قبل أن تقرأ
..
ظلت العلاقة
بين عبدالناصر والإخوان المسلمين بمصر تمثل واحداً من أكثر الألغاز إثارة فى
تاريخ مصر المعاصر.. ولقد طغت الخصومة - بل العداء - بين الفريقين، حتى
أصبحت هى الأغلب على وصف العلاقة بينهما.. رغم ما يُجمع عليه المؤرخون من
وجود علاقة ارتباط لعبدالناصر بجماعة الإخوان فى مرحلة مبكرة من تاريخه
السياسى.. ولكن أحداً منهم لم يقف طويلاً عند تلك المرحلة فى تاريخ العلاقة
بين الطرفين ليكشف لنا أسرارها ويحل ألغازها ليساعدنا على الإجابة عن
العديد من الأسئلة المهمة والخطيرة، مما ينعكس بآثاره على المرحلة الحالية
فى تاريخنا السياسى.
من هنا كانت محاولتى
بحثاً عمن يستطيع الكشف عن أسرار تلك العلاقة بين عبدالناصر والإخوان، حتى
عثرت عليه.. إنه المستشار الدمرداش العقالى، الذى كان أحد أبرز أعضاء
الجهاز السرى فى تنظيم الإخوان المسلمين.. وزعيم الطلبة الإخوان بالجامعة،
فى الوقت الذى كان قد تبلور فيه نشاط الإخوان كحركة سياسية حتى كاد أن
ينحصر فى مجال الشباب والطلبة، حتى أصبحت -أو كادت أن تصبح- حركة الإخوان
المسلمين «حركة طلابية».. وهو - العقالى - فوق ذلك، يمت بصلة القرابة
للزعيم الإخوانى الأشهر - سيد قطب - صاحب أكبر تأثير فكرى وتنظيمى فى جماعة
الإخوان، ربما أكبر من مؤسسها حسن البنا نفسه. وقد كان سيد قطب خال زوجة
العقالى، كما كانا - العقالى وقطب - كانا صديقين فى مرحلة الطفولة والشباب
وذلك لانتمائهما إلى بلدة واحدة هى أسيوط.. هذا فضلاً عن أن العقالى كان قد
انخرط فى صفوف الإخوان قبل أن ينضم إليها سيد قطب نفسه.
لهذا كله كان المستشار العقالى فى الموقع الذى يسمح له ليس فقط برؤية الأحداث عن قرب، بل المشاركة فيها بفاعلية وتأثير.
ولعل
اعترافاته التى أدلى بها لى فى هذا التحقيق تلقى ببعض الضوء الذى نحتاجه
للتأريخ لتلك الفترة الحساسة من حياتنا السياسية. وأرى أنه ينبغى علينا أن
نأخذ ما يقوله الرجل فى هذه الاعترافات بما هو جدير به من اهتمام وتفكير،
خاصة أنه يفجر الكثير من المفاجآت التى تقلب - بل ربما تعدل - الكثير من
الأمور التى ظللنا نتعامل معها كمسلّمات تاريخية.
انقلاب قطب على الثورة وانضمامه للإخوان
لم
تكد حلقة من حلقات الصراع بين عبدالناصر والإخوان تنتهى، حتى يبدأوا معه
حلقة أخرى، ولكنها كانت من بين جميع الحلقات، الأكثر ضراوة ودموية.. فما
كان لعبدالناصر أن ينتهى من صراعه مع حسن الهضيبى، حتى ظهر له سيد قطب.
وقد
جاء ظهور سيد قطب فى صفوف الإخوان- بل وعلى رأسهم- فى إطار سياسة «الخطف»
التى اتبعها الجانبان كل منهما ضد الآخر، فبعد أن نجح عبدالناصر فى
«اختطاف» عدد من الإخوان إلى صفه، مثل الشيخ الباقورى وعبدالعزيز كامل
وأحمد حسنى وغيرهم، نجح الإخوان بدورهم فى اختطاف سيد قطب من صفوف
عبدالناصر ليكون مفكرهم بعد أن كان مفكر الثورة ومنظرها الأول.
ويروى
الدمرداش العقالى تفاصيل تلك الحلقة، التى جاءت تحت عنوان «سيد قطب من
الثورة إلى الثورة المضادة».. متتبعاً بداياتها الأولى التى هى نفسها
بدايات سيد قطب مع الثورة.
كان سيد قطب أديباً مشهوراً قبل أن يعرفه
الناس «قطباً» من أقطاب الإخوان المسلمين، وهو كأديب كان يتصف بالنرجسية
الشديدة واعتداده بنفسه، وقد أوقعه ذلك فى تناقض مبكر مع المرحوم الشيخ حسن
البنا، الذى رأى فى سيد قطب أنه يتشابه معه فى صفات كثيرة أولها أن كليهما
كان «درعمياً» أى خريج كلية دار العلوم، ولكن الشيخ حسن البنا كان ينفرد
عن أبناء جيله فى أنه بدأ يبنى صرحه الذى يقوم على صناعة الأفكار وصناعة
الرجال. أما سيد قطب فقد كان من فريق «الوراقين»، أى أنه كان يعيش فى عالم
بناه من الورق قراءة وكتابة، وربما كان اعتداده بنفسه هو الذى جعله يتحاشى
التعامل مع الناس ومع الواقع، فلما رأى زميله «الدرعمى» يملأ السمع والبصر،
صيتاً وشهرة، كان يمقت عليه ذلك ويحسده، ولا أقول من قبيل التحليل، بل أنا
شاهد عليه وكنت أول راصديه.
فقد كان سيد قطب خال زوجتى وهو من قرية
موشى التابعة لأحد مراكز محافظة أسيوط. وكان أحمد محمد موسى ابن شقيقته،
وشقيق زوجتى من أتباع حسن البنا وأحد المنخرطين فى صفوف الإخوان المسلمين،
وكان سيد قطب إذا جاء إلى قريته والتقى مع ابن شقيقته الإخوانى ومعه عدد
كبير من رفاقه أتباع حسن البنا، كان يكثر من سباب حسن البنا أمامهم، وفى
بعض المرات سمعته يسأل ابن اخته هذا: «ماذا فعل بك حسن الصباح وجماعة
الحشاشين»؟!
كان سيد قطب كثيراً ما يعقد مقارنات بين جماعة الإخوان
المسلمين، وجماعة «الحشاشين» الشهيرة الذين كان يتزعمهم «حسن الصباح»،
والذى كان سيد قطب يرى- فى ذلك الوقت من أواسط الأربعينيات- شبهاً كبيراً
بينه وبين حسن البنا زعيم الإخوان المسلمين، فكان ابن اخته حين يسمع خاله
سيد قطب يقول ذلك عن جماعته وزعيمها، يدخل فى شجار عنيف معه، لم يكن ينتهى
إلا بتدخلنا لإنهائه.
قطب الاشتراكية
قد ظل
سيد قطب على عدائه الشديد لجماعة الإخوان المسلمين وزعيمهم حسن البنا، حتى
سافر إلى أمريكا مبعوثاً من وزارة المعارف، وكان على رأسها فى ذلك الوقت طه
حسين، وحين عاد من هناك عين مستشاراً لوزارة المعارف، ولكنه كان قد تحول
خلال الفترة التى أمضاها فى أمريكا فأصبح شديد العداء للرأسمالية والمجتمع
الرأسمالى، شديد التأييد للاشتراكية والعدالة الاجتماعية.
عاد سيد
قطب من أمريكا لا ليكتب فى الأدب والنقد كما كان يفعل قبل أن يسافر إليها،
بل عاد ليكتب فى الاشتراكية مطعما كتاباته فيها باجتهادات إسلامية. فكتب
كتابه الذى جاء بعنوان «العدالة الاجتماعية فى الإسلام» ثم كتاب «معركة
الإسلام والرأسمالية»، وهو من أخطر ما كتب سيد قطب على الإطلاق، فهو يعقد
فى هذا الكتاب حلفاً بين الإسلام والشيوعية، مستبعداً أى تلاق بين الإسلام
والرأسمالية، ويقول إن الشيوعية اجتهاد للبحث عن العدل أقحمت نفسها فى
الكلام عن الدين بغير مبرر، وعادت الدين بغير مقتضى، ولكنها وصلت إلى العدل
الاقتصادى والاجتماعى الذى هو أحد، وأهم، أهداف الدين، وأضاف سيد قطب
مفسراً أن الشيوعية لو تخلت عن فكرة الإلحاد التى هى ليست من ضرورات المذهب
ولا يتطلبها الفكر الاقتصادى، لالتقت مع الإسلام فى العدالة الاجتماعية.
أما
الرأسمالية- فى رأى سيد قطب- فإن القرآن فى معظم آياته يطارد الكنز
والتراكم ويدعو إلى تداول الأموال بين الأجيال «لكى لا يكون دولة بين
الأغنياء منكم».
حين بدأ سيد قطب فى تطعيم الاشتراكية بالإسلام، كان
حسن البنا قد انتقل إلى جوار ربه، فى أوائل الخمسينيات، وبدأ حسن الهضيبى
الذى أصبح على رأس الإخوان والذى كان ينكره الإخوان القدامى يبحث عن أنصار
له مما جعله يضنى نفسه بحثاً عن إخوان جدد يدينون له بالولاء زعيماً وأباً
للجماعة، وقد رأى الهضيبى أن الأعضاء الذين ينضمون للجماعة حديثاً ليس لهم
فضل السبق الذى يتميز به الإخوان القدامى على الهضيبى نفسه، فيحول بينه
وبين ولائهم له، ولهذا راح الهضيبى يبحث له عن أعضاء جدد يتميز هو عليهم.
وقد وجد حسن الهضيبى ضالته المنشودة فى سيد قطب خاصة أن الكثيرين من شباب
الإخوان قد استهوتهم دعوته للاشتراكية الإسلامية. ولكن سيد قطب الذى اقترب
كثيراً من الإخوان بعد تحوله الغريب والمفاجئ، كان فى اقترابه اشتراكياً،
فقد رفض أن يكتب فى مجلة «الدعوة» لسان حال الإخوان المسلمين مفضلاً
الكتابة فى مجلة «الاشتراكية».
قطب الثورة وقطب الإخون:
ولما
قامت الثورة، وجد سيد قطب نفسه قريباً من جمال عبدالناصر الذى اختاره
نائباً له فى «هيئة التحرير» وهى أول تنظيم سياسى تقيمه الثورة بعد أن
أصدرت قرارها بحل جميع الأحزاب السياسية.
شكل جمال عبدالناصر هيئة
التحرير لتكون بديلاً عن الأحزاب السياسية المنحلة واختير سكرتيراً عاماً
لها واختار سيد قطب سكرتيراً عاماً مساعداً. والذى يعود إلى جريدة
«الجمهورية» وهى أول جريدة تنشئها ثورة يوليو لتكون لسان حالها، وكان
الترخيص بإصدارها باسم جمال عبدالناصر شخصياً، سيجد أن مقالات سيد قطب بها
هى المقالات الرئيسية التى تتصدر صفحاتها الأولى، وقد عبر فيها سيد قطب عن
ضرورة الثورة والقرارات الثورية التى اتخذتها علاجاً للأوضاع السيئة فى
مصر.
وأكثر من ذلك كان سيد قطب هو رسول جمال عبدالناصر إلى التجمعات
الطلابية فى المدن الجامعية فى البدايات الأولى للثورة، حين تظاهر طلاب
الجامعات مطالبين بالديمقراطية، فذهب إليهم سيد قطب موفداً من عبدالناصر
ليشرح لهم الأوضاع السياسية. وكان سيد قطب فى معرض حديثه عن تلك الأوضاع
يرى أنه لا مخرج لمصر مما تعانى منه من مشكلات مزمنة ومتضخمة إلا بإطلاق يد
الثورة لترتيب البيت الذى تسلمته منهاراً.
وكان سيد قطب يدافع عن
موقف جمال عبالناصر مهاجماً الهضيبى وجماعة الإخوان المسلمين. وقد وصل سيد
قطب فى هجومه عليه وعليها إلى درجة التأثيم والتجريم، فكان يرى أن أهداف
الأمة المتفق عليها لا تتحمل الديمقراطية لأنها أهداف استحكمت فى ضمير
الأمة وعقلها الجمعى الباطن. ولذلك فإن تلك الأهداف لا تحتاج إلى ديمقرطية
لتحقيقها بل إن تحقيقها هو الذى يفتح الباب أمام الديمقراطية التى ليست
شرطاً لتحقيق الجلاء ومحو الأمية والإصلاح الزراعى والتصنيع والتحرير. ولكن
الجلاء وخروج الإنجليز والتحرير من الإقطاع والرأسمالية هو الشرط الأساسى
لتحقيق الديمقراطية.
هكذا ظل سيد قطب هو مفكر الثورة أو أحد مفكريها
وأبواقها فى أوساط الجماهير- طلابية وعمالية وفلاحين- وكان شديد الولاء
لجمال عبدالناصر وقوى الإيمان بزعامته. حتى جاء المنعطف الذى حول سيد قطب
من مناصر للثورة وزعيمها إلى معاد- شديد العداء- لها.
لماذا تحول؟
كان
الإخوان لا يزالون فى محاولاتهم لاستقطاب سيد قطب بما له من كتابات
إسلامية تستهوى أعداداً كبيرة من شباب الإخوان، بينما كان سيد قطب نفسه على
ولائه للثورة وجمال عبدالناصر يرى فيها تحقيقاً لآرائه التى ينادى بها.
وبعد
إقالة وزارة على ماهر- أول وزارة شكلتها الثورة- تقرر تشكيل وزارة جديدة
برئاسة محمد نجيب، ففاتح جمال عبدالناصر صديقه سيد قطب فى أمر تعيينه
وزيراً للمعارف فى الوزارة الجديدة، التى تجرى المشاورات لتشكيلها، وجاء
سيد قطب إلى أصدقائه وأهله ومعارفه ليتحدث معهم فى هذا الأمر، الذى اعتبره
وعداً من جمال عبدالناصر وليس مجرد تشاور.
ولكن قبل إعلان التشكيل
النهائى للوزارة الجديدة، جاء جمال عبدالناصر إلى سيد قطب ليعتذر له عن
وزارة المعارف التى كان قد «وعده» بها، بحجة أن كمال الدين حسين- عضو مجلس
قيادة الثورة- كان مصراً على تولى هذه الوزارة بنفسه، وعرض جمال عبدالناصر
على سيد قطب وزارة الأشغال بدلاً من وزارة المعارف، التى كان يرى سيد قطب
أنه أحق بها من الجميع.
الثمن الغالى:
ولما
كان سيد قطب شديد الاعتداد بنفسه، كان يتعامل مع جمال عبدالناصر على أنه
«العقل» وعبدالناصر «الجسد» فلا يقبل من الجسد أن يوجه العقل، بل يجب على
العقل أن يوجه الجسد! غضب سيد قطب غضباً شديداً واعتبر عبدالناصر مسؤولاً
عن ضياع حلمه فى وزارة المعارف التى كان ينتظر تعيينه بها مكافأة له على
تأييده للثورة والدعاية لها.. وكتب لأحد أصدقائه وهو حسين عبدالفتاح
الترامسى ناظر مدرسة «موشى» الإعدادية بأسيوط يقول له «إن العسكر استكثروا
على سيد قطب وزارة المعارف.. والله سأجعلهم يدفعون ثمن استهانتهم بى
غالياً».
انزوى سيد قطب بعد ذلك، ولم يعد إلى نشاطه السابق فى هيئة
التحرير، بل أخذ يقترب من الإخوان الذين لم يكفوا عن مغازلته حتى وهو فى
أحضان الثورة بقده وقديده. وفى نوفمبر عام 1953 اقتحمت جماعة شباب الإخوان
من أعضاء التنظيم السرى- وكنت واحداً منهم- بيت حسن الهضيبى ليطالبوه
بالاستقالة تنفيذاً للاتفاق الذى عقدوه مع زعيمهم عبدالرحمن السندى على
إقالة الهضيبى. وأما وقد فشل هؤلاء الشباب فى الحصول من الهضيبى على
الاستقالة، فقد اتهم الهضيبى عدداً من قيادات الإخوان بتدبير هذه
«المؤامرة» عليه، وكان صالح عشماوى، رئيس تحرير جريدة الدعوة، لسان حال
الإخوان المسلمين، واحداً ممن أدانهم الهضيبى بمسؤولية التآمر عليه. فقرر
الهضيبى فصل صالح عشماوى ومحمد الغزالى من جريدة الدعوة، بل ومن جماعة
الإخوان كلها.
وحين انفصل صالح عشماوى عن الإخوان- وكان صاحب الرخصة
لجريدة الدعوة- قرر عشماوى الانفصال بالجريدة وسخرها للهجوم على الهضيبى.
عندئذ فكر الهضيبى فى إصدار جريدة أخرى غير «الدعوة» التى انتقلت إلى
خصومه، وكان من شروط الترخيص لإصدار جريدة جديدة- ولا يزال- تحديد اسم رئيس
التحرير الذى يصدر الترخيص باسمه.
تقدم الهضيبى بطلب إلى وزير
الداخلية- الذى كان فى ذلك الوقت هو جمال عبدالناصر نفسه- ليصرح له
باستخراج جريدة جديدة باسم «الإخوان المسلمون» محدداً اسم رئيس التحرير وهو
سيد قطب إبراهيم!! حين تقدم السكرتير بطلب الترخيص لجمال عبدالناصر وقعه
فوراً، بمجرد أن علم أنه طلب من الإخوان إصدار جريدة جديدة، فاندهش
السكرتير من السرعة التى رأى عبدالناصر يوقع بها طلب الترخيص، مما حمله على
سؤاله: هل تعلم من هو رئيس التحرير؟ فقال عبدالناصر: أياً كان رئيس
التحرير، فقال السكرتير له: إنه سيد قطب!
هنا توقف عبدالناصر الذى لم
يكن قد قرأ اسم رئيس التحرير على طلب الترخيص، وطلب من سكرتيره أن يستدعى
له سيد قطب ليتأكد منه بنفسه، فربما يكون الهضيبى قد وضع اسمه على الطلب
دون علمه ليورطه، أو يوقع بينه وبين عبدالناصر. وحين جاء سيد قطب، سأله
عدالناصر: هل أنت من الإخوان؟ وكانت هناك واقعة سابقة سأله فيها جمال
عبدالناصر نفس السؤال: يا أخ سيد هل أنت من الإخوان؟ فنفى سيد قطب أى علاقة
له بالإخوان.
ففى صيف 1953، صدر قانون حل الأحزاب السياسية، وكان
مجلس قيادة الثورة برئاسة محمد نجيب مصراً بكامل هيئته على أن يشمل قرار حل
الأحزاب الإخوان المسلمين باعتبارهم حزباً سياسياً. وكان جمال عبدالناصر
هو الوحيد من بينهم جميعاً الذى رفض أن ينطبق قرار الحل على الإخوان. وقال
عبدالناصر فى تبريره الذى أبداه أمام المجلس فى ذلك اليوم إن الإخوان
المسلمين جماعة دينية تشتغل بالوعظ والإرشاد ولا ينطبق عليها وصف الحزب
السياسى. فانقسم مجلس قيادة الثورة إلى قسمين متساويين بين مؤيد للرأى
ومعارض له. وهنا تقدم عبدالناصر برأى يحل به مشكلة التعادل فى الانقسام بين
أعضاء المجلس.. وقال عبدالناصر إننا عسكريون ولا بد أن نستأنس فى قرارنا
برأى أحد المدنيين المتصلين بالشارع السياسى المصرى. فما رأيكم فى سيد قطب،
السكرتير المساعد لهيئة التحرير، وقد وافق أعضاء المجلس على حضور سيد قطب
اجتماع المجلس ليقول رأيه فى قرار حل الإخوان المسلمين باعتبارهم حزباً
سياسياً.
قال سيد إنه ليس مع حل الإخوان المسلمين حرصاً من الثورة
على ألا تحارب فى كل الجبهات فى لحظة واحدة، فتخسر الكثيرين من أنصارها
ومؤيديها فى وقت هى فى حاجة إليهم لتحارب بهم فى الجبهات الأخرى، ثم- كما
قال سيد قطب- إن المبررات التى تكمن وراء قرار حل الأحزاب السياسية لا
تتوافر فى الإخوان المسلمين، فالإخوان لم يشاركوا فى السلطة قبل قيام
الثورة، ولم يعرفوا بالفساد الذى عرفت بها أحزاب تلك الفترة، كما أنهم
كانوا من أنصار «التغيير» الذى اتخذته الثورة شعاراً لها، مما يستوجب
التفريق بين أنصار الثورة ومعارضيها.
وبعد أن أعلن سيد قطب رأيه على
هذا النحو فى اجتماع مجلس قيادة الثورة، شكره جمال عبدالناصر ثم سأله: هل
أنت من الإخوان المسلمين؟ فنفى سيد قطب أى صلة له بالإخوان بل أكد أنه
معارض لهم. وحين قدم حسن الهضيبى طلب الترخيص لإصدار جريدة للإخوان
المسلمين برئاسة تحرير سيد قطب، استدعاه جمال عبدالناصر ليكرر عليه نفس
السؤال: يا أخ سيد.. هل أنت من الإخوان المسلمين؟
فقال سيد قطب: لم أكن.. فكنت!
تصفية حسابات:
وقد
أجاب سيد قطب عن السؤالين القديم والحديث، إجابة واحدة، بمعنى أنه لم يكن
فى الإخوان المسلمين حين سأله عبدالناصر هذا السؤال أول مرة فى اجتماع هيئة
التحرير، ولكنه الآن قد انضم إليهم. قال له جمال عبدالناصر: أنت حر فى أن
تنضم لمن تشاء ولكن أرجو ألا يكون ذلك «تصفية حسابات»!!
بدأ سيد قطب
بالعمل رئيساً لتحرير جريدة الإخوان المسلمين بعد أن وافقه جمال عبدالناصر
على إصدارها، ومنذ العدد الأول للجريدة بدأ قطب هجومه على الثورة وجمال
عبدالناصر، مبتكراً شخصية «قرفان أفندى» الكاريكاتورية ليحملها هجومه الذى
أراده على المرحلة الجديدة.
ورغم تلك الشخصية الكاريكاتورية التى
تهاجم الثورة وأعمالها، لم تنقطع علاقة عبدالناصر بسيد قطب، وفى إحدى
المرات سأله عبدالناصر: إيه يا أخ سيد «القرفانين» بيكتروا قوى فى البلد
اليومين دول! «فرد عليه سيد قطب قائلاً: إذا كنتم فاكرين إن مافيش حد
«قرفان» منكم تبقوا بتغالطوا أنفسكم!!
وحين تخرجت فى الجامعة عام
1954، وكنت أول دفعتى بكلية الحقوق جامعة القاهرة، نشرت جريدة الإخوان
الخبر مع تهنئة لى فى صفحتها الأولى، فكان ذلك سبباً فى عدم تعيينى معيداً
بالكلية أو بالنيابة. وكان ذلك أول ثمن أدفعه لقربى من سيد قطب فى ذلك
الوقت!
القطب السجين
وقد ظلت جريدة الإخوان
المسلمين فى هجومها على عبدالناصر والثورة ولم يتعرض لها أحد بالمنع أو
المصادرة حتى وقع حادث المنشية، فقبض على سيد قطب مع من قبض عليهم من
قيادات الإخوان فى ذلك الوقت وقدم إلى المحاكمة، وتم الحكم عليه لمدة خمسة
عشر عاماً بتهمة الاشتراك فى تنظيم يستهدف قلب نظام الحكم بالقوة المسلحة.
دخل
سيد قطب السجن، وكانت هناك تعليمات من جمال عبدالناصر شخصياً بمعاملته
معاملة حسنة، حتى إنه تمكن من مواصلة قراءاته وكتاباته فكتب معظم مؤلفاته
خلال الفترة التى أمضاها فى السجن، وسمح له بطبع كتبه وتداولها، فخرج «فى
ظلال القرآن» فى أكثر من طبعة جديدة.
وفى أعقاب إصدار «الميثاق» دارت
المناقشات حوله فى أوساط المثقفين المصريين، وكان الرأى الغالب على تلك
المناقشات والتفسيرات يتجه نحو الماركسية واليسار، فكثرت الكتابات عن
الميثاق كما لو كان اجتهاداً من الشيوعية، وكان ذلك على خلاف ما كان يراه
فيه عبدالناصر، وحين فكر عبدالناصر فى الخروج من هذا المأزق الذى وجد
الماركسيين يحفرونه له، لم يجد أمامه غير سيد قطب، فهو المفكر الوحيد
القادر على أن يفهم الميثاق فهماً إسلامياً يتفق مع فهم عبدالناصر له.
قرر
عبدالناصر الإفراج عن سيد قطب وفور خروجه من السجن استقبله فى بيته، وقال
له: إن الجماعة الماركسيين افتكروا أن الميثاق فتح لهم الطريق «لمركسة»
الثورة، وأنت أعلم بأن الثورة ليست ماركسية ولن تكون، وأنا أريدك أن تكتب
عن الإسلام، فى مواجهة الماركسية لإيقاف هذا المد الماركسى عند حده. وهنا
سأله سيد قطب: وهل سيتركنى زبانيتك لأكتب ما أراه؟ فقال له عبدالناصر: اكتب
ولا شأن لك بهم ولا شأن لهم بك.وفعلاً خرج سيد قطب من مقابلته لعبدالناصر
ليكتب أخطر كتبه على الإطلاق: «معالم فى الطريق» الذى يكاد يكون الأساس فى
الفكر المتطرف الذى تشهده الساحة الآن. أو «مانيفستو» الإرهاب!
وقد
جاءت كتابات سيد قطب فى هذه الفترة لتدعو إلى المفاصلة مع المجتمع
وتكفيره.. وطبع كتاب «معالم فى الطريق» أكثر من طبعة جديدة، كانت تنفد كل
منها بعد ساعات من إصدارها، وكتب سيف اليزن خليفة رئيس المباحث العامة فى
تلك الفترة تقريراً عن الكتاب يصفه فيه بالخطورة على المجتمع. ورفع التقرير
إلى جمال عبدالناصر والذى يطلب فيه من رجال المباحث منع الكتاب من الطبع
والتداول لخطورته، ولكن عبدالناصر رفض منع الكتاب أو التعرض له، لأنه كان
قد قطع عهداً لسيد قطب ألا يسمح لأحد بالتعرض لكتاباته وأن يتركه حراً يكتب
ما يشاء.
ورغم الكتب الكثيرة التى وضعها سيد قطب قبل الثورة وبعدها،
إلا أنه لم يغنم من ورائها مادياً ما غنمه من كتاب «معالم فى الطريق» الذى
ألفه بعد خروجه من السجن، فغير مسكنه من شقة متواضعة إلى فيلا فاخرة فى
حلوان. واعتبر ذلك مؤشراً صحيحاً على اندماجه فى المجتمع، وانسجامه مع
الأوضاع فيه.. حتى كانت أحداث 1965 الدامية.
اعترافات : المستشارالدمرداش العقالى
سجَّلها بقلمه : سليمان الحكيمhttp://www.almasryalyoum.com/news/details/91281
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire