَى الّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إذا ما اتَّقَوا » (١).
هذا ولم يذكر الأشعري اشتقاقهم من أي فرقة ولكن جاء به النوبختي ، وقال : « فرقة قالت أوصى أبو هاشم عبد اللّه بن محمد الحنفية إلى عبد اللّه بن معاوية بن عبد اللّه بن جعفر بن أبي طالب الخارج بالكوفة ، وهو يومئذ غلام صغير فدفع الوصية إلى صالح بن مدرك وأمره أن يحفظها حتى يبلغ عبد اللّه بن معاوية فيدفعها إليه فهو الاِمام وهو العالم بكل شيء حتى غلوا فيه وقالوا : إنّ اللّه عزّ وجلّ نور وهو في عبد اللّه بن معاوية قتله أبو مسلم في حبسه » (٢).

الثالثة : الحربية :

هم أصحاب عبد اللّه بن عمر بن حرب ، ويسمّون الحربية ، يزعمون أنّ روح أبي هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية تحولت فيه وأنّ أبا هاشم نصّ على إمامته (٣). ويرجع جذور هذه الفرق إلى القول بإمامة محمد الحنفية ثم أبي هاشم كما تقدم.
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٦. والآية ٩٣ من سورة المائدة.
٢ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٣٢ ، ولاحظ الفرق بين الفرق : ٢٤٥.
٣ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٦ ، لاحظ الفرق بين الفرق : ٢٤٣.
١٤

الرابعة : المغيرية :

هوَلاء أتباع المغيرة بن سعيد العجلي وكان يظهر في بدء أمره موالاة الاِمامية ويزعم أنّ الاِمامة بعد علي والحسن والحسين عليهم‌السلام إلى سبط الحسن محمد (المعروف بالنفس الزكية الذي توفي عام ١٤٥ هـ) وزعم أنّه المهدي المنتظر ، ثم إنّه أظهر مقالات فاسدة منها دعواه النبوة ، دعواه علمه بالاسم الأعظم ، وزعم أنّه يحيي بها الموتى ويهزم بها الجيوش ومنها إفراطه في التشبيه وذلك أنّه زعم أنّ معبوده رجل من نور وله أعضاء وقلب ينبع منـه الحكمة ـ إلى أن قال : ـ وكان المغيرة مع ضلالاته يأمر بانتظار محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي (١).
ويظهر من النوبختي أنّه كان يقول بإمامة الأئمّة إلى أبي جعفر الباقر عليهم‌السلام (٥٧ ـ ١١٤ هـ) فلما تـوفي أبو جعفر محمد بن علي ، دعا المغيـرة إلى إمامة محمـد بن عبـد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب عليهم وأظهر ما أظهر فبرئت منه أصحاب أبي عبد اللّه جعفر بن محمد عليهما‌السلام ورفضوه فزعم أنّهم رافضة وأنّه هو الذي سمّاهم بهذا الاسم وقال : إنّ خالد بن عبد اللّه القسري أخذ المغيرة فسأله عن عقائده فأقر بها ودعا خالداً إليها فاستتابه خالد فأبى أن يرجع عن قوله فقتله وصلبه (٢).

الخامسة : المنصورية :

أصحاب أبي منصور ، يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام أبو منصور وأنّ أبا منصور ، قال : آل محمد هم السماء والشيعة
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٩.
٢ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٦٣ ، وفيما ذكره تأمل واضح على أنّ خالد بن عبد اللّه القسري من عُمال آل أُمية ، فكيف قتل من كان يدعو بالنفس الزكية الذي خرج في أوائل العباسيين وقتل عام ١٤٥ هـ؟!. إلاّ أن تكون له دعوة خفيّة بعد استشهاد زيد وابنه يحيى عام ١٢٦ هـ.
١٥
هم الأرض وأنّه هو الكسف الساقط من بني هاشم تأويلاً لقوله سبحانه : « وإن يَرَوْا كِسفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحَابٌ مَركُوم » (الطور ـ ٤٤) وقد ذكر الأشعري عقائدهم الفاسدة التي لا تمت صلة بالديانات الاِلهية (١).
قال البغدادي : وكفرت هذه الطائفة بالقيامة والجنّة والنار وتأوّلوا الجنّة على نعيم الدنيا والنار على محن الناس في الدنيا واستحلّوا مع هذه الضلالة خنق مخالفيهم ، واستمرت فتنتهم على عادتهم إلى أن وقف يوسف بن عمر الثقفي والي العراق في زمانه على عوارت المنصورية فأخذ أبا منصور العجلي وصلبه ، وهذه الفرقة كالمتقدمة عليها غير معدودة من فرق الاِسلام لكفرها بالقيامة والجنّة والنار (٢).

السادسة : الخطابية المطلقه :

أصحاب أبي الخطاب بن أبي زينب ، يقولون : إنّ الاِمامة في أولاد عليّ إلى أن انتهت إلى جعفر الصادق ، ويزعمون أنّ الأئمّة كانوا آلهة ، وكان أبو الخطاب يزعم أوّلاً أنّ الأئمّة أنبياء ، ثم زعم أنّهم آلهة ، وأنّ أولاد الحسن والحسين كانوا أبناء اللّه وأحباءه ، وكان يقول : إنّ جعفراً إله ، ولما بلغ ذلك جعفراً عليه‌السلام لعنه وطرده. وكان أبو الخطاب يدّعي بعد ذلك ، الاِلهية لنفسه وزعم أتباعه أنّ جعفراً إله غير أنّ أبا الخطاب أفضل منه وأفضل من علي (٣).
وخرج أبو الخطاب على أبي جعفر فقتله عيسى بن موسى في سبخة الكوفة ، ثم إنّ الذين جاءوا بعد أبي الخطاب انقسموا إلى فرق ذكرها الأشعري وقد عبر عن موَسس الفرقة بالخطابية المطلقة لتتميز عن الفرق اللاحقة.
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٩ ـ ١٠.
٢ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٤٣.
٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٤٧.
١٦

السابعة : الخطابية المعمرية :

يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي الخطاب رجل يقال له « معمر » وعبدوه كما عبدوا أبا الخطاب. قال : واستحلّوا الخمر والزنا واستحلّوا سائر المحرمات ودانوا بترك الصلاة (١) وقد لعنه الاِمام الصادق عليه‌السلام وسيأتيك نصه.

الثامنة : الخطابية البزيعية :

أصحاب بزيع بن موسى يزعمون أن جعفر بن محمد عليه‌السلام هو اللّه ، وزعموا أن كل ما يحدث في قلوبهم وحي ، وأنّ كل موَمن يوحى إليه ، وزعموا أنّ منهم من هو خير من جبرئيل وميكائيل وأن أحدهم إذا بلغت عبادته ، رفع إلى الملكوت (٢).

التاسعة : الخطابية العميرية :

أصحاب عمير بن بيان العجلي ، وهذه الفرقة تكذب من قال منهم : إنّهم لا يموتون ويزعمون أنّهم يموتون ولا يزال خَلَفٌ منهم في الأرض أئمة أنبياء وعبدوا جعفراً كما عبده اليعمريون وزعموا أنّه ربّهم وقد كانوا ضربوا خيمة في كناسة الكوفة ثم اجتمعوا إلى عبادة جعفر فأخذ يزيد بن عمر بن هبيرة « عمير بن البيان » فقتله في الكناسة وحبس بعضهم (٣).

العاشرة : الخطابية المفضلية :

لأنّ رئيسهم كان صيرفياً يقال له المفضل يقولون بربوبية جعفر كما قال
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١١ ، الرازي : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين : ٨٧ ، البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٤٨.
٢ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٢ ، النوبختي : فرق الشيعة : ٤٣.
٣ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٢ ، النوبختي : فرق الشيعة : ٤٤.
١٧
غيرهم من أصناف الخطابية وانتحلوا النبوة والرسالة وإنّما خالفوا في البراءة من أبي الخطاب لأنّ جعفراً أظهر البراءة منه (١).

الحادية عشرة :

من أصناف الغالية يزعمون أنّ روح القدس هو اللّه عزّ وجلّ وكانت في النبي ثم في علي ثم في باقي الأئمّة الاثني عشر ، ولم يذكر الاِمام الأشعري اسم موَسس الفرقة كالفرقة التالية (٢).

الثانية عشرة :

يزعمون علياً هو اللّه ، ويكذبون النبي ويشتمونه ويقولون : إنّ علياً وجَّه بهِ ليبين أمره فادّعى الأمر لنفسه (٣).
الثالثة عشرة :
هم أصحاب « الشريعي » يزعمون أنّ اللّه حلَّ في خمسة أشخاص في النبي وفي علي والحسن وفي الحسين وفي فاطمة فهوَلاء آلهة عندهم وليس يطعن أصحاب الشريعي على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... (٤).
الرابعة عشرة : السبائية :
أصحاب عبد اللّه بن سبأ ، يزعمون أنّ علياً لم يمت وأنّه يرجع إلى الدنيا قبل يوم القيامة فيملأ الأرض عدلاً كما ملئت جورا (٥).
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٣ ، البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٥٠.
٢ ـ ٣ ـ ٤ ـ ٥ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٤ ، ١٥ ، ١٦ ، ولاحظ في الوقوف على عقائد هذه الفرق كتب أصحاب المقالات والملل والنحل ، وكأنّ المتأخرين عن الأشعري عمدوا إلى تحرير ما ذكره ، ولانطيل المقام بذكر المصادر.
١٨
وقد تعرفت في الجزء السادس على أنّ عبد اللّه بن سبأ على النحو الذي يذكره أصحاب التواريخ والمقالات أُسطورة تاريخية.
الخامسة عشرة : المفوضة :
يزعمون أنّ اللّه عزّ وجلّ وكّل الأمور وفوّضها إلى محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه أقدره على خلق الدنيا فخلقها ودبرها وأنّ اللّه لم يخلق من ذلك شيئاً ، ويزعمون أنّ الأئمّة ينسخون الشرائع ويهبط عليهم الملائكة ... (١).
ونحن بدورنا نعلّق على هذه الفرق التي ذكروها فرقاً للشيعة وبالتالي فرقاً للاِسلام بأمرين :
الأوّل : من المظنون جداً ـ أنّ هذه الفرق على فرض التأكد من وجودها في عصورها ممّا صنعتها يد السياسة الأثيمة لتشويش سمعة الأئمّة الطاهرين عليهم‌السلام بين المسلمين ومحق روعتهم ، وقد استعانت في ذلك ، برجال كانوا غامرين في حبّ التصدر والفخفخة ، وجنون العظمة ، ولما كانت دعوتهم على خلاف العقل والنقل ، والفطرة الاِنسانية ، لم يُقم المجتمع الاِسلامي لهم وزناً ولم يعيشوا إلاّ أيّاماً قلائل وقد قامت أئمة أهل البيت بدورهم على إيقاظ الأمّة عند استفحال الفساد وتبرّأوا من أصحاب هذه المقالات وعقائدهم. وسيوافيك كلامهم في حقّ هوَلاء الغلاة فانتظر.
الثاني : نحن نعاتب المشايخ : النوبختي والأشعري والبغدادي والاِسفرائيني ، والشهرستاني والرازي وغيرهم من كتّاب تاريخ العقائد ، وأصحاب المقالات ، حيث نسبوا هوَلاء إلى الشيعة مع تصريحهم بأنّهم غلاة كفار ، لايمتّون إلى الاِسلام والمسلمين بصلة ، وأقلُّ ، كلمة يمكن أن يقال في حقهم إنّ الجنون
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٦.
١٩
والمجون ، وحب الجاه والمقام أسفت بهوَلاء إلى هوة المذلة واللعنة ثم الفناء المطلق فليس لأحد أن يطعن الشيعة بانتماء هوَلاء إليهم ، فما أحسن قول القائل :
غيري جنى وأنّا المعاقب فيكم

فكأنّني سبابة المتندِّم
« قُلْ هذِهِ سَبِيلي أدعُوا إلى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أنا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبحانَ اللّهِ وَما أنا مِنَ المُشرِكِين » (يوسف ـ ١٠٨).
وليس انتماوَهم إلى الشيعة إلاّ كانتماء النصارى القائلين بالتثليث إلى المسيح عليه‌السلام وهل يوَخذ البريء بجرم المعتدي؟!. لا واللّه.

موقف الأئمّة من الغلاة :

إنّ موقف أئمة أهل البيت من هوَلاء المرتدّين موقف النبي الأكرم من مشركي عصره والأعصار الآتية فقد طردوهم ، ولعنوهم وكفّروهم وحذّروا شيعتهم من مكائدهم ومصائدهم ، وإليك قسماً من الروايات الواردة في حقّ سعيد بن المغيرة ، وأبي الخطاب ، ولفيفاً من رجال العيث والفساد الذين كانوا يتظاهرون بالانتماء إلى أهل البيت عليهم‌السلام ولم يكونوا منهم بشيء.
وبما أنّ كتاب الرجال للشيخ الكشي الذي يعد من علماء القرن الرابع أحسن كتاب وضع في مجال التوثيق والجرح على أساس الروايات الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام في حقّ الرواة ، نقتبس الروايات من هذا الكتاب وإن كان لها مصادر أُخرى.
٢٠

المغيرة بن سعيد في روايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام :

١ ـ روى الكشي عن جعفر بن عيسى وأبي يحيى الواسطي قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « كان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه‌السلام فأذاقه اللّه حرّ الحديد ».
٢ ـ أخرج الكشي عن عبد اللّه بن مسكان عمّن حدثه من أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سمعته يقول : لعن اللّه المغيرة بن سعيد إنّه كان يكذب على أبي ، فأذاقه اللّه حرّ الحديد. لعن اللّه من قال فينا ما لا نقوله في أنفسنا ، ولعن اللّه من أزالنا عن العبودية للّه ، الذي خلقنا وإليه مآبنا ومعادنا وبيده نواصينا.
٣ ـ أخرج الكشي عن محمد بن عيسى بن عبيد : أنّ بعض أصحابنا سأل يونس بن عبد الرحمن وأنا حاضر ، فقال له : يا أبا محمد ما أشدَّك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا فما الذي يحملك على ردّ الأحاديث؟ فقال : حدثني هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : لا تقبلوا علينا حديثاً إلاّ ما وافق القرآن والسنّة أو تجدون معه شاهداً من أحاديثنا المتقدمة ، فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه اللّه دسّ في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يُحدِّث بها أبي فاتقوا اللّه ولاتقبلوا علينا ما خالف قول ربّنا تعالى وسنّة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّا إذا حدّثنا قلنا قال اللّه عزّ وجلّ وقال رسول اللّه.
٤ ـ أخرج الكشي عن هشام بن الحكم أنّه سمع أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول : « كان المغيرة بن سعيد يتعمَّد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه ، وكان أصحابه المستترون في أصحاب أبي ، يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها إلى المغيرة فكان يدسّ فيها الكفر والزندقة ويُسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثّوها في الشيعة فكل ما كان في كتب أصحاب أبي من الغلو فذاك مما دسّه المغيرة في كتبهم ».
٢١
٥ ـ أخرج الكشي عن علي بن الحسان عن عمّه عبد الرحمن بن كثير قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام يوماً لأصحابه : « لعن اللّه المغيرة بن سعيد ولعن اللّه يهودية كان يختلف إليها يتعلّم منها السحر والشعبذة والمخاريق ، إنّ المغيرة كذب على أبي فسلبه اللّه الاِيمان وإنّ قوماً كذبوا عليّ ، ما لهم ، أذاقهم اللّه حرّ الحديد ، فو اللّه ما نحن إلاّ عبيد الذي خلقنا واصطفانا ، مانقدر على ضرّ ولا نفع إن رُحمنا فبرحمته وإن عُذّبنا فبذنوبنا ، واللّه مالنا على اللّه من حجّة ولامعَنا من اللّه براءة وإنّا لميتون ومقبورون ، ومنشرون ، ومبعوثون ، وموقوفون ، ومسوَولون ، ويلهم مالهم ، لعنهم اللّه آذوا اللّه وآذوا رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قبره وأمير الموَمنين وفاطمة والحسن والحسين وعليّ بن الحسين ومحمد بن علي ، وها أنا ذا بين أظهركم ، لحم رسول اللّه وجلد رسول اللّه ، أبيت على فراشي خائفاً وجلاً مرعوباً ، يأمنون وأفزع ، وينامون على فرشهم ، وأنا خائف ساهر ، وَجِل اتقلقل بين الجبال والبراري أبرأ إلى اللّه ممّا قال فيّ الأجدع البّراد عبد بني أسد أبو الخطاب ، لعنه اللّه ، واللّه لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب الاّ تقبلوه فكيف وهم يروني خائفاً وجلاً ، استعدى اللّه عليهم وأتبرّأ إلى اللّه منهم أشهدكم إنّي امروَ ولدني رسول اللّه وما معي براءة من اللّه ، إن أطعته رحمني وإن عصيته عذّبني عذاباً شديداً أو أشد عذابه ».
٦ ـ أخرج الكشي عن سلمان الكناني : قال : قال لي أبو جعفر عليه‌السلام : هل تدري ما مثل المغيرة؟ قال : قلت : لا ، قال : مثله مثل بلعم بن باعور ، قلت : ومن بلعم قال : الذي قال اللّه عزّ وجلّ : « الّذِي آتَيناهُ آياتِنَا فَانسَلَخَ مِنْها فَأتْبَعَهُ الشَّيطانُ فَكانَ مِنَ الغاوين » (١).
إلى غير ذلك من الروايات التي وردت في ذمّه ونقلها الكشي في رجاله (٢).
__________________
١ ـ الأعراف : ١٧٥.
٢ ـ الكشي : الرجال : ١٩٤ ـ ١٩٨.
٢٢

أبو زينب وأتباعه في روايات أئمة أهل البيت :

قال الكشي في رجاله : محمد بن أبي زينب اسمه مقلاص بن الخطاب البرّاد الأجدع الأسدي ويكنّى أبا إسماعيل ويكنّى أيضاً أبا الضبيان :
١ ـ أخرج الكشي عن عيسى بن أبي منصور قال : سمعت أبا عبد اللّه عليه‌السلام يقول وذكر أبا الخطاب فقال : اللهم العن أبا الخطاب فإنّه خوّفني قائماً وقاعداً وعلى فراشي ، اللهم أذقه حرّ الحديد.
٢ ـ أخرج الكشي عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : سألته قول اللّه عزّ وجلّ « هل أُنَبِّئَكُم على مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطين * تَنَزَّلُ علَى كُلِّ أفّاكٍ أثِيم » (١) قال : هم سبعة : المغيرة بن سعيد ، وبيان ، والصائد النهدي ، والحارس الشامي ، وعبد اللّه بن حارث ، وحمزة بن عمار البربري وأبو الخطاب (٢).
٣ ـ أخرج الكشي عن بشير الدهان عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : كتب أبو عبد اللّه عليه‌السلام إلى أبي الخطاب بلغني أنّك تزعم أنّ الزنا رجل ، وأنّ الخمر رجل ، وأنّ الصراط رجل ، وأنّ الصيام رجل ، والفواحش رجل ، وليس هو كما تقول ، أنا أصل الحقّ ، وفروع الحقّ طاعة اللّه ، وعدوّنا أصل الشر وفروعهم الفواحش ، وكيف يطاع من لا يعرف وكيف يعرف من لا يطاع »؟
٤ ـ أخرج الكشي عن الحمادي رفعه إلى أبي عبد اللّه أنّه قيل له : روي عنكم أن الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجال؟ فقال : « ما كان اللّه عزّ وجلّ ليخاطب خلقه بما لا يعلمون ».
__________________
١ ـ الشعراء : ٢٢١ ـ ٢٢٢.
٢ ـ جرى الاِمام عليه‌السلام في تفسير الآية بهوَلاء السبعة ، مجرى الجري وتطبيق الكلّـي على مصاديقه الكثيرة.
٢٣
٥ ـ أخرج الكشي عن سدير عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : كنت جالساً عند أبي عبد اللّه وميسر عنده ونحن في سنة ثمان وثلاثين ومائة فقال ميسر بياع الزطي : جعلت فداك عجبت لقوم كانوا يأتون معنا إلى هذا الموضع فانقطعت آثارهم وفنيت آجالهم ، قال : « ومن هم؟ » قلت : أبو الخطاب وأصحابه ، فكان متكئاً فجلس فرفع اصبعه إلى السماء ثم قال : « على أبي الخطاب لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين فاشهدوا باللّه أنّه كافر ، فاسق مشرك وأنّه يحشر مع فرعون في أشد العذاب غدواً وعشياً ، ثم قال : أما واللّه إنّي لانفس (١) على أجساد أُصيبت معه النار ».
٦ ـ أخرج الكشي عن المفضل بن يزيد قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام وذكر أصحاب أبي الخطاب والغلاة فقال لي : « يامفضل لاتقاعدوهم ولاتواكلوهم ولاتشاربوهم ولاتصافحوهم ولاتوارثوهم ».
٧ ـ أخرج الكشي عن مرازم قال : قال أبو عبد اللّه : « قل للغالية توبوا إلى اللّه فإنّكم فسّاق كفّار مشركون ».
٨ ـ أخرج الكشي عن أبي بصير قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « يا أبا محمد ابرأ ممن يزعم أنّا أرباب » قلت : برىَ اللّه منه ، فقال : « ابرأ ممن زعم أنّا أنبياء » قلت : برىَ اللّه منه.
٩ ـ أخرج الكشي عن قاسم الصيرفي قال : سمعت أبا عبد اللّه يقول : « قوم يزعمون أنّي لهم إمام واللّه ما أنا لهم بإمام ، مالهم لعنهم اللّه كلما سترتُ ستراً هتكوه ، هتك اللّه ستورهم ».
١٠ ـ أخرج الكشي عن الحسن الوشاء عن بعض أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « من قال بأنّنا أنبياء فعليه لعنة اللّه ومن شك في ذلك فعليه لعنة اللّه ».
__________________
١ ـ نَفسَ به وعليه : ضنَّ به.
٢٤
١١ ـ أخرج الكشي عن زرارة عن أبي جعفر قال : سمعته يقول : « لعن اللّه « بيان التبّان » وأنّ « بياناً » لعنه اللّه يكذب على أبي أشهد أنّ أبي علي بن الحسين كان عبداً صالحاً ».
١٢ ـ أخرج الكشي عن أبي يحيى الواسطي قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « كان بيان يكذب على علي بن الحسين عليه‌السلام فأذاقه اللّه حر الحديد ، وكان المغيرة بن سعيد يكذب على أبي جعفر عليه‌السلام فأذاقه اللّه حرّ الحديد.
وكان محمد بن بشير يكذب على أبي الحسن موسى فأذاقه اللّه حرّ الحديد.
وكان أبو الخطاب يكذب على أبي عبد اللّه فأذاقه اللّه حرّ الحديد والذي يكذب عليّ ، محمد بن فرات » قال أبو يحيى : وكان محمد بن فرات من الكتاب فقتله إبراهيم بن شكلة.
١٣ ـ أخرج الكشي عن عبد اللّه بن سنان قال : قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إنّا أهل بيت صادقون لا نخلو من كذّاب يكذب علينا فيسقط صدقنا بكذبه علينا عند الناس ، كان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أصدق البرية لهجة وكان مسيلمة يكذب عليه ، وكان أمير الموَمنين عليه‌السلام أصدق من برأ اللّه ، من بعد رسول اللّه وكان الذي يكذب عليه ويعمل في تكذيب صدقه بما يفتري عليه من الكذب عبد اللّه ابن سبأ لعنه اللّه ».
ذكر أبو عبد اللّه عليه‌السلام الحارث الشامي وبيان فقال : كانا يكذبان على علي بن الحسين عليه‌السلام ، ثم ذكر المغيرة بن سعيد وبزيعاً والسريّ وأبا الخطاب ومعمراً وبشار الأشعري وحمزة البريري وصائد النهدي فقال : « لعنهم اللّه إنّا لا نخلو من كذاب يكذب علينا أو عاجز الرأي ، كفانا اللّه موَنة كل كذّاب ، وأذاقهم اللّه حر الحديد ».
٢٥
١٤ ـ أخرج الكشي عن ابن أبي يعفور قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه‌السلام فاستأذن عليه رجل حسن الهيئة ، فقال : اتق السفلة فما تقارّت في الأرض حتى خرجت فسألت عنه فوجدته غالياً.
إلى غير ذلك من الروايات التي جمعها الكشي في رجاله (١) وقد اكتفينا بهذا المقدار وإلاّ فالروايات التي تذم هوَلاء الغلاة الكفّار كثيرة. وقد أشار الاِمام في ثنايا كلامه أنّهم كانوا بصدد تشويه سمعة الأئمّة بالكذب عليهم حيث قال : فيسقط صدقنا بكذبهم علينا عند الناس.
__________________
١ ـ الكشي : الرجال : ٢٩٠ ـ ٣٠٨. ، ولقد قابلنا الأحاديث مع الطبعة التي حقّقها العلاّمة المصطفويّ ، ومع ذلك لا تخلو أيضاً من هفوات.
٢٦
الكيسانية والاِبهامات المحدقة بها
قد علمت أنّ الغلاة ليسوا من المسلمين ولا من الشيعة ولا يصح عدّهم من الفرق الاِسلامية ، وإنّ هذا الخطأ صدر من النوبختي والأشعري وجاء الباقون فساروا على سيرتهما. نعم يظهر من كتب الفرق أنّ فرقاً للشيعة برزت إلى حيّز الوجود قبل ثورة زيد بن علي. وفرقاً أُخرى ظهرت بعد ثورته. ولعل القسم الأوّل منحصر في الكيسانية التي يدعي أصحاب المقالات أنّها ظهرت بعد ثورة الحسين عليه‌السلام أيام إمامة ولده زين العابدين عليه‌السلام ، وبدورنا نذكر بعـض نصوصهم حول الكيسانية. ثم نرجع إلى تحرير المتحصل منها ، ولأجل ذكر النصوص في بدء البحث نستغني عن الاِرجاع إلى المصادر عند التحليل فنقول :
١ ـ قال الأشعري : الكيسانية وهي إحدى عشرة فرقة ، وإنّما سمّوا كيسانية لأنّ المختار الذي خرج وطلب بدم الحسين بن علي ودعا إلى محمد ابن الحنفية كان يقال له كيسان ، ويقال إنّه مولى لعلي بن أبي طالب ـ رضي اللّه عنه ـ.
الفرقة الأولى من الكيسانية يزعمون أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام نصّ على إمامة ابنه محمد ابن الحنفية ، لأنّه دفع إليه الراية بالبصرة.
والفرقة الثانية : منهم يزعمون أنّ علي بن أبي طالب نصّ على إمامة ابنه الحسن بن علي وأنّ الحسن بن علي نصّ على إمامة أخيه الحسين بن علي وأنّ الحسين بن علي نصّ على إمامة أخيه محمد بن علي وهو محمد ابن الحنفية.
والفرقة الثالثة : من الكيسانية هي الكربية أصحاب أبي كرب الضرير
٢٧
يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية حيّ بجبال رضوى ، أسد عن يمينه ونمر عن شماله يحفظانه ، يأتيه رزقه غدوة وعشية إلى وقت خروجه. ومن القائلين بهذا القول كُثَيِّـر الشاعر وفي ذلك يقول :
ألاّ إنّ الأئمّة من قريش

ولاة الحقّ أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه

هم الأسباط ليس بهم خفاء
فسبط ، سبطُ إيمانٍ وبرّ

وسبطٌ غيّبته كربلاء
وسبط لا يذوق الموت حتى

يقود الخيل يَقْدُمها اللواء
تغيّب لا يُرى فيهم زمان

برضوى عنده عسل وماء
الفرقة الرابعة : يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية إنّما جعل بجبال رضوى عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.
والفرقة الخامسة : يزعمون أنّ محمد ابن الحنفية مات وأنّ الاِمام بعده ابنه أبو هاشم : عبد اللّه بن محمد الحنفية (١).
والفرقة السابعة : قالت إنّ الاِمامة بعد موت أبي هاشم لابن أخيه الحسن بن علي بن محمد ابن الحنفية.
والفرقة الثامنة : قالت إنّ أبا هاشم أوصى إلى أخيه علي بن محمد ، وعليّ أوصى إلى ابنه الحسن ، فالاِمامة عندهم في بني الحنفية لاتخرج إلى غيرهم (٢).
والفرقة التاسعة : يزعمون أنّ الاِمام بعد أبي هاشم محمد بن علي بن عبد اللّه
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٨ ـ ٢٠ ، وقد سقط من الطبع الفرقة السادسة من الكيسانية ولذلك ابتدأنا بالسابعة ، ولما كانت نسخة مقالات الاِسلاميين مشوشة في بيان الفرقة السابعة والثامنة أخذناهما من كتاب الملل والنحل للشهرستاني.
٢ ـ هاتان الفرقتان نقلناهما من الملل والنحل للشهرستاني ثم نتابع النقل من مقالات الاِسلاميين.
٢٨
ابن العباس قالوا : وذلك أنّ أبا هاشم مات بأرض الشراة (١) منصرفة من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس وأوصى محمد بن علي إلى ابنه إبراهيم بن محمد ، ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس ، ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض ، ثم رجع بعض هوَلاء عن هذا القول وزعموا أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نصّ على العباس بن عبد المطلب ونصبه إماماً ، ثمّ نصّ العباس على إمامة ابنه عبد اللّه ونصّ عبد اللّه على إمامة ابنه علي بن عبد اللّه ، ثم ساقوا الاِمامة إلى أن انتهوا بها إلى أبي جعفر المنصور.
الفرقة العاشرة : يزعمون أنّ أبا هاشم أوصى إلى بيان بن سمعان التميمي وانّه لم يكن له أن يوصي بها إلى عقبه.
الفرقة الحادية عشرة : يزعمون أنَّ الاِمام بعد أبي هاشم عبد اللّه بن محمد ابن الحنفية وعليّ بن الحسين بن علي بن أبي طالب (٢).
وقال النوبختي : وفرقة قالت بإمامة محمد ابن الحنفية ، لأنّه كان صاحب راية أبيه يوم البصرة دون أخويه فسمّوا الكيسانية ، وإنّما سمّوا بذلك لأنّ المختار ابن أبي عبيدة الثقفي كان رئيسهم وكان يلقب « كيسان » وهو الذي طلب بدم الحسين بن علي صلوات اللّه عليهم وثأره حتى قتل من قتلته وغيرهم من قَـتَل ، وادّعى (المختار) أنّ محمد ابن الحنفية أمره بذلك وأنّه الاِمام بعد أبيه ، وإنّما لقّب المختار كيسان لأنّ صاحب شرطته المكنّى بأبي عمرة كان اسمه كيسان ، وكان أفرط في القول والفعل والقتل من المختار جداً ، وكان يقول : إنّ محمد ابن الحنفية وصيّ علي بن أبي طالب ، وأنّه الاِمام وأنّ المختار قيّمه وعامله ويُكفر من تقدّم
__________________
١ ـ كذا في النسخة المطبوعة والصحيح « السراة » وهي موضع بالشام.
(٢)٢ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٢٠ ـ ٢١.
٢٩
علياً ويُكَّفِر أهل صفين والجمل ، وكان يزعم أنّ جبرئيل عليه‌السلام يأتي المختار بالوحي من عند اللّه عزّ وجلّ فيخبره ولا يراه. وروى بعضهم أنّه سمِّي بكيسان مولى علي بن أبي طالب عليه‌السلام وهو الذي حمله على الطلب بدم الحسين بن علي عليهما‌السلام ودلّه على قتلته ، وكان صاحب سرّه وموَامرته والغالب على أمره (١).
وقالت فرقة من الكيسانية إنّ محمد بن الحنفية ـ رحمه اللّه تعالى ـ هو المهدي ، وهو وصيّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام ليس لأحد من أهل بيته أن يخالفه ولا يخرج عن إمامته ولايُشهّر سيفه إلاّ بإذنه ، وإنّما خرج الحسن بن علي عليهما‌السلام إلى معاوية محارباً له بإذن « محمّد » وأودعه وصالحه بإذنه ، وأنّ الحسين إنّما خرج لقتال يزيد بإذنه ، ولو خرجا بغير إذنه هلكا وضلاّ وأنّ من خالف محمد ابن الحنفية كافر مشرك وأنّ محمد استعمل المختار بن أبي عبيدة على العراقيين بعد قتل الحسين وأمره بالطلب بدم الحسين عليه‌السلام وثأره وقتل قاتليه وطلبهم حيث كانوا ، وسمّاه كيسان لكيسه ولما عرف من قيامه ومذهبه فيهم فهم يسمّون (المختارية) ويدعون (الكيسانية) (٢).

معتقدهم :

إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان :
أحدهما : القول بإمامة محمد ابن الحنفية.
والثانية : القول بالبداء على اللّه عزّ وجلّ ، وقالت طائفة منهم بأنّه المهدي المنتظر في الرضوى (٣).
__________________
١ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٢٢ ـ ٢٤.
٢ ـ النوبختي : فرق الشيعة : ٢٦.
٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٥٢.
٣٠

الاِبهامات حول هذه الفرقة :

قد عرفت كلمات أصحاب المقالات وكتاب العقائد والظاهر منهم ومن غيرهم افتراض فرقة إسلامية شيعية نجمت بعد وقعة الطف (٦١ ـ ٦٧ هـ) والتفّت عدّة من الشيعة حول محمد ابن الحنفية واتّخذوه قائداً (في حياة الاِمام زين العابدين عليه‌السلام ) وقد لبّى هو وولده أبو هاشم ووصيه ، ولم يكن هناك أي اعتراض واستنكار من رجالات البيت الهاشمي فاستتب الأمر لابن الحنفية وابنه ومن بعده واستفحل أمرهم إلى عصر أبي جعفر المنصور العباسي ، وقد كان العباسيون يستمدون شرعية دولتهم وخلافتهم من انتمائهم إلى تلك الفرقة وكانت لهم أُصول عقائد يتميزون بها عن سائر الفرق.
لكن الاِبهامات التي تحدق بهذه الفرقة من جوانب شتى يدفع الاِنسان إلى التأكد الكثير من وجود هذه الفرقة الاِسلامية في الساحة وبروزهم إليها باسم الدين وإليك بيانها:

١ ـ الاختلاف في المسمّى بكيسان :

إنّ الكيسانية منسوبة إلى « كيسان » وقد اختلفوا في المسمّى به إلى أقوال فمن قائل : إنّه اسم محمد ابن الحنفية ، إلى آخر : إنّه اسم مولى لعلي ، إلى ثالث : إنّه اسم نفس المختار بن أبي عبيدة الثقفي ، إلى رابع : إنّه اسم صاحب شرطته المكنى بـ « أبي عمرة » وكان اسمه كيسان (١).

٢ ـ الاختلاف فيمن نصب محمداً الحنفية للاِمامة :

إنّ القائد الذي تنتهي إليه تلك الفرقة هو محمد الحنفية ، فقد
____________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١٨ ، والبغدادي : الفرق بين الفرق : ٣ و ٣٨ ، والنوبختي : فرق الشيعة : ٢٢.
٣١
اختلفوا في مرشحه للاِمامة إلى قولين : فمن قائل بأنّ المعيِّن ، هو الاِمام علي ، إلى آخر أنّه الاِمام الحسين وهو الذي نصبه للخلافة.

٣ ـ الاختلاف في مبدأ قيادته :

كما اختلفوا في الموصي والمعيّن ، اختلفوا في مبدأ قيادته ، فمن قائل بأنّه الاِمام المنصوب من جانب الاِمام علي وهو الاِمام بعد رحيل والده دون أخويه ، إلى آخر بأنّه الاِمام بعد استشهاد الحسين عليه‌السلام.

٤ ـ الاختلاف في كونه حياً أو ميتاً :

اختلفوا في كونه حياً أو ميتاً ، فقد نسب إلى جماعة أنّهم قالوا بكونه المهدي المنتظر وأنّه حي بجبال رضوى ، يصونه الأسد والنمر ، معه العسل والماء ، وفي مقابلهم من قال بموته ، وأنّ الاِمامة انتقلت إلى فرد آخر.

٥ ـ اختلافهم في كونه حيّاً كرامة أو عقوبة :

اختلف القائلون بكونه حياً ، فهل هو حي كرامة ، بشهادة أنّه يصان بالأسد والنمر عن اليمين والشمال ويأتيه رزقه غدواً وعشياً إلى وقت خروجه كما قال به كثير الشاعر ، أو أنّه حي عقوبة لركونه إلى عبد الملك بن مروان وبيعته إيّاه.

٦ ـ الاختلاف في الاِمام بعد أبي هاشم :

توفي محمد الحنفية عام ثمانين أو واحد وثمانين وتوفي ابنه أبو هاشم « عبد اللّه ابن محمد الحنفية » سنة ثمان أو تسع وتسعين وعرفه ابن شهر آشوب بأنّه كان ثقة جليلاً من علماء التابعين روى عنه الزهري وأثنى عليه وعمرو بن دينار وغيرهما (١).
وقد اختلفت الأقوال في وصيه إلى قائل بأنّه أوصى إلى الحسن بن علي بن
__________________
١ ـ المامقاني : تنقيح المقال : ٢ / ٢١٢ برقم ٧٠٤٢.
٣٢
محمد الحنفية ، إلى آخر بأنّه أوصى إلى أخيه ، علي بن محمد الحنفية ، وأنّه أوصى إلى ابنه الحسن ، إلى ثالث أنّه أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن العباس ، إلى رابع بأنّه أوصى إلى بيان بن سمعان ، إلى خامس أنّه أوصى إلى عبد اللّه بن عمرو بن حرب.

٧ ـ الاختلاف في المعتقد :

إنّ الكيسانية على كثرة فرقهم يجمعهم شيئان : أحدهما : القول بإمامة محمد ابن الحنفية والثانية : القول بأنّه المهدي المنتظر مضافاً إلى القول بالبداء (١).
أقول : إنّ القول بالبداء ليس من عقائد هذه الطائفة وإنّما هو عقيدة إسلامية جاء بها القرآن الكريم ونصت به السنّة النبوية (٢) ولو فسرت على وجه صحيح لعلم أنّ المسلمين بأجمعهم متفقون على القول بها.
وإنّما نشأ النزاع من تفسيره على وجه باطل ، أعني : الظهور بعد الخفاء على اللّه تعالى ، ولا يقول به أحد من المسلمين ، وتفسيره الصحيح قائم بكلمتين : إحداهما يرجع إلى مقام الثبوت ، والأخرى إلى مقام الاِثبات ، أمّا الأولى ، فالبداء عبارة عن تغيير المصير بالأعمال الصالحة أو الطالحة ، كما كان الحال كذلك في قوم يونس ، وأمّا الثانية فهي الاِظهار بعد الاِخفاء ، وأمّا علمه سبحانه فلا يتغير ولايتبدل وأوضحنا حقيقتها في الجزء السادس من هذه الموسوعة (٣).
قد نقل في كتب الملل والنحل أنّهم استدلوا على كون محمد ابن الحنفية إماماً بقول علي عليه‌السلام له يوم البصرة وقد أقدم بالراية : « أنت ابني حقاً »!
__________________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٥٢.
٢ ـ الاِمام البخاري : الصحيح : ٤ / ٢٠٨ ، كتاب الأنبياء ، باب ٥١ حديث أبرص وأعمى وأقرع.
٣ ـ بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٣٠٤ ـ ٣٢٧.
٣٣
وأنت خبير بأنّ أحقّية البنوّة هو كونه شبيه والده في الشجاعة لا أنّه إمام بعده أو بعد السبطين.
كما نقل أنّهم استدلوا على كونه مهدياً غائباً بقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لن تنقضي الأيام والليالي حتى يبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ».
ولكن الاستدلال في غاية الضعف لأنّ اسم والد محمد هو علي لا عبد اللّه. نعم كان علي صلوات اللّه عليه عبداً للّه وصفيّاً لا علَمياً.
على أنّه لو صحّ الاستدلال فالنفس الزكية ، أعني : محمد بن الحسن بن عبد اللّه بن الحسن المثنى ، أولى منه.
واستدلوا أيضاً على أنّ خروج المختار كان بإذنه.
يلاحظ عليه : أنّ الاِذن بالخروج لايدلّ على أنّه ادّعى الاِمامة ودعا الناس إليها ، وقد روى الشيخ المفيد أنّه سئل محمد ابن الحنفية عن ظهور المختار وادّعائه أنّ خروجه بأمره فأجاب :
واللّه ما أمرته بذلك لكن لا أُبالي أن يأخذ بثأرنا كل أحد ، وما يسوءني أن يكون المختار هو الذي يطلب بدمائنا.
فاعتمد السائلون على ذلك وكانوا كثيرين. وقد رحلوا إليه بهذا المعنى بعينه ، فنصروا المختار على الطلب بدم الحسين عليه‌السلام.
وأخيراً نقول إنّ الاِمامة إمّا بالنصّ أو بالبيعة ، فإن كان الأوّل فأين النصّ؟ وإن كانت بالبيعة فأين بايعه أهل الحل والعقد؟
وتوضيح المقال بذكر أمرين :
الأوّل : أنّ محمد الحنفية وليد البيت العلوي وربيبه الذي وصفه أمير الموَمنين ، بقوله : « إنّ المحامدة تأبى أن يعصى اللّه عزّ وجلّ » قال الراوي ، قلت :
٣٤
ومن المحامدة؟ قال عليه‌السلام : « محمد بن جعفر ، ومحمد بن أبي بكر ، ومحمد بن أبي حذيفة ومحمد بن أمير الموَمنين ابن الحنفية » (١) وكان أعرف الناس بعظم مقام الاِمامة وخطورتها وأنّها لا تصلح إلاّ لمن ثبت في حقّه النص ، من صاحب الرسالة أو من بايعه الناس ، أو خصوص أهل الحل والعقد ومع ذلك كيف يلبّي دعوة نفر أو نفرين للقيام بأعباء الاِمامة ولم يكن هناك تنصيص ولا بيعة من وجوه المسلمين ولم يكن الرجل من الانتهازيين أو من أبناء البيت الساقط الذين كانوا يدوسون كل الأصول الاِسلامية ، للحصول على الغايات ويستهويهم النهمة والشره لاختلاس الأموال أو حيازة جاه.
ونحن نُجلُّ محمد ابن الحنفية عن الرغبة إلى حيازة المقام الذي لا يصلح إلاّ لمن اجتمع لديه الشرط من التنصيص أوّلاً ، أو البيعة ثانياً.
والذي يوَيد ذلك أنّه لم تشاهد منه دعوة إلى نفسه ، بإلقاء الخطابة والمحاضرة ، أو بعث الرسل إلى الأطراف والأكناف ، أو تصدي أمر ، يعد من شوَون الحكومة ، ولو كان كذلك لكان له أنصار وأعوان ، ولما ألقى عليه القبض ، ابن الزبير لغاية أخذ البيعة والتهديد بالاِحراق عند رفضها. كما أنّه كان يتعاطف مع عبد الملك بن مروان ـ عملاً بواجبه ـ حتى أدركته المنية عام ثمانين أو واحد وثمانين.
الثاني : لو أغمضنا عن ذلك فهل كان هناك جماعة ، موَمنون بإمامته وقيادته؟ وأنّ الفراغ الذي حصل ، لدى الشيعة بشهادة السبط ، مُلىَ ببيعة أهل العراق ولفيف من أهل المدينة ومكة له ، أو لا؟.
والحقّ هو الثاني وأنّ كثير من الشيعة كانوا حيارى في أمر الاِمامة لأجل الضغط من جانب الحكومة الأموية إلاّ الأخصّاء ولكن كانت الشيعة بأجمعهم
__________________
١ ـ المامقاني : تنقيح المقال : ٢ / ٥٧ برقم ١٠٢٣٠ ، نقلاً عن رجال الكشي.
٣٥
يتعاطفون مع أهل البيت وعلى مقدمتهم الشخصيتان البارزتان : محمد ابن الحنفية ، وعلي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام من دون أن يتخذ ابن الحنفية إماماً وقدوة للشيعة.
ففي هذه الظروف نهض إنسان غيور ، وشجاع مقدام ، وسيف بتّار ، لأخذ ثار الاِمام الحسين ألا وهو المختار بن أبي عبيدة الثقفي الذي كان يحب أهل البيت عليهم‌السلام منذ نعومة أظفاره إلى أن ألقى حمامه في طريق أخذ ثارهم ، ونال أُمنيته باجتثاث جذور أعدائهم ، وسفك دمائهم ، فأشفى صدور قلوب الموَمنين وعلى رأسهم أئمة أهل البيت والهاشميون والهاشميات بأجمعهم.
لقد كان الاتصال الوثيق مع أكابر أهل البيت يوم ذاك رصيداً كبيراً للثائر لغاية التفاف شيعة العراق حول المختار ولولا ذلك لما تمكن من إنهاضهم إلى ميادين القتال. وبما أنّ محمد ابن الحنفية ـ رض ـ كان كبير العلويين في السن لم يكن له بد من التعاطف معه وكان له مثل ذلك سيد الساجدين ، ولأجل المواصلة والمكاتبة مع العظيمين جلب اهتمام الشيعة لنفسه ، وأقام نهضة كبيرة أخذ بها ثأر الحسين عليه‌السلام لا بل كانت ناراً أحرقت أُمنيات بني أُمية وأبادت آثارهم واجتثت جذورهم.
ولما كانت ثورته ثقيلة على مناوئي أهل البيت عليهم‌السلام أرادوا إسقاطه من أعين الناس فتحاملوا عليه من جانب العقيدة فرموه باختراع المذهب حتى رموه بادّعاء النبوة ونزول الوحي حتى صاغوا له جملاً مضاهية لجمل الكهنة ، ونسبوها إليه (١). ولم يكن لهم غاية إلاّ القضاء على نهضته وثورته.
يقول البغدادي : « فلمّا تمت للمختار ولاية الكوفة والجزيرة والعراقين ،
__________________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٦.
٣٦
تكهّن بعد ذلك وسجع كإسجاع الكهنة ، وحكي أيضاً أنّه ادّعى نزول الوحي عليه » (١).
لم يكن المترقّب من البيت الأموي وحماته الذين شربوا كأس المنون بيد الثائر المتفاني في حب أهل البيت ، إلاّ رميه بادّعاء النبوة ونزول الوحي ، ولنفترض أنّ الثائر الثقفي لم يكن رجلاً دينياً ، ولم ينهض بدافع إلهي ، وإنّما ثارت ثورته ، بدافع نفسي مادي ، ولكنه كان رجلاً عملاقاً وسياسياً عبقرياً ، قاد أعظم الثورات التي شاهدها التاريخ في ذلك العصر وامتدت سلطته إلى أرمينيا ، وهل مثله ـ وهو يحكم باسم الاِسلام والدين ، وبتأييد من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ يدّعي النبوة ونزول الوحي ويتكلم بكلام الكهنة مع أنّ التاريخ ضبط خطبه وكلامه حتى نقلها البغدادي (٢) كلا ، ولا ، وما جاء به البغدادي ، ليس إلاّ نسبة مفتعلة.
« من يتحقّق في سيرة المختار وحربه للأمويين ودكه لجيش قائدهم عبيد اللّه ابن زياد ، وفي عدائه للزبيريين ابتداء من انتزاع الحكم منهم في أوّل ثورته حتى قتاله لمصعب الذي سيطر على الحكم بعد المختار ، ـ من يتحقّق في هذا ـ يستطع تحليل اتّـهام المختار بالكذب والانحراف واستغلال الاِسلام وقتل الاِمام الحسين عليه‌السلام من أجل مصالحه الشخصية ، وأن تنسب له أقاويل مضادة للاِسلام. وكيف لايتهم بالأمور السالفة وأضرابها وقد أطبقت على عدائه دولتان ، دولة ابن الزبير ودولة الأمويين؟ » (٣).
وهناك بعض التساوَلات على صعيد البحث نشير إليها :
الأوّل : روى الشيخ الكليني بسند صحيح عن أبي جعفر عليه‌السلام مناشدة محمد ابن الحنفية لعلي بن الحسين في مسألة الوصاية والاِمامة حتى اتفقا على
__________________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٥ و ٤٦.
٢ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٥ و ٤٦.
٣ ـ محمود البغدادي : النظرية السياسية : ٢٨٤.
٣٧
تحكيم الحجر الأسود وطلب الشهادة منه على أحدهما ، فانطلقا حتى أتيا الحجر الأسود ، فقال علي بن الحسين لمحمد ابن الحنفية : « إبدأ أنت فابتهل إلى اللّه عزّ وجلّ وسله أن ينطق لك الحجر ثم سل » فابتهل محمد في الدعاء وسأل اللّه ثم دعا الحجر فلم يجبه ، فعند ذلك تقدم علي بن الحسين وقال : « أسألك بالذي جعل فيك ميثاق الأنبياء وميثاق الأوصياء وميثاق الناس أجمعين لما أخبرتنا مَن الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي عليهما‌السلام؟ » فتحرك الحجر حتى كاد أن يزول عن موضعه ثم أنطقه اللّه عزّ وجلّ بلسان عربي مبين فقال : اللّهم إنّ الوصي والاِمام بعد الحسين بن علي عليهما‌السلام هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابن فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال فانصرف محمد بن علي وهو يتولّى علي بن الحسين عليهما‌السلام (١).
لكن الاِجابة عن هذا السوَال واضحة ، فإنّا لو افترضنا صحة المضمون ، واكتفينا في مثل هذه الواقعة الخطيرة بالخبر الواحد ، لنا أن نقول بأنّ المناشدة كانت لأجل إفهام الآخرين بإمامة علي بن الحسين حتى يوجه نظر الجماهير إلى الاِمام الحقيقي.
إنّ محمد ابن الحنفية أجل من أن لا يعرف شروط الاِمامة وإنّها لم تكن متوفرة في حقّه. إذ لو كانت بالنص فلم يكن هناك نصّ عليه ، ولو كانت بالمبايعة والتصفيق بالأيدي فلم تكن هناك مبايعة. ومع ذلك فهل يحتمل أن يشهد له الحجر بالاِمامة.
الثاني : إذا لم تكن هناك دعوة باسم الكيسانية وإنّما خلقها أعداء المختار لاِسقاطه من أعين الناس فبماذا يفسر ما أنشأه الشاعر كُثَيِّـر عزّة.
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٣٤٨ ح ٥ ، كتاب الحجّة.
٣٨

ألا إنّ الأئمّة من قريش

ولاة حقّ أربعة سواء
علي والثلاثة من بنيه

هم الأسباط ليس بهم خفاء (١)
أو ما أنشأه السيد الحميري :
ياشعب رضوى ما لمن بك لا يرى

وبنا إليه من الصبابة أولق
حتى متى؟ وإلى متى؟ وكم المدى

يابن الرسول وأنت حيٌّ ترزق (٢)
والأجابة عن هذا السوَال واضحة لأنّا أيضاً نرافق القارىَ في حكاية هذه الأشعار عن ظهور عقيدة خاصة في حقّ محمد ابن الحنفية ، ولكنها لم تكن تتجاوز عن حدوث فتنة دينية أثارت شكوكاً تارة وأوهاماً أُخرى على بعض الناس ولم يمض شيء حتى ذهبت أدراج الرياح ، ولاتعد مثل ذلك فرقة إسلامية لها دور على بعض الناس على أنّ شعر السيد لا يثبت هذا المطلب لأنّه يقول : يا ابن الرسول ولم يكن محمد ابن الحنفية ابناً للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
الثالث : روي أنّ السيد الحميري كان كيسانياً وله شعر في هذا المذهب ولكنه رجع إلى الحقّ بفضل الاِمام جعفر الصادق عليه‌السلام وقال :
تجعفرتُ باسم اللّه واللّه أكبر

وأيقنتُ أنّ اللّه يعفو ويغفر
ودنتُ بدينٍ غير ما كنتُ دايناً

به ونهاني سيد الناس جعفر
فقلت هب أنّي قد تهوّدتُ برهة

وإلاّ فديني دين من يتنصر
فلست بغال ما حييتُ وراجع

إلى ما عليه كنت أخفي وأُضمر
ولا قائل قولاً لكيسان بعدها

وإن عاب جهال مقالي وأكثروا
ولكنه من قد مضى لسبيله

على أحسن الحالات يقضي ويوَثر (٣)
__________________
١ و ٢ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٧٨ ـ ٧٩ ، طبعة دار الاندلس.
٣ ـ السيد المرتضى : الفصول المختارة : ٥٩٨.
٣٩
إنّ شعره هذا يحكي عن وقوع شبهة لبعض أولياء أهل البيت عليهم‌السلام فتصوروا المجاز حقيقة ، ولكنهم رجعوا إلى شرعة الحقيقة وشربوا من مائها العذب المعين.
وقد اتضح بهذا البحث الضافي على أنّ المذهب الكيساني تحدقه إبهامات وغموض في موَسسه وأتباعه وأهدافه تكاد تدفع الاِنسان إلى أنّه مذهب مختلق من جانب الأعداء ، ملصق بشيعة أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لغاية تشويش أذهان الشيعة أوّلاً وتحطيم سمعة السيف البّتار المختار بن أبي عبيدة ثانياً.
وهناك كلمة تدعم ما ذكرنا بأحسن وجه وهي أنّ الباعث الوحيد لترويج هذا المسلك هو العباسيون في بداية أمرهم لأنّهم كانوا يستمدون شرعية خلافتهم من هذا الطريق إذ يدعون أنّ أبا هاشم أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.
قال الأشعري : قالوا إنّ أبا هاشم مات بأرض السراة منصرفاً من الشام فأوصى هناك إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس ، وأوصى محمد بن علي ، إلى ابنه إبراهيم بن محمد ثم أوصى إبراهيم بن محمد إلى أبي العباس ثم أفضت الخلافة إلى أبي جعفر المنصور بوصية بعضهم إلى بعض (١).
فالعباسيون لأجل إضفاء الشرعية على خلافتهم كانوا يدعمون هذا المذهب ويصوّرونه أمراً واقعياً وصل إليهم من أئمة أهل البيت فمن الحسين عليه‌السلام إلى أخيه محمد ابن الحنفية إلى ابنه أبي هاشم إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس إلى أن وصل إلى المنصور ذلك الحاكم الطاغي قاتل العلويين.
قال ابن خلدون في مقدمته : وآخرون يزعمون أنّ أبا هاشم لما مات بأرض السراة منصرفاً من الشام ، أوصى إلى محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس ، وأوصى
__________________
١ ـ الاشعري : مقالات الاسلاميين : ٢١ ، وفي النسخة « الشراة ».
٤٠
محمد إلى ابنه إبراهيم المعروف بالاِمام ، وأوصى إبراهيم إلى أخيه عبد اللّه بن الحارثية الملقب بالسفاح ، وأوصى هو إلى أخيه عبد اللّه أبي جعفر الملقب بالمنصور ، وانتقلت في ولده بالنص والعهد واحداً بعد آخر إلى آخرهم ، وهذا مذهب الهاشمية القائمين بدولة بني العباس ، وكان منهم : أبو مسلم وسليمان بن كثير وأبو سلمة الخلاّل وغيرهم من شيعة العباسية وربما يعضدون ذلك بأنّ حقهم في هذا الأمر يصل إليهم من العباس ، لأنّه كان حياً وقت الوفاة وهم أولى بالوراثة بعصبيّة العمومة (١).
والجدير بإلفات نظر القارىَ هو قول ابن خلدون : « وربما يعضدون ذلك بأنّ حقهم في هذا الأمر يصل إليهم من العباس » فإن ظاهره أنّ العباسيين يعضدون الكيسانية ويروجونها إذ من ذلك الطريق يصلون إلى شرعية حكمهم (٢).
وفي الختام نأتي بكلمتين للشيخ المفيد ، قال :
١ ـ أنّ جميع ما حكيناه من اعتقادات القوم ، أمر حادث ألجأ القوم إليه الاضطرار ، عند الحيرة ، وفراقهم الحقّ ، والأصل المشهور ما حكيناه من قول الجماعة المعروفة بإمامة أبي القاسم ـ محمد الحنفية ـ بعد أخويه والقطع على حياته وأنّه القائم (وأمّا غير هذا القول فقد حدث بعد زمن ، ألجأهم الاضطرار إليه).
٢ ـ انقرضت الكيسانيـة حتى لا يعرف منهم في هذا الزمان أحد إلاّ ما يحكى ولا تُعرف صحته ، ويقول في مورد آخر : « إنّ الكيسانية في وقتنا هذا لا بقية لهم ولا يوجد عدد منهم ، يقطع العذر بنقله ، بل لا يوجد أحد منهم يدخل في جملة أهل العلم بل لا نجد أحداً منهم جملة ، وإنّما تقع مع الناس الحكاية عنهم خاصة (٣).
____________
١ ـ ابن خلدون : المقدمة : ١ / ٢٥٠ ، طبع دار الفكر ، بيروت.
٢ ـ لاحظ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٤٠ ـ ٤١.
٣ ـ الشيخ المفيد : الفصول المختارة : ٢٩٧ ـ ٣٠٥.
٤١
حول سائر فرق الشيعة
قد ذكر أصحاب المقالات للشيعة فرقاً بصورة عامة وللزيدية والاِمامية بصورة خاصة ، أمّا فرق الزيدية فسوف نتناولها في مستقبل الكتاب ونثبت أنّ زيداً الثائر لم يكن إماماً في العقائد ولافقيهاً صاحب منهج في الفقه ولم يكن له أي ادّعاء في ذينك المجالين حتى يكون إماماً في أحدهما ويشكل فرقة خاصة باسم الزيدية ، نعم بعدما قتل زيد في المعركة وأدّى واجبه تفرّق أصحابه إلى فرق ومذاهب لاتمت بالثائر بصلة ، فانتماء الفرق الزيدية إلى اتباع زيد الصق بهم من زيد ـ رضي اللّه عنه ـ وسيوافيك التفصيل في محله.
إنّما الكلام عن الفرق التي ذكروها فرقاً للاِمامية وقد كبّروها وعدّوها خمس عشرة فرقة وهي :
١ ـ الكاملية ٢ ـ المحمدية ٣ ـ الباقرية ٤ ـ الناووسية ٥ ـ الشمطية ٦ ـ العماريـة ٧ ـ الاِسماعيليـة ٨ ـ المباركية ٩ ـ الموسوية ١٠ ـ القطعيـة ١١ ـ الاثنا عشرية ١٢ ـ الهشامية ١٣ ـ الزرارية ١٤ ـ اليونسية ١٥ ـ الشيطانية (١).
وهوَلاء الذين ذكرهم البغدادي تبعاً للأشعري ، وتبعهما الاِسفرائيني في كتابه « التبصير في الدين » والشهرستاني في « الملل والنحل » والرازي في « اعتقادات المسلمين والمشركين » تدور بين الصحيح والمختلق ، فإنّ كثيراً منها فرق في عالم
__________________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٣٥٠.
٤٢
الوهم والخيال نسجها مناوئوا أهل البيت لتشويه سمعة الشيعة الاِمامية ، ولنأتي بنموذج عنها وهم الفرق الأربعة الأخيرة ، أعني : الهشامية والزرارية واليونسية والشيطانية فإنّك لا ترى أثراً من هذه الفرق في كتب الشيعة الاِمامية.
أمّا الأولى : أي المنسوبة إلى هشام بن الحكم فمختلقة ، فإنّ هشام بن الحكم من متكلّمي الشيعة الاِمامية وبطانتهم وممّن دعا له الاِمام الصادق عليه‌السلام فقال : « ماتزال موَيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك ».
قال الشهرستاني : هذا هشام بن الحكم صاحب غور في الأصول لا يجوز أن يُغفل عن إلزاماته على المعتزلة ، فإنّ الرجل وراء ما يلزم به على الخصم ، ودون مايُظهره من التشبيه!! وذلك أنّه ألزم العلاّف (١).
سيوافيك أنّ ما نقله عنه من التشبيه يرجع إلى زمن شبابه قبل اتصاله بالاِمام الصادق عليه‌السلام ويعتبر الرجل بخواتيم أعماله ومعتقداته.
يقول أحمد أمين : أكبر شخصية شيعية في الكلام وكان جداً قوي الحجّة ، ناظر المعتزلة وناظروه ونقلت له في كتب الأدب مناظرات كثيرة متفرقة تدلّ على حضور بديهته وقوة حجّته.
إنّ الشيخ الأشعري قد أطنب الكلام عنه وذكر له عقائد خرافية في تجسيمه سبحانه وعطف عليه هشام بن صادق الجواليقي واشتراكهما في التجسيم ومضاعفاته (٢) وذكره البغدادي بنفس النص مع تلخيص (٣) ، وتبعهما من جاء بعدهما كالشهرستاني غير أنّ هوَلاء لابتعادهم عن التعرّف برجال الشيعة لم يعرفوا هشام بن الحكم حقّ المعرفة واشتبه عليهم الأمر ، فإنّ هشام كان بداية أمره من
__________________
١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٨٥.
٢ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ١ / ٣١ ـ ٣٤.
٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٦٥ ـ ٦٩.
٤٣
تلامذة أبي شاكر الديصاني صاحب النزعة الاِلحادية ، ثم تبع جهم بن صفوان الجبري المتطرف المقتول بـ « ترمذ » عام ١٢٨ هـ ، ولما التحـق بالاِمـام الصادق عليه‌السلام ودان بمذهب الاِمامية ترك ما كان يعتقد به من تجسيم وتشبيه فقد تطبعت عقليته على معارف أهل البيت إلى حد كبير ، ولا يخفى على إنسان ملمّ بالحديث والكلام أنّ التنزيه شعار أهل البيت عليهم‌السلام ولقد كفانا الشيخ عبد اللّه نعمة في رسم حياة هشام رسماً واقعياً منزّهاً عن كل رأي مفتعل (١).
وأمّا الثانية : أعني الزرارية فهذه الفرقة المختلقة منسوبة إلى زرارة بن أعين من أجلاّء تلاميذ الاِمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام. يقول النجاشي في حقه : شيخ أصحابنا في زمانه ومتقدّمهم وكان قارئاً ، فقيهاً ، متكلماً ، شاعراً ، أديباً ، قد اجتمعت فيه خصال الفضل والدين (٢) وقد ذكرنا له ترجمة ضافية طبعت في مقدمة مسنده ، مات رحمه‌الله عام ١٥٠ هـ ، ولم يكن له أي شطح في العقيدة أو اعوجاج في الفكر ، وإنّما كان يسير على ضوء إماميه الباقر والصادق عليهما‌السلام وقد أثنيا عليه بجمل ضافية ، ومسنده المطبوع لأصدق دليل على براءته في الكلام واضطلاعه في الفقه.
نعم أنّ الضغائن والحقد على هذا المتكلّم وعلى من سبقه ـ هشام بن الحكم ـ دفع المخالفين على رميهم بالانحراف الفكري ، قال البغدادي : ومنهم الزرارية أتباع زرارة بن أعين الرافضي ، في دعواها حدوث جميع صفات اللّه عزّ وجلّ وإنّها من جنس صفات اللّه عزّ وجلّ وزعموا أنّ اللّه تعالى لم يكن في الأزل حياً ، ولاعالماً ولا قادراً ولا مريداً ولاسميعاً ، ولا بصيراً وإنما استحق هذه الأوصاف حين أحدث لنفسه حياة وقدرة وعلماً وأرادة وسمعاً وبصراً. (٣)
__________________
١ ـ لاحظ كتابه حياة هشام بن الحكم ، طبع بيروت.
٢ ـ النجاشي : الرجال : ١ / ٣٩٧ برقم ٤٦١. ولاحظ مقدمة الموَلّف على مسنده.
٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٣٠.
٤٤
ما عزى إليه ، نسبة مفتعلة ، والرجل ممّن برع في الفقه الأكبر والأصغر في أحضان الاِمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام وحاشا أنّ يقول مثله بحدوث الأوصاف الثبوتية للّه.
وأمّا الثالثة : فهي اليونسية المنسوبة إلى يونس بن عبد الرحمن مولى علي بن يقطين بن موسى ، مولى بني أسد ، فقد كان حافظاً للحديث ، فقيهاً في الدين ، متكلّماً على مذهب أهل البيت. يقول النجاشي :
كان وجهاً في أصحابنا ، متقدماً ، عظيم المنزلة ، ولد في أيام هشام بن عبد الملك ورأى جعفر بن محمد عليهما‌السلام بين الصفا والمروة ولم يرو عنه ، وروى عن أبي الحسن موسى والرضا عليهما‌السلام ، وكان الرضا عليه‌السلام يشير إليه في العلم والفتيا له كتاب يوم وليلة وقد قال في حقّه الاِمام العسكري عليه‌السلام : « أتاه اللّه بكل حرف نوراً يوم القيامة » وكتب أُخرى ذكرها النجاشي (١).
وقد نسب إليه البغدادي من أنّه كان يقول : إنّ اللّه تعالى يحمله حملة عرشه وإن كان هو أقوى منها (٢).
وأمّا الرابعة : فهوَلاء يريدون من الشيطان ، محمد بن علي بن النعمان بن أبي طريفة البجلي ، كوفي صيرفي يلقّب بـ « موَمن الطاق » و « صاحب الطاق » ، وإنّما لقبه المخالفون بشيطان الطاق ، وكان دكانه في طاق المحامل بالكوفة فيرجع إليه في النقد فيرد رداً فيخرج كما يقول فيقال شيطان الطاق. له كتاب الاحتجاج في إمامة أمير الموَمنين ، وكتاب رد فيه على الخوارج ، ومناظرات مع أبي حنيفة والمرجئة.
وقال ابن النديم : كان متكلماً حاذقاً. وله من الكتب : الاِمامة وكتاب المعرفة
__________________
١ ـ النجاشي : الرجال : ٢ / ٤٢١ ـ ٤٢٢.
٢ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٢٢٨ ، والنسبة مفتعلة ، والعدل والتنزيه من شعار أئمة أهل البيت ، وما نقل أشبه بكلام المجسّمة من الحنابلة والحشوية.
٤٥
وكتاب الرد على المعتزلة في إمامة المفضول ، وكتاب في أمر طلحة والزبير وعائشة (١).
نسب إليه البغدادي من أنّ اّللّه تعالى إنّما يعلم الأشياء إذا قدرها وأرادها ، ولا يكون قبل تقديره الأشياء عالماً بها ، وإلاّ ما صحّ تكليف العباد (٢).
إنّ دراسة حياة هوَلاء الأكابر تشهد على أنّهم من حفاظ أحاديث أهل البيت ومن مقتفي آثارهم ، فعقيدتهم لاتختلف قدر شعرة مما كان عليه الاِمام الصادق والاِمام الكاظم عليهما‌السلام.
هوَلاء كانوا صواعق تنزل على روَوس المنافقين وتدمر أوكار أفكارهم ، فلم يجد الخصوم بدّاً من الازدراء بهم حتى لقّبوا بعضهم بالشيطانية تنابزاً بالألقاب.
نحن نسلم أنّ له رأياً فيما ترجع إلى الاستطاعة كما زعمها الأشعري في موَمن الطاق ومن تقدّمه (٣).
أفيصح أن يعد هوَلاء موَسّسين لفرق إسلامية بحجّة أنّ لهم رأياً في مسألة كلامه ولو صلح ذلك لبلغت عدد الفرق الاِسلامية المائة بل المئات ، إذ ما من مسألة كلامية إلاّ فيها خلاف بين علماء الكلام.
هذا ما يرجع إلى الفرق الأربعة التي ذكرها البغدادي في آخر الفرق للاِمامية ، ولنرجع إلى ماصدّر به فرق الاِمامية ونشرحها بالمشراط العلمي.
__________________
١ ـ ابن النديم : الفهرست : ٢٦٤ ، وأيضاً : ٢٥٨.
٢ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٧١.
٣ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٤٣.
٤٦

قالوا : منهم الكاملية :

يقول البغدادي : هوَلاء أتباع رجل من الرافضة كان يعرف بأبي كامل ، وكان يزعم بأنّ الصحابة قد كفروا بتركهم بيعة علي ، وكفر عليّ ، بتركه قتالهم ، وكان يلزمه قتالهم كما لزمه قتال أصحاب صفين ، وكان بشار بن برد الشاعر الأعمى على هذا المذهب ، وروى أنّه قيل : له ماتقول في الصحابة؟ قال : كفروا ، فقيل له : فماذا تقول في علي؟ فتمثل بقول الشاعر :
وما شر الثلاثة أم عمرو

بصاحبك الذي لا تصبحينا
وحكى أصحاب المقالات عن بشار أنّه ضم إلى ضلالته في تكفير الصحابة وتكفير علي معهم ضلالتين أُخريتين.
إحداهما : قوله برجعته إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، كما ذهب إليه أصحاب الرجعة من الرافضة.
الثانية : قوله بتصويب إبليس في تفضيل النار على الأرض ، واستدلوا في ذلك بقول بشار في شعر له :
الأرض مظلمة والنار مشرقة

والنار معبودة مذ كانت النار (١)
يلاحظ عليه : بما ذكرنا في أوّل الفصل من أنّ عد فرقة من المذاهب الاِسلامية مشروط بوجود المقسم في القسم فلو لم يشم القسم رائحة المقسم فلا يصح عدّه قسماً منه ، فإنّ التشيع بالمعنى الاصطلاحي هو الاعتقاد بأنّ علياً عليه‌السلام هو المنصوب للقيادة بعد رحيل الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومعنى ذلك لزوم متابعته والاقتفاء بأثره ، وأنّه الرجل الأمثل والأفضل بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا كان الرجل مبغضاً
__________________
١ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٥٤ ، والاِسفرائيني ، التبصير : ٣٥ ، تحقيق كمال يوسف الحوت.
٤٧
ومكفّراً لعلي وإن كان مكفّراً لسائر الخلفاء ، فهل يصح عدّه من الشيعة وعدّ مذهبه فرقة من فرق الشيعة الاِمامية؟!.
لا أدري ولا المنجم يدري ولا القراء يدرون!!
على أنّ الرجعة ليست بمعنى رجوع جميع الناس إلى الدنيا المستلزم لاِنكار البعث ، بل المقصود رجوع عدد قليل من الصلحاء والطواغيت عند ظهور المهدي عليه‌السلام ولعل عددهم لا يتجاوز عدد الأصابع ، وقد أوضحنا معناها في الجزء السادس من هذه الموسوعة (١).

ومنهم المحمدية :

هوَلاء ينتظرون محمد (النفس الزكية) بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، ولا يصدّقون بقتله ولا بموته ، ويزعمون أنّه في جبل حاجز من ناحية نجد إلى أن يوَمل بالخروج ، وكان المغيرة بن سعيد العجلي مع ضلالاته في التشبيه يقول لأصحابه : إنّ المهدي المنتظر ، محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ابن علي ، ويستدل على ذلك بأنّ اسمه كاسم رسول اللّه واسم أبيه عبد اللّه كاسم أبي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال في الحديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمقوله في المهدي : « إنّ اسمه يوافق اسمي ، واسم أبيه اسم أبي » فلما أظهر محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي دعوته بالمدينة واستولى على مكة والمدينة ، واستولى أخوه إبراهيم بن عبد اللّه على البصرة ، واستولى أخوهما الثالث ـ وهو إدريس بن عبد اللّه ـ على بلاد المغرب ، وكان ذلك في زمان الخليفة أبي جعفر المنصور فبعث المنصور إلى حرب « محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن » بعيسى بن موسى في جيش كثيف قاتلوا محمّداً بالمدينة وقتلوه في المعركة ، ثم أنفذ بعيسى بن موسى أيضاً إلى حرب « إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي » مع جنده ، فقتلواإبراهيم بباب حمرين على
__________________
١ ـ السبحاني : موسوعة بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٣٦٣.
٤٨
الستة عشر فرسخاً من الكوفة ، ومات في تلك الفتنة إدريس بن عبد اللّه بن الحسن بأرض المغرب ، وقيل : إنّه سُمَّ بها ، ومات عبد اللّه بن الحسن بن الحسن والد أُولئك الاِخوة الثلاثة في سجن المنصور ، وقبره بالقادسية ، وهو مشهد معروف يزار (١).
يلاحظ عليه : من سبر تاريخ العلويين يذعن بأنّه كانت في عصر الاِمام الصادق عليه‌السلام وأيام إمامته (١١٤ ـ ١٤٨ هـ) فكرتان تسودهم ، فمن معتقد بأن طريق إنقاذ الأمة الاِسلامية من أيدي الأمويين ثم العباسيين يكمن في الكفاح المسلّح ، إلى آخر بأنّ الظروف لاتسمح للكفاح المسلح وإنّما الواجب توعية الناس وتثقيفهم وتعليمهم وإعدادهم إلى الظرف المناسب.
وقد سلك زيد الثائر الدرب وفق المعتقد الأوّل ، وأعقبه أبناوَه : يحيى بن زيد وعيسى بن زيد ، ثم الحسنيون عامة ، ولذلك قام محمد بن إبراهيم بن الحسن المثنى بطرق هذا الباب وأثار ثورة مع إخوته كما عرفت ، ولم يكن له ولا لاِخوته أو غيره أي دعوة إلى شخصهم وإنّما فرضوا على أنفسهم إزالة الحكومة الجائرة ثم تفويض الأمر إلى الأليق والأمثل من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، وعلى ضوء ذلك فلا يصح لنا عد ثائر على الظلم موَسساً لمذهب ومكوناً لفرقة ، وأمّا أنّ أمثال المغيرة بن سعيد من رجال العبث والفساد الذين استبطلوه بتعريفهم إيّاه للملأ على أنّه المهدي المنتظر فلا يمت إلى الثائر بصلة ، وقد تقدّم أنّ أئمة أهل البيت تبرّأوا من ابن سعيد وأذنابه عملاء الفسق والفساد.

ومنهم : الباقرية والجعفرية :

إنّ الاِمامية عن بكرة أبيهم يعتقدون بأنّ الأئمّة اثنا عشر خلفاء اللّه بعد وفاة
__________________
١ ـ البغداي : الفـرق بين الفـرق : ٥٧ ـ ٥٨ ، وقد بسط الكلام في هذه الفرقة الاِسفرائيني في التبصير : ٣٥ ـ ٣٦.
٤٩
الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد ذكر الرسول الأكرم أسماءهم لخُلَّص أصحابه ، منهم جابر بن عبد اللّه الأنصاري وغيره (١) وقد تضافر عن الرسول حسب ما رواه أحمد في صحيحه أنّه يملك هذه الأمّة اثنا عشر خليفة كعدد نقباء بني إسرائيل (٢) وروى البخاري عن جابر بن سمرة ، قال : سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « يكون اثنا عشر أميراً » فقال كلمة لم أسمعها ، فقال أبي : إنّه قال : « كلّهم من قريش » (٣) وروى مسلم عنه أيضاً يقول : سمعتُ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « لا يزال الاِسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة » ثم قال كلمة لم أفهمها فقلت لأبي : ماقال؟ فقال : كلّهم من قريش (٤).
إلى غير ذلك من الروايات الناصة على أنّ خلفاء الرسول اثنا عشر خليفة ، وقد ذكرنا متون الروايات في الجزء السادس من هذه الموسوعة (٥).
وقد اتفقت الاِمامية على أنّ محمداً الباقر وجعفراً الصادق عليهما‌السلام من الأئمّة الاثني عشر بلا ريب أو شك ، كما اتفقت الأمّة على فضلهما وجلالتهما بلا ريب أو شك.
قال ابن خلّكان : أبو جعفر محمد بن زين العابدين الملقب بـ « الباقر » أحد الأئمّة الاثني عشر في اعتقاد الاِمامية ، وهو والد جعفر الصادق ، كان الباقر عالماً سيّداً كبيراً ، وإنّما قيل له الباقر ، لأنّه تبقّر في العلم ، أي توسّع ، وفيه يقول الشاعر :
يا باقر العلم لأهل التقى

وخير من لبّى على الأجْبُلِ (٦)
__________________
١ ـ الحويزي : نور الثقلين : ١ / ٤١٤ ، في تفسير قوله تعالى : ( أطيعُوا اللّهَ وأطِيعُوا الرسولَ ) (النساء ـ ٥٩).
٢ ـ أحمد بن حنبل ، المسند : ١ / ٣٩٨.
٣ ـ البخاري : الصحيح : ٩ / ١٠١ ، كتاب الأحكام الباب ٥١ (باب الاستخلاف)
٤ ـ مسلم : الصحيح : ٦ / ٣.
٥ ـ السبحاني : بحوث في الملل والنحل : ٦ / ٥٨ ـ ٦٢.
٦ ـ ابن خلّكان : وفيات الأعيان : ٤ / ١٧٤.
٥٠
وهذا هو الشهرستاني يعرف الاِمام جعفر الصادق عليه‌السلام بقوله : وهو ذو علم غزير في الدين ، وأدب كامل في الحكمة ، وزهد بالغ في الدنيا ، وورع تام عن الشهوات ، وقد أقام بالمدينة مدّة يفيد الشيعة المنتمين إليه ، ثم دخل العراق وأقام بها مدّة (١).
نعم كان الاعتقاد بظهور المهدي أمراً مسلماً بين المسلمين عامّة والشيعة خاصة ، وربما تطرأ الشبهة للعوام في حقّ بعض الأئمّة ، وقد نقل البغدادي أنّ من بين الشيعة من يقول : إنّ الاِمام الباقر هو المهدي المنتظر ، ويستدل بما روي عن النبي أنّه قال لجابر بن عبد اللّه الأنصاري : « إنّك تلقاه فاقرئه مني السلام » وكان جابر آخر من مات بالمدينة من الصحابة ، وكان قد عمي في آخر عمره ، وكان يمشي في المدينة ويقول : ياباقر ، ياباقر ، متى ألقاك؟ فمرّ يوماً في بعض سكك المدينة فناولته جارية صبياً كان في حجرها ، فقال لها : من هذا؟ فقالت : هذا محمد ابن علي بن الحسين بن علي ، فضمه إلى صدره وقبّل رأسه ويديه ثم قال : يابني ، جدّك رسول اللّه يقرئك السلام. ثم قال جابر : قد نعيت إلي نفسي ، فمات في تلك الليلة (٢).
وتبعه الاِسفرائيني في « التبصير » ، ونسبا إلى بعض الشيعة أنّهم اعتقدوا بأنّ المهدي المنتظر هو أبو جعفر الباقر عليه‌السلام وليس في كتب الشيعة من هذه الفرقة من أثر ، ولعله كانت هنا شبهة لبعض الناس فماتت الشبهة بموتهم.

ومنهم : الناووسية :

قال الأشعري : وهوَلاء يسوقون الاِمامة إلى أبي جعفر محمد بن علي ، وأنّ أبا
____________
١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٦٦.
٢ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٦٠.
٥١
جعفر نصّ على إمامة جعفر بن محمد ، وأنّ جعفر بن محمّد حيّ لم يمت ولا يموت حتى يظهر أمره ، وهو القائم المهدي وهذه الفرقة تسمّى الناووسية ، لقبوا برئيس لهم يقال له : « عجلان بن ناووس » من أهل البصرة (١).
وفي الحور العين : إنّهم أتباع رجل يقال له « ناووس » وقيل : نسبوا إلى قرية ناووس (٢).
إذا تردّد أمر موَسس المذهب من أنّه هو « ناووس » أو ابنه عجلان ، أو شخص ثالث منسوب إلى « ناووس » يكون أولى بأن يشك الاِنسان في أصله وغاية ما يمكن أن يقال طروء شبهة لشخص أو شخصين في أمر المهدي فزعموا أنّه الاِمام الصادق عليه‌السلام لكن ماتت الشبهة بموت أصحابها ولايعد مثل ذلك فرقة ، غير أنّ حبّ أصحاب المقالات لتكثير فرق الشيعة أوّلاً ، وفرق المسلمين ثانياً لتجسيد حديث افتراق الأمّة إلى ثلاث وسبعين فرقة ، جرّهم إلى عدّ هوَلاء فرقة.
والحاصل بما أنّه لم يذكر لهم دور في الحياة ، ولا حركة في المجتمع ، يظن أنّه حصلت شبهة في مسألة المهدي ، فزعم الرجل أنّه الاِمام الصادق وتبعه واحد أو اثنان ، ثم ماتت الفرقة بموت المشتبه فلا يعد مثل ذلك فرقة.
نحن نطلق الفرقة على جماعة لهم منهج في العقيدة أو مذهب في الفقه أو لهم دعايات وبلاغات وحركات في المجتمع.
إلى هنا لم نجد للشيعة الاِمامية فرقة صحيحة قابلة للذكر فهي بين خارجة عن الدين من رأس كالغلاة ، ومغمورة في أطباق الاِبهام كالكيسانية ، أو طارئة عليها الشبهة ولم يكتب لها البقاء إلاّ أياماً قلائل ، والمظنون أنّ الشيعة الاِمامية إلى عصر الاِمام الصادق عليه‌السلام كانوا متماسكين غير منفصلين.
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٢٥.
٢ ـ الحاكم الجشمي : الحور العين : ١٦٢.
٥٢
قال الشهرستاني : إنّ الاِمامية متفقون في الاِمامة وسوقها إلى جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام ، ومختلفون في المنصوص عليه من أولاده ، إذ كانت له خمسة أولاد ، وقيل ستة : محمد وإسحاق وعبد اللّه وموسى وإسماعيل (١).
* * *

الفرق الواقعية للشيعة بعد رحيل الاِمام الصادق عليه‌السلام :

لقد عرفت أنّ جماهير الشعية كانوا متماسكين غير مختلفين ، ولو طرأت هناك شبهة فلواحد أو اثنين فلم تكن موَثرة على التحامهم.
نعم ، توفي الاِمام الصادق عليه‌السلام وكان الضغط على الشيعة شديداً وكان أبو جعفر المنصور ذلك الحاكم الطاغي يقتل العلويين بقسوة شديدة ، ففي هذه الظروف أي عام ١٤٨ هـ لبى الاِمام الصادق عليه‌السلام دعوة ربّه ولم يكن في إمكانه التصريح العام بالاِمام الذي بعده ، حتى أنّه لما مات أوصى إلى خمسة أشخاص منهم أبو جعفر المنصور ومنهم حاكم المدينة وثالثهم زوجته ، وبذلك جعل الأمر مخفياً على الأعداء. وعند ذلك نشأ اختلاف بين الشيعة وتفرّقوا إلى فرق ثلاث :

الأولى : السميطية :

قالوا بأنّ الاِمام هو محمد بن جعفر والاِمامة في ولده ، نسبت تلك العقيدة إلى رئيس لهم باسم يحيى بن سميط (٢) ولم يكتب البقاء لهذه الفرقة وليس لها رسم ولا اسم بين كتب الشيعة الذين هم أعرف بفرقهم.
__________________
١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٦٧.
٢ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٢٧ ، البغدادي : الفرق بين الفرق : ٦١ ، الاِسفرائيني : التبصير : ٢٣.
وفي الحور العين : يحيى بن أبي شميط.
٥٣

الثانية : الفطحية :

وهم القائلون بإمامة الاثني عشر مع عبد اللّه الأفطح ابن الصادق عليه‌السلام يدخلونه بين أبيه وأخيه (الاِمام الكاظم عليه‌السلام) ، وعن الشهيد ـ رحمه‌الله ـ أنّهم يدخلونه بين الكاظم والرضا عليهما‌السلام وقد كان أفطح الرأس ، وقيل : أفطح الرجلين ، وإنّما دخلت عليهم الشبهة مما رووا عن الأئمّة : الاِمامة في الأكبر من ولد الاِمام ، ثم منهم من رجع عن القول بإمامته لما امتحنوه بمسائل من الحلال والحرام ولم يكن عنده جواب ، ولما ظهرت منه الأشياء التي لا ينبغي أنّ تظهر من الاِمام ، ثم إنّ عبد اللّه مات بعد أبيه بسبعين يوماً ، فرجع الباقون ـ الشذّاذ منهم ـ عن القول بإمامته إلى القول بإمامة أبي الحسن موسى عليه‌السلام.
وقد أسماهم أبو الحسن الأشعري بـ : « العماريـة » وقال : وأصحاب هذه المقالة منسوبون إلى زعيم منهم يسمى : عماراً ، ولعل المراد منه هو : عمار بن موسى الساباطي من روَساء الفطحية. قال : الشيخ الطوسي : عمار بن موسى الساباطي وكان فطحياً له كتاب كبير جيد معتمد (١).

الثالثة : الاِسماعيلية :

وربّما يعبر عنهم بالقرامطة : وهم القائلون بإمامة إسماعيل بن جعفر ولما مات إسماعيل في حياة أبيه صارت الاِمامة في ابنه محمد بن إسماعيل ، وهم فرقة كبيرة موجودة في العصر الحاضر.
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٢٧ ، والبغدادي : الفرق بين الفرق : ٦٢. والنوبختي : فرق الشيعة : ٦٨ ، والطوسي : الفهرست : برقم ٥٢٧.
٥٤

الرابعة : الواقفية :

إنّ الشيعة الاِمامية القائلة بإمامة الاثني عشر قالت بإنّ الاِمام بعد جعفر الصادق عليه‌السلام هو ابنه موسى بن جعفر عليه‌السلام ولهم على إمامته براهين وحجج مقنعة ، فلما توفي وقفت عدّة على إمامة موسى عليه‌السلام ولم يقولوا بإمامة ولده علي بن موسى الرضا عليه‌السلام.
قال الأشعري : وهذا الصنف يدعون الواقفة لأنّهم وقفوا على موسى بن جعفر ولم يجاوزوه إلى غيره ، وبعض مخالفي هذه الفرقة يدعونهم بالممطورة ، وذلك أنّ رجلاً منهم ناظر يونس بن عبد الرحمن فقال له يونس : أنتم أهون عليّ من الكلاب الممطورة ، فلزمهم هذا النبز وربما يطلق عليهم : الموسوية (١).
هذه الفرق الأربعة ، السميطية ، الفطحية ، الاِسماعيلية والواقفية هي الفرق الواقعية للشيعة بعد الاِمام الصادق عليه‌السلام وقد هلكت جميعها ولم يبق منهم إلاّ الاِسماعيلية وأمّا النصيرية ، أعني : أصحاب محمد بن نصير الفهري ، فهم من الغلاة الذين لا يمتّون إلى الاِسلام والتشيع بصلة ، ظهرت في عصر الاِمام الهادي عليه‌السلام وهم أصحاب محمد بن نصير النميريّ وقيل فيهم غير ذلك ومثلهم المفوضة ببعض معانيها. بما أنّ نطاق هذا الجزء يضيق عن التبسط سنبحث عن هذه الفرق في مقدّمة الجزء الثامن المختص بالاِسماعيلية بفضل من اللّه تبارك وتعالى.
__________________
١ ـ الأشعري : مقالات الاِسلاميين : ٢٨ ـ ٢٩.
٥٥
٥٦

الفصل الثاني

حياة زيد
في عصر الأئمّة الثلاثة عليهم‌السلام
بَخَس الموَرخون حقوق آل البيت جميعاً ، وحقوق زيد الثائر الشهيد خصوصاً ولم يذكروا من أحواله شيئاً كثيراً ، مع أنّهم استقصوا بيان حياة الجائرين من بني أُمية والعباس وذكروا مجالس المجون والخلاعة لهم ، وما جرى بينهم وبين المغنّيات وسائر الأجلاف فيها. من القصص والهزليّات وهذا إن دل على شيء فإنّما يدلّ على اضطهاد أهل البيت حتى عند أهل القلم والبيان ، فأخفوا آثارهم ومناقبهم. ولأجل ذلك نذكر في المقام ما وقفنا عليه في طيات الكتب معتذرين عن قلة ما نهدي إلى سدنة ثائرنا ـ قدس اللّه نفسه الزكية ـ.
فنقول :

حياته في عصر الاِمام زين العابدين عليه‌السلام :

أدرك زيد بن علي من الأئمّة الاثني عشر ، ثلاثة :
١ ـ والده علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام (٣٨ ـ ٩٤ هـ).
٥٧
٢ ـ أخوه الأكبر أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين عليه‌السلام (٥٧ ـ ١١٤ هـ).
٣ ـ ابن أخيه الاِمام جعفر بن محمد الصادق عليه‌السلام (٨٣ ـ ١٤٨ هـ).
فلنذكر فيما يرجع إلى المحور الأوّل من المحاور الثلاثة ، نسبه وميلاده ومواصفاته الخلقية وما يمتّ إليه بصلة.

نسبه الوضّاح :

هو زيد الشهيد ، بن زين العابدين علي ، بن سيد الشهداء الحسين ، بن مولى الموحدين وسيد الوصيين علي ، بن حامي الرسول والذائد عن حريمه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبي طالب ، هوَلاء آباوَه فله أن يفتخر ويقول :
أُولئك آبائـي فجئنـي بمثلهـم

إذا جمعتنا يا جرير المجامع
وأمّا أُمّه فاسمها حورية أو حوراء اشتراها المختار بن أبي عبيدة الثقفي وأهداها إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام روى أبو الفرج في مقاتل الطالبيين : انّ المختار بن أبي عبيدة اشترى جارية بثلاثين ألفاً. فقال لها : أدبري ، فأدبرت ، ثم قال لها : أقبلي ، فأقبلت ، ثم قال : ما أرى أحداً أحقّ بها من علي بن الحسين ، فبعث بها إليه ، وهي أُم زيد بن علي عليه‌السلام وأنجبت له زيداً وعمر ، وعلياً وخديجة (١).
روى ابن قولويه (م ٣٦٩ هـ) قال : روى بعض أصحابنا ، قال : كنت عند علي بن الحسين عليه‌السلام فكان إذا صلّى الفجر لم يتكلّم حتى تطلع الشمس فجاءُوه يوم ولد فيه زيد ، فبشّروه به بعد صلاة الفجر ، قال : فالتفت إلى أصحابه وقال : « أي شيء ترون أن أُسمّي هذا المولود؟ » فقال كل رجل منهم : سمّه كذا ، سمّه كذا. قال : فقال : « يا غلام عليّ بالمصحف » ، فجاءُوا بالمصحف ، فوضعه على
__________________
١ ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : ٨٦ ، المكتبة الحيدرية ، النجف الأشرف (١٣٨٥ هـ ـ ١٩٦٥ م).
٥٨
حجره. قال : ثم فتحه ، فنظر إلى أوّل حرف في الورقة ، فإذا فيه : « فَضَّلَ اللّهُ المُجاهِدِينَ على القاعِدِينَ أجراً عَظِيماً » (النساء ـ ٩٥) قال : ثم طبقه ، ثم فتحه ، فنظر فإذا في أوّل الورقة : « إنَّ اللّهَ اشتَرى مِنَ المُوَمِنِينَ أنفُسَهُم وأموالَهمْ بِأنَّ لَهُمُ الجنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التوراة والاِنجِيلِ والقُرآنِ ومَنْ أوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فاسْتَبشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الّذِي بايَعْتُم بِهِ وذلِكَ هُوَ الفَوْزُ العَظِيم » (التوبة ـ ١١١) ثم قال : « هو واللّه زيد ، هو واللّه زيد ». فسمّي زيداً (١).
وفي الروض النضير بعد نقل الآيتين ، قال الاِمام : « عزّيت عن هذا المولود وأنّه لمن الشهداء » (٢) وإنّما اختار الاِمام هذا الاسم بعد التفاوَل بالقرآن والمفاجأة بالآيتين ، في صدر الورقةلما تضافر عن النبي والوصي والحسين بن علي عليهم‌السلام أنّه قال مشيراً إلى الحسين عليه‌السلام : « إنّه يخرج من ولده رجل يقال له زيد ، ويقتل بالكوفة ، يصلب بالكناسة ، ويخرج من قبره نبشاً ، تفتح لروحه أبواب السماء وتبتهج به أهل السماوات » (٣) فأيقن أنّ المولود هو الذي تنبّأ به الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ميلاده :

اختلف الموَرّخون في ميلاده ، ويرجع بعضُ الاختلافِ في ميلاده ، إلى الاختلاف في مقتله ، وأنّه هل استشهد سنة مائة وعشرين ، أو مائة وإحدى وعشرين ، أو مائة وثنتين وعشرين ، أو مائة وثلاث وعشرين ، وبما أنّ المشهور أنّه
__________________
١ ـ ابن إدريس : السرائر : ٣ / ٦٣٨ ، قسم المستطرفات ، فيما استطرفه من روايات أبي القاسم بن قولويه وحميد بن أحمد المحلي (٥٨٢ ـ ٦٥٢ هـ) : الحدائق الوردية : ١٣٧ ـ ١٣٨.
٢ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٠.
٣ ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٥٠ ، الباب ٢٥ ، وحميد بن أحمد المحلي : الحدائق الوردية : ١٣٨ ـ ١٣٩ ، وسيوافيك تفصيل التنبّوَات في محلها.
٥٩
استشهد عن عمر يناهز (٤٢ سنة) ، وتلك الشهرة منضمة إلى الاختلاف في نفس الميلاد ، صارا سبباً للاختلاف الأكثر في ميلاده ، وها أنّا نسرد أقوال الموَرخين والمترجمين ، وعلى جميع الأقوال يدور ميلاده بين سنة (٧٥) و (٧٩) وربما يبدو أنّ الحقّ غير ذلك ، وسيوافيك آخر البحث :
١ ـ قال محمد بن سعد : قتل يوم الاثنين لليلتين خلتا من صفر سنة عشرين ومائة ويقال : سنة اثنتين وعشرين ومائة (١).
٢ ـ وقال البخاري : زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الهاشمي عن أبيه ، روى عنه عبد الرحمن بن الحارث ويقال : كنيته أبو الحسين ، أخو محمد بن علي ، وحسين بن علي قتل سنة ثنتين وعشرين ومائة (٢).
٣ ـ وقال ابن حِبّان في الثقات : رأى جماعة من أصحاب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروى عنه ولده ، وقتل سنة ثنتين وعشرين ومائة (٣).
٤ ـ وعن مصعب بن عبد اللّه الزبيري : قتل زيد بن علي بالكوفة. قتله يوسف بن عمر في زمن هشام بن عبد الملك وقتل يوم الاثنين لثلاث خلت من صفر سنة عشرين ومائة ، وهو يوم قتل ، ابن اثنتان وأربعين سنة (٤).
٥ ـ وقال الذهبي : اختلف في تاريخ مصرعه على أقوال : فقال مصعب الزبيري : قتل في صفر سنة عشرين ومائة وله اثنتان وأربعون سنة.
وقال أبو نعيم : قتل يوم عاشوراء سنة اثنتين وعشرين ومائة ، رواه ابن سعد.
وقال الزبير بن بكار : قال محمد بن الحسن : قتل زيد يوم الاثنين ثاني صفر
__________________
١ ـ ابن سعد : الطبقات : ٥ / ٣٢٦.
٢ ـ البخاري : التاريخ الكبير : ٢ / ٤٠٣ برقم ١٣٤١.
٣ ـ ابن حبان : الثقات : ٤ / ٢٤٩ ـ ٢٥٠.
٤ ـ المزي : تهذيب الكمال : ١٠ / ٩٨.
٦٠
سنة اثنتين وعشرين ومائة (١).
٦ ـ وقال الصفدي : وكانوا قد صلبوه بالكناسة سنة إحدى واثنتين أو ثلاث وعشرين ومائة ، وله اثنتان أو أربع وأربعون سنة ثم حرقوه بالنار ، فسمّي زيد النار ، ولم يزل مصلوباً إلى سنة ست وعشرين ثم أُنزل بعد أربع سنين من صلبه (٢).
٧ ـ وروى السياغي عن الاِمام المرشـد باللّه في أماليـه أنّه ولـد سنة ٧٥ واستشهد سنة ١٢٢ هـ (٣).
وسيوافيك عن الطبري والجزري في الفصل المختص بثورته أنّهما ذكرا تاريخ خروجه واستشهاده عام ١٢٢ هـ.

القول الحق في ميلاده :

ولكن هنا احتمالاً آخر لا يتفق مع جميع الأقوال لكن توَيده القرائن والروايات وهي أنّ أُم زيد كما تقدم ـ كانت أمة أهداها المختار إلى الاِمام زين العابدين عليه‌السلام ـ وقد خرج المختار عام ٦٦ وقتل عام ٦٧ هـ ، وطبع الحال يقتضي أنّه أهداها إلى الاِمام في أحد العامين ، ولا يمكن تأخره عنهما ، وبما أنّ زيداً كان أوّل ولدٍ أنجبت فلا محيص عن القول بأنّ زيداً من مواليد سنة ٦٧ هـ أو بعدها ، ولو قلنا بتأخر ولادة زيد إلى عام ٧٥ هـ وما بعده فلازم ذلك أن لا يمسّها الاِمام إلى ذلك العام أو كانت لا تلد إلى تلك السنة أو أولدت ولكن لم يكن له حظ من البقاء والكل بعيد. وعلى ضوء ذلك يحتمل قوياً أنّ يكون ميلاد زيد هو
____________
١ ـ الذهبي : تاريخ الاِسلام ووفيات المشاهير والأعلام : ١٠٧ ـ ١٠٨ (حوادث سنة ١٢١ ـ ١٤٠ هـ).
٢ ـ الصفدي : الوافي بالوفيات : ١٥ / ٣٤. (إنّ « زيد النار » لقب زيد بن موسى بن جعفر الذي خرج في عصر « المأمون » وأحرق بيوت بني العباس : والظاهر أنّ الصفدي قد سها في تسمية زيد بن علي به).
٣ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٩٦.
٦١
عام قتل المختار ، أعني : ٦٧ هـ ، أو عام بعده ، فلو أخذ في مقتله بالقول المشهور ، وأنّه استشهد عام ١٢٢ هـ ، يكون عمره عند ذاك حوالي ٥٥ سنة.
هذا وتوَيد ذلك روايات تنصّ على أنّ أُمّه حملت زيداً عام الأهداء وإليك نصّها :
١ ـ روى الشيخ أبو القاسم فرات بن إبراهيم الكوفي ـ من أعلام أوائل القرن الرابع ـ في تفسيره عن الجعفي عن أبيه ، قال : كنت أُدمن الحجّ فأمرّ على علي ابن الحسين عليهما‌السلام فأُسلِّمُ عليه ففي بعض حججي غدا علينا علي بن الحسين عليهما‌السلام ووجهه مشرق فقال : « جاءني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ليلتي هذه حتى أخذ بيدي فأدخلني الجنّة ، فزوّجني حوراء فواقعتها فعلقته ، فصاح بي رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا علي بن الحسين سمِّ المولود منها زيداً ».
قال : فما قمنا من مجلس عليّ بن الحسين ذلك اليوم ، وعلي بن الحسين عليهما‌السلام يقصّ الروَيا حتى أرسل المختار بن أبي عبيدة بأُم زيد أرسل بها إليه المختار ابن أبي عبيدة هدية إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام شراها بثلاثين ألفاً ، فلما رأينا إشغافه بها تفرّقنا من المجلس ، فلما كان من قابل حججت ومررت على علي بن الحسين ( عليهما‌السلام.أ) لأسلِّم عليه فأخرج بزيد على كتفه الأيسر وله ثلاثة أشهر وهو يتلو هذه الآية ويومىَ بيده إلى زيد وهو يقول : « هذا تَأوِيلُ رُوَيايَ مِن قَبلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقّاً » (١).
٢ ـ روى أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الثقفي وقال : وعن أبي حمزة الثمالي قال : كنت أزور علي بن الحسين عليهما‌السلام في كل سنة مرّة في وقت الحجّ ، فأتيته سنة وإذا على فخذه صبيّ ، فقام الصبي فوقع على عتبة الباب فانشجّ رأسه ، فوثب إليه علي بن الحسين عليهما‌السلام مُهَروِلاً فجعل ينشف دمه بثوبه ويقول له :
__________________
١ ـ فرات بن إبراهيم : التفسير : ٢٠٠ ، تحقيق محمد الكاظم. والآية ١٠٠ من سورة يوسف.
٦٢
« يابني أُعيذك باللّه أن تكون المصلوب في الكناسة! » قلت : بأبي أنت وأُمي أيّ كناسة؟ قال : « كناسة الكوفة ». قلت : جعلت فداك ويكون ذلك؟ قال : « أي واللّه إن عشت بعدي لترينّ هذا الغلام في ناحية من نواحي الكوفة مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً في الكناسة ثم ينزل فيحرق ويدق ويذرى في البر ».
قلت : جعلت فداك وما اسم هذا الغلام؟ قال : « زيد ». ثم دمعت عيناه ، ثم قال : « ألا أُحدثك بحديث ابني هذا ، بينما أنا ليلة ساجد وراكع ، ذهب بي النوم فرأيت كأنّي في الجنة ، وكأنّ رسول اللّه وعلياً وفاطمة والحسن والحسين ـ صلوات اللّه عليهم أجمعين ـ قد زوّجوني جارية من الحور العين ، فواقعتها واغتسلت عند سدرة المنتهى وَوَلِّيت ، وهاتف يهتف بي : لِيُهنَّك زيد ، ليهنّك زيد ، ليهنّك زيد. فاستيقظت فأصبت جنابة ، فقمت فتطهرت وصليت صلاة الفجر ، فدقّ الباب وقيل لي : على الباب رجل يطلبك. فخرجت فإذا أنا برجل معه جارية ملفوف كمها على يده ، مخمرة بخمار ، فقلت : ما حاجتك؟ فقال : أُريد علي بن الحسين. فقلت : أنا علي بن الحسين. قال : أنا رسول المختار بن أبي عبيدة الثقفي وهو يقرئك السلام ويقول : وقعت هذه الجارية في ناحيتنا فاشتريتها بستمائة دينار وهذه ستمائة دينار فاستعن بها على دهرك (١) ودفع إليّ كتاباً ، فأدخلت الرجل والجارية وكتبت له جواب كتابه ، وقلت للجارية : ما اسمك؟ قالت : حوراء. فهيّوَوها لي وبتُّ بها عروساً فعلقت بهذا الغلام فسمّيته زيداً ، وهو هذا ، وسرّي ما قلت لك ».
__________________
١ ـ روى ابن الأثير : أنّ المختار وجد في بيت المال تسعة آلاف ألف فقسّمها بين أصحابه (الكامل : ٤ / ٢٢٦) ولعله عند ذاك بعث بهذه الدنانير إلى علي بن الحسين عليهما‌السلام ، فيكون عام الاِهداء هو عام الخروج.
٦٣
قال أبو حمزة : فما لبثت إلاّ برهة حتى رأيت زيداً بالكوفة في دار معاوية بن إسحاق فسلّمت عليه. ثم قلت : جعلت فداك ما أقدمك هذا البلد؟ قال : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فكنت أختلفُ إليه فجئته ليلة النصف من شعبان فسلمت عليه وجلست عنده. فقال : يا أبا حمزة تقوم حتى تزور قبر أمير الموَمنين علي عليه‌السلام؟ ـ قلت : نعم جعلت فداك.
ثم ساق أبو حمزة الحديث حتى قال :
أتينا الذكوات البيض فقال : هذا قبر علي بن أبي طالب عليه‌السلام ثم رجعنا فكان من أمره ما كان. فواللّه لقد رأيته مقتولاً مدفوناً منبوشاً مسلوباً مسحوباً مصلوباً بالكناسة ثم أُحرق ودق وذُري في الهواء (١).
٣ ـ ما رواه أبو القاسم علي الخزاز قال : عن زيد بن علي عليه‌السلام قال : كنت عند أبي علي بن الحسين عليه‌السلام إذ دخل عليه جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، ( م ٧٨ هـ ) فبينما هو يحدثه إذ خرج أخي محمد من بعض الحجر ، فأشخص جابر ببصره نحوه ثم قام إليه فقال : يا غلام أقبل ، فأقبل ، ثم قال : أدبر ، فأدبر ، فقال : شمائل كشمائل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما اسمك يا غلام؟ قال : « محمد ». قال : ابن من؟ قال : « ابن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب » ، قال : أنت إذاً الباقر. قال : فأبكى (فانكبّ) عليه وقبّل رأسه ويديه ثم قال : يا محمد إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرئك السلام. قال : « على رسول اللّه أفضل السلام وعليك يا جابر بما أبلغت السلام ».
ثم عاد إلى مصلاّه ، فأقبل يحدث أبي ويقول : إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لي يوماً : يا جابر إذا أدركت ولدي الباقر فاقرأه مني السلام فإنّه سميّي وأشبه الناس بي ، علمه علمي وحكمه حكمي ، سبعة من ولده أُمناء معصومون أئمة أبرار ، والسابع
__________________
١ ـ الثقفي : الغارات : ٢ / ٨٦٠ ـ ٨٦١ ؛ وابن طاووس : فرحة الغريّ : ٥١ ، المطبوع في ذيل مكارم الأخلاق.
٦٤
مهديهم الذي يملأ الدنيا قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً. ثمّ تلا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وَجَعَلناهُمْ أئمّةً يَهدُونَ بِأمرنا وأوْحَيْنا إلَيْهِم فِعْلَ الخَيْراتِ وإقَامِ الصَّلاةِ وإيتَاءَ الزَّكاةِ وكَانُوا لَنا عابِدِينَ » (١).
المشهور أنّ جابر ، توفي بين السبعين والثمانين من الهجرة (٢).
وهذه الروايات المسندة ، التي رواها الأثبات من العلماء ، مع ما ذكرنا من القرينة يدفع جميع الأقوال ويثبت أنّ ميلاده كان متقدماً على عقد السبعين كما عرفت.
إكمال :
ولعل ما يرويه الكليني في كافيه من تعبير عبد الملك تزويج الاِمام السجاد ، أمته راجع إلى أُم زيد التي كانت أمة وتزوجها الاِمام بعد الاعتاق ، وإليك النص :
كان لعبد الملك بن مروان عين بالمدينة يكتب إليه بأخبار ما يحدث فيها ، وإن عليّ بن الحسين عليه‌السلام أعتق جارية له ثم تزوّجها ، فكتب العين إلى عبدالملك.
ثم كتب عبد الملك إلى علي بن الحسين عليه‌السلام : « أمّا بعد : فقد بلغني تزويجك مولاتك ، وقد علمت أنّه كان في أكفّائك من قريش من تُمجّد به في الصهر ، وتستنجبه في الولد ، فلا لنفسك نظرت ، ولا على ولدك أبقيت والسلام.
فكتب إليه علي بن الحسين عليه‌السلام : « أمّا بعد : فقد بلغني كتابك تعنّفني بتزويجي مولاتي وتزعم أنّه قد كان في نساء قريش من أتمجّد به في الصهر ،
__________________
١ ـ الخزاز : كفاية الأثر في النص على الأئمّة الاثني عشر : ٢٩٨. والآية ٧٣ من سورة الأنبياء.
٢ ـ قال الشيخ الطوسي في رجاله : أنّه توفي عام ٧٨ ، وبه قال ابن قتيبة في معارفه ، والطبري في ذيوله لاحظ : قاموس الرجال لشيخنا التستري : ٢ / ٥١٩.
٦٥
واستنجبه في الولد ، وأنّه ليس فوق رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرتقاً في مجد ، ولا مستزاد في كرم. وإنّما كانت ملك يميني خرجت منّي ، أراد اللّه عزّ وجلّ منّي بأمر التمس به ثوابه ، ثم ارتجعتها على سنة ، ومن كان زكياً في دين اللّه فليس يخل به شيء من أمره ، وقد رفع اللّه بالاِسلام الخسيسة ، وتمّم به النقيصة ، وأذهب اللوَم ، فلا لوَم على أمرىَ مسلم إنّما اللوَم لوَم الجاهلية والسلام ».
فلمّا قرأ ، الكتاب رمى به إلى ابنه سليمان فقرأه ، فقال : يا أمير الموَمنين لشدّ ما فخر عليك علي بن الحسين!! فقال : يا بني لا تقل ذلك فإنّها ألسُن بني هاشم التي تفلق الصخر ، وتغرف من بحر ، أنّ علي بن الحسين عليه‌السلام يا بني يرتفع من حيث يتّضع الناس (١).

مواصفاته الخلقية :

نقل السياغي عن الشيخ أبي محمد يحيى بن يوسف بن محمد الحجوري الشافعي : أنَّ زيداً كان أبيض اللون ، أعين ، مقرون الحاجبين ، تام الخلق ، طويل القامة ، كث اللحية ، عريض الصدر ، أقنى الأنف ، أسود الرأس واللحية ، إلاّ أنّه خالطه الشيب في عارضيه.
كان مثل جده عليه‌السلام في شجاعته وسخاوته وفصاحته وبلاغته وعلمه وحلمه ـ إلى أن قال : ـ وما أشبه حاله بقول من قال :
فما إن براه اللّه إلاّ لأربع

يقرّ له القاصي بهنّ مع الداني
إمامٌ لأخيارٍ ، وقلبٌ لجحفلٍ

وفارسُ ميدانٍ وصدرٌ لاِيوانِ
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ٥ / ٣٤٤.
٦٦
إلى أن قال : ونحن نعلم بأنّ من بني أُمية من خطب له في ثمانين ألف منبر ، فإذا مات ، مات ذكره معه ، وكان من بني العباس من كانت دولته خمسين سنة وملك أقطار الأرض من شرق وغرب فما كان ذكرهم إلاّ مدّة حياتهم (١).
روى أبو الفرج عن مولى آل الزبير ، قال : كنّا عند علي بن الحسين عليه‌السلام فدعا ابناً له يقال له : زيد ، فكبا لوجهه ، وجعل يمسح الدم عن وجهه ويقول : « أُعيذك باللّه أن تكون زيداً المصلوب بالكناسة من نظر إلى عورته متعمداً أصلى اللّه وجهه النار » (٢).
وعن أبي خالد الواسطي وأبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال لهما : « يا أبا خالد ، وأنت يا أبا حمزة إنّ أبي دعا زيداً فاستقرأه القرآن ، فقرأ عليه ، فسأله عن المعضلات ثم دعا له وقبّل بين عينيه » ، ثم قال أبو جعفر عليه‌السلام : « يا أبا حمزة إنّ زيداً أُعطي من العلم علينا بسطة » (٣).
والظاهر أنّ الراوي صحّف كلمة الاِمام وأضاف لفظة « علينا » وأنّ أبا جعفر قال : إنّ زيداً أُعطي من العلم بسطة مشيراً إلى قوله سبحانه : « وزادَهُ بَسْطَةً في العِلْمِ والجِسْم » (البقرة ـ ٢٤٧).
ولو صحّ ما ذكره السياغي فيرجع كونه ذا قراءة خاصة إلى عصره والده السجاد عليه‌السلام : فقال أبو سعيد الحميري أنّه ضليع بعدّة علوم منها علم القرآن ، ووجوه القراءات وله قراءة خاصة مفردة مروية عنه (٤).
ونقل الشيخ الطوسي في الفهرست أنّ قراءته هي عين قراءة جده الاِمام علي
__________________
١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٩٧ ، حميد بن أحمد المحلي : الحدائق الوردية : ١٣٨.
٢ ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : ٨٩.
٣ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٢ ، حميد بن أحمد المحلي : الحدائق الوردية : ١٤٢.
٤ ـ الحور العين : ١٨٦.
٦٧
ابن أبي طالب عليه‌السلام (١).
قال محقّق تفسيره في مقدمته : « ولعلّ أوّل من جمع قراءته بكتاب مستقل عمر بن موسى الوجيهي الذي كان معاصراً لزيد فقال عنها : « إنّ هذه القراءة سمعتها عن زيد بن علي عليه‌السلام » وكان هذا الكتاب موجوداً بعد سنة إحدى وستين ومائتين فقد استنسخها إبراهيم بن مسكين في السنة ذاتها ونقل عنه بعد ذلك يحيى بن كهمش.
وقد جمع قراءته أيضاً الحسن بن علي الأهوازي. ولعل أبا حيان قد اطّلع عليها أو على قسم منها على الأقل ، فقد استشهد منها في كتابه البحر المحيط فذكر « أنّ الأهوازي ... في قراءة زيد بن علي أنّه قرأ ربّ العالمينَ الرحمنَ الرحيمَ بنصب الثلاثة ».
وجمعها أيضاً أبو حيان في كتاب سمّاه : « النير الجلي في قراءة زيد بن علي ».
ووردت قراءة زيد أيضاً كاملة في كتب القراءة والتفسير لكنها مقرونة بغيرها من القراءات حسب ورود كل منها على الآية القرآنية الكريمة.
فقد جاءت بهذه الطريقة في كتب القراءات كما في كتاب « شواذ القراءة » للكرماني ، وأيضاً في كتاب « معجم القراءات القرآنية ».
وكذلك وردت كاملة في كتب التفسير كما في كتاب « البحر المحيط » لأبي حيان وكذلك ضمها الآلوسي لكتابه في التفسير المسمّى « روح المعاني » (٢).
وقال الكاتب الچلبي : كتاب « النير الجلي في قراءة زيد » لأبي علي الأهوازي المقري (٣).
__________________
١ ـ الطوسي : الفهرست : ١٤٠.
٢ ـ الدكتور حسن محمد تقي الحكيم : تفسير الشهيد زيد بن علي : ٣٧ ، المقدمة.
٣ ـ الكاتب الچلبي : كشف الظنون : ٢ / ٦٢٤.
٦٨
وفي الختام :
نقل المقريزي عن عاصم بن عبيد اللّه أنّه قال : لقد أُصيب عندكم رجل ماكان في زمانكم مثله ، ولا أراه يكون بعده مثله (زيد بن علي) لقد رأيته وهو غلام حدث ، وأنّه ليسمع الشيء من ذكر اللّه فيغشى عليه ، حتى يقول القائل ما هو بعائد إلى الدنيا ... (١).
* * *

حياته في عصر الاِمام الباقر عليه‌السلام :

التحق الاِمام زيد العابدين عليه‌السلام بالرفيق الأعلى ، ونصّ على إمامة ولده البارّ ، أبي جعفر محمد الباقر عليه‌السلام الذي دان بفضله وعلمه وورعه الداني والقاصي ، والموَالف والمخالف قال ابن حجر : سمّي الاِمام باقراً ، لأنّه من بقر الأرض أي شقّها وإثارة مخبآتها ومكامنها ، فكذلك هو أظهر من مخبآت كنوز المعارف وحقائق الأحكام والحكم واللطائف ما لا يخفى إلاّ على منطمس البصيرة أو فاسد الطويّة والسريرة ، ومن ثم قيل هو باقر العلم وشاهر علمه ورافعه (٢).
لقد استنارت بقية الصحابة ووجوه التابعين ، من نوره ، وارتووا من منهل علمه ، فكان الاحتفال بمجالسه أكبر احتفال ، يوم ذاك. توفي الاِمام زين العابدين عليه‌السلام ، وزيد بن علي في أوان حلُمه ، أو بعده بقليل فضّمه الاِمام الباقر إلى أولاده فكان يعطف عليه ويحنو إليه كالوالد الروَوف بالنسبة إلى أولاده إلى أن شبّ وترعرع ، وبلغ في العلم والعمل ما بلغ ، وقد نصّ بذلك أكثر من كتب عن زيد :
__________________
١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٩٨ ، لاحظ الخطط للمقريزي : ٢ / ٤١٩.
٢ ـ ابن حجر : الصواعق المحرقة : ٢٠٠ ، ط ٢ ، مكتبة القاهرة ( ١٣٨٥ هـ ـ ١٩٦٥ م ).
٦٩
١ ـ قال الشيخ في فصل أصحاب الاِمام الباقر عليه‌السلام : « زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب أبو الحسن ، أخوه عليه‌السلام ، ذكره أيضاً في أصحاب أبيه زين العابدين عليه‌السلام (١).
٢ ـ قال المزي : روى عن : أبان بن عثمان ، وعبيد اللّه بن أبي رافع ، وعروة بن الزبير وأبيه علي بن الحسين وأخيه أبي جعفر محمد بن علي الباقر (٢).
٣ ـ وذكره بهذا النصّ ابن حجر في تهذيب التهذيب (٣).
٤ ـ وقال الذهبي : زيد بن علي بن الحسين ... الهاشمي العلوي أخو أبي جعفر ... روى عن : أبيه وأخيه أبي جعفر وعروة وكان أحد العلماء الصلحاء بدت منه هفوة (٤) فاستشهد فكانت سبباً لرفع درجته في آخرته (٥).
لقد عاش زيد تحت رعاية أخيه الكبير البار الحنون فتلقى منه الحديث والتفسير والأصول والمعارف حتى فاق وبرع أقرانه.
قال ابن زهرة : وقد مات أبوه (زيد) عام ٩٤ هـ أي وهو في الرابعة عشرة من عمره فتلقى الرواية عن أخيه محمد الباقر عليه‌السلام الذي يكبره بسن تسمح بأن يكون له أباً إذ إنّ الاِمام جعفر الصادق بن الاِمام محمد الباقر عليهما‌السلام ، كان مثل سن الاِمام زيد رضي اللّه عنهم أجمعين.
__________________
١ ـ الشيخ الطوسي : الرجال : باب الزاي : ٨٩ ـ ١٢٢.
٢ ـ جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : ١٠ / ٩٦.
٣ ـ ابن حجر العسقلاني : تهذيب التهذيب : ٣ / ٤١٩.
٤ ـ أُنظر إلى كلام الرجل ، وتسميته الخروج على الظلم والعدوان هفوة والمداراة مع الظالمين ثباتاً على الدين. ولا عتب لأنّه من الذين رأوا الخروج على الظالمين حراماً ، على خلاف قول رسول اللّه من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً حرم اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان ، فلم يُغير عليه بفعل أو قول كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله (الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٠٤) وسيوافيك الكلام في هذا المجال في المستقبل.
٥ ـ الذهبي : تاريخ الاِسلام : ١٠٥ (حوادث سنة ١٢١ ـ ١٤٠ هـ).
٧٠
وما كان من المعقول أن يجمع الاِمام زيد وهو في سن الرابعة عشرة كل علم آل البيت فلابد أن يكمل أشطراً من أخيه الذي تلقى علم أبيه كاملاً ، وقد كان الباقر عليه‌السلام إماماً في الفضل والعلم ، وأخذ عنه كثيرون من العلماء ورووا عنه ومن هوَلاء أبو حنيفة شيخ فقهاء العراق ، وقد نال الباقر عليه‌السلام فضل الاِمامة العلمية ، حتى أنّه كان يحاسب العلماء على أقوالهم وما فيها من خطأ وصواب (١).
كان الاِمام الباقر عليه‌السلام ينظر إليه نظر أخٍ عطوف ويثني عليه أحياناً ويطريه ، ويأمر بعض أصحابه بإنشاء طرائف تمثل شخصية زيد ونفسيته وإليك بعض ما وقفنا عليه :
٥ ـ روى الصدوق في الأمالي عن أبي الجارود قال : إنّي لجالس عند أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام إذ أقبل زيد فلما نظر إليه وهو مقبل ، قال : « هذا سيد أهل بيته والطالب بأوتارهم لقد أنجبت أُمٌّ ، ولدتك يازيد » (٢).
٦ ـ وعن جابر الجعفي قال سمعت أبا جعفر عليه‌السلام وقد نظر إلى أخيه زيد بن علي فتلا هذه الآية : « فالّذِينَ هَاجَرُوا وأُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وأُوذُوا فِي سَبِيلي وقاتَلُوا وقُتِلُوا ... » الآية ، وقال : هذا واللّه من أهل ذلك » (٣).
٧ ـ وعنه أيضاً سألت محمد بن علي عليهما‌السلام عن أخيه زيد فقال : « سألتني عن رجل ملىء إيماناً وعلماً من أطراف شعره وقدمه وهو سيد أهل بيته » (٤).
دخل زيد على الاِمام الباقر عليه‌السلام فلما رآه تلا : « يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوامينَ للّهِ شُهداءَ بالقِسطِ » ثم قال : « أنت واللّه يا زيد من أهل ذلك » (٥).
____________
١ ـ محمد أبو زهرة ، تاريخ المذاهب الاِسلامية : ٢ / ٤٦٥.
٢ ـ الصدوق : الأمالي : ٣٣٥ ، الحديث ١١.
٣ ـ ٥ ـ السياغي : الروض النضير : ٤ / ١٠٤. والآيتان من سورة آل عمران : ١٩٥ وسورة المائدة : ٨.
٧١
٨ ـ روى الصدوق عن جابر الجعفي ، قال : دخلت على الباقر عليه‌السلام وعنده زيد أخوه ، فدخل عليه معروف بن خربوذ المكي ، قال له أبو جعفر عليه‌السلام : « يامعروف أنشدني من طرائف ما عندك » ، فأنشد :
لعمرك! ما إن أبو مالك

بوان ، ولا بضعيف قواه
ولا بألدّ « لدى قوله » (١)

يعادي الحكيم إذا ما نهاه
ولكنه سيد بارع

كريم الطبايع حلو نثاه (٢)
إذا سُدته ، سُدتَ مِطواعة

ومهما وكلت إليه كفاه
قال : فوضع أبو جعفر عليه‌السلام يده على كتفي زيد ، وقال : هذه صفتك يا أبا الحسين! (٣).
٩ ـ روى أبو الفرج عن أبي جعفر عليه‌السلام أنّه قال له بعد التمثل بالأبيات السابقة : « ولقد أنجبت أُمّ ولدتك يا زيد. اللّهم أشدد أُزري بزيد » (٤).
* * *
__________________
١ ـ ورواه في الأغاني بالنحو التالي :
ولا بالألدَّ ، له فارغ

يعادي أخاه إذا ما نهـاه
(الأغاني : ٢٤ / ١٠٦)
٢ ـ بتقديم النون على الثاء المثلثة لاحظ تعليقة المحقّق على البحار : ٤٦ / ١٦٩.
٣ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٥١ ح ٥ الباب ٢٥ ، أبو الفرج : الأغاني : ٢٤ / ١٠٦ ، ورواه في الأغاني بالنحو التالي :
ولـكـنّـه هيِّـن ليّـنٌ

كعاليـة الرمـح عَردٌ نَساه
قال المعلّق : عرد نساه شديد ساقه. (الأغاني : ٢٤ / ١٠٦)
٤ ـ أبو الفرج : الأغاني : ٢٤ / ١٠٧ ومر صدره في حديث الصدوق.
٧٢

حياته في عصر الاِمام الصادق عليه‌السلام :

١ ـ لم يذكر التاريخ شيئاً من حياته في عصر الاِمام الصادق عليه‌السلام ، غير تجواله في البلاد ، لدعم الخروج ، وجمع العُدّة والعِدِّة ، الذي سيمر عليك في الفصول الآتية غير أنّه لو صحّ ما يرويه أبو الفرج الاصفهاني عن عبد اللّه بن جرير أنّه رأى أنّ جعفر بن محمد عليه‌السلام « يمسك لزيد بن علي بالركاب ويسوي ثيابه على السرج » (١) لدل على أنّ الاِمام عليه‌السلام كان يكرمه لكونه عمـه ـ وهو بمنزلة الأب ـ ولأنّه أكبر منه سناً ، خصوصاً على ما حقّقنا من أنّه من مواليد عام ٦٧ أو ٦٨ ، فيدل على تواضعه وكمال أدبه ، وقد كان ذلك رائجاً بين بني هاشم.
وقد كان بين زيد ، وعبد اللّه بن الحسن المثنى مناظرة في صدقات علي عليه‌السلام فكانا يتحاكمان إلى قاض ، فإذا قاما من عنده أسرع عبد اللّه إلى دابة زيد فأمسك له بالركاب (٢).
وقد كانت أواصر الحب والود بين الاِمام وعمه متبقية إلى يوم حمامه ، ولما بلغ نعيه إلى المدينة أخذ الناس يفدون إلى الاِمام ويعزّونه.
٢ ـ روى أبو الفرج عن فضيل بن رسام : دخلت علي جعفر بن محمد عليهما‌السلام أُعزّيه عن عمّه ثم قلت له : ألا أُنشدك شعر السيد ( الحميري ) فقال : « أنشد » فأنشدته قصيدته ( العينية المعروفة ) التي يقول فيها :
الناس يوم البعث راياتهم

خمس فمنها هالك أربع (٣)
__________________
١ ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : ٨٧.
٢ ـ سيوافيك شرح المحاكمة بينهما.
٣ ـ أبو الفرج : الأغاني : ٧ / ٢٥١ ، وللقصة صلة ، فمن أراد فليرجع إلى مصدرها.
٧٣
٣ ـ لمّا توفي الاِمام أبو جعفر الباقر عليه‌السلام أنشد زيد قصيدة ـ سنوافيك بها في فصل خطبه وأشعاره ـ عزّى فيها الاِمام الصادق عليه‌السلام وقال :
أبا جعفر الخير أنت الاِمام

وأنت المرجي لبلوى غدي (١)
ويظهر من بعض الروايات أنّه استشار الاِمام الصادق عليه‌السلام في خروجه فقال له : « يا عم إن رضيت أن تكون المقتول (المصلوب) بالكناسة فشأنَك » فلمّا ولّى ، قال جعفر بن محمد عليهما‌السلام : « ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه » (٢).
روى الصدوق عن معمر بن خيثم : كنت جالساً عند الصادق عليه‌السلام فجاء زيد بن علي بن الحسين فأخذ بعضادتي الباب ، فقال له الصادق عليه‌السلام : « أُعيذك أن تكون المصلوب بالكناسة » (٣).
كل ذلك يدلّ على ودٍّ عميق للعمّ ، وأدب لائق بأهل البيت.
__________________
١ ـ ابن شهر آشوب : المناقب : ٤ / ١٩٧ ، طبعة دار الأضواء ، بيروت.
٢ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٨ ح ١ ، عنه البحار : ٤٦ / ١٧٤ ح ٢٧.
٣ ـ الصدوق : العيون : ١ ، الباب ٢٥ ، الحديث : ٤ ، طبعة قم. وسنوافيك ببقية الرواية.
٧٤

الفصل الثالث

في خطبه ، وكلماته
وأشعاره ، ومناظراته وعبادته
كان زيد الشهيد فصيحاً ، بليغاً يأخذ بجوامع الكلم ويستعملها في مواردها وقد شهد به الصديق والعدو ، قال الواقدي : وبلغ هشام بن عبد الملك مقامُ زيد بالكوفة ، فكتب إلى يوسف بن عمر : أشخِصْ زيداً إلى المدينة فإنّي أخاف أن يخرجه أهل الكوفة لأنّه حلو الكلام ، شديد البيان ، خليق بتمويه الكلام (١) وإليك بعض ما أثر عنه من المواعظ والحكم والأدب ونحوها :
١ ـ روى أبو الموَيد موفق بن أحمد المدعو بـ « أخطب خوارزم » : « قيل لزيد ابن علي : الصمت خير أم الكلام؟ فقال : قبح اللّه المساكتة ، ما أفسدها للبيان ، وأجلبها للعيّ والحصر ، واللّه للمماراة أسرع في هدم الفتى من النار في يبس العرفج ، ومن السيل إلى الحدور (٢) (٣).
____________
١ ـ سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص : ٣٠٠ ، اليعقوبي : التاريخ : ٢ / ٣٢٥ الخوارزمي : مقتل الحسين : ٢ / ١١٩.
٢ ـ الحدور على وزن رسول هو المكان ينحدر منه. (لسان العرب : ٤ / ١٧٢ ، مادة « حدر) ».
٣ ـ محسن الأمين : أعيان الشيعة : ٧ / ١٢٣ ، نقلاً عن مقتل الحسين للخوارزمي.
٧٥
فقد فضل الكلام على السكوت ، وذم المماراة ، فالكلام أفضل بشرط أن لا يكون مماراة.
٢ ـ إذا تلا زيد بن علي قوله سبحانه : « وإن تَتَولَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُم ثُمَّ لأ يَكُونُوا أمْثَالَكُم » (محمد ـ ٣٨).
يقول : « إنّ كلام اللّه هذا تهديد وتخويف ، ثم يقول : اللّهم لا تجعلنا ممّن تولّى عنك فاستبدلت به بدلاً » (١).
٣ ـ قال زيد بن علي لأصحابه : « أُوصيكم بتقوى اللّه ، فإنّ الموصي بها لم يدَّخر نصيحة ، ولم يقصِّـر في الاِبلاغ ، فاتقوا اللّه في الأمر الذي لا يفوتكم منه شيء وإن جهلتموه وأجملوا في الطلب ، ولاتستعينوا بنعم اللّه على معاصيه ، وتفكّروا ، وأبصروا هل لكم قبل خالقكم من عمل صالح قدمتموه فَشَكَرَه لكم ، فبذلك جعلكم اللّه تعالى من أهل الكتاب والسنّة ، وفضّلكم على أديان أبائكم ، ألم يستخرجكم نطفاً من أصلاب قوم ، كانوا كافرين ، حتى بثّكم في حجور أهل التوحيد ، وبث من سواكم في حجور أهل الشرك ، فبأي سوابق أعمالكم طهركم إلاّ بمنّه وفضله الذي يوَتيه من يشاء واللّه ذو الفضل العظيم » (٢).
٤ ـ وقال مبيّناً لما هو الغاية من الخروج : « وإنّما خرجت على بني أُمية الذين قتلوا جدي الحسين ، وأغاروا على المدينة يوم الحرة ، ثم رموا بيت اللّه بحجر المنجنيق والنار » (٣).
٥ ـ روى عبد اللّه بن مسلم بن بابك قال : خرجنا مع زيد بن علي إلى مكة ، كان نصف الليل واستوت الثريا فقال : « يا بابكيّ ، ما ترى هذه الثريا أترى أن
__________________
١ ـ محسن الأمين : أعيان الشيعة : ٧ / ١٢٣.
٢ ـ الأمير أُسامة بن مرشد ، لباب الآداب نقلاً عن المدائن كما في زيد الشهيد للسيد الأمين العاملي : ٩٢.
٣ ـ البغدادي : الفرق بين الفرق : ٣٥ ـ ٣٦.
٧٦
أحداً ينالها؟ » قلت : لا ، قال : « واللّه لوددت أن يدي ملصقة بها فأقع إلى الأرض أو حيث أقع ، فأتقطَّع قطعة قطعة وإنّ اللّه أصلح بين أمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).
٦ ـ إنّ زيداً كتَّب كتائبه ، فلمّـا خفقت راياته رفع يده إلى السماء فقال : « الحمد للّه الذي أكمل لي ديني ، واللّه ما يسرني إنّي لقيت محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم آمر أُمّته بمعروف ولم أنههم عن منكر ».
وفي رواية أُخرى : « واللّه إنّي لأستحيي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا لقيته ولم آمر أُمته بالمعروف ولم أنههم عن المنكر واللّه ما أُبالي إذا أقمت كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه إن أُجّجت لي نار وقذفتُ فيها ثم صرت بعد ذلك إلى رحمة اللّه عزّ وجلّ ، واللّه لا ينصرني أحد إلاّ كان في الرفيق الأعلى مع محمّد وعلي وفاطمة والحسن والحسين ـ صلوات اللّه عليهم ـ ويحكم أما ترون هذا القرآن بين أظهركم جاء به محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن بنوه ، يا معشر الفقهاء وأهل الحجى أنا حجة اللّه عليكم هذه يدي مع أيديكم ، على أن نقيم حدود اللّه ونعمل بكتابه ... » (٢).
٧ ـ كانت بيعته التي يبايع عليها الناس هي : « إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، وجهاد الظالمين والدفع عن المستضعفين ، وإعطاء المحرومين وقسم هذا الفيء بين أهله بالسوية ورد الظالمين ، وإقفال المجمر ونصرنا أهل البيت على من نصب لنا ، وجهل حقنا. أتبايعون على ذلك؟ » فإذا قالوا نعم ، وضع يده على يده ثم يقول : « عليك عهد اللّه وميثاقه وذمته أو ذمة رسول اللّه لتفينّ ببيعتي ، ولتقاتلنّ عدوي ، ولتنصحنّ لي في السر والعلانية » فإذا قال نعم مسح يده على يده ، ثم قال : « اللهم اشهد » (٣).
__________________
١ ـ المجلسي : البحار : ٤٤ / ٣٢٩.
٢ ـ أخطب خوارزم : مقتل الحسين : ٢ / ١٠٨.
٣ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٩٢ ، ابن الأثير : الكامل : ٤ / ٢٣٣ ، باختلاف يسير في الكلمات.
٧٧
٨ ـ ومن كلامه : « إنّا ندعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه وإلى السنن أنّ تحيى ، وإلى البدع أن تدفع ، فإن أنتم أجبتمونا سعدتم ، وإن أنتم أبيتم فلست عليكم بوكيل » (١).
٩ ـ ومن كلامه المعروف قاله لهشام أنّه : « لم يكره قوم قطُّ حدّ السيف إلاّ ذلّوا » (٢).
١٠ ـ وروى ابن عساكر أنّه قال : « واللّه ما كره قوم الجهاد في سبيل اللّه إلاّ ضربهم اللّه تعالى بالذل » (٣).
١١ ـ وقال أيضاً لهشام : « أنّه ليس أحد يكبر عن تقوى اللّه ، ولا يصغر دون تقوى اللّه » (٤).
إلى غير ذلك من الكلمات التي سيمرّ بعضها عليك في المستقبل. غير أنّ كل ذلك حكم قصيرة يباري فيها ، ما ورثه عن مطلع الفصاحة والبلاغة جدّه الاِمام أمير الموَمنين.
ثم لزيد خطب ، ورسائل ، نكتفي من كل منهما بواحد ، والاِمعان فيهما يعرف مقدرته على إنشاء الكلام البليغ ، وإبداعه المعاني السامية ، في جمل قصيرة وإليك الخطبة ثم الرسالة :
١٢ ـ خطبته التي ، يعرّف فيها موقفه من الخروج وأنّه ليس إلاّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإنهاض المسلمين لاِزالة المروانيّين عن منصة الحكومة الاِسلامية ورد الأمر إلى أهل بيت النبي وإليك نصها :
« يا أيّها الناس إنّ اللّه قد بعث في كل زمان خيرة ، ومن كل خيرة منتجباً
__________________
١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٤٩٨ ؛ ابن الأثير : الكامل : ٥ / ٢٤٣.
٢ ـ المفيد : الاِرشاد : ٢٦٩.
٣ ـ مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ١٥١.
٤ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٠٦ ، طبعة دار الأندلس ، بيروت.
٧٨
خيرة منه قال : « اللّهُ أعلَمُ حَيْثُ يَجعَلُ رِسالَتَه » (الأنعام ـ ١٢٤) فلم يزل اللّه يتناسخ خيرته حتى خرج محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أفضل تربة وأطهر عترة أُخرجت للناس ، فلمّا قبض اللّه محمّداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا عارف أمخركم (١) بعد زخورها وحصّن حصونك على سائر الأحياء بأنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قريشياً ، ودانت العجم للعرب بأنّ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان عربياً حتى ظهرت الكلمة وتمت النعمة فاتّقوا اللّه عباد اللّه وأجيبوا إلى الحقّ وكونوا أعواناً لمن دعاكم إليه ، ولاتأخذوا سنّة بني إسرائيل ، كذَّبوا أنبياءهم ، وقتلوا أهل بيت نبيهم.
ثم أنا أُذكركم أيّـها السامعون لدعوتنا ، المتفهّمون لمقالتنا ، باللّه العظيم الذي لم يذكر المذكورون بمثله ، إذا ذكروه وجلت قلوبكم واقشعرَّت لذلك جلودكم ، ألستم تعلمون أنّا ولد نبيكم المظلومون المقهورون ، فلا سهمُ وُفينا ، ولا تراث أُعطينا ، وما زالت بيوتاً تهدم وحرمتنا تنتهك وقائلنا يعرف ، يولد مولودنا في الخوف ، وينشأ ناشئنا بالقهر ويموت ميّتنا بالذل؟
ويحكم إنّ اللّه قد فرض عليكم جهاد أهل البغي والعدوان من أُمتكم على بغيهم ، وفرض نصرة أوليائه الداعين إلى اللّه وإلى كتابه قال : « ولَيَنصُرَنَّ اللّهُ مَن يَنصُـرُهُ إنَّ اللّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيز » (الحجّ ـ٤٠).
ويحكم إنّا قوم غَضِبْنا للّه ربّنا ، ونقمنا الجور المعمول به في أهل ملتنا ، ووضعنا من توارث الاِمامة والخلافة ، وحكم بالهوى ونقض العهد ، وصلّـى الصلاة لغير وقتها ، وأخذ الزكاة من غير وجهها ودفعها إلى غير أهلها ، ونسك المناسك بغير هديها ، وأزال الأفياء والأخماس والغنائم ومنعها الفقراء والمساكين وابن السبيل ، وعطّل الحدود وأخذ منه الجزيل ، وحكم بالرشا والشفاعات والمنازل ، وقرب الفاسقين ومثل بالصالحين ، واستعمل الخيانة وخوّن أهل الأمانة ،
__________________
١ ـ وفي نسخة : أنجزكم.
٧٩
وسلّط المجوس وجهز الجيوش ، وخلد في المحابس وجلد المبين وقتل الوالد ، وأمر بالمنكر ونهى عن المعروف بغير مأخوذ من كتاب اللّه وسنّة نبيه.
ثم يزعم زاعمكم الهزاز على قلبه ، يطمع خطيئته إنّ اللّه استخلفه يحكم بخلافته ، ويصد عن سبيله وينتهك محارمه ويقتل من دعا إلى أمره ، فمن أشرّ عند اللّه منزلة ممّن افترى على اللّه كذباً أو صد عن سبيله أو بغاه عوجاً ، ومن أعظم عند اللّه أجراً ممّن أطاعه وأدان بأمره وجاهد في سبيله وسارع في الجهاد ، ومن أشرّ عند اللّه منزلة ممّن يزعم أن بغير ذلك يحقّ عليه ثم يترك ذلك استخفافاً بحقّه وتهاوناً في أمر اللّه وإيثاراً لدنياه ، « ومَنْ أحْسَنُ قَوْلاً ممّن دَعا إلى اللّهِ وعَمِلَ صالِحاً وقالَ إنّني مِنَ المُسْلِمين » (فصلت ـ ٣٣) (١).
١٣ ـ روى حميد بن أحمد المحلي (٥٨٢ ـ ٦٥٢ هـ) بالاِسناد المنتهي إلى أبي الجارود أن زيداً لمّا ظهر ، خطب وقال : « الحمد للّه الذي منّ علينا بالبصيرة وجعل لنا قلوباً عاقلة ، وأسماعاً واعية ، وقد أفلح من جعل الخير شعاره ، والحقّ دثاره ـ إلى أن قال : ـ فمن سمع دعوتنا هذه الجامعة غير المفرِّقة ، العادلة غير الجائرة ، فأجاب دعوتنا وأناب إلى سبيلنا وجاهد بنفسه نفسه ومن يليه من أهل الباطل ، ودعائم النفاق ، فله ما لنا وعليه ما علينا ، ومن ردّ علينا دعوتنا وأبى إجابتنا واختار الدنيا الزائلة الآفلة ، على الآخرة الباقية ، فاللّه من أُولئك برىء ، وهو يحكم بيننا وبينكم.
إذا لقيتم القوم فادعوهم إلى أمركم ، فلأن يستجيب لكم رجل واحد خير ممّا طلعت عليه الشمس من ذهب وفضة ، وعليكم بسيرة أمير الموَمنين علي بن طالب عليه‌السلام بالبصرة والشام : لا تتبعوا مُدبِراً ولا تُجهِزوا على جريح ولا تفتحوا باباً مغلقاً ، واللّه على ما أقول وكيل.
__________________
١ ـ فرات بن إبراهيم الكوفي : التفسير : ١٣٦ ـ ١٣٧ ، ط ١ ، تحقيق محمد الكاظم ، موَسسة الطبع والنشر التابعة لوزارة الاِرشاد ، طهران (١٤١٠ هـ ـ ١٩٩٠ م).
٨٠
عباد اللّه لا تقاتلوا على الشك فتضلّوا عن سبيل اللّه ، ولكن البصيرة ثم القتال ، فإنّ اللّه يجازي عن اليقين أفضل جزاء يجزي به على حقّ. عباد اللّه : البصيرة » قال أبو الجارود : يابن رسول اللّه ، يبذل الرجل نفسه عن غير بصيرة؟ قال : « نعم أنّ أكثر من ترى عشقت نفوسهم الدنيا فالطمع أرداهم إلاّ القليل الذين لا تخطر الدنيا على قلوبهم ، ولا لها يسعون فأُولئك مني وأنا منهم » (١).
١٤ ـ وها نحن ننشر في المقام رسالته إلى علماء الأمّة قبيل خروجه ، فحاول فيها بكل وسيلة تشجيع الناس على رفض الظلم والمطالبة بالحرية والعدالة.
قام بتحقيقها وتصحيحها محمد يحيى سالم عزان عن أربع نسخ ، نوّه بخصوصيتها في مقدمتها ونشرها دار التراث اليمني صنعاء عام ١٤١٢ هـ.
وإليك نصها :
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد للّه ربّ العالمين حتى يرضى وصلّى اللّه وسلم وبارك وترحّم وتحنّن وسلّم على سيّدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمّد.
إلى علماء الأمّة الذين وجبت للّه عليهم الحجّة.
من « زيد بن علي » ابن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
سلام على أهل ولاية اللّه وحزبه.
ثم إنّي أُوصيكم معشر العلماء بحظّكم من اللّه في تقواه وطاعته ، وأن لا تبيعوه بالمكس (٢) من الثمن ، والحقير من البدل ، واليسير من العِوَض ، فإنّ كلّ
____________
١ ـ حميد المحلي : الحدائق الوردية : ١٤١ ، الطبعة الثانية ـ ١٤٠٥ هـ ق. وقد جئنا بخلاصة الخطبة ومن أراد الوقوف على الجميع فعليه الرجوع الى المصدر.
٢ ـ المكس : النقص والظلم.
٨١
شيء آثرتموه وعملتم له من الدنيا ليس بخَلَف ممّا زيّن اللّه به العلماء من عباده الحافظين لرعاية ما استرعاهم واستحفظهم من أمره ونهيه ، ذلك بأنّ العاقبة للمتقين ، والحسرة والندامة والويل الدائم للجائرين الفاجرين.
[ الاعتبار من الأمم السابقة ]
فتفكّروا عباد اللّه واعتبروا ، وانظروا وتدبّروا وازدجروا بما وعظ اللّه به هذه الأمّة من سوء ثنائه على الأحبار والرهبان.
إذ يقول : « لَوْلأ يَنْهَاهُمُ الرَبّانِيُّونَ والأحبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الاِثْمَ وأكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ » (١).
وإنّما عاب ذلك عليهم بأنّهم كانوا يشاهدون الظلمة الذين كانوا بين ظهرانيهم يأمرون بالمنكر ، ويعملون الفساد فلا ينهونهم عن ذلك ، ويرون حقّ اللّه مضيعاً ، ومال اللّه دُولة يوَكل بينهم ظلماً ودولة بين الأغنياء ، فلا يمنعون من ذلك رغبة فيما عندهم من العَرَض الآفل ، والمنزل الزائل ، ومداهنة (٢) منهم على أنفسهم.
وقد قال اللّه عزّ وجلّ لكم : « يَا أيُّـها الّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الأحْبارِ والرُّهْبَانِ لَيَأكُلُونَ أموالَ النّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَهَبَ وَالفِضَّةَ وَلايُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّـرْهُمْ بِعَذَابٍ ألِيمٍ » (٣) كيما تحذروا.
وإذا رأيتم العالم بهذه الحالة والمنزلة فأنزلوه منزلة من عاث في أموال الناس بالمصانعة (٤) ، والمداهنة ، والمضارعة (٥) لظلمة أهل زمانهم ، وأكابر قومهم ، فلم
__________________
١ ـ المائدة : ٦٣.
٢ ـ المداهنة : المداراة والملاينة ، وداهن على نفسه أبقى عليها.
٣ ـ التوبة : ٣٤.
٤ ـ المصانعة : الرشوة والمداراة.
٥ ـ المضارعة : التقرب والمقارنة.
٨٢
ينهوهم عن منكر فعلوه. رغبة فيما كانوا ينالون من السحت (١) بالسكوت عنهم.
وكان صدودهم عن سبيل اللّه بالاِتباع لهم ، والاغترار بإدهانهم (٢) ومقارنتهم الجائرين الظالمين المفسدين في البلاد. ذلك بأنّ أتباع العلماء يختارون لأنفسهم ما اختار علماوَهم. فحذروا علماء السوء الذين سلكوا سبيل من ذَمّ اللّه وباعوا طاعة اللّه الجائرين.
إنّ اللّه عزّ وجلّ قال في كتابه : « إِنّا أنْزَلْنَا التوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُوراً يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الّذِينَ أسْلَمُوا لِلّذِينَ هَادُوا وَالرّبّانِيّونَ والأحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا الناسَ وَاخْشَوْنِ وَلأ تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أنْزَلَ اللّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الكافِرُون » (٣).
فعاب علماء التوراة والاِنجيل بتركهم ما استحفظهم من كتابه ، وجَعَلَهم عليه شهداء خشية الناس ، ومواتاة (٤) للظالمين ، ورضاً منهم بأعمال المفسدين. فلم يوَثروا اللّه بالخشية فسخط اللّه عليهم لمّا اشتروا بآياته ثمناً قليلاً ، ومتاعاً من الدنيا زائلاً. والقليل عند اللّه الدنيا وما فيها من غضارتها (٥) وعيشتها ونعيمها وبهجتها ، ذلك بأنّ اللّه هو علاّم الغيوب.
قد علم بأنّ ركوب معصيته ، وترك طاعته ، والمداهنة للظلمة في أمره ونهيه ، إنّما يلحق بالعلماء للرهبة والرغبة من عند غير اللّه ، لأنّهم علماء باللّه ، وبكتابه وبسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
__________________
١ ـ السحت : ما خبث من المكاسب.
٢ ـ الاِدهان والمداهنة بمعنى : المصانعة واللين ، وقيل : الاِدهان الغش.
٣ ـ المائدة : ٤٤.
٤ ـ المواتاة : حسن المطاوعة والموافقة.
٥ ـ غضارة الدنيا : النعمة والسعة والخصب.
٨٣
[ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ]
ولعمري لو لم يكن نال علماء الأزمنة من ظلمتها ، وأكابرها ، ومفسديها ، شدة وغلظة وعداوة ، ما وصّاهم اللّه تعالى وحذّرهم. ذلك أنّهم ما ينالون ما عند اللّه بالهوينا ولا يخلدون في جنّته بالشهوات.
فكره اللّه تعالى للعلماء ـ المستحفظين كتبه وسنّته وأحكامه ـ ترك ما استحفظهم ، رغبة في ثواب من دونه ، ورهبة عقوبة غيره. وقد ميزكم اللّه تعالى حقّ تميز ، ووسمكم سمة (١) لا تخفى على ذي لب ، وذلك حين قال لكم : « والمُوَْمِنُونَ وَالمُوَْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصّلاةَ وَيُوَْتُونَ الزَكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلئِكَ سَيرْحَمُهُمُ اللّهُ إنَّ اللّهَ عَزيزٌ حَكِيم » (٢).
فبدأ بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ثم بفضيلة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر عنده ، وبمنزلة القائمين بذلك من عباده.
ولعمري لقد استفتح الآية في نعت الموَمنين بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا بالموعظة.
وقال تعالى في الآخرين : « المُنَافِقُونَ والمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المَعْرُوفِ » (٣).
فلعمري لقد استفتح الآية في ذمّهم بأمرهم بالمنكر ونهيهم عن المعروف فاعتبروا عباد اللّه وانتفعوا.
__________________
١ ـ السمة : العلامة.
٢ ـ التوبة : ٧١.
٣ ـ التوبة : ٦٧.
٨٤
واعلموا أنّ فريضة اللّه تعالى في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا أُقيمت له استقامت الفرائض بأسرها هَيّنُها وشديدها.
وذلك أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو :
الدعاء إلى الاِسلام ، والاِخراج من الظلمة ، ورد الظالم ، وقسمة الفيء والغنائم على منازلها ، وأخذ الصدقات ووضعها في مواضعها ، وإقامة الحدود ، وصلة الأرحام ، والوفاء بالعهد ، والاِحسان ، واجتناب المحارم ، كل هذا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
يقول اللّه تعالى لكم : « وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرّ وَالتَقْوَى وَلأتَعَاوَنُوا عَلَى الاِثْمِ وَالعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ العِقَابِ » (١) فقد ثبت فرض اللّه تعالى فاذكروا عهد اللّه الذي عاهدتموه وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم : « سَمِعْنَا وَأطَعْنَا وَاتَّقُوا اللّهَ إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (٢).
[ دور العلماء ومكانتهم ]
عباد اللّه فإنّما تصلح الأمور على أيدي العلماء وتفسد بهم إذا باعوا أمر اللّه تعالى ونهيه بمعاونة الظالمين ، الجائرين ، فكذلك الجهّال والسفهاء إذا كانت الأمور في أيديهم ، لم يستطيعوا إلاّ بالجهل والسفه إقامتها فحينئذ تصرخ المواريث ، وتضج الأحكام ، ويفتضح المسلمون (٣).
وأنتم أيّها العلماء عصابة مشهورة ، وبالورع مذكورة ، وإلى عبادة اللّه
__________________
١ ـ المائدة : ٢.
٢ ـ المائدة : ٧.
٣ ـ يفتضح المسلمون بمعنى يفرط المسلمون. قال الزمخشري : سمعتهم يقولون : افتضحنا فيك أي فرطنا في زيارتك وتفقدك.
٨٥
منسوبة ، وبدراسة القرآن معروفة ، ولكم في أعين الناس مهابة ، وفي المدائن والأسواق مكرمة ، يهابكم الشريف ، ويكرمكم الضعيف ، ويرهبكم من لا فضل لكم عليه. يُبدَأ بكم عند الدُعوَة ، والتُحَفَة (١) ، ويشار إليكم في المجالس ، وتشفعون في الحاجات ، إذا امتنعت على الطالبين. وآثاركم متبعة ، وطرقكم تسلك.
كل ذلك لما يرجوه عندكم من هو دونكم من النجاة في عرفان حقّ اللّه تعالى. فلاتكونوا عند إيثار (٢) حقّ اللّه تعالى غافلين ، ولأمره مضيّعين ، فتكونوا كالأطباء الذين أخذوا ثمن الدواء وأعطبوا المرضى. وكرعاة استوفوا الأجر وضلّوا عن المرعى. وكحرّاس مدينة أسلموها إلى الأعداء ، هذا مثل علماء السوء.
لا مالاً تبذلونه للّه تعالى ، ولانفوساً تخاطرون بها في جنب اللّه تعالى ، ولاداراً عطلتموها ، ولازوجة فارقتموها ، ولاعشيرة عاديتموها. فلاتتمنوا ما عند اللّه تعالى وقد خالفتموه.
فترون أنّكم تسعون في النور ، وتتلقاكم الملائكة بالبشارة من اللّه عزّ وجلّ؟ كيف تطمعون في السلامة يوم الطامة؟! وقد أخرجتم الأمانة ، وفارقتم العلم ، وأدهنتم في الدين. وقد رأيتم عهد اللّه منقوضاً ، ودينه مبغوضاً ، وأنتم لاتفزعون ومن اللّه لاترهبون.
فلو صبرتم على الأذى ، وتحملّتم الموَنة في جنب اللّه لكانت أُمور اللّه صادرة عنكم ، وواردة إليكم.
__________________
١ ـ التحفة : بضم المثناة وتسكين المهملة : البر واللطف.
٢ ـ الاِيثار : التقديم والتفضيل ، والمعنى هنا : فلا تكونوا غافلين عند إيثار وتقديم حقّ اللّه تعالى والدفاع عنه.
٨٦
عباد اللّه لاتمكّنوا الظالمين من قِيَادِكم (١) بالطمع فيما بأيديهم من حطام الدنيا الزائل ، وتراثها الآفل ، فتخسروا حظّكم من اللّه عزّ وجلّ.
عباد اللّه استقدموا إلى الموت بالوثيقة في الدين ، والاعتصام بالكتاب المتين ، ولاتعجبوا بالحياة الفانية فما عند اللّه هو خير لكم ، وإنّ الآخرة هي دار القرار.
عباد اللّه اندبوا الاِيمان ونوحوا على القرآن ، فو الذي نفس « زيد بن علي » بيده لن تنالوا خيراً لا يناله أهل بيت نبيّكم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا أصبتم فضلاً إلاّ أصابوه فأصبتم فضله.
[ إلى علماء السوء ]
فيا علماء السوء أكببتم على الدنيا وإنّها لناهية لكم عنها ، ومحذرة لكم منها ، نصحت لكم الدنيا بتصرفها فاستغششتموها ، وتَفَتحت لكم الدنيا فاستحسنتموها ، وصدقتكم عن نفسها فكذبتموها.
فيا علماء السوء هذا مهادكم الذي مهدتموه للظالمين ، وهذا أمانكم الذي أتمنتموه (٢) للخائنين ، وهذه شهادتكم للمبطلين. فأنتم معهم في النار غداً خالدون. « ذلِكُم بِمَا كُنْتُم تَفْرَحُونَ فِى الأرْضِ بِغَيْرِ الحَقّ وَبِمَا كُنْتُم تَمْرَحُونَ » (٣).
فلو كنتم سلّمتم إلى أهل الحقّ حقهم ، وأقررتم لأهل الفضل بفضلهم لكنتم أولياء اللّه ، ولكنتم من العلماء به حقاً ، الذين امتدحهم اللّه عزّ وجلّ في كتابه بالخشية منهم.
__________________
١ ـ القياد كالمقود : ما يقاد به ، واستعماله هنا مجاز ، والمعنى : لا تمكّنوا الظالمين من قودكم كما تقاد البهائم.
٢ ـ أتمنتموه بمعنى أمنتموه ، حكاه في اللسان عن ثعلب وقال : وهي نادرة.
٣ ـ غافر : ٧٥.
٨٧
فلا أنتم علمتم الجاهل ، ولا أنتم أرشدتم الضال ، ولا أنتم في خلاص الضعفاء تعملون ، ولابشرط اللّه عليكم تقومون ، ولا في فكاك رقابكم [ ولا السلب إلاّ سلبكم ].
يا علماء السوء اعتبروا حالكم ، وتفكّروا في أمركم ، وستذكرون ما أقول لكم.
يا علماء السوء إنّما أمنتم عند الجبارين بالاِدهان ، وفزتم بما في أيديكم بالمقاربة ، وقربتم منهم بالمصانعة (١) ، قد أبحتم الدين ، وعطّلتم القرآن ، فعاد علمكم حجّة للّه عليكم ، وستعلمون إذا حشرج الصدر ، وجاءت الطامة ، ونزلت الداهية.
يا علماء السوء أنتم أعظم الخلق مصيبة ، وأشدهم عقوبة ، إن كنتم تعقلون ، ذلك بأنّ اللّه قد احتج عليكم بما استحفظكم إذ جعل الأمور ترد إليكم ، وتصدر عنكم.
الأحكام من قبلكم تلتمس ، والسنن من جهتكم تختبر. يقول المتبعون لكم : أنتم حجّتنا بيننا وبين ربّنا. فبأي منزلة نزلتم من العباد هذه المنزلة؟
فوالذي نفس « زيد بن علي » بيده لو بيّنتم للناس ما تعلمون ودعوتموهم إلى الحقّ الذي تعرفون ، لتضعضع بنيان الجبارين ، ولتهدّم أساس الظالمين ، ولكنّكم اشتريتم بآيات اللّه ثمناً قليلاً ، وأدهنتم في دينه ، وفارقتم كتابه.
هذا ما أخذ اللّه عليكم من العهود والمواثيق ، كي تتعاونوا على البر والتقوى ، ولا تعاونوا على الاِثم والعدوان ، فأمكنتم الظلمة من الظلم ، وزيّنتم لهم الجور ، وشددتم لهم ملكهم بالمعاونة والمقارنة ، فهذا حالكم.
فيا علماء السوء فمحوتم كتاب اللّه محواً ، وضربتم وجه الدين ضرباً ، فند (٢)
__________________
١ ـ المصانعة : المداراة والمداهنة.
٢ ـ ند البعير : شرد ونفر.
٨٨
واللّه نديد البعير الشارد ، هرباً منكم.
فبسوء صنيعكم سفكت دماء القائمين بدعوة الحقّ من ذرية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ورفعت روَوسهم فوق الأسنّة ، وصُفّدُوا في الحديد ، وخلص إليهم الذل ، واستشعروا الكرب وتسربلوا الأحزان ، يتنفسون الصعداء (٢) ، ويتشاكون الجهد.
فهذا ما قدّمتم لأنفسكم ، وهذا ما حملتموه على ظهوركم ، فاللّه المستعان ، وهو الحكم بيننا وبينكم ، يقضي بالحق وهو خير الفاصلين.
[ دعوة إلى الجهاد ]
وقد كتبت إليكم كتاباً بالذي أُريد من القيام به فيكم. وهو : العمل بكتاب اللّه ، وإحياء سنّة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
فبالكتاب قوام الاِيمان ، وبالسنّة يثبت الدين. وإنّما البدع أكاذيب تخترع ، وأهواء تتّبع ، يتولّـى فيها وعليها رجال رجالاً صدّوهم عن دين اللّه ، وذادوهم عن صراطه ، فإذا غيّرها الموَمن ، ونهى عنها المُوَحّد ، قال المفسدون : جاءنا هذا يدعونا إلى بدعة!!
وأيم اللّه ما البدعة إلاّ التي أحدث الجائرون ، ولا الفساد إلاّ الذي حكم به الظالمون.
وقد دعوتكم إلى الكتاب. فأجيبوا داعي اللّه ، وانصروه ، فوالذي بإذنه دعوتكم ، وبأمره نصحت لكم ، ما ألتمس أثرة على موَمن ، ولا ظلماً لمعاهد ، ولوددت أنّي قد حميتكم مراتع (٣) الهلكة ، وهديتكم من الضلالة ، ولو كنت أوقد
__________________
١ ـ في القاموس : بالضم بعده سكون ، وفي لسان العرب : بالضم بعده تحريك بالفتح : النفس بتوجع ، وفي شرح القاموس الأوّل أصح.
٢ ـ مراتع : مواضع.
٨٩
ناراً فأقذف بنفسي فيها ، لا يقربني ذلك من سخط اللّه ، زهداً في هذه الحياة الدنيا ، ورغبة منّي في نجاتكم ، وخلاصكم. فإن أجبتمونا إلى دعوتنا كنتم السعداء والموفورين حظاً ونصيباً.
عباد اللّه انصحوا داعي الحقّ وانصروه إذ قد دعاكم لما يحييكم. ذلك بأنّ الكتاب يدعو إلى اللّه ، وإلى العدل والمعروف ، ويزجر عن المنكر.
فقد نظرنا لكم وأردنا صلاحكم ، ونحن أولى الناس بكم. رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « جدّنا » ، والسابق إليه الموَمن به « أبونا » ، وبنته سيدة النسوان « أُمّنا » ، فمن نزل منكم منزلتنا. فسارعوا عباد اللّه إلى دعوة اللّه ، ولا تنكلوا عن الحق ، فبالحق يُكبَت (١) عدوّكم ، وتمنع حريمكم ، وتأمن ساحتكم.
وذلك أنّا ننزع الجائرين عن الجنود ، والخزائن ، والمدائن ، والفيء ، والغنائم ، ونثبت الأمين الموَتمن ، غير الراشي والمرتشي ، الناقض للعهد. فإن نظهر فهذا عهدنا ، وإن نستشهد فقد نصحنا لربّنا ، وأدّينا الحقّ إليه من أنفسنا ، فالجنة مثوانا ومنقلبنا ، فأي هذا يكره الموَمن ، وفي أي هذا يرهب المسلم ، وقد قال اللّه عزّ وجل لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « وَلأ تُجادِلْ عَنِ الّذِينَ يَخْتَانُونَ أنْفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لأيُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّاناً أثِيماً » (٢).
وإذا بدأت الخيانة ، وخربت الأمانة ، وعمل بالجور ، فقد افتضح الوالي. فكيف يكون إماماً على الموَمنين من هذا نعته وهذه صفته؟!
اللّهم قد طلبنا المعذرة إليك ، وقد عرّفتنا إنّك لاتصلح عمل المفسدين ، فأنت اللّهم وليّنا ، والحاكم فيما بيننا وبين قومنا بالحقّ.
هذا ما نقول ، وهذا ما ندعو إليه ، فمن أجابنا إلى الحقّ فأنت تثيبه وتجازيه ،
__________________
١ ـ يكبت : يرد العدو ويغيضه.
٢ ـ النساء : ١٠٧.
٩٠
ومن أبى إلاّ عتوّاً وعناداً فأنت تعاقبه على عتوّه وعناده.
فاللّه اللّه عباد اللّه أجيبوا إلى كتاب اللّه ، وسارعوا إليه ، واتخذوه حكماً فيما شجر بينكم ، وعدلاً فيما فيه اختلفنا ، وإماماً فيما فيه تنازعنا ، فإنّا به راضون ، وإليه منتهون ، ولما فيه مسلمون ، لنا وعلينا. لانريد بذلك سلطاناً في الدنيا ، إلاّ سلطانك ، ولانلتمس بذلك أثرة على موَمن ، ولا موَمنة ، ولاحر ، ولا عبد.
عباد اللّه فأجيبونا إجابة حسنة تكن لكم البشرى.
يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : « فَبَشِّـرْ عِبَادِ * الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أحْسَنَهُ » (١).
ويقول : « وَمَنْ أحْسَنُ قَوْلاً مِـمَّن دَعَا إِلى اللّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقالَ إِنّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ » (٢).
[ مكانة أهل البيت عليهم‌السلام ]
عباد اللّه فاسرعوا بالاِنابة وأبذلوا النصيحة ، فنحن أعلم الأمّة باللّه ، وأوعى الخلق للحكمة ، وعلينا نزل « القرآن » ، وفينا كان يهبط « جبريل » عليه‌السلام ، ومن عندنا اقتبس الخير. فمن علم خيراً فمنّا اقتبسه ، ومن قال خيراً فنحن أصله ، ونحن أهل المعروف ، ونحن الناهون عن المنكر ، ونحن الحافظون لحدود اللّه.
عباد اللّه فأعينونا على من استعبد أُمّتنا ، وأخرب أمانتنا ، وعطّل كتابنا ، وتشرف بفضل شرفنا. وقد وثقنا من نفوسنا بالمضي على أُمورنا ، والجهاد في سبيل خالقنا ، وشريعة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، صابرين على الحق ، لا نجزع من نائبة من ظلمنا ، ولا نرهب الموت إذا سلم لنا ديننا.
____________
١ ـ الزمر : ١٧ ـ ١٨.
٢ ـ فصلت : ٣٣.
٩١
فتعاونوا ، وانصروا ، يقول اللّه عزّ وجلّ في كتابه : « يَا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا إنْ تَنْصُـرُوا اللّهَ يَنْصُـرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أقدامَكُمْ » (١).
ويقول اللّه عزّ وجلّ : « وَليَنْصُرَنَّ اللّه مَنْ يَنْصُـرُهُ إنَّ اللّه لَقَويٌّ عَزيزٌ * الّذِينَ إنْ مَكّنَّاهُمْ فِي الأرضِ أقامُوا الصّّلاةَ وآتَوُا الزّكاةَ وَأمَرُوا بِالمعَرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ المُنْكَرِ وللّهِ عاقِبَةُ الأمورِ » (٢).
عباد اللّه فالتمكين قد ثبت بإثبات الشريعة ، وبإكمال الدين يقول اللّه عزّ وجلّ : « فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أنْتَ بِمَلُوم » (٣).
وقال اللّه عزّ وجلّ فيما احتج به عليكم : « اليَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاِسلامَ دِيناً » (٤).
عباد اللّه فقد أكمل اللّه تعالى الدين ، وأتم النعمة ، فلا تنقصوا دين اللّه من كماله ، ولا تبدّلوا نعمة اللّه كفراً فيحل بكم بأسه وعقابه.
عباد اللّه إنّ الظالمين قد استحلّوا دماءنا ، وأخافونا في ديارنا ، وقد اتّخذوا خذلانكم حجة علينا فيما كرهوه من دعوتنا ، وفيما سفهوه من حقّنا ، وفيما أنكروه من فضلنا عناداً للّه ، فأنتم شركاوَهم في دمائنا ، وأعوانهم في ظلمنا ، فكل مال للّه أنفقوه ، وكل جمع جمعوه ، وكل سيف شحذوه (٥) ، وكل عدل تركوه ، وكل جور ركبوه ، وكل ذمة للّه تعالى أخفروها (٦) وكل مسلم أذلّوه ، وكل كتاب نبذوه ، وكل
__________________
١ ـ محمد : ٧.
٢ ـ الحج : ٤٠ ـ ٤١.
٣ ـ الذاريات : ٥٤.
٤ ـ المائدة : ٣.
٥ ـ شحذوه : أحدّوه.
٦ ـ أخفره : نقض عهده.
٩٢
حكم للّه تعالى عطّلوه ، وكل عهد للّه تعالى نقضوه ، فأنتم المعينون لهم على ذلك بالسكوت عن نهيهم عن السوء.
عباد اللّه إنّ الأحبار والرهبان من كل أُمّة مسوَولون عما استحفظوا عليه ، فأعدّوا جواباً للّه عزّ وجلّ على سوَاله.
اللهم إنّي أسألك بنبيّنا محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تثبّتاً منك على الحقّ الذي ندعو إليه وأنت الشهيد فيما بيننا ، الفاصل بالحقّ فيما فيه اختلفنا ، ولاتستوي الحسنة ولا السيئة.
والسلام على من أجاب الحقّ ، وكان عوناً من أعوانه الدالّين عليه.
تمّ ذلك بحمد اللّه ومنّه.
* * *

مناظراته :

إنّ لزيد الشهيد مناظرات جرت بينه وبين هشام وأُناس أُخر وفيها دلالة واضحة على قوة منطقه ، ونضاجة فكره وبالأخص على حضور بديهته نقتطف ما يلي :
١ ـ روى موفق الدين عن معمر بن خيثم : قال لي زيد بن علي : كنت أُباري هشام بن عبد الملك وأُكايده في الكلام ، فدخلت عليه يوماً فذكر بني أُمية ، فقال : واللّه هم أشدّ قريش أركاناً ، وأشدّ قريش مكاناً ، وأشدّ قريش سلطاناً ، وأكثر قريش أعواناً ، كانوا روَوس قريش في جاهليّتها ، وملوكهم في إسلامها فقلت له : على من تفخر؟ أعلى بني هاشم ، أوّل من أطعم الطعامَ وضرب الهامَ وخضعت لها قريش بإرغام ، أم على بني المطلب سيد مُضر جميعاً ، وإن قلت معد كلّها صدَقت ، إذا ركب مشوا ، وإذا انتعل احتفوا ، وإذا تكلّم سكتوا ، وكان يطعم الوحوش في
٩٣
روَوس الجبال والطير ، والسباع والاِنس في السهل ، حافر زمزم ، وساقي الحجيج ، أم على بنيه أشرف رجال ، أم على نبي اللّه ورسوله حمله اللّه على البراق ، وجعل الجنة عن يمينه ، والنار عن شماله فمن تبعه دخل الجنة ، ومن تأخّر عنه دخل النار ، أم على أمير الموَمنين وسيد الوصيين علي بن أبي طالب عليه‌السلام أخي رسول اللّه وابن عمه المفرِّج الكرب عنه وأوّل من قال لا إله إلاّ اللّه بعد رسول اللّه لم يبارزه فارس قط إلاّ قتله ، وقال فيه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مالم يقله في أحد من أصحابه ولا لأحد من أهل بيته ، قال : فاحمر وجهه (١).
٢ ـ دخل زيد على هشام بن عبد الملك ، وقد جمع له هشام أهل الشام وأمر أن يتضايقوا في المجلس حتى لا يتمكن من الوصول إلى قربه ، فقال له زيد : إنّه ليس من عباد اللّه أحد فوق أن يوصى بتقوى اللّه ، ولا من عباد اللّه أحد دون أن يوصى بتقوى اللّه ، وأنا أُوصيك بتقوى اللّه يا أمير الموَمنين فاتقه ، فقال له هشام : أنت الموَهل نفسك للخلافة ، الراجي لها؟ وما أنت وذاك لا أُمّ لك وإنّما أنت ابن أمة ، فقال له زيد : إنّي لا أعلم أحداً أعظم منزلة عند اللّه من نبيّ بعثه وهو ابن أمة ، فلو كان ذلك يقصر عن منتهى غاية ، لم يبعث ، وهو إسماعيل بن إبراهيم عليهما‌السلام فالنبوة أعظم منزلة عند اللّه أم الخلافة يا هشام؟ وبعد فما يقصر برجل أبوه رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن علي بن أبي طالب ، فوثب هشام عن مجلسه (وزيد في عمدة الطالب ووثب الشاميون) ودعا قهرمانه فقال : لا يبيتن هذا في عسكري (الليلة) فخرج زيد وهو يقول : إنّه لم يكره قط أحد حد السيوف إلاّ ذلّوا (٢).
٣ ـ قد وشي بزيد إلى هشام ، فسأله عن ذلك فقال : أحلف لك. قال هشام : فإذا حلفت أفأُصدقك؟! قال : إتق اللّه. قال هشام : أومثلك يا زيد يأمر مثلي
__________________
١ ـ موفق الدين الخوارزمي : مقتل الحسين : ٢ / ١١٧.
٢ ـ المفيد : الاِرشاد : ٢٦٨ ، طبعة النجف الأشرف.
٩٤
بتقوى اللّه ، قال : لا أحد فوق أن يوصى بتقوى اللّه ، ولا أحد دون أن يوصى بتقوى اللّه. قال هشام : بلغني أنّك تريد الخلافة وأنت لا تصلح لها لأنّك ابن أمة قال : قد كان إسماعيل بن إبراهيم ابن أمة وإسحق ابن حرة ، فأخرج اللّه من صلب إسماعيل النبيّ الكريم ، فعندها قال له هشام : قم ، قال : إذاً لا تراني إلاّ حيث تكره (١).
٤ ـ روى خالد بن صفوان اليمامي ، قال : أتينا زيـد بن علي وهو يومئذ بالرصافة ، رصافة هشام بن عبد الملك ، فدخلنا عليه في نفر من أهل الشام وعلمائهم وجاءُوا معهم برجل انقاد له أهل الشام في البلاغة ، والبصر بالحجج ، وكلّمنا زيد بن علي في الجماعة وقلنا : إنّ اللّه مع الجماعة وأنّ أهل الجماعة حجّة اللّه على خلقه ، وأنّ أهل القلّة هم أهل البدعة والضلالة ، قال : فحمد اللّه وأثنى عليه وصلّـى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم تكلّم بكلام ما سمعت قرشيّاً ولا عربيّاً أبلغ موعظة ، ولا أظهر حجّة ولا أفصح لهجة منه ، قال : ثم أخرج إلينا كتاباً قاله في الجماعة والقلة ، ذكر من كتاب اللّه فلم يذكر كثيراً إلاّ ذمّه ولم يذكر قليلاً إلاّ مدحه ، والقليل في الطاعة هم أهل الجماعة ، والكثير في المعصية هم أهل البدع. قال خالد بن صفوان : فيئس الشامي فما أحلى ولا أمر (كذا) وسكت الشاميون فما يجيبون بقليل ولا كثير ، ثم قاموا من عنده فخرجوا وقالوا لصاحبهم : فعل اللّه بك وفعل ، غررتنا وفعلت ، زعمت أنّك لا تدع له حجّة إلاّ كسرتها فخرست ، فلم تنطق ، فقال لهم : ويلكم كيف أكلّم رجلاً إنّما حاجّني بكتاب اللّه أفأستطيع أن أرد كلام اللّه؟! فكان خالد بن صفوان يقول بعد ذلك : ما رأيت في الدنيا رجلاً قرشياً ولا عربياً يزيد في العقل والحجج غير زيد بن علي عليهما‌السلام (٢).
__________________
١ ـ مختار البيان والتبيين كما في زيد الشهيد للأمين : ٤٨ ـ ٤٩.
٢ ـ حميد المحلي : الحدائق الوردية : ١٤٢ ـ ١٤٣ ؛ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٠.
٩٥

أشعاره :

هذه نتف من مناظراته وفيها غنى وكفاية ، فلنعطف عنان البحث إلى ما جادت به قريحته في مواقف مختلفة ويبدو أنّه لا ينظم الشعر إلاّ في مجالات قليلة ، يصبّ ما في نفسه من جوى وشكوى ، وحماس في قالب النظم وإليك بعض ما وقفنا عليه :
١ ـ روى أبو الفرج عن زكريا قال : أردت الخروج إلى الحجّ فمررت بالمدينة ، فقلت : لو دخلت على زيد بن علي ، فدخلت فسلمت عليه فسمعته يتمثّل :
ومن يطلب المال الممنّع بالقنا

يعش ماجداً أو تخترمه المخارم
متى تجمع القلب الذكي وصارماً

وأنفاً حمياً تجتنبك المظالم
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم

فهل أنا في ذا يالهمدان ظالم
يقول : فخرجت من عنده وظننت أنّ في نفسه شيئاً وكان من أمره ما كان (١).
٢ ـ روى الخزاز عن ابن بكير أنّه قال لزيد : يابن رسول اللّه هل عهد إليكم رسول اللّه متى يقوم قائمكم؟ قال : يا بن بكير ، إنّك لن تلحقه ، وإن هذا الأمر يليه ستة أوصياء بعد هذا ، ثم يجعل اللّه خروج قائمنا فيملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً ، قلت يا بن رسول اللّه ألست صاحب هذا الأمر؟ فقال : أنا من العترة ، فعدت فعاد إليّ ، فقلت : يا بن رسول اللّه هذا الذي قلته عنك أو عن رسول اللّه؟ فقال : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، لا ولكن عهد ، عهِدَه إلينا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم أنشأ يقول :
__________________
١ ـ أبوالفرج : مقاتل الطالبيين : ٨٩.
٩٦

نحن سادات قريش

وقوام الحقّ فينا
نحن الأنوار التي من

قبل كون الخلق كنّا
نحن منّا المصطفى ال

مختار والمهدي منّا
فبنا قد عرف اللّه

وبالحق أقمنا
سوف يصلاه سعيراً

من تولى اليوم عنّا (١)
٣ ـ روى ابن شهر آشوب في المناقب أنّه رثى الاِمام الباقر عليه‌السلام بأبيات وقال :
ثوى باقر العلم في ملحد

إمام الورى طيب المولد
فمن لي سوى جعفر بعده

إمام الورى الأوحد الأمجد
أبا جعفر الخير أنت الاِمام

وأنت المرجى لبلوى غد (٢)
٤ ـ اجتمع مع هشام فأهانه ، فخرج عن مجلسه وهو يقول : « من أحب الحياة ذل » ثم أنشأ يقول :
مهلاً بني عمنا عن نحت أثلتنا

سيروا رويداً كما كنتم تسيرونا
لاتطمعوا أن تهينونا ونكرمكم

وان نكفّ الأذى عنكم وتوَذونا
واللّه يعلم أنّا لا نحبّكم

ولانلومكم أن لا تحبّونا
كلّ امرىءٍ مولعٌ في بغض صاحبه

فنحمد اللّه نقلوكم وتقلونا (٣)
__________________
١ ـ الخزاز القمي : كفاية الأثر : ٢٩٦ ـ ٢٩٧.
٢ ـ ابن شهر آشوب : المناقب : ٤ / ١٩٧ ، طبعة دار الأضواء ، بيروت.
٣ ـ ابن منظور : مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ١٥٦.
٩٧
٥ ـ روى ابن الأثير لما أهانه هشام ، وقال : أُخرج ، قال : أخرج ثم لا أكون إلاّ حيث تكره ، فقال له سالم : يا أبا الحسين لا يظهرن هذا منك ، فخرج من عنده وسار إلى الكوفة ولمّا خرج من مجلس هشام أنشد :
شرّده الخـوف وأزرى به

كذاك من يكره حرّ الجلاد
منخرق النعلين يشكو الوجى

تنكثه أطراف مرو حداد
قد كان في الموت له راحة

والموت حتم في رقاب العباد
إن يحدث اللّه له دولة

تترك آثار العدا كالرماد (١)
٦ ـ روى السيد محسن الأمين في أعيان الشيعة نقلاً عن الخوارزمي في مقتله : إنّ أبا الحسين لما رأى الأرض قد طوقت جوراً ورأى قلة الأعوان ، وتخاذل الناس ، كانت الشهادة أحب الميتات إليه فخرج وهو يتمثل بهذين البيتين :
إن المحكم ما لم يرتقب حسداً

لو لم يرهب السيف أو وخز القنا صفا
من عاذ بالسيف لاقى فرجة عجباً

موتاً على عجل أو عاش فانتصفا (٢)
٧ ـ روى ابن الأثير ، قال محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب لزيد : أذكرك اللّه يا زيد ، لما لحقت بأهلك ولا تأتي أهل الكوفة ، فإنّهم لا يفون لك ، فلم يقبل ، فقال له : خُرِجَ بنا أُسراء على غير ذنب من الحجاز ، إلى الشام ثم إلى الجزيرة ثم إلى العراق ، إلى قيس ثقيف يلعب بنا ثم قال :
__________________
١ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٢٠٦.
٢ ـ الأمين : أعيان الشيعة : ٧ / ١١٦.
٩٨

بكرت تخوّفني الحتوف كأنّني

أصبحت عن عرض الحياة بمعزل
فأجبتها إنّ المنية منهل

لا بد أن أُسقى بكأس المنهل
إنّ المنية لو تُمثَّل مُثّلتْ

مثلي (كذا) إذا نزلوا بضيق المنزل
فاقني حياءك لا أبا لُكِ وأعلمي

إنّي امروَ سأموت إن لم أُقتل (١)
٨ ـ وى المرتضى في الفصول المختارة عن الحسين بن زيد ، قال : حدثني مولاي قال : كنت مع زيد بن علي عليه‌السلام بواسط فذكر قوم الشيخين وعلياً فقدّموهما عليه ، فلمّا قاموا قال لي زيد : قد سمعت كلام هوَلاء وقد قلت أبياتاً فادفعها إليهم وهي:
من شرّف الأقوام يوماً برأيه

فإنّ علياً شرّفته المناقبُ
وقول رسول اللّه والحقّ قوله

وإن رغمت منهم أُنوف كواذب
بأنّك منّي ياعلي معالنا

كهارون من موسى أخ لي وصاحب
دعاه ببدر فاستجاب لأمره

وما زال في ذات الاِله يضارب
فما زال يعلوهم به وكأنّه

شهاب تلقاه القوابس ثاقب (٢)
٩ ـ قال السيد الأمين : وممّا نسب إليه قوله :
لو يعلم الناس ما في العرف من شرف

لشرفوا العرف في الدنيا على الشرف
وبادروا بالذي تحوي أكفهم

من الخطير ولو أشفوا على التلف (٣)
__________________
١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٥ / ٢٣٣ ، طبعة دار صادر.
٢ ـ المرتضى ، الفصول المختارة من العيون والمحاسن : ٢٥.
٣ ـ تاريخ ابن عساكر : ٦ / ٢٠.
٩٩
١٠ ـ روى عن نسمة السحر أنّ هذين البيتين له :
يقولون زيداً لا يزكى بما له

وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال حول لم يكن في أكفنا

من المال إلاّ رسمه وفواضله (١)
١١ ـ روى الديلمي : أنّه لما جرى بينه وبين هشام كلام خرج عليه‌السلام وهو يقول:
حكم الكتاب وطاعة الرحمن

فرضا جهاد الجائر الخوان
كيف النجاة لأمّة قد بدلت

ما جاء في الفرقان والقرآن
فالمسرعون إلى فرائض ربّهم

برئوا من الآثام والعدوان
والكافرون بحكمه وبفرضه

كالساجدين لصورة الأوثان (٢)
لكل أُناس مقبر بفنائهم

فهم ينقصون والقبور تزيد
فما إن تزال دار حيٍّ قد أُخربت

وقبرٌ بأفناء البيوت جديد
هم جيرة الأحياء أمّا مزارهم

فدانٍ وأمّا الملتقى فبعيد (٣)
١٢ ـ تمثل زيد بالأبيات التالية وقد تمثل بها علي بن أبي طالب عليه‌السلام يوم صفين والحسين بن علي عليهما‌السلام يوم قتل وهي لضرار بن الخطاب الفهري:
__________________
١ ـ الأمين العاملي : زيد الشهيد : ٩٤ ، نقلاً عن نسمة السحر فيمن تشيع وشعر.
٢ ـ السياغي ، الروض النضير : ١ / ١٠٧.
٣ ـ ابن عبد ربّه : العقد الفريد : ٣ / ٢٣٦.
١٠٠

مهلاً بني عمنا ظلامتنا

إنّ بنا سورة من الفلق
لمثلكم نحمل السيوف ولا

تغمز أحسابنا من الدقق
إنّي لأنمي إذا انتميت إلى

عز عزيز ومفتر صدق
بيض بساط كان أعينهم

تكحل يوم الهياج بالعلق (١)
لما خرج زيد بن علي كتب للكميت : اخرج عنّا يا أعيمش ألست القائل :
ما أُبالي إذا حفظت أبا القا

سم فيكم ملامة اللوام
فكتب إليه الكميت :
تجود لكم نفسي بما دون وثبة

تظل بها الغربان حولي تحجل (٢)
* * *
هذا زيد ، وهذه كلمه وخطبه ، وحججه ومناظراته ، وشعره وقريضه وعند ذاك تقف على صدق ما رواه الخوارزمي في مقتله عن خالد بن صفوان قال : انتهت الفصاحة والخطابة والزهادة والعبادة في بني هاشم إلى زيد بن علي ـ رضي اللّه عنه ـ (٣).
أمّا الفصاحة والخطابة فقد عرفت نماذج من كلامه ، وأمّا العبادة ، فيكفي في
____________
١ ـ الأغاني : ١٩ / ١٩١.
٢ ـ الأغاني : ١٧ / ٣٤.
٣ ـ الخوارزمي : المقتل : ٢ / ١١٩.
١٠١
تهالكه فيها : ما رواه فرات بن إبراهيم عن رجل : قال صحبت زيداً ما بين مكّة والمدينة وكان يصلّـي الفريضة ثم يصلّي ما بين الصلاة إلى الصلاة ويصلّـي الليل كلّه ويكثر التسبيح ويكرر هذه الآية : « وجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيد » ، فصلّـى ليلة معي وقرأ هذه الآية إلى قريب نصف الليل فانتبهت من نومي فإذا أنا به مادّ يديه نحو السماء وهو يقول :
إلهي عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة ، ثم انتحب ، فقمت إليه وقلت : يا بن رسول اللّه لقد جزعت في ليلتك هذه جزعاً ما كنت أعرفه ، فقال : ويحك يا نازلي أنّي نمت هذه الليلة وأنا ساجد فرأيت جماعة عليهم لباس لم أر أحسن منه فجلسوا حولي وأنا ساجد فقال رئيسهم : هل هو هذا؟ فقالوا : نعم. فقال : أبشر يا زيد فإنّك مقتول في اللّه ومصلوب ومحروق بالنار ولا تمسّك النار بعدها أبداً ، فانتبهت وأنا فزع (١).
روى الخزاز عن يحيى بن زيد أنّه قال له في حديث : يا أبا عبد اللّه إنّي أُخبرك عن أبي عليه‌السلام وزهده وعبادته إنّه كان يصلّـي في نهاره ما شاء اللّه ، فإذا جنّ الليل عليه نام نومة خفيفة ثم يقوم فيصلي في جوف الليل ما شاء اللّه ، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر سجد سجدة ثم يصلّـي الفجر ثم يجلس للتعقيب حتى يرتفع النهار ، ثم يذهب لقضاء حوائجه ، فإذا كان قريب الزوال أتى وجلس في مصلاّه واشتغل بالتسبيح والتمجيد للرب المجيد ، فإذا صار الزوال صلى الظهر وجلس ، ثم يصلي العصر ثم يشتغل بالتعقيب ساعة ثم يسجد سجدة ، فإذا غربت الشمس صلّى المغرب والعشاء ، فقلت : هل كان يصوم دائماً؟ قال : لا
____________
١ ـ فرات بن إبراهيم : التفسير : ٤٣٥. والآية ١٩ من سورة ق.
١٠٢
ولكنّه يصوم في كل سنة ثلاثة أشهر ، وفي كل شهر ثلاثة أيام ثم أخرج إليّ صحيفة كاملة فيها أدعية علي بن الحسين عليه‌السلام (١).
روى أبو الفرج بسند عن محمد بن الفرات : رأيت زيد بن علي وقد أثر السجود بوجهه أثّراً خفيفاً وكان في خاتمه « اصبر تُوَجر وتوقّ تنج » (٢).
__________________
١ ـ الخزاز القمي : كفاية الأثر : ٣٠٤ ـ ٣٠٥.
٢ ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : ٨٧ و ٨٩.
١٠٣
١٠٤

الفصل الرابع

مشايخه وتلاميذه
في الحديث والتفسير
إنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام كانوا في غنى عن الحضور لدى الغير ، والرجوع إليهم في مجال العقائد والأصول ، والأحكام والفروع ، والأخلاق والسلوك وكل ما يمتّ إلى الدين بصلة ، وتحتاج إليه الأمّة. وذلك لا للمبالغة في مقامهم ، أو الغلو في علومهم. بل لأجل تنصيص النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليهم ، حيث إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تارة يصوّرهم بأنّهم أعدال القرآن وقرناوَه ، من تمسك بهما لن يضل أبداً (١) ، وأُخرى بأنّ مثلهم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق (٢) ، وثالثة بأنّهم كالنجوم ، فكما أنّ الكواكب أمان لأهل الأرض من الغرق ، فكذلك أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أمان للأمّة من الاختلاف (٣) ، إلى غير ذلك من الأحاديث المتواترة أو المتضافرة الدالة على أنّ أئمة أهل البيت مراجع الأمّة ، ومصادر الأحكام ، وهم عن
__________________
١ ـ حديث الثقلين : اتفق الفريقان على نقله وتصحيحه لايشك فيه إلاّ العدو الغاشم.
٢ ـ تلويح إلى قول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق ».
٣ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق وأهل بيتي أمان لأمّتي من الاختلاف في الدين » لاحظ في الوقوف على مصادرها المراجعات للسيد شرف الدين العاملي المراجعة الثانية : ٤٠ ـ ٤٦ طبعة الأعلمي ، لبنان.
١٠٥
علومهم ومعارفهم يصدرون ، وإلى أقوالهم وأفعالهم يسكنون. ومن كان هذا وصفه ومقامه فيحتلّ من مخروط الأمّة مكان الرأس والقمة ، ونعم ما قال القائل :
فَوال أُناساً قولهم وكلامهم

روى جدنا عن جبرئيل عن الباري
وما ربّما يرى من أنّ أحد الأئمّة ، يروي حديثاً عن صحابي أو تابعي كالاِمام الباقر عليه‌السلام إذا روى مثلاً عن جابر ، فإنّما هو لأجل إقناع السائل الذي اعتاد بقبول الرواية إذا أُسند إلى النبي الأكرم وإلاّ فالاِمام الباقر عليه‌السلام في غنى عن الاِسناد إليه وهو معدن علم النبي وموئله وهكذا أبناوَه المعصومون.
هذا هو حال أئمة أهل البيت وأمّا العلماء المنتمون إليهم بالنسب كالحسنيّين والحسينيّين فيصدرون عن معارفهم ويحتجون بأقوالهم وأفعالهم أيضاً وربّما ينقلون عن الغير ويسكنون إليهم وذلك لا للاِعراض عن أئمتهم ، بل اقتداء بقول نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحكمة ضالة الموَمن أين وجدها أخذها » ولأجل ذلك نرى أنّ زيد الثائر أخذ الحديث عن غيرهم ، كما أخذ عنه الكثيرون من المحدّثين والفقهاء. وإليك بيان هذا الفصل من فصول حياته.

مشايخه :

كان لزيد الثائر تنقلات وسفرات كثيرة بين المدن الاِسلامية بين المدينة ومكّة ، والحجاز والشام والعراق ، ففي هذه الرحلات أخذ العلم والحديث عن لفيف ، وإليك أسماء مشايخه أوّلاً ، ثم تلامذته.
روى عن : أبان بن عثمان بن عفان ، وعبيد اللّه بن أبي رافع ، وعروة بن الزبير ، وأبيه علي بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، وأخيه أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليه‌السلام (١).
__________________
١ ـ المزي : تهذيـب الكمال : ١٠ / ٩٦ ، الذهبي : سير أعلام النبلاء : ٥ / ٣٨٩ ، تاريخ الاسلام القسم المختص بحوادث (سنة ١٢١ ـ ١٤١)ص ١٠٥ ، ابن حجر العسقلاني : تهذيب التهذيب : ٣ / ٤١٩.
١٠٦

تلامذته :

روى عنه : الأجلح بن عبد اللّه الكندي ، وآدم بن عبد اللّه الخثعمي ، وإسحاق بن سالم ، وإسماعيل بن عبد الرحمان السدي ، وبسام الصيرفي ، وأبو حمزة ثابت بن أبي صفية الثمالي ، وابن أخيه جعفر بن محمد بن علي الصادق ، وابنه حسين بن زيد بن علي ، وخالد بن صفوان ، وأبو سلمة راشد بن سعد الصائغ الكوفي ، وزبيد اليامي ، وزكريا بن أبي زائدة ، وزياد بن علاقة ، أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني ، وسعيد بن خثيم الهلالي ، وسعيد بن متصور المِشرفي الكوفي ، وسليمان الأعمش ، وشعبة بن الحجاج ، وعباد بن كثير ، وعبد اللّه بن عمر بن معاوية ، وعبد اللّه بن عيسى بن عبد الرحمان بن أبي ليلى ، وعبد الرحمان بن الحارث ابن عياش بن أبي ربيعة المخزومي ، وعبد الرحمان بن أبي الزناد ، وعبيد اللّه بن محمد ابن عمر بن علي بن أبي طالب ، وعبيد بن اصطفى ، وأبو هريرة عُريف بن درهم ، وعمر بن موسى ، وأبو خالد عمرو بن خالد الواسطي ، وابنه عيسى بن زيد بن علي ، وفضيل بن مرزوق ، وكثير النواء ، وكيسان أبو عمر القصار الكوفي ، ومحمد ابن سالم ، ومحمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، والمطّلب بن زياد ، وأبو الزناد موح ابن علي الكوفي ، وهارون بن سعد العجلي ، وهاشم بن البريد (١).
ثم إنّ علاّمة صنعاء السياغي فصل من يروي عنه من أولاده عمّن ليس منهم ، فقال :
تلامذته : أولاده السادة الأبرار :
عيسى بن زيد ، ومحمد بن زيد ، وحسين بن زيد ، ويحيى بن زيد.
__________________
١ ـ جمال الدين المزي : تهذيب الكمال : ١٠ / ٩٦. هذا ما ذكره جمال الدين ، ونذكر المشهورين منهم في قائمة خاصة.
١٠٧
فعيسى بن زيد الأوحد الذي أخذ عنه سفيان الثوري ، وكان زاهد أهل زمانه وهو جد العراقيين.
ومحمد بن زيد ، جد الذين ببلاد العجم.
وحسين بن زيد ، جد المشهورين من ذرية زيد بن علي.
ويحيى بن زيد هو القائم بالاِمامة بعده.

مشاهير أصحابه الذين أخذوا عنه العلم :

ما نقلناه عن جمال الدين المزّي يهدف إلى مطلق من أخذ عنه العلم ، سواء اشتهر بالأخذ عنه أم لا وفي هذه القائمة نخص المشهورين وبين المذكورين في القائمتين من النسب الأربع عموم وخصوص من وجه.
١ ـ منصور بن المعتمر بن عبد اللّه السلمي الكوفي مات سنة ١٣٢ هـ احتج به البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي.
٢ ـ هارون بن سعد العجلي أو الجعفي الكوفي وهو من شيوخ مسلم.
٣ ـ معاوية بن إسحاق بن زيد بن حارثة الأنصاري استشهد مع الاِمام زيد وصلب معه.
٤ ـ أبو الجارود زياد بن المنذر الهمداني وهو الذي تنسب إليه الجارودية الزيدية.
٥ ـ الحسن بن صالح وأخوه.
٦ ـ علي بن صالح وكلاهما بتريان ، لاحظ رجال الكشي برقم ١٠٨.
٧ ـ هاشم صاحب البريد وقد جاء في سند الكافي في باب معرفة الأئمّة يروي عن الصادق عليه‌السلام لاحظ تنقيح المقال : ٣ / ٢٨٨.
١٠٨
٨ ـ محمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى من أصحاب الاِمام الصادق عليه‌السلام لاحظ تنقيح المقال : ٣ / ١٣٦.
٩ ـ سلمة بن كهيل أحد المبايعين لزيد له ترجمة في رجال الكشي برقم : ٢٠٥.
١٠ ـ عمرو بن خالد الواسطي راوي مسنده وستوافيك ترجمته عند البحث عن آثار زيد العلمية.
١١ ـ إسماعيل بن عبد الرحمان السدّي من كبار علماء الكوفة مات سنة ١٢٧ هـ.
١٢ ـ أبو الزناد : موح بن علي الكوفي. له ترجمة في تهذيب الكمال : ١ / ٤٥٦.
١٣ ـ سليمان بن مهران الأعمش من كبار علماء الكوفة ولد سنة ستين وتوفي عام ١٤٨ هـ.
١٤ ـ الأجلح بن عبد اللّه الكندي. لاحظ تنقيح المقال : ١ / ٢٦٦.
١٥ ـ معمر بن خثيم الهلالي له ترجمة في تنقيح المقال : ٣ / ٢٣٤.
١٦ ـ سعيد بن خثيم الهلالي له ترجمة في تنقيح المقال : ٢ / ٢٦.
١٧ ـ شعبة بن الحجاج بن ورد (٨٣ ـ ١٦٠ هـ) من العلماء كان ينتقل بين الكوفة والبصرة وواسط.
١٨ ـ قيس بن الربيع من أصحاب الصادقين عليهما‌السلام. تنقيح المقال : ٣ / ٣١.
١٩ ـ سفيان بن أبي السمط ، اقـرأ ترجمتـه في تنقيح المقال : ٢ / ٣٨ ، بسقوط « أبي » من العبارة.
٢٠ ـ محمد بن الفرات الجرمي. له ترجمة في رجال الكشي ، برقم : ٤٢٨.
١٠٩
٢١ ـ فضيل بن الزبير الرسان له ترجمة في تنقيح المقال : ٢ / ١٣.
٢٢ ـ عبد اللّه بن الزبير : أخو فضيل بن الزبير لاحظ رجال الكشي برقم : ٢٨٧.
٢٣ ـ سالم بن أبي حفصة ترجمه الكشي برقم ١٠٩.
٢٤ ـ عبد اللّه بن عتيبة.
٢٥ ـ زبيد اليامي (١) وهو من صغار التابعين توفي عام ٢٢١أو ٤٢١ هـ.
هوَلاء مشاهير تلامذته ، وأمّا غيره فقد أتى بأسمائهم العلاّمة السياغي في كتابه ، فمن أراد فليرجع إليه ، وقد تعرفت على ما ذكره جمال الدين المزّي في ذلك المجال (٢).
ثم إنّ أولاد عبد اللّه بن الحسن بن الحسن المثنى الذين أخذوا من زيد عبارة عن :
١ ـ محمد بن عبد اللّه : النفس الزكية.
٢ ـ إبراهيم بن عبد اللّه : النفس الرضية.
٣ ـ إدريس بن عبد اللّه.
٤ ـ يحيى بن عبد اللّه.
٥ ـ السيد موسى بن عبد اللّه.
فهوَلاء أخذوا العلم عن أبيهم وعن زيد وبعض أصحابه أيضاً (٣).
* * *
__________________
١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١١٤ ـ ١١٥.
٢ ـ جمال الدين المزّي : تهذيب الكمال : ١٠ / ٩٦.
٣ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١١٥.
١١٠
إنّ العلاّمة السياغي وغيره عدّوا كثيراً من فقهاء أهل السنّة ونسّاكهم من أتباع الاِمام زيد ، وحاولوا بذلك شيوع إمامته والاقتداء به يوم ظهوره وخروجه ، ولكن الموَيد لثورة زيد ، غير كونه تابعاً لزيد في الأصول والفروع.
وهناك كلمة قيّمة لنشوان الحميري قد رفع بها الستر عن وجه الحقيقة وقال : « اجتمع طوائف الناس على اختلاف آرائهم على مبايعته ، فلم يكن المعتزلي أسرع إليها من المرجىَ ، ولا المرجىَ من الخارجي ، فكانت بيعته عليه‌السلام مشتملة على فرق الأمّة على اختلافها (١).
إنّ أبا حنيفة إمام السنّة دعم خروج زيد بالمال ، وأفتى بوجوب نصرة زيد وقد أرسل المال إليه ، كما هو مذكور في غير واحد من المعاجم ، مع أنه لم يكن تابعاً لزيد لا في الأصول ولا في الفروع.

حديث المنتمين إلى زيد :

إنّ لفيفاً من فقهاء أهل السنّة ، كانوا يعانون من جور بني أُمية وطغيانهم ، لمّا وقفوا على خروج زيد قاموا بدعمه وإمداده بالقول والعمل ، فصاروا معروفين بالزيدية وما هم من الزيدية بشيء إلاّ تصويب خروج زيد ، وإمداده ، والزيدي عندنا ، من يقتفيه في العقيدة والعمل.
وبذلك يظهر التأمل في بعض ما ذكره الحاكم الجشمي البيهقي (٤١٣ ـ ٤٩٤ هـ) في جلاء الأبصار.
قال : وعن محمد بن زيد قال : بعث أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ إلى زيد بن علي عليهما‌السلام بمال ، وقال : استعن به على ما أنت فيه. وعن فضيل ابن الزبير قال : كنت رسول زيد بن علي إلى أبي حنيفة ، فسألني من يأتيه من الفقهاء؟ فقلت :
____________
١ ـ نشوان الحميري : الحور العين : ١٨٥. ولكلامه صلة سيوافيك.
١١١
سلمة بن كهيل ويزيد بن أبي زياد وهارون بن سعد وأبو هاشم الرماني وحجاج ابن دينار وغيرهم كثير. وعن شعبة قال : سمعت الأعمش يقول : واللّه لولا ضرارة بي لخرجت معه ، واللّه ليُخذُلنَّه واللّه ليُسلمُنَّه كما فعلوا بجده وعمه. وعن عقبة بن إسحاق السلمي قال : كان منصور بن المعتمر يدور على الناس يأخذ البيعة لزيد ابن علي. وعن ليث قال : جاءنا منصور يدعونا إلى الخروج مع زيد بن علي. وعن حماد بن زيد وذكر سفيان الثوري فقال : كان ذاك زيدياً ، وعن أبي معاوية وذكر عنده سفيان فقال : نحن أعرف بهذا منكم ، كان سفيان من هذه الشيعة وكان منصور يأخذ البيعة لزيد بن علي. وذكر السيد أبو طالب بإسناده عن أبي عوانة قال : كان سفيان زيدياً ، وكان إذا ذكر زيد بن علي يقول : بذل مهجته لربّه ، وقام بالحقّ لخالقه ، ولحق بالشهداء المرزوقين من آبائه. وقال أبو عوانة : كان زيد بن علي يرى الحياة غراماً ، وكان ضجراً بالحياة. وعن الواقدي قال : كان سفيان زيدياً. وعن النضر بن حميد الكندي قال : شهدت سعد بن إبراهيم بالمدينة حين نعي إليه زيد بن علي عليهما‌السلام ، فبكى واشتد حزنه واشتد جزعه ، وتخلف في منزله يعزّى بعد سبعة أيام ، فسمعته يقول : ما خلف مثله. وعن الصادق ـ يعني جعفر بن محمد عليهما‌السلام ـ : « عمي زيد خرج على ما خرج عليه آباوَه ، ووددت أنّي استطعت أن أصنع كما صنع عمي ، فأكون مثل عمي ، من قتل مع زيد كمن قتل مع الحسين ابن علي عليهما‌السلام » (١).
وعلى هذا الغرار قول ابن العماد الحنبلي ، قال : وكان ممن بايعه منصور بن المعتمر ، ومحمد بن عبد الرحمان بن أبي ليلى ، وهلال بن خباب بن الأرت وابن شبرمة ومسعر بن كدام وغيرهم (٢).
__________________
١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٤.
٢ ـ ابن العماد الحنبلي : شذرات الذهب : ١ / ١٥٨.
١١٢
إنّ القول بالتشيع يجمعه الاعتقاد ، بخلافة الاِمام علي أمير الموَمنين عن النبي الأكرم نصاً جليّاً أو خفياً كما يدّعيه بعض الزيدية ، ولم يكن هوَلاء متشيعين بهذا المعنى نعم كانوا موَيدين ثورة زيد ومدعمين لها بألوان مختلفة.
حتى إنّ بعض الموَيدين لثورته ، والمبايعين له ، قد استقال بعد البيعة كما روى في حق كثير النواء حيث بايع فاستقال وأقاله زيد وقال :
للحرب أقوام لها خلقوا

وللتجارة والسلطان أقوام
خير البرية من أمسى تجارته

تقوى الاِله ، وضرب يجتلي الهام (١)

الثناء عليه ممزوجاً مع المغالاة :

١ ـ روى المقريزي عن أحمد بن محمد بن الحسيـن بن زيد بن علي ، قال : حدثنا أهلي أنّ زيداً عليه‌السلام ماتوسد القرآن منذ احتلم حتى قتل ، وأمّا الصيام فكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
ولعله أراد بقوله : « ماتوسد القرآن » الكناية عن قيام الليل واستكمال قراءة القرآن في صلاة التهجد (٢).
٢ ـ قال نشوان الحميري في شرح « رسـالة الحور العين » : فلمّا شهر فضله وتقدمه وبراعته وعرف كماله الذي تقدم به أهل عصره اجتمع طوائف الناس على اختلاف رأيهم على مبايعته ، فلم يكن الزيدي أحرص عليها من المعتزلي ، ولا المعتزلي أسرع إليها من المرجىَ ، ولا المرجىَ من الخارجي ، فكانت بيعته عليه‌السلام مشتملة على فرق الأمّة مع اختلافهم. ولم يشذ عن بيعته إلاّ هذه الفرقة القليلة
__________________
١ ـ المفيد : الاختصاص : ١٢٨ ، ط ١٣٧٩ ؛ المجلسي : البحار : ٤٦ / ١٨١.
٢ ـ المقريزي : الخطط : ٢ / ٤١٩ ، كما في الروض النضير : ١ / ٩٩.
١١٣
التوفيق ـ أخزاهم اللّه تعالى ـ قال : ومن الواضح الذي لا أشكال فيه أنّ زيد بن علي عليه‌السلام يُذكر مع المتكلمين إن ذكروا ، ويُذكر مع الزهاد ، ويُذكر مع الشجعان ، وأهل المعرفة بالضبط والسياسة ، فكان أفضل العترة لأنّه كان مشاركاً لجماعتهم في جميع خصال الفضل ، ومتميزاً عنهم بوجوه لم يشاركوه فيها ، فمنها اختصاصه بعلم الكلام (١) ، الذي هو أجلّ العلوم ، وطريق النجاة ، والعلم الذي لا ينتفع بسائر العلوم إلاّ معه ، والتقدم فيه والاشتهار عند الخاص والعام. هذا أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ يصفه في صنعه الكلام ويفتخر به ويشهد له بنهاية التقدم ، وجعفر بن حرب في كتاب « الديانة » وكثير من معتزلة بغداد كمحمد بن عبد اللّه الاِسكافي وغيره ينتسبون إليه في كتبهم ، ويقولون نحن زيدية ، وحسبك في هذا الباب انتساب المعتزلة إليه ، مع أنّهاتنظر إلى سائر الناس بالعين التي تنظر بها ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلاً. فلولا ظهور علمه وبراعته وتقدمه على كل أحد في فضيلته لما انقادت إليه المعتزلة (٢).

المغالاة في علمه وفقهه :

إنّ الغلو هو الخروج عن الحد ، قال سبحانه : « يا أهْلَ الكِتابِ لأ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُوُُلوا على اللّهِ إلاّ الحَق » (النساء ـ ١٧١). وقال سبحانه : « قُلْ يا أهْلَ الكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحَق » (المائدة ـ ٧٧). وقال الاِمام علي عليه‌السلام وهو يصف الغلوّ وخلافه يقول : الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق ، والتقصير عن الاستحقاق عي أو حسد » (٣).
__________________
١ ـ سيوافيك أنّه لم يوَثر من زيد ، أي رأي كلامي وإنّ تتلمذه على واصل غير ثابت.
٢ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠١ ، لاحظ شرح رسالة الحور العين : ١٨٥.
٣ ـ الرضي : نهج البلاغة : قسم الحكم ، برقم ٣٤٧.
١١٤
المغالا ة في أي موضوع من الموضوعات تلازم الكذب أوّلاً ، والاِغراء بالجهل ثانياً ، وبخس الحق ثالثاً إلى غير ذلك من المضاعفات ، من غير فرق بين أن يتعلق بأمر ديني أو غيره ، وهنا نذكر شيئاً مما قيل في حقّه من المغالاة :
١ ـ اتفقت كلمة أصحاب المعاجم على أنّ زيداً ، أخذ عن والده وأخيه محمد الباقر عليهما‌السلام ولم ينكر أحد ذلك وقد تخرج من مدرسة أخيه عشرات المحدثين والفقهاء والمتكلمين ، لا يشق غبارهم ولا يدرك شأوهم غير أنّ هناك من يروقه الحط عن مكانة أئمة أهل البيت ، أو الخضوع للعاطفة ، أو الحسد لمنزلة أبي جعفر الباقر عليه‌السلام فلا يرضى إلاّ بترفيع زيد عليه ، يقول : لقد علم زيد ، القرآن من حيث لم يعلمه أبو جعفر ، قلت : وكيف ذلك؟ قال : لأنّ زيداً علم القرآن ، وأُوتي فهمه. وأبو جعفر أخذ من أفواه الرجال. قال الديلمي : وقد قيل لأبي جعفر : باقر علم الأنبياء والعالم ورأس الشيعة في زمانه. وعنه : واللّه لقد علمت أهل بيتي فما علّمت أفضل من زيد بن علي ولقد استوسقت له الفضائل ، واجتمع له الخير ، وكمل فيه الحقّ فما يساميه أحد إلاّ والحقّ ينكسه ويزهقه (١).
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ زيداً من علماء أهل البيت وأفاضلهم ، وهو علم القرآن وأُوتي فهمه ، ولكنه من أين أخذ علمه هل أخذ عن أبيه زين العابدين ، وأخيه باقر العلوم عليهما‌السلام فإذاً تنتفي المغالاة ، أو من غيرهما ، ومن هو ذاك الغير الذي علّم زيداً ، وصار زيد في علم القرآن عيالاً عليه ، وبرع وترعرع وتقدم على أئمة أهل البيت عليهم‌السلام؟!
وثانياً : ما مصدر هذه الأكذوبة من أنّ أبا جعفر عليه‌السلام أخذ من أفواه الرجال ، إذ لم يأت في أي مصدر من المصادر ، إنّ الأئمّة الاثني عشر عليهم‌السلام
__________________
١ ـ الروض النضير : ١ / ١٠١ وهذا القضاء الجائر نسبه الديلمي في مشكاة الأنوار إلى عبد اللّه بن محمد ابن علي بن الحنفية.
١١٥
حضروا مجلس درس أحد من الصحابة والتابعين والعلماء ، نعم ربّما روى بعضهم حديثاً عن الرسول مسنداً إلى بعض الصحابة أو التابعين وهو غير الدراسة والتعلّم لديهم. وقد مضى وجه النقل عنهم.
هذا هو ابن سعد يعرّفه بقوله : « محمّد الباقر من الطبقة الثالثة من التابعين كان عالماً عابداً ثقة ، روى عنه الأئمّة أبو حنيفة وغيره. وقال عطاء : ما رأيت العلماء عند أحد أصغر علماً منهم عند أبي جعفر ، لقد رأيت الحكم عنده كأنّه مغلوب ، ويعني بالحكم ، الحكم بن عتيبة ، وكان عالماً نبيلاً جليلاً في زمانه » (١).
أفمن يسلم عليه النبي عن طريق جابر يقول جابر : كنت جالساً عند رسول اللّه والحسين في حجره وهو يداعبه فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ياجابر يولد مولود اسمه علي إذا كان يوم القيامة نادى مناد ليقوم سيد العابدين فيقوم ولده ، ثم يولد له ولد اسمه محمد ، فإن أدركته يا جابر فاقرأه منّي السلام » (٢).
يقول المفيد : لم يظهر عن أحد من ولد الحسن والحسين عليهما‌السلام في علم الدين والآثار والسنّة وعلم القرآن والسيرة وفنون الآداب ما ظهر من أبي جعفر الباقر عليه‌السلام وروى عنه معالم الدين ، بقايا الصحابة ووجوه التابعين وفقهاء المسلمين ، وسارت بذكر كلامه الأخبار وانشدت في مدائحه الأشعار (٣).
وبذلك يظهر حال ما رواه الذهبي وغيره عن الاِمام الصادق عليه‌السلام أنّه عرف عمه بقوله : « كان واللّه أقرأنا لكتاب اللّه وأفقهنا في دين اللّه ، وأوصلنا للرحم
__________________
١ ـ سبط ابن الجوزي : تذكرة الخواص : ١ / ٣٠٢.
٢ ـ المصدر نفسه : ٣. ٣ ، أخرجه أيضاً ابن حجر في لسان الميزان : ٥ / ١٩٨ ، وابن حجر الهيثمي في الصواعق المحرقة : ١٩٩ ، والمناوي في الكواكب الدّريّة : ١ / ١٦٤ وغير ذلك.
٣ ـ المفيد : الارشاد : ٢٦١ ـ ٢٦٢.
١١٦
ما تركنا وفينا مثله » (١) ولو صح الحديث لحمل على التفضيل النسبي بالنسبة إلى سائر الهاشميين.
تطرف بعد تطرف :
ومن ذلك ما يرويه حميد بن أحمد المحلي قال : روينا بالاسناد الموثوقة أيضاً أنّ زيد بن علي عليهما‌السلام سأل محمد بن علي الباقر عليهما‌السلام كتاباً كان لأبيه ، قال : فقال له محمد بن علي : نعم ، ثم نسي ولم يبعث إليه ، فمكث سنة ثم ذكر ، فلقى زيداً فقال : أي أخي ألم تسأل كتاب أبيك؟ قال : بلى. قال : واللّه ما منعني أن أبعث به إلاّ النسيان. قال : فقال له زيد : وقد استغنيتُ عنه. قال : تستغني عن كتاب أبيك؟ قال : نعم استغنيت عنه بكتاب اللّه ، قال : فاسألك عما فيه؟ قال له زيد : نعم ، قال : فبعث محمداً إلى الكتاب ، ثم أقبل فسأله عن حرف حرف وأقبل زيد يجيبه حتى فرغ من آخر الكتاب ، فقال له محمد : واللّه ما حرمت منه حرفاً واحداً (٢).
يلاحظ عليه أوّلاً : أنّ ظاهر الحديث أنّ اللقاء بين الأخوين كان بعيداًبشهور غير متقارب كما هو ظاهر قوله : فمكث سنة ثم ذكر فلقى زيداً ، وهذا ما لا تعطيه ظروف الحياة في المدينة المنورة.
وثانياً : أنّ ما نقله عن زيد من حديث الاستغناء إنّما يصح لو كان الكتاب ، كتاباً عادّياً غير مرتبط بتفسير القرآن وحل معضلاته ومشكلاته ، أو مبيّناً لمخصصاته ومقيداته ، ولكن الظاهر أنّ الكتاب كان على خلاف ذلك ومع ذلك كيف يمكن الاستغناء عنه بالقرآن.
__________________
١ ـ جمـال الدين المزي ، تهذيب الكمال في أسماء الرجال : ١٠ / ٩٨ ، الذهبي : سير أعلام النبلاء : ٥ / ٣٩٠ وتاريخ الاِسلام (حوادث ـ ١٢١ ـ ١٤٠ هـ) ص ١٠٦.
٢ ـ الحدائق الوردية : ١٤٠.
١١٧
١١٨

الفصل الخامس

الآثار العلمية الباقية عن زيد
كان وليد البيت العلوي ، مفسّراً للقرآن ، عارفاً بالسنّة ، ترك آثاراً علمية إمّا أملاها على تلاميذه ، أو حرّرها بقلمه ويراعه ونأتي في المقام بما وقفنا عليه من الآثار :

١ ـ المجموع الفقهي.

٢ ـ المجموع الحديثي.

نسب إلى زيد المجموع الفقهي تارة والحديثي أُخرى ، والمسند ثالثة. روى الجميع أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي غير أنّ الكتب الثلاثة هي المطبوعة باسم المسند ، وأمّا تسميته بالحديثي والفقهي فلأجل أنّ الكتاب يتضمّن روايات عن زيد عن آبائه كما يتضمن آراء له فلو كان الكتابان في بدء الأمر مختلفين فهو في المطبوع كتاب واحد ، وأمّا توصيفه بالمسند لأنّ ما في الكتاب يحتوي رواياته عن آبائه ، وقد جمع ـ ما رواه أبو خالد عن زيد ـ عبد العزيز بن إسحاق بلا تبويب شأنَ المسانيد ، وبوبّه بعد قرون الحسين بن يحيى بن إبراهيم الديلمي في سنة ١٢٠١ هـ وكان قبل التبويب مجزّأ على ستة أبواب على أصل الجامع له ، والمطبوع
١١٩
هو ما بوبّه الديلمي.
والناظر في المجموع الحديثي يميز الحديث عن المجموع الفقهي فنرى في كتاب الطهارة باب ذكر الوضوء لونين من الكلام.
أ : حدثني زيد بن علي بن الحسين (عن أبيه سقط عن المطبوع) عن جده الحسين بن علي إلى أن قال : رأيت رسول اللّه توضّأ فغسل وجهه.
ب : وسألت زيداً بن علي عن الرجل ينسى مسح رأسه حتى يجفّ وضووَه.
ومثل الثاني إذا قال : وقال زيد بن علي رضي اللّه عنه « المضمضة والاستنشاق سنّة ... »
والقسم الأوّل حديث ، ولكن الثاني وما يليه ، من المجموع الفقهي.
وأخبار المجموع النبويةُ المرفوعة مائتا حديث وثمانية وعشرون حديثاً.
والعلوية ثمانمائة وعشرون خبراً.
وقد تلقاها أئمة الزيدية بالقبول وقالوا : هو أوّل كتاب جمع في الفقه وقال منهم :
زيد يزيد على الورى

في أصله وفروعه
فالفضل مجموع به

والعلم في مجموعه
وقد شرحه لفيف من الزيدية أوسعها شرح القاضي العلامة شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي الحيمي اليمني الصنعاني ، ولد بصنعاء سنة ١١٨٠ هـ وتوفي سنة ١٢٢١ هـ ، أسماه « الروض النضير في شرح مجموع الفقه الكبير » ، وقد طبع طبعتين ، الطبعة الثانية محقّقة طبع عام ١٣٨٨ هـ ، وشرحه هذا يشتمل على تخريج الأحاديث وشرحها واستنباط الأحكام المأخوذة منها مع ذكر أقوال العلماء
١٢٠
في مسائل الخلاف والتكلّم في ما عارضها من الأحاديث بالجمع أو الترجيح ، والكتاب يدلّ على سعة باعه واتقانه الفقه والأصول (١).
والشارح وإن جعل المحور ، مسند الاِمام زيد ، لكنه يستدل على ما ورد فيه شيء بالطرق المألوفة في الفقه السنّي من الاحتجاج بما ورد في الصحاح والمسانيد من مراسيل وموقوفات للصحابة وبأُمور لا تعترف بها أئمّة أهل البيت من القياس وغيره ، ولذلك أصبح الكتاب أشبه بفقه أهل السنّة ، ولأجل ذلك يقول الشيخ محمّد بخيت المطيعي الحنفي المصري في تقريظه على الكتاب : « وهو موافق في معظم أحكامه لمذهب الاِمام الأعظم أبي حنيفة النعمان وماذا عنى أن تقول في كتاب يوافق ما فيه ، ما بكتبنا ومذاهبنا » (٢) وسوف ندرس المجموع من حيث الاعتبار في الفصل القادم.
* * *

٣ ـ تفسير غريب القرآن :

الغريب من الغرابة وهي الغموض والخفاء ، فالغريب هو الغامض من الكلام وكان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاِمام علي عليه‌السلام وتلميذه ابن عباس وغيرهم من الصحابة يفسّرون غريب القرآن الكريم وقد جاء في أسئلة نافع بن الأزرق ( ٢٧٧) سوَالاً وجّهها هو وزميله إلى ابن عباس ، وأجاب عنها (٣).
ولعل أوّل من ألّف في غريب القرآن هو أبان بن تغلب بن رياح البكري
__________________
١ ـ لاحظ ما كتب حول الكتاب بقلم عدّة من الأعلام في مقدمته ، ط ٢ ، مكتبة الموَيد ، الطائف ، ١٣٨٨ هـ ـ ١٩٦٨ م.
٢ ـ الروض النضير : ١٧ ، المقدمة.
٣ ـ السيوطي : الاتقان : ٢ / ٦٩ ـ ١٠٤.
١٢١
( ت ١٤١ هـ ) من أصحاب الاِمام السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام وكانت له عندهم منزلة ، وله قراءة مفردة مشهورة عند القراء (١).
لكن لو صحت نسبة تفسير غريب القرآن المطبوع حديثاً لزيد ، المحقّق على يد فضيلة الدكتور حسن محمد تقي الحكيم ، لَسبقه زيد في التأليف ، فهو أوّل باكورة في هذا النوع ظهر في الصعيد الاِسلامي ، ويظهر من مقارنة هذا الكتاب مع كتاب المجاز لأبي عبيدة (ت ٢١٢ هـ) الذي ألّفه في غريب القرآن أنّه كان لهذا الكتاب تأثير بالغ في كتاب أبي عبيدة مباشرة أو بالوساطة (٢).
والكتاب يبتدىَ من سورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس ويركز في التفسير على الغريب ولذلك لا يذكر من آيات السورة إلاّ ما هو موضع نظره.
وردت نسبة الكتاب إليه في بعض الكتب مثلاً :
١ ـ جاء في كتاب الأمالي لابن الشجري : قال الاِمام أبو الحسين زيد بن علي عليهما‌السلام في تفسير الغريب.
٢ ـ جاء في طبقات الزيدية لصارم الدين في ترجمة حياة أبي خالد قوله : وروي عن أبي خالد تفسير الغريب للاِمام زيد بن علي ، عطاء بن السائب.
٣ ـ جاء في كتاب الروض النضير : روى عن أبي خالد تفسير الغريب للاِمام زيد بن علي ، عطاء بن السائب (٣).
ونستطيع أن نوَيد نسبة الكتاب إلى الاِمام الثائر بالرجوع إلى المواضع التي يمكن أن يظهر فيها مذهبه وعقيدته.
__________________
١ ـ النجاشي : الرجال : ١ / ٧٣ برقم ٦ ، السيوطي : بغية الوعاة : ٧٦.
٢ ـ عن مقدمة المحقّق ص ٥٥ ، ثم ذكر دلائل التأثير بشكل واضح.
٣ ـ تفسير غريب القرآن ، مقدّمة المحقّق ص ٤٨ وذكر مصادر ما نقل.
١٢٢
ومن تلك الآيات آية البلاغ ، فهو يقول في تفسير قوله : « يا أيُّـها الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَبِّكَ وإن لَم تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللّهُ يَعصِمُكَ مِنَ النّاس » قال زيد بن علي عليهما‌السلام : هذه لعلي بن أبي طالب صلوات اللّه عليه خاصة : « واللّه يعصمك من الناس » أي يمنعك منهم (١).
ومنها آية الذكر ، قال في تفسير قوله سبحانه : « فَسْئَلُوا أهْلَ الذِّكْر » (النحل ـ ٤٣) قال الاِمام زيد بن علي عليهما‌السلام : نحن أهل الذكر (٢).
فالتفسيران يوَيدان أنّ الكتاب لشيعي يرى النص لعليّ يوم الغدير ، ويرى أنّ المرجع بعد الكتاب والرسول ، هو عترته.
كما يعلم كونه نافياً للروَية التي كانت يوم ذاك عقيدة أصحاب الحديث. يقول في تفسير قوله : « وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ * إلى رَبِّها ناظِرَة » (القيامة : ٢٢ ـ ٢٣) معناه مشرقة وناضرة : منتظرة للثواب (٣).
هذه نظرة عابرة إلى التفسير ، ولو قرىَ بإمعان ودقة ، يتبين أن التفسير لمن تربّى في أحضان أئمة أهل البيت والعترة الطاهرة عليهم‌السلام.

٤ ـ الصفوة :

والكتاب ، دراسة قرآنية هادئة يتبنى بيان فضائل أهل البيت عليهم‌السلام ، وتقديمهم على سائر الناس في مختلف المجالات ، وإنّ السبب لدبيب الفساد بين المسلمين صرف القيادة عنهم ، ودفعها إلى غيرهم. حقّقه الكاتب ناجي حسن ، طبع في مطبعة الآداب في النجف الأشرف بلا تاريخ ، اعتمد في التصحيح على
__________________
١ ـ تفسير غريب القرآن ، ص ١٢٩ ، ط بيروت ، ١٤١٢ هـ.
٢ ـ تفسير غريب القرآن : ص ١٨ و ٣٥٩.
٣ ـ تفسير غريب القرآن : ص ١٨ و ٣٥٩.
١٢٣
تصوير نسخة واحدة محفوظة بمكتبة المتحف البريطاني تحت رقم ٢٠٣ زيدية.
رواها أبو الطيب علي بن محمد بن مخلد الكوفي :
قال : حدثني إسماعيل بن يزيد العطارد.
قال : حدثنا حسين بن نصر بن مزاحم المنقري
قال : حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن الحكم بن ظهير الفزاري
قال : حدثني أبي وحماد بن يعلى الثمالي
عن أبي الزناد ، وأصحاب زيد بن علي عن زيد بن علي عليه‌السلام أوّله :
أمّا بعد فإنّي أُوصيك بتقوى اللّه الذي خلقك ورزقك.

٥ ـ رسالته إلى علماء الأمّة :

نشرت ـ موَخراً ـ رسـالة بهذا الاسـم عن دار التراث اليمني في صنعـاء ، حقّقها محمد يحيى سالم غفران وهي الرسالة التي بعثها الاِمام الثائر إلى علماء الأمّة مبيّناً فيها تفاصيل دعوته وبيان أهدافه التي خرج مجاهداً من أجلها وهي تعطي صورة واضحة من روح ثورية للاِمام ، وتمرد على الحكم الأموي ، وصياح على علماء السوء الذين كان لهم الدور البارز في تخدير حماس الجماهير ، وتشويه مفاهيم الدين ، وتثبيت ملك الظالمين.
وبما أنّ للرسالة أثرها الرسالي الجهادي الحماسي وتمثل الهدف الأمثل لنضال الاِمام وكفاحه وتمرّده على الحكم الأموي نشرناها في الفصل الثالث مشفوعاً بالشكر للناشر والمحقّق ، وقد حقّقها عن نسخ أربع ، قدّم تفاصيلها في المقدمة ، وشفّعها بذكر موارد اقتبس العلماء من هذه الرسالة مع نسبة ما اقتبسوه إلى الاِمام.
١٢٤

٦ ـ منسك الحج أو مناسك الحج

رسالة في بيان أعمال الحجّ ومناسكه نشره العلاّمة السيد محمد علي الشهرستاني ببغداد سنة ١٣٤٢ هـ ويوجد من الكتاب نسخ مخطوطة في مكتبة برلين برقم ١٠٣٦٠ وغيرها (١).
هذه هي الآثار المنشورة التي وقفنا على نشرها وطبعها وقرأناها وهناك آثار له لم تنشر إلى الآن أو نشرت ولم نقف على نشرها ومنها نسخ في المكتبات والمتاحف ، وقد بذل الدكتور حسن محمد تقي الحكيم محقّق تفسير غريب القرآن لزيد جُهداً في الوقوف على تلك الآثار نقتبس من مقدمته ما يلي :
٧ ـ رسالـة في أثبات وصيـة أمير الموَمنين وإثبات إمامته وإمامة الحسن والحسين وذريتهما ، توجد نسخة منها في مكتبة برلين برقم ٩٦٨١ ( الأوراق ١٦ ب ـ ١٩ ب ، من سنة ٨٥٠ هـ تقريباً ) (٢) وقال : توجد عندي صورة منها.
٨ ـ رسالة في أجوبة زيد بن علي ، على مسائل لأخ له من أهل المدينة ، توجد في مكتبة وهبي٤٥٧ / ٤ ( الأوراق ٨١ ب ـ ٨٤ ب ، من القرن العاشر الهجري ) (٣).
٩ ـ رسالة في الاِمامة إلى واصل بن عطاء. توجد في مكتبة وهبي ٤٥٧ / ٢ ( الأوراق ٧٧ ب ـ ٧٨ ب من القرن العاشر الهجري ) (٤).
١٠ ـ تثبيت الاِمامـة. مخطوطة المتحف البريطاني ملحق ٣٣٦ ، مخطوطات شرقية رقم ٣٩٧١ (الأوراق ٢٥ ـ ٢٨ من سنة ١٢١٥ هـ) وتوجد أيضاً في مكتبة
__________________
١ ـ لاحظ مقدّمة تفسير غريب القرآن لمحقّقها الدكتور حسن محمد تقي الحكيم : ٤٣.
٢ ـ انظـر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : ٣ / ٣٢٤ ؛ وتاريخ التراث العربي : الجزء ٣ من المجلد ١ / ٣٢٤ ؛ والروض النضير : ١ / ١١٧.
٣ ـ انظر تاريخ التراث العربي : ج ٣ من المجلَّد ١ / ٣٢٦ ، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي.
٤ ـ انظر تاريخ التراث العربي : ج ٣ من المجلَّد ١ / ٣٢٦ ، منشورات مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي.
١٢٥
أمبروزيانا في ميلانو بإيطاليا رقم ٧٤أ ( الأوراق ٧٨أ ـ ١٨٨ ب من سنة ١٠٣٥ هـ ) (١).
١١ ـ تفسير سورة الفاتحة وبعض آيات القرآن. يوجد في مكتبة برلين رقم ١٠٢٢٤( الأوراق ٩ ـ ١٦ من حوالي سنة ٨٥٠ هـ) (٢).
١٢ ـ رسالة في حقوق اللّه. توجد في مكتبة الفاتيكان رقم ١٠٢٧ (الورقتان ١٣٠ ـ ١٣١ ، من سنة ١٣٣٢ هـ) وتوجد أيضاً في مكتبة وهبي رقم ٤٥٧ / ٣ (الأوراق ٧٨ ب ـ ٨١أ ، القرن العاشر الهجري) (٣).
١٣ ـ الرد على المرجئة. يوجد هذا الكتاب مخطوطاً في مكتبة برلين رقم ١٠٢٦٥ (الأوراق من ١ ـ ١١٦ ، من حوالي سنة ٨٥٠ هـ) (٤).
١٤ ـ قراءة زيد بن علي. يوجد الكتاب في مكتبة امبروزيانا في (ميلانو) في إيطاليا ، رقم ٢٨٩ف.
هذه هي الكتب الباقية من ثائرنا ولعل اللّه سبحانه يقيض رجال العلم لنشر ما بقي من آثاره وربما يذكر له رسائل ، عفى عليها الزمان فالأولى عطف عنان البحث ، على دراسة مجموعه الفقهي والحديثي ، حتى نقوّمهما سنداً ومتناً في الفصل الآتي.
__________________
١ ـ أُنظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : ٣ / ٣٢٤ ؛ وتاريخ التراث العربي : الجزء ٣ من المجلد ١ / ٣٢٤.
٢ ـ أُنظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : ٣ / ٣٢٣ ؛ وتاريخ التراث العربي : الجزء ٣ من المجلد : ١ / ٣٢٣.
٣ ـ أُنظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : ٣ / ٣٢٤ ؛ وتاريخ التراث العربي : المجلد ١ الجزء ٣ / ٣٢٦ و ٣٢٣ ؛ وتفسير غريب القرآن : ٤١ ، المقدمة.
٤ ـ أُنظر تاريخ الأدب العربي لبروكلمان : ٣ / ٣٢٤ ؛ وتاريخ التراث العربي : المجلد ١ الجزء ٣ / ٣٢٦ و ٣٢٣ ؛ وتفسير غريب القرآن : ٤١ ، المقدمة.
١٢٦

الفصل السادس

دراسة مسند الاِمام زيد
سنداً ومضموناً
لقد وقفت على الآثار الباقية من الاِمام زيد ، والمهُم منها هو مجموعه الفقهي والحديثي الذي اشتهر باسم المسند للاِمام زيد ، فتلزم علينا دراسته من حيث الاعتبار ، وما فيه بعض المخالفة لفقه أهل البيت ، أعني : الصادقين ومن بعدهم فنقول :
روي المجموعُ عن الاِمام زيد بالسند التالي :
١ ـ حدثني (١) عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر بن الهيثم القاضي البغدادي قال :
٢ ـ حدثنا أبو القاسم علي بن محمد النخعي الكوفي. قال :
٣ ـ حدثنا سليمان بن إبراهيم بن عبيد المحاربي. قال :
٤ ـ حدثني نصر بن مزاحم المنقري العطار قال :
٥ ـ حدثني إبراهيم بن الزبرقان التيمي قال :
٦ ـ حدثني أبو خالد الواسطي رحمهم اللّه تعالى قال :
____________
١ ـ والقائل هو علي بن العباس الذي هو أحد الرواة عن عبد العزيز جامع المجموع.
١٢٧
٧ ـ حدثني زيد بن علي بن الحسين عن أبيه : علي بن الحسين ، عن جده الحسين بن علي ، عن أمير الموَمنين علي بن أبي طالب عليهم‌السلام.
وقد وصلنا المجموع بهذا السند وهو مذكور في صدره (١) وفي الصفحة التي تلي آخر الكتاب (٢).
وقد ذكر شارح المجموع شرف الدين الحسين بن أحمد السياغي (١١٨٠ ـ ١٢٢١ هـ) سنده إلى الكتاب ، فأخذ أوّلاً بذكر أُستاذه وشيخه أبي يوسف الحسين ابن يوسف (٣) إلى أن انتهى إلى أبي القاسم علي بن محمد النخعي الآنف ذكره ، غير أنّ المهم دراسة وثاقة هوَلاء المشايخ الذين تنتهي إليهم رواية المسند في جميع الأعصار فنبتدىَ بدراسة حال من وقع في أوّل السند.

أ ـ عبد العزيز بن إسحاق بن البقال :

قال الذهبي : كان في حدود الستين وثلاثمائة قال ابن أبي الفوارس الحافظ : له مذهب خبيث ، ولم تكن في الرواية بذاك ، سمعت منه أحاديث رديّة.
قلت : له تصانيف على رأي الزيدية عاش تسعين عاماً. ثم روى الذهبي عنه بإسناده الحديث التالي :
قال : إنّ نزول اللّه إلى الشيء إقباله عليه من غير نزول ، ثم وصفه بأنّ إسناده مظلم ومتنه مختلق (٤).
لانستطيع أن نساير ابن أبي الفوارس في قوله : « له مذهب خبيث » ولم يكن مذهبه سوى محبته لآل البيت أو دعمه مبدأ الخروج على بني أُمية الذي لا يروق
____________
١ ـ مسند الاِمام زيد : ٢٤٧.
٢ ـ المصدر نفسه : ٢٨٢.
٣ ـ توفّي بصنعاء سنة ١٢٣١ هـ عن ثمانين سنة.
٤ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٢٣ برقم ٥٠٨٣.
١٢٨
السلفيّين ومن لف لفّهم ، فإنّ مذهبهم هو المماشاة مع الظالمين والسكوت أمام ظلمهم ، وعدم الخروج عليهم.
كما لا نستطيع أن نساير الذهبي حيث وصف اسناد حديثه بالظلمة ومتنه بالاختلاق ، وما هذا إلاّ لأنّ الذهبي يتظاهر بالتنزيه ، ولكن يعتنق لبّاً التجسيم بشهادة أنّ كتبه تمدح المجسمةومن يثبت للّه الحركة والجهة من أوصاف الجسم وإذا ذكر المشبهة أطال الكلام فيهم بالمدح والوصف ، وربّما سود صحائف في حقهم خصوصاً في كتابه « سير أعلام النبلاء » وأمّا إذا بلغ إلى أهل التوحيد والتنزيه فلا يخرج إلاّ بالهمز واللمز وهو دأبه يلمسه كل دوَوب على مطالعة رجاله وتاريخه.
والحديث لما كان على طرف النقيض من عقيدته ، وصف اسناده بالظلمة ومتنه بالاختلاق ، صدق اللّه العلي العظيم حيث قال : ( كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُون ).
وأمّا الشيعة فقد ورد في كتبهم ذكر في حقّ عبد العزيز بن إسحاق البقال فعنونه الشيخ في رجاله في باب من لم يرو عنهم عليهم‌السلام قال : عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر الزيدي البقال الكوفي وكان زيدياً يكنى أبا القاسم سمع منه التلعكبري سنة ست وعشرين وثلاثمائة (١).
وقال في الفهرست : عبد العزيز بن إسحاق له كتاب في طبقات الشيعة ، وعنونه ابن داود في القسم الثاني (٢) من رجاله ، ومعنى كونه من القسم الثاني أنّه ممن ورد فيه ذم وإن كان ورد فيه مدح عن آخرين.كما عنونه العلاّمة في هذا القسم (٣) من كتابه الخلاصة ، ومعناه أنّه لا يعمل برواياته.
__________________
١ ـ الطوسي : الرجال : ٤٨٣ ، باب من لم يرو عنهم ، برقم ٣٧.
٢ ـ القسم الثاني من كتابه مختص بمن ورد فيه أدنى جرح ، ولو كان أوثق الثقات وعمل بخبره.
٣ ـ القسم الثاني : من كتابه مختص بمن لايعمل بروايته ومن لايعمل بروايته أعم من كونه مطعوناً أو لا.
١٢٩
ومع ذلك نرى أنّ الشيخ أبا زهرة يقول : إنّ الرجل موضع طعن جمهور المحدثين من أهل السنّة كما أنّه موضع طعن الاِمامية ، لكنه موضع تقدير وتوثيق الزيدية أجمعين (١).
وما ذكره أخيراً حقّ لا غبار عليه لكن ما نسبه إلى الاِمامية لا مصدر له سوى أنّه ورد في القسم الثاني من رجال العلاّمة وابن داود وقد عرفت في التعليقة معنى ذلك.
وأمّا الزيدية فقد اتفقوا على وثاقته وقالوا : أبو القاسم عبد العزيز بن إسحاق بن جعفر البغدادي البقال شيخ الزيدية ببغداد. قال في الطبقات : روى مجموع الاِمام زيد بن علي عليه‌السلام الفقهي الكبير المرتب المبوب عن علي بن محمد النخعي ، وقد سمع منه أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن الحسن الحسني سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة. وقال في مطلع البدور : هو شيخ الزيدية ببغداد ، والعراق ، وكان عالماً محدثاً حافظاً ، وقال في غيره : كان علاّمة كبيراً وفاضلاً شهيراً ، سمحاً ، عالماً زاهداً ، سعيداً ولياً لآل محمّد ، رأساً في العلوم ، مهيمناً على المظنون والعلوم ، له كتاب في إسناد مذهب الزيدية وتعدادهم ، وذكر تلامذة زيد بن علي وأصحابه الذين أخذوا عنه العلم (٢).
* * *

ب : أبو القاسم علي بن محمّد النخعي الكوفي :

وهو أُستاذ عبد العزيز بن إسحاق ، ولم نجد له عنواناً في كتب الرجال للشيعة ، وأمّا أهل السنة فقال الذهبي : علي بن محمد : أبو القاسم الشريف
__________________
١ ـ الاِمام زيد : ٢٦٢.
٢ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٦١ ، ثم ذكر ترجمة الذهبي ونقده.
١٣٠
الزيدي الحراني شيخ القرّاء وتلميذ النقاش وثّقه أبو عمرو الداني ، واتّهمه عبد العزيز الكتاني ، ذكرته في طبقات القراء (١) وهل الترجمة للشيخ النخعي أو لغيره المشترك معه في الكنية والاسم واسم الأب؟ احتمالان ، نعم ذكر الذهبي في ترجمة عثمان بن أبي شيبة وقال : « يحيى » (٢) بن محمد بن كاس النخعي قال : حدّثنا : إبراهيم بن عبد اللّه الحصاف ، قال : قرأ علينا عثمان بن أبي شيبة تفسيره فقال : وجعل السفينة في رجل أخيه فقيل إنّما هو السقاية ، فقال : أنا وأخي أبو بكر لا نقرّ لعاصم (٣).
وقال في تذكرة الحفاظ : وفيها « سنة أربع وعشرين وثلاثمائة » توفي شيخ الحنفية علي بن كاس النخعي الكوفي (٤).
وذكره في طبقات الحنفية فقال : علي بن محمد بن الحسن بن كاس الكاسي النخعي القاضي الكوفي ، روى عن محمد بن علي بن عفان ، وعنه أبو القاسم المطرزي والمستكي أُستاذ الضميري وله « الأركان الخمسة » توفي أربع وعشرين وثلاثمائة (٥).
وعند ذلك يظهر لنا سر تلاقي الفقه الزيدي والفقه الحنفي إلى حد كبير ، فإنّ الفقه الموروث من زيد لم يكن على حد يتجاوب مع متطلبات المجتمع الاِسلامي آنذاك ، فلم يكن بدّ من بسطه في ضوء القواعد الأصولية ، فإذا كان المفتي حنفياً يبسطه حسب الضوابط التي يعتبرها دليلاً على الحكم فيدخل فيه القياس ، والاستحسان ، والمصالح المرسلة ، وسد الذرائع ، ولا تهمه مخالفة
____________
١ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال : ٣ / ١٥٥ برقم ٥٩٣٥.
٢ ـ وفي التعليقة : علي وهو الصحيح.
٣ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال : ٣ / ٣٧ ـ ٣٨ برقم ٥٥١٨.
٤ ـ الذهبي : تذكرة الحفاظ : ٣ / ٨٢١ في ضمن ترجمة ابن الشرقي.
٥ ـ السيّاغي : الروض النضير : ١ / ٦٤.
١٣١
أئمة أهل البيت ، الذين جاءوا إلى الساحة بعد مقتل زيد ، وقد بيّـن الشيخ الكوثري هذا التلاقي بشكل آخر فقال : « إنّ ذلك التوافق العظيم بين آل زيد وبين فقهاء العراق في ثلاثة أرباع المسائل إنّما نشأ من اتحاد مصدر علوم الفريقين ، لأنّ فقهاء الكوفة والعراق إنّما توارثوا الفقه طبقة فطبقة عن علي وابن مسعود وسائر كبار فقهاء الصحابة الذين نشروا العلم بالكوفة ولاسيما الذين تديّروها (١) بعد انتقال علي كرم اللّه وجهه إليها ، واستمروا بها في عهد الأمويين ثم عن فقهاء أصحابهم وأصحاب عمر ، وابن عباس ومعاذ الذين انتقلوا إليها واستقروا بها ابتعاداً عن معاقل الأمويين ، ثم عن أصحاب أصحابهم الفقهاء رضي اللّه عنهم الذين بهم صارت الكوفة مصدر العلم الناضج في ذلك العهد وكانت علوم الحجاز والمدينة المنورة يتشارك فيها فقهاء الأمصار لكثرة حجهم عاماً فعاماً في تلك الأعصار (٢).

ج ـ سليمان بن إبراهيم بن عبيد المحاربي :

هو جد علي بن محمد النخعي أبو أُمّه ، قال في الطبقات : يروي عن نصر بن مزاحم المنقري سمع منه مجموعي الاِمام زيد بن علي عليه‌السلام « الحديثي » و « الفقهي » وسمعهما عليه علي بن محمد بن كاس (أي النخعي) وكان سماعه عليه سنة خمس وستين ومائتين (٣) ولم أجد له عنواناً في كتب الرجال لأصحابنا الاِمامية.

د ـ نصر بن مزاحم المنقري العطار :

قال الذهبي : نصر بن مزاحم الكوفي ، عن قيس بن الربيع وطبقته ، رافضي ، جلد ، تركوه. مات سنة اثنتي عشرة ومائتين ، حدّث عنه : نوح بن حبيب وأبو
__________________
١ ـ من الدير : أخذوه مكاناً.
٢ ـ الروض النضير : ص ٢٨ ، المقدمة.
٣ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٦٤.
١٣٢
سعيد الأشجّ وجماعة ، قال العقيلي : شيعي في حديثه اضطراب وخطأ كثير. وقال أبو خيثمة : كان كذاباً ، وقال أبو حاتم : واهي الحديث ، متروك ، وقال الدار قطني : ضعيف وروى أيضاً عن شعبة (١).
ما ذكره الذهبي وشيوخه ، شنشنة أعرفها من كل من يكنّ لأهل البيت غيظاً وعداء وإن كان يتجنب عن إظهاره ، فمن روى فضيلة فيهم أو أنشد قريضاً فهو عندهم رافضي ، كذاب ، خبيث ، متروك الحديث إلى غير ذلك ، وأمّا المجسّمة والمشبهة ومن يتولّى آل أُمية وسلاطينهم ، فهو جليل ، ثقة ، يكتب حديثه ويحتج به.
وأمّا أصحابنا فقد اتفقوا على وثاقته قال النجاشي : نصر بن مزاحم مستقيم الطريقة ، صالح الأمر ، غير أنّه يروي عن الضعفاء كتبه. حِسان ، منها : كتاب الجمل (٢) بل وذكره الشيخ الطوسي في رجاله من أصحاب الاِمام الباقر عليه‌السلام (٣).
إنّ الرجل مع كونه شيعياً ، علوي الولاء ، لكنه عندما يسرد وقائع صفين يسرده بشكل كاتب محايد فهو حين يذكر مثالب معاوية ، يذكر شعر الشاميّين في الطعن على الاِمام وحزبه ، وهذا يدل على أنّه كان رجلاً رحب الصدر لايستفزه المذهب إلى الاكتفاء بذكر كلام طرف واحد ، ويذكر كلام المبطل بتمامه أيضاً.

هـ ـ إبراهيم بن الزبرقان :

قال الذهبي : وثقه ابن معين. وقال أبو حاتم : لا يحتج به روى عنه أبو نعيم (٤).
__________________
١ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال : ٤ / ٢٥٣ ـ ٢٥٤ ، لاحظ تاريخ بغداد : ج ١٣ برقم ٧٢٤٥.
٢ ـ النجاشي : الرجال : ٢ / ٣٨٤ برقم ١١٤٩.
٣ ـ الشيخ الطوسي : الرجال : برقم : ٣ باب أصحاب الاِمام الباقر عليه‌السلام ولكنه بعيد لأنّ الاِمام توفّي سنة ١١٤ هـ وتوفّي نصر عام ٢١٢ هـ.
٤ ـ ميزان الاعتدال : ١ / ٣١.
١٣٣
وقال في طبقات الزيدية : روى عن أبي خالد الواسطي مجموعي الاِمام زيد ابن علي ، وله رواية عن مجاهد ، وعنه نصر بن مزاحم ، وقال : حدثني المجموع الكبير المرتب جميعه ، عن أبي خالد ، وروى عنه أبو نعيم الحافظ ، واحتج به أئمتنا ، ووثقه الموَيد باللّه ووثقه من المحدثين ابن معين ، وقال نصر بن مزاحم : كان من خيار المسلمين ، وكان خاصاً بأبي خالد الواسطي ، وقال ابن أبي الحديد : هو في رجال الحديث وقال غيره من رجال الشيعة المحدثين ، وعيب عليه بالتشيع. وقال أبو حاتم : لا يحتج به (١).
وأمّا أصحابنا الاِمامية فذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الاِمام الصادق عليه‌السلام وقال : إبراهيم بن الزبرقان التيمي الكوفي ، أسند عنه (٢) فقد أهملوه من حيث التوثيق وعدمه.

و ـ أبو خالد ، عمرو بن خالد :

لقد اضطربت كلمة الرجاليين في حقه فأهل السنّة على تضعيفه. قال الذهبي : عمرو بن خالد القرشي ، كوفي ، أبو خالد ، تحول إلى واسط.
قال وكيع : كان في جوارنا ، يضع الحديث ، فلما فطن له تحوّل إلى واسط.
وقال معلى بن منصور عن أبي عوانة : كان عمرو بن خالد يشتري الصحف من الصيادلة ويحدّث بها.
وروى عباس ، عن يحيى ، قال : كذاب غير ثقة. حدث عنه أبو حفص الأبـّار وغيره ، فروى عن زيد بن علي ، عن آبائه.
وروى عثمان بن سعيد ، عن يحيى ، قال : عمرو بن خالد الذي يروي عنه
__________________
١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٦٦.
٢ ـ الطوسي : الرجال : ١٤٤ برقم ٤٠.
١٣٤
الأبـّار كذاب. وروى أحمد بن ثابت ، عن أحمد بن حنبل ، قال : عمرو بن خالد الواسطي كذاب.
وقال النسائي : روى عن حبيب بن أبي ثابت ، كوفي ليس بثقة. وقال الدارقطني : كذاب.
وروى إبراهيم بن هراسة أحد المتروكين ، عن أبي خالد ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن علي ، قال : لعن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذكرين أحدهما يلعب بصاحبه (١).
وأظن أن هذا الصخب والهياج حول الرجل لأجل أنّه من موالي أئمة أهل البيت والمجاهرين بولائهم ، وهذا يكفي في التضعيف وصب القارعات عليه.
وأعجب منه ما ذكره الذهبي في آخر كلامه من الحكم بوضع لعن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذكرين أحدهما يلعب بصاحبه ، فإنّه مروي عن الفريقين.
كيف يشك الذهبي في صحة الحديث مع أنّ الكتاب يصدّقه حيث يخص جواز الالتذاذ بالجنس بموردين ويقول : « والّذِين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ * إلاّ على أزْواجِهِمْ أو مَا مَلَكَتْ أيْمانُهُم » (الموَمنون : ٥ ـ ٦) وما ورد في الحديث ليس منهما فجاز لعنه.
روى السيوطي في مسنده من كتاب جمع الجوامع من قسم الأفعال فقال : عن الحرث ، عن علي : « قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : سبعة لايكلمهم اللّه يوم القيامة ولاينظر إليهم ويقال لهم أدخلوا النار مع الداخلين إلاّ أن يتوبوا : الفاعل والمفعول به ، والناكح يده ... ».
أخرج البيهقي عن ابن عباس : « أنّ النبي قال : لعن اللّه من وقع على بهيمة ،
__________________
١ ـ الذهبي : ميزان الاعتدال : ٣ / ٢٥٧. وفي المتن يغلب أحدهما صاحبه.
١٣٥
ولعن اللّه من عمل عمل قوم لوط ، إلى غير ذلك من الروايات التي رواها أهل السنّة (١) وأمّا الشيعة فحدث عنه ولا حرج ، فقد عدّه الكشي في ترجمة الحسين بن علوان ، من رجال أهل السنّة الذين لهم ميل ومحبة شديدة (٢).
وظاهر النجاشي أنّه إمامي حيث ألّفه لذكر رجال الاِمامية ولو ذكر من غيرهم لأشار إلى مذهبه وهو عنونه وذكر سنده إلى كتابه من دون إيعاز إلى مذهبه (٣) إلاّ إذا قيل إنّه ترك ذكر مذهبه في المقام لكونه معروفاً.
وعده الشيخ في الفهرست من موَلفي الشيعة وقال : أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي له كتاب ذكره ابن النديم (٤) فعدّه من أصحاب الاِمام الباقر وعمرو بن خالد الواسطي بتري.
وستعرف كلامه عند سرد الروايات المروية عن زيد في الكتب الأربعة عند الكلام على رواية زيد أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غسل رجليه ، والقرائن تشهد أنّه شيعي زيدي ، ويدلّ عليه مضافاً إلى إطباق الزيدية عليه ما رواه الكشي في ذيل ترجمة محمد بن سالم بياع القصب : محمد بن مسعود ، قال : حدثني أبو عبد اللّه الشاذاني ـ وكتب به ـ إلى أن قال : حدثني الفضل ، قال : حدثني أبي ، قال : حدثنا أبو يعقوب المقري وكان من كبار الزيدية ، قال : أخبرنا عمرو بن خالد وكان من روَساء الزيدية عن أبي الجارود وكان رأس الزيدية قال : كنت عند أبي جعفر عليه‌السلام جالساً إذ أقبل زيد بن علي فلمّا نظر إليه أبو جعفر قال :
__________________
١ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٨٥ ـ ٨٦ ؛ ولاحظ وسائل الشيعة : ١٨ ، الأبواب الستة من أبواب اللواط : ٤١٦ ـ ٤٢٤ ، والباب الثالث من أبواب نكاح البهائم ووطء الأموات والاستمناء : ٥٧٤. هذا إذا فهمنا من الحديث الناكح بيده أو لعب أحد الذكرين بالآخر ، وإلاّ يكون الحديث مجملاً.
٢ ـ الكشي : الرجال : ٣٣٣ ، برقم ٢٥٢ ، وما ذكره هنا ينافي ما ذكره برقم ١٠٦ من كونه من روَساء الزيدية.
٣ ـ النجاشي : الرجال : ٢ ، برقم ٧٦٢.
٤ ـ الطوسي : الفهرست : برقم ٨٤٩.
١٣٦
« هذا سيد أهل بيتي والطالب بأوتارهم » ومنزل عمرو بن خالد كان عند مسجد سماك وذكر ابن فضال أنّه ثقة (١).
وإذا كان لبعض هذه النقاشات في هوَلاء ، مظنة صدق ، غير أنّ الشيخ النجاشي ( ٣٧٢ ـ ٤٥٠ هـ) يرويـه بسنـد آخر نأتي بنصّه حتى يتبيّـن أنّ للكتاب سندين أو أكثر.
أخبرنا محمد بن عثمان (النصيبي) قال : حدثنا علي بن محمد بن الزبير ، عن علي بن الحسن بن فضال ، عن نصر بن مزاحم عنه (أبي خالد) بكتابه (٢).
ولأجل إيقاف القارىء على عناية الاِمامية بروايات زيد ، نأتي بما وقفنا عليه في الكتب الأربعة بعد حذف المكررات فنقول :

الرواية عن زيد بن علي في الكتب الأربعة :

احتجت الاِمامية بالروايات المروية عن زيد بن علي عن آبائه عليهم‌السلام إذا لم تكن مخالفة لما اتفقت عليه روايات أئمة أهل البيت عليهم‌السلام وروي عنه في الكتب الأربعة تسعة وثلاثون حديثاً ـ بعد حذف المكررات ـ وأكثر ما روي فيها موجود في مسنده كما سنشير إليه في مواضعه :
والراوي عنه :
إمّا عمرو بن خالد ـ غالباً ـ.
أو أبو خالد الواسطي.في موردين وكلاهما واحد.
أو هاشم بن يزيد. في مورد واحد.
أو الحسين بن علوان.
__________________
١ ـ الكشي : الرجال : ٢٣١ برقم ٤١٩.
٢ ـ النجاشي : الرجال : برقم ٧٦٩.
١٣٧
والظاهر وقوع السقط في الأخير والصحيح الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد فإنّ الحسين بن علوان يروي عن زيد بواسطة عمرو بن خالد كثيراً.
ولأجل إيقاف القارىَ على اهتمام محدثي الاِمامية بما روي عنه نأتي في هذا الفصل بخصوص ما روي عنه في الكتب الأربعة ونترك الباقي لوقت آخر ، وقد استعنّا في تخريج رواياته بالحاسب الآلي ، ورتبنا الروايات حسب ترتيب أبواب الفقه المألوف بين أصحابنا وربما يكون ، بين ما روي فيها والموجود في مسنده اختلاف يسير في اللفظ.
كتاب الطهارة
روى الشيخ الطوسي :
١ ـ روى محمد بن الحسن الصفار عن عبد اللّه بن المنبه (١) عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد عن زيد بن علي عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : « جلست أتوضأ وأقبل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين ابتدأت في الوضوء فقال لي : تمضمض واستنشق واستن ، ثم غسلت وجهي ثلاثاً ، فقال : قد يخرجك من ذلك المرتان ، قال : فغسلت ذراعي ومسحت برأسي مرتين ، فقال : قد يجزيك من ذلك المرة ، وغسلت قدمي ، فقال لي : « يا علي خلّل ما بين الأصابع لا تخلل بالنار » (٢).
وعلّق عليه الشيخ قال : هذا الخبر موافق للعامة قد ورد مورد التقية ، لأنّ المعلوم من مذهب الأئمّة عليهم‌السلام مسح الرجلين في الوضوء دون غسلهما.
__________________
١ ـ والظاهر وقوع التصحيف في السند ، والصحيح المنبه بن عبيد اللّه كما في كثير من الأسانيد.
٢ ـ الطوسي : محمد بن الحسن : (ت ٤٦٠ هـ) ، التهذيب : ١ / ٩٣ ، الباب : ٤ باب صفة الوضوء الحديث ٩٧ ورواه الاِمام المهدي لدين اللّه محمد بن المطهر في المنهاج الجلي ، (لاحظ تعليقة مسند زيد ص ٥٣).
وراجع أيضاً : الطوسي : الاستبصار : ١ / ٦٥ ، الباب ٣٧ ، الحديث ٨.
١٣٨
روى الشيخ الطوسي :
٢ ـ أخبرني الشيخ (محمد بن النعمان) عن أبي القاسم جعفر بن محمد عن أبيه ، عن سعد بن عبد اللّه ، عن المنبه بن عبيد اللّه ، عن الحسين بن علوان الكلبي ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده ، عن علي عليهم‌السلام قال : « سألت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجنب والحائض يعرقان في الثوب حتى يلصق عليهما؟فقال : إنّ الحيض والجنابة حيث جعلهما اللّه عزّ وجلّ ليس في العرق ، فلا يغسلان ثوبهما » (١).
روى الشيخ الطوسي :
٣ ـ سعد ، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبيد اللّه ، عن الحسين بن علوان الكلبي ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : « الغسل من سبعة من الجنابة وهو واجب ، ومن غسل الميت وإن تطهرت أجزاك » وذكر غير ذلك (٢).
في غسل الميت والصلاة عليه :
روى الشيخ الطوسي :
٤ ـ سعد بن عبد اللّه ، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبد اللّه (٣) عن الحسين
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ١ / ٢٦٩ ، الباب ١٢ (باب تطهير الثوب) الحديث : ٧٩ ، زيد بن علي : المسند : ص ٦١ وراجع : الطوسي : الاستبصار : ١ / ١٨٥ ، الباب ١١٠ ، الحديث : ٥.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ١ / ٤٦٤ ، الباب ٢٣ ، الحديث ١٦٢ ، وعلّق الشيخ والطوسي على قوله : وإن تطهّرت أجزاك ، أنّه محمول على التقية لوجوب الغسل وعدم كفاية التطهير.
٣ ـ هكذا في النسخة والظاهر عبيد اللّه بقرينة سائر الروايات.
١٣٩
بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : « إذا مات الرجل في السفر مع النساء ليس فيهن امرأته ولا ذو محرم من نسائه ، قال : يوزرنه إلى الركبتين ، ويصبن عليه الماء صباً ، ولا ينظرن إلى عورته ، ولا يلمسنه بأيديهن ويطهرنه ، فإذا كان معه نساء ذوات محرم يوزرنه ويصببن عليه الماء صباً ويمسسن جسده ولا يمسسن فرجه (١).
روى الشيخ الطوسي :
٥ ـ سعد بن عبد اللّه ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عن علي عليهم‌السلام قال : أتى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفر فقالوا إنّ امرأة توفيت معنا وليس معها ذو محرم ، فقال : « كيف صنعتم؟ » فقالوا : صببنا عليها الماء صباً ، فقال : « أما وجدتم امرأة من أهل الكتاب تغسلها؟ » قالوا : لا ، قال : « أفلا يمّمتموها؟ » (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٦ ـ وبهذا الاِسناد (٣) ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي بصير ، عن أيوب ابن محمد الرقي ، عن عمرو بن أيوب الموصلي ، عن إسرائيل بن يونس ، عن أبي إسحاق السبيعي ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : « إنّ قوماً أتوا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يارسول اللّه مات صاحب لنا وهو
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ١ / ٤٤١ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٧١ : زيد بن علي : المسند : ص ١٤٥ ورواه أيضاً في التهذيب : ١ / ٣٤٣ ، الباب ١٣ ، الحديث ١٦٨ ، باختلاف يسير. والاستبصار : ٢ / ٢٠١ ، الباب ١١٨ ، الحديث ٧.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ١ / ٤٤٣ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٧٨ ؛ والاستبصار : ١ / ٢٠٣ ، الباب ١١٨ ، الحديث ١٤.
٣ ـ أي أخبرني الشيخ المفيد عن أبي جعفر محمد بن علي عن محمد بن الحسن.
١٤٠
مجدور فإن غسلناه انسلخ ، فقال : يمّموه » (١).
٧ ـ عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عن علي عليهم‌السلام أنّه سئل عن رجل يحترق بالنار ، فأمرهم أن يصبوا عليه الماء صباً وأن يصلّـى عليه (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٨ ـ روى علي بن الحسين ، عن محمد بن يحيى ، عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبد اللّه (٣) ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام في الصلاة على الطفل أنّه كان يقول : « اللّهم اجعله لأبويه ولنا سلفاً وفرطاً وأجراً » (٤).
روى الشيخ الطوسي :
٩ ـ علي بن الحسين ، عن سعد ، عن أبي الجوزاء المنبه بن عبيد اللّه ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن أمير الموَمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام قال : « يسل الرجل سلاّ ويستقبل المرأة استقبالاً ، ويكون أولى الناس بالمرأة في موَخرها » (٥).
____________
١ ـ الشيخ الطوسي : التهذيب : ١ / ٣٣٣ ، الباب ١٣ ، الحديث ١٤٥.
٢ ـ الكليني : الكافي : ٣ / ٢١٣ ؛ الحديث ٦ ؛ زيد بن علي : المسند : ١٤٧ ؛ الطوسي : التهذيب : ١ / ٣٣٣ ، الباب ١٣ ، الحديث ١٤٤.
٣ ـ الظاهر عبيد اللّه.
٤ ـ الطوسي : التهذيب : ٣ / ١٩٥ ، الباب ١٣ ، الحديث ٢١ ؛ زيد بن علي : المسند : ١٥٠.
٥ ـ الطوسي : التهذيب : ١ / ٣٢٦ ، الباب ١٣ باب تلقين المحتضرين ، الحديث ١١٩ ؛ زيد بن علي : المسند ، باب ١٥٢ ، باختلاف يسير.
١٤١
أحكام الشهيد
روى الكليني :
١٠ ـ عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن خالد ، عن أبيه ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال أمير الموَمنين صلوات اللّه عليه : « ينزع عن الشهيد الفرو والخف والقلنسوة والعمامة والمنطقة والسراويل إلاّ أن يكون أصابه دم فإن أصابه دم ترك ولا يترك عليه شيء معقود إلاّ حل » (١).
روى الطوسي :
١١ ـ محمد بن الحسن الصفار عن عبد اللّه بن المنبه (٢) عن الحسين بن علوان عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي عن أبيه عن آبائه عليهم‌السلام قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « للشهيد سبع خصال من اللّه : أوّل قطرة من دمه مغفور له كل ذنب ، والثانية : يقع رأسه في حجر زوجتيه من الحور العين وتمسحان الغبار عن وجهه تقولان مرحباً بك ويقول هو مثل ذلك لهما ، والثالثة : يكسى من كسوة الجنّة ، والرابعة : يبتدره خزنة الجنّة بكل ريح طيبة أيهم يأخذه معه ، والخامسة : أن يرى منزلته ، والسادسة : يقال لروحه أسرح في الجنّة حيث شئت والسابعة : أن ينظر في وجه اللّه وإنّها لراحة لكل نبي وشهيد » (٣).
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ٣ / ٢١١ ، الحديث ٤ ؛ زيد بن علي : المسند : ١٤٦ (باب الشهيد) الطوسي ، التهذيب : ١ / ٣٣٢ ، الحديث ١٤٠.
٢ ـ الظاهر وقوع التصحيف في السند ، والصحيح عن المنبه بن عبيد اللّه كما في كثير من الأسانيد.
٣ ـ الطوسي : التهذيب : ٦ / ١٢١ ، الباب ٢٢ ، الحديث ٣ ؛ زيد بن علي ، المسند : ٣٥١. وقد ورد أبسط مما في المتن هنا.
١٤٢
روى الشيخ الطوسي :
١٢ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن أبيه عليهم‌السلام قال : قال رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا مات الشهيد من يومه أو من الغد فواره في ثيابه ، وإن بقى أياماً حتى تتغير جراحته غسل » (١).
كتاب الصلاة
قال الصدوق :
١٣ ـ روي عن زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام أنّه قال : « سألت أبي سيد العابدين عليه‌السلام فقلت له : يا أبه أخبرني عن جدنا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا عرج به إلى السماء وأمره ربه عزّ وجلّ بخمسين صلاة كيف لم يسأله التخفيف عن أُمّته حتى قال له موسى بن عمران عليه‌السلام : إرجع إلى ربك فاسأله التخفيف فأنّ أُمّتك لا تطيق ذلك؟ فقال : « يابُنيَّ أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لايقترح على ربه عزّ وجلّ فلا يراجعه في شيء يأمره به ، فلمّا سأله موسى عليه‌السلام ذلك وصار شفيعاً لأمّته إليه لم يجز له أن يرد شفاعة أخيه موسى عليه‌السلام فرجع إلى ربّه عزّ وجلّ فسأله التخفيف إلى أن ردها إلى خمس صلوات » قال : فقلت له : يا أبه فلم لم يرجع إلى ربّه عزّ وجلّ ولم يسأله التخفيف من خمس صلوات وقد سأله موسى عليه‌السلام أن يرجع إلى ربّه عزّ وجلّ ويسأله التخفيف؟ فقال : « يا بُنيَّ أراد عليه‌السلام أن يحصل لأمّته التخفيف
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ٦ / ١٦٨ ، الباب ٢٢ ، الحديث ٧ ؛ زيد بن علي : المسند : ١٤٦. وللشيخ الطوسي تعليقة على الرواية فإنّها غير معمول بها عند الأصحاب ؛ أيضاً الشيخ الطوسي : الاستبصار : ١ / ٢٥ ، الباب ١٢٥ ، الحديث ٦.
١٤٣
مع أجر خمسين صلاة لقول اللّه عزّ وجلّ : ( مَن جَاءَ بِالحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْـرُ أمثَالِها ) ألا ترى أنّه عليه‌السلام لما هبط إلى الأرض نزل عليه جبرئيل عليه‌السلام فقال : يامحمّد إنّ ربّك يقرئك السلام ويقول (لك) : إنّها خمس بخمسين ( ما يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وما أنا بِظَلاّمٍ لِلعَبِيد ) قال : فقلت له : يا أبه أليس اللّه جلّ ذكره لا يوصف بمكان؟ فقال : « بلى تعالى اللّه عن ذلك علواً كبيراً » قلت : فما معنى قول موسى عليه‌السلام لرسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إرجع إلى ربّك؟ فقال : « معناه معنى قول إبراهيم عليه‌السلام : ( إنّي ذَاهِبٌ إلى رَبّي سَيَهْدِين ) ومعنى قول موسى عليه‌السلام ( وَعجِلْتُ إلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى ) ومعنى قوله عزّ وجلّ : ( فَفِرُّوا إلى اللّه ) يعني حجّوا إلى بيت اللّه ، يابني إنّ الكعبة بيت اللّه فمن حجّ بيت اللّه فقد قصد إلى اللّه ، والمساجد بيوت اللّه فمن سعى إليها فقد سعى إلى اللّه وقصد إليه ، والمصلّـي ما دام في صلاته فهو واقف بين يدي اللّه عزّ وجلّ ، فإنّ للّه تبارك وتعالى بقاعاً في سماواته ، فمن عرج به إلى بقعة منها فقد عرج به إليه ألا تسمع اللّه عزّ وجلّ يقول : ( تَعْرُجُ الَمَلائِكَةُ والرُّوحُ إلَيْه ) ويقول (اللّه) عزّ وجلّ في قصة عيسى بن مريم عليهما‌السلام : ( بَل رَفَعَهُ اللّهُ إلَيْه ) ويقول اللّه عزّ وجلّ : ( إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطّيِّبُ والعَمَلُ الصالِحُ يَرْفَعُه ) (١).
روى الشيخ الطوسي :
١٤ ـ محمد بن الحسن الصفار ، عن عبد اللّه بن المنبه (٢) ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن آبائه ، عن علي ـ عليه
__________________
١ ـ الصدوق : من لايحضره الفقيه : ١ / ١٩٨ ، الحديث ٦٠٣ ، وفي الحديث نكات بديعة ولم نجده في مسنده.
٢ ـ الصحيح : المنبه بن عبيد اللّه كما في سائر الأسانيد.
١٤٤
السلام ـ أنّه أتاه رجل فقال : يا أمير الموَمنين واللّه إنّي لأحبك للّه فقال له : « ولكني أُبغضك للّه » قال : ولم؟ قال : « لأنّك تبغي في الأذان ، وتأخذ على تعليم القرآن أجراً (١) ، سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من أخذ على تعليم القرآن أجراً كان حظّه ، يوم القيامة » (٢).
روى الشيخ الطوسي :
١٥ ـ محمد بن علي بن محبوب ، عن محمد بن الحسين ، عن الحسن بن علي ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : دخل رجلان المسجد وقد صلّى الناس ، فقال : لهما علي عليه‌السلام « إن شئتما فليوَم أحدكما صاحبه ولا يوَذن ولايقيم » (٣).
روى الشيخ الطوسي :
١٦ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : « الأغلف لا يوَم القوم وإن كان أقرأهم ، لأنّه ضيع من السنّة أعظمها ، ولا تقبل له شهادة ولا يصلّى عليه إلاّ أن يكون ترك ذلك خوفاً على نفسه » (٤).
__________________
١ ـ الطوسي : الاستبصار : ٣ / ٦٥ الباب ٣٨ ، الحديث ٢.
٢ ـ الطوسى : التهذيب : ٦ / ٣٧٦ ، الباب ٩٣ ، الحديث ٢٢٠ ؛ زيد بن علي : المسند : ٨٥ ، وفي المسند تتغنّى مكان تبغي وهو الأصح.
٣ ـ الطوسي : التهذيب : ٢ / ٢٨١ ، الباب ١٣ ، الحديث ٢١ ، و ٣ / ٥٥ ، الباب ١٣ ، الحديث ١٠٣ ؛ زيد بن علي : المسند : ١١٣ باختلاف.
٤ ـ الطوسي : التهذيب : ٣ / ٣٠ ، الباب ٣ ، الحديث ٢٠ ؛ زيد بن علي : المسند : ١٥١ باختلاف يسير.
١٤٥
روى الشيخ الطوسي :
١٧ ـ سعد ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : « صلّى بنا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الظهر خمس ركعات ثم انفتل فقال له بعض القوم : يارسول اللّه هل زيد في الصلاة شيء؟ فقال : وماذاك؟ قال : صليت بنا خمس ركعات قال : فاستقبل القبلة وكبر وهو جالس ثم سجد سجدتين ليس فيهما قراءة ولا ركوع ثم سلم وكان يقول : هما المرغمتان ».
قال محمد بن الحسن : هذا خبر شاذ لا يعمل عليه لأنّا قد بينا أن من زاد في الصلاة وعلم ذلك ، يجب عليه استئناف الصلاة ، وإذا شك في الزيادة فإنّه يسجد السجدتين المرغمتين ، ويجوز أن يكون عليه‌السلام إنّما فعل ذلك لأنّ قول واحد له لم يكن مما يقطع به ، ويجوز أن يكون كان غلطاً منه وإنّما سجد السجدتين احتياطاً (١).
روى الشيخ الطوسي :
١٨ ـ روى سعد بن عبد اللّه ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي عليه‌السلام قال : صليت مع أبي عليه‌السلام المغرب فنسى فاتحة الكتاب في الركعة الأولى فقرأها في الثانية (٢).
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ٢ / ٣٤٩ ، الباب ١٤ ، الحديث ٣٧ ؛ الاستبصار : ١ / ٣٧٧ ، الباب ٢١٩ ، الحديث ٥ ؛ زيد بن علي : المسند : ١٠٩.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ٢ / ١٤٨ ، الباب ٢٣ ، الحديث ٣٦ ؛ زيد بن علي : المسند : ٩٤. والرواية مطروحة لتضمنها نسبة السهو إلى الاِمام المعصوم مع بعد مضمونها لعدم طروء النسيان في الركعة الأولى بالنسبة إلى فاتحة الكتاب. وراجع أيضاً : الطوسي : الاستبصار : ١ / ٣٥٤ ، الباب ٢٠٦ ، الحديث ٧.
١٤٦
في الضمان
روى الشيخ الطوسي :
١٩ ـ عنه (١) ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام أنّه أتى بحمال كانت عليه قارورة عظيمة كانت فيها دهن فكسرها فضمّنها إيّاه ، وكان يقول : كل عامل مشترك إذا أفسد فهو ضامن ، فسألته ما المشترك؟ فقال : الذي يعمل لي ولك ولذا (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٢٠ ـ روى محمـد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام أنّه أتاه رجل تكاري دابة فهلكت ، فأقرّ أنّه جاز بها الوقت فضمّنه الثمن ولم يجعل عليه كراء (٣).
روى الشيخ الطوسي :
٢١ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام أنّه كان يضمن صاحب الكلب إذا عقر نهاراً ولايضمنه إذا عقر بالليل ، وإذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون ، وإذا دخلت بغير إذنهم فلا ضمان عليهم (٤).
__________________
١ ـ أي عن محمد بن أحمد بن يحيى.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ٧ / ٢٢٢ ، الباب ٢٠ ، الحديث ٨٥ ؛ زيد بن علي : المسند : ٢٥٤.
٣ ـ الطوسي : الاستبصار : ٣ / ١٣٥ ، الباب ٨٨ ، الحديث ٣. قال الشيخ : الوجه في هذه الرواية ضرب من التقيّة لأنّها موافقة لمذهب كثير من العامة.
٤ ـ الطوسي : التهذيب : ١٠ / ٢٢٨ ، باب الاثنين إذا قتلا ، الحديث ٣١.
١٤٧
في الربا
روى الشيخ الطوسي :
٢٢ ـ عنه (١) ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : « لعن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الربا وآكله وبائعه ومشتريه وكاتبه وشاهديه » (٢).
في الخمر
روى الكليني :
٢٣ ـ عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن الحسين بن سعيد ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : لعن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخمر وعاصرها ومعتصرها وبايعها ومشتريها وساقيها وآكل ثمنها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه (٣).
في النكاح
روى الشيخ الطوسي :
٢٤ ـ روى محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي ـ
__________________
١ ـ أي عن الحسين بن سعيد الأهوازي.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ٧ / ١٥ ، الباب ١ ، الحديث ٦٤ ؛ زيد بن علي : المسند : ٢٢٩ باختلاف يسير.
٣ ـ الكليني : الكافي : ٦ / ٣٩٨ ، الحديث ١٠.
١٤٨
عليه‌السلام ـ : إنّ امرأة أتته ورجل قد تزوجها ودخل بها وسمى لها مهراً وسمى لمهرها أجلاً فقال له علي عليه‌السلام : « لا أجل لك في مهرها إذا دخلت بها فأدّ إليها حقها » (١).
روى الشيخ الطوسي :
٢٥ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام أنّه قال : « الرضعة الواحدة كالمائة رضعة لاتحل له أبداً » (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٢٦ ـ روى محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : « حرم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم خيبر لحوم الحمر الأهلية ونكاح المتعة » (٣).
في الطلاق
روى الشيخ الطوسي :
٢٧ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين [ بن علوان ]
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ٧ / ٣٥٨ ، الباب ٣١ من أبواب النكاح ، الحديث ٢٠ ؛ الاستبصار : ٣ / ٢٢١ ، الباب ١٣٨ ، الحديث ٤ ؛ زيد بن علي : المسند : ٢٧.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ٧ / ٣١٧ ، الباب ٢٧ من أبواب النكاح ، الحديث ١٧ ، والرواية مطروحة لدى الاِمامية لعدم كفاية الرضعة الواحدة بالاتفاق عندهم ، وفي المسند : ٢٨٢ : سألت زيداً عن المصة والمصتين ، قال : تحرم.
٣ ـ الطوسي : التهذيب : ٧ / ٢٥١ ، الباب ٢٤ ، الحديث ١٠ ؛ زيد بن علي المسند : ٢٧١ ، وفي المسند : نهى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن نكاح المتعة عام خيبر. والرواية وردت مورد التقية.
١٤٩
عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام في رجل أظهر طلاق امرأته وأشهد عليه وأسرّ رجعتها ثم خرج فلمّا رجع وجدها قد تزوجت قال : « لاحقّ له عليها من أجل أنّه أسرّ رجعتها وأظهر طلاقها » (١).
في الحدود
روى الشيخ الطوسي :
٢٨ ـ عنه (٢) ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : سئل رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الساحر؟ فقال : إذا جاء رجلان عدلان فيشهدان عليه فقد حل دمه (٣).
روى الشيخ الطوسي :
٢٩ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : « إذا أسلم الأب جر الولد إلى الاِسلام ، فمن أدرك من ولده دعى إلى الاِسلام فإن أبى قتل ، وإذا أسلم الولد لم يجر أبويه ولم يكن بينهما ميراث » (٤).
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ٨ / ٤٤ ، الباب ٣ من أبواب الطلاق ، الحديث ٥.
٢ ـ أي عن محمد بن أحمد بن يحيى.
٣ ـ الطوسـي : التهذيب : ٦ / ٢٨٣ ، الباب ٩١ ، الحديث ١٨٥ ؛ و ج ١٠ / ١٤٧ ، الباب ١٠ من الزيادات ، الحديث ١٦ ؛ زيد بن علي : المسند : ٣٠٣ ، وفي المسند : حد الساحر القتل.
٤ ـ الطوسي : التهذيب : ٨ / ٢٣٦ ، العتق الباب ١ ، الحديث ٨٥. أن لا يرث الأب ، ويرث الولد ، لأنّ الاِسلام يزيد عزّاً لا حرماناً.
١٥٠
روى الصدوق :
٣٠ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام ، عن علي عليه‌السلام في رجل قذف امرأته ثم خرج فجأة وقد توفيت قال : « يخير واحدة من ثنتين يقال له : إن شئت ألزمت نفسك الذنب فيقام عليك الحد وتعطى الميراث ، وإن شئت أقررت فلاعَنْت أدنى قرابتها إليها ولا ميراث لك » (١).
في الديات
روى الشيخ الطوسي :
٣١ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام قال : لاتعقل العاقلة إلاّ ما قامت عليه البينة ، قال : وأتاه رجل فاعترف عنده فجعله في ماله خاصة ولم يجعل على العاقلة شيئاً (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٣٢ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين
____________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ٨ / ١٩٤ ، الباب ٨ باب اللعان ، الحديث ٣٨ ؛ الصدوق : من لا يحضره الفقيه : ٣ / ٥٣٩ ، الباب ٢ الحديث ٤٨٥٦.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ١٠ / ١٧٥ ، باب البينات على القتل ، الحديث ٢٤ ؛ والاستبصار : ٤ / ٢٦٢ ، الباب ١٥٢ ، الحديث ٥ ؛ لاحظ المسند : ٣٠٦.
١٥١
ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : « المعتق على دبر فهو من الثلث وما جنى هو والمكاتب وأُم الولد فالمولى ضامن لجنايتهم » (١).
في القصاص
روى الشيخ الطوسي :
٣٣ ـ عن محمد بن أحمد بن يحيـى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجـوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليهم‌السلام قال : « ليس بين الرجل والنساء قصاص إلاّ في النفس » (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٣٤ ـ عـن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجـوزاء عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : « ليس بين الرجال والنساء قصاص إلاّ في النفس ، وليس بين الأحرار والمماليك قصاص إلاّ في النفس عمداً ، وليس بين الصبيان قصاص في شيء إلاّ في النفس » (٣).
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيـب : ٨ / ٢٦٢ ، التدبير الباب ٢ ، الحديث ١٧ ؛ والاستبصار : ٤ / ٣١ ، الباب ١٥ ، الحديث ١٩.
٢ ـ الطوسي : الاستبصار : ٤ / ٢٦٦ ، الباب ١٥٤ ، الحديث ٧.
٣ ـ الطوسي : التهذيب : ١٠ / ٢٧٩ ، باب القصاص ، الحديث ١٨ ؛ لاحظ المسند : ٣٠٧.
١٥٢
ما لا يختص بباب
روى الشيخ الطوسي :
٣٥ ـ عن محمد بن أحمد بن يحيى ، عن محمد بن الحسين ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل فقال : يارسول اللّه أنّ أبي عمد إلى مملوك لي فاعتقه كهيئة المضرة لي فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أنت ومالك من هبة اللّه لأبيك ، أنت سهم من كنانته يهب لمن يشاء إناثاً ويهب لمن يشاء الذكور ويجعل من يشاء عقيماً ، جازت عتاقة أبيك ، يتناول والدك من مالك وبدنك ، وليس لك أن تتناول من ماله ولا من بدنه شيئاً إلاّ بإذنه » (١).
روى الشيخ الطوسي :
٣٦ ـ محمد بن الحسن الصفار ، عن الحسن بن علي بن النعمان ، عن الحسن ابن الحسين الأنصاري ، عن يحيى بن معلى الأسلمي ، عن هاشم بن يزيد قال : سمعت زيد بن علي عليه‌السلام يقول : كان علي عليه‌السلام في حربه أعظم أجراً من قيامه مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حربه قال : قلت بأي شيء تقول أصلحك اللّه؟ قال : فقال لي : لأنّه كان مع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تابعاً ولم يكن له إلاّ أجر تبعيته وكان في هذه متبوعاً وكان له أجر كل من تبعه (٢).
روى الكليني :
٣٧ ـ عنه [ أي عن علي بن إبراهيم ] ، عن أبيه ، عن محمد بن سنان ، عن أبي
__________________
١ ـ الطوسي : التهذيب : ٨ / ٢٣٥ ، كتاب العتق الباب ١ ، الحديث ٨٢.
٢ ـ الطوسي : التهذيب : ٦ / ١٧٠ ، الباب ١٧٩ ، الحديث ٤.
١٥٣
خالد الواسطي ، عن زيد بن علي ، عن أبيه ، عن جده قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يلزم الوالدين من العقوق لولدهما ما يلزم الولد لهما من عقوقهما » (١).
روى الشيخ الطوسي :
٣٨ ـ محمد بن أحمد بن يحيى ، عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين ابن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه ، عن علي عليه‌السلام قال : « أتيت أنا ورسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجلاً من الأنصار فإذا فرس له يكيد بنفسه ، فقال له رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : انحره يضعف لك به أجران : بنحرك إيّاه واحتسابك له ، فقال : يارسول اللّه إلي منه شيء؟ قال : نعم كل وأطعمني قال : فأهدى للنبي عليه‌السلام فخذاً منه فأكل منه وأطعمني » (٢).
روى الشيخ الطوسي :
٣٩ ـ عنه (٣) عن أبي جعفر ، عن أبي الجوزاء ، عن الحسين بن علوان ، عن عمرو بن خالد ، عن زيد بن علي ، عن آبائه عليهم‌السلام : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا التقى المسلمان بسيفهما على غير سنّة ، القاتل والمقتول في النار » فقيل : يارسول اللّه القاتل فما بال المقتول؟! قال : « لأنّه أراد قتلاً » (٤).
هذه هي ٣٩ حديثاً نقلها مصنّفو الكتب الأربعة عن الاِمام زيد التي نقلها عن أبيه عن آبائه.
__________________
١ ـ الكلينـي : الكافي : ٦ / ٤٨ ، الحديث ٥. الطوسي : التهذيب : ٨ / ١٢ ، الباب ٥ من أبواب الطلاق ، الحديث ٣٥.
٢ ـ التهذيب : ٩ / ٤٨ ، كتاب الصيد والذبائح ، الباب ١ ، الحديث ١٠١.
٣ ـ أي عن محمد بن أحمد بن يحيى.
٤ ـ الطوسي : التهذيب : ٦ / ١٧٤ ، الباب ٧٩ ، الحديث ٢٥.
١٥٤

الفصل السابع

هل كان زيد معتزليّ المبدأ والفكرة
ولمّا كان أحد الأمور الدافعة إلى القول بأنّ زيداً كان ذا منهاج كلامي خاص ، هو صلته بواصل رئيس المعتزلة ، نطرح الموضوع على طاولة البحث ليتبيّـن مدى صحة ذلك الوهم.
هل كانت الصلة بين زيد وواصل بن عطاء على أساس أنّهما يذهبان إلى وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو أحد الأصول الخمسة لدى المعتزلة (١) أو أنّ الصلة بينهما كانت على أساس أنّ زيداً تتلمذ على واصل وتخرج عليه في الأصول. المعروف هو الثاني ، والحقّ هو الأوّل لوجوه :
أوّلاً : كانت العاصمة العلمية للمسلمين يوم ذاك (أوائل القرن الثاني الهجري) هي المدينة المنورة ، فكانت تزدحم بالعلماء والمفكرين ، وعلى رأسهم محمد الباقر عليه‌السلام وبعده شيخ الهاشميين عبد اللّه بن الحسن بن الحسن وغيرهما من مشاهير المحدثين والمفسرين وعلى ضوء ذلك فلم يكن في ذلك أي حافز لمغادرة المدينة إلى العراق ثم البصرة. ولم تكن البصرة يوم ذاك إلاّ مركزاً أدبياً لغوياً
__________________
١ ـ الانتصار : ٥ ؛ ومقالات الاِسلاميين : ١ / ٢٧٨.
١٥٥
ثم مركز الأهواء والملل والآراء والنحل.
ثانياً : قد عرفت فيما سبق أنّ زيداً الثائر من مواليد عام ٦٧ هـ ، وواصل بن عطاء من مواليد ٨٠ هـ. فهو أكبر منه بكثير. فلو صحّ أن يتتلمذ على أحد في العراق فيجب أن يتتلمذ على شيخ واصل ، الحسن البصري ، في البصرة أو يتتلمذ على شيخه في المدينة المنورة وهو أبو هاشم ابن محمد الحنفية أُستاذ واصل. وبعد ذلك كله ، فلم يكن عند واصل شيء بديع قصرت عنه يد زيد. فإنّه أخذ ما أخذ عن أبي هاشم ، كما حققناه في الجزء الثالث (١) من تلك الموسوعة ، فالذي شهّر واصل في الأوساط الاِسلامية هو القول بالتوحيد والعدل والتركيز على كون الاِنسان مختاراً ، ورد القضاء والقدر بالمعنى السالب عن الاِنسان الاختيارَ والحريةَ وهو قد أخذه من أبي هاشم وهو عن أبيه ، وهو عن وصي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير الموَمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، فربيب البيت الهاشمي ، أعني : زيداً ، كان غنياً عن التوسل بواصل في معرفة ما كان يجده في بيته العامر بالعلم والمعرفة.
وثالثاً : لم يذكر أحد من الموَرخين ولا أصحاب المقالات تتلمذ زيد على واصل قبل الشهرستاني وإنّما انفرد هو بذلك وتبعه غيره ، فلا تجد منه أثراً في فرق الشيعة للنوبختي ، ولا في مقالات الاِسلاميين للأشعري ، ولا الفرق بين الفرق للبغدادي ولا لابن حزم في الفصل. وعلى ذلك فلا يركن إلى كلام تفرد به الشهرستاني البعيد عن بيئة زيد وعصره ، وقد استشهد الاِمام في أوائل القرن الثاني ، وتوفي الشهرستاني عام ٥٤٨ هـ.
هذا هو الحقّ القراح الذي لا مرية فيه ، ولا أظن بزيد ولا بإنسان دونه تربّى في أحضان البيت النبوي ، أن يتتلمذ في الأصول والعقائد على أمثال واصل ، صنيع أبي هاشم في المدينة ، ثم الحسن البصري في البصرة ، والمتفردّ بآراء وعقائد لا
__________________
١ ـ السبحاني : بحوث في الملل والنحل : ٣ / ١٨٩.
١٥٦
يساندها علماء أهل البيت وأئمتهم. وأظن أنّ المصدر لما ذكره ، هو تعاطف الزيديين مع المعتزلة في العصور اللاحقة على وجه صارت الأصول الخمسة مقبولة لدى الزيديين ، فصار ذلك سبباً لحدس الشهرستاني أنّ زيداً تتلمذ على واصل ، ومنه أخذ الأصول وسرى إلى أتباعه ومقتفيه ، غافلاً عن عدم الملازمة بين الاعتقادين ، ولو خضعت الزيدية لهذه الأصول فلجهة أُخرى سيوافيك بيانها. ولنذكر عبارة الشهرستاني ثم نذكر ماذكره بعض المحقّقين من السنّة والزيدية.
يقول : « وزيد بن علي لمّا كان مذهبه هذا المذهب : (كل فاطمي عالم زاهد شجاع ، سخيّ خرج بالاِمامة يكون إماماً واجب الطاعة) أراد أن يحصـل الأصول والفروع حتى يتحلى بالعلم ، فتتلمذ في الأصول لواصل بن عطاء الغزال الألثغ رأس المعتزلة ورئيسهم. مع اعتقاد واصل أنّ جده علي بن أبي طالب (رض) في حروبه التي جرت بينه وبين أصحاب الجمل وأهل الشام ما كان على يقين من الصواب. وأنّ أحد الفريقين منهما كان على الخطأ لابعينه وصارت أصحابه كلهم معتزلة » (١).
وقد سرى هذا الخطاء إلى غير واحد ممن كتب عن زيد فاتخذه حقيقة راهنة.
قال ابن أبي الدم في « الفرق الاِسلامية » : الزيدية أصحاب زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، وكان زيد قد آثر تحصيل علم الأصول. فتتلمذ لواصل بن عطاء رئيس المعتزلة ورأسهم وأوّلهم فقرأ عليه واقتبس منه علم الاعتزال وصار زيد وجميع أصحابه معتزلة في المذهب والاعتقاد ، وكان أخوه الباقر محمد بن علي يعيب عليه كونه قرأ على واصل بن عطاء وتتلمذ له واقتبس منه مع كونه يجوِّز الخطأ على جده علي بن أبي طالب عليه‌السلام بسب خروجه إلى حرب الجمل والنهروان ، ولأنّ واصلاً كان يتكلم في القضاء والقدر على
__________________
١ ـ الشهرستاني : الملل والنحل : ١ / ١٣٨.
١٥٧
خلاف مذهب أهل البيت عليهم‌السلام (١).
كلام الشيخ أبو زهرة :
لقد تلقى الشيخ أبو زهرة ما ذكره الشهرستاني أمراً صحيحاً واستنتج من كلامه أُموراً ثلاثة ولكنه تنظر فيه بما يلي :
« ولكن أيصح أن نقول إنّ زيداً تتلمذ على واصل في هذه المرحلة؟ إنّ الرجلين كانا في سن واحدة فقد ولد كلاهما في سنة ٨٠ (٢) من الهجرة النبوية أو قريباً من ذلك ويظهر أنّهما عندما التقيا كان زيد في سن قد نضجت لأنّ واصلاً لا يمكن أن يكون في مقام من يدرس مستقلاً إلاّ إذا كان في سن ناضجة.
ولهذا نرى أنّ التقاء زيد ـ رضي اللّه عنه ـ بواصل بن عطاء كان التقاء مذاكرة علمية وليس التقاء تلميذ عن أُستاذ ، فإنّ السن متقاربة وزيد كان ناضجاً فهو قد أراد أن يعرف النواحي المختلفة حول أُصول العقائد ، كما تلقي فروع الأحكام عن أُسرته وفي المدينة مهد علم الفروع ـ إلى أن قال ـ : وقبل رحلة زيد إلى البصرة أيسوغ لنا أن نقول إنّه ما كان من قبل ، على علم بأُصول المعتزلة؟ لعل الاِجابة عن هذا السوَال توجب علينا أن نرجع إلى علماء آل البيت قبل زيد والذين عاصروه وهنا نجد من الأخبار ، ما يذكر أنّ علماء آل البيت تكلموا في العقائد وكانوا قريبين مما قاله واصل بن عطاء بل إنّا نجد من يقول إنّ واصلاً تلقى عقيدة الاعتزال عن آل البيت فقد كانوا على علم به وخصوصاً محمد ابن الحنفية ابن علي رضي اللّه عنهما ، فقد كان عالماً غواصاً في العلوم ، وقد قال فيه الشهرستاني : « وكان كثير العلم ، غزير المعرفة ، وقّاد الفكر ، مصيب الخواطر ، قد أخبره أمير الموَمنين (أي علي) عن أحوال الملاحم وأطلعه على مدارج المعالم ، قد اختار العزلة ، وآثر الخمول على
__________________
١ ـ الصفدي : الوافي بالوفيات : ١٥ / ٣٥.
٢ ـ عرفت ما هو الحقّ في ميلاده.
١٥٨
الشهرة » (١).
هذا كلامه وياليت الأستاذ رافق كلامه بذكر المصادر ، ولا يقضي في الموضوع بشكل قاطع.
وهذا ما نلمسه من كتب الأستاذ أبي زهرة مع كثرة ما كتب. وعلى كل تقدير فلا دليل على تتلمذ زيد لواصل ، لو لم يكن دليل على عدمه ، وكون اتباعه معتزليين في العقيدة لا يكون دليل على كون إمامهم كذلك.

كلام بعض المعاصرين من الزيدية :

إنّ لبعض المعاصرين من علماء الزيدية تحقيقاً رائعاً في المقام نأتي بنصه ـ مع طوله ـ :
« من الأغلاط الشائعة نسبة الزيدية إلى المعتزلةـ في أُصول الدين والتوحيد وعلم الكلام ـ والقول بأنّ الاِمام زيد بن علي قد تتلمذ على رئيس المعتزلة واصل ابن عطاء.
ولعل الشهرستاني المتوفى ٥٤٨ هـ هو أوّل من سجّل هذه الغلطة في كتابه (الملل والنحل) ثم تابعه أكثر من بحث عن الاعتزال والمعتزلة. إمّا لاِهمالهم الفحص والتمحيص لما يروونه ، وإمّا لأنّه قد وافق ما يريدون قوله عن الزيدية والزيديين.
ولا أعتقد أنّ للشهرستاني أيَّ دليل قوي على قوله. وربّما أنّه جعل من التوافق بين الزيدية والمعتزلة في أكثر مسائل الأصول الدينية دليلاً على قوله ، ولكن هذا غير كاف قطعاً لاِلحاق فرقة بأُخرى. لأنّه لو اعتبر التوافق في رأي ما ، دليلاً على توحيد فرقة مع أُخرى لما تميزت فيما بينها كل المذاهب الاِسلامية المعروفة اليوم وقبل اليوم ، لأنّها تتوافق في كثير من المسائل وبالأخص الفقهية الفرعية منها.
__________________
١ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٣٩ ـ ٤٠.
١٥٩
أمّا القول بأنّ الاِمام زيداً قد تتلمذ لواصل بن عطاء. من أجل أن يحصل على علم الأصول والفروع حتى يتحلّـى بالعلم كما يقول الشهرستاني ـ فهو أغرب وأعجب. ذلك لأنّ المعلوم عند جميع الموَرخين والباحثين والعالمين ـ أنّ المدينة المنورة ـ وليست البصرة ـ هي معدن العلم ومدينته ، كما قال الاِمام أبو حنيفة ـ رحمه‌الله ـ لمن سأله عمن تلقى علمه فقال : كنت في معدن العلم ولزمت فقيهاً من فقهائهم. وهو يعني الاِمام جعفر الصادق ـ رحمه‌الله ـ حيث لازمه عامين ، وكان يقول : لولا السنتان لهلك النعمان » (١).
فهل من المعقول أن يخرج الاِمام زيد من معدن العلم وينبوعه ومدينته ليذهب إلى البصرة ليحصل على علم الفروع والأصول حتى يتحلّـى بالعلم كما قال الشهرستاني؟ إنّه لأمر غريب وعجيب حقاً!! وهو مع ذلك قول مخالف لما أجمع عليه الموَرخون فقد قالوا إنّ واصل بن عطاء هو الذي أخذ العلم من معدن العلم ومدينته ، ولازم أهل البيت النبوي الشريف الذي يعد من مشاهيره في عصره الاِمام زيد بن علي. وأجمعوا على أنّ واصل بن عطاء كان مولى لآل محمد بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ـ أي آل محمد بـن الحنفية ـ وأخذ العلم عن ابنـه أبي هاشم عبد اللّه بن الحنفية. وأنّه بعد ٢١ عاماً من عمره سافر إلى البصرة سنة ١٠١ هـ حيث التقى فيها بالزاهد عمرو بن عبيد فزامله في حلقة الحسن البصري حتى حدث الخلاف بين واصل وأُستاذه الحسن البصري في تسمية مرتكب الكبيرة من المسلمين حيث قالت الخوارج هو كافر. وقالت المرجئة : هو موَمن. فقال الحسن البصري : هو منافق. فقال واصل : هو فاسق. والفسق منزلة بين المنزلتين : منزلة الكفر والنفاق. ومنزلة الاِيمان ، وبعد أن رجع عمرو بن عبيد إلى قوله وفارقا حلقة الحسن ، أطلق عليهما لاعتزالهما الحلقة (اسم المعتزلة) ثم صار اسماً لمن تابعهم في
__________________
١ ـ أبو زهرة : الاِمام الصادق عليه‌السلام : ٢٨.
١٦٠
مسائل علم الكلام ، بل لقد نصّ المحقّقون من المعتزلة والزيدية على أنّ مسألة المنزلة بين المنزلتين هذه قد أخذها واصل بن عطاء من أُستاذه أبي هاشم عبد اللّه ابن محمد بن الحنفية (١).
وإذا كان لابد من نسبته إلى فرقة من الفرق فينسب إلى الفرقة (العدلية) والعدلية كلمة تطلق على كل من يقول بالعدل والتوحيد وينفي الجبر والتشبيه والتجسيم للّه ، تعالى اللّه عن ذلك ، ولهذا صحّ للقاضي عبد الجبار بن أحمد المتوفى ٤١٥ هـ. وللاِمام المهدي أحمد بن يحيى بن المرتضى ، ان يجعلا من رجال الطبقة الأولى للعدلية كلَّ الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة ممن صرح بالعدل ونفي الجبر. وقد جعلا الاِمام زيد بن علي وأبا هاشم عبد اللّه بن محمد بن الحنفية أُستاذ واصل من رجال الطبقة الثالثة وجعلا واصل بن عطا وعمرو بن عبيد من رجال الطبقة الرابعة.
وقد توهم البعض من المتأخرين أنّ الطبقات التي أشرت إليها هي طبقات المعتزلة والصحيح غيره. لأنّ البحث في طبقات القاضي وفي الملل والنحل للمهدي كان عن العدلية ، وليس عن المعتزلة ، ولفظه في الملل والنحل (٢) مسألة (له) أي قالت المعتزلة : وأجمعت العدلية على أنّ للعالم محدثاً قديماً قادراً عالماً حياً ... حتى قال : وقد رتب القاضي ـ أي عبد الجبار ـ طبقاتهم ونحن نشير إلى جملتها. ثم أشار في المسألة التي تلتها إلى طبقاتهم.
فالاِمام المهدي حكى عن المعتزلة روايتهم لما اجمعت عليه العدلية. ثم رتب طبقاتهم كما فعل القاضي عبد الجبار مستدلاً بأقوالهم في العدل ونفي الجبر (٣).
____________
١ ـ شرح الأصول الخمسة : ١٣٧ ـ ١٣٨.
٢ ـ البحر الزخار : ١ / ٤٤ ـ ٤٥.
٣ ـ علي بن عبد الكريم شرف الدين : الزيدية نظرية وتطبيق : ٢١.
١٦١
وبعد هذا البيان الضافي من العلمين ، لا يبقى أي شك في أنّه لم يكن لوليد البيت النبوي أية دراسة لدى واصل بن عطاء ، وأقصى ما يمكن أن يقال : كانت بينهما مزاملة أو محادثة في تطبيق أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، على الساحة الاِسلامية. ونضيف في المقام أمرين :
١ ـ أنّه لو تتلمذ زيد على واصل أو كان معتزلياً في العقائد ، لانعكست آراء أُستاذه في الكتب الموروثة منه ، مع أنّه ليس من تلك الأصول فيها عين ولا أثر ، غير التركيز على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي استنتجه من الكتاب والسنّة واختمر به منذ شبابه إلى التحاقه بربه.
٢ ـ أنّ ابن المرتضى ، جعل زيد بن علي في طبقاته مقدماً على طبقة واصل ابن عطاء (١) ولو صحّ الزعم المعروف كان عليه أن يجعله متأخراً عنه ، لكونه في الاعتزال عيال عليه.
__________________
١ ـ ابن المرتضى : المنية والأمل : ١٧ و ٢٨ ، تحقيق سوسنة ديفلدفلزر ، بيروت ١٣٨٠ هـ ـ ١٩٦١ م ؛ والقاضي عبد الجبار الهمذاني : فرق وطبقات المعتزلة : ٣٢ و ٤١ ، تحقيق الدكتور علي سامي النشار وعصام الدين محمد علي ، دار المطبوعات الجامعية ، القاهرة ، ١٩٧٢ م.
١٦٢

الفصل الثامن

هل كان زيد إماماً
في الأصول والعقائد ، والفروع والأحكام؟
إنّ للمذهب الزيدي السائد حالياً في اليمن وغيرها بعدين : بعداً فقهياً ـ يُلحقه بالمذاهب الفقهية المعروفة ، وهذا ما يبحث عنه في تاريخ الفقه وطبقات الفقهاء ـ وبُعداً عقائدياً ، وهذا هو المسوّغ لطرحه في كتب الملل والنحل ، ولاشك أنّ المذهب الزيدي الذي تبنّاه أئمة الزيدية طيلة قُرُون ، من عهد أحمد بن عيسى ابن زيد موَلف الأمالي (ت ٢٤٧ هـ) إلى عهود الأقطاب الثلاثة كان يتمتع ببعدين متميزين العقيدة والفقه ، وهوَلاء الأقطاب عبارة عن :
١ ـ الاِمام القاسم الرسّـي.
٢ ـ الاِمام الهادي يحيى بن الحسين.
٣ ـ الاِمام الناصر الأطروش.
فكان عندهم الفقه والعقيدة ولكل ميزة وسمة ، تضفي له صبغة خاصة في مجاله إنّما الكلام في المذهب الموروث عن نفس الاِمام أي زيد الثائر ، فهل كان لمذهبه بعدان ، فقهي وعقائدي؟ أو كان لمذهبه بعد واحد؟ أو لم يكن هذا ولا ذاك
١٦٣
بل كان رجلاً ثورياً وإماماً للجهاد والنضال ومفسراً للقرآن ، ومحدّثاً للسنّة النبوية ، ومفتياً في ضوئهما أحياناً؟ وتظهر حقيقة الحال فيما يأتي ولنقدم البحث في العقائد ثم نتبعه بالبحث في الفقه.
إنّ ربيب البيت العلوي زيداً الثائر قد تعلم الأصول والعقائد ، من أئمة أهل البيت وعلى رأسهم والده الاِمام زين العابدين وأخيه الاِمام الباقر عليهما‌السلام ، فكان القول بالتوحيد ورفض التجسيم والجهة ، والعدل وتنزيهه سبحانه عن كل سوء وشين ، والقول بعصمة الأنبياء ومصونيتهم عن الخطأ والزلل ، ونفي القدر بمعنى السالب للاختيار والحرية والموجب للغوية بعث الأنبياء والرسل ، إلى غير ذلك من الأصول الرائجة في باب الاِمامة والمعاد ـ كان القول بهذه الأصول ـ أمراً واضحاً لدى الهاشميين والعلويين ورثها كابر عن كابر ، فلو قال به زيد ، فلا يجعله ذا منهج كلامي خاص.
إنّما الكلام فيما ينسب مناسب إليه من الآراء حول سائر الموضوعات ، وسيوافيك إنّها آراء الزيدية ، لاصلة لها بزيد ، وأنّ ربطها ونسبتها إليه ، خال عن الدليل.
قال الحاكم أبو سعد المحسَّن بن محمد بن كرامة الجشمي البيهقي (٤١٣ ـ ٤٩٤ هـ) في كتابه جلاء الأبصار :
وإذ قد بينا المذاهب المحدثة والبدع المولدة ، بقى ما كان عليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه وعلماء أهل البيت ، وهو القول بتوحيد اللّه ، ونفي التشبيه ، والقول بعدله ، وبراءته من كل سوء ، والقول بعصمة أنبيائه ، وصدق ما جاءوا به على ما نطق به الكتاب ، ومشايخ العدل ، أخذوها من علماء أهل البيت. أخذها واصل بن عطاء عن محمد بن الحنفية وابنه أبي هاشم وكان مع ذلك من أصحاب النفس الزكية ، وكان عمرو بن عبيد قد تأهب للخروج إلى زيد بن علي عليه‌السلام فورد الخبر بقتله.
١٦٤
وكان مطر الوراق ، وبشير الرحال من أصحاب إبراهيم بن عبد اللّه ، وكان حَكَمُ المعتزلي من أصحاب عيسى بن زيد ، والروايات بذلك من علماء أهل البيت عليهم‌السلام ظاهرة ، وكتب القاسم ويحيى والناصر والمهدي ـ يعني أبا عبد اللّه الداعي ـ وأحمد بن عيسى وغيرهم من أئمتهم عليهم‌السلام مشحونة بذكر العدل والتوحيد.
وروى أنّ أبا الخطاب وجماعة دخلوا على زيد بن علي عليهما‌السلام فسألوه عن مذهبه ، فقال : إنّي أبرأ ، إلى اللّه من المشبهة الذين شبّهوا اللّه بخلقه ، ومن المجبرة الذين حملوا ذنوبهم على اللّه ، ومن المرجئة الذين طمَّعوا الفسّاق في عفو اللّه ، ومن المارقة الذين كفّروا أمير الموَمنين ، ومن الرافضة الذين كفّروا أبا بكر وعمر ، وهذا عين مذهب أهل العدل ، وكان إمام هذه الطائفة بعد أمير الموَمنين والحسن والحسين ومحمد بن علي (١) وعلي بن الحسين ، زيد بن علي بن الحسين عليه‌السلام ورحمة اللّه وبركاته وجميع أولاد أمير الموَمنين ، إلاّ أنّ زيداً تقدمهم بالفضل والعلم والجهاد في سبيل اللّه (٢).
هذا مجمل القضاء في الموضوع وقد « شهد شاهد من أهلها » على ما ذكرنا غير أنّ البرهنة على المختار ، وأنّ ما نسب إلى زيد من الآراء فإنّما هي أرآء الزيدية ، لا الاِمام القائد ولأجل ذلك ، لانجد أثراً من هذه الآراء المعزوّة إليه في الكتب الموروثة منه. حتى لو وجدنا أنّ أئمة الزيدية لهجوا بها ـ كالقاسم الرسي ـ رأس القاسمية (١٧٠ ـ٢٤٢ هـ) والناصر الأطروش ـ رأس الناصرية ( ٢٣٠ ـ ٣٠٤ هـ ) موَسس المذهب الزيدي في بلاد الديلم والجبل ، والاِمام الهادي إلى الحقّ به رأس الهادوية في اليمن (٢٤٥ ـ ٢٩٨ هـ) لا يكون ذلك دليلاً على ثبوته من إمامهم ،
__________________
١ ـ يريد محمدبن الحنفية بقرينة تقديمه على والد زيد : علي بن الحسين عليهما‌السلام.
٢ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ٩٩ ـ ١٠٠.
١٦٥
لأنّ الأئمّة المتأخرين عن زيد ، اجتهدوا في الأصول والفروع فضموا ما ورثوه من إمامهم إلى ما حصلوه بمساعيهم فيهما ، فلا يسوغ لباحث أن ينسب شيئاً إلى زيد ، بحجة تواجده في كتب هوَلاء الأئمّة المتأخرين. وإن أردت التفصيل في الآراء المعزوّة إليه عن كثب فلاحظ ما يلي :

١ ـ مرتكب الكبيرة :

كانت الخوارج تصفه بالكفر والشرك. والمرجئة بالاِيمان ، وكان الحسن البصري يصفه بالنفاق ، وذهب واصل إلى أنّه لا كافر ولا موَمن بل في منزله بين المنزلتين (١).
واستظهر الشيخ أبو زهرة أنّ زيداً يوافق المعتزلة في هذا الرأي غير أنّه لا يراه مخلداً في النار على خلاف المعتزلة واستظهره من كتاب أوائل المقالات ، مع أنّه نسبه إلى الزيدية دون زيد حيث قال : وأجمعت المعتزلة وكثير من الخوارج والزيدية على خلاف ذلك وزعموا أنّ مرتكب الكبائر ممن ذكرناه فاسق ليس بموَمن ولا مسلم (٢) ولا يصح القضاء البات بهذا المقدار.

٢ ـ رأيه في القدر :

لقد استنبط أبو زهرة مما ذكره ابن المرتضى في المنية والأمل خصوصاً من الرسالة التي كتبها ابن عباس إلى جبرية أهل الشام ، أنّ عقيدة زيد في القدر ، هو أنّه يجمع بين الاِيمان بالقضاء والقدر ، واعتبار الاِنسان مختاراً في طاعاته ومعاصيه ، وأنّ معاصيه ليس قهراً عن اللّه تعالى ، ولا غلبة عليه (٣).
____________
١ ـ لاحظ دليله حول هذا الأصل : الجزء الثالث : ٢٢٥.
٢ ـ الظاهر أن يقول ولا كافر لينطبق على عقيدة المعتزلة.
٣ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٢٠٩.
١٦٦
يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما هو عقيدة كل آل البيت أخذوه من مستقى الوحي وكلام الوصي علي عليه‌السلام وقد أوضح الحال عندما سأله رجل عند منصرفه من صفين بما هو معروف (١) وقد اشتهر عنهم : « لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين » وزيد وغيره وجميع الشيعة أمام هذا الأصل سواسية.

٣ ـ رأيه في البداء :

لقد كثر اللغط والجَلَبَة حول البداء فمن طاعن عليه بأنّ معنى قولهم بدا للّه ، هو ظهور ما خفي عليه ، وهو يستلزم جهله سبحانه بالمستقبل وتغيير إرادته المستلزمة لحدوث ذاته إلى غير ذلك من المضاعفات ، ومن قائل بأنّ المقصود من بدا للّه ، هو أنّه بدا للناس من اللّه والاِطلاق من باب المشاكلة ، والنبي الأكرم هو الأسوة في الاِطلاق فقد وصفه سبحانه بهذا في كلامه ونقلها البخاري (٢) وإلاّ فأي مسلم واع يلهج بتجويز الجهل أو تغيير إرادته ، فمن المأسوف عليه جداً أنّ الناقمين من الشيعة في قولهم بالبداء تساهلوا في بيان عقيدتهم وراجعوا في تبيين مواقفهم إلى كتاب خصمائهم.
نعم ذكر الشيخ المفيد على أنّ الاِمامية اتفقوا على أنّ إطلاق لفظ البداء في وصف اللّه تعالى وإن كان ذلك من جهة السمع دون القياس وأضاف : وأجمعت المعتزلة والخوارج والزيدية والمرجئة وأصحاب الحديث على خلاف الاِمامية (٣).
وما ذكره المفيد إنّما هو عقيدة الزيدية ، لا الاِمام زيد ، ولا ملازمة بين الرأيين والمخالف لو وقف على مقصود الاِمامية من البداء لما خالفه وتلقاه أمراً صحيحاً ، ولأجل أنّ الشيخ أبا زهرة وقف على مقاصدهم البداء بعد الاحتكاك بعلمائهم
__________________
١ ـ الرضي : نهج البلاغة : قصار الحكم برقم ٧٨.
٢ ـ البخاري : الصحيح : ٤ / ١٧١ ، باب حديث أبرص وأعمى وأقرع.
٣ ـ المفيد : أوائل المقالات : ١٣ / ٥٣.
١٦٧
وكتبهم صرح بما ذكرناه فلاحظ (١).

٤ ـ الرجعة والمهدي :

ذهبت الاِمامية إلى القول بالرجعة وإنّ اللّه سبحانه يرد قوماً من الأموات إلى الدنيا في صورهم التي كانوا عليها فيعزّ منهم فريقاً ، ويذلّ فريقاً وقد ذكرنا دليلهم من الكتاب والسنّة في الجزء السادس من هذه الموسوعة فلاحظ ، غير أنّ الشيخ المفيد ذكر مخالفة الزيدية لهذا الأصل في كلامه السابق ، وجعله الشيخ أبا زهرة دليلاً على كونه معتقد زيد والأصل الذي نشأ عليه (٢).
والعجب أنّه عطف القول بالمهدي على فكرة الرجعة ونسب إلى الاِمام الجليل نفي فكرة المهدي وقال : الاِمام زيد قد نفى فكرة المهدي المنتظر ، فنفى معها فكرة الرجعة ، لأنّ الرجعة كما تصورها الاِمامية ومن قبلهم الكيسانية تقتضي وجود المهدي ، وبما أنّ لا مهدي في نظر الاِمام زيد ، لأنّ الاِمام يجب أن يكون غير مستور وأن يدعو لنفسه فلا يوجد إمام مكتوم ولا مغيب (٣).
إنّ ما ذكره الشيخ أبو زهرة زلة لاتستقال ، فكيف يمكن أنّ يستدل على عقيدة إنسان مثل زيد ، بكلمة لم يثبت كونه قائلها ، وعلى فرض كونه قائلها فإنّما قال بها في ظروف خاصة ، لا في الاِمام الذي اتفقت الشرائع السماوية عليه ، ولاسيما مسانيد السنّة وصحاحها.
أقول : لقد تواترت النصوص الصحيحة والأخبار المروية من طريق أهل السنّة والشيعة الموَكدة على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام والمشيرة صراحة إلى أنّ عددهم كعدد نقباء بني إسرائيل ، وأنّ آخر هوَلاء الأئمّة هو الذي يملأ الأرض
__________________
١ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٢١٢.
٢ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٢١٢.
٣ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٢١٢.
١٦٨
ـ في عهـده ـ عـدلاً وقسطاً كما ملئت ظلماً وجورا ، وأنّ أحاديث الاِمام الثاني عشر الموسوم بالمهدي المنتظر قد رواها جملة من محدثي السنّة في صحاحهم المختلفة كأمثال الترمذي (المتوفى عام ٢٩٧ هـ) وأبي داود (المتوفى عام ٢٧٥ هـ) وابن ماجة (المتوفى عام ٢٧٥ هـ) وغيرهم ، حيث أسندوا رواياتهم هذه إلى جملة من أهل بيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصحابته ، أمثال علي بن أبي طالب عليه‌السلام وعبد اللّه بن عباس ، وعبد اللّه بن عمر ، وأُم سلمة زوجة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأبي سعيد الخدري ، وأبي هريرة وغيرهم :
١ ـ روى الاِمام أحمد في مسنده عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « لو لم يبق من الدهر إلاّ يوم واحد لبعث اللّه رجلاً من أهل بيتي يملأها عدلاً كما ملئت جورا » (١).
٢ ـ أخرج أبو داود عن عبد اللّه بن مسعود : أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « لا تنقضي الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىَ اسمه اسمي » (٢).
٣ ـ أخرج أبو داود عن أُم سلمة ـ رضي اللّه عنها ـ قالت : سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « المهدي من عترتي من ولد فاطمة » (٣).
٤ ـ أخرج الترمذي عن ابن مسعود : أن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « يلي رجل من أهل بيتي يواطىَ اسمه اسمي » (٤).
إلى غير ذلك من الروايات المتضافرة التي بلغت أعلى مراتب التواتر على وجه. يقول الدكتور عبد الباقي : إنّ المشكلة ليست مشكلة حديث أو حديثين أو راو أو راويين ، إنّها مجموعة من الأحاديث والآثار تبلغ الثمانين تقريباً ، اجتمع على
__________________
١ ـ مسند أحمد : ١ / ٩٩ و ٣ / ١٧ ، ٧٠.
٢ ـ جامع الأصول : ١١ / ٤٨ برقم ٧٨١٠.
٣ ـ جامع الأصول : ١١ / ٤٨ برقم ٧٨١٢.
٤ ـ المصدر نفسه : برقم ٧٨١٠.
١٦٩
تناقلها مئات الرواة وأكثر من صاحب كتاب صحيح (١).

٥ ـ لا معجزة للأئمّة :

إذا كانت الاِمامة رئاسة عامّة في أُمور الدين والدنيا ، وإمرة إلهية (لاشعبية) واستمراراً لوظائف النبوة كلّها ، سوى تحمل الوحي الاِلهي ، ومحتاجاً إلى تنصيب النبي الأكرم بأمر من اللّه سبحانه ، فالتعرف على الاِمام المنصوب ، يتوقف على دليل يعرفه كالنبي الأعظم ، وهو أحد الأمور التالية :
١ ـ نص صريح متواتر لايدع شكاً للاِنسان أنّه خليفة الرسول.
٢ ـ أو كرامة خارقة للعادة مقارنة لدعوى الاِمامة والخلافة عن الرسول مورثة لليقين بصلته باللّه سبحانه.
٣ ـ أو وجود قرائن وشواهد تفيد القطع أنّه منصوب من اللّه سبحانه لهداية الأمّة.
نعم لو كانت الاِمامة مقاماً شعبياً ، تختاره الأمّة الاِسلامية لقيادتها وتنظيم أمرها. فهو لا يحتاج إلى شيء من النص ، والكرامة الخارقة للعادة ، ولا إلى العلم المفاض من اللّه سبحانه.
وبما أنّ الاِمامة عند الشيعة إنّما هي بالمعنى ، الأوّل ، وهي عندهم من الأصول اشترطوا فيها : النص ، والعلم بما تحتاج إليه الأمّة في مجال الدين والقيادة ، أو الكرامة الخارقة للعادة المورثة لليقين بكونه رجلاً إلهياً صادقاً فيما يدعي من الخلافة والاِمامة. وهذا على خلاف ما يذهب إليه أهل السنّة فإنّها عندهم حكومة عرفية ، وإمارة زمنية ، يُنصب ويعزل بأمر الشعب وإرادته وعزله ونصبه. أو يُنصب بإرادة الحاكم السابق.
__________________
١ ـ الدكتور عبد الباقي : بين يدي الساعة ١٢٣.
١٧٠
غير أنّ أبا زهرة زعم أنّ الاِمام زيد لا يرتضي شيئاً من هذا وذلك لأنّه يرى أنّ الاِمام من بني فاطمة رجل ككل الناس ليس بمعصوم عن الخطأ وليس علمه فيضاً ولو إشراقاً ، بل علمه بالدرس والبحث ويُخطىَ ويصيب كغيره من الناس ومادام كذلك فإنّه لا يحتاج إلى خارق العادات (١).
يلاحظ عليه : أنّ ما ذكره إنّما هو عقيدة أئمة الزيدية الذين جاءوا إلى الساحة ، شاهرين سيوفهم. فقاموا بالأمر في اليمن وغيره ولولاه لما استقرت إمامتهم ، ـ بعد كونهم أفراداً عاديين ـ وأمّا كونه معتقد زيد فلم يقم عليه دليل ، مع كونه معتقداً بإمامة الاِمام علي والسبطين وأبيه وأخيه عليهم‌السلام بالنص ، وهو واضح لمن تتبع شوارد النصوص.
أضف إلى ذلك أنّ ظهور الكرامات على الأولياء والأبرار مما جوّزه أكثر الفرق وإنّما خالف فيه المعتزلة بشبهة أنّه تبطل دلالة المعجزة على النبوة. لكن جوزه من المعتزلة ابن الأخشيد ، وأبو الحسين البصري وكذا محقّقو الأشعرية كالجويني والغزالي وفخر الدين الرازي وغيرهم ، وأمّا الزيدية فالمذكور في كلام الشيخ المفيد ، أنّهم يوافقون المعتزلة في نفي صدورها لكن في كلام المتأخرين منهم ما يدلّ على العكس ، فقد نقل العلاّمة الشيخ فضل الزنجاني في تعليقته على أوائل المقالات عن الاِمام أبي الحسين يحيى بن حمزة بن علي الحسيني الذي كان من أفاضل الزيدية ومن القائمين بالأمر باليمن (٢) في كتابه الكبير المسمّى بالشامل إلى ذهاب الزيدية إلى جواز ظهورها (٣).
وياحبذا راجع أبا زهرة الكتب الفلسفية كالاِشارات والشفاء للشيخ
____________
١ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : وكان عليه أن يلاحظ أوائل المقالات : ٤١ ، ٤٢ كما لاحظ سائر الموارد.
٢ ـ ولد بصنعاء سنة ٦٦٩ وتوفّي عام ٧٤٧ وكانت مدّة خلافته ٥١ سنة.
٣ ـ الزنجاني( ١٣٠١ ـ ١٣٦٠) : تعليقة أوائل المقالات : ٤١ ، طبعة تبريز.
١٧١
الرئيس (١) ، حتى يقف على أنّ صدور الكرامات من الأولياء ليس أمراً معضلاً ، بل الأصول العقلية توَيده والكتاب والسنّة يوافقانه.

٦ ـ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر :

إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، من الأصول المسلّمة لدى المسلمين عامّة من غير فرق بين الفرق : المعتزلة والأشاعرة والاِمامية. قال القاضي عبد الجبار : « لا خلاف بين الأمّة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » (٢).قال الشيخ المفيد : « إنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللسان فرض على الكفاية بشرط الحاجة إليه لقيام الحجّة على من لاعلم لديه إلاّ بذكره ... » (٣).
وهو مشروط بشروط مذكورة في كتب القوم ، غير أنّ الشيخ أبا زهرة زعم أنّ الأصل المذكور ، لايجتمع مع القول بالتقية ، وزعم أنّ أبا الشهداء وحفيده زيد الثائر أخذا بالأصل الأوّل ، وأمّا أباه أعني : علي زين العابدين رأى من الحكمة ألاّ يخرج إلاّ مع العدد والقوة ، ولأنّ تلك الحوادث (حوادث كربلاء) جعلته يشك في وجود النصراء الأقوياء في اعتقادهم ، فانصرف إلى العلم غير راض ولامطمئن للباطل.
ـ ثم قال : ـ ومن هنا تولد عند الشيعة مبدأ التقية وهي السكوت عن مقاومة الباطل من غير رضا به ـ إلى أن قال : ـ إنّ زيداً آمن بالأصل الأوّل وروي إنّه رخص في التقية لكنه كان في أوّل حياته وفي وقت انصرافه للدراسة كان يأخذ بمبدأ التقية ، لكنّه بعد أن درس الفرق المختلفة والتقى بأهل العراق غلب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤).
__________________
١ ـ أبو علي : الاِشارات : ٣ / ٤٩٧.
٢ ـ القاضي عبد الجبار : شرح الأصول الخمسة : ٧٤١.
٣ ـ المفيد : أوائل المقالات : ٩٨.
٤ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٢١٥ ـ ٢١٧.
١٧٢
يلاحظ عليه : أنّ هذا أشبه بكلام من لا يعرف موضع الأصلين ومركزهما (وأُجلّ الشيخ أبا زهرة من أن يكون من تلك الزمرة) ويزعم أنّ بين الأصلين مطاردة ، وأنّ الزعيم الاِسلامي إمّا أن يختار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو يلتجىء إلى التقية ، وأنت إذا راجعت إلى ما أسلفناه في الجزء الثالث حول الأصل الأوّل وفي الجزء السادس حول التقية لعرفت أنّ الأصلين من الأصول الاِسلامية المتقنة ولكل موردٍ وموقف حسب شروطهما وضوابطهما ، فلو أنّ أبا الشهداء وحفيده زيد بن علي قاما بالأمر وأمرا بالمعروف والنهي عن المنكر لأجل ظروف فرضته عليهما ، ولو كانت تلك الشروط مهيأة في زمن ابنه زين العابدين وأخيه محمد بن الحنفية لقاما مثل ما قاما ، فلو نرى أنّ الأخيرين التزما البيت وصارا جليسيه فلظروف فُرضت عليهما ، ولعمر الحقّ أنّ مثل هذا الكلام من شيخ المصريين غريب جداً إذ كيف يقول : « ومن هنا ـ أي قعود الاِمام السجاد ومحمد الحنفية عن الأمر بالمعروف ـ تولد عند الشيعة مبدأ التقية؟! أو ما يذكر قول اللّه سبحانه : « إلاّ أن تَتَّقُوا مِنهُم تُقاة » (آل عمران ـ ٢٨) أو قوله سبحانه : « مَن كَفَرَ بِاللّه مِن بِعدِ إيمانِهِ إلاّ مَنْ أُكرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالاِيمانِ » (النحل ـ ٢٨).
أو ما قرأ كلمات المفسرين حولهما حتى عمّموا مفادهما إلى اتقاء المسلم من المسلم الظالم؟ والحقّ أنّ الشيخ أبا زهرة مع كونه كاتباً ذا صدر رحب وإطلاع وسيع وقلم سيّال ، لكنه يخرج الظنون بصورة الأمور الواضحة القطعية ويضفي على حدسيّاته صبغة الجزم.

٧ ـ الصفات ليست غير الذات :

ذهبت العدلية ـ من غير فرق بين المعتزلة والاِمامية والزيدية ـ إلى أنّ صفات اللّه الذاتية كالعلم والقدرة والحياة غير ذاته مفهوماً ، وعينها مصداقاً ، دفعاً لوصمة التركيب ، الملازم للاِمكان ، المنزّه عنه سبحانه ، قال الشيخ المفيد : « إنّ اللّه عزّ وجلّ
١٧٣
اسمه حي لنفسه لا بحياة وأنّه قادر لنفسه ، وعالم لنفسه ، لا بمعنى كما ذهب إليه المشبهة من أصحاب الصفات ـ إلى أن قال : ـ وهذا مذهب الاِمامية كافة والمعتزلة إلاّ من سميناه (أبا هاشم الجبائي) وجمهور الزيدية وجماعة من أصحاب الحديث والحكمة (١).
وقد تبع هوَلاء خطب الاِمام علي عليه‌السلام وكلماته ، فإنّه أوّل من شقّ هذا الطريق ، وأوضح المنهج ، وحكم بحكم بات على توحيد الصفات مع الذات. قال : « أوّل الدين معرفته ، وكمال معرفته التصديق به ، وكمال التصديق به توحيده ، وكمال توحيده الاِخلاص له ، وكمال الاِخلاص له نفي الصفات عنه ، لشهادة كل صفة أنّها غير الموصوف ، وشهادة كل موصوف أنّه غير الصفة ، فمن وصف اللّه سبحانه فقد قرنه ، ومن قرنه فقد ثنّاه ، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله ، ومن جهله فقد أشار إليه ، ومن أشار إليه فقد حدّه ، ومن حدّه فقد عدّه » (٢).
والعجب أنّ الشيخ أبا زهرة نسب عينية الصفات إلى زيد وصوّره أنّه من آرائه ، والحقّ أنّه من أرائه ، لكنه لابمعنى أنّه ذو منهج كلامي بل كل ما نسب إليه لا يخلو من أمرين : إمّا أنّه ليس من زيد وإنّما هو من أتباعه ومقتفي أثره ، أو هو من زيد ولكنه أخذه من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام.
فقد حصحص الحقّ وبان أنّ زيداً لم يكن مفكراً كلامياً غارقاً في البحوث الكلامية نظير واصل بن عطاء ، أو عمرو بن عبيد أو أبي جعفر موَمن الطاق وهشام بن الحكم ، بل كان زيد رجلاً ثورياً له صلة بتفسير القرآن وجمع الروايات وعظة الناس وهدايتهم إلى الطريق المهيع.
ثم إنّ الشيخ أبا زهرة استخرج عقائده الكلامية ـ حسب ما عرفت ـ من
__________________
١ ـ المفيد : أوائل المقالات : ١٨.
٢ ـ الرضي : نهج البلاغة : الخطبة ١.
١٧٤
أسباب عقيمة غير منتجة وبما أنّه أشار إليها في آخر كلامه نأتي بنصه ، ثم بملاحظتنا ، يقول :
« حاولت استخراج عقائده الكلامية من الأمور التالية :
١ ـ أن يكون ذلك رأياً لواصل بن عطاء الذي صاحبه ، وقدّر علماء النحل أنّه اختار منهاجه وطريقه ، أو كان كلاهما على منهاج واحد ورأي واحد ، فاعتبر كل كلام لواصل في هذه المسائل آراء للاِمام زيد إلاّ ما ثبت أنّه لم يقله ، أو لم يكن من المعقول أن يكون قد قاله ، كقول واصل : إنّ علياً في قتال معاوية لم يكن على حقّ بيقين ، فليس ذلك نظر أهل البيت بالاتفاق.
٢ ـ إنّ ما ينسب إلى الزيدية من أقوال ونراه في ذاته معقولاً وقريباً من منطق الاِمام زيد وتفكيره فإنّا نقرر أنّه رأي زيد ـ رضي اللّه عنه ـ لأنّ الزيدية إذا استثنينا الجارودية منهم ، يتلاقون في أكثر آرائهم مع الاِمام زيد ، فهم له في الجملة متبعون.
٣ ـ إنّ ما يقوله بعض المتصلين به أو الذين ثبت اتصالهم به نعتبره إذا اتفق ما يقوله الزيدية أو ينسب مزكياً لنسبة تلك الأقوال إليه (١).
يلاحظ عليه : أنّ القياس الأوّل عقيم جداً إذ لا نعلم مدى تعاطف زيد مع واصل وزمالته معه ، حتى نتخذ عقيدة الجليس دليلاً على عقيدة الجليس الآخر.
وأضعف منه الطريق الثاني فإنّ الزيدية كسائر الفرق ، مارسوا علم الكلام وحضروا محافل البحث والنقاش ثم أتّخذوا موقفاً في كل مسألة ، وكيف يمكن أن ينسب وليد فكر هوَلاء لزيد المحدِّث المفسِّر غير المهتّم إلا بإنهاض المسلمين ضد الطغاة وإزالتهم عن منصّة الحكم واستغلال الصلحاء بالحكم؟!.
ومنه يظهر حال الطريق الثالث فلا نطيل الكلام.
__________________
١ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٢٢٢ ـ ٢٢٤.
١٧٥
كل ما ذكرنا يرجع إلى زيد ، وأمّا الزيدية فلهم عندنا حساب خاص سوف نرجع إلى إرائهم وعقائدهم في مجال الأصول والفقه في فصل مستقل.
زلة بعدها زلة :
قد عرفت مدى صحّة كلام الشيخ أبو زهرة في نسبه هذه الآراء إلى زيد وقد تبعه من جاء بعده ، من دون ترو وتحقيق ، فنرى أنّ الدكتور « أحمد محمود صبحي » يتبعه عشوائياً وينسب تلك الآراء إلى زيد حرفاً بحرف ، فنسب إليه إنكار القول بالبداء ، والتقية ، والعصمة ، والعلم اللدني ، والمهدوية ، وذكر أنّ آراء زيد في ذلك المجال متعارضة وآراء الاِمامية وذكر أنّ مصدر كلامه هو كتاب « نشأة الفكر الفلسفي في الاِسلام » للدكتور علي سامي النشار ، وأظن أنّه ذكره بعنوان أحد المصادر ، وإلاّ فالمصدر الواقعي لكلامه هو كتاب أبي زهرة ووحدة الصياغة تعرب عن عيلولتهما على الشيخ وعلى كل تقدير فقد خبطوا خبطة عشواء وبذلك أفسدوا الأمر على المجتمع الاِسلامي وصوروا أنّ الاِمام زيد كان يخالف الرأي العام لسائر الأئمّة الاثني عشر ، ولعله كان هذا هو المقصد من إلقاء الحجر في الماء الراكد. وإيجاد الفرقة أو توسيعها بين الطائفتين.
* * *
قد أسفر وجه الحقيقة وبان أنّ زيداً كان علويّ المبدأ والفكرة ، ولم يكن له في الأصول والعقائد سوى ما عند العترة الطاهرة بقي الكلام من كونه صاحب مذهب فقهي خاص ، على أساس منهج معين وهذا هو الذي نأخذه بالبحث.
١٧٦

هل كان لزيد مذهب فقهي خاص؟

هل كان لزيد مذهب فقهي خاص كسائر المذاهب الفقهية الذائعة في عصره وبعده؟
وهل كان لزيد منهاج خاص يسير عليه في استنباطه وافتائه؟
وهل الأئمّة الزيدية ـ وأخص بالذكر أئمة الاجتهاد منهم ـ مشوا على ضوء آرائه ولم يخالفوه ، والفقه الزيدي الموجود ، تبسيط لفقهه ورأيه؟
هذه موضوعات ثلاثة جديرة بالبحث والدراسة على ضوء ما ورثناه من زيد من الكتب ، والفقه الزيدي الرائج اليوم.
فلنشرح الموضوع الأوّل فنقول :
كان زيد رجلاً عابداً زاهداً ، حليف القرآن والعبادة ، وتعلّم ما تعلم في أحضان والده وأخيه الاِمام الباقر عليه‌السلام وروى عن عدّة من التابعين ، ولم يكن موطنه يوم ذاك ، مهداً لمذهب فقهي خاص يتميز بسماته عن المذاهب الأخر حتى يكون الاِمام أحدهم ، ويكون له مذهب متمايز عن الآخرين ، وأقصى ما كان يتمتع به التابعون والراوون عنهم ، هو الاِفتاء في ضوء الروايات الواصلة إليهم ، وتجريدها عن الاسناد ، أو استثمار الضوابط التي تلقوها عن الرسول الأعظم واستخراج أحكام الجزئيات منها أو التخريج على أقوال الصحابة وغيره ، وأين هذا من كونه إمام مذهب خاص له سمات وميزات ، تميزه عن سائر المذاهب الفقهية ، كما هو الحال في المذاهب المعروفة ولاسيما المذاهب الأربعة؟ هذا حال زيد في موطنه ، وأمّا حاله في غيره ، فقد غادر المدينة كراراً ، ونزل الشام والكوفة ، إمّا بالجبر والاضطرار ، أو بالحرية والاختيار ، ولم تكن الغاية له في تلك الرحلات إلاّ إجابة الجبر ، أو دعم المبدأ وإنهاض المسلمين ضد الأمويين وبالتالي ، دعم الجهاد
١٧٧
والنضال المسلح ، وأين هذا من الاختلاف في أندية الدروس ، ومحافل البحث والدراسة ، لاستثمار ما تلقاه وصبغه بصبغة خاصة تعطي له سمة وميزة؟!
وهذا ما يعطيه الاِمعان في حياته ، والغور في الآثار الباقية منه وأقصى ما يمكن أن يقال : إنّه كان يفتي عند السوَال ، بمضمون الرواية ، أو ببسط الضوابط الكلية.
وبذلك يعلم حال السوَال الثاني ، فإنّ المراد من المنهاج الخاص ، هو القواعد الكلية الأصولية التي منها يستمد الفقه ، وبها ينصبغ ، فالفقه المستمد من القياس والاستحسان غير الفقه المستنبط من الكتاب والسنّة والوقوف فيما لا نص فيه ، ومن المعلوم أنّه لم يكن لزيد ذلك المنهاج ولو كان لبان في آثاره العلمية ، أو نقله طلابه وملازموه كما هو الحال في أبي حنيفة ، فقد انعكست آراوَه على فقه تلاميذه كالشيباني وأبي يوسف وغيرهما.
وأمّا الموضوع الثالث فالاِجابة عنه سهلة ، بعد الوقوف على اعتبار الاجتهاد المطلق عند الزيدية فقد فتحوا ـ كالاِمامية ـ بابَ الاجتهاد المطلق في الفروع والأصول فخالفوا زيداً في قسم من الفروع ، وركنوا إلى أُصول لم يعلم الركون به من إمامهم.
وإن شئت قلت : هناك فرق بين اجتهاد الأحناف ، والشوافع واجتهاد أئمة الزيدية فالطائفة الأولى كانوا مجتهدين لكن مقيدين بأُصول إمامهم ومناهجه. وكانوا يبذلون مساعيهم لاستكشاف آراء إمامهم في ضوء الأصول الواصلة إليهم منه. وأمّا أئمة الزيدية ، فلأجل فتح باب الاجتهاد المطلق صاروا مجتهدين مستقلين ربما وافقوا إمامهم ، وأحياناً خالفوه ولذلك ترى بعداً شاسعاً بين المجموع الفقهي المنقول عن الاِمام زيد وكتاب الأحكام للاِمام الهادي المطبوع المنتشر في جزئين ، ومثله الروض النضير فالموَلف وإن كان زيدياً ، لكن كتابه هذا ،
١٧٨
أُلّف على ضوء الاجتهاد المطلق ، فيستهدي من روايات الصحاح والمسانيد والقواعد الدارجة بين المذاهب الأربعة التي رفضها أئمة أهل البيت أوّلاً ولم يثبت حجيتها عند الاِمام زيد ثانياً.
يقول أبو زهرة : « ويجب أن يعلم أنّ الفقه الزيدي ليس كله فقه الاِمام زيد ، بل هو فقه طائفة كبيرة من آل البيت كالهادي والناصر وغيرهم ممن جاءوا بعده وخصوصاً أنّ باب الاجتهاد فيه كان مفتوحاً لم يغلق (١).
ويقول في موضع آخر في سبب انتشار المذهب الزيدي وأنّ من أسبابه : « فتح باب الاختيار من المذاهب الأخرى فقد صار هذا المذهب بهذا الاختيار حديقة غنّاء تلتقي فيها أشكال الفقه الاِسلامي المختلفة ، وأغراسه المتبائنة وجناه المختلف الألوان والطعوم ، وإن كان ذلك نتيجة لفتح باب الاجتهاد فيه ، فقد اختاروا باجتهادهم من المذاهب الأخرى ما يتفق مع منطق المذهب أو أُصوله ، وأُصوله متحدة أو على الأقل متقاربة مع جملة الأصول التي قررها فقهاء المسلمين » (٢).
والحقيقة هي : أنّ المذهب الفقهي المعروف بالمذهب الزيدي في اليمن ، نسبةً إلى الاِمام زيد أو المذهب الهادوي كما يروق للبعض اليوم أن يسميه وينسبه إلى الاِمام الهادي يحيى بن الحسين ولا فارق بين الاِمامين إلاّ في مسائل يسيرة جداً ، نتيجة الاجتهاد المفتوح بابه في المذهب الزيدي حتى اليوم وإلى الأبد إن شاء اللّه ـ هذا المذهب لم يكن مذهب إمام معين ، ولكنّه خلاصة أبحاث عميقة ، ودراسات واسعة مختلفة في كل مجالات الفقه الاِسلامي العظيم ، وجهود مضنية استمرت في البحث والتنقيب والتصفية أكثر من سبعة قرون ، وقام بتلك الأبحاث والدراسات
__________________
١ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٣٣١.
٢ ـ أبو زهرة : الاِمام زيد : ٤٨٨.
١٧٩
أئمة أعلام من أهل البيت النبوي الشريف ومن تابعهم من الفقهاء المجتهدين ، معتمدين في كل ذلك على المحكم من كتاب اللّه ، والصحيح من سنّة رسول اللّه ، وعلى القياس ، والاِجماع ، وأحياناً على الاستصحاب ، والاستحسان ، والمناسب المرسل ـ المصالح المرسلة ـ وهي التي تتفق مع المقاصد الشرعية فيما لا يوجد له نص في الكتاب أو السنّة إثباتاً أو نفياً كما سيأتي في موضعه إن شاء اللّه. وبسبب ذلك تصارع الأئمّة وأتباعهم أزماناً عديدة مع دسائس الملحدين وأفكار المندسين ، كما تعاركوا مع جبابرة الأهواء السياسية والأحقاد العنصرية ، جاعلين الاخلاص رائدهم ، والحقّ مقصدهم ، ورضوان اللّه غايتهم (١).
ولعل حقيقة الحال تعلم من دراسة ما بقي منه من الآثار وأخص بالذكر ما طبعت وانتشرت منها فإنها مرآة ضمير الرجل ، والمرء بآرائه وأفكاره.
__________________
١ ـ علي بن عبد الكريم : الزيدية نظرية وتطبيق : ١٤.
١٨٠

الفصل التاسع

هل دعا إلى نفسه
أو دعا إلى الرضا من العترة
إنّ هناك فرقاً واضحاً بين إمام الثورة والجهاد ـ الذي يقابل الظالمين والغاصبين بالطرد والقتل ، ويُعبِّدَ الطريق لصلحاء الأمّة في المستقبل حتى يتفكروا في أمرهم بعد قمع الظالمين ـ والاِمام الذي فرضتْ طاعته من قَبل إمّا بتنصيص من اللّه ورسوله أو بإتفاق من أهل الحل والعقد أو ما أشبه ذلك. وزيد الثائر لم يكن من قبيل الثاني ، وإنّما كان إمام الثورة والجهاد. قام بأخذ الثأر والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وإقامة العدل ، وإزاحة الظلم وتدمير عرش الأمويين ، فهو بهذا المعنى كان إماماً لا شك فيه ، وقد أطبقت الزيدية والاِمامية على كونه إماماً بهذا المعنى ومن نسب غير ذلك إلى الاِمامية فهو باهت كاذب إنّما الكلام في كونه الاِمام المنصوص عليه بلسان النبي الأكرم وأوصيائه فلم يكن زيد إماماً بهذا المعنى ولا إماماً مختاراً من قبل الأمّة ولا ادّعاه هو ولا أحد من أتباعه ومقتفيه ، والذي يوضح ذلك ما نص عليه الشيخ المفيد وهو من متكلمي الشيعة في القرن الرابع. روى تلميذه المرتضى :
قال : حضر المفيد مسجد الكوفة ، فاجتمع إليه أكثر من خمسمائة فقال له
١٨١
رجل من الزيدية ـ أراد الفتنةـ : بأي شيء استجزت إنكار إمامة زيد؟ فقال : ظننت عليّ باطلاً وقولي في زيد لا يخالفني فيه أحد من الزيدية. فقال : وما مذهبك فيه؟ قال : إنّي أُثبت من إمامة زيد ما تثبته ، وأُنفي ما تنفيه وأقول كان إماماً في العلم والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأنفي عنه الاِمامة الموجبة لصاحبها العصمة والنصَّ والمعجزة ، وهذا ما لا يخالفني عليه أحد من الزيدية ، فلم يتمالك من حضر من الزيدية أن شكروه ودعوا له وبطلت حيلة الرجل (١).
ولعل الجوّ السائد على مجلس المناظرة ـ كما يظهر من كلام تلميذه الجليل السيد المرتضى ـ لم يسمح للشيخ المفيد ، أن ينفي حتى الشق الثاني وهو كونه إماماً مفترضة طاعتـه باختيار الأمّة.
نعم تضافرت الروايات على بيعة جماعة كثيرة معه لكن متعلق البيعة ، هو الجهاد والنضال ، وكونه أميره ورائده لا على الاِمامة بعد النجاح واكتساح الأشواك.
نعم أنّ الطائفة الزيدية المتشكلة بعد رحيل الاِمام الثائر زعموا أنّه ادّعى الاِمامة لنفسه وكان الجهاد ، لرفع الموانع عن طريق إمامته وحاكميته وقد اغترّوا بظواهر الأمر ، ولم يتدبروا في القرائن الحافة به.
وبذلك الزعم ـ صارت الاِمامة عند الاِمامية غيرها عند الزيدية وذلك :
إنّ مفهوم الاِمامة لدى الشيعة الاِمامية غيرها لدى الزيدية ، فالطائفة الأولى تشترط في الاِمام النص والعصمة والمعجزة وكونه أعلم الأمّة وأفضلها سواء أقام بالسيف أم لا ، وإنّمـا يتبع في القيام والجهاد مصالح الأمّة الاِسلامية فهي بين ما يفرض عليه القيام والجهاد أو يفرض عليه إرشاد الأمّة عن طريق آخر.
__________________
١ ـ المرتضى : الفصول المختارة : ٢٧٧.
١٨٢
وهذا بخلاف الاِمامة لدى الزيدية فلايشترط فيها ما ذكرنا ، قال الشيخ المفيد : الاِمامة عَلَم على من دان بوجوب الاِمامة ووجودها في كل زمان ، وأوجب النصَّ الجلي والعصمة والكمال لكل إمام ، ثم حصر الاِمامة في ولد الحسين بن علي عليهما‌السلام وساقها إلى الرضا علي بن موسى الرضا.
وأمّا الزيدية فهم القائلون بإمامة أمير الموَمنين علي بن أبي طالب ، والحسن والحسين وزيد بن علي عليهم‌السلام ، وبإمامة كل فاطمي دعا إلى نفسه وهو على ظاهر العدالة ، ومن أهل العلم والشجاعة وكانت بيعته على تجريد السيف للجهاد (١).
وقال ابن المرتضى : « فالزيدية منسوبة إلى زيد بن علي عليه‌السلام يجمع مذهبهم تفضيل علي عليه‌السلام وأولويته بالاِمامة وقصرها في البطنين ، واستحقاقها بالفضل والطلب لا بالوراثة ووجوب الخروج على الجائرين (٢).
والذي يعرب عن موقفه في الاِمامة ما جاء في خطبه وفيها هذه الجمل التالية :

كلمات لزيد تعرب عن موقفه :

١ ـ الحمد للّه الذي أكمل لي ديني بعد أن كنتُ استحيي من رسول اللّه أن أرِدَ عليه ولم آمر أُمّته بمعروف ولم أنه عن منكر (٣).
٢ ـ واعلموا أنّه ماترك قوم الجهادَ قط إلاّ حُقِّروا وذلّوا (٤).
__________________
١ ـ المفيد : أوائل المقالات : ٨.
٢ ـ ابن المرتضى : البحر الزخار : ١ / ٤٠ وسيوافيك تفصيل عقيدتهم في الاِمامة فانتظر.
٣ ـ السياغي : الروض النضير : ١ / ١٠٢.
٤ ـ المصدر نفسه.
١٨٣
٣ ـ أيّها الناس أعينوني على أنباط الشام فواللّه لايعينني عليهم منكم أحد إلاّ رجوت أن يأتيني يوم القيامة آمنا ... (١).
ولأجل ذلك تضافرت الروايات من طرقنا على أنّ زيداً ما دعا إلى نفسه وإنّما دعا إلى الرضا من آل محمّد ، وأنّه لو ظفر لوفى ، ومعنى هذه الروايات أنّه كان يمهّد الطريق لولاية الاِمام المنصوص عليه في لسان النبي والأئمّة الصادقين ، وإليك بعض النصوص :
١ ـ قال الصادق عليه‌السلام : إنّ زيداً كان موَمناً وكان عارفاً وكان صدوقاً أما إنّه لو ظفر لوفى ، أما إنّه لو ملك عرف كيف يضعها (٢).
٢ ـ وقال عليه‌السلام : إنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنما دعاكم إلى الرضا من آل محمّد ، ولو ظفر لوفى بما دعاكم إليه ، وإنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه (٣).
٣ ـ وقال الاِمام الرضا عليه‌السلام في جواب سوَال المأمون عن ادّعاء زيد ما لم يكن له بحق :
إنّ زيد بن علي لم يدعُ ما ليس له بحقّ ، وإنّه كان أتقى للّه من ذلك أنّه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمّد ، وإنّما جاء ما جاء فيمن يدعي أنّ اللّه نصَّ عليه ثم يدعو إلى غير دين اللّه ويضل عن سبيله بغير علم وكان زيد بن علي واللّه ممن خوطب بهذه الآية! ( وجَاهِدُوا فِي اللّهِ حقّ جِهادِه ) (٤).
إنّ الاِمام الرضا عليه‌السلام نصَّ على موقف زيد من الاِمامة وهو أنّه كان إمام
__________________
١ ـ المصدر نفسه : ١ / ١٢٧ ـ ١٢٨ ، والأنباط : أخلاط الناس وعوامهم.
٢ ـ الكليني : الكافي : الروضة الحديث ٣٨١.
٣ ـ الكشي : الرجال : ترجمة السيد إسماعيل الحميري : برقم ١٤٤ ص ٢٤٢.
٤ ـ عيون أخبار الرضا ، الباب ٢٥ ، ص ٢٤٩. وسيوافيك تفصيل المذاكرة بينهما ص ١٩٩ فلاحظ.
١٨٤
الجهاد وقد جسّد قوله سبحانه : « وجاهدوا في اللّه حقّ جهاده » (١) وأين هو من الاِمامة المنصوص عليها من جانب اللّه بلسان نبيه وأوصيائه السابقين أو الاِمام المختار من جانب الأمّة. ولو كان زيد يتظاهر بالاِمامة فإنّما كان لغاية كسح الأشواك عن طريقها ثم تسليم الأمر إلى الاِمام المنصوص.
إنّ هناك نكتة اجتماعية وهي أنّ زيداً قام موطّناً نفسه على الشهادة ، ومستميتاً متيقناً بأنّه سوف يقتل ويستشهد ، وقد سمع من أبيه وأخيه وابن أخيه أنّه سوف يقتل ويصلب في الكناسة ، وأنّه لم يكن شاكاً ولامتردداً في هذا الأمر ومن كان هذا مآله ومستقبله فهل يمكن أن يدّعي الاِمامة بالمعنى المعروف بين المتكلمين أي قيادة الأمّة في جوانب شتى إلى الصلاح والفلاح ، فإنّ القيام بهذا الواجب فرع الحياة وهو كان على الطرف الخلاف من هذا ، فلم يبق إلاّ أن يكون أميراً في الجهاد قائداً في النضال ، وإن قصرت حياته ، وقلّ بقاوَه.

اعترافه بإمامة الاِمام الصادق عليه‌السلام :

١ ـ إنّ زيداً كان معترفاً بإمامة ابن أخيه جعفر الصادق عليه‌السلام بلا كلام ، وكان يقول : من أراد الجهاد فإليّ ، ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر (٢).
٢ ـ روى الصدوق في الأمالي : عن عمرو بن خالد : قال زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب : في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه ، حجّة زماننا ابن أخي جعفر بن محمد لا يضل من تبعه ولا يهتدي من خالفه (٣).
__________________
١ ـ سيأتي نصّ الاِمام : في ص ١٩٩ ـ ٢٠٠ في ضمن الرواية الثالثة عشرة.
٢ ـ الخزاز القمي : كفاية الأثر : ص ٣٠٢.
٣ ـ الصدوق : الأمالي : ٥٤٢ بحار الأنوار : ٤٦ / ١٧٣.
١٨٥
٣ ـ روى الكشي عن عمار الساباطي ، قال : كان سليمان بن خالد خرج مع زيد بن علي ، قال : فقال له رجل ونحن وقوف في ناحية وزيد واقف في ناحية : ماتقول في زيد أهو خير من جعفر؟ قال سليمان : قلت واللّه ليوم من جعفر خير من زيد أيام الدنيا ، فحرّك رأسه وأتى زيداً وقصّ عليه القصة فمضيت فانتهيت إلى زيد وهو يقول : جعفر إمامنا في الحلال والحرام (١).
٤ ـ إنّ يحيى بن زيد سأل أباه عن الأئمّة ، فقال : الأئمّة اثنا عشر ، أربعة من الماضين وثمانية من الباقين فقلت : فسمّهم يا أبة. فقال : أمّا الماضون فعلي بن أبي طالب والحسن والحسين ، وعلي بن الحسين ، ومن الباقين أخي الباقر وبعده جعفر الصادق ابنه ، وبعده موسى ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده محمد ابنه ، وبعده علي ابنه ، وبعده الحسن ابنه ، وبعده المهدي ابنه ، فقلت له يا أبة : ألست منهم؟
قال : لا ، ولكنّي من العترة ، فقلت : فمن أين عرفت أساميهم؟ قال : عهد معهود عهده إلينا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢).
٥ ـ روى محمد بن مسلم : دخلت على زيد بن علي وقلت : إنّ قوماً يزعمون أنّك صاحب هذا الأمر ، قال : لا ولكنّي من العترة ، قلت : فلمن يكون هذا الأمر بعدكم؟ قال : سبعة من الخلفاء المهدي منهم.
قال محمد بن مسلم : دخلت على الباقر محمد بن علي عليهما‌السلام ، فأخبرته بذلك فقال : صدق أخي زيد ، سبيل هذا الأمر بعدي سبعة من الأوصياء والمهدي منهم ، ثم بكى عليه‌السلام وقال : وكأنّي به وقد صُلِب في الكناسة. يابن مسلم حدّثني أبي عن أبيه الحسين : قال : وضع رسول اللّه يده على كتفي ، قال : ياحسين
__________________
١ ـ الكشي : الرجال : ترجمة سليمان بن خالد برقم : ٢٠٥ ص ٣٠٨.
٢ ـ الخزاز : كفاية الأثر : ٣٠٠ وسيوافيك تذييل الخزاز بعد هذا الحديث ، ورواياتها مسانيد ، لا مراسيل اقتصرنا على نقل المتون روماً للاختصار.
١٨٦
يخرج من صلبك رجل يقال له زيد ، يُقتل مظلوماً إذا كان يوم القيامة حشر أصحابه إلى الجنة (١).
٦ ـ روى الخزاز عن عبد العلاء ... قلت : فأنت صاحب الأمر؟ قال : لا ولكنّي من العترة ، قلت : فإلى من تأمرنا؟ قال : عليك بصاحب الشعر وأشار إلى الصادق عليه‌السلام (٢).
٧ ـ روى الخزاز قال : عن المتوكل بن هارون قال : لقيت يحيى بن زيد بعد قتل أبيه وهو متوجه إلى خراسان ، فما رأيت رجلاً في عقله وفضله ، فسألته عن أبيه عليه‌السلام فقال : إنّه قتل وصلب بالكناسة ثم بكى وبكيت حتى غشي عليه. فلما سكن قلت له : يا ابن رسول اللّه وما الذي أخرجه إلى قتال هذا الطاغي وقد علم من أهل الكوفة ما علم؟ فقال : نعم لقد سألته عن ذلك فقال : سمعت أبي عليه‌السلام يحدّث عن أبيه الحسين بن علي عليهما‌السلام قال : وضع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على صلبي فقال : ياحسين يخرج من صلبك رجل يقال له : زيد يقتل شهيداً إذا كان يوم القيامة يتخطّى هو وأصحابه رقاب الناس ويدخل الجنّة ، فأحببت أن أكون كما وصفني رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
ثم قال : رحم اللّه أبي زيداً ، كان واللّه أحد المتعبّدين ، قائم ليله ، صائم نهاره يجاهد في سبيل اللّه عزّ وجلّ حقّ جهاده. فقلت : يا ابن رسول اللّه هكذا يكون الاِمام بهذه الصفة. فقال : يا أبا عبد اللّه إنّ أبي لم يكن بإمام ولكن كان من سادات الكرام وزهادهم ، وكان من المجاهدين في سبيل اللّه ، وقد جاء عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيمن ادّعى الاِمامة كاذباً ، فقال : مه يا أبا عبد اللّه إنّ أبي عليه‌السلام كان أعقل من أن يدّعي ما ليس له بحقّ وإنّما قال : « أدعوكم إلى الرضا من آل محمد » عنى بذلك
__________________
١ ـ الخزاز : كفاية الأثر : ٣٠٦.
٢ ـ الخزاز : كفاية الأثر : ٣٠٧.
١٨٧
عمّي جعفر. قلت : فهو اليوم صاحب هذا الأمر؟ قال : نعم هو أفقه بني هاشم.
ثم قال : يا أبا عبد اللّه إنّي أُخبرك عن أبي عليه‌السلام وزهده وعبادته ، إنّه كان يصلّـي في نهاره ما شاء اللّه ، فإذا جنّ عليه الليل نام نومة خفيفة ، ثم يقوم فيصلّـي في جوف الليل ما شاء اللّه ، ثم يقوم قائماً على قدميه يدعو اللّه تبارك وتعالى ويتضرّع له ويبكي بدموع جارية حتى يطلع الفجر. فإذا طلع الفجر سجد سجدة. ثم يقوم يصلي الغداة إذا وضح الفجر ، فإذا فرغ من صلاته قعد في التعقيب إلى أن يتعالى النهار ، ثم يقوم في حاجته ساعة ، فإذا قرب الزوال قعد في مصلاه فسبح اللّه تعالى ومجّده إلى وقت الصلاة ، فإذا حان وقت الصلاة قام فصلى الأولى وجلس هنيئة وصلى العصر وقعد تعقيبه ساعة ، ثم سجد سجدة فإذا غابت الشمس صلى العشاء والعتمة. قلت : كان يصوم دهره؟ قال : لا ولكنه كان يصوم في السنة ثلاثة أشهر ويصوم في الشهر ثلاثة أيام. قلت : فكان يفتي الناس في معالم دينهم؟ قال : ما أذكر ذلك عنه. ثم أخرج إليّ صحيفة كاملة فيها أدعية علي بن الحسين عليهما‌السلام (١).
٨ ـ روى الخزاز في حديث طويل عن محمد بن بكير قال : دخلت على زيد بن علي وعنده صالح بن بشر فسلمت عليه وهو يريد الخروج إلى العراق فقلت له : يا بن رسول اللّه ... هل عهد إليكم رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متى يقوم قائمكم؟ قال : يا ابن بكير إنّك لن تلحقه ، وإنّ هذا الأمر تليه ستة من الأوصياء بعد هذا ثم يجعل اللّه خروج قائمنا ، فيملأها قسطاً وعدلاً ، كما ملئت جوراً وظلما ، فقلت : يا ابن رسول اللّه ألست صاحب هذا الأمر؟ فقال : أنا من العترة ، فعدت فعاد إليّ فقلت : هذا الذي تقول ، عنك أو عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فقال : لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير ، لا ولكن عهد عهده إلينا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم أنشأ يقول :
__________________
١ ـ الخزاز : كفاية الأثر : ٣٠٣.
١٨٨

نحن سادات قريش

وقوام الحقّ فينا
نحن أنوار التي من

قبل كون الخلق كنّا
نحن منّا المصطفى المختار

والمهدي منّا
فبنا قد عرف اللّه

وبالحق أقمنا
سوف يصلاه سعيراً من

تولى اليوم عنّا (١)
٩ ـ روى ابن شهر آشوب قال : ونسب إلى زيد أنّه رثا الباقرعليه‌السلام بهذه الأبيات:
ثوى باقر العلم في ملحد

إمامُ الورى طيب المولد
فمن لي سوى جعفر بعده

إمام الورى الأوحد الأمجد
أيا جعفر الخير أنت الاِمام

وأنت المرجى لبلوى غد (٢)

نصوص الاِمامية في تفسير خروجه :

نعم تفرقت الشيعة بعد استشهاده إلى فرقتين فرقة تقتفي زيد بن علي وتراه إماماً وفرقة أُخرى تقتفي الاِمام الصادق عليه‌السلام وكان بينهما نقاشات وخلافات نشبت من الجهل بموقف زيد ، ولو كان لهم علم به لما كان لهذا الانقسام وجه ، وقد أوضحه أعلام الاِمامية في كتبهم وإليك بعض كلماتهم :
١ ـ قال شيخنا المفيد في إرشاده وقال : واعتقد كثير من الشيعة فيه بالاِمامة وكان سبب اعتقادهم ذلك فيه خروجه بالسيف يدعو إلى الرضا من آل محمد
__________________
١ ـ الخزاز : كفاية الأثر : ٢٩٧.
٢ ـ ابن شهر آشوب : المناقب : ٤ / ١٩٧ طبعة بيروت. وقد مرّت الأشعار في الفصل الثالث أيضاً بمناسبة بيان خطبه وأشعاره.
١٨٩
فظنّوه يريد بذلك نفسه ، ولم يكن يريدها به لمعرفته باستحقاق أخيه عليه‌السلام للاِمامة من قبله ووصيته عند وفاته إلى أبي عبد اللّه (١).
٢ ـ قال أبو القاسم القمي الخزاز ـ بعد نقل كلام يحيى بن زيد ـ الذي تعرفت عليه : فإن قال قائل : فزيد بن علي إذا سمع هذه الأخبار وهذه الأحاديث من الثقات المعصومين وآمن بها واعتقدها. فلماذا خرج بالسيف وادّعى الاِمامة لنفسه وأظهر الخلاف على جعفر بن محمد وهو بالمحل الشريف الجليل ، معروف بالستر والصلاح ، مشهور عند الخاص والعام بالعلم والزهد ، وهذا ما لا يفعله إلاّ معاند أو جاحد ، وحاشا زيداً أن يكون بهذا المحل؟
فأقول في ذلك وباللّه التوفيق : إنّ زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام خرج على سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا على سبيل المخالفة لابن أخيه جعفر بن محمد عليهما‌السلام ، وإنّما وقع الخلاف من جهة الناس ، وذلك أنّ زيد بن علي عليه‌السلام لما خرج ولم يخرج جعفر بن محمد عليهما‌السلام توهم من الشيعة أنّ امتناع جعفر كان للمخالفة وإنّما كان لضرب من التدبير ، فلمّا رأى الذين صاروا للزيدية سلفاً قالوا : ليس الاِمام من جلس في بيته وأغلق بابه وأرخى ستره وإنّما الاِمام من خرج بسيفه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فهذا كان سبب وقوع الخلاف بين الشيعة ، وأمّا جعفر وزيد عليهما‌السلام فما كان بينهما خلاف.
والدليل على صحة قولنا قول زيد بن علي عليه‌السلام : « من أراد الجهاد فإليّ ومن أراد العلم فإلى ابن أخي جعفر » ولو ادّعى الاِمامة لنفسه لم ينف كمال العلم عن نفسه إذ الاِمام يكون أعلم من الرعية ، ومن المشهور قول جعفر عليه‌السلام « رحم اللّه عمي زيداً لو ظفر لوفاه إنّما دعا إلى الرضا من آل محمد وأنا الرضا » (٢).
__________________
١ ـ الاِرشاد : ٢٦٨ ، طبعة النجف الأشرف.
٢ ـ الخزاز القمي : كفاية الأثر : ٣٠١ ـ ٣٠٢.
١٩٠
٣ ـ قال شيخنا المجلسي : إعلم أنّ الأخبار اختلفت وتعارضت في أحوال زيد وأضرابه كما عرفت لكن الأخبار الدالة على جلالة زيد ومدحه ، وعدم كونه مدعياً لغير الحقّ أكثر ، وقد حكم أكثر الأصحاب بعلو شأنّه (١).
وقال أيضاً : « وكان يدعو إلى الرضا من آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّه كان عازماً على أنّه إن غلب على الأمر فوضه إلى أفضلهم وإليه ذهب أكثر أصحابنا ولم أر في كلامهم غيره (٢).
٤ ـ وقال الزنوزي في رياض الجنّة : إنّ زيد بن علي كان دائماً في فكر الانتقام والأخذ بثأر جده الحسين عليه‌السلام ومن هذه الجهة توهم بعضهم أنّه ادّعى الاِمامة وهذا الظن خطأ لأنّه كان عارفاً برتبة أخيه وكان حاضراً في وقت وصية أبيه ووضع أخيه في مكانه وكان متيقناً أنّ الاِمامة لأخيه وبعده للصادق عليه‌السلام (٣).
٥ ـ وعن السيد الجليل بهاء الدين علي بن عبد الحميد النبلي النجفي رضوان اللّه عليه في كتابه الأنوار المضيئة أنّه قال : زعم طوائف ممن لا رشد لهم أنّ زيد بن علي بن الحسين عليهم‌السلام خرج يدعو لنفسه وقد افتروا عليه الكذب ، وبهتوه بما لم يدّعه لأنّه كان عين إخوته بعد أبي جعفر عليه‌السلام وأفضلهم ورعاً وفقهاً وسخاءً وشجاعة وعلماً وزهداً وكان يُدعى حليف القرآن وحيث إنّه خرج بالسيف ودعا إلى الرضا من آل محمد زعم كثير من الناس لا سيما جهال أهل الكوفة هذا الزعم ، وتوهموا أنّه دعا إلى نفسه ولم يكن يريدها له لمعرفته باستحقاق أخيه الاِمامة من قبله وابن أخيه لوصية أخيه إليه بها من بعده ـ إلى أن قال : ـ وقد انتشرت الزيدية فكثروا وهم الآن طوائف كثيرة في كل صقع أكثرهم باليمن ومكة وكيلان (٤).
____________
١ و ٢ ـ المجلسي : البحار : ٤٦ / ٢٠٥ ومرآة العقول : ١ / ٢٦١.
٣ ـ السيد الأمين : زيد الشهيد : ٣٥ ، نقلاً عن رياض الجنّة وهي بعد مخطوطة.
٤ ـ المصدر نفسه : ٣٥ ـ ٣٦.
١٩١
٦ ـ وقال السيد صدر الدين : « لو لم يظهر الصادق عليه‌السلام عدم الرضا بخروجه ، ويصوب أصحابه في معارضتهم وإسكاتهم إياه ، ولم يجب بالاِبهام والاعجام عند السوَال عن خروجه ، لكان في ذلك نقض الغرض والتعريض بهلاك الاِمام (١).
٧ ـ قال السيد علي خان المشعشعي الحويزي في كلام له : « ولا ريب أنّ قصده ونيته إن استقام له الأمر إرجاع الحقّ إلى أهله ويدلّ على ذلك رضاهم عنه ، وإنّما لم يمنعه أبو عبد اللّه الصادق عليه‌السلام من الخروج مع علمه بأنّ هذا الأمر لا يتم له وأنّه يقتل لأنّهم عليهم‌السلام يعلمون ما يقع بهم وبذريتهم ، وماقدر لهم لأنّ عندهم علم ما كان وما يكون ، وكان يعلم أن لا مفر مما قدر فلا وجه للمنعاً (٢).
٨ ـ وقال المحقق المامقاني : « إنّما ادعى الاِمامة ليتبعوه فيستنقذ الحقّ من المتغلبين ، ثم يسلمه إلى أهله والظاهر أنّ هذا هو الضرب من التدبير الذي أشار إليه العياشي في كتابه مقتضب الأثر (٣).
لما كانت الروايات المروية عن زيد على قسمين ، قسم ورد التصريح فيه بأسماء الأئمه الاثني عشر كالرواية الرابعة وقسم أجمل فيه الكلام ، كسائر الروايات التالية ، علّق عليها السيّد عبد الرزاق المقرم بما يلي :
٩ ـ وقال السيّد المقرّم : وهذه الأحاديث وإن لم تصرح بأسماء الأئمّة الذين يلون الخلافة من عترة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لكن تفيدنا القطع ببراءته من تلك الدعاوى
__________________
١ ـ السيد صدر الدين بن الفقيه السيد محمد العاملي في تعليقته على ترجمة زيد من منتهى المقال وهي مخطوطة. لاحظ زيد الشهيد للسيد المقرم : ٨٧.
٢ ـ الحويزي : نكت البيان : كما في وقائع الأيام لشيخنا الخياباني قسم الصيام : ٤٤.
٣ ـ المامقاني : تنقيح المقـال : ١ / ٤٦٩ ـ ٤٧٠. ما نقله من كتـاب مقتضب الأثر للعياشي فإنّما هو الخزاز في كتابه : كفاية الأثر ، وليس في الكتاب الأوّل عين ولا أثر ممّا نقله.
١٩٢
الفارغة من كل حقيقة ، وأنّه طاهر الضمير ، قابل لاِيداع أسرار الاِمامة فيه ومع ملاحظة رواية ابنه يحيى (الرابعة) يتضح المراد مما أجمل في هذه الأحاديث.
ولو أعرضنا عن جميع ذلك لأفادنا اعترافه باستحقاق الصادق عليه‌السلام للخلافة بعد الباقر عليه‌السلام وأنّه الحجّة التي لايضل من تبعه ، ولا يهتدي من خالفه ، سلوكه المحجّة البيضاء والطريق اللاحب في الاِمامة. وهل يقع الشك في اعترافه بإمامة الصادق عليه‌السلام وهو يقول لعبد اللّه بن أبي العلاء (الرواية السادسة) وقد قال له : « أنت صاحب هذا الأمر ، قال : لا ولكنّي من العترة ـ قال له : ـ فإلى من تأمرني ، قال : عليك بصاحب الشعر ».
روى الكشي عن سورة بن كليب قال : قال لي زيد بن علي : ياسورة كيف علمتم أن أصاحبكم على ما تذكرونه؟
قال : قلت على الخبير سقطت. قال فقال : هات! فقلت له : كنّا نأتي أخاك محمد بن علي عليه‌السلام نسأله فيقول : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال اللّه عزّ وجلّ في كتابه حتى مضى أخوك فأتيناكم وأنت فيمن أتينا ، فتخبرونا ببعض ولا تخبرونا بكل الذي نسألكم عنه ، حتى أتينا ابن أخيك جعفراً فقال لنا كلما قال أبوه قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال تعالى ، فتبسّم وقال : أما واللّه إنّ قلت بذا فانّ كتب علي صلوات اللّه عليه عنده (١).
ثم إنّ السيد المقرم ـ بعد المناقشة في دلالة أو سند الروايات الذامّة ونقدها نقداً علمياً ـ يقول : « من جميع ما مر فقد تجلّـى الحقّ ، وانكشف بطلان دعواه الاِمامة لنفسه عن جد وعقيدة ، وما هي إلاّ أساطير لفقهاء دعاة الباطل للحطّ من كرامة تلك الذات الطاهرة بغضاً وعدواناً ، وإن تكن تلك الدعاوى ، فإنّما الغرض منها استنقاذه الحقّ من أيدي المتغلبين عليه ، ولاة الجور وأرباب الباطل وإعادته
__________________
١ ـ الكشي : الرجال : ترجمة سورة بن كليب برقم ٢٤٠.
١٩٣
إلى أهله كما يفصح عنه قول الصادق عليه‌السلام : « كان زيد عالماً وصدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه وإنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه » وهذا من أهم الوسائل إلى استحصال الحقّ المغصوب ، وإعادة سلطان العدل إلى أهله ، ولو أعلن الدعوة للاِمام الصادق ـ كما يريده ضعيف النظر ، قاصر البصيرة ، لرأيت هناك الأضرار البالغة التي تلحق الاِمام من أئمة الجور « تَكادُ السَّمواتُ يَتَفَطَّرنَ مِنهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخرُّ الجِبال » (١).
__________________
١ ـ السيد المقرم : زيد الشهيد : ٦٣ و ٨٦.
١٩٤

الفصل العاشر

موقف أئمة أهل البيت
من خروج زيد وجهاده
إنَّ موقف أئمة أهل البيت عليهم‌السلام من خروج ثائرهم ، كان إيجابياً ، لا سلبياً وكانوا يرون أنّ خروجه ونضاله ، مطابق للكتاب والسنّة ، بمعنى أنّ الخروج حين ذاك لم يكن تكليفاً إلزامياً على الاِمام ولا على غيره ، ولكنه لو خرج مسلم لاِزالة الطغاة عن منصّة الحكم ، وتبديد هياكل الفساد والظلم ، من دون أن يدعو إلى نفسه ، كان على المسلمين عونه ومناصرته ، وإجابة دعوته.
وكان خروج زيد على هذا الخط الذي رسمناه وهذا ما يستفاد من الروايات المستفيضة ، وإليك بعض ما وقفنا عليه :
١ ـ لمّا بلغ قتـل زيد إلى الاِمام الصـادق عليه‌السلام قال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، عند اللّه أحتسب عمي إنّه كان نعم العم. إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا ، مضى واللّه عمي شهيداً كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه وعلي والحسين صلوات اللّه عليهم » (١).
____________
١ ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٥٢ ح ٦ ، الباب ٢٥.
١٩٥
٢ ـ وقال أيضاً في حديث : « إنّ الباكي على زيد فمعه في الجنّة ، فإمّا الشامت فشريك في دمه » (١).
٣ ـ وقال الشيخ المفيد : لما قتل زيد بلغ ذلك من أبي عبد اللّه عليه‌السلام كل مبلغ ، وحزن له حزناً عظيماً حتى بان عليه وفرّق من ماله في عيال من أُصيب معه من أصحابه ألف دينار. روى ذلك أبو خالد الواسطي قال : سلّم إليَّ أبو عبد اللّه عليه‌السلام ألف دينار أمرني أن أُقسمها في عيال من أُصيب مع زيد ، فأصاب عيال عبد اللّه بن الزبير أخي فضيل الرسان أربعة دنانير (٢).
٤ ـ روى ابن سيابة قال : دفع إليّ أبو عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد عليهما‌السلام ألف دينار وأمرني ان أُقسمها في عيال من أُصيب مع زيد بن علي عليه‌السلام فقسمتها فأصاب عبد اللّه بن الزبير أخا فضيل الرسّان أربعة دنانير (٣).
٥ ـ روى الصدوق عن عبد اللّه بن سيابة أنّه أتى رسول بسـام الصيرفي بكتاب فيه : أمّا بعد ، فإنّ زيد بن علي قد خرج يوم الأربعاء غرة صفر ، ومكث الأربعاء والخميس وقتل يوم الجمعة ، وقتل معه فلان وفلان ، فدخلنا على الصادق عليه‌السلام فدفعنا إليه الكتاب ، فقرأه وبكى ، ثم قال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. عند اللّه أحتسب عمي ، إنّه نعم العم ، إنّ عمي كان رجلاً لدنيانا وآخرتنا ... » إلى آخر ما مر في الحديث الأوّل (٤).
٦ ـ روى ابن شهر آشوب بلغ الصادق عليه‌السلام قول الحكيم بن عباس الكلبي :
__________________
١ ـ بحار الأنوار : ٤٦ / ١٩٣ ح ٦٣.
٢ ـ المفيد : الاِرشاد : ٢٦٩ ، الباب ١٧٥ ، حياة الاِمام علي بن الحسين ، لاحظ الحديث العاشر أيضاً.
٣ ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٩ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ١٧٠.
٤ ـ الصدوق : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٤٩ ؛ الباب ٢٥.
١٩٦

صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

ولم أر مهدياً على الجذع يصلب
وقستم بعثمان علياً سفاهة

وعثمان خير من علي وأطيب
فرفع الصادق عليه‌السلام يديه إلى السماء وهما يرعشان. فقال : « اللهم إن كان عبدُك كاذباً فسلط عليه كلبك » ، فبعثه بنو أُمية إلى الكوفة فبينما هو يدور في سككها افترسه الأسد واتصل خبره بجعفر عليه‌السلام ، فخر للّه ساجداً ، ثم قال : « الحمد للّه الذي أنجزنا وعده » (١).
٧ ـ روى الصدوق في معاني الأخبار ، قال : كنّا عند أبي عبد اللّه فذكر زيد ، ومن خرج معه ، فهمَّ بعض أصحاب المجلس أن يتناوله ، فانتهره أبو عبد اللّه ، وقال : « مهلاً ليس لكم أن تدخلوا فيما بيننا إلاّ بسبيل خير ، إنّه لم تمت نفس منّا إلاّ وتدركه السعادة قبل أن تخرج نفسه ولو بفواق الناقة » قلت : وما فواق الناقة؟ قال : « حلابها » (٢).
٨ ـ روى الحلبي : قال قال أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « إنّ آل أبي سفيان : قتلوا الحسين بن علي ( صلوات اللّه عليه ) فنزع اللّه ملكهم ، وقتل هشام زيد بن علي فنزع اللّه ملكه ، وقتل الوليد يحيى بن زيد فنزع اللّه ملكه » (٣).
٩ ـ روى الصدوق بإسناده عن الفضيل بن يسار قال : انتهيت إلى زيد بن علي صبيحة يوم خرج بالكوفة ، فسمتعه يقول : من يعينني منكم على قتال أنباط أهل الشام؟ فو الذي بعث محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالحقّ بشيراً ونذيراً لا يعينني على قتالهم منكم إلاّ أخذت بيده يوم القيامة ، فأدخلته الجنّة بإذن اللّه تعالى ، فلمّا قتل ـ رضي اللّه عنه ـ اكتريت راحلة وتوجهت نحو المدينة فدخلت
__________________
١ ـ المناقب : ٣ / ٣٦٠ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ١٩٢.
٢ ـ معاني الأخبار : ٣٩٢ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ١٧٩.
٣ ـ الصدوق : ثواب الأعمال وعقابها : ١٩٨ ، بحار الأنوار : ٤٦ / ١٨٢.
١٩٧
على أبي عبد اللّه فقلت في نفسي واللّه لا أخبرته بقتل زيد فيجزع عليه ، فلما دخلت عليه قال : « ما فعل بعمي زيد؟! » فخنقتني العبرة ، فقال : « قتلوه؟ » قلت : أي واللّه قتلوه ، قال : « فصلبوه؟ » قلت : أي واللّه فصلبوه ، فأقبل يبكي ودموعه تنحدر من جانب خده كأنّها الجمان ثم قال : « يافضيل شهدت مع عمي زيد قتال أهل الشام؟ » قلت : نعم ، قال : « فكم قتلتَ منهم؟ » قلت : ستة ، قال : « فلعلك شاك في دمائهم؟ » فقلت : لو كنت شاكاً في دمائهم ماقتلتهم ، فسمتعه يقول : « أشركني اللّه في تلك الدماء ، مضى واللّه عمي وأصحابه مثل مامضى عليه علي بن أبي طالب عليه‌السلام وأصحابه » (١).
١٠ ـ وروى الصـدوق عن حمزة بن حمران قـال : دخلت على الصادق عليه‌السلام فقال لي : « يا حمزة من أين أقبلت؟ » فقلت : من الكوفة ، فبكى حتى بلّت دموعه لحيته!فقلت له : يا بن رسول اللّه! مالك أكثرت من البكاء؟ فقال : « ذكرت عمي زيد وماصنع به فبكيت » فقلت له : وما الذي ذكرت منه؟ قال : مقتله وقد أصاب جبينه سهم ، فجاءه ابنه يحيى فانكب عليه وقال له : أبشر يا أبتاه! فإنّك ترد على رسول اللّه وعلي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام قال : أجل يابنيّ! ثم دعا بحدّاد فنزع السهم من جبينه ، فكانت نفسه معه ، فجيء به إلى ساقية تجري عند بستان زائدة ، فحفر له فيها ودفن وأُجري عليه الماء ، وكان معهم غلام سنديّ لبعضهم ، فذهب إلى يوسف بن عمر ـ لعنه اللّه ـ من الغد ، فأخبره بدفنهم إيّاه ، فأخرجه يوسف وصلبه في الكناسة أربع سنين ، ثم أمر به فأُحرق بالنار وذري في الرياح ، فلعن اللّه قاتله وخاذله ، وإلى اللّه جل اسمه أشكو ما نزل بنا أهل بيت نبيه بعد موته ، وبه نستعين على عدونا وهو خير مستعان (٢).
__________________
١ ـ عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ٢٥٣.
٢ ـ أمـالي الصـدوق : ٣٢١ ، المجلـس : ٦٢ ح ٣ ؛ وأمـالي الطوسـي : ٢ / ٤٨ ؛ والمجلـسي : البحـار : ٤٦ / ١٧٢.
١٩٨
١١ ـ قال الصادق عليه‌السلام لأبي ولاّد الكاهلي : « رأيت عمي زيداً؟ » قال : نعم رأيته مصلوباً ، ورأيت الناس بين شامت وبين محزون محترق ، فقال : « أمّا الباكي فمعه في الجنّة وأمّا الشامت فشريك في دمه » (١).
١٢ ـ روى الراوندي عن الحسن بن راشد قال : ذكرت زيد بن علي فتنقَّصته عند أبي عبد اللّه عليه‌السلام فقال : « لاتفعل ، رحم اللّه عمي أتى أبي ، فقال : إنّي أُريد الخروج على هذا الطاغية. فقال : لاتفعل ، فإنّي أخاف أن تكون المقتول المصلوب على ظهر الكوفة ـ إلى أن قال الاِمام عليه‌السلام للحسن : ـ ياحسن إنّا أهل بيت لا يخرج أحدنا من الدنيا حتى يقرّ لكل ذي فضل فضله » (٢).
١٣ ـ روى الصدوق عن أبي عبدون عن أبيه قال : لمّا حمل زيد بن موسى بن جعفر إلى المأمون ، وكان قد خرج بالبصرة ، وأحرق دور ولد العباس ، ووهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقال له : لئن خرج أخوك وفعل ما فعل ، لقد خرج من قبله زيد بن علي فقتل ولولا مكانتك لقتلته فليس ما أتاه بصغير! فقال : عليه‌السلام له :
« لا تقس أخي زيداً إلى زيد بن علي فإنّه كان من علماء آل محمد عليهم‌السلام غضب له ، فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله ، ولقد حدثني أبي موسى بن جعفر أنّه سمع أباه جعفر بن محمد يقول : رحم اللّه عمي زيداً إنّه دعا إلى الرضا من آل محمد ولو ظفر لوفى بما دعا إليه ، ولقد استشارني في خروجه فقلت له : ياعم إن رضيت أن تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك ، فلما ولي قال جعفر بن محمد عليه‌السلام : ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه ».
فقال المأمون : أليس قد جاء في من ادّعى الاِمامة بغير حقها ما جاء؟ فقال :
__________________
١ ـ الأربلي : كشف الغمة : ٢ / ٤٤٢.
٢ ـ الخرائج والجرائح : ٢٣٢ ، البحار : ٤٦ / ١٨٥.
١٩٩
عليه‌السلام : « إنّ زيد بن علي لم يدع ما ليس له بحق ، وإنّه كان أتقى من ذلك ، إنّه قال : أدعوكم إلى الرضا من آل محمد عليهم‌السلام إنّما جاء ما جاء في من يدّعي أنّ اللّه نصَّ عليه ، ثم يدعو إلى غير دين اللّه ويضل عن سبيله بغير علم ، وكان زيد بن علي واللّه ممن خوطب بهذه الآية :
( وَجاهِدُوا فِي اللّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجتَباكُم ) » (١).
١٤ ـ روى الشيخ الطوسي عن مهزم بن أبي بردة الأسدي قال : دخلت المدينة حِدثان صلب زيد ـ رضي اللّه عنه ـ فدخلت على أبي عبد اللّه عليه‌السلام فساعة رآني قال : « يامهزم ما فعل بزيد؟ » قال : قلت : صلب ، قال : « أين؟ » قال : قلت : في كناسة بني أسد ، قال : « أنت رأيته مصلوباً في كناسة بني أسد؟ » قال : قلت : نعم ، قال : فبكى حتى بكت النساء خلف الستور ثم قال : « أما واللّه لقد بقي لهم عنده طلبة ما أخذوها منه بعد » قال فجعلت أُفكر وأقول أي شيءٍ طلَبتهم بعد القتل والصلب؟ قال : فودعته وانصرفت حتى انتهيت الكناسة ، فإذا أنا بجماعة فأشرفت عليهم ، فإذا زيد قد أنزلوه من خشبته يريدون أن يحرقوه قال قلت : هذه الطلبة التي قال لي (٢).
١٥ ـ روى الكليني عن سليمان بن خالد قال : قال لي أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « كيف صنعتم بعمي زيد؟ » قلت : إنّهم كانوا يحرسونه فلما شفّ الناس أخذنا خشبته فدفناه في جرف على شاطيء الفرات فلما أصبحوا جالت الخيل يطلبونه فوجدوه فأحرقوه فقال : « أفلا أوقرتموه حديداً وألقيتموه في الفرات ـ صلى اللّه عليه ـ » ولعن قاتله (٣).
__________________
١ ـ الصدوق : عيون الأخبار : ١ / ٢٤٩ ، الباب ٢٥.
٢ ـ الطوسي : الأمالي : ٦٨٢.
٣ ـ الكليني : الكافي : ٨ / ١٦١.
٢٠٠
١٦ ـ روى الكليني عن الحسن بن الوشاء عمن ذكره عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام قال : « إنّ اللّه عزّ وجلّ أذن في هلاك بني أُمية بعد إحراقهم زيداً بسبعة أيام » (١).
١٧ ـ روى أيضـاً عن أبـي هاشـم الجعفري قـال : سـألـت الرضا عن المصلوب؟ فقال : « أما علمت أنّ جدي صلّـى على عمه » (٢).
١٨ ـ روى الكشـي في ترجمة السيـد الحميري عن فضيل الرسان ، قال : دخلت على أبي عبد اللّه عليه‌السلام بعد ماقتل زيد بن علي عليه‌السلام فادخلت بيتاً في جوف بيت ، وقال لي : « يا فضيل ، قتل عمي زيد بن علي؟ » قلت : نعم جعلت فداك ، فقال : « رحمه‌الله ، أما إنّه كان موَمناً وكان عارفاً وكان عالماً ، وكان صدوقاً ، أما إنّه لو ظفر لوفى ، أما إنّه لو ملك لعرف كيف يضعها ، قلت : ياسيدي ألا أُنشدك شعراً؟ قال : « أمهل » ثم أمر بستور فسدلت ، وبأبواب فتحت ، ثم قال : « أنشد » فأ نشدته :
لأمّ عمرو باللوى مربع

طامسة أعلامها بلقع (٣)
هذه نماذج مما ورد عن أئمة أهل البيت حول جهاد زيد واستشهاده ، ولو ضمت إليها ما ورد عنهم من المدائح حال حياته وقبل ميلاده ، مما تقدم لما بقي شك في أنّ ثائر أهل البيت كان رجلاً مثالياً متقياً ، عادلاً ، مخالفاً لهواه ، لايهمه سوى تجسيد الاِسلام بين الورى ، وتبديد هياكل الظلم والطغيان.
يقول السيد المقرم ـ بعد نقل الأحاديث المادحة ـ : « على ضوء هذه
____________
١ ـ الكليني : الكافي : ٨ / ١٦١.
٢ ـ الكليني : الكافي : ٣ / ٢١٥.
٣ ـ الكشي : الرجال : ٢٤٢ برقم ١٣٣ ، وذكر قسماً من عينية السيد الحميري المعروفة.
٢٠١
الأحاديث الكريمة نعرف من الحقيقة أنصعَها ويتجلّـى من أعماق الأصداف لوَلوَها ، وانّ تلك الشخصية الشامخة على سبب وثيق من معادن الحقّ ، وذات كرامة قدسية تهبط من الملأ الأعلى ، وأنّ الأئمّة الهداة يتفألون من غرة تلك النهضة الهاشمية أن يعود الحقّ إلى نصابه ، وهي القوة التي تتحطم بها هياكل الباطل وتعقد عليها الآمال ، وهي التي أظهرت مظلومية الأئمّة ، ومثّلت للملأ أحقيتهم بالخلافة ، من غيرهم ذوي الأطماع وأرباب الشهوات ، وانكشف لنا بكل وضوح امتثاله أمر الاِمام في نقض دعائم الاِلحاد وتبديد جيش الظلم والباطل ، وتفريق جماهير الشرك وأحزاب الضلال ، وعبدة المطامع والأهواء ، خصوصاً إذا قرأنا قول الباقر عليه‌السلام : « ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه » وقول الصادق عليه‌السلام : « إذا دعاكم فأجيبوه وإذا استنصركم فانصروه » وقوله : « أشركني اللّه في تلك الدماء » وقوله عندما سئل عن مبايعته : « بايعوه » وقوله : « خرج على ما خرج عليه آباوَه » وقوله : « برىَ اللّه ممن تبرّأ من عمي زيد ». فإنّ هذه الأحاديث تدلنا على أنّه لم يقصد إلاّ إصلاح أُمّة جده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يدع إلاّ إلى سبيل ربّه بالحكمة والموعظة الحسنة.
وهناك جملة أُخرى من الأحاديث حكت لنا مقايسة الاِمام عليه‌السلام شهادة زيد بالشهداء الذين استشهدوا مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلي والحسين عليهما‌السلام وقد استشهد هنالك رجال كانت لهم منازل عالية ومقامات رفيعة يغبطهم عليها جميع الشهداء ، وقد نال زيد بذلك التشبيه والمقايسة تلك المراتب العاليه وحاز ذلك الشرف الباهر ، فحقيق إذاً إذا قال الباقر عليه‌السلام في دعائه : « اللهم أُشدد أزري بزيد » ، وقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يأتي زيد وأصحابه يوم القيامة يتخطّون رقاب الناس غُرّاً محجلين يدخلون الجنّة بغير حساب ، وكانوا فرحين مسرورين بما أُوتي لهم من النعيم الدائم » (١).
__________________
١ ـ المقرم : زيد الشهيد : ٥٩.
٢٠٢

الفصل الحادي عشر

الخط الثوري
المدعَم من قبل أئمة أهل البيت
كان الاِمام الصادق عليه‌السلام يعيش في جو مفعم بالمراقبة والملاحقة من جانب الحكومة الأموية وكانت عيون النظام ترصده عن كثب وترفع تقارير عن حياته اليومية إلى العاصمة ، ولأجل ذلك كان الاِمام يتجنب عن التظاهر بأية ثورة ضد النظام إذ نتيجة ذلك هو إلقاء القبض على الاِمام ، وإنهاء حياته ، وإطفاء نور الاِمامة والقضاء على الجامعة العلمية التي أسسها الاِمام في عاصمة الاِسلام وربّى في حجره وحضنه مئات المفسرين والمحدثين وقد أعاد بذلك ، السنّة النبوية والأحكام الشرعية إلى الساحة الاِسلامية بعد اندراسها ، كما فعل أبوه الاِمام الباقر عليه‌السلام كذلك ، وفي القضاء على حياته أو الحيلولة بينه وبين الأمّة خسارة كبرى لا تجبر بشهادته.
ومن جانب آخر ، كان خروج زيد الثائر مورد الرغبة من الاِمام فكيف لا يرضى بذلك وهو يثير المسلمين ضد النظام ويحرضهم على تقويضه وقلبه ، وهي خطوة كبرى للمنية العظيمة.
٢٠٣
وبملاحظة هذين الأمرين يعلم أنّه لم يكن للاِمام بد من الاِبهام في الكلام بشكل تفهم البطانة موقفه من استشهاده ويتحيّر الأجانب فيه ، وهذا هو السبب لوجود الاِبهام والاِعجام في كلامه.
ففي موقف يبكي على عمّه ويسيل دموعه على خديه ، وتبكي من كانت وراء الستار من الهاشميات ، يُعرِّف عمّه شهيداً ويعرّف الشهداء في موكبه كالشهداء الذين أراقوا دماءهم مع رسول اللّه وعلي والحسين عليهم‌السلام وربما يزيد على ذلك ويقول : « إنّ الباكي على زيد معه في الجنّة والشامت له شريك في دمه » إلى غير ذلك من الاِطراء والثناء على عمّه والذين استشهدوا في طريقه (١).
وفي موقف آخر يتظاهر بالابتعاد عن خروج زيد واستشهاده ، فكل من يرد عليه من الكوفة يسأله عن عمه ويكرر السوَال ، وكأنّه لم يكن مطلعاً عما جرى عليه من المصائب ، كل ذلك كان ضرباً من التدبير للاِمام عليه‌السلام فأي رضى أولى من دعائه على الحكيم بن عباس الذي أنشأ شعراً في حقّ زيد ، وقال :
صلبنا لكم زيداً على جذع نخلة

ولم أر مهدياً على الجذع يصلب
فرفع الصادق عليه‌السلام يديه إلى السماء وهما ترتعشان ، وقال : « اللهم إن كان عبدك كاذباً فسلط عليه كلبك » (٢).
إنّ بقاء الاِسلام رهن دعامتين :
الأولى : التعليم والتربية وتثقيف الأمّة ووعيها وتعليم الكتاب والسنة وغير ذلك مما يرجع إلى الثقافة الاِسلامية العامة.
الثانية : إصلاح المجتمع والحفاظ على البيئة وتفويض الأمر إلى صلحاء
__________________
١ ـ أُنظر إلى الروايات الواردة تحت « عنوان موقف الأئمّة من استشهاده » في هذا الجزء.
٢ ـ مضى مصدره في ص ١٩٧ ، الرواية السادسة ، فراجع.
٢٠٤
الأمّة الذين عليهم تجسيد الاِسلام في الساحة الاجتماعية ولايتم ذلك إلاّ بالكفاح ضدَّ الظالمين وإبادتهم وتسليم الأمر إلى صلحاء الأمّة.
وكانت المصالح الزمنية تفرض الأمر الأوّل على عاتق الاِمام الصادق عليه‌السلام إذ كان هو عالم الأمّة وراعيها ، والواقف بأسرار الكتاب والسنّة ، ولولاهما لما قامت هذه الدعامة وسقطت يومذاك ، وأمّا الدعامة الثانية فكان على عاتق زيد الثاثر ، والثائرون بعده على خط الاِمام زيد كيحيى بن زيد ، وعيسى بن زيد ، والحسين بن زيد ، ومحمد بن زيد (دون الحسنيّين الذين ثاروا في عصر العباسيين) وكانوا هم القائمون بهذه الفريضة فكيف يمكن للاِمام أن يُخطّئهم من صميم ذاته لذلك يرى أنّه يصف الزيدية ، وقاء ، ويقول لأصحابه : كفوا ألسنتكم والزموا بيوتكم فإنّه لا يصبكم أمر تخصون به أبداً ولا تزال الزيدية لكم وقاءً أبدا (١).
إنّ بعض المتحمسين من الشبان في عصر الاِمام الصادق عليه‌السلام كانوا يفرضون عليه أن يودع زيداً عند الوفود إلى العراق ، ويدعو له ويتظاهر بدعم نضاله وجهاده وعندما بلغه استشهاده ، يعلن الحداد العام ويجلس في بيته للعزاء وما أشبه ذلك ، لكن كانت هذه أفكاراً فوضوية تختمر في صدور أُناس لم يكن لهم إلمام بالظروف المحدقة بالاِمام ، فما قام به الاِمام من السير بين الخطين كان هو الموَمّن لحياته ، ونضاله العلمي وخدماته المشكورة ولم يكن القضاء على حياة الاِمام الصادق عليه‌السلام وجامعته العلمية عند الخلفاء أشد من القضاء على حياة زيد الثائر.
وفي نهاية المطاف نقول : لم يكن قيام زيد وخروجه أقل قيمة من خروج المختار الثائر ، نرى أنّ الاِمام علي بن الحسين وعمه محمد بن الحنفية والهاشميات يخرجون من حدادهم على الاِمام الحسين عليه‌السلام عندما
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ٢ / باب التقية ، الحديث ١٣.
٢٠٥
بعث المختار بروَوس الخونة وقتلة الاِمام الحسين عليه‌السلام حتى أنّ الاِمام السجاد عليه‌السلام يخر ساجداً ويعد عمل المختار مشكوراً ، فأين المختار من زيد الثائر وإن كان عمل الجميع مشكوراً.
ومع أنّ الاِمام الصادق عليه‌السلام قام بمواقف مشكورة في عيال زيد ، ومن أُصيب معه ، ولكن لما كان المتطرفون غير راضين بهذا الحد ، وكانوا يطلبون من الاِمام نضالاً باهراً مثل زيد ، فقاموا بوجه الاِمام عليه‌السلام في مواقف عديدة لم تكن محمودة ، ولو نرى في بعض الأحاديث أنّ الاِمام يتبرّأ من الزيدية فإنّما تبرّأ من المتطرفين غير العارفين بالمواقف الصحيحة في تلك الأيام الخطيرة لا من زيد الثائر ، ولا المستشهدين بين يديه ولا المقتفين أثره بعد استشهاده ، عارفين بواجباتهم وواجبات أئمة أهل البيت ، وبذلك تقدر على فهم الروايات الواردة في ذم بعض الزيدية فليس الذم راجعاً إلى زيد الطاهر ، ولا إلى المقتفين أثره في ميدان النضال ، ولا إلى مجيبيه بل راجع إلى المتطرفين المنتمين إليه ، وكان هو ـ قدّس اللّه سرّه ـ بريئاً عنهم. فلنذكر بعضها إيقافاً للقارىء بمفادها :
١ ـ عن عمر بن يزيد قال : سألته عن الصدقة على النصَّاب وعلى الزيدية؟ فقال : « لا تصدق عليهم بشيء ولا تسقهم من استطعت » وقال : « الزيدية هم النصاب » (١).
٢ ـ قد كان من المعروف أنّ الاِمام من كان عنده سلاح رسول اللّه ومتاعه وكان ذلك كلّه عند الاِمام الصادق عليه‌السلام كما سنذكر ، وقد كان ذلك الأمر ثقيلاً على بعض الزيدية ، فكانوا يحاجون الاِمام الصادق عليه‌السلام وينكرون وجود السلاح ومتاع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنده ويقولون : إنّه عند عبد اللّه بن الحسن المثنى.
__________________
١ ـ الحر العاملي : وسائل الشيعة : ٦ / كتاب الزكاة ، الباب ٥ من أبواب المستحقين ، الحديث ٥ ، لاحظ التهذيب : ٤ / ٥٤ ، الحديث ١٢.
٢٠٦
روى الكليني عن سعيد السمان ، قال : كنت عند أبي عبد اللّه عليه‌السلام إذ دخل عليه رجلان من الزيدية ، فقالا له : أفيكم إمام مفترض الطاعة؟ قال : فقال : « لا » (١) ، قال : فقالا له : قد أخبرنا عنك الثقات إنك تفتي ، وتقر وتقول به (بأنّ فيكم إماماً مفترض الطاعة) ونسمّيهم لك فلان وفلان وهم أصحاب ورع وتشمير وهم ممّن لا يكذب ، فغضب أبو عبد اللّه عليه‌السلام فقال : « ما أمرتهم بهذا » (بوجود إمام مفترض الطاعة) فلما رأيا الغضب في وجهه خرجا ، فقال لي : « أتعرف هذين؟ » قلت : نعم هما من أهل سوقنا ، وهما من الزيدية ، وهما يزعمان أنّ سيف رسول اللّه عند عبد اللّه بن الحسن ، فقال : « كذبا لعنهما اللّه واللّه ما رآه عبد اللّه بن الحسن بعينيه ولا بواحدة من عينيه ولا رآه أبوه. اللّهم إلاّ أن يكون رآه عند علي بن الحسين عليه‌السلام ... » (٢).
ترى أنّ موقف الرجلين أمام الاِمام الصادق عليه‌السلام هو موقف أخذ الاِقرار منه بإمامة زيد ومن بعده وتكذيب إمامته وقيادته وأنّه ليس عنده سلاح رسول اللّه ولا متاعه فلم يكن بد من الاِمام عليه‌السلام من التعرض عليهم.
والذي يدلّ على ذلك ما رواه الكليني عن إسماعيل بن محمد بن عبد اللّه بن علي بن الحسين عليه‌السلام عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : لما حضر علي بن الحسين الوفاة قبل ذلك أخرج سفطاً أو صندوقاً عنده قال : يا محمد احمل هذا الصندوق. قال : فحمل بين أربعة فلما توفي جاء إخوته يدعون [ ما ] في الصندوق ، فقالوا : أعطنا نصيباً من الصندوق ، فقال : واللّه مالكم فيه شيء ، ولو كان لكم فيه شيء ما دفعه إليّ ، فكان في الصندوق سلاح رسول اللّه وكتبه (٣).
__________________
١ ـ قاله عليه‌السلام تقية أو تورية اتّقاء شرهما.
٢ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٢٣٢ ـ ٢٣٣ ، كتاب الحجّة ، باب ما عند الأئمّة من سلاح رسول اللّه ومتاعه.
٣ ـ الكافي : ١ / ٣٠٥ ، كتاب الحجّة ، باب الاِشارة والنص على أبي جعفر عليه‌السلام ، الحديث ١.
٢٠٧
وفي رواية أُخرى : التفت علي بن الحسين إلى ولده وهو في الموت وهم مجتمعون عنده ، ثم التفت إلى محمد بن علي ، فقال : « يامحمد هذا الصندوق ، اذهب به إلى بيتك ، قال : أما إنّه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكن كان مملوءاً علماً » (١).
٣ ـ روى الكليني عن عبد اللّه بن المغيرة قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : إنّ لي جارين أحدهما ناصب ، والآخر زيدي ولابد من معاشرتهما فمن أُعاشر؟ فقال : « هما سيّان ، من كذَّب بآية من آيات اللّه فقد نبذ الاِسلام وراء ظهره ، وهو المكذب بجميع القرآن والأنبياء والمرسلين » قال : ثم قال : « إنَّ هذا نصب لكم ، وهذا الزيدي نصب لنا » (٢).
فكما أنّ المتشابه من الآيات تردّ على المحكمات وتستوضح بها ، فهكذا الخبر المتشابه يفسر بالمحكم منه ، فأين استرحامه لعمه وبكاءه عليه ، ودعاءه على شاعر السوء ، من هذه التعرضات والنقاشات ، فتحمل الطائفة الثانية ، على المتطرفين غير العارفين بمقام الاِمام الصادق عليه‌السلام مضافاً إلى أنّ في مضمونهما من القرائن المثبتة. فلاحظ.

الخط الثوري الثابت لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام :

كان لزيد عند الاِمام الصادق عليه‌السلام ، حساب خاص لا يعدل به إلى غيره ، ويفضّله على الهاشميين ويتلقاه عالماً صدوقاً ، غير متجاوزٍ عن طريق الحقّ وكان يعلن على أصحابه ، أنّه لو ظفر لوفى بما نوى ودعا إليه ، ولأجل ذلك ليس من البعيد أن يقال إنّه كان مأذوناً من قبل الاِمام سراً كما نقله شيخنا المجلسي (٣)
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٣٠٥ ، كتاب الحجّة ، باب الاِشـارة والنـص على أبي جعفر عليه‌السلام ، الحديث ٢.
٢ ـ الكليني : الكافي : ٨ / ٢٣٥ ، برقم ٣١٤.
٣ ـ المجلسي : مرآة العقول : ١ / ٢٦١.
٢٠٨
ويكفي في المقام ما يرويه الكليني : عن عيص بن القاسم ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « فانظروا على أي شيء تخرجون ولاتقولوا خرج زيد ، فإنّ زيداً كان عالماً وكان صدوقاً ولم يدعكم إلى نفسه إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد عليهم‌السلام ولو ظهر لوفى بما دعاكم إليه ، إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه فالخارج منا اليوم إلى أي شيء يدعوكم ، إلى الرضا من آل محمد عليهم‌السلام فنحن نشهدكم أنّا لسنا نرضى به وهو يعصينا اليوم » (١).
ولم يكن له ذلك الموقف مع الحسنيّين الذين خرجوا ، بعد زيد وابنه يحيى ، وصاروا أئمة للزيدية للفرق الواضح بين زيد وابنه ، وبين بني عبد اللّه بن الحسن ، أعني :
١ ـ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب المعروف بالنفس الزكية خرج بالمدينة لليلتين بقيتا من جمادي الآخرة من سنة خمسة وأربعين ومائة وقتل في شهر رمضان تلك السنة قتله أبو جعفر المنصور.
٢ ـ إبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن ، خرج بالبصرة وقتل هناك في نفس السنة التي قتل فيها أخوه محمد بن عبد اللّه ، وأُخذ رأسه وحمل إلى أبي جعفر المنصور ودفن بباخمرى.
وسيوافيك ترجمتهم في القسم الثاني من الكتاب.
والذي يعرب عن ذلك ما رواه أبو الفرج في كتابه عن عبد اللّه بن محمد بن علي ، قال : إنّ جماعة من بني هاشم اجتمعوا بالأبواء وفيهم :
١ ـ إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.
٢ ـ وأبو جعفر المنصور.
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ٨ / ٢٦٤ ، برقم ٣٨١.
٢٠٩
٣ ـ وصالح بن علي.
٤ ـ وعبد اللّه (١) بن الحسن بن الحسن بن علي.
٥ ـ ومحمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.
٦ ـ وإبراهيم بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي.
٧ ـ ومحمد بن عبد اللّه بن عمرو بن عثمان.
فقال صالح بن علي : قد علمتم أنّكم الذين تمد الناس أعينهم إليهم ، وقد جمعكم اللّه في هذا الموضع ، فاعقدوا بيعة لرجل منكم ، تعطونه إياها من أنفسكم وتوافقوا على ذلك ، حتى يفتح اللّه وهو خير الفاتحين.
فحمد اللّه عبد اللّه بن الحسن وأثنى عليه ثم قال : قد علمتم أنّ ابني هذا هو المهدي فهلم لنبايعه.
وقال أبو جعفر : لأيّ شيء تخدعون أنفسكم ، واللّه لقد علمتم ما الناس إلى أحدٍ أصور (٢) أعناقاً ، ولا أسرع إجابة منهم إلى هذا الفتى ، يريد به محمد بن عبد اللّه (٣) ، قالوا : قد واللّه صدقت ، إنّ هذا الذي نعلم ، فبايعوا محمداً جميعاً ومسحوا على يده.
قال عيسى (٤) : وجاء رسول عبد اللّه بن الحسن إلى أبي : أن أئتنا ، فإنّا مجتمعون لأمر ، وأرسل بذلك إلى جعفر بن محمد عليه‌السلام.
وقال غير عيسى : إنّ عبد اللّه بن الحسن قال لمن حضر : لاتريدوا جعفراً فإنّا
__________________
١ ـ وعبد اللّه بن الحسن كان أكبر سناً من الاِمام الصادق عليه‌السلام وكان من مواليد عام سبعين من الهجرة.
٢ ـ أصور : بمعنى (أميل) كما في مكان آخر من مقاتل الطالبيين ص ٢٥٧ وفي الاِرشاد (أطول).
٣ ـ أُنظر إلى هذا الخداع السياسي والنفاق المبطن فيصوره المنصور في هذا المجلس بما سمعت ، ثم بعد تصدّره منصّة الحكم يقتله.
٤ ـ عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي.
٢١٠
نخاف أن يفسد عليكم أمركم.
قال عيسى بن عبد اللّه بن محمد : فأرسلني أبي أنظر ما اجتمعوا له؟ فجئتهم فإذا بمحمد بن عبد اللّه يصلي على طنفسة رجل مثنية فقلت لهم : أرسلني أبي إليكم أسألكم لأيّ شيء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد ابن عبد اللّه.
قال : وجاء جعفر بن محمد عليه‌السلام ، فأوسع له عبد اللّه بن الحسن إلى جنبه فتكلم بمثل كلامه.
فقال جعفر عليه‌السلام : « لاتفعلوا فإنّ هذا الأمر لم يأت بعد ، إن كنت ترى ـ يعني عبد اللّه ـ أنّ ابنك هذا هو المهدي فليس به ، ولا هذا أوانه ، وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، فإنّا واللّه لاندعك وأنت شيخنا ونبايع ابنك في هذا الأمر » (١).
فغضب عبد اللّه بن الحسن ، وقال : لقد علمتُ خلاف ما تقول ، [ واللّه ما أطلعك على غيبه ] ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.
فقال : « واللّه ما ذاك يحملني ، ولكن هذا وإخوته وأبناوَهم دونكم » وضرب بيده على ظهر أبي العباس (٢) ، ثم ضرب بيده على كتف عبد اللّه بن الحسن ، وقال : « إنّها واللّه ما هي إليك ولا إلى ابنيك ، ولكنها لهم ، وإن ابنيك لمقتولان ». ثم نهض فتوكأ على يد عبد العزيز بن عمران الزهري فقال : أرأيت صاحب الرداء الأصفر ـ يعني أبا جعفر ـ؟ فقال له : نعم ، قال : قال : « إنّا واللّه نجده يقتله » قال له عبد العزيز : أيقتل محمداً؟ قال : « نعم » ، فقلت في نفسي : حسده ورب الكعبة ، ثم قال : واللّه ما خرجت من الدنيا حتى رأيته قتلهما.
____________
١ ـ بما أنّه أمير الجهاد ، لا إمام الفقه والاجتهاد ولا الاِمام المفترض الطاعة.
٢ ـ إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد اللّه بن عباس.
٢١١
قال : فلمّا قال جعفر عليه‌السلام ذلك ونهض القوم وافترقوا ، تبعه عبد الصمد وأبو جعفر فقالا : يا أبا عبد اللّه أتقول هذا؟ قال : « نعم أقوله واللّه وأعلمه » (١).
قال أبو الفرج : وحدثني علي بن العباس المقانعي قال : أخبرنا بكار بن أحمد قال : حدثنا الحسن بن الحسين ، عن عنبسة بن نجاد العابد قال : كان جعفر بن محمد عليهما‌السلام إذا رأى محمد بن عبد اللّه بن الحسن تغرغرت عيناه ثم يقول : « بنفسي هو ، إنّ الناس ليقولون فيه ، وإنّه لمقتول ، ليس هو في كتاب علي عليه‌السلام من خلفاء هذه الأمّة » (٢).
والاِمعان في هذه الرواية يعرب عن أمرين :
الأوّل : أنّ محمد بن عبد اللّه اتّخذ موقفاً غير موقف زيد بن علي ، حيث إنّ عبد اللّه بن الحسن يريد أن يصف ، ابنه بأنّه هو المهدي الموعود كما قال : اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد اللّه ولم يردّه ابنه وكأنّه قبله.
فيردعه الاِمام بقوله : « إنّ ابنك هذا ليس هو المهدي ولا أخاه ».
ولكنّه رافقهم إذا خرجوا مثلما خرج زيد وقال مخاطباً أباه : « وإن كنت إنّما تريد أن تخرجه غضباً للّه وليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فإنّا واللّه لا ندعك وأنت شيخنا ، ونبايع ابنك في هذا الأمر ».
ولما كان كلام الاِمام مخالفاً لما يهواه عبد اللّه غضب عليه وقال : واللّه ما أطلعك على غيبه ولكن يحملك على هذا الحسد لابني.
ورغم هذا الموقف الجافي كيف يمكن للاِمام عليه‌السلام أن يرافقهم ،
__________________
١ ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : ٢٠٦.
٢ ـ أبو الفرج : مقاتل الطالبيين : ٢٠٨ ، الاِرشاد : ٢٩٤.
٢١٢
ويوَيدهم ، ويساندهم ، ولكنّه في نهاية المجلس تنبأ بما وجده في الكتب الموروثة ، أنّ محمد بن عبد اللّه وأخاه يقتلان ويكون الرابح هو أبو جعفر المنصور صاحب الرداء الأصفر ، وقد وقع ما وقع ، ورآه الناس حسب ما أخبر به الاِمام.
وبذلك يعرف مفاد الأحاديث التي ترفض عمل الزيدية في العصور اللاحقة لحركة زيد فلا يرفض زيداً ، ولا ابنه يحيى ولاثورته ونضاله ، وإنّما يرفض أتباعه في العصور بعد استشهاده حيث كانوا يعاندون أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ونذكر منها ما يلي :
١ ـ روى الشيخ الطوسي عن عبد الملك أنّه قال لأبي عبد اللّه : قلت : فإنّ الزيدية تقول ليس بيننا وبين جعفر خلاف إلاّ أنّه لا يرى الجهاد ، فقال : « إنّي لا أرى!! بلى واللّه إنّي لا أراه ولكنّي أكره أن أدع علمي إلى جهلهم » (١).
٢ ـ روى الكليني عن عبد الملك بن أعين قال لأبي عبد اللّه عليه‌السلام : إنّ الزيدية والمعتزلة قد أطافوا بمحمد بن عبد اللّه (٢) فهل له سلطان؟ فقال : « واللّه إنّ عندي لكتابين فيهما تسمية كل نبي وملك يملك الأرض لا واللّه ما محمد بن عبد اللّه في واحد منهما » (٣) وبذلك يعلم مفاد سائر الأحاديث (٤) فلاحظ.
وحصيلة البحث أنّ الخط الرائج لأئمّة أهل البيت عليهم‌السلام بالنسبة للثورات والانتفاضات التي تحققت على يد الحسينيين والحسنيين إنّما كان هو خط العدل والاقتصاد.
__________________
١ ـ الكليني : الكافي : ٥ / ١٩ ، باب من يجب عليه الجهاد : الحديث ١ ، ٢.
٢ ـ محمد بن عبد اللّه بن الحسن بن الحسن بن علي الملقب بالنفس الزكية من أئمة الزيدية.
٣ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٢٤٢ باب ذكر الصحيفة ، رقم ٧.
٤ ـ لاحظ الكافي : ٧ / ٣٧٦ ، كتاب الديات باب فيما فيه نصاب من البهائم ، الحديث ١٧.
٢١٣
فلو كان الحافز عند الثائر هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، والاِنكار على الظلم والعدوان ، وتخليص المجتمع الاِسلامي من الفساد والدمار فالاِمام الصادق عليه‌السلام ومن بعده كانوا يوَيدون ذلك العمل ، ويكون الثائر حينئذ مأذوناً من قبل الاِمام وتأخذ الثورة لنفسها صفة المشروعية.
وأمّا إذا كان الحافز عند الثائر إلى الثورة هو دعوة الناس إلى إمامة نفسه ، وادّعاء الخلافة عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإنّه ـ والعياذ باللّه ـ المهدي الموعود فلا يكون هناك أيّ مبرر لموافقتهم ومساندتهم.
٢١٤

الفصل الثاني عشر

موقف علماء الشيعة
من جلالة ووثاقة زيد الشهيد
إنّ موقف علماء الشيعة الاِمامية نفس موقف النبي وعترته الطاهرة عليهم‌السلام وإن كنت في شك من ذلك فاقرأ كلماتهم في حقه :
١ ـ قال المفيد : كان عين إخوته بعد أبي جعفر عليه‌السلام وأفضلهم ، وكان ورعاً ، عابداً فقيهاً ، سخياً ، شجاعاً ، وظهر بالسيف يأمر بالمعروف ، وينهى عن المنكر ، ويطلب بثارات الحسين عليه‌السلام (١).
٢ ـ وقال النسابة أبو الحسن علي بن محمد العمري : كان زيد أحد سادات بني هاشم فضلاً وفهماً خرج أيام هشام الأحول ابن عبد اللّه (٢) فقتل وصلب ست سنين ، وقيل أُحرق وذري في الفرات ـ لعن اللّه ظالميه ـ (٣).
٣ ـ وقال الطبرسي : إنّ زيداً كان من علماء آل محمد ، غضب للّه فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله (٤).
__________________
١ ـ الاِرشاد : ٢٦٨ ، ط النجف.
٢ ـ والظاهر عبد الملك.
٣ ـ المجدي في الأنساب : ١ / ١٥٦.
٤ ـ أُنظر : رياض العلماء : ٢ / ٣٣٨.
٢١٥
٤ ـ وقال ابن داود : زيد بن علي بن الحسين قتل سنة إحدى وعشرين ومائة ، وله اثنتان وأربعون سنة شهد له الصادق عليه‌السلام بالوفاء وترحم له (١).
٥ ـ قال الشهيد الأوّل في القواعد : وجاز أن يكون خروجهم بإذن إمامٍ واجب الطاعة كخروج زيد بن علي عليه‌السلام وغيره من بني علي عليه‌السلام (٢).
٦ ـ قال الشيخ عبد اللّه الأفندي التبريزي : السيد الجليل الشهيد أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين ، إمام الزيدية وكان سيداً كبيراً عظيماً في أهله وعند شيعة أبيه ، ولكن اختلفت الأخبار وتعارضت الآثار بل كلام العلماء الأخيار أيضاً في مدحه وقدحه ، والروايات في فضله كثيرة ، وقد ألّف جماعة من متأخري علماء الشيعة ومتقدميهم كتباً عديدة مقصورة على ذكر فضائله كما يظهر من مطاوي كتب الرجال ومن غيرها أيضاً.
ومن المتأخرين ميرزا محمد الاسترآبادي فله رسالة في أحوال زيد بن علي. هذا وأورد فيه كلام المفيد في الاِرشاد بتمامه ، ونقل فيها أيضاً ما رواه الطبرسي في أعلام الورى ، وما رواه ابن طاووس في ربيع الشيعة ونحوهما ، وبالجملة فقد أورد فيها روايات كثيرة في مدحه.
قال بعض أفاضل السادات المعاصرين ضوعف قدره في أوائل شرح الصحيفة : هو أبو الحسين زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب عليهم‌السلام أُمّه أُمّ ولد كان جمّ الفضائل عظيم المناقب ، وكان يقال له : حليف القرآن. روى أبو نصر البخاري عن أبي الجارود ، قال : قدمت المدينة ، فجعلت كلّما سألت عن زيد بن علي. قيل لي : ذلك حليف القرآن. ذاك أُسطوانة المسجد من كثرة صلاته.
__________________
١ ـ ابن داود : الرجال : ١ / ١٠ (ذكره في القسم الأوّل الذي خصّه بالموثوقين بخلاف القسم الثاني فقد خصّه بالمجروحين والمهملين).
٢ ـ القواعد : ٢ / ٢٠٧ (ضمن القاعدة : ٢٢١).
٢١٦
وقال الشيخ بهاء الدين العاملي في آخر رسالته المعمولة في إثبات وجود القائم عليه‌السلام : الآن أيضاً إنّا معشر الاِمامية لا نقول في زيداً ـ رضي اللّه عنه ـ إلاّ خيراً وكان جعفر الصادق عليه‌السلام قد قال لأصحابه : « إنّ زيداً يتخطّى يوم القيامة أهل المحشر حتى يدخل الجنّة » والروايات عن أئمتنا في هذا المعنى كثيرة (١).
٧ ـ قال الكاظمي : اتّفق علماء الاِسلام على جلالته وثقته وورعه وعلمه وفضله ، وقد روي في ذلك أخبار كثيرة حتى عقد ابن بابويه في العيون باباً لذلك (٢).
٨ ـ قال المحدّث النوري : وأمّا زيد بن علي فهو عندنا جليل القدر عظيم الشأن ، كبير المنزلة ، وما ورد مما يوهم خلاف ذلك مطروح أو محمول على التقية (٣).
٩ ـ قال المحقّق المامقاني : إنّي أعتبر زيداً ثقة وأخباره صحاحاً اصطلاحاً بعد كون خروجه بإذن الصادق عليه‌السلام لمقصد عقلائي عظيم وهو مطالبة حقّ الاِمامة إتماماً للحجّة وقطعاً لعذرهم بعدم مطالب له وقول جمع فيه بالاِمامة بتسويل الشيطان مع نفيه إياها من نفسه ، وإثباته إياها لابن أخيه الصادق لا يزري فيه كعدم إزراء نسبة القائلين بإمامته إليه أحكاماً فقهية مخالفة للحق (٤).
١٠ ـ وقال المحقّق الخوئي : وقد استفاضت الروايات غير ما ذكرناه في مدح زيد وجلالته وأنّه طلب بخروجه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ إلى أن قال : ـ وإنّ استفاضة الروايات أغنتنا عن النظر في أسنادها (٥).
__________________
١ ـ رياض العلماء وحياض الفضلاء : ٢ / ٣١٨ ، وقد ترجم زيد بن علي ترجمة وافية ، طالع هذا الجزء ص ٣١٨ ـ ٣٥٢.
٢ ـ راجع تكملة الرجال : ٣٥٢ ، تنقيح المقال : ١ / ٤٦٧.
٣ ـ المستدرك : ٣ / ٥٩٩.
٤ ـ تنقيح المقال : ١ / ٤٦٩ ، ٤٧٠.
٥ ـ معجم رجال الحديث : ٧ / ٣٤٧ ـ ٣٤٩.
٢١٧
ثم إنّه أفرد غير واحد من أعلام الاِمامية تأليفاً في زيد وفضله ومآثره ، فمنهم :
١ ـ إبراهيم بن سعيد بن هلال الثقفي (م ٢٨٣ هـ) له كتاب أخبار زيد.
٢ ـ محمد بن زكريا مولى بني غلاب (م ٢٩٨ هـ) له أخبار زيد.
٣ ـ عبد العزيز بن يحيى الجلودي (م ٣٦٨ هـ) له أخبار زيد.
٤ ـ محمد بن عبد اللّه الشيباني (م ٣٧٢ هـ) له كتاب فضائل زيد.
٥ ـ الشيخ الصدوق أبو جعفر القمي (م ٣٨١ هـ) له كتاب في أخباره.
٦ ـ ميرزا محمـد الاسترابـادي صاحب الرجـال الكبير (م ١٠٢٨ هـ) لـه رسالة في أحوال زيد.
٧ ـ السيد محسن الأمين العاملي أحد كبار علماء الاِمامية في القرن الرابع عشر (م ١٣٧٣ هـ) له كتاب أبو الحسين زيد الشهيد وقد طبع في الشام.
٨ ـ السيد عبد الرزاق الموسوي المقرم ، له كتاب زيد الشهيد وفي ذيله كتاب تنزيه المختار ، وقد طبع عام ١٣٥٥ هـ.
هذه كلمات علماء الشيعة الاِمامية في حقّ زيد وليس هناك من الشيعة الاِمامية من يبغضه أو يذمّه ولو ورد فيه روايات ذم فإنّما هي مطروحة أو موَوّلة لاتعادل ماتواترت عليه من الروايات الدالة على وثاقته ، وجلالة قدره فمن أراد رمي الشيعة الاِمامية بغير هذا فهو كذاب يُعدُّ من رماة القول على عواهنه.
نعم بعدما خرج زيد ، وجاهد وناضل وقتل وصلب وأُحرق اتّخذه أعداء الشيعة ذريعة للطعن على إمام الوقت جعفر الصادق عليه‌السلام وتوهم بعض الشيعة أنّ الاِمام من قام ونهض وجاهد ، دون غيره وهذا لا صلة له بزيد الثائر.
وبذلك تقف على قيمة كلام رجلين يُعدّان من رماة القول على عواهنه :
أحدهما : أحمد بن تيمية في كتاب « منهاج السنّة ».
ثانيهما : الآلوسي البغدادي.
٢١٨
قال ابن تيمية : إنّ الرافضة رفضوا زيد بن علي بن الحسين ومن والاه ، وشهدوا عليه بالكفر والفسوق (١).
وقال الآلوسي : الرافضة مثلهم كمثل اليهود ، الرافضة يبغضون كثيراً من أولاد فاطمة ـ رضي اللّه عنها ـ بل يسبونهم كزيد بن علي (٢).
أقول : إنّ الرافضة ـ حسب تسمية الآلوسي ـ يقتفون أثر أئمتهم في كل صغيرة وكبيرة ، فإذا كان هذا موقف أئمتهم فكيف يمكن للشيعة التخطّي عنه ، والعجب أنّ الكاتبين كتبا ماكتبا ولم يرجعا إلى معاجم الرجال للشيعة وقد أطبقت معاجمهم على تزكيته وترفيع مقامه وتبجيله بكل كلمة.

بين أُباة الضيم وحماة الذل :

لم أجد أحداً ممن كتب عن زيد ، وكفاحه وجهاده الرسالي الذي عرف به ، من القدامى والجدد من يغمطه حقه ويزدري به ، ويتكلم فيه بهمز أو لمز ، غير الكاتب السلفي : الشيخ شمس الدين الذهبي ، ومع أنّه يصف زيداً بأنّه كان أحد العلماء والصلحاء ، لكنّه يصف جهاده سقطة وزلّة يقول في موضع من كتبه : « بدت منه هفوة فاستشهد ، فكانت سبباً لرفع درجته في آخرته » (٣) وفي كتاب آخر : « خرج متأوّلاً ، قتل شهيداً وليته لم يخرج » (٤).
__________________
١ ـ ابن تيمية : منهاج السنة : ٢ / ١٢٦.
٢ ـ السنة والشيعة : ٥٢.
٣ ـ تاريخ الاِسلام : حوادث (١٢١ ـ ١٤١ هـ) ص ١٠٥. انظر إلى التناقض في كلامه إذ لو كان خروجه زلّة فكيف صار سبباً لرفع درجته في الآخرة.
٤ ـ سير أعلام النبلاء : ٥ / ٣٩١.
٢١٩
أقول : ما ذكره شنشنة أعرفها من كل سلفي يرى الجهاد والكفاح على الظلم والعدوان ، أمراً محرّماً ، والحياة مع الظالمين ومهادنتهم أمراً مشروعاً وسعادة ، فهم حماة الذلّ ، ودعاة الهوان ، وأين هم من أُباة الظلم والضيم.
ومن أُصول الطائفة الأولى : الصبر تحت لواء السلطان على ما كان منهم ، من عدل أو جور ، ولا يخرج عليهم بالسيف وإن جاروا (١) وماذكره على طرف الخلاف مع ما حدّثه السبط الشهيد عن جده رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذلك عندما اقترب من الكوفة استقبله الحر بن يزيد الرياحي بألف فارس مبعوثاً من الوالي عبيد اللّه ابن زياد لاِكراه الحسين على إعطاء البيعة ليزيد ، وإرساله قهراً إلى الكوفة ، فعند ذلك قام الاِمام وخطب بأصحابه وأصحاب الحُرّ بقوله : أيّها الناس إنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « من رآى سلطاناً جائراً مستحلاً حُرَمَ اللّه ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباده بالاِثم والعدوان ، فلم يغيّر عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يُدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلوا حرام اللّه ، وحرّموا حلاله ... » (٢).
كيف يكون جهاده هفوة ، مع أنّ الرسول الأعظم تنبّأ به وأثنى عليه عندما نظر يوماً إلى زيد بن حارثة وبكى وقال : المظلوم من أهل بيتي ، سميّ هذا ، المقتول في اللّه ، المصلوب من أُمتي سميّ هذا ، ثم قال : ادنُ منّي يازيد ـ زادك اللّه حباً عندي ـ بإنّك سميّ الحبيب من ولدي (٣). وقد بكى الوصي وأبكى ، أفيصح العزاء والبكاء على السقطة والزلة.
__________________
١ ـ أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد : ١٥.
٢ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٠٤.
٣ ـ أخرجه السيوطي في الجامع الكبير كما في الروض النضير : ١ / ١٠٨.
٢٢٠
وما أحسن قول أخي الأوس لابن عمه وهو يريد نصرة رسول اللّه فخوّفه ابن عمّه وقال : أين تذهب فإنّك مقتول؟ فقال :
سأمضي وما بالموت عار على الفتى

إذا مانوى حقاً وجاهد مسلما
و واسى الرجال الصالحين بنفسه

وفارق مثبوراً وخالف مجرما
فإن عشت لم أندم وإن مت لم أُلم

كفى بك ذلاً أن تعيش وترغما (١)
ما عشت أراك الدهر عجبا :
لا أظنّ من قرأ صحائف حياة الملك الأموي « هشام بن عبد الملك » يشك في أنّه كان دموياً سفّاكاً ، لا يرى لدم الاِنسان أيّة قيمة إذا ظنّ ولو واحداً بالمائة ، إنّه يريد خلافه ، وقتل زيد وصلبه وإبقاء جثمانه الطاهر على الخشبة أربع أو ست سنوات ، ثم حرقه ونسفه وذروه في الرياح والمياه ، دليل واضح على أنّ الرجل بلغ في القسوة غايتها.
ومع ذلك كله ترى أنّ ابن سعد جاء في الطبقات ما يضيق به الاِنسان ذرعاً يقول : أخبرنا محمد بن عمر قال : أخبرنا سحبل بن محمد قال : ما رأيت أحداً من الخلفاء أكره إليه الدماء ولا أشدّ عليه من هشام بن عبد الملك وقد دخله من مقتل زيد بن علي ويحيى بن زيد أمر شديد وقال : وددت أنّي كنت افتديتهما.
ثم ينقل عن أبي الزناد : ما كان فيهم أحد أكره إليه الدماء من هشام بن عبد الملك ولقد ثقل عليه خروج زيد بن علي ، فما كان شيء حتى أتى برأسه ، وصلب بدنه بالكوفة. ولي ذلك يوسف بن عمر في خلافة هشام بن عبد الملك (٢).
أقول : نعم ولي ذلك يوسف بن عمر لكن بأمر منه حتى أنّ عامله في
____________
١ ـ المفيد : الاِرشاد : ٢٢٥.
٢ ـ ابن سعد : الطبقات الكبرى : ٥ / ٣٢٦.
٢٢١
الكوفة والحيرة كان غافلاً عمّا يجري فيها من وثوب الناس على زيد ومبايعتهم له ، إلى أن كشف عنه هشام ، وأمره بما أمره.
روى أبو الفرج قال : لما قتل زيد رثاه الكميت بقصيدة هجا فيها بني أُمية يقول فيها :
فيا ربّ هل إلاّ بك النصر يُبتغى

وياربّ هل إلاّ عليك المعول
وهي طويلة يرثي فيها زيد بن علي ، والحسين بن زيد ويمدح بني هاشم فلما قرأها هشام بن عبد الملك أكبرها وعظمت عليه واستنكرها وكتب إلى خالد يُقسم عليه أن يقطع لسان الكميت ويده ، فلم يشعر الكميت إلاّ والخيل محدقة بداره فأُخذ وحبس في المخيّس ... (١).
يقول ابن العماد الحنبلي في حوادث سنة ١٢٥ :
وفيها مات في ربيع الآخر ، الخليفة أبو الوليد هشام بن عبد الملك الأموي ، وكانت خلافته عشرين سنة إلاّ شهراً ، وكانت داره عند الخواصين بدمشق فعمل منها السلطان نور الدين مدرسة ، وكان ذا رأي وحزم وحلم وجمع للمال. عاش أربعاً وخمسين سنة ، وكان أبيض سميناً أحول ، سديداً حسن الكلام ، شكس الأخلاق ، شديد الجمع للمال قليل البذل ، وكان حازماً متيقّـظاً لايغيب عنه شيء من أمر ملكه ، قال المسعودي : كان هشام أحول ، فظّاً ، غليظاً ، يجمع الأموال ويعمّر الأرض ، ويستجيد الخيل ، وأقام الحلبة. اجتمع له فيها من خيله وخيل غيره أربعة آلاف فرس ولم يعرف ذلك في جاهلية ولا إسلام لأحد من الناس ، وقد ذكرت الشعراء ما اجتمع له من الخيل واستجاد الكساء والفرش وعدد الحرب ، ولامتها ، واصطنع الرجال ، وقوّى الثغور واتّخذ القنى ، والبرك بمكة وغير ذلك من الآبار التي أتى عليها داود بن علي في صدر الدولة العباسية ، وفي أيامه عمل الحرز فسلك الناس جميعاً في أيامه مذهبه ، ومنعوا ما في أيديهم فقلّ الاِفضال وانقطع
__________________
١ ـ الأغاني : ١٧ / ٤.
٢٢٢
الرفد ولم ير زمان أصعب من زمانه.
ودخل هشام بستاناً له ومعه ندماوَه فطافوا به وفيه من كل الثمار ، فجعلوا يأكلون ويقولون : بارك اللّه لأمير الموَمنين فقال : وكيف يبارك لي فيه وأنتم تأكلونه ثم قال : أُدع قيّمه فدُعي به فقال له : أقلع شجره واغرس فيه زيتوناً حتى لا يأكل أحد منه شيئاً ، وكان أخوه مسلمة مازحه قبل أن يلي الأمر فقال له : ياهشام أتوَمل الخلافة وأنت جبان بخيل قال : أي واللّه العليم الحليم.
ومن نوادره ما روي أنّه تمادى في الصيد فوقع على غلام فأمر ببعض الأمر!!فأبى الغلام وأغلظ له في القول وقال له : لا قرب اللّه دارك ولا حيّا مزارك ـ في قصة طويلة فيها ـ أنّه أمر بقتله وقرب له نطع الدم فأنشأ الغلام يقول :
نبئت أنّ الباز علّق مرّة

عصفور برّ ساقه المقدور
فتكلّم العصفور في أظفاره

والباز منهمك عليه يطير
ما فيّ ما يغني لبطنك شبعة

ولئن أكلت فإنّني لحقير
فتعجّب الباز المدل بنفسه

عجباً وأفلت ذلك العصفور
فضحك هشام وقال : يا غلام أحش فاه دراً وجواهر (١).
أقول : إذا كان هذا أكره الخلفاء للدماء وأشدهم عليه فمن هو أحرصهم عليها وعلى إراقتها ، وكأنّي بشاعر المعرة يخاطب ابن سعد صاحب الطبقات ومن لفّ لفّه ويقول :
إذا وصف الطائي بالبخل مادر

وعيّر قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت خفية

وقال الدجى للصبح لونك حائل
وطاولت الأرض ، السماء ترفعاً

وفاخرت الشهب الحصى والجنادل
فياموتُ زُر إنّ الحياة ذميمة

ويانفس جدي ، إنّ دهرك هازلا
__________________
١ ـ عماد الدين الحنبلي : شذرات الذهب : ١٦٢ ـ ١٦٤.
٢٢٣
٢٢٤

الفصل الثالث عشر

الثورات الناجمة عن ثورة
الاِمام الحسين عليه‌السلام
١ ـ ثورة أهل المدينة ومأساة الحرة.
٢ ـ ثورة عبد اللّه بن الزبير في مكة المكرّمة أيام خلافة يزيد وبعدها.
٣ ـ ثورة التوابين المستميتين في الكوفة.
٤ ـ ثورة المختار بن أبي عبيدة الثقفي.
٥ ـ ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث أيام عبد الملك.
٢٢٥
أُباة الضيم وأخبارهم
قال ابن أبي الحديد :
سيد أهل الاِباء الذي علّم الناس الحميّة والموت تحت ظلال السيوف ، اختياراً له على الدنيّة ، أبو عبد اللّه الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهما‌السلام عُرِض عليه الأمان ، فأنِفَ من الذلّ ، وخاف من ابن زياد أن ينالَه بنوعٍ من الهوان ؛ إن لم يقتُله ، فاختار الموت على ذلك (١).

الثورات الناجمة عن ثورة الاِمام الحسين عليه‌السلام :

أرى أنّ اللازم قبل كل شيء تبيين جذور ثورة الاِمام زيد ، وما دفعه إلى الخروج وهل كان هناك حافز نفساني دفعه إلى القيام واكتساح الأشواك عن طريق الخلافة التي كان يتبنّاها ، أو كان هناك دافع خارجي يحضّه ويشوّقه إلى قبض الخلافة والزعامة ، أو لا هذا ولا ذاك بل كان مستلهماً من ثورة جده الاِمام الحسين عليه‌السلام وكانت ثورته استمراراً لثورته ، تلك الثورة التي أنارة الدرب لكل من يطلب الحقّ ويضحي في سبيله.
إنّ ثورة الحسين عليه‌السلام منذ تفجرها صارت أُسوة وقدوة للمضطهدين على وجه البسيطة ، والمعذبين تحت نير الطغاة ، وعلى المعانين من حكومات الجور والتعسف في الأوساط الاِسلامية وانحراف الدول والحكومات عن خط العدل والاقتصاد.
__________________
١ ـ شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٢٤٩.
٢٢٦
وقد لمس الثائرون أنّ ثورة الحسين عليه‌السلام كانت ثورة مبدئية إلهية ، لأجل صيانة الدين عن التحريف والمجتمع عن الانحراف والاعتساف ، فلأجل إيقاف القارىَ على مبادىَ ثورته وغاياتها نذكر الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام الحسين عليه‌السلام إلى الثورة والتضحية بشيخه ، وكهله ، وطفله الرضيع ، حتى يتبين عمق الثورة وملامحها وآثارها. سلام اللّه عليه وعلى الثائرين المتأثرين التابعين لخطه.

الخصومة بين الحسين عليه‌السلام والحاكم الأموي كانت مبدئية :

كانت الخصومة بين الهاشميين والأمويين قائمة على قدم وساق منذ عصور قبل الاِسلام ، وكانت الخصومة عند ذاك تتسم بالقبلية وإن كان العداء السائد يتغذى من أُمور تمت إلى المعنوية والمثالية بصلة ، حيث إنّ الهاشمي كان عنوان الفضل والفضيلة ومثالاً للتقى على عكس ما كان أُمية وبنوه عليه ، فكانوا منغمرين في الانهيار الخلقي ، والانكباب على المادة والماديات وقد ألّف الموَرخ الشهير المقريزي كتاباً خاصاً أسماه بـ « النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم » نقتطف شيئاً قليلاً منه ، حتى يتبيّن أنّ التخاصم في ذلك العصر وإن كان متسماً بالنزاع القبلي ولكنه كان مبنياً على تمتع بني هاشم بنفسيات كريمة وروحيات طيبة حيث كانوا رافلين في حلل الفضائل والفواضل على جانب الخلاف مما كانت عليه بنو أُمية.

مناشدة هاشم وأُمية :

نافر أُمية هاشماً على خمسين ناقة سود الحدق ، تنحر بمكة وعلى جلاء عشر سنين وجعلا بينهما الكاهن الخزاعي جد عمرو بن الحمق وكان منزله بعسفان وخرج مع أُمية أبو همهمة حبيب بن عامر بن عميرة بن وديعة بن الحارث بن فهر
٢٢٧
ابن مالك الفهري ، فقال الكاهن : « والقمر الباهر ، والكوكب الزاهر ، والغمام الماطر ، وما بالجو من طائر وما اهتدى بعَلَم مسافر ، من منجد وغائر ، لقد سبق هاشم أُمية إلى المآثر أوّل منه وآخر ، وأبو همهمة بذلك خابر ».
فأخذ هاشم الاِبل فنحرها وأطعم لحمها من حضر ، وخرج أُمية إلى الشام فأقام به عشر سنين فكان هذا أوّل عداوة وقعت بين بني هاشم وبني أُمية ، ولم يكـن أُمية في نفسه هناك وإنّما يرفعه أبوه وبنوه وكان مضعوفاً وكان صاحب عهار ، ويدلّ على ذلك قول نفيل بن عبد العزى جد عمر بن الخطاب حين تنافر إليه حرب بن أُمية وعبد المطلب بن هاشم فنفر عبد المطلب وتعجب من إقدامه عليه وقال :
أبوك معاهر وأبوه عفّ

وذاد الفيل عن بلد حـرام
وذلك أنّ أُمية كان يعرض لامرأة من بني زهرة ، فضربه رجل منهم ، ضربة بالسيف وأراد بنو أُمية ومن تابعهم إخراج زهرة من مكة فقام دونهم قيس بن العدي السهمي وكانوا أخواله ... (١).
جاء نبي الاِسلام بدين سمح قد شطب على جميع ما كان في الجاهلية من أحقاد وضغائن ، وقال في خطبة حجّة الوداع : ألا كلّ شيء من أمر الجاهلية تحت قدمي موضوع » (٢).
وبعد حروب ومعارك دامية قتلت فيها أبطال قريش وصناديدهم ، كما استشهد لفيف من المهاجرين والأنصار ، دخل بنو أُمية في حظيرة الاِسلام متظاهرين به ولكن مبطنين الكفر والنفاق شأن كل حزب منهزم أمام تيّار جارف ، فكانوا ينتهزون الفرص ليقضوا على الاِسلام باسم الاِسلام ، وعلى العدل والتقى
__________________
١ ـ النزاع والتخاصم بين بني أُمية وبني هاشم : ٢٠ ـ ٢١.
٢ ـ الصدوق : الخصال : ٤٨٧.
٢٢٨
باسم الخلافة عن رسول اللّه وقد ظهرت بوادر ذلك في مجلس الخليفة عثمان بن عفان عندما بويع من جانب شورى سداسية أشبه بمسرحية سياسية حيث دخل عثمان بيته ومعه بنو أُمية ، جالسين حوله ، يتبجحون بإناخة جمل الخلافة على بابهم ، وقد تلقاها رئيس القبيلة أبو سفيان إنّها إمرة سياسية أو سلطة بشرية وصلت إليهم ، وإنّه كان كذلك في عصر الخليفتين السابقين وحتى الرسول الأكرم وأنّه لم تكن هناك أية إمرة إلهية وخلافة دينية وليس هناك جنّة ولانار.
يقول أبو بكر الجوهري : إنّ أبا سفيان ، قال لما بويع عثمان : كان هذا الأمر في تيم ، وأنّى لتيم هذا الأمر. ثم صار إلى عدي فأبعد وأبعد ، ثم رجعت إلى منازلها ، واستقر الأمر قراره ، فتلقفوها تلقف الكرة.
وقال أيضاً : إنّ أبا سفيان قال لعثمان : بأبي أنت. أنفق ولا تكن كأبي حجر ، وتُداولوها يابني أُمية تداول الولدان الكرة ، فواللّه ما من جنةولا نار ، وكان الزبير حاضراً ، فقال عثمان لأبي سفيان : أُغرب ، فقال : يابني أهاهنا أحدٌ؟ قال الزبير : نعم واللّه لا كتمتها عليك (١).
أسّس عثمان حكومة أموية بحتة عزل سعد بن أبي وقاص عن ولاية الكوفة فولاها الوليد بن عقبة وكان أخاً لعثمان من أُمّه ، كما أنّه عزل عمرو بن العاص عن خراج مصر عام ٢٧ هـ ، واستعمل عليه عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح وكان أخاه من الرضاعة ، وهو ابن خال عثمان ، وأبقى معاوية على ولايته على الشام ولما كثرت الشكوى على عامله بالكوفة : الوليد بن عقبة ، عزله فولى مكانه سعيد بن العاص ، حتى قيل إنّ سبعاً وخمسين من ولاته وعماله الكبار كانوا من بني أُمية (٢).
إنّ هذه الحوادث المريرة وأضعافها التي حفظها التاريخ وجئنا بقليل منها
__________________
١ ـ ابن أبي الحديد : شرح النهج : ٢ / ٤٥ نقلاً عن كتاب السقيفة للجوهري.
٢ ـ لاحظ : الدينوري : الأخبار الطوال : ١٣٩ ، ابن الأثير : الكامل : ٣ / ٨٨ ـ ٨٩ ، الطبري : التاريخ : ٣ / ٣٣٩ و ٤٤٥ وغيرها.
٢٢٩
في الجزء الخامس من هذه الموسوعة أغضبت جمهور المسلمين وأثارتهم ضد الخليفة حتى انتهت إلى قتله في داره ، والمهاجرون والأنصار ، بين مجهز عليه ، أو موَلّب ضده ، أو مستبشر بمقتله أو صامت رهين بيته محايد عن الطرفين (١).
قُتل عثمان بسيف مروان بن الحكم الذي سلّه عليه بأعماله المأساوية في بلاطه ، وجاء بعده الاِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام بإلحاح من الجماهير وبايعوه على أن يرد الاِسلام إلى عصر الرسول ، وقد امتنع في بدء الأمر عن قبول الخلافة وتزهد فيها كما تزهد في عصر الخلفاء ، غير أنّه لمّا تمت الحجّة عليه ورأى أنّ في التقاعس عن قبولها ضرراً على الاِسلام والمسلمين أخذ بزمام الخلافة بيد من حديد وقد خضعت له الأوساط الاِسلامية بعمالها وأُمرائها قاطبة إلاّ معاوية بن أبي سفيان ، فقد استمر على العناد ، واقفاً على أنّه لو بايع الاِمام للحقه العزل عن العمل ، ومصادرة الأموال الطائلة. فبقي على المخالفة وألّب بعض المهاجرين والأنصار على الاِمام حتى بايعهم خفاء إلى أن يبايعهم جلياً بعد سحب الاِمام عن ساحة الخلافة ، إلى أن آل الأمر إلى تأجيج نار حروب ثلاثة (الجمل وصفين والنهروان) قد عرفت تفاصيلها في الجزء الخامس ، فلو قتل في الجمل قرابة أربعة عشر ألف مقاتل من الطرفين ، أو قتل في صفين سبعين ألف مقاتل من العراقيين والشاميين ، أو نشبت حروب دامية بين أنصار علي والخارجين على بيعته ، طوال سنين ، فكلّها من جرائم وآثام ذلك الخلاف والعناد والخروج على الاِمام.
التحق الاِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام إلى الرفيق الأعلى وقتل بيد أشقى الأوّلين والآخرين عبد الرحمن بن ملجم عام أربعين ، ومعاوية بعدُ قابع على كرسيه ، وقد صفا له الجوّ برحيل علي عليه‌السلام فلم ير في الساحة إنساناً منافساً ولا مخالفاً سوى ، الحسن بن علي عليه‌السلام لأنّ الجماهير من المهاجرين والأنصار الذين كانوا مع علي في العراق بايعوه بالخلافة والاِمامة ولكن معاوية خالفه ولم يبايعه كما
__________________
١ ـ الطبري : التاريخ : ٣ / ٣٩٩.
٢٣٠
خالف أباه ولم يبايعه بل حاربه.
نشب الخلاف بين معاوية والحسن بن علي وانجر الأمر إلى تجنيد الجنود ونفرهم إلى ميادين الحرب وبعد حوادث مريرة رأى الاِمام الحسن عليه‌السلام أنّ الأصلح هو التنازل والتصالح تحت شروط ومبادىَ خاصة حفظها التاريخ ، ومن أهم الشروط التي وقَّع عليها كل من معاوية والحسن بن علي ، هو أنّه ليس لمعاوية أن يعهد إلى أحد من بعده عهداً (١) ولكن معاوية لم يكن ممن يعتمد على قوله وعهده ولا على حلفه ويمينه.
إنّ معاوية من الفئة الذين يقولون ولا يفعلون وقد أظهر نواياه بعدما تم التصالح فقال : إنّي واللّه ما قاتلتكم لتصلّوا ولا لتصوموا ولا لتحجّوا ولا لتزكّوا انّكم لتفعلون ذلك ولكني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وقد أعطاني اللّه ذلك وأنتم له كارهون ألا وإنّي كنت منّيت الحسن أشياء وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي هاتين لا أفي بشيء منها له. (٢).
رجع الحسن بن علي إلى مدينة جده ، ومعه أخوه الحسين وبنو هاشم وكان يتجرع الغصص من آل أُمية طيلة حياته إلى أن سمّه معاوية بتغرير زوجته فوافاه الأجل عام خمسين من الهجرة النبوية ، وكان يضرب به المثل في الصبر والحلم. قال أبو الفرج : لما مات الحسن بن علي عليهما‌السلام وأخرجوا جنازته حمل مروان سريره ، فقال له الحسين عليه‌السلام : أتحمل سريره أما واللّه كنت تجرعه الغيظ ، فقال : مروان إنّي كنت أفعل ذلك بمن يوازن حلمه الجبال (٣).
لم يكن معاوية يجترىَ على نقض ما وقع من عدم العهد إلى أحد ما دام الحسن في قيد الحياة ، وكان يتحين الفرص لنقض العهد واليمين وقد نقض أكثر
____________
١ ـ ابن صباغ المالكي : الفصول المهمة : ١٦٣.
٢ ـ المفيد : الاِرشاد : ١٩١.
٣ ـ أبو الفرج الأصفهاني : مقاتل ا ، لطالبيين : ٤٩ ، طبعة النجف الأشرف.
٢٣١
ما عهد ولم يبق إلاّ شيء واحد وهو أن لا يعهد إلى أحد وكان ولده يزيد أُمنيته وقرة عينه ، ولما مات الحسن رأى الجو صافياً ، فمهد الطريق لتنصيبه والياً من بعده ، وقد بذل في طريق أُمنيته أموالاً طائلة لأصحاب الدنيا من الصحابة والتابعين حتى أرضى طائفة بترغيبه ونقوده ، وطائفة أُخرى بتخويفه وترهيبه. نعم بقى هناك لفيف قليل اشتروا سخط المخلوق برضا الخالق فلم يبايعوه بل ثاروا عليه ووبخوا معاوية على نقض عهده ، منهم : أبو الشهداء الحسين بن علي فقد جاهر وطرد بيعته وذلك عندما أراد معاوية أخذ البيعة ليزيد فقام وحمد اللّه وصلى على الرسول ، فقال بعد كلام : « وفهمت ما ذكرته عن يزيد من اكتماله وسياسته لأمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً أو تخبر عما كان مما احتويته بعلم خاص. وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به ومن استقرائه الكلاب المهارشة عند التحارش ، والحمام السبق لأترابهن ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده ناصراً ، ودع عنك لما تحاول فما أغناك أن تلقى اللّه بوزر هذا الخلق بأكثر مما أنت لاقيه » (١).
تسنم معاوية منصة الحكومة فكان يحكم كالقياصرة والأكاسرة إلى ان أدركته المنية عام ستين وجلس مكانه وليده وربيبه ، ونظيره في الخَلق والخُلق ، واهتز العالم الاِسلامي حينذاك حيث أحسّوا أنّ إنساناً خمِّيراً وسكّيراً لاعباً بالكلاب والقردة ، تصدى للاِمارة وفي الحقيقة للقضاء على الاِسلام والمسلمين باسم الخلافة عن النبي الأكرم ، فعند ذاك تمت الحجّة على الحسين بن علي عليه‌السلام فجاهر بالخلاف والصمود أمامه حيث تجسد في الزمان قول جده رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه وإلاّ فعليه لعنة اللّه » (٢).
__________________
١ ـ ابن قتيبة : الاِمام والسياسية : ١ / ١٦٩.
٢ ـ الكليني : الكافي : ١ / ٥٤ ، ط الغفاري.
٢٣٢
وكان يزيد يحس بذلك عن كثب فكتب إلى عامله بالمدينة الوليد بن عقبة أن يأخذ الحسين بالبيعة له ، فلما اجتمع مع عامله فعرض عليه البيعة فرفض بعد جدال عنيف بحضور مروان بن الحكم ، وأصبح الحسين من غده يستمع الأخبار فإذا هو بمروان بن الحكم قد عارضه في طريقه ونصحه بالبيعة ليزيد فعندئذ ارتجّ الحسين وثارت ثورته وقال : « إنّا للّه وإنّا إليه راجعون ، وعلى الاِسلام السلام إذا بليت الأمة براع مثل يزيد » ، ثم قال : « يا مروان أترشدني لبيعة يزيد ، يزيد رجل فاسق لقد قلت شططاً من القول وزللاً ولا ألومك ، فإنّك اللعين الذي لعنك رسول اللّه وأنت في صلب أبيك الحكم بن العاص ، ومن لعنه رسول اللّه ، فلا ينكر منه أن يدعو لبيعة يزيد ، إليك عني ياعدو اللّه فإنّا أهل بيت رسول اللّه ، الحقّ فينا ينطق على ألسنتنا وقد سمعت جدي رسول اللّه يقول : الخلافة محرمة على آل أبي سفيان الطلقاء وأبناء الطلقاء ، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه. ولقد رآه أهل المدينة على منبر رسول اللّه فلم يفعلوا به ما أُمروا فابتلاهم بابنه يزيد » (١).

دوافعه نحو الثورة :

هذه الكلمة المباركة من الحسين بن علي عليهما‌السلام في أعتاب تفجير الثورة تعرب عن أنّ خلافه مع يزيد لم يكن خلافاً قبلياً ولا استمراراً له ، وإنّما كان يثور عليه لأجل أنّ الحاكم يتّسم بمبادىَ هدامة للدين ، ولو أُتيحت له الفرصة لقضى على الاِسلام والمسلمين ، فلأجل ذلك قام عن مجلس الوليد ولم يبايعه وترك مدينة جده والتجأ إلى مكة المكرمة ، وليست هذه الكلمة كلمة وحيدة معربة عن نواياه وحوافزه التي دفعته إلى الثورة فكم لها من نظير في حياته.
وإليك كلمته الثانية عندما نزل منطقة البيضة من العراق واعترضه الجيش الأموي بقيادة الحر بن يزيد التميمي اليربوعي ، فقال واقفاً بعد أن حمد اللّه وأثنى
__________________
١ ـ الخوارزمي : مقتل الحسين : ١ / ١٨٤ ـ ١٨٥.
٢٣٣
عليه : « أيها الناس أنّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من رأى سلطاناً جائراً ، مستحلاً لحرام اللّه ، ناكثاً لعهد اللّه ، مخالفاً لسنّة رسول اللّه ، يعمل في عباد اللّه بالاِثم والعدوان ، فلم يغير عليه بفعل ولا قول ، كان حقاً على اللّه أن يدخله مدخله ، ألا وإنّ هوَلاء قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطّلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء وأحلّوا حرام اللّه وحرّموا حلاله » (١).
ترى أنّ الاِمام يعلل ثورته على يزيد في البيان الأوّل بأنّه رجل فاسق شارب الخمر ، قاتل النفس المحترمة معلن للفسق ، وإن هذه الصفات لا تتفق مع شروط الخلافة كما أنّه يعلل ثورته في البيان الثاني بأنّه سلطان جائر ، مستحل لحرام اللّه ناكث لعهده ، مخالف لسنّة رسوله عامل في عباده بالاِثم والعدوان. كل ذلك يعرب عن أنّ ثورته لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية ، بل مبدئية بحتة.
وهناك للاِمام بيان ثالث ورابع وخامس و ... يعرّف موقفه من الحاكم الأموي ، يعرف دافعه إلى النضال والكفاح نأتي بثالثة :
كتب الاِمام إلى روَساء الأخماس والأشراف بالبصرة كتاباً جاء فيه : « وقد بعثت رسولي إليكم بهذا الكتاب وأنا أدعوكم إلى كتاب اللّه وسنّة نبيه ، فإنّ السنّة قد أُميتت ، وإنّ البدعة قد أُحييت وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ، فمن قبلني بقبول الحقّ ، فاللّه أولى بالحقّ ، ومن ردّ عليّ هذا أصبر حتى يقضي اللّه بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين » (٢).
وفي هذه المقتطفات من خطب ورسائل الاِمام أدلّة واضحة على أنّ الثورة لم تكن ثورة قبلية ولا عنصرية بل كانت ثورة دينية عقائدية بحتة ، وكان الدافع المهم للتضحية ترسيم خط الشهادة والفداء لكل من يطلب رضى الحقّ ، وبالتالي قطع
__________________
١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٣ / ٢٨٠ ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٠٠.
٢ ـ الخوارزمي : المقتل : ١ / ٨٨ ، الفصل ٩.
٢٣٤
جذور الشر وتحطيم قوى الكفر والمنكر ، وإن طال سنين ، وقد نجح الاِمام في ثورته هذه إلى أن انتهى الأمر إلى اجتثاث جذور بني أُمية عن أديم الأرض وغلق ملفهم بقتل حمارهم مروان عام ١٣٢ هـ. ق.

نجاح الاِمام الحسين عليه‌السلام في ثورته :

لقد درسنا الحافز أو الحوافز التي دفعت الاِمام إلى الثورة غير أنّه بقي هنا أن نتحدث عن نتائجها وعن عطائها ، إذ بالوقوف عليها يعلم أنّه كان في ثورته ناجحاً أو فاشلاً ، إنّ هناك من ينظر إلى ثورة الحسين من منظار سياسي ضيق أو مادي بحت أضيق ، فيظن أنّ ثورته كانت فاشلة حيث إنّ الاِمام استشهد ولم ينل الخلافة ، والمسلمون بقوا بعد الثورة على ما كانوا عليه قبلها ، فكان الاِرهاب والتشريد حليفهم ، وكانت الحكومة الأموية هي الحاكمة في البلاد الاِسلامية قرابة سبعين سنة.
هذا ما يتصوره بعض الكتاب في ثورة الحسين ، وكأنّ نجاح الثورة في منطقهم ، هو نجاحها في يومها أو بعد أيام ، وهذا الزعم من هوَلاء ناش من الجهل بالحقّ أو التجاهل به ، فلأجل قلع هذا التعتيم نركّز من عطاء الثورة في المقام على أمرين مهمين ونترك الباقي لأقلام الكاتبين في ثورة الحسين :
١ ـ إنّ الاِمام بتضحية نفسه ونفيسه ، أعلم الأمّة فظاظة الأمويين وقسوة سياستهم ، وابتعادهم عن الناموس البشري فضلاً عن الناموس الديني وتوغلهم في الغلظة الجاهلية ، وعادات الكفر الدفين.
ثار في وجه الحكم السائد ليُعلم الملأ الديني أنّهم لم يوقروا كبيراً ولم يرحموا صغيراً ، ولم يرقبوا على رضيع ولم يعطفوا على امرأة فقدّم إلى ساحات المفاداة ، أغصان الرسالة وأوراد النبوة ، وأنوار الخلافة ، ولم تبق جوهرة من هاتيك الجواهر
٢٣٥
الفريدة ، فلم يعتم هو ولا هوَلاء إلاّ وهم ضحايا في سبيل تلك الطلبة الكريمة.
سل كربلا كم من حشاً لمحمّدٍ

نهبت بها وكم استجذت من يد
أقمار تمٍّ غالها خسف الردى

وانثالها بصروفها الزمن الردي (١)
٢ ـ لم يكن الحسين عليه‌السلام يطلب ملكاً عضوضاً ولا سلطة بشرية وإنّما يطلب إيقاظ الأمّة بواجبه الحتمي ، وما هو إلاّ إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وكأنّ الأمّة نسيت ذينك العمادين وذلك لعوامل خلفت رفض ذينك الأمرين المهمين.
كانت الأمّة تعيش بين الترغيب والترهيب فصارت محايدة عن كل عمل إيجابي يغير الوضع الحاضر وهم بين راضٍ بما يجري ، وبين مبغض صامت ، يترك الأمر إلى اللّه تبارك وتعالى ، فكانت القلوب مشفقة والأيدي مغلولة وعلى الألسن أُوكية.
وكيف يصح لمسلم واع ، التساهل أمام عربدة يزيد بالكفر الصريح في شعره ونثره ، وإنكار الوحي والرسالة وهذا هو التاريخ يحكي لنا : أنّه لما ورد على يزيد نساء الحسين وأطفاله ، والروَوس على الرماح وقد أشرفوا ثنيّة جيرون نعب الغراب فأنشأ يزيد يقول :
لما بدت تلك الحمول وأشرقت

تلك الشموس على رُبى جيرون
نعب الغراب فقلت صح أو لاتصح

فلقد قضيت من الغريم ديوني (٢)
يعني أنّه قتل بمن قتل رسول اللّه يوم بدر كجده عتبة وخاله وليد بن عتبة ، وغيرهما وهذا كفر صريح لا يلهج به إلاّ المنكر للرسالات والنبوات ورسالة سيد الرسل.
__________________
١ ـ الأميني : الغدير : ٣ / ٢٦٤.
٢ ـ ابن الجوزي : تذكرة الخواص : ٢٣٥.
٢٣٦
ولم يقتصر بذلك بل أخذ ينشد شعر ابن الزبعرى حين حضر رأس الحسين بين يديه وقال :
ليت أشياخي ببدرٍ شهدوا

جزع الخزرج من وقع الأسل
قد قتلنا القرم من ساداتهم

وعدلنا قتل بدر فاعتدل
فأهلوا واستهلوا فرحاً

ثم قالوا يايزيد لاتشل
لست من خندف إن لم أنتقم

من بني أحمد ما كان فعل
لعبت هاشم بالملك فلا

خبر جاء ولا وحيٌ نزل (١)
وليس ذلك ببعيد عن ابن معاوية فإنّ أباه كان يشمئز من سماع الشهادة الثانية على رسالة محمد فكان يقول : للّه أبوك يا ابن عبد اللّه لقد كنت عالي الهمة ما رضيت لنفسك إلاّ أن تقرن اسمك مع اسم ربّ العالمين (٢).
ولما قال له المغيرة بن شعبة : لقد كبرت فلو أظهرت عدلاً لاِخوانك من بني هاشم فإنّه لم يكن عندهم شيء تخافه قال : هيهات مَلِكَ أخو تيم ، وفعل ما فعل ، فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي ، فاجتهد وشمر فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عمر ، ثم ملك أخونا عثمان ، فعمل ما عمل فواللّه ما غدا أن هلك فهلك ذكره إلاّ أن يقول قائل عثمان.
وانّ أخا هاشم يصرخ باسمه في كل يوم خمس مرات : أشهد أن محمداً رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأي عمل يبقى مع هذا لا أُم لك واللّه إلاّ دفنا دفنا.
__________________
١ ـ البيتان الأوّلان لابن الزبعرى ، والثلاثة الأخيرة ليزيد ، لاحظ تذكرة الخواص : ٢٣٥.
٢ ـ شرح النهج الحديدي : ٢ / ٥٣٧.
٢٣٧
ولمّا سمع المأمون بهذا الحديث كتب إلى الآفاق بلعنه على المنابر فأعظم الناس ذلك وأكبروه واضطربت العامة فأُشير عليه بالترك فأعرض عما كان عليه (١).
فلما قام الحسين في وجه الحكومة بأولاده وأصحابه القليلين ، فقد نفث في جسم الأمّة روح الكفاح والنضال وحطمت كل حاجز نفسي واجتماعي كان يوقفهم عن القيام ، وأثبت أنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في هذه الظروف الحرجة ليس رهن العِدّة والعُدّة بل إذا حاق الخطر بالأمّة من ملوكها وأمرائها وزعمائها وأصبحوا يسوقون الناس بأفعالهم وأعمالهم ، والمجتمع إلى العيش الجاهلي ، وجب على الموَمن الاستنكار بقلبه ولسانه ويده فكان في قيامه تحطيم السدود المزعومة الممانعة عن القيام بالفريضة ، ولأجل ذلك استتبعت ثورته ، ثورات عديدة تترى من غير فرق بين من ثار وهو على خط الاِمام وبين من ثار في وجه الطغمة الأموية ولم يكن على خطه وفكره ولكن الكل كانوا مستلهمين من تلك الثورة العارمة ، ولولا حركة الحسين عليه‌السلام لما كان لهذه الحركات أيّ أثر في المجتمع الاِسلامي ، وإن كنت في ريب من ذلك فعليك بدراسة الثورات المتتابعة بعد قيامه ونهضته.
قضى الاِمام نحبه في اليوم العاشر من محرم الحرام عام ٦١ هـ والرضاء بقضاء اللّه وقدره بين شفتيه (٢) وهو ظمآن لم يشرب الماء منذ ثلاثة أيام ، والفرات يموج بمياهه وحيتانه « سبيل على الرواد منهله العذب » دون الحسين وأولاده وأصحابه حتى يموتوا عطشى. ولم يقتصر عدوّه الغاشم بقتله حتى همّ
__________________
١ ـ مروج الذهب : ٢ / ٣٤٣. آخر أخبار المأمون.
٢ ـ قال عليه‌السلام وهو طريح مصرعه : « رضاءً بقضائك ، وتسليماً لأمرك ، لا معبود سواك ، ياغياث المستغيثين ».
٢٣٨
برضِّ صدره وظهره بالخيل ، ليقضي بذلك على جسم الاِمام كلّه. لكنّه فاته أنّ شهداء طريق الحقّ ، أحياء عند ربّهم يرزقون ، أحياء بين الشعوب الحية ، وأنّه سوف ينقلب الأمر لصالح الاِمام وضد العدو حتى في اليوم الذي قضى عليه وأنّه عليه‌السلام سيجعل من أعدائه الذين وجهوا إليه سيوفهم ورماحهم ، أنصاراً صامدين ، وثواراً مناضلين.
روى الموَرخون : لما قتل الحسين وتسابق العسكر إلى نهب خيام آل الرسول ونهبوا ما فيها أولاً ، وأضرموا النار ثانياً وبنات الزهراء حواسر مسلبات ، باكيات فنظرت امرأة من آل بكر بن وائل ، كانت مع زوجها ، إلى بنات رسول اللّه بهذا الحال فصاحت : يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول اللّه لا حكم إلاّ للّه ، يالثارات رسول اللّه فردها زوجها إلى رحله (١).
كان ذلك الهتاف من ذلك الوقت ، نواة للثورة على العدو ، وإن لم يشعر به العدو ، واكتفى بجرها إلى رحله.
كان الحسين فاتحاً في نهضته ، إذ لم يكن يتبنّى شيئاً سوى إيقاظ شعور الأمّة بلزوم القضاء على دعاة الضلال ، وكسح أشواك الباطل ، عن طريق الشريعة ، وتعريف الملاء بالذين هم الأحق بالخلافة والقيادة.
إنّ أئمة أهل البيت عليهم‌السلام غذّوا الأمّة بتحريضهم على عقد المحافل والمجالس لذكر حادثة الطف ، وما جرى على الحسين من مصائب تدك الجبال الرواسي ، وتذيب القلوب القاسية وقد اتخذوا أساليب مختلفة في إحياء حديث الطف بتشكيل أندية العزاء في بيوتهم تارة ، ودعوة الناس إليها ثانياً ، فقال الاِمام الباقر عليه‌السلام « رحم اللّه عبداً اجتمع مع آخر فتذاكر أمرنا » (٢) فكان لتلك
__________________
١ ـ ابن نما : مثير الأحزان : ٤ ، ابن طاووس : اللهوف : ٧٤.
٢ ـ المجلسي : البحار : ٧٤ / ٣٥٤ ح ٣١.
٢٣٩
الذكريات أثراً باهراً في تخليد الثورة في نفوس الأمّة حتى اتخذه الأحرار مقياساً للسير في ضوئه مصباحاً وإليك نزراً يسيراً من الثورات التالية لثورة الاِمام عليه‌السلام.
٢٤٠
١
ثورة أهل المدينة
وإخراج عامل يزيد
لما ولي الوليد الحجاز أقام يريد غِرّة عبد اللّه بن الزبير فلا يجده إلاّ محترزاً ممتنعاً ، وثار نجدة بن عامر النخعي باليمامة حين قتل الحسين ، وثار ابن الزبير بالحجاز ... فعزل يزيد الوليد ، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان فبعث إلى يزيد وفداً من أهل المدينة ، فيهم : عبد اللّه بن حنظلة ، غسيل الملائكة وعبد اللّه ابن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي ، والمنذر بن الزبير ورجالاً كثيراً من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم وأحسن إليهم ، وأعظم جوائزهم فأعطى عبد اللّه بن حنظلة ، وكان شريفاً فاضلاً عابداً سيداً ، مائة ألف درهم ، وكان معه ثمانية بنين ، فأعطى كل ولد عشرة آلاف.
فلمّا رجعوا قدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر بن الزبير فإنّه قدم العراق على ابن زياد وكان يزيد قد أجازه بمائة ألف دينار ، فلمّا قدم أُولئك النفر الوفد ، المدينة قاموا فيهم فأظهروا شتم يزيد وعيبه وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ، ويضرب بالطنابير ، ويعزف عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويسمر عنده الحراب وهم اللصوص وإنّا نشهدكم إنّا قد خلعناه.
وقام عبد اللّه بن حنظلة الغسيل فقال : جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلاّ
٢٤١
بنيّ هوَلاء لجاهدته بهم ، وقد أعطاني وأكرمني وما قبلت منه عطاءه إلاّ لأتقوّى به فخلعه الناس ، وبايعوا عبد اللّه بن حنظلة الغسيل على خلع يزيد وولّوه عليهم (١).
ولما دخل عام ٦٣ هـ أخرج أهل المدينة عثمان بن محمد بن أبي سفيان عامل يزيد ، وحصروا بني أُمية بعد بيعتهم عبد اللّه بن حنظلة ، فاجتمع بنو أُمية ومواليهم ومن يرى رأيهم في ألف رجل حتى نزلوا دار مروان بن الحكم فكتبوا إلى يزيد يستغيثون به فبعث إلى عمرو بن سعيد فأقرأه الكتاب وأمره أن يسير إليهم فردّ وقال : لا أُحب أن أتولّى ذلك.
وبعث إلى عبيد اللّه بن زياد يأمره بالمسير إلى المدينة ومحاصرة ابن الزبير بمكة فقال : واللّه لا جمعتهما للفاسق ، قتل ابن رسول اللّه وغزو الكعبة. ثم أرسل إليه يعتذر.
فبعث إلى مسلم بن عقبة المري ، وهو الذي سمّي مسرفاً ، وهو شيخ كبير فاستجاب ، فنادى في الناس بالتجهز إلى الحجاز ، وأن يأخذوا عطاءهم ومعونة مائة دينار ، فانتدب لذلك اثنا عشر ألفاً ، وخرج يزيد يعرضهم ، فأقبل مسلم إلى المدينة ودخل من ناحية الحرّة وضرب فسطاطه بين الصفين واقتتل الصفان قتالاً شديداً وانتهى الأمر ، إلى غلبة قوات الشام على أهل المدينة بعدما قتل من الطرفين أُناس كثير ، ولم يقتصر المسرف بذلك بل أباح المدينة ثلاثاً يقتلون الناس ويأخذون المتاع والأموال ... (٢).
__________________
١ ـ ابن الأثير الجزري : الكامل : ٤ / ١٠٣.
٢ ـ المصدر نفسه : ٤ / ١١١ ـ ١١٧ ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٧٢ ـ ٣٨٠ ، موَسسة الأعلمي ـ بيروت.
٢٤٢
٢
ثورة عبد اللّه بن الزبير
عبد اللّه بن الزبير بن العوام ولد بعد الهجرة بعشرين شهراً ، وكان أبوه ابن عمة علي عليه‌السلام وهو ابن خاله ، وهو ممن سلّ سيفه يوم السقيفة لصالح علي وقال : لا أغمد سيفي حتى يبايع علي ، ولكن ـ وللأسف ـ كان ولده على الطرف النقيض من ذلك فهو كما قال علي عليه‌السلام : ما زال الزبير منّا أهل البيت حتى نشأ عبد اللّه فأفسده (١) وهو الذي دفع أباه إلى محاربة الاِمام في وقعة الجمل بعد ما ندم وأراد التصالح والتراجع.
ومع هذا هو ممن اتخذ ثورة الاِمام حجّة على خروجه في وجه الحاكم الأموي وروى الطبري بسنده إلى عبد الملك بن نوفل قال : حدثني أبي : قال لما قتل الحسين عليه‌السلام قام ابن الزبير في أهل مكة وعظّم مقتله ، وعاب أهل الكوفة خاصة ولام أهل العراق عامة فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه وصلّـى على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ أهل العراق غدر فجر إلاّ قليلاً ، وإنّ أهل الكوفة شرار أهل العراق وأنّهم دعوا حسيناً لينصروه ويولوه عليهم ، فلمّا قدم عليهم صاروا إليه ، فقالوا له : إمّا أن تضع يدك في أيدينا فنبعث بك إلى ابن زياد بن سمية ، فيمضي فيك حكمه وإمّا أن تحارب فرأى واللّه أنّه هو مقتول ولكنّه اختار الميتة الكريمة على الحياة الذميمة فرحم اللّه
__________________
١ ـ تنقيح المقال : ٢ / ١٨٤ ، مادة « عبد اللّه بن الزبير ».
٢٤٣
حسيناً ، وأخزى قاتل حسين ـ إلى أن قال : ـ أفبعد الحسين نطمئن إلى هوَلاء القوم ونصدق قولهم ونقبل لهم عهداً لا ولا نراهم لذلك أهلاً. أما واللّه لقد قتلوه ، طويلاً بالليل قيامه ، كثيراً في النهار صيامه ، أحقّ بما هم فيه منهم وأولى به في الدين والفضل.
أما واللّه ما كان يبدل بالقرآن ، الغناء ، ولا بالبكاء من خشية اللّه الحداء ، ولا بالصيام شرب الحرام ، ولا بالمجالس في حلَق الذِّكر الركض في تطلاب الصيد (يعرض بذلك يزيد) فسوف يلقون غياً.
فثار إليه أصحابه فقالوا له : أيها الرجل أظهر بيعتك فإنّه لم يبق أحد (إذ هلك حسين) ينازعك هذا الأمر وقد كان يبايع الناس سراً ويظهر أنّه عائذ بالبيت (١).
لما فرغ مسلم من قتال أهل المدينة ونهبها شخص بمن معه نحو مكة يريد ابن الزبير ومن معه ، واستخلف على المدينة رَوْح بن زِنباع الجُذاميّ ، وقيل : استخلف عمرو بن مخرمة الأشجعي ، فلمّا انتهى إلى المشلَّل نزل به الموت ، وقيل : مات بثنيّة هَرْشَى ، فلمّا مات سار الحصين بالناس فقدم مكة لأربع بقين من المحرم سنة أربع وستين وقد بايع أهلها وأهل الحجاز عبد اللّه بن الزبير واجتمعوا عليه ، ولحق به المنهزمون من أهل المدينة فحمل أهل الشام عليهم حملةً انكشف منها أصحاب عبد اللّه ، ثم نزل فصاح بأصحابه ، وصابرهم ابن الزبير إلى الليل ثم انصرفوا عنه.
هذا في الحصر الأوّل ثم أقاموا يقاتلونه بقية المحرم وصفر كلّه حتى مضت ثلاثة أيام من شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين ، ولأجل القضاء على ابن الزبير
__________________
١ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٦٤ ، ابن الأثير : الكامل : ٤ / ٩٨ ـ ٩٩.
٢٤٤
المتحصن في المسجد الحرام رموا البيت بالمجانيق وحرقوه بالنار ، وكانت الحرب طاحنة إذ بلغهم نعي يزيد بن معاوية لهلال ربيع الآخر ولم يكن أمامهم إلاّ طريق واحد وهو الرجوع إلى الشام واختار الرجوع إليها (١).
كان ابن الزبير يسوس الحجاز والعراق وفيهما عماله إلى أن استولى عبد الملك على العراق عام إحدى وسبعين من الهجرة وانحصرت إمارة ابن الزبير بالحجاز وعند ذاك وجّه عبد الملك ، الحجاج بن يوسف الثقفي في ألفين وقيل في ثلاثة آلاف من أهل الشام لقتال عبد اللّه بن الزبير ، وقدم مكة وحصر ابن الزبير والتجأ هو وأصحابه إلى المسجد الحرام ، ونصب الحجاج المنجنيق على أبي قبيس ورمى به الكعبة إلى أن خرج أصحابه إلى الحجاج بالآمان ، وقتل ابن الزبير يوم الثلاثاء من جمادي الآخرة عام ثلاث وسبعين من الهجرة (٢).
__________________
١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٤ / ١٢٣ ـ ١٢٤ ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٣٨١ ـ ٣٨٤.
٢ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ٢٤ ، ابن الأثير : الكامل : ٤ / ٣٤٩ ـ ٣٥٦.
٢٤٥
٣
ثورة التوابين في الكوفة
إنّ ثورة أهل المدينة على عامل يزيد وإخراجه من المدينة ، وحركة ابن الزبير واستيلاوَه على الحجاز والعراق ، لم يكن ردّ فعل مباشر لقتل الحسين عليه‌السلام وإن كانا متأثرين من ثورته وحركته ، وهذا بخلاف حركة التوابين فقد كانت ردّ فعل مباشر لقتله ، حيث أحسّوا أنّهم قصّروا في حقّ إمامهم ، إذ دعاهم فلم يجيبوا ، وذلك عار عليهم. يتبعهم عذاب أليم ، وأنّه لا يغسل العار والأثم عنهم إلاّ بالثورة على قاتليه وعلى رأسهم ، النظام الحاكم.
يقول الطبري : « لما قتل الحسين بن علي ورجع ابن زياد من معسكره بالنخيلة فدخل الكوفة ، تلاقت الشيعة بالتلاوم والتندّم ، ورأت أنّها قد أخطأت خطأ كبيراً ، بدعائهم الحسين إلى النصرة ، وتركهم إجابته ومقتله إلى جانبهم ، لم ينصروه ، ورأوا أنّه لا يُغسل عارهم والاِثم عنهم في مقتله إلاّ بقتل من قتله أو القتل فيه ففزعوا بالكوفة إلى خمسة نفر من روَوس الشيعة :
١ ـ سليمان بن صرد الخزاعي ، وكانت له صحبة مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
٢ ـ المسيب بن نَجَبة الفزاري ، وكان من أصحاب علي عليه‌السلام وخيارهم.
٣ ـ عبد اللّه بن سعد بن نفيل الأزدي.
٤ ـ عبد اللّه بن وال التيميّ.
٥ ـ رفاعة بن شدّاد البجلي.
إنّ هوَلاء النفر الخمسة اجتمعوا في منزل سليمان بن صرد وكانوا من خيار
٢٤٦
أصحاب علي ومعهم أُناس من الشيعة وخيارهم ووجوههم قال : فلمّا اجتمعوا إلى منزل سليمان بن صرد بدأ المسيب بن نجبة القوم بالكلام وقال :
١ ـ قـد ابتلينا بطول العمر والتعرض لأنواع الفتن ، فنرغب إلى ربّنا ألاّ يجعلنا ممن يقول له غداً : « أوَلَم نُعَمِّركُم ما يَتَذَكَّرُ فِيه مَن تَذَكَّر وجاءَكُمُ النَّذِير » (١).
فإنّ أمير الموَمنين عليه‌السلام قال :
العمر الذي أعذر اللّه فيه إلى ابن آدم ستون سنة ، وليس فينا رجل إلاّ وقد بلغه وقد كنّا مغرمين بتزكية أنفسنا ، وتفريط شيعتنا حتى بلا اللّه أخيارنا فوجدنا كاذبين ، في موطنين من مواطن ابن ابنة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد بلغتنا قبل ذلك كتبه وقدمت علينا رسله ، وأعذر إلينا ، يسألنا نصره عوداً وبدءاً ، وعلانية وسرّاً فبخلنا عنه بأنفسنا حتى قُتِل إلى جانبنا ، لا نحن نصرناه بأيدينا ، ولا جادلنا عنه بألستنا ولا قوّيناه بأموالنا ، ولا طلبنا له النصرة إلى عشائرنا ، فما عذرنا إلى ربّنا وعند لقاء نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد قُتِلَ فينا ولده وحبيبه وذريته ونسله ، لا واللّه لا عذر دون أن تقتلوا قاتله ، والموالين عليه ، أو تقتلوا في طلب ذلك فعسى ربّنا أن يرضى عنّا ذلك ، وما أنا بعد لقائه ، لعقوبته بآمن.
أيّها القوم ولّوا عليكم رجلاً منكم فإنّه لابد لكم من أمير تفزعون إليه ، وراية تحفون بها أقول قولي وأستغفر اللّه لي ولكم.
٢ ـ وتكلّم رفاعة بن شداد وقال : إنّ اللّه قد هداك لأصوب القول ودعوت إلى أرشد الأمور ، ودعوت إلى جهاد الفاسقين ، وإلى التوبة من الذنب العظيم ، فمسموع منك ، مستجاب لك ، مقبول قولك قلت : ولّوا أمركم رجلاً منكم ، تفزعون إليه ، وتحفون برايته وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت ، فإن تكن أنت
__________________
١ ـ فاطر : ٣٧.
٢٤٧
ذلك الرجل تكن عندنا مرضياً ، وفينا متنصّحاً وفي جماعتنا محباً ، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولّينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذا السابقة والقدم ، سليمان بن صرد المحمود في بأسه ودينه ، الموثوق بحزمه.
ثم تكلّم كل من عبد اللّه بن وال ، وعبد اللّه بن سعد وتكلّما بنحو من كلام رفاعة بن شداد فذكرا المسيب بن نجبة بفضله ، وذكرا سليمان بن صرد بسابقته ورضاهما بتوليته.
٣ ـ تكلّم سليمان بن صرد وقال : فإنّي واللّه لخائف ألاّ يكون آخرنا إلى هذا الدهر الذي نكدت فيه المعيشة ، وعظمت فيه الرزية وشمل فيه الجور أُولي الفضل من هذه الشيعة لما هو خير ، إنّا كنّا نمد أعناقنا إلى قدوم آل نبينا ، ونمنِّيهم النصر ونحثهم على القدوم ، فلما قدموا ونَينا وعجزنا ، وأدهنّا وتربصنا وانتظرنا ما يكون ، حتى قتل فينا ، ولدينا ولد نبينا وسلالته وعصارته وبضعة من لحمه ودمه ، إذ جعل يستصرخ ويسأل النصف فلا يُعطاه ، إتخذه الفاسقون غرضاً للنبل ، ودريئة للرماح حتى أقصدوه ، وعدوا عليه فسلبوه. ألا انهضوا فقد سخط عليكم ربّكم ، ولا ترجعوا إلى الحلائل والأبناء حتى يرضى اللّه ، واللّه ما أظنه راضياً دون أن تناجزوا مَنْ قتله أو تبيروا ، ألا لا تهابوا الموت فواللّه ما هابه امروَ قطّ إلاّ ذلّ ، كونوا كالاولى من بني إسرائيل إذ قال لهم نبيهم « إنَّكُمْ ظَلَمتُمْ أنْفُسَكُمْ باتّخاذِكُمُ العِجْلَ فَتُوبُوا إلى بارِئِكُمْ فَاقتُلوا أنْفُسَكُمْ ذلكُمْ خَيرٌ لَكُمْ عِندَ بارِئِكُمْ » فما فعل القوم جثوا على الركب واللّه ومدّوا الأعناق ورضوا بالقضاء حتى حين علموا أنّه لا ينجيهم من عظيم الذنب إلاّ الصبر على القتل ، فكيف بكم لو قد دعيتم إلى مثل ما دعي القوم إليه ، أشحذوا السيوف وركّبوا الأسنة وأعدّوا لهم ما استطعتم من قوّة ومن رباط الخيل حتى تدعوا حين تدعوا وتستنفروا :
٤ ـ فقام خالد بن سعد بن نفيل فقال : أمّا أنا فواللّه لو أعلم أنّ قتلي نفسي
٢٤٨
يخرجني من ذنبي ويرضي عنّي ربّي لقتلتها ، ولكن هذا أُمر به قوم كانوا قبلنا ، ونُهينا عنه فأُشهد اللّه ومن حضر من المسلمين أنّ كلّ ما أصبحت أملكه سوى سلاحي الذي أُقاتل به عدوّي ، صدقة على المسلمين أُقوّيهم به على قتال القاسطين.
٥ ـ وقام أبو المعتمر حنش بن ربيعة الكناني فقال : وأنا أُشهدكم على مثل ذلك ، فقال سليمان بن صرد : حسبكم من أراد من هذا شيئاً ، فليأت بماله عبد اللّه ابن وال التيمي تيم بكر بن وائل ، فإذا اجتمع عنده كلّ ما تريدون إخراجه من أموالكم ، جهزنا به ذوي الخُلَّة والمسكنة من أشياعكم (١).
٦ ـ ثم أخذ سليمان بن صرد يكاتب وجوه الشيعة في الأطراف وكتب سليمان بن صرد : إلى سعد بن حذيفة اليمان (٢) يعلمه بما عزموا عليه ، ويدعوه إلى مساعدتهم ، ومن معه من الشيعة بالمدائن ، فقرأ سعد بن حذيفة الكتاب على من بالمدائن من الشيعة فأجابوا إلى ذلك فكتبوا إلى سليمان بن صرد يعلمونه أنّهم على الحركة إليه والمساعدة له.
وكتب سليمان أيضاً كتاباً إلى المثنّى بن مخربة العبدي بالبصرة مثل ما كتب إلى سعد بن حذيفة فأجابه المثنى : إننّا معشر الشيعة حمدنا اللّه على ما عزمتم عليه ، ونحن موافوك إن شاء اللّه للأجل الذي ضربت وكتب في أسفله أبياتاً (٣).
لم يزل القوم في جمع آلة الحرب والاستعداد للقتال ودعاء الناس ـ في السر ـ إلى الطلب بدم الحسين فكان يجيبهم القوم بعد القوم ، والنفر بعد النفر ولم يزالوا على ذلك إلى أن هلك يزيد بن معاوية سنة أربع وستين.
فلمّـا مات يزيد جاء إلى سليمان أصحابه فقالوا : قد هلك هذا الطاغية ،
__________________
١ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٤٢٦ ـ ٤٢٨.
٢ ـ لاحظ نصّ الكتاب : تاريخ الطبري : ٤ / ٤٢٩ ـ ٤٣٠.
٣ ـ ابن الأثير : الكامل : ٤ / ١٥٨ ـ ١٦٢ ، الطبري : التاريخ : ٤٣١.
٢٤٩
والأمر ضعيف فإن شئت وثبنا على عمرو بن حريث ، وكان خليفة ابن زياد على الكوفة ثم أظهرنا الطلب بدم الحسين وتتبّعنا قتلته ودعونا الناس إلى أهل هذا البيت المستأثر عليهم ، المدفوعين عن حقهم.
فقال سليمان بن صرد : لاتعجلوا ، إنّي قد نظرت فيما ذكرتم فرأيت أنّ قتلة الحسين هم أشراف الكوفة وفرسان العرب وهم المطالبون بدمه ، ومتى علموا ما تريدون كانوا أشدّ الناس عليكم ، ونظرت فيمن تبعني منكم فعلمت أنّهم لو خرجوا لم يدركوا ثأرهم ، ولم يشفوا نفوسهم ، وكانوا جَزَرَاً لعدوهم ولكن بثّوا دعاتكم وادعوا إلى أمركم هذا ، شيعتكم وغير شيعتكم فإنّي أرجو أن يكون الناس اليوم حيث هلك هذا الطاغية أسرع إلى أمركم استجابة منهم قبل هلاكه ، ففعلوا واستجاب لهم ناس كثير بعد هلاك يزيد ، وهم يريدون قتال أهل الشام الذين أقاموا دعائم عرش يزيد ، وعدم التعرض بمن في الكوفة من قتلة الحسين عليه‌السلام على جانب الخلاف من ثورة المختار.

مسير التوابين :

لما أراد سليمان بن صرد الخزاعي الشخوص سنة خمس وستين بعث إلى روَوس أصحابه فأتوه ، فلمّا أهلّ ربيع الآخر خرج في وجوه أصحابه وكانوا تواعدوا للخروج في تلك الليلة ، فلمّا أتى النخيلة دار في الناس فلم يعجبه عددهم فأرسل حكيم بن منقذ الكندي ، والوليد بن عصير الكناني في الكوفة فناديا : يالثارات الحسين فكانا أوّل (١) خلق اللّه دعوا يالثارات الحسين.
فأصبح من الغد وقد أتاه نحو مما في عسكره ، ثم نظر في ديوانه فوجدهم ستة عشر ألفاً ممن بايعه فقال : سبحان اللّه ما وافانا من ستة عشر ألفاً إلاّ أربعة
__________________
١ ـ لقد سبق أنّه أوّل من دعا به ، هو امرأة من بني بكر بن وائل يوم عاشورا عند إضرام النار في الخيام.
٢٥٠
آلاف. فأقام بالنخيلة ثلاثاً يبعث إلى من تخلف عنه فخرج إليه نحو من ألف رجل. ثم قام سليمان في أصحابه فقال : أيّها الناس من كان خرج ، يريد بخروجه وجه اللّه والآخرة فذلك منّا ، ونحن منه ، ومن كان يريد الدنيا فواللّه ما نأتي فيئاً نأخذه وغنيمة نغنمها ما خلا رضوان اللّه. فتنادى أصحابه من كل جانب : إنّا لا نطلب الدّنيا وإنّما خرجنا نطلب التوبة والطلب بدم ابن بنت رسول اللّه نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
فسار سليمان عشية يوم الجمعة لخمس مضين من ربيع الآخر سنة خمس وستين فوصل دار الأهواز ، ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين فلمّا دخلوا صاحوا صيحة واحدة فما رئي أكثر باكياً من ذلك اليوم فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه ، وترك القتال معه ، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون ويترحمون عليه وعلى أصحابه ، وكان قولهم عند ضريحه : « اللّهمّ إرحم حسيناً الشهيد ابن الشهيد المهدي ابن المهدي ، الصديق ابن الصديق ، اللّهمّ إنّا نشهدك إنّا على دينهم وسبيلهم وأعداء قاتليهم ، وأولياء محبيهم. اللّهمّ إنّا خذلنا ابن بنت نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فاغفر لنا ما مضى ، منّا وتب علينا وارحم حسيناً وأصحابه الشهداء الصديقين وإنّا نشهدك أنّا على دينهم ، وعلى ماقتلوا عليه. وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننّ من الخاسرين. وزادهم النظر إليه حنقاً.
ثم ساروا بعد أن كان الرجل يعود إلى ضريحه كالمودع له ، فازدحم الناس عليه أكثر من ازدحامهم على الحجر الأسود ، ثم أخذوا على الأنبار وكتب إليهم عبد اللّه بن يزيد كتاباً يثبطّهم عن السير إلى الشام وقتال العدو ولما وصل الكتاب إلى سليمان قرأه على أصحابه ، فكتب إليه جواباً ـ بعد أن شكره وأثنى عليه ـ : أنّ القوم قد استبشروا ببيعهم أنفسهم من ربّهم ، وأنّهم قد تابوا من عظيم ذنبهم وتوجهوا إلى اللّه وتوكلوا عليه ورضوا بما قضى اللّه عليهم.
٢٥١
ثم ساروا حتى انتهوا إلى « قرقيسيا » على تعبئة وبها زفر بن الحارث الكلابي وقد فتح باب حصنه بعد ما عرف أن فيهم المسيّب بن نجبة فأخرج لهم سوقاً وأمر للمسيب بألف درهم وفرس ، فردّ المال وأخذ الفرس وقال : لعلّي أحتاج إليه إن عرج فرسي ، وبعث « زفر » إليهم ، بخبز كثير وعلف ودقيق حتى استغنى الناس عن السوق.
ثم ارتحلوا من الغد ، وخرج « زفر » يشيّعهم وقال لسليمان أنّه قد سار خمسة أُمراء من الرقة هم : الحصين بن نمير ، وشرحبيل بن ذي الكلاع ، وأدهم بن محرز ، وجبلة بن عبد اللّه الخثعمي ، وعبيد اللّه بن زياد ، في عدد كثير مثل الشوك والشجر ، ثم اقترح عليهم أن ينزلوا بديرهم حتى يكونوا يد واحدة على العدو الشاميين ، فإذا جاءنا هذا العدو ، قاتلناهم جميعاً. فلم يقبل سليمان وقال : قد طلب أهل مصر ذلك منّا فأبينا عليهم. ثم ساروا مجدّين فانتهوا إلى عين الوردة فنزلوا غربيّها وأقاموا خمساً فاستراحوا وأراحوا.
وأقبل أهل الشام في عساكرهم حتى كانوا من عين الوردة على مسيرة يوم وليلة ، فقام سليمان في أصحابه وذكر الآخرة ورغب فيها ثم قال : أمّا بعد فقد أتاكم عدوكم الذي دأبتم إليه في السير آناء الليل والنهار ، فإذا لقيتموهم فأصدقوهم القتال واصبروا إنّ اللّه مع الصابرين ثم قال : إن أنا قتلت فأمير الناس مسيب بن نجبة ، فإن قتل ، فالأمير عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، فإن قتل ، فالأمير عبد اللّه بن وال ، فإن قتل ، فالأمير رفاعة بن شداد ، رحم اللّه امرئاً صدق ما عاهد اللّه عليه.
كان أدنى عسكر من عساكر الشام هو عسكر شرحبيل بن ذي الكلاع ، وكان على رأس ميل فسار المسيّب ومن معه مسرعين فأشرفوا عليهم وهم غارّون ، فحملوا في جانب عسكرهم فانهزم العسكر وأصحاب المسيب منهم رجالاً فأكثروا فيهم الجراح وأخذوا الدواب وخلّـى الشاميون عسكرهم وانهزموا ، فغنم منه
٢٥٢
أصحاب المسيّب ما أرادوا ثم انصرفوا إلى سليمان موفورين.
وبلغ الخبر ابن زياد فسرّح الحصين بن نمير مسرعاً حتى نزل في اثني عشر ألفاً ، فخرج أصحاب سليمان إليه لأربع بقين من جمادي الأولى ، وعلى ميمنتهم عبد اللّه بن سعد ، وعلى ميسرتهم المسيّب بن نجبة وسليمان في القلب ، وجعل الحصين على ميمنته جملة بن عبد اللّه (١) وعلى ميسرته ربيعة بن المخارق الغنوي فلمّا دنا بعضهم من بعض دعاهم أهل الشام إلى الجماعة على عبد الملك بن مروان ، ودعاهم أصحاب سليمان إلى خلع عبد الملك وتسليم عبيد اللّه بن زياد إليهم وأنّهم يخرجون من بالعراق من أصحاب ابن الزبير ثم يرد الأمر إلى أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأبى كل منهم ، فحملت ميمنة سليمان على ميسرة الحصين ، والميسرة أيضاً على الميمنة ، وحمل سليمان في القلب على جماعتهم ، فانهزم أهل الشام إلى عسكرهم ، وما زال الظفر لأصحاب سليمان إلى أن حجز بينهم الليل.
فلمّا كان الغد صبّح الحصين جيش مع ابن ذي الكلاع ثمانية الآف ، أمدهم بهم عبيد اللّه بن زياد ، وخرج أصحاب سليمان فقاتلوهم قتالاً لم يكن أشد منه جميع النهار ، لم يحجز بينهم إلاّ الصلاة ، فلمّا أمسوا تحاجزوا وقد كثرت الجراح في الفريقين ، وطاف القصّاص على أصحاب سليمان يحرضونهم.
فلمّا أصبح أهل الشام أتاهم أدهم بن محرز الباهلي في نحو من عشرة آلاف من ابن زياد ، فاقتتلوا يوم الجمعة قتالاً شديداً إلى ارتفاع الضحى ، ثم إنّ أهل الشام كثروهم وتعطفوا عليهم من كل جانب ، ورأى سليمان ما لقي أصحابه ، فنزل ونادى : عباد اللّه من أراد البكور إلى ربّه والتوبة من ذنبه فإلي. ثم كسر جفنة سيفه ونزل معه ناس كثير وكسروا جفون سيوفهم ومشوا معه ، فقاتلوهم ، فقتل من أهل الشام مقتلة عظيمة وجرحوا فيهم فأكثروا الجراح. فلمّـا رأى الحُصين صبرهم
__________________
١ ـ كذا في النسخة.
٢٥٣
وبأسهم ، بعث الرجّالة ترميهم بالنبل واكتنفتهم الخيل والرجال ، فقتل سليمان ، رحمه‌الله ، رماه يزيد بن الحصين بسهم فوقع ثم وثب ثم وقع.
فلمّا قُتل سلمان أخذ الراية المسيب بن نجبة وترحّم على سليمان ثم تقدّم فقاتل بها ساعة ثم رجع ثم حمل. فعل ذلك مراراً ، ثم قتل ، رحمه‌الله ، بعد أن قتل رجالاً.
فلمّا قتل أخذ الراية عبد اللّه بن سعد بن نفيل وترحّم عليهما ، ثم قرأ : ( فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ ومنهُمْ مَنْ يَنْتَظِرْ وَما بَدَّلُوا تَبدِيلا ) وحفّ به من كان معه من الأزد. فبينما هم في القتال أتاهم فرسان ثلاثة من سعد بن حذيفة ، يخبرون بمسيرهم في سبعين ومائة من أهل المدائن ، ويخبرون أيضاً بمسير أهل البصرة مع المثنى بن مخربة العبدي في ثلاثمائة ، فسرّ الناس فقال عبد اللّه بن سعد : ذلك لو جاءُونا ونحن أحياء.
فلمّا نظر الرسل إلى مصارع إخوانهم ساءهم ذلك واسترجعوا وقاتلوا معهم ، وقتل عبد اللّه بن سعد بن نفيل ، قتله ابن أخي ربيعة بن مخارق ، وحمل خالد بن سعد بن نفيل على قاتل أخيه فطعنه بالسيف ، واعتنقه الآخر فحمل أصحابه عليه فخلّصوه بكثرتهم وقتلوا خالداً ، وبقيت الراية ليس عندها أحد ، فنادوا عبد اللّه بن وال فإذا هو قد اصطلى الحرب في عصابة معه ، فحمل رفاعة بن شداد فكشف أهل الشام عنه ، فأتى فأخذ الراية وقاتل ملياً ثم قال لأصحابه : من أراد الحياة التي ليس بعدها موت ، والراحة التي ليس بعدها نصب ، والسرور الذي ليس بعده حزن ، فليتقرب إلى اللّه بقتال هوَلاء المحلّين ، والرواح إلى الجنّة ، وذلك عند العصر فحمل هو وأصحابه فقتلوا رجالاً وكشفوهم.
ثم إنّ أهل الشام تعطفوا عليهم من كل جانب حتى ردوهم إلى المكان الذي كانوا فيه ، وكان مكانهم لا يوَتى إلاّ من وجه واحد ، فلما كان المساء تولى
٢٥٤
قتالهم أدهم بن محرز الباهلي فحمل عليهم في خيله ورجله ، فوصل ابن محرز إلى ابن وال وهو يتلو : « ولا تَحْسَبَنَّ الّذِينَ قُتِلُوا في سَبيلِ اللّهِ أمْواتاً » الآية ، فغاظ ذلك أدهم بن محرز فحمل عليه ، فضرب يده فأبانها ثم تنحى عنه وقال : إنّي أظنك وددت أنّك عند أهلك. قال ابن وال : بئس ما ظننت ، واللّه ما أحبّ أنّ يدك مكانها إلاّ أن يكون لي من الأجر مثل ما في يدي ليعظم وزرك ويعظم أجري. فغاظه ذلك أيضاً ، فحمل عليه وطعنه فقتله وهو مقبل ما يزول. وكان ابن وال من الفقهاء العبّاد.
فلمّا قتل أتوا رفاعة بن شداد البجليّ وقالوا : لتأخذ الراية. فقال : إرجعوا بنا لعلّ اللّه يجمعنا ليوم شرهم. فقال له عبد اللّه بن عوف بن الأحمر : هلكنا واللّه ، لئن انصرفت ليركبنّ أكتافنا فلا نبلغ فرسخاً حتى نهلك عن آخرنا ، وإن نجا منّا ناج أخذته العرب يتقرّبون به إليهم فقتل صبراً ، هذه الشمس قد قاربت الغروب فنقاتلهم على خيلنا ، فإذا غسق الليل ركبنا خيولنا أوّل الليل وسرنا حتى نصبح ونسير على مهل ، ويحمل الرجل صاحبه وجريحه ونعرف الوجه الذي نأخذه. فقال رفاعة : نعم ما رأيت ، وأخذ الراية وقاتلهم قتالاً شديداً ، ورام أهل الشام إهلاكهم قبل الليل فلم يصلوا إلى ذلك لشدّة قتالهم ، وتقدّم عبد اللّه بن عزير الكناني فقاتل أهل الشام ومعه ولده محمد وهو صغير ، فنادى بني كنانة من أهل الشام وسلّم ولده إليهم ليوصلوه إلى الكوفة ، فعرضوا عليه الأمان ، فأبى ثم قاتلهم حتى قتل.
وتقدّم كرب بن يزيد الحميري عند المساء في مائة من أصحابه فقاتلهم أشد قتال ، فعرض عليه وعلى أصحابه ابن ذي الكلاع الحميري الأمان ، قال : قد كنّا آمنين في الدنيا وإنّما خرجنا نطلب أمان الآخرة ، فقاتلوهم حتى قتلوا وتقدّم صخر ابن هلال المزني في ثلاثين من مزينة فقاتلوا حتى قتلوا.
فلما أمسوا رجع أهل الشام إلى معسكرهم ، ونظر رفاعة إلى كل رجل قد
٢٥٥
عُقِربه فرسُه وجُرِح فدفعه إلى قومه ثم سار بالناس ليلته ، وأصبح الحصين ليلتقيهم فلم يرهم ، فلم يبعث في آثارهم ، وساروا حتى أتوا قرقيسيا فعرض عليهم زفر الاِقامة ، فأقاموا ثلاثاً ، فأضافهم ثم زودهم وساروا إلى الكوفة.
ثم أقبل سعد بن حذيفة بن اليمان في أهل المدائن فبلغ « هيت » فأتاه الخبر ، فرجع فلقي المثنى بن مخرَّبة العبدي في أهل البصرة بصندوداء ، فأخبره ، فأقاموا حتى أتاهم رفاعة فاستقبلوه ، وبكى بعضهم إلى بعض وأقاموا يوماً وليلة ثم تفرقوا ، فسار كل طائفة إلى بلدهم.
ولما بلغ رفاعة الكوفة كان المختار محبوساً ، فأرسل إليه : أمّا بعدّ فمرحباً بالعصبة الذين عظّم اللّه لهم الأجر ، حين انصرفوا ورضي فعلهم حين قُتِلوا ، أما وربّ البيت ما خطا خاط منكم خطوة ، ولا ربا ربوة ، إلاّ كان ثواب اللّه له أعظم من الدنيا. إنّ سليمان قد قضى ما عليه ، وتوفّاه اللّه ، وجعل وجهه مع أرواح النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولم يكن بصاحبكم الذي به تنصرون ، إنّي أنا الأمير المأمور ، والأمين المأمون ، وقاتل الجبارين ، والمنتقم من أعداء الدين ، المقيّد من الأوتار ، فأعدوا واستعدوا وأبشروا ، أدعوكم إلى كتاب اللّه ، وسنّة نبيه ، والطلب بدم أهل البيت ، والدفع عن الضعفاء وجهاد المحلين ، والسلام » (١).
هذه هي ثورة التوابين ، المشرقة ، وهممهم العالية ، وتفاديهم في سبيل الهدى ، وقد بُذل لهم الأمان فلم يقبلوا فقد : ( صدقوا ما عاهدوا اللّه عليه ) (٢) فقد قاموا بواجبهم فما رجع منهم إلاّ قليل بعد اليأس من الغلبة على العدو فرجعوا إلى أوطانهم ولحقوا بعشائرهم وبذلك ابتغوا أنّ الوظيفة بعد باقية ، على عاتقهم.
وهناك كلمة قيمة للمحقّق شمس الدين نأت بها : « لقد اعتبر التوابون أنّ
__________________
١ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ١٧٥ ـ ١٨٦.
٢ ـ الأحزاب : ٢٣.
٢٥٦
المسوَول الأوّل والأهم عن قتل الحسين عليه‌السلام هو النظام ، وليس الأشخاص وكانوا مصيبين في هذا الاعتقاد ولذا نراهم توجّهوا إلى الشام ولم يلقوا بالاً إلى من في الكوفة من قتلة الحسين عليه‌السلام (١).
إنّ هذه الثورة قد انبعثت عن شعور بالاِثم والندم ، وعن رغبة في التكفير فمن يقرأ أقوالهم وكتبهم وخطبهم ، يلمس فيها الشعور العميق بالاِثم والندم ، والرغبة الحارة عن التكفير ، وكونها صادرة عن هذه البواعث ، جعلها ثورة انتحارية فالثائرون يريدون الانتقام والتكفير ـ ومع ذلك ـ إنّها أثّرت في مجتمع الكوفة تأثيراً عميقاً فقد عبّأت خطبُ قادات هذه الثورة وشعاراتهم ، الجماهير في الكوفة للثورة على الحكم الأموي.
__________________
١ ـ محمد مهدي شمس الدين : ثورة الحسين : ٢٦٤.
٢٥٧
٤
ثورة المختار
المختار هو ابن أبي عبيدة بن مسعود بن عمرو بن عوف بن عبدة بن عوف ابن ثقيف الثقفي ، ولد عام الهجرة وقد جاء أبوه به إلى علي عليه‌السلام وهو صغير وأجلسه على فخذه وقال له وهو يمسح على رأسه : « ياكيّس! ياكيّس! » ولذا لُقّبَ بالكيسان (١).
إنّ ثورة المختار الثقفي من الثورات الانتقامية التي أثلجت قلوب بني هاشم إذ ما امتشطت هاشمية ولا اختضبت ، حتى أخذ المختار ثأر الحسين من قتلته ، ولما وقف الاِمام علي بن الحسين عليهما‌السلام على ما جرى على أعداء أبيه بيد المختار خرّ ساجداً وقال : الحمد للّه الذي أدرك لي ثأري من أعدائي وجزى المختار خيرا (٢).
وهناك سوَال يطرح نفسه وهو أنّ المختار كان من أهل الولاء لأهل البيت عليهم‌السلام فلماذا لم يُشارك في جيش الاِمام عليه‌السلام ولم يقاتل أمامه ولكن التاريخ يجيبك عن هذا السوَال ، وهو أنّ الرجل جاء لنصرة الاِمام لكن قبض عليه وحيل بينه وبين أُمنتيه.
__________________
١ ـ الكشي : الرجال : ١١٦.
٢ ـ المصدر نفسه.
٢٥٨
يذكر الموَرخون أنّ مسلم بن عقيل عليه‌السلام خرج قبل الأجل الذي كان بينه وبين أصحابه منهم المختار بن أبي عبيدة ، وكان في قرية تدعى « لقفا » فبلغه ما جرى على مسلم فجاء بمواليه إلى الكوفة يحمل راية خضراء ومعه عبد اللّه بن الحارث رافعاً لواء أحمر ، فانتهى إلى باب الفيل ووضح لديهما قتل مسلم وهانىَ وأُشير عليهما بالدخول تحت راية عمرو بن حريث ليسلما على دمهما ، ففعلا وحفظ دمهما ابن حريث بشهادته عند ابن زياد باجتنابهما مسلم بن عقيل ، فقبل منه بعد أن شتم المختار واستعرض وجهه بالقضيب فشتر (١) عينه ، ثم أمر بهما فسجنا وبقيا في السجن إلى أن قتل الحسين عليه‌السلام فكتب المختار إلى عبد اللّه بن عمر ابن الخطاب وكان زوج أُخته (صفية) أن يشفع له عند يزيد بن معاوية ففعل وشفعه يزيد وأمر ابن زياد بإطلاقه من السجن بعد أن أجّله بالكوفة ثلاثاً ليخرج إلى الحجاز وإلاّ أعاده إلى السجن (٢).
خرج المختار إلى الحجاز وأقام هناك خمسة أشهر واجتمع مع ابن الزبير لخروجه على يزيد وكفاحه ضد الأمويين وهذه هي النقطة التي كان المختار وعبد اللّه بن الزبير وكثير من المعارضين يشتركون فيها حتى الخوارج. مكث عنده شهوراً وأياماً ولكن لم يجد بغيته فيه ، ومع ذلك كلّه قاتل الشاميين جنود الطاغية تحت راية عبد اللّه بن الزبير ، وهذا يدلّ على خلوصه في مكافحته الأمويين وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من بطولته وقتاله ضد الشاميين نقتطف منه ما يلي :
مكث المختار مع عبد اللّه بن الزبير حتى شاهد الحصار الأوّل حين قدم الحُصين بن النمير السكوني مكة فقاتل في ذلك اليوم ، فكان من أحسن الناس يومئذ بلاء وأعظمهم عناء ، ولما قتل المنذر بن الزبير والمسور بن مخرمة ومصعب بن
__________________
١ ـ شتر : قلب جفنه.
٢ ـ اليعقوبي : التاريخ : ٢ / ٢٥٨ ، ط دار صادر ـ بيروت ، الطبري : التاريخ : ٤ / ٤٤١ ـ ٤٤٢.
٢٥٩
عبد الرحمن بن عوف الزهري ، نادى المختار : يا أهل الاِسلام! إليّ إليّ أنا ابن أبي عبيد بن مسعود ، وأنا ابن الكرار لا الفرار ، أنا ابن المقدمين غير المحجمين. إليّ يا أهل الحفاظ وحماة الأوتار ، فحمى الناس يومئذ وأبلى وقاتل قتالاً حسناً ثم أقام مع ابن الزبير في ذلك الحصار حتى كان يوم أُحرق البيت ، فإنّه أُحرق يوم السبت لثلاث مضين من شهر ربيع الأوّل سنة ٦٤ هـ فقاتل المختار يومئذ في عصابة معه نحواً من ثلاثمائة أحسن قتال قاتله أحد من الناس إن كان ليقاتل حتى يتبلّد ثم يجلس ويحيط به أصحابه ، فإذا استراح نهض فقاتل ، فما كان يتوجه نحو طائفة من أهل الشام إلاّ ضاربهم حتى يكشفهم (١).
وقد ذكر الطبري شيئاً كثيراً من هذه البطولات أيّام إقامته في مكة مع ابن الزبير قبل مهلك يزيد وبعده.

مغادرته مكة إلى الكوفة :

ولما بلغ نعي يزيد إليه غادر مكة إلى الكوفة للطلب بدم شهيد الطف وإنّما اختار الكوفة لأنّ هناك مجتمع أنصاره وأعدائه ، ولما نزل الكوفة اجتمع حوله كثير من الشيعة ، يقول المسعودي : نزل ناحية من الكوفة وجعل يظهر البكاء على الطالبيين وشيعتهم ، ويظهر الحنين والجزع لهم ويحثُّ على أخذ الثار فمالت إليه الشيعة وانضافوا إلى جملته (٢) ولما بلغ إلى ابن الزبير التفاف الشيعة حول المختار وأنّه بصدد الخروج أحسّ خطراً وأنّه سوف يخرج العراق من يده ، وقد كان العراق تحت قدرته ، فرأى أنّ التفاف الناس حول المختار يرجع إلى عدم كفاءة عامله ، فحاول إبداله بعامل آخر لم يكن في اللباقة أحسن منه فاستعمل عبد اللّه بن مطيع بالكوفة ، وكان قدومه في رمضان لخمس بقين منه ، ولما قدم صعد المنبر وخطبهم
__________________
١ ـ الطبري : التاريخ : ٤ / ٤٤٥ ـ ٤٤٦.
٢ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ٧٣ ـ ٧٤.
٢٦٠
وقال : أمّا بعد فإنّ أمير الموَمنين (ابن الزبير) بعثني على مصركم وثغوركم وأمرني بجباية فيئكم وأن لا أحمل فضل فيئكم عنكم إلاّ برضا منكم ، وأن أتّبع وصية عمر ابن الخطاب التي أوصى بها عند وفاته ، وسيرة عثمان بن عفان فاتقوا اللّه واستقيموا ولا تختلفوا وخذوا على أيدي سفهائكم فإن لم تفعلوا فلوموا أنفسكم ولا تلوموني ، فواللّه لأوقعنَّ بالسقيم العاصي ، ولأقيمنّ درع الأصعر المرتاب (١).
ولو كان كلامه مقياساً لشعوره ودهائه وسياسته ، فهذه الخطابة التي ألقاها ، دليل على عدم تعرفه على بيئته ، والنفسيات الحاكمة على سكانها فإنّ ما ذكره إنّما كان يتجاوب مع أفكار قليل من أهل الكوفة الذين كانوا يتجاوبون مع بني أُمية ويحبّون خطهم ، وأمّا الأكثرية الساحقة ، فكانوا على خلاف تلك الفكرة.
ولأجل ذلك قام السائب بن مالك الأشعري ولم يمهله لاِتمام كلامه وقال : « أمّا حمل فيئنا برضانا فإنّا نشهد أنّا لا نرضى أن يحمل عنّا فضله ، وأن لا يقسم إلاّ فينا ، وأن لا يُسار فينا إلاّ بسيرة علي بن أبي طالب التي سار بها في بلادنا هذه حتى هلك ، ولا حاجة لنا في سيرة عثمان في فيئنا ولا في أنفسنا ، ولا في سيرة عمر بن الخطاب فينا وإن كانت أهون السيرتين علينا وكان يفعل بالناس خيرا ».
فقال يزيد بن أنس : صدق السائب وبرّ ، وعندئذ تنبه عبد اللّه بن مطيع أنّ كلامه لم يكن بليغاً مطابقاً لمقتضى الحال فعاد بتلطيف ما سبق وقال : نسير فيكم بكل سيرة أحببتموها ثم نزل (٢).
لمس المختار ما تتبناه الأكثرية الساحقة من أهل الكوفة والعراق ولم يكن آنذاك في وسعه تحقيق العدل الاجتماعي الذي سار به علي عليه‌السلام في أيامه ، ولكن كانت فيه مقدرة عظيمة على أخذ الثأر حتى يتمكن من الأخذ بمجامع القلوب.
____________
١ ـ الجزري : الكامل في التاريخ : ٤ / ٢١١ ـ ٢١٣.
٢ ـ الجزري : ٤ / ٢١٣.
٢٦١

ميزة ثورة المختار :

وتتميز ثورة المختار عن ثورة التوابين بأنّ ثورة هوَلاء كانت متوجّهة على النظام الأموي بالذات دون الذين ارتكبوا الجرائم بالمباشرة ، وذلك لاعتقادهم بأنّ النظام هو الأساس لقتل الحسين عليه‌السلام دون الأشخاص العملاء ، فلابد من السعي لقطع جذور السبب قبل مكافحة المسبب ، فلأجل ذلك تركوا الكوفة وفيها قتلة الحسين عليه‌السلام فتوجهوا إلى الشام وقد استشهد كثير منهم في معركة الحرب مع الشاميين وتراجع القليل منهم إلى الكوفة وعلى رأسهم رفاعة بن شداد الأمير الأخير لهم ، وتفرقوا في عشائرهم.
أمّا المختار فقد كانت ثورته متوجهه بالذات إلى القتلة ، وتطهير أرض العراق من جراثيم العيث والفساد من الأمويين ، وأمّا الذي حداه إلى اتّخاذ هذا الأسلوب في ثورته هو أنّ العراقيين قد استجابوا لابن الزبير وبايعوه وطردوا عامل الأمويين من الكوفة باسم عمرو بن حريث ، وذلك قبل خروج المختار ، وكانت أُمنيتهم من تلك البيعة أمرين :
١ ـ تحقيق العدل الاِجتماعي والسير وراء الاِصلاح الذي قام به الاِمام علي عليه‌السلام.
٢ ـ أخذ الثأر من قاتل الاِمام الحسين عليه‌السلام.
أمّا الأمر الأوّل فلم يتحقّق منه شيء واضح حتى يقنع العراقيين ، وأمّا الثاني فكان على طرف النقيض من أُمنيتهم حيث كانت هياكل الاِثم كعمر بن سعد وشمر بن ذي الجوشن وشبث بن ربعي وغيرهم مقربين إلى السلطة ، فصار ذلك سبباً لتسرّب الضعف إلى سلطان ابن الزبير في القلوب فكانوا يتحيّنون الفرص للخروج عن بيعته وإقامة نظام جديد يحقّق العدل الاجتماعي الذي مارسوه في
٢٦٢
عهد الاِمام علي وأخذ الثأر من قتلة الاِمام.
نهض المختار والشيعة هم الأغلبية الساحقة على الكوفة ـ غير راضين من سلطة ابن الزبير وعامله في الكوفة عبد اللّه بن مطيع واجتمعت الشيعة حول المختار واتفقوا على الرضا به ولم يزل أصحابه يكثرون ، وأمره يقوى.
إنّ ثورة المختار كانت ثورة وهاجة أنارت الطريق للثائرين الآتين بعده ، غير أنّ حولها إبهامات وتأملات أهمها كونها مبعوثة أو مدعمة من جانب ابن الحنفية مع أنّ الاِمام القائم مقام الحسين ووليه وسلطان دمه هو علي بن الحسين زين العابدين عليهما‌السلام ولعلّ اتصاله بابن الحنفية لأجل أنّه قام بالأمر وقد مضت خمس سنين من شهادة الاِمام وكان محمد الحنفية شخصية معروفة من عصر الاِمام علي ويعد من علماء أهل البيت فاستجاز منه حتى يتخذه رصيداً لثورته ولا يعد ذلك دليلاً على أنّه كان معتقداً بإمامته على أنّه لم يظهر لابن الحنفية أية دعوة لنفسه ، ولو رمي بالدعوة فإنّما هو من أساطير المخالفين لأجل تشويه سمعته والتشكيك في قلوب الشيعة ، مع أنّ المختار أرسل الرسل وروَوس القتلة إلى علي بن الحسين عليه‌السلام أثناء ثورته كما سيوافيك.
خرج المختار بعد مناوشات واشتباكات بينه وبين عبد اللّه بن مطيع ، عامل ابن الزبير في الكوفة حتى غلب عليه المختار ، فدخل المختار القصر وبات فيه وأصبح أشراف الناس في المسجد وعلى باب القصر وخرج المختار فصعد المنبر فحمد اللّه وأثنى عليه وقال :
« الحمد للّه الذي وعد وليه النصر ، وعدوّه الخسر ، وجعله فيه إلى آخر الدهر وعداً مفعولاً ، وقضاءً مقضياً وقد خاب من افترى ، أيّها الناس إنّا رفعت لنا راية ومدّت لنا غاية فقيل لنا في الراية إنّ إِرفعوها ، وفي الغاية أن أجروا إليها ولا تعدوها ، فسمعنا دعوة الداعي ومقالة الواعي.
٢٦٣
ـ وقال في نهاية كلامه : ـ فلا والذي جعل السماء سقفاً محفوظاً والأرض فجاجاً سبلاً ، ما بايعتم بعدَ بيعة علي بن أبي طالب وآل علي ، أهدى منها ».
ثم نزل ودخل عليه أشراف الكوفة فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة رسول اللّه والطلب بدماء أهل البيت وجهاد المحلّين والدفع عن الضعفاء وقتال من قاتلنا وسلم من سالمنا (١).
وأقبل المختار يمنّي الناس ويستجرّ مودة الأشراف ويحسن السيرة ، وقيل له : إنّ عبد اللّه بن مطيع في دار أبي موسى ، فسكت فلمّا أمسى بعث له بمائة ألف درهم وقال : تجهّز بهذه فقد علمت مكانك وأنّك لم يمنعك من الخروج إلاّ عدم النفقة وكان بينهما صداقة (٢).
نهض المختار بالكوفة لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأوّل سنة ٦٦ هـ وبقي إلى شهر رمضان من سنة ٦٧ هـ وكانت ولايته ما يقارب ١٨ شهراً فجدّ في الأمر وبالغ في النصرة وتتبّع أُولئك الأرجاس وقد أخذ الثأر من قتلة الحسين عليه‌السلام. ونذكر هنا شيئاً قليلاً من قتاله وكفاحه في ساحة الأخذ بالثأر :
كان عامل المختار على الموصل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمداني فزحف إليه عبيد اللّه بن زياد بعد قتله سليمان بن صرد (الأمير الأوّل للتوابين) ، فحاربه عبد الرحمن وكتب إلى المختار بخبره. فوجّه إليه يزيد بن أنس ، ثم وجّه إبراهيم بن مالك بن الحارث الأشتر ، فلقي عبيد اللّه بن زياد فقتله ، وقتل الحصين ابن نمير السكوني ، وشرحبيل بن ذي الكلاع الحميري ، وحرق أبدانهما بالنار وأقام والياً على الموصل وأرمينية وآذربيجان من قبل المختار وهو على العراق والٍ ، ووجّه
__________________
١ ـ ابن الأثير : الكامل : ٤ / ٢١١ ـ ٢٢٦ بتلخيص.
٢ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ٢٢٥ ـ ٢٢٦.
٢٦٤
برأس عبيد اللّه بن زياد إلى علي بن الحسين إلى المدينة مع رجل من قومه ، وقال له : قف بباب علي بن الحسين فإذا رأيت أبوابه قد فتحت ودخل الناس فذاك الوقت الذي يوضع فيه طعامه ، فادخل إليه ، فجاء الرسول إلى باب علي بن الحسين عليهما‌السلام فلمّا فتحت أبوابه ودخل الناس للطعام ، نادى بأعلى صوته : يا أهل بيت النبوة ، ومعدن الرسالة ، ومهبط الملائكة ومنزل الوحي أنا رسول المختار بن أبي عبيد معي رأس عبيد اللّه بن زياد ، فلم تبق في شيء من دور بني هاشم امرأة إلاّ صرخت ، ودخل الرسول فأخرج الرأس فلمّا رآه علي علي بن الحسين قال : أبعده اللّه إلى النار.
وروى بعضهم أنّ علي بن الحسين عليهما‌السلام لم يُرَ ضاحكاً يوماً قط ، منذ قتل أبوه ، إلاّ في ذلك اليوم ، وأنّه كان له إبل تحمل الفاكهة من الشام ، فلمّا أُتي برأس عبيد اللّه بن زياد أمر بتلك الفاكهة ففرقت في أهل المدينة ، وامتشطت نساء آل رسول اللّه ، واختضبن ، وما امتشطت امرأة ولا اختضبت منذ قتل الحسين بن علي عليهما‌السلام.
وتتبّع المختار قتلة الحسين فقتل منهم خلقاً عظيماً ، حتى لم يبق منهم كثير أحدٍ ، وقتل عمر بن سعد وغيره ، وحرق بالنار ، وعذب بأصناف العذاب (١).
وقد جاء الجزري بتفصيل قتل قادة الجيش الأموي في كربلاء. قال :
وكان عمرو بن الحجاج الزبيدي ممن شهد قتل الحسين فركب راحلته ، وقيل أدركه أصحاب المختار وقد سقط من شدّة العطش فذبحوه وأخذوا رأسه.
وبعث المختار غلاماً له يدعى زربى في طلب شمر بن ذي الجوشن ومعه أصحابه أحاطوا بالبيت الذي فيه شمر ، وقام شمر وقد اتّزر ببرد وكان أبرص فظهر بياض برصه من فوق البرد وهو يطاعنهم بالرمح وقد عجّلوه عن لبس ثيابه
__________________
١ ـ اليعقوبي : التاريخ : ٢ / ٢٥٩.
٢٦٥
وسلاحه ، وكان أصحابه قد فارقوه فلمّـا أبعدوا عنه ، سمعوا التكبير وقائلاً يقول : قتل الخبيث ، قتله ابن أبي الكنود وأُلقيت جثته للكلاب (١).
ثم أُرسل إلى خولي بن يزيد الأصبحي وهو صاحب رأس الحسين عليه‌السلام فاختفى في مخرجه فدخل أصحاب المختار يفتّشون عنه ، فخرجت امرأته ، واسمها العيوف بنت مالك ، وكانت تعاديه منذ جاء برأس الحسين فقالت لهم : ماتريدون؟ فقالوا لها : أين زوجك؟ قالت : لا أدري ، وأشارت بيدها إلى المخرج فدخلوا فوجدوه وعلى رأسه قَوْصرّة فأخرجوه وقتلوه إلى جانب أهله وأحرقوه بالنار.
وبعث المختار أبا عمرة إلى عمر بن سعد فأتاه وقال : أجب الأمير فقام عمر ، فعثر في جبة له ، فضربه أبو عمرة بسيفه فقتله وأخذ رأسه فأحضره عند المختار ، فقال المختار لابنه « حفص بن عمر » وهو جالس عنده : أتعرف من هذا؟ قال : نعم ولا خير في العيش بعده فأمر به فقتل ، وقال المختار : هذا بحسين ، وهذا بعلي بن الحسين ولا سواء ، واللّه لو قتلتُ به ثلاثة أرباع قريش ، ما وفوا أُنملة من أنامله ، ثم بعث برأسه ورأس ابنه إلى ابن الحنفية وكتب إليه يعلمه أنّه قد قتل من قدر عليه وإنّه في طلب الباقين ممن حضر القتل (٢).
ثم إنّ المختار أرسل إلى حكيم بن طفيل الطائي ، وكان أصاب سلب العباس بن علي ورمى الحسين بسهم. كما بعث إلى قاتل علي بن الحسين وهو مرّة ابن منقذ فأحاطوا بداره ، فخرج إليهم على فرسه وبيده رمحه فطاعنهم فضُـرب على يده وهرب منهم فنجا ولحق بمصعب بن الزبير وشلّت يده بعد ذلك.
وطلب المختار سنان بن أنس الذي كان يدّعي قتل الحسين فرآه قد هرب إلى البصرة فهدم داره ، كما أرسل إلى محمد بن الأشعث ولم يجده وقد كان هرب إلى
__________________
١ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧ باختصار.
٢ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ٢٤١ ـ ٢٤٢.
٢٦٦
مصعب ، فهدم المختار داره وبنى بلبنها وطينها دار حجر بن عدي الكندي ، كان زياد قد هدمها (١).
وفي الختام نذكر عمله القيم الذي أنجى به لفيفاً من أهل بيت النبي الأكرم من الاِحراق بالنار.
إنّ عبد اللّه بن الزبير حبس محمد الحنفية وأصحابه بزمزم وتوعدهم بالقتل والاِحراق وإعطاء اللّه عهداً إن لم يُبايعوا أن ينفذ فيهم ما توعّدهم به ، وضرب لهم في ذلك أجلاً.
فأشار بعض من كان مع ابن الحنفية عليه ، أنّ يبعث إلى المختار يعلمه حالهم فكتب إلى المختار بذلك وطلب منه النجدة فقرأ المختار الكتاب على الناس ، فبكى الناس وقالوا : سرّحنا إليه ، وعجّل ، فبعث إليهم ثمانمائة راكب من أهل القوة ، حتى دخلوا المسجد الحرام ومعهم الرايات وهم ينادون يالثارات الحسين حتى انتهوا إلى زمزم ، وقد أعدّ ابن الزبير الحطب ليحرقهم ، وكان قد بقي من الأجل يومان ، فكسروا الباب ، ودخلوا على ابن الحنفية يستأذنون القتال وهو يقول : إنّي لا أستحلّ القتال في الحرم. فخافهم ابن الزبير وتركهم. وخرج محمد بن الحنفية ومن معه إلى شعب علي وهم يسبّون ابن الزبير ويستأذنون محمداً فيه فأبى عليهم فاجتمع في الشعب أربعة آلاف رجل فقسّم بينهم المال وعزوا وامتنعوا (٢).
ونقل الجزري أنّ ابن عباس كان أيضاً محبوساً مع محمد الحنفية فأزال جيش المختار الضرر عن كليهما ، ولما قتل المختار قوى عليهما ابن الزبير فخرجا إلى الطائف ولما وصل ابن عباس إلى الطائف توفي به وصلّـى عليه ابن الحنفية (٣).
__________________
١ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ٢٤٢ ـ ٢٤٤.
٢ و ٣ ـ الجزري : الكامل : ٤ / ٢٥٠ ـ ٢٥٤.
٢٦٧

قتل المختار بجيش مصعب بن الزبير :

كان المختار يسيطر على قسم كبير من أراضي العراق من الكوفة إلى الموصل وغيرهما وكان أمامه عدوين غاشمين : أحدهما عبد اللّه بن الزبير حيث كان يحكم على العراق كله غير أنّه أخرج المختار عامله من الكوفة وبقيت البصرة بيد عامله مصعب بن الزبير ، ثانيهما عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي الذي كانت بيده مفاتيح الأقطار الاِسلامية غير العراق والحجاز.
وكان مصعب يتحيّن الفرصة للهجوم على الكوفة وعزل المختار وكان عبد اللّه يشجّعه على ذلك ناسياً عمله المشرق عند ما ضرب جيش الشام الحصار على ابن الزبير ، فقد حارب المختار ذلك الجيش المكثَّف أياماً عديدة ، ولكن الملك عقيم. هذا من جانب.
ومن جانب آخر أنّ المختار تتبّع قتلة الحسين عليه‌السلام بيتاً بيتاً وجدّ في الأمر ، وقتل أُولئك الأرجاس ، ولأجل فتكه وقتله ، هرب قسم من أشراف الكوفة الذين كان لهم يد في قتل الحسين عليه‌السلام منهم شبث بن ربعي ، حيث ورد البصرة على هيئة خاصة يحرض والي البصرة على قتال المختار وهو في عمله هذا اتّبع ضمضم بن عمرو الغفاري عند ما أرسله أبو سفيان ليخبر قريشاً بالخطر الذي يحدق بتجارتهم ، فاستأجر ذلك الرجل وأمره بأن يجدع بعيره ، ويقطع رحله ويشقّ قميصه من قبله ودبره ، ويصيح : الغوث الغوث.
قام شبث بن ربعي بنفس ذلك العمل (والجنس إلى الجنس يميل) جاء راكباً بغلة قد قطع ذنبها وقطع أطراف أُذنها في قباء مشقوق وهو ينادي : وا غوثاه ، فقال الأشراف الهاربون إلى البصرة لمصعب : سر بنا إلى محاربة هذا الرجل الذي هدم دورنا وأخذوا يحرضونه على ذلك.
٢٦٨
فجاء مصعب بجيش كثيف وقد وقعت بينهما حروب طاحنة في أقطار متعددة إلى أن انحسر المختار إلى الكوفة ، وتخبّأ بالقصر.
فحاصره ابن الزبير بقصر الاِمارة مع أربعمائة رجل من أصحابه أياماً ، وقد كان المختار يخرج من القصر فيقاتل ويرجع إلى أن قتل لأربع عشرة ليلة خلت من شهر رمضان ، خرج بمن معه مستميتين فقتلوا وقتل المختار وجاء القاتل برأسه إلى مصعب بن الزبير فأجازه بثلاثين ألف درهم ، ثم ابتدأ الجيش بقتل الناهضين معه وقتلوا رجالاً كثيراً ، ثم بعث مصعب على حرم المختار ودعاهنّ إلى البراءة فرجعت ابنة سمرة بن جندب ولعنته وتبرّأت منه فأطلق سراحها وأبت زوجته الأخرى ابنة النعمان بن بشير وقالت : شهادة أُرزقها ثم أتركها ، كلا إنّها موتة ثم الجنّة والقدوم على الرسول وأهل بيته ، فأمر بها مصعب وقتلت صبراً.
٢٦٩
٥
ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث
لا يهمّنا في المقام بيان تفاصيل الثورة التي جاءت في تاريخ الطبري والكامل وغيرهما وإنّما يهمّنا الاِلماع إلى النقطة الحساسة في خطب الثائرين على النظام الأموي ، فقد ترى فيها محاكات عن خطب الاِمام أبي الشهداء وبذلك صاروا مستلهمين ثورتهم من ثورته ، وفكرتهم من فكرته ، وقد نقموا من النظام بنفس ما نقم به الاِمام منهم ، وإليك بيانها على وجه موجز :
أرسل الحجاج ، عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث إلى سجستان على رأس جيش عراقي وقد فتحوا من البلاد شيئاً كثيراً وكتب القائد في النهاية إلى الحجاج أنّ رأيه إيقاف الحرب في هذه البلاد حتى يعرفوا طريقها ، ويجبوا خراجها ، ولما وصل الكتاب إلى الحجاج كتب إليه كتاباً وبّخه فيه على إيقاف الحرب ، ثم أردفه بكتاب ثانٍ وثالث يأمره بالتوغّل في الحرب وأنّه إن أظهر العجز فالأمير أخوه إسحاق بن محمد.
ولما وصلت كتب الحجاج إلى عبد الرحمن جمع أصحابه وقال : أيّها الناس! إنّي لكم ناصح ولصلاحكم محب ، ثم ذكر ما دار بينه وبين الحجاج عن طريق الكتب ، وأنّه أمره بالتوغل في الحرب في أرض العدو ، وهي البلاد التي هلك فيها إخوانكم بالأمس. وقال : إنّما أنا رجل منكم أمضي إذا مضيتم ، وآبي إذا أبيتم. فثار إليه الناس فقالوا : لا بل نأبى على عدوّ اللّه ، ولا نسمع له ولا نطيع.
٢٧٠
وقد تكلّم فيمن تكلّم عامر بن واثلة الكناني ، فقال بعد أن حمد اللّه وأثنى عليه : أما بعد فإنّ الحجاج واللّه ما يرى بكم إلاّ ما رأى القائل الأوّل إذ قال لأخيه : إحمل عبدك على الفرس ، فإن هلك هلك وإن نجا فلك ، إنّ الحجاج واللّه ما يبالي أن يخاطر بكم فيقحمكم بلاداً كثيرة اللهوب واللصوب ، فإن ظفرتم فغنمتم أكل البلاد ، وحاز المال ، وكان ذلك زيادة في سلطانه ، وإن ظفر عدوكم كنتم أنتم الأعداء البغضاء الذين لا يبالي عنتهم ولا يبقي عليهم ، اخلعوا عدوّ اللّه الحجاج وبايعوا عبد الرحمن فإنـّي أُشهدكم أنـّي أوّل خالع ، فنادى الناس من كل جانب : فعلنا ، فعلنا قد خلعنا عدوّ اللّه.
وقام عبد الموَمن بن شبث بن ربعي التميمي ثانياً وكان على شرطته حين أقبل فقال : عباد اللّه إنّكم إن أطعتم الحجاج جعل هذه البلاد بلادكم مابقيتم ، وجمّركم تجمير فرعون الجنود فإنّه بلغني أنّه أوّل من جمّر البعوث ، ولن تعاينوا الأحبة فيما أرى أو يموت أكثركم. بايعوا أميركم وانصرفوا إلى عدوكم فانفوه عن بلادكم ، فوثب الناس إلى عبد الرحمن فبايعوه فقال : تبايعوني على خلع الحجاج عدوّ اللّه وعلى النصرة لي وجهاده معي حتى ينفيه اللّه من أرض العراق فبايعه الناس ولم يذكر خلع عبد الملك إذ ذاك بشيء.
ثم إنّه خرج عبد الرحمن من سجستان مقبلاً إلى العراق فلمّا دخل فارس اجتمع الناس بعضهم إلى بعض وقالوا : إنّا إذا خلعنا الحجاج عامل عبد الملك فقد خلعنا عبد الملك ، فاجتمعوا إلى عبد الرحمن فبايعوه على كتاب اللّه وسنّة نبيّه وخلع أئمة الضلالة وجهاد المحلّين.
ثم بعد وقوع اشتباكات عنيفة بين عبد الرحمن وجنود الحجاج ، دخل عبد الرحمن البصرة ، وبايعه الناس من كهولها وقرائها على حرب الحجاج وخلع عبد الملك وكان ذلك في آخر ذي الحجّة من سنة ٨١ هـ ، فصارت الحرب في
٢٧١
الحقيقة بين الشاميين يرأسهم الحجاج ، والعراقيين يقودهم عبد الرحمن.
مضى ابن الأشعث إلى جانب الكوفة والحجاج خلف عبد الرحمن إلى أن حصل التقابل بين الجندين في دير الجماجم (١) فلمّا حمل أهل الشام على العراقيين ناداهم عبد الرحمن ابن أبي ليلى الفقيه ، فقال : يا معشر القرّاء إنّ الفرار ليس بأحد من الناس بأقبح منه بكم ، إنـّي سمعت عليّاً رفع اللّه درجته في الصالحين وأثابه أحسن ثواب الشهداء والصدّيقين ، يقول يوم التقينا أهل الشام : « أيّـها الموَمنون إنّه من رأى عدواناً يعمل به ، ومنكراً يدعى إليه فأنكره بقلبه ، فقد سلم ، وبرىَ ، ومن أنكر بلسانه فقد أجر وهو أفضل من صاحبه ، ومن أنكر بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا وكلمة الظالمين السفلى ، فذلك الذي أصاب سبيل الهدى ونوّر قلبه باليقين ، فقاتلوا هوَلاء المحلّين المحدثين المبتدعين الذين قد جهلوا الحقّ فلا يعرفونه وعملوا بالعدوان فليس ينكرونه.
وقال أبو البختري : أيّـها الناس قاتلوهم على دينكم ودنياكم ، فواللّه لئن ظهروا عليكم ليفسدنّ عليكم دينكم وليغلبنّ على دنياكم.
وقال الشعبي : يا أهل الاِسلام قاتلوهم ولا يأخذكم حرج من قتالهم فواللّه ما أعلم قوماً على بسيط الأرض أعمل بظلم ، ولا أجور منهم في الحكم فليكن بهم البدار.
وقال سعيد بن جبير : قاتلوهم ولاتأثموا من قتالهم بنيّة ويقين وعلى آثامهم ، قاتلوهم على جورهم في الحكم وتجبّـرهم في الدين واستذلالهم الضعفاء وإماتتهم الصلاح (٢).
__________________
١ ـ دير الجماجم : بظاهر الكوفة على سبعة فراسخ منها على طرف البرّ للسالك إلى البصرة قال أبو عبيدة : الجمجمة : القدح من الخشب وبذلك سمُيَ دير الجماجم لأنّه يعمل فيه الأقداح من الخشب (معجم البلدان : ٢ / ٥٠١).
٢ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ١٤٥ ـ ١٦٣.
٢٧٢
إلى غير ذلك من الخطب التي أُلقيت في ذلك المقام وإن تمت الحرب لصالح الحجاج وقضى على ثورة ابن الأشعث يوم الأربعاء لأربع عشرة مضت من جمادي الأخرى عام ٨٣ هـ ولكنّها كانت ثورة وهّاجة في وجه العدو استتبعت ثورات أُخرى حتى قضت على بني أُمية من رأس.
وأُعلّق على ثورة عبد الرحمن بأُمور :
١ ـ إنّ الاِمعان في هذه الكلم الموجزة يقتضي بأنّ القوم كانوا مستلهمين من خطب الاِمام أمير الموَمنين وخطب سيد الشهداء يوم عاشوراء وغيره ، ويظهر ذلك بمقارنة خطب أبي الشهداء منذ غادر المدينة إلى أن استشهد في الطف ، وبهذا يظهر أنّ هذه الثورات كانت نابعة عن ثورة الحسين ولولاها لما تتابعت هذه الثورات وبالتالي كان الحكم بيد الأمويين إلى قرون كما كان الأمر كذلك بيد العباسيين ولم يكونوا أحسن سلوكاً من الأمويين.
٢ ـ نرى أنّ سعيد بن جبير ذلك التابعي العظيم وكميل بن زياد النخعي ، ممن شاركوا في هذه الثورة وجاهدوا تحت راية عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث مع أنّ بين المقود والقائد بعد المشرقين ، فهوَلاء كانوا علويين وعبد الرحمن وأبوه محمد ابن الأشعث كانا عثمانيَّي الهوى ، فإنّ محمد بن الأشعث هو الذي قضى على ثورة مسلم في الكوفة وقتله وشارك في قتل الحسين. وما هذا إلاّ لأنّ روَساء الشيعة آنذاك استثمروا الفرصة وشاركوا في هذه الثورة ليقضوا على العدوّ الغاشم بيد غيرهم ، ولأجل ذلك لما وضعت الحرب أوزارها دعا الحجاج بكميل بن زياد النخعي فقال له : أنت المقتصّ من عثمان أمير الموَمنين قد كنت أحب أن أجد عليك سبيلا. فقال : واللّه ما أدري على أيّنا أنت أشد غضباً عليه حين أقاد من نفسه أم عليّ حين عفوت عنه؟ ثم قال : أيّها الرجل من ثقيف لا تصرف عليَّ أنيابك ولاتهدّم عليّ تهدُّم الكثيب ، ولاتكشر كشران الذئب ، واللّه ما بقي من
٢٧٣
عمري إلاّ ضِمْءُ الحمار فإنّه يشرب غدوة ويموت عشية ، ويشرب عشية ويموت غدوة ، إقض ما أنت قاض فإنّ الموعد اللّه وبعد القتل الحساب. قال الحجاج : فإنّ الحجّة عليك. قال : ذلك إن كان القضاء إليك ، قال : بلى كنتَ فيمن قتل عثمان وخلعت أمير الموَمنين. أُقتلوه ، فقدم فقتل ، قتله أبو الجهم بن كنانة (١).
٣ ـ إنّ الحجاج كان ممن نكست فطرته فالمعروف كان عنده منكراً والمنكر معروفاً ، وكان قتل الأبرياء وتعذيبهم بألوان العذاب شيئاً سهلاً عنده. يقول الموَرخون : لما أسرف الحجاج في قتل أسارى دير الجماجم واعطائه الأموال بلغ ذلك عبد الملك فكتب إليه : أمّا بعد : فقد بلغ أمير الموَمنين سرفك في الدماء وتبذيرك في الأموال ولا يحتمل أمير الموَمنين هاتين الخصلتين لأحد من الناس ، وقد حكم عليك أمير الموَمنين في الدماء في الخطاء الدية وفي العمد القود ، وفي الأموال ردّها إلى مواضعها ...
فلمّا بلغ كتاب عبد الملك إليه كتب إليه في الجواب : واللّه ما عليَّ من عقل ولا قود ، ما أصبتُ القوم فأدِيَهُم ، ولاظلمتهم فأُقاد بهم ، ولا أعطيتهم إلاّ لك ، ولا قتلت إلاّ فيك ... (٢).
وكان سعيد بن الجبير وكميل بن زياد ومئات من التابعين الأبرياء كانوا ممن تستباح دماوَهم وأموالهم فخضّب وجه الأرض بسيول الدماء ... وإلى اللّه المشتكى.
٤ ـ وإنّ من العجب العجاب مشاركة الحسن المثنى في انتفاضة ابن الأشعث ولأجل ذلك يعدّه ابن المرتضى سلفاً للزيدية ، ولم يكن زيد يوم ذاك إلاّ طفلاً أو مراهقاً ، وبما أنّ أهل البيت كانوا يعانون من النظام الأمويّ المتمثل يوم
__________________
١ ـ الطبري : التاريخ : ٥ / ١٦٩ ـ ١٧٠.
٢ ـ المسعودي : مروج الذهب : ٣ / ١٣٤ ـ ١٣٥.
٢٧٤
ذلك في بني مروان ، شاركوا في مثل هذه الانتفاضة لاتفاقهم معه في الهدف الموَقّت أعني إزالة عبد الملك عن الحكم (١).
إلى هنا تمت الثورات المتقدمة على ثورة الاِمام زيد وقد اتضح كونها مستلهمة من ثورة الحسين بوجه وحان حين الكلام في ثورة زيد الشهيد التي أنارت الطريق للثائرين المتأخرين الذين أنهضهم بثورته ، للقضاء على النظام السائد في مدّة لا تتجاوز عشر سنين وإليك البيان.
__________________
١ ـ البحر الزخار : المقدمة / ٢٢٥ ، وسيوافيك الكلام عند ذكر أئمة الزيدية.
٢٧٥
٢٧٦
يتبع 
2
3

Aucun commentaire: