مصطفى فهمى في الجمعة 14 نوفمبر 2008
__________________________ ______________
دعوة للتفكر
إن اللاحق فى هذا البحث هو دعوة للتفكير و التفكر و العقل و التدبر لما هو وارد إلينا و مشهور لدينا بالنقل سواء كنا من العامة أو من الخاصة من فقه و تفسير و أثر - وهو بالضرورة ليس كل ما قيل - نأخذه مأخذ المسلمات و نقدسه و نلحقه بالشارع سبحانه و تعالى و نجزم و نروع الناس أن هذا مراده.
تم اختيارى لموضوع مشهور فى العقيدة و الفقه قد يكون صادما لأغلب الناس و ذلك عن عمد، ليكون مثالا لعموم الحال و ليس لخصوص de; الموضوع.
ونستشهد لهذه الدعوة بالآيات التالية بوجوب إعمال العقل وعدم القصر على النقل غير العاقل و التشبث به.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) البقرة}
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ (71) الصافات}
تمهيد عمومى
إن استعمال لله فى قرآنه كلمات و ألفاظ مختلفة المعانى تدور فى دائرة معينة تتسع و تضيق كالتحريم و النهى و الاجتناب و البعد و عدم القرب و ذلك من مقام المنع إلى مقام التحذير - للأعمال و للأفعال التى إن تمت و إن وقعت وإن تحققت تكون إثما - يجب علينا استقبالها و فهمها حسب دلالاتها، فإذا التفتنا عن دلالاتها المختلفة أو أجملنا فى معناها أو سوينا بين البعض منها عن جهل أو تقية للمؤمنين، كان هذا اعتراف منا بعدم ضرورة اختلاف مقصدها و بالتالى انتفاء غرض تنوعها فى سياق الذكر الإلهى.
المنهج
النصوص القرآنية صالحة لكل مكان و زمان
بالضرورة لا يوجد فى القرآن آيات ناسخة و آيات منسوخة و بالتالى لا توجد أحكام ناسخة و أحكام منسوخة، أو أحكام نسخت و رفعت من النص القرآنى و بقى حكمها!، و أحكام بقى نصها و عُطل حكمها! و ما إلى ذلك من عقائد و أقوال روجها فقه السابقون و يرددها التابعون، فمن استدرجوا بأن هذا هو نهاية الفهم و لا بعده من فهم، كانوا أسرى التطبيق فى واقعهم الزمنى و المكانى فقط و غاب عنهم حقيقة حتمية دوام كلمات الله و أحكامه وضرورة دوام صلاحيتها لكل مكان و زمان، فإن المراد لإلهى من الأحكام لا يتغير و لا يتناقض، فلا يكفى فهمنا القاصر للإقرار بأن هناك حكم إلهى ينقض حكم آخر أو يطوره أو يدرّجه، فإن كل حكم إلهى بالضرورة صالح بذاته على كفاية المراد منه
مقدمة
للوصول إلى مبتغى البحث، يجب علينا فحصه من كل جوانبه، و كذلك بحث كل ما يتعلق و يرتبط به من قريب و من بعيد، وهنا نحاول فهم معنى الاجتناب - للعمل به بحقه - و هل المقصود به هنا هو التحريم، وإذا كان كذلك فلماذا استعمل الله أمر الاجتناب؟، أم أن العقل و المنطق يحثنا على فهم ضرورة كون أن له معنى مغاير و يناسب الغرض منه!، - وهو ما نرى و نعتقد - فى ضوء خصوصية معانى مفردات اللغة العربية عند استعمالها (عدم الترادف)، فما بال استعمالها من لدن العلى العليم.
و نحاول فيما يلى و حسب قدرتنا المتواضعة أن نستوضح تلك المنظومة التى تبدو مركبة معقدة وهى فى الحقيقة واضحة و بسيطة، لمن يستعين بالعقل فى فهم رسالة الله الموجهة لنا من خلال آيات القرآن و بالمنطق البسيط المنضبط من خلال العقل الممنوح المتاح لنا من الخالق، و قد أقتضى الأمر الدخول فى فروع و تحقيق معانى كلمات نراها هامة لاستيفاء أركانها و للإجابة على ما قد يثار فى ذهن المتلقى خلال رحلته القليلة معنا والتى نأمل أن تحفز لدية الكثير و تجعله من العاملين بالعقل و ليس من أهل النقل أو أسير تراث و هذا هو مرادنا و لا نشاء غيره و لا نملك أن ندعى أن هذا هو نهاية الفهم أو القول.
وعلى كل قارئ أن يصل بنفسه لقناعة تعينه فى فهم الرسالة الإلهية و تساعده فى حركته فى الحياة التى هى معبر لحياة أخرى، و الله المستعان
فى محاولة لفهم (الأمر) و (الآمر) و (المأمور)
إن الأمر يكون أمر بفعل أو أمر بنهى عن فعل وقد يوضح الآمر المراد من الأمر أو سببه وقد لا يوضح مراده و فى الحالين يقوم المأمور بتفقد منطقية الأمر و هنا ينشأ إما تأييد للأمر أو مقاومة له بصرف النظر عن وجوب تنفيذه.
إن منطقية و وجوب تنفيذ المأمور للأمر من عدمه يحكمه علاقة ذات اتجاهين
الاتجاه الأول وهو علاقة الأمر بالمأمور و مدى سلطانة و قدرته على المأمور و منطقية الأمر و مراده، فى المكان و الزمان الآنى.
الاتجاه الثانى هو علاقة المأمور بالآمر و مدى خضوعه للآمر و قناعته به واقتناعه بمنطقية الأمر و مراده، فى المكان و الزمان الآنى.
أما الأوامر و النواهى من الله للعابد المؤمن به فتحكمها علاقة ذات طبيعة خاصة، تبتدئ بقناعة و إيمان و اعتراف المأمور بإلوهية الآمر و سلطانه و قدرته و مطلق منطقية مراده – حتى و لو لم يتوصل المأمور لتلك المنطقية - و بالتالى وجوب تنفيذ أوامره بلا مزايدة أو انتقاص.
ومن ذات هذه الطبيعة الخاصة لتلك العلاقة (إيمان و اعتراف المأمور (الإنسان) بإلوهية الآمر (الله) و سلطانه و قدرته و مطلق منطقية مراده) فقد يفصح الله عن المراد من الأمر أو سببه وقد لا يفصح عن مراده أو سببه و يترك لنا حسب مكاننا و زماننا و علمنا فهم المراد من الأمر و فى كل الأحوال إما أن يوضح لنا طريقة و شكل تنفيذه بالتفصيل فيكون ذلك علامة لنا بأن تلك الطريقة أو ذلك الشكل صالح و ممكن تنفيذه فى كل مكان و زمان و لكل إنسان أو يوضح لنا الشكل و الطريقة بكلية أو لا يوضحها إطلاقا فيكون ذلك علامة لنا و سماح بتنفيذها بالطريقة التى تناسب المكان و الزمان و الإنسان، بشرط بذل الجهد و العقل للتأكد من فهم المراد الإلهى لتنفيذه
هل يعقل تحريم عين الوسيلة؟ أم المعقول هو اجتناب الإثم المحتمل من استعمالها؟
إن كل خلق الله – مع الأخذ فى الاعتبار ذاتية كل مخلوق من الخلق و وظيفته و صفاته فى الكون - و كل ما اخترع و خَلقْ الإنسان من خلق الله، هم كلهم وسائل، و كل تلك الوسائل بالضرورة تكون صالحة لأن تنتج أثر نفع أو أثر ضرر، و بحسب استعمالها ينتج الأثر و يتصف بصفة النافع أو الضار، و علينا عند استعمالها تجنب الوقوع فى الحيز المحظور فيها الذى ينتج الأثر الضار منها و خصوصا إن كان الله نبهنا لذلك.
و نستعين هنا بموضوع مثالى لما نبحثه، وقع معظم من بحثه فى فخ الأخذ بالأحوط أو القياس أو تعميم الضرر، فخلطوا بين أمر الاجتناب و التحريم.
بل وخلطوا أيضا بين استعمال الوسيلة و الأثر الناتج عن استعمالها، فنتج عن ذلك تحريم استعمال الوسيلة (و نأخذ هنا مثال عين الخمر) و نسوا أو تناسوا أن ذلك يجرنا و يجرهم إلى تحريم استعمال أى عين وسيلة لها أثر نافع و ضار، و ما من عين وسيلة إلا كذلك.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ...(219) البقرة}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) المائدة}
وصّف الآمر (الله) للمأمور (المؤمن به المتبع رسالته) أن (الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) من الوسائل التى باستعمالها تنتج أفعال و أعمال عواقبها عظيمة التأثيم و محرمة وأيضا لها استعمالات و آثار نافعة فى ذات الوقت، و نبه الله أن حيز استحضار المحرم من الإثم باستعمالها، أعظم من حيز استجلاب الفائدة، أو نبه الله أن فى استعمالها ينتج إثم عظيم إلا بضبط هذا الاستعمال تكون الفائدة مع ترجيح حصول الأثر المؤثم (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).
ثم عاد الله و ضم إليهما (الأنْصَابُ وَالأزْلامُ) و وصفهم كلهم بأنهم أدوات و وسائل للشيطان ينتج عن استعمالها - فى الحيز المحظور منها - رجس (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) و أمر المؤمنين باجتناب عمل الشيطان (فَاجْتَنِبُوهُ) حتى يسلموا من الوقوع فى الإثم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم نبه الله المؤمنين تخصيصا (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أن الشيطان يتحين فرصة انفلات استعمال المؤمنين لهما بغرض استجلاب نفعهما فيكون الوقوع فى الحيز المحظور (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) و يكون المؤمن فى حالة يحرض عليها الشيطان من ذهاب العقل بتأثير مادة الخمر أو بتأثير غضب الخسارة فى الميسر، و الانغماس فيها يقطع صلة المؤمن بالله فيكون مؤهلا لارتكاب الإثم (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) ثم يزيد الله فى التشديد على مراده فى شكل سؤال بالنهى عن أتباع عمل الشيطان الذى يؤدى إلى الوقوع فى الإثم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
فهل مراد الله هنا تحريم التعامل و استعمال أو اجتناب استعمال (الوسيلة)، أم مراده اجتناب أعمال الشيطان بالتحوط و الحذر من الوقوع فى الحيز المحظور عند استعمال الوسيلة أو عند انفلات استعمالها فتؤدى إلى الوقوع فى الإثم ؟.
و الإجابة على ذلك تخضع لفهم المأمور المؤمن لمراد الله الآمر:
الفهم الأول هو أن الاجتناب هنا اجتناب المؤمن للوسيلة أو للوسائل التى يصفها الآمر (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما)، فإنه يتعين عليه الاستجابة للآمر و أن يتجنب كل الوسائل التى يحتمل أن يؤدى استعمالها إلى إثم و منافع خشية الوقوع فى الإثم - و ما من وسيلة إلا فيها إثم و منافع للناس - و بالتالى يحرم من استعمال كل الوسائل و منافع تلك الوسائل!.
الفهم الثانى هو أن الاجتناب هو اجتناب المؤمن لأعمال الشيطان المتربص فى الحيز المحظور عند الانفلات فى استعمال الوسيلة الذى يؤدى إلى ظهور و تحقق إثم الوسيلة، فهذا أوقع، لأنه لا يحرمنا من الاستفادة من منافع الوسيلة أو الوسائل و ما من وسيلة إلا فيها إثم و منافع للناس
مثال للوسائل التى فيها إثم و منافع حسب استعمالها:
1- وسائل الانتقال و ما شابه: تيسر النقل و الانتقال و قد تقتل إذا انفلت قيادها و عوادمها تصيب بالمرض
2- وسائل الترفيه من تلفزيون وسينما ومسرح و ما شابه: تروح عن النفس وتنمى الفكر وتحض على ذكر الله و قد تضيع الوقت و تشجع على ارتكاب الإثم بأنواعه و تحض عن ذكر الله
3- الأسلحة و ما شابه: يدافع بها عن الأرض و العرض و قد تستعمل بغرض القتل و البغى بدون حق
4- الغضب: المثير منه للنخوة بالنهى عن المنكر بالحسنى لإقامة المعوج و المدمر منه العنيف المروع الذى يأكل الأخضر و اليابس
و الأمثلة كثيرة و لا تحصى
فى معنى الرجس
الرجس فى اللغة هو صفة خبث و قذر و نجس و قبح، و كذلك الرجس هو كل عمل أو فعل ينتج خبث أو قذر أو نجس أو قبح بالمفهوم و المعلوم الإنسانى لمراد الله و من القرآن نفهم
يوصف بالرجس كل عمل أو فعل إن جاء من عمل الشيطان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) المائدة}
و كذلك يكون كفر الإنسان بالله رجسا و وصفا لكفره {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة}
أما إن جاء من الله فيكون صورة من صور العقاب الإلهى للذين لا يؤمنون بإلوهيته{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) يونس}
فى المعنى و المقصود من الاجتناب
الاجتناب فى اللغة هو أمر بإعطاء الجنب و إعطاء الجنب يدل على ملازمة الجنب لمحل الاجتناب حتى بعد اجتنابه.
فإن كان بعيدا عنه صح فيه أمر عدم الاقتراب وإن كان يمكن الابتعاد عنه لكان الأمر فيه بالابتعاد أصح
و بذلك لا يعقل و لا يصح أن يكون محل الاجتناب بعيدا أو يمكن البعد عنة أو إمكان عدمه أو محوه من الوجود لأن الأمر بتجنبه فى هذا الحال يكون بلا معنى لأنة إذا أبتعد عنه أو أعدمه لا يكون بجانبه
و عليه فلإعطاء الجنب، يجب أن يكون المراد اجتنابه ملاصق للمأمور و حاضر معه أو ملازم طريقه و مرابط فيه أو عليه، و إن كان غير ذلك لا ينطبق عليه و لا يصح أمر الاجتناب فيه
وتحضرنا كل الآيات التى بها أمر الاجتناب فى القرآن لتؤيد هذا المعنى (ستة مرات فى خمس آيات)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) المائدة}
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) النحل}
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج}
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الزمر}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) الحجرات}
و تنبئنا الآيات أن القاسم الأول المشترك فيما طُلب منا اجتنابه
1- الطاغوت من طغى وهو صفة و رمز لأى ما يعبد من دون الله (وهو الجانب المحظور) من استعمال المال و النفوذ و السلطان وما فى حكمهم باعتبارهم هم مصدر القوة و الفعل من دون الله
2- و قول الزور و هو الكذب و الافتراء و قول كل باطل (وهو الجانب المحظور) من عموم القول
3- أما الرجس فهو صفة فعل كل نجس قذر باطل و هو بذلك يجمع و يشمل كل ما سبق و ما يماثله (أى هو يمثل الجانب المحظور من استعمال الوسائل) و الأوثان هى كل ما يعبد من دون الله
4- أما الظن فهو عدم أخذ الأمور على عللتها بدعوى تحرى الحقيقة، فإذا كثر الظن بين الناس و أصبح هو أساس التعامل، فإن ذلك يضع الآخرين موضع الاتهام بلا جريرة (وهو أيضا الجانب المحظور عند تحرى الحقيقة).
و كلهم من عمل الشيطان وكل عمل الشيطان و أتباعه رجس و كل الرجس (إن تم و وقع و أتى أثره) هو إثم، و الإثم محرم من الله
و لا يخفى عن أى عاقل أن القاسم الثانى المشترك فيهم هو أنها ظواهر و أدوات و وسائل شائعة محيطة و ملازمة لنا و حاضرة معنا و لا يمكن إقصائها عنا ولا يمكن عدمها أو محوها من الوجود و حيزها المحظور فى جنبنا ما دام الشيطان موجودا و هى أيضا جامعة لكل الأفعال و الأعمال المؤثمة، فلا يكون لدينا إلا الجهاد فى إعطاء الجنب منها، لاستمرارها فى جنبنا، باستمرار مزينها فى جنبنا و فى تزينها لنا وهو الشيطان، و باستمرار وجود الشيطان فى جنبنا يكون استمرار و جود الرجس فى جنبنا و استمرار احتمال حصول و وقوع الإثم
و عليه يكون المقصود هو اجتناب إتباع عمل الشيطان الذى هو رجس و بالضرورة إثم (إن تم و وقع و أتى أثره)، و لأن الشيطان مرابط لنا و ولا يمكن تنحيته عن جنبنا أو عدمه من الوجود لأن الله سمح له أن يكون بين أيدينا و من خلفنا و من أيماننا و شمائلنا وكلما اتخذنا منه الجنب مازال فى جنبنا و زاد علينا، و كذلك يكون الشيطان مرابط فى الجانب الضار فى الوسيلة حين استعمالها و حيث أن أفعال الشيطان (الرجس) ملاصقة لذاته و لا تنفصل عنه، فباجتناب كل أفعاله التى هى رجس يؤدى إلى أثم، يكون بذلك الأمر باجتناب الشيطان و أفعاله التى هى رجس لدوام وجوده برجسه فى جنبنا
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف}
فى موضوع الخمر و الميسر و ما شابه من وسائل
و نأتى هنا بموضوع الخمر حيث أنه موضوع مثالى لخلط مفهوم الاجتناب بالتحريم و ذلك تأثرا - بوعى أو بدون وعى – سواء بالتراث المنقول أو بالمنطق العام الذى يتبناه الأغلبية و نجمل هنا الآيات التى تلم الموضوع و نحاول فهمها
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)البقرة}
إن الله يخبرنا أن الخمر و الميسر باستعمالهم كوسائل تقود الناس إلى الوقوع فى أفعال و أعمال توصف بالإثم الكبير (الإثم فى القرآن هو صفة لفعل أو عمل محرم أو مُجَرّم من قِبل الله وهو بالضرورة يسبب الضرر و يستوجب عقاب الله، و الإثم لا يتحقق إلا بوقوع الضرر) و كذلك يخبرنا الله أيضا أن الخمر و الميسر باستعمالهم كوسائل تعود عليهم بالمنفعة ( المنفعة عكس الضرر وإذا ذكرت من عند الله فهى منفعة أحلها الله) و أخبرنا أيضا أن الضرر المؤثم من استعمالهما أكبر من منافعه، وهذا يقودنا إلى استنتاجين
أولهما أن استعمال تلك الوسيلة يحتمل مخاطرة الوقوع فى الضرر المؤثم المحرم أكبر من احتمال تأمين جلب النفع المحلل، و يكون توقع النتيجة غير معلوم و لكنه مرجح دائما بوقوع الضرر المحرم.
و ثانيهما أن هناك مساحه تتيح الاستعمال النافع المحلل و مساحه أخرى أكبر يكون الضرر المؤثم المحرم فيها محتوم و على الناس مسئولية مراقبة و تحرى منطقة الاستعمال النافع المحلل و عدم الدخول فى منطقة الاستعمال الآثم الذى يؤدى إلى وقوع الضرر المحرم.
و نحن نرى إذا كان الاستنتاج الأول هو المحتمل ما كان الله ذكر و أقر منافعها، و كان حرمها صراحة كمثل تحريم أكل الميتة و لحم الخنزير أو على الأقل كان حذر من الاقتراب منها
أما الاستنتاج الثانى فهو الأرجح حيث أن علينا تحرى استعمال منافعها (فى الحيز النافع فيها) و اجتناب ضررها (فى الحيز الضار فيه)ا الذى يوقع فى الإثم و إلا ما كان هناك سبب لإقرار و إظهار منافعها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة}
أن من ضمن الوسائل التى إذا أستعملها المؤمنين و يمكن أن توقع بهم فى عمل مؤثم لأنها تساعد فى إضعاف عزيمة اجتناب الرجس و تزيد فى تزيين وسوسة الشيطان، هما الخمر و لعب الميسر، و ما شابه من وسائل التى قد تؤدى إلى العداوة و البغضاء بين الناس و الصد عن ذكر الله و عن الصلاة.
أن تلك الوسائل - الخمر و الميسر و ما شابه من وسائل والتى فيها إثم و منافع، (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) - و هو نقيض لما يريد الله - أن يسوق المؤمنين باستعمال تلك الوسائل إلى فعل أفعال و أعمال ظاهرة أو باطنه محرمة و مؤثمة من الله إن تمت و وقعت و تحققت فقط يكون لها عقوبات سواء فى الدنيا أو عقوبات مؤجلة للآخرة (مثال القتل و الضرب و السب و السرقة و رمى المحصنات والغيبة وكل ما يدخل فى طائفة الرجس) وهذه الأفعال و الأعمال الموصوفة بالرجس، مؤثمة و محرمة من الله لأنها تؤدى إلى العداوة و البغضاء بين الناس أى تؤدى إلى فساد الأرض .
إن الله حذر المؤمنين عند التعامل بالوسائل باجتناب الوقوع فى أعمال و أفعال من عمل الشيطان وصفها بالرجس ولم يحرم الوسيلة حيث تحريم الوسيلة يحرم المؤمنين من منافعها، فإن كان الاجتناب هو التحريم أو أشد.
فماذا نفعل بالآية التى تقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ..... (12) الحجرات} هل نحرم وسيلة الظن اللازمة للمعرفة كى لا نقع فى قليل من سوء الظن المؤثم؟، أم المراد هو اجتناب الكثير منه و ليس كله، تحسبا لعدم الوقوع فى المساحة التى يكون فيها للظن تبعات سوء مؤثم؟
و يعود الله ويذكرنا استكمالا للآية بأن الأصل فى الطعام و الشراب و طرق إطعامه هو الإباحة، طالما كان الاستعمال مراقبا بالتقوى، فما ينتج من حرام من استعمال مباح لا يكون إلا فى غياب التقوى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة}
فى الإثم و ما شابهه و يؤدى إليه
حرم الله تلك الأعمال و وصفها وحددها و سماها
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) الأعراف}
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الاِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) الأنعام}
و الرسالة هنا من الله بأن الفواحش و الإثم و البغى و الشرك بالله و تحوير مراده هى صفات لأعمال و أفعال حرمها الله، لأن لتفعيل تلك الصفات آثارا تؤدى إلى فساد فى الأرض، أماالتجريم و العقوبة فيكون للأعمال و للأفعال التى تتصف بتلك الصفات إن تمت و إن وقعت وإن تحققت
فى السكر
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43 ) النساء}
وقناعتنا هنا إن مراد الله ليس النهى أو اجتناب الخمر أو التدرج فى تحريمها كما يروج لهذه الآية بالاستدلال بها مبتورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) إنما مراد الله هو تعليم المؤمن إن من أول أسس و آداب الاتصال بالله و التحضير له كان بالتأكيد على أن من يريد أن يقيم الصلة بالله أن يقيمها بعقل واعى لما يقول و ليس مغيب من سكر خمر أو غضب أو غيظ أو فرح يغيب عقله، أو سكر أى حال يكون العقل من أثره مغيب ناقص الوعى و الدليل على مراد الله هنا (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)
و نزيد على ذلك و نتوسع و نقول أن مراد الله على المؤمنين هو دوام إقامة الصلاة أى دوام استقامة الصلة بالله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) فأن اتفقت رغبة المؤمن فى مكانه و زمانه مع مراد الله الأزلى بأن تكون صلة المؤمن بالله منهاجا له و مقامة دائما على صراط الله - (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أى فرضها الله من الأزل إلى الأبد منهاجا للمؤمنين، و موقوتا على وزن مفعولا أى مؤكد دوام و استمرار الصلة فى أى مكان و فى كل زمان (مَوْقُوتًا) حيث الوقت هو إشارة إلى مكان و زمان مجتمعين- وحيث أن الشرط الأساسى لإقامة الصلة هو وعى العقل فباجتماع العقل المؤمن الواعى بتقوى الله و دوام الصلة به و على صراطه يكون صلاح الكون للناس و اتقاء فساده عليهم (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) و هذا فى رأينا هو مراد الله. (يرجى مراجعة مقالى "الصلاة، هل هى صلاة شكلية أم صلة موضوعية؟")
وفى رأينا أيضا إن السكر هو حالة من حالات تغييب أو تعطيل الوظيفة لعضو فى الإنسان (العقل)، تنتج عن مؤثرات شتى و تؤثر فيه، و تكون ذات شواهد تفصح عن تلك الحالة أو تمثلها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... (43 ) النساء}
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الحجر}
{قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) الحجر}
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) النحل}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج}
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) ق}
فى الفقه
إننا لا نستشهد لاحقا بما قاله الفقهاء لاقتناعنا بما قالوا، بل نستشهد به لنبرز اختلافهم فيه بخلاف ما يشيعه ما يسمون أنفسهم برجال الدين و يدعون إنه نهاية القول و أنه من المعلوم من الدين بالضرورة و هو تحريم عين الخمر و شربها!! ونستشهد به أيضا لإزالة ما هو مازال مترسبا فى فكر الذين يحاولون التحرر من النقل عن السلف و الأثر.
قالت فرقة فقهاء الحجاز و الجمهور من الصحابة و التابعين و الأمصار و أهل الفتوى وبنو فقههم على الأثر المشهور (كل مسكر خمر و كل خمر حرام) و خصوا الخمر فيما يشرب ويسكر و يغيب العقل و ذهبوا بتحريمها لذاتها ولهم فى ذلك حججهم (يراجع - سيد سابق فقه السنة).
وهذا مردود عليه لأن ما يسكر و يغيب العقل أوسع من ذلك كما ذكرنا آنفاً، وعليه إذا طبقنا مذهبهم على كل مسكر لحرم علينا الخمر والغضب الغيظ و الفرح و كل حال الغلو فيه أو أقصاه يسكر و يذهب بالعقل و يغيبه.(انتهى القصد)
و تقول فرقة فقهاء العراق و الكوفة و أكثر علماء البصرة و أبى حنيفة برأى مخالف بتحريم القليل و الكثير من خمر العنب, أما ما كان من غيرها فإنه يحرم الكثير المسكر منه أما القليل فهو حلال لضعف الأثر الذى استند إليه أصحاب الفرقة الأولى, وأن المحرم هو السكر نفسه وليس العين ولهم فى ذلك حججهم (يراجع - سيد سابق فقه السنة).
وهذا القول أقرب إلى رأينا و لكنه أيضا مردود عليه لما فيه من تناقض و تفرقه بين القليل من خمر العنب و القليل من باقى الخمور طالما أن المحرم هو السكر نفسه و ليس العين إلا إذا جاءوا بدليل.(انتهى القصد)
من ذلك نستخلص ما يلى:
1- أن كل فعل يمكن أن يكون لله أو يكون لغيره فإن كان لغيره فيكون للشيطان و يوصف و يسمى رجسا و يجب اجتنابه و يكون مؤثما إن تم و وقع و كان له أثر.
2- إن كانت عين الخمر (مادته) هو المقصود بالاجتناب - ومادة الخمر هى وسيلة من ضمن الوسائل التى تخمر العقل كما وضحنا - و مادته يحتمل استعمالها إنتاج أثر نفع و ضرر كما قال الله، فالأثر الضار منها هو المؤثم، و يكون أمر الاجتناب للأفعال و الأعمال التى تنتج أثرا مؤثم من استعمال عين مادتها و ليس استعمال عينها بذاته و يكون أمر الاجتناب للجانب المنتج للضرر عند استخدام الوسيلة.
هذا قولنا و فهمنا فى زماننا و مكاننا و حسب علمنا و يجب أن يأتى من بعدنا من يفعل مثلنا.
و الله أعلم
مصطفى فهمى
المراجع:
(1) العقل للفهم. (2) القرآن بفهمه بالعقل. (3) المعاجم لفهم لسان العرب
SOURCE :
http:// www.ahl-alquran.com/arabic/ show_article.php?main_id=44 18
__________________________
دعوة للتفكر
إن اللاحق فى هذا البحث هو دعوة للتفكير و التفكر و العقل و التدبر لما هو وارد إلينا و مشهور لدينا بالنقل سواء كنا من العامة أو من الخاصة من فقه و تفسير و أثر - وهو بالضرورة ليس كل ما قيل - نأخذه مأخذ المسلمات و نقدسه و نلحقه بالشارع سبحانه و تعالى و نجزم و نروع الناس أن هذا مراده.
تم اختيارى لموضوع مشهور فى العقيدة و الفقه قد يكون صادما لأغلب الناس و ذلك عن عمد، ليكون مثالا لعموم الحال و ليس لخصوص de; الموضوع.
ونستشهد لهذه الدعوة بالآيات التالية بوجوب إعمال العقل وعدم القصر على النقل غير العاقل و التشبث به.
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) البقرة}
{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ (71) الصافات}
تمهيد عمومى
إن استعمال لله فى قرآنه كلمات و ألفاظ مختلفة المعانى تدور فى دائرة معينة تتسع و تضيق كالتحريم و النهى و الاجتناب و البعد و عدم القرب و ذلك من مقام المنع إلى مقام التحذير - للأعمال و للأفعال التى إن تمت و إن وقعت وإن تحققت تكون إثما - يجب علينا استقبالها و فهمها حسب دلالاتها، فإذا التفتنا عن دلالاتها المختلفة أو أجملنا فى معناها أو سوينا بين البعض منها عن جهل أو تقية للمؤمنين، كان هذا اعتراف منا بعدم ضرورة اختلاف مقصدها و بالتالى انتفاء غرض تنوعها فى سياق الذكر الإلهى.
المنهج
النصوص القرآنية صالحة لكل مكان و زمان
بالضرورة لا يوجد فى القرآن آيات ناسخة و آيات منسوخة و بالتالى لا توجد أحكام ناسخة و أحكام منسوخة، أو أحكام نسخت و رفعت من النص القرآنى و بقى حكمها!، و أحكام بقى نصها و عُطل حكمها! و ما إلى ذلك من عقائد و أقوال روجها فقه السابقون و يرددها التابعون، فمن استدرجوا بأن هذا هو نهاية الفهم و لا بعده من فهم، كانوا أسرى التطبيق فى واقعهم الزمنى و المكانى فقط و غاب عنهم حقيقة حتمية دوام كلمات الله و أحكامه وضرورة دوام صلاحيتها لكل مكان و زمان، فإن المراد لإلهى من الأحكام لا يتغير و لا يتناقض، فلا يكفى فهمنا القاصر للإقرار بأن هناك حكم إلهى ينقض حكم آخر أو يطوره أو يدرّجه، فإن كل حكم إلهى بالضرورة صالح بذاته على كفاية المراد منه
مقدمة
للوصول إلى مبتغى البحث، يجب علينا فحصه من كل جوانبه، و كذلك بحث كل ما يتعلق و يرتبط به من قريب و من بعيد، وهنا نحاول فهم معنى الاجتناب - للعمل به بحقه - و هل المقصود به هنا هو التحريم، وإذا كان كذلك فلماذا استعمل الله أمر الاجتناب؟، أم أن العقل و المنطق يحثنا على فهم ضرورة كون أن له معنى مغاير و يناسب الغرض منه!، - وهو ما نرى و نعتقد - فى ضوء خصوصية معانى مفردات اللغة العربية عند استعمالها (عدم الترادف)، فما بال استعمالها من لدن العلى العليم.
و نحاول فيما يلى و حسب قدرتنا المتواضعة أن نستوضح تلك المنظومة التى تبدو مركبة معقدة وهى فى الحقيقة واضحة و بسيطة، لمن يستعين بالعقل فى فهم رسالة الله الموجهة لنا من خلال آيات القرآن و بالمنطق البسيط المنضبط من خلال العقل الممنوح المتاح لنا من الخالق، و قد أقتضى الأمر الدخول فى فروع و تحقيق معانى كلمات نراها هامة لاستيفاء أركانها و للإجابة على ما قد يثار فى ذهن المتلقى خلال رحلته القليلة معنا والتى نأمل أن تحفز لدية الكثير و تجعله من العاملين بالعقل و ليس من أهل النقل أو أسير تراث و هذا هو مرادنا و لا نشاء غيره و لا نملك أن ندعى أن هذا هو نهاية الفهم أو القول.
وعلى كل قارئ أن يصل بنفسه لقناعة تعينه فى فهم الرسالة الإلهية و تساعده فى حركته فى الحياة التى هى معبر لحياة أخرى، و الله المستعان
فى محاولة لفهم (الأمر) و (الآمر) و (المأمور)
إن الأمر يكون أمر بفعل أو أمر بنهى عن فعل وقد يوضح الآمر المراد من الأمر أو سببه وقد لا يوضح مراده و فى الحالين يقوم المأمور بتفقد منطقية الأمر و هنا ينشأ إما تأييد للأمر أو مقاومة له بصرف النظر عن وجوب تنفيذه.
إن منطقية و وجوب تنفيذ المأمور للأمر من عدمه يحكمه علاقة ذات اتجاهين
الاتجاه الأول وهو علاقة الأمر بالمأمور و مدى سلطانة و قدرته على المأمور و منطقية الأمر و مراده، فى المكان و الزمان الآنى.
الاتجاه الثانى هو علاقة المأمور بالآمر و مدى خضوعه للآمر و قناعته به واقتناعه بمنطقية الأمر و مراده، فى المكان و الزمان الآنى.
أما الأوامر و النواهى من الله للعابد المؤمن به فتحكمها علاقة ذات طبيعة خاصة، تبتدئ بقناعة و إيمان و اعتراف المأمور بإلوهية الآمر و سلطانه و قدرته و مطلق منطقية مراده – حتى و لو لم يتوصل المأمور لتلك المنطقية - و بالتالى وجوب تنفيذ أوامره بلا مزايدة أو انتقاص.
ومن ذات هذه الطبيعة الخاصة لتلك العلاقة (إيمان و اعتراف المأمور (الإنسان) بإلوهية الآمر (الله) و سلطانه و قدرته و مطلق منطقية مراده) فقد يفصح الله عن المراد من الأمر أو سببه وقد لا يفصح عن مراده أو سببه و يترك لنا حسب مكاننا و زماننا و علمنا فهم المراد من الأمر و فى كل الأحوال إما أن يوضح لنا طريقة و شكل تنفيذه بالتفصيل فيكون ذلك علامة لنا بأن تلك الطريقة أو ذلك الشكل صالح و ممكن تنفيذه فى كل مكان و زمان و لكل إنسان أو يوضح لنا الشكل و الطريقة بكلية أو لا يوضحها إطلاقا فيكون ذلك علامة لنا و سماح بتنفيذها بالطريقة التى تناسب المكان و الزمان و الإنسان، بشرط بذل الجهد و العقل للتأكد من فهم المراد الإلهى لتنفيذه
هل يعقل تحريم عين الوسيلة؟ أم المعقول هو اجتناب الإثم المحتمل من استعمالها؟
إن كل خلق الله – مع الأخذ فى الاعتبار ذاتية كل مخلوق من الخلق و وظيفته و صفاته فى الكون - و كل ما اخترع و خَلقْ الإنسان من خلق الله، هم كلهم وسائل، و كل تلك الوسائل بالضرورة تكون صالحة لأن تنتج أثر نفع أو أثر ضرر، و بحسب استعمالها ينتج الأثر و يتصف بصفة النافع أو الضار، و علينا عند استعمالها تجنب الوقوع فى الحيز المحظور فيها الذى ينتج الأثر الضار منها و خصوصا إن كان الله نبهنا لذلك.
و نستعين هنا بموضوع مثالى لما نبحثه، وقع معظم من بحثه فى فخ الأخذ بالأحوط أو القياس أو تعميم الضرر، فخلطوا بين أمر الاجتناب و التحريم.
بل وخلطوا أيضا بين استعمال الوسيلة و الأثر الناتج عن استعمالها، فنتج عن ذلك تحريم استعمال الوسيلة (و نأخذ هنا مثال عين الخمر) و نسوا أو تناسوا أن ذلك يجرنا و يجرهم إلى تحريم استعمال أى عين وسيلة لها أثر نافع و ضار، و ما من عين وسيلة إلا كذلك.
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ...(219) البقرة}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) المائدة}
وصّف الآمر (الله) للمأمور (المؤمن به المتبع رسالته) أن (الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) من الوسائل التى باستعمالها تنتج أفعال و أعمال عواقبها عظيمة التأثيم و محرمة وأيضا لها استعمالات و آثار نافعة فى ذات الوقت، و نبه الله أن حيز استحضار المحرم من الإثم باستعمالها، أعظم من حيز استجلاب الفائدة، أو نبه الله أن فى استعمالها ينتج إثم عظيم إلا بضبط هذا الاستعمال تكون الفائدة مع ترجيح حصول الأثر المؤثم (فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا).
ثم عاد الله و ضم إليهما (الأنْصَابُ وَالأزْلامُ) و وصفهم كلهم بأنهم أدوات و وسائل للشيطان ينتج عن استعمالها - فى الحيز المحظور منها - رجس (رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) و أمر المؤمنين باجتناب عمل الشيطان (فَاجْتَنِبُوهُ) حتى يسلموا من الوقوع فى الإثم (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) ثم نبه الله المؤمنين تخصيصا (فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ) أن الشيطان يتحين فرصة انفلات استعمال المؤمنين لهما بغرض استجلاب نفعهما فيكون الوقوع فى الحيز المحظور (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) و يكون المؤمن فى حالة يحرض عليها الشيطان من ذهاب العقل بتأثير مادة الخمر أو بتأثير غضب الخسارة فى الميسر، و الانغماس فيها يقطع صلة المؤمن بالله فيكون مؤهلا لارتكاب الإثم (أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِر وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) ثم يزيد الله فى التشديد على مراده فى شكل سؤال بالنهى عن أتباع عمل الشيطان الذى يؤدى إلى الوقوع فى الإثم (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
فهل مراد الله هنا تحريم التعامل و استعمال أو اجتناب استعمال (الوسيلة)، أم مراده اجتناب أعمال الشيطان بالتحوط و الحذر من الوقوع فى الحيز المحظور عند استعمال الوسيلة أو عند انفلات استعمالها فتؤدى إلى الوقوع فى الإثم ؟.
و الإجابة على ذلك تخضع لفهم المأمور المؤمن لمراد الله الآمر:
الفهم الأول هو أن الاجتناب هنا اجتناب المؤمن للوسيلة أو للوسائل التى يصفها الآمر (فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما اكبر من نفعهما)، فإنه يتعين عليه الاستجابة للآمر و أن يتجنب كل الوسائل التى يحتمل أن يؤدى استعمالها إلى إثم و منافع خشية الوقوع فى الإثم - و ما من وسيلة إلا فيها إثم و منافع للناس - و بالتالى يحرم من استعمال كل الوسائل و منافع تلك الوسائل!.
الفهم الثانى هو أن الاجتناب هو اجتناب المؤمن لأعمال الشيطان المتربص فى الحيز المحظور عند الانفلات فى استعمال الوسيلة الذى يؤدى إلى ظهور و تحقق إثم الوسيلة، فهذا أوقع، لأنه لا يحرمنا من الاستفادة من منافع الوسيلة أو الوسائل و ما من وسيلة إلا فيها إثم و منافع للناس
مثال للوسائل التى فيها إثم و منافع حسب استعمالها:
1- وسائل الانتقال و ما شابه: تيسر النقل و الانتقال و قد تقتل إذا انفلت قيادها و عوادمها تصيب بالمرض
2- وسائل الترفيه من تلفزيون وسينما ومسرح و ما شابه: تروح عن النفس وتنمى الفكر وتحض على ذكر الله و قد تضيع الوقت و تشجع على ارتكاب الإثم بأنواعه و تحض عن ذكر الله
3- الأسلحة و ما شابه: يدافع بها عن الأرض و العرض و قد تستعمل بغرض القتل و البغى بدون حق
4- الغضب: المثير منه للنخوة بالنهى عن المنكر بالحسنى لإقامة المعوج و المدمر منه العنيف المروع الذى يأكل الأخضر و اليابس
و الأمثلة كثيرة و لا تحصى
فى معنى الرجس
الرجس فى اللغة هو صفة خبث و قذر و نجس و قبح، و كذلك الرجس هو كل عمل أو فعل ينتج خبث أو قذر أو نجس أو قبح بالمفهوم و المعلوم الإنسانى لمراد الله و من القرآن نفهم
يوصف بالرجس كل عمل أو فعل إن جاء من عمل الشيطان {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) المائدة}
و كذلك يكون كفر الإنسان بالله رجسا و وصفا لكفره {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) التوبة}
أما إن جاء من الله فيكون صورة من صور العقاب الإلهى للذين لا يؤمنون بإلوهيته{وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) يونس}
فى المعنى و المقصود من الاجتناب
الاجتناب فى اللغة هو أمر بإعطاء الجنب و إعطاء الجنب يدل على ملازمة الجنب لمحل الاجتناب حتى بعد اجتنابه.
فإن كان بعيدا عنه صح فيه أمر عدم الاقتراب وإن كان يمكن الابتعاد عنه لكان الأمر فيه بالابتعاد أصح
و بذلك لا يعقل و لا يصح أن يكون محل الاجتناب بعيدا أو يمكن البعد عنة أو إمكان عدمه أو محوه من الوجود لأن الأمر بتجنبه فى هذا الحال يكون بلا معنى لأنة إذا أبتعد عنه أو أعدمه لا يكون بجانبه
و عليه فلإعطاء الجنب، يجب أن يكون المراد اجتنابه ملاصق للمأمور و حاضر معه أو ملازم طريقه و مرابط فيه أو عليه، و إن كان غير ذلك لا ينطبق عليه و لا يصح أمر الاجتناب فيه
وتحضرنا كل الآيات التى بها أمر الاجتناب فى القرآن لتؤيد هذا المعنى (ستة مرات فى خمس آيات)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) المائدة}
{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الأرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) النحل}
{ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) الحج}
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِي (17) الزمر}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) الحجرات}
و تنبئنا الآيات أن القاسم الأول المشترك فيما طُلب منا اجتنابه
1- الطاغوت من طغى وهو صفة و رمز لأى ما يعبد من دون الله (وهو الجانب المحظور) من استعمال المال و النفوذ و السلطان وما فى حكمهم باعتبارهم هم مصدر القوة و الفعل من دون الله
2- و قول الزور و هو الكذب و الافتراء و قول كل باطل (وهو الجانب المحظور) من عموم القول
3- أما الرجس فهو صفة فعل كل نجس قذر باطل و هو بذلك يجمع و يشمل كل ما سبق و ما يماثله (أى هو يمثل الجانب المحظور من استعمال الوسائل) و الأوثان هى كل ما يعبد من دون الله
4- أما الظن فهو عدم أخذ الأمور على عللتها بدعوى تحرى الحقيقة، فإذا كثر الظن بين الناس و أصبح هو أساس التعامل، فإن ذلك يضع الآخرين موضع الاتهام بلا جريرة (وهو أيضا الجانب المحظور عند تحرى الحقيقة).
و كلهم من عمل الشيطان وكل عمل الشيطان و أتباعه رجس و كل الرجس (إن تم و وقع و أتى أثره) هو إثم، و الإثم محرم من الله
و لا يخفى عن أى عاقل أن القاسم الثانى المشترك فيهم هو أنها ظواهر و أدوات و وسائل شائعة محيطة و ملازمة لنا و حاضرة معنا و لا يمكن إقصائها عنا ولا يمكن عدمها أو محوها من الوجود و حيزها المحظور فى جنبنا ما دام الشيطان موجودا و هى أيضا جامعة لكل الأفعال و الأعمال المؤثمة، فلا يكون لدينا إلا الجهاد فى إعطاء الجنب منها، لاستمرارها فى جنبنا، باستمرار مزينها فى جنبنا و فى تزينها لنا وهو الشيطان، و باستمرار وجود الشيطان فى جنبنا يكون استمرار و جود الرجس فى جنبنا و استمرار احتمال حصول و وقوع الإثم
و عليه يكون المقصود هو اجتناب إتباع عمل الشيطان الذى هو رجس و بالضرورة إثم (إن تم و وقع و أتى أثره)، و لأن الشيطان مرابط لنا و ولا يمكن تنحيته عن جنبنا أو عدمه من الوجود لأن الله سمح له أن يكون بين أيدينا و من خلفنا و من أيماننا و شمائلنا وكلما اتخذنا منه الجنب مازال فى جنبنا و زاد علينا، و كذلك يكون الشيطان مرابط فى الجانب الضار فى الوسيلة حين استعمالها و حيث أن أفعال الشيطان (الرجس) ملاصقة لذاته و لا تنفصل عنه، فباجتناب كل أفعاله التى هى رجس يؤدى إلى أثم، يكون بذلك الأمر باجتناب الشيطان و أفعاله التى هى رجس لدوام وجوده برجسه فى جنبنا
{قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) الأعراف}
فى موضوع الخمر و الميسر و ما شابه من وسائل
و نأتى هنا بموضوع الخمر حيث أنه موضوع مثالى لخلط مفهوم الاجتناب بالتحريم و ذلك تأثرا - بوعى أو بدون وعى – سواء بالتراث المنقول أو بالمنطق العام الذى يتبناه الأغلبية و نجمل هنا الآيات التى تلم الموضوع و نحاول فهمها
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)البقرة}
إن الله يخبرنا أن الخمر و الميسر باستعمالهم كوسائل تقود الناس إلى الوقوع فى أفعال و أعمال توصف بالإثم الكبير (الإثم فى القرآن هو صفة لفعل أو عمل محرم أو مُجَرّم من قِبل الله وهو بالضرورة يسبب الضرر و يستوجب عقاب الله، و الإثم لا يتحقق إلا بوقوع الضرر) و كذلك يخبرنا الله أيضا أن الخمر و الميسر باستعمالهم كوسائل تعود عليهم بالمنفعة ( المنفعة عكس الضرر وإذا ذكرت من عند الله فهى منفعة أحلها الله) و أخبرنا أيضا أن الضرر المؤثم من استعمالهما أكبر من منافعه، وهذا يقودنا إلى استنتاجين
أولهما أن استعمال تلك الوسيلة يحتمل مخاطرة الوقوع فى الضرر المؤثم المحرم أكبر من احتمال تأمين جلب النفع المحلل، و يكون توقع النتيجة غير معلوم و لكنه مرجح دائما بوقوع الضرر المحرم.
و ثانيهما أن هناك مساحه تتيح الاستعمال النافع المحلل و مساحه أخرى أكبر يكون الضرر المؤثم المحرم فيها محتوم و على الناس مسئولية مراقبة و تحرى منطقة الاستعمال النافع المحلل و عدم الدخول فى منطقة الاستعمال الآثم الذى يؤدى إلى وقوع الضرر المحرم.
و نحن نرى إذا كان الاستنتاج الأول هو المحتمل ما كان الله ذكر و أقر منافعها، و كان حرمها صراحة كمثل تحريم أكل الميتة و لحم الخنزير أو على الأقل كان حذر من الاقتراب منها
أما الاستنتاج الثانى فهو الأرجح حيث أن علينا تحرى استعمال منافعها (فى الحيز النافع فيها) و اجتناب ضررها (فى الحيز الضار فيه)ا الذى يوقع فى الإثم و إلا ما كان هناك سبب لإقرار و إظهار منافعها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة}
أن من ضمن الوسائل التى إذا أستعملها المؤمنين و يمكن أن توقع بهم فى عمل مؤثم لأنها تساعد فى إضعاف عزيمة اجتناب الرجس و تزيد فى تزيين وسوسة الشيطان، هما الخمر و لعب الميسر، و ما شابه من وسائل التى قد تؤدى إلى العداوة و البغضاء بين الناس و الصد عن ذكر الله و عن الصلاة.
أن تلك الوسائل - الخمر و الميسر و ما شابه من وسائل والتى فيها إثم و منافع، (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ) - و هو نقيض لما يريد الله - أن يسوق المؤمنين باستعمال تلك الوسائل إلى فعل أفعال و أعمال ظاهرة أو باطنه محرمة و مؤثمة من الله إن تمت و وقعت و تحققت فقط يكون لها عقوبات سواء فى الدنيا أو عقوبات مؤجلة للآخرة (مثال القتل و الضرب و السب و السرقة و رمى المحصنات والغيبة وكل ما يدخل فى طائفة الرجس) وهذه الأفعال و الأعمال الموصوفة بالرجس، مؤثمة و محرمة من الله لأنها تؤدى إلى العداوة و البغضاء بين الناس أى تؤدى إلى فساد الأرض .
إن الله حذر المؤمنين عند التعامل بالوسائل باجتناب الوقوع فى أعمال و أفعال من عمل الشيطان وصفها بالرجس ولم يحرم الوسيلة حيث تحريم الوسيلة يحرم المؤمنين من منافعها، فإن كان الاجتناب هو التحريم أو أشد.
فماذا نفعل بالآية التى تقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ..... (12) الحجرات} هل نحرم وسيلة الظن اللازمة للمعرفة كى لا نقع فى قليل من سوء الظن المؤثم؟، أم المراد هو اجتناب الكثير منه و ليس كله، تحسبا لعدم الوقوع فى المساحة التى يكون فيها للظن تبعات سوء مؤثم؟
و يعود الله ويذكرنا استكمالا للآية بأن الأصل فى الطعام و الشراب و طرق إطعامه هو الإباحة، طالما كان الاستعمال مراقبا بالتقوى، فما ينتج من حرام من استعمال مباح لا يكون إلا فى غياب التقوى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المائدة}
فى الإثم و ما شابهه و يؤدى إليه
حرم الله تلك الأعمال و وصفها وحددها و سماها
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (33) الأعراف}
{وَذَرُوا ظَاهِرَ الاِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الاثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) الأنعام}
و الرسالة هنا من الله بأن الفواحش و الإثم و البغى و الشرك بالله و تحوير مراده هى صفات لأعمال و أفعال حرمها الله، لأن لتفعيل تلك الصفات آثارا تؤدى إلى فساد فى الأرض، أماالتجريم و العقوبة فيكون للأعمال و للأفعال التى تتصف بتلك الصفات إن تمت و إن وقعت وإن تحققت
فى السكر
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43 ) النساء}
وقناعتنا هنا إن مراد الله ليس النهى أو اجتناب الخمر أو التدرج فى تحريمها كما يروج لهذه الآية بالاستدلال بها مبتورة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) إنما مراد الله هو تعليم المؤمن إن من أول أسس و آداب الاتصال بالله و التحضير له كان بالتأكيد على أن من يريد أن يقيم الصلة بالله أن يقيمها بعقل واعى لما يقول و ليس مغيب من سكر خمر أو غضب أو غيظ أو فرح يغيب عقله، أو سكر أى حال يكون العقل من أثره مغيب ناقص الوعى و الدليل على مراد الله هنا (حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)
و نزيد على ذلك و نتوسع و نقول أن مراد الله على المؤمنين هو دوام إقامة الصلاة أى دوام استقامة الصلة بالله (فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) فأن اتفقت رغبة المؤمن فى مكانه و زمانه مع مراد الله الأزلى بأن تكون صلة المؤمن بالله منهاجا له و مقامة دائما على صراط الله - (كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا) أى فرضها الله من الأزل إلى الأبد منهاجا للمؤمنين، و موقوتا على وزن مفعولا أى مؤكد دوام و استمرار الصلة فى أى مكان و فى كل زمان (مَوْقُوتًا) حيث الوقت هو إشارة إلى مكان و زمان مجتمعين- وحيث أن الشرط الأساسى لإقامة الصلة هو وعى العقل فباجتماع العقل المؤمن الواعى بتقوى الله و دوام الصلة به و على صراطه يكون صلاح الكون للناس و اتقاء فساده عليهم (وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر) و هذا فى رأينا هو مراد الله. (يرجى مراجعة مقالى "الصلاة، هل هى صلاة شكلية أم صلة موضوعية؟")
وفى رأينا أيضا إن السكر هو حالة من حالات تغييب أو تعطيل الوظيفة لعضو فى الإنسان (العقل)، تنتج عن مؤثرات شتى و تؤثر فيه، و تكون ذات شواهد تفصح عن تلك الحالة أو تمثلها
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ ... (43 ) النساء}
{وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الحجر}
{قَالَ هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) الحجر}
{وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) النحل}
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) الحج}
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) ق}
فى الفقه
إننا لا نستشهد لاحقا بما قاله الفقهاء لاقتناعنا بما قالوا، بل نستشهد به لنبرز اختلافهم فيه بخلاف ما يشيعه ما يسمون أنفسهم برجال الدين و يدعون إنه نهاية القول و أنه من المعلوم من الدين بالضرورة و هو تحريم عين الخمر و شربها!! ونستشهد به أيضا لإزالة ما هو مازال مترسبا فى فكر الذين يحاولون التحرر من النقل عن السلف و الأثر.
قالت فرقة فقهاء الحجاز و الجمهور من الصحابة و التابعين و الأمصار و أهل الفتوى وبنو فقههم على الأثر المشهور (كل مسكر خمر و كل خمر حرام) و خصوا الخمر فيما يشرب ويسكر و يغيب العقل و ذهبوا بتحريمها لذاتها ولهم فى ذلك حججهم (يراجع - سيد سابق فقه السنة).
وهذا مردود عليه لأن ما يسكر و يغيب العقل أوسع من ذلك كما ذكرنا آنفاً، وعليه إذا طبقنا مذهبهم على كل مسكر لحرم علينا الخمر والغضب الغيظ و الفرح و كل حال الغلو فيه أو أقصاه يسكر و يذهب بالعقل و يغيبه.(انتهى القصد)
و تقول فرقة فقهاء العراق و الكوفة و أكثر علماء البصرة و أبى حنيفة برأى مخالف بتحريم القليل و الكثير من خمر العنب, أما ما كان من غيرها فإنه يحرم الكثير المسكر منه أما القليل فهو حلال لضعف الأثر الذى استند إليه أصحاب الفرقة الأولى, وأن المحرم هو السكر نفسه وليس العين ولهم فى ذلك حججهم (يراجع - سيد سابق فقه السنة).
وهذا القول أقرب إلى رأينا و لكنه أيضا مردود عليه لما فيه من تناقض و تفرقه بين القليل من خمر العنب و القليل من باقى الخمور طالما أن المحرم هو السكر نفسه و ليس العين إلا إذا جاءوا بدليل.(انتهى القصد)
من ذلك نستخلص ما يلى:
1- أن كل فعل يمكن أن يكون لله أو يكون لغيره فإن كان لغيره فيكون للشيطان و يوصف و يسمى رجسا و يجب اجتنابه و يكون مؤثما إن تم و وقع و كان له أثر.
2- إن كانت عين الخمر (مادته) هو المقصود بالاجتناب - ومادة الخمر هى وسيلة من ضمن الوسائل التى تخمر العقل كما وضحنا - و مادته يحتمل استعمالها إنتاج أثر نفع و ضرر كما قال الله، فالأثر الضار منها هو المؤثم، و يكون أمر الاجتناب للأفعال و الأعمال التى تنتج أثرا مؤثم من استعمال عين مادتها و ليس استعمال عينها بذاته و يكون أمر الاجتناب للجانب المنتج للضرر عند استخدام الوسيلة.
هذا قولنا و فهمنا فى زماننا و مكاننا و حسب علمنا و يجب أن يأتى من بعدنا من يفعل مثلنا.
و الله أعلم
مصطفى فهمى
المراجع:
(1) العقل للفهم. (2) القرآن بفهمه بالعقل. (3) المعاجم لفهم لسان العرب
SOURCE :
http://
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire