jeudi 31 décembre 2015

الجزء الاول 1\2. التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب









الجزء الاول 1\2. التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب








تم إعداد هذا الملف آليا بواسطة المكتبة الشاملة





الكتاب : التفسير القرآني للقرآن
المؤلف : الدكتور / عبد الكريم الخطيب
دار النشر :
عدد الأجزاء / 16
[ الترقيم داخل الصفحات موافق للمطبوع ]

التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 3
[الجزء الأول ]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
تقديم
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لَا الضَّالِّينَ بسم اللّه نستفتح خزائن علمه ، ونطرق أبواب حكمته ، وبحمد اللّه نستقبل مواطر فضله ، ونرجو المزيد من غيوث رحمته .. وبالصلاة والسلام على رسول اللّه نتزود بخير زاد ، فى صحبتنا لكتاب اللّه ، الذي نزل به الروح الأمين على قلبه ، هدى ورحمة للعالمين! فسبحانك اللهمّ وبحمدك ، وتبارك اسمك وتعالى جدّك ، والصلاة والسلام على النبي الأمى ، الذي بعثته فى الأميين رسولا يتلو عليهم آياتك ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ، فحمل الأمانة ، وأدى الرسالة ، وجاهد فى اللّه حقّ جهاده ، حتى أجلى غواشى الشرك من القلوب ، وقشع ضلالات الجهل عن العقول ، وغزا بالقرآن أمة ركبها الضلال ، واستبد بها العمى ، فصابها بصوب حكمته ، وأدبها بأدب نبوته ، وصاغها صياغة جديدة ، فإذا هى أمة غير الأمة ، وناس غير الناس ، حتى لقد استأهلت أن تلبس هذا الوصف الكريم الذي وصفها اللّه به فى كتابه الكريم إذ قال سبحانه : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ » ! فالأمة الإسلامية هى أمة القرآن ، إليه يردّ أصلها ، وبه يعرف نسبها ، ومنه نسجت وتنسج ما لبست وتلبس من حلل العزة والكرامة والسيادة ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 4

(1/1)




ولن يمسك عليها وجودها فى هذا المقام الكريم إلا رعايتها للقرآن ، وتمسكها به ، واجتماعها عليه ، . ويوم تفتر عزيمتها عن المضي معه ، أو تسترخى يدها عن الشدّ عليه والتعلق به ، يوم يكون ـ ولا كان ـ ردّتها إلى الجاهلية ، وركسها فى الضلال ، ورعيها فى الهمل مع السائمة والهائمة ، من حواشى الأمم ، ونفايات الشعوب! وتاريخ المسلمين مع القرآن الكريم يشهد لذلك شهادة قائمة على هذا الحساب ، مقدرة بهذا التقدير ، جارية معه .. طردا وعكسا!! فإنه على قدر ما كان يقترب المسلمون من كتابهم الكريم ، وبقدر ما كانوا يرعون حقّه ، ويؤدون أمانته ـ كان نصيبهم من الخير ، وكان حظهم من السلامة فى أنفسهم ، وأموالهم ، وأوطانهم! والعكس صحيح .. فإنه على قدر ما كان يبعد المسلمون عن كتابهم ، وبقدر ما يفرّطون فى حقه ، ويستخفوّن بشأنه ـ بقدر ما كان بعدهم عن الخير ، وكان دنوّهم من الخطر ، وتعرّضهم لآفات التفكك والانحلال! وليس هذا شأن المسلمين وحدهم .. بل هو شأن كل من يدعى إلى الخير فيلقاه معرضا ، أو يصحبه على دخل وجفاء! وفى واقع الحياة ، وعلى مسرح أحداثها كثير من المثلات والعبر! بنو إسرائيل مثلا ..
أطعمهم اللّه خير طعام ، تشتهيه النفس ، وتطيب معه الحياة ، فأنزل عليهم المنّ والسّلوى .. مائدة من السماء .. يجدونها حيث يشاءون ، حاضرة عتيدة بين أيديهم ، لا يتكلفون لها جهدا ، ولا يبذلون من أجلها دانقا أو درهما!! ومع هذا ، فقد عافت نفوسهم هذا الطعام السماوي .. الطيب الكريم ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 5
المحفوف بالرحمات والبركات ، وأبت عليهم نفوسهم اللئيمة الخبيئة إلا أن تضع فمها فى التراب ، وأن ترعى مع الأنعام ، وتأكل مما يأكل الحيوان ..!
و قد كشف القرآن عن هذا الموقف اللئيم ، الذي وقفوه إزاء هذه النعمة الكريمة ، فقال تعالى :

(1/2)




« وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ. وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ... »
(61 : البقرة).
فهذه مائدة كانت ممدودة لهم من السماء ، وكان جديرا بالقوم أن يعيشوا فيها ، وأن يهنئوا بها .. ولو أنهم فعلوا ما زايلهم هذا الخير أبدا ، ولعاشت فيه أجيالهم جيلا بعد جيل ، يطعمون من هذا الطعام الطيب الكريم ، الذي تصفو عليه النفوس ، وتنتعش الأرواح ، كما تصح عليه الأبدان!! ومن يدرى؟ فلعله لو ذهب بنو إسرائيل بهذه التجربة إلى غايتها ، لتغير وجه الحياة الإنسانية بهم ، ولظهرت فى الحياة سلالات بشرية لا تحمل معدة الحيوان ، ولا بهيمية البهائم .. ولكن اللّه بالغ أمره! « قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً » (3 : الطلاق).
فبدّل اللّه نعمة القوم نقمة ، وضربهم بالذّلة والمسكنة ، فما استقام لهم بعدها وجه فى الحياة ، ولا كان لهم فيها من زاد إلا السحت الخبيث من الطعام ، يختلسونه اختلاسا ، مما يأكل الناس والأنعام! « وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 6
فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ »
(175 ـ 176 : الأعراف).
ونحن ـ المسلمين ـ ماذا كان منا اليوم فى شأن هذا الكتاب الكريم الذي بين أيدينا؟

(1/3)




لقد أنزله اللّه علينا مائدة من السماء ، حافلة بالطيبات من الرزق ، محملة بالكريم الغدق من النعم! فذالكم هو « القرآن الكريم » الذي وصفه اللّه سبحانه وتعالى بقوله :
«وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ » (82 : الإسراء) ..
والذي يقول فيه النبىّ صلوات اللّه وسلامه عليه : « القرآن مأدبة اللّه ، فتعلموا من مأدبته » .
ففى مأدبة اللّه هذه .. الشفاء والرحمة .. وإن المائدة التي أعدّها اللّه للمسلمين ، ووضعها بين أيديهم ليست على شاكلة تلك المائدة التي أنزلها على بنى إسرائيل طعاما يغذّى الأجسام ، ويشبع البطون.
إن المائدة الممدودة للمسلمين ، مائدة يتغذى منها العقل والروح ، فتتخلق منها ملكات علوية ، ووجدانات ربانية. بها يسمو الإنسان ويعلو ، وبها ينتصر على هذا الضعف الإنسانى ، وينتصر على تلك النزعات الحيوانية ، المندسّة فى كيانه.
ولهذا يقول الرسول الكريم عن تلك المأدبة : « فتعلموا من مأدبته » ولم يقل : « فكلوا من مأدبته » .. ذلك أن القرآن مأدبة علم وحكمة وخلق ، وليس مأدبة معدة ، ولا طعام بطون!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 7
و انظر كيف رفع اللّه قدر هذه الأمة ، وأعلى شأنها ، وكيف جعل غذاءها السماوىّ الذي أنزله عليها غذاء يتصل بالروح ، ولم يجعله فيما يقدم إلى البطن والمعدة ، وفى ذلك ما فيه من كرامة وتكريم لهذه الأمة ، التي تتلو القرآن وتدين بالإسلام ، وتتعبد بقول الحق جل وعلا فى شأنها : « كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ ، تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » (111 : آل عمران).

(1/4)




فمن شأن القرآن أن يقيم المتصلين به على طريق الحق ، فيأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويؤمنون باللّه! إن الذي يستقيم على دعوة القرآن ، لهو إنسان سليم فى كيانه ، معافى فى نفسه ، ثم هو مع ذلك قادر على أن يحمل الهدى إلى غيره ، فيأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ويكون خليفة اللّه فى الأرض ، وخليفة الرسول فى الدعوة إلى اللّه ، وهداية الناس إليه.
ولكن صحبة المسلمين للقرآن لم تكن قائمة على العدل والإحسان فى جميع الأحوال .. فكثيرا ما أساء المسلمون تلك الصحبة ، وأوسعوها جفاء وعقوقا ، حيث يعيش القرآن فيهم غريبا .. لا يقفون عنده ، ولا يلتفتون إليه ، ولا يتدبرون آياته ، ولا يتلقون بعض ما فيه من خير وهدى! والجفوة التي بين المسلمين وبين القرآن الكريم جفوة غليظة مستحكمة ، قد تداعت عليها دواع كثيرة ، أحكمت بنيانها ، وثبتت دعائمها ، فلم يعد بين المسلمين وبين القرآن طريق يصلهم به إلا تلك الطرق الدارسة الطامسة ، التي تتصاعد منها أتربة وأدخنة ، تعمّى على الناظر منهم فى كتاب اللّه ، وجوه الحق والخير التي فيه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 8

(1/5)




وإن كل حظ المسلمين اليوم من القرآن هو حظهم من مخلّفات الآباء والأجداد ، مما تضمه المتاحف ودور الآثار ، يزورونها لماما ، ويطرقونها حينا بعد حين .. قد تثير فيهم تلك الزّورة نشوة عارضة ، أو تبعث فيهم عزّة كاذبة ، ينفضونها عن نفوسهم قبل أن يجاوزوا المزارة ، كما ينفضون ما قد يكون علق على ثيابهم من التراب ، وهم يجوسون خلال الديار! فنحن نلمّ بالقرآن إلماما ، ونلقاه حينا بعد حين ، وقد نذكر به فى تلك اللقاءات ، وهذه الإلمامات ، ما نذكر من مواعظ وعظات ، ثم لا نلبث حتى ننخلع عن هذه المشاعر قبل أن نضع المصحف من أيدينا ، لنلقى الحياة ونختلط بها ، كما نحن ، على الوجه الذي كنا نصحبها به ، ونعيش معها عليه! فما يحدّث به القرآن شى ء ، وحياتنا التي نحياها ونتقلب فيها شى ء آخر ، بعيد كل البعد عن القرآن ، وما يحدثنا به القرآن! إن المسلم ـ منا ـ يعيش فى هذه الحياة بشخصية « مزدوجة » ويلقاها بنفس منقسمة على نفسها ، ولهذا كان مسيره فيها مضطربا مختلجا ، تتماوج أبعاضه بين مشرق ومغرب ، وشمال وجنوب ، فهو يتحرك فى مكانه ، حركة متماوجة مضطربة ، فلا يتقدم خطوة إلى الأمام ، على كثرة هذا الضرب المضطرب فى الأرض! والسبب فى هذا يرجع ـ فى تقديرنا ـ إلى « تميّع » العقيدة الدينية فى نفس المسلم ، وإلى اختلاط كثير من مسائلها فى تفكيره ، وعدم وضوح المعالم والحدود لكثير من أمور الدين عنده! وذلك ـ فى تقديرنا أيضا ـ يرجع إلى أمور كثيرة .. منها :
أولا : هذه الخلافات السياسية والمذهبية التي وقعت بين المسلمين منذ أعقاب الخلافة الراشدة ، فانعكست آثار هذه الخلافات السياسية والمذهبية
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 9

(1/6)




على المسائل الدينية ، فجاءت تلك المسائل على وجوه كثيرة متناقضة متضاربة ، يلطم بعضها وجه بعض ، بحجج تسندها آية من كتاب اللّه ، متأولة على غير وجهها ، أو حديث ضعيف ، أو أثر مكذوب .. فتجد كل هذه الأقوال منطقا يقيمها ، أو ذكاء يدارى عوارها ، بما دخل المسلمين من مذاهب الجدل والسفسطة ، منذ قيام الدولة العباسية ، واتصال العرب والمسلمين بالثقافات والديانات الأخرى ، التي كانت تصبّ روافدها المتدفقة فى كيان الأمة العربية ، وفى محيط العقل الإسلامى.
وكان من هذا أن تشعبت مسائل الدين بين الطوائف المختلفة ، اختلافا دينيا سياسيا ، والتي انقسمت كل طائفة منها على نفسها ، فكانت فرقا تبلغ المئات عدا .. وقد ذهبت كل فرقة فى الدين مذهبا ، وأقامت لمذهبها حجته من كتاب اللّه ، وسنة رسول اللّه .. وهذا هو أفدح ما فى الأمر ، وأشنع ما فى هذا الخلاف! فالمسألة الواحدة من مسائل الدين ، تأخذ دورة طويلة لا تكاد تنتهى أبدا ، فلا يكاد المسلم يمسك منها بطرف حتى تجره جرا إلى مسائل كثيرة ، تتولد منها وتتفرع ، وتبيض وتفرخ ، وإذا هو أمام عشرات من الصور « المهزوزة » للأمر الواحد ، والمسألة الواحدة .. تتراقص فى محيط تفكيره ، كما يتراقص الشبح فى ضوء مصباح ، عبثت بذبالته الريح .. فى يوم عاصف! وهذا ما نجده فى كل أمر من أمر ديننا نرجع فيه إلى الفقه الإسلامى ، الذي صادف تدوينه ، تلك الفترة التي تمزقت فيها الوحدة الإسلامية ، وتمزق معها العقل الإسلامى! وثانيا : التعويل على هذا الفقه تعويلا كاملا ، وربط المسلمين به ربطا محكما ، حتى لقد أصبح عند كثير من علماء المسلمين ، وفقهائهم ـ على امتداد العصور
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 10

(1/7)




التي تلت هذا العصر ـ أصبح دستور الشريعة الإسلامية ، وترجمان كتابها الكريم .. وكان من هذا أن أصبح تعلّق أكثر العلماء والفقهاء بهذا الفقه أكثر من تعلقهم بكتاب اللّه نفسه .. فهم يرجعون فى كل أمر يعرض لهم إلى مقولات المذهب أو المذاهب الفقهية ، فى هذا الأمر أو ذاك ، وفى كل داعية من دواعى الحياة ، يراد للدين أن يزنها بميزانه ، ويقيسها بأحكامه! وطبيعى أنه إذا جاء رأى دينى من محصّل هذا النظر القائم على مقولات المذاهب الفقهية المتضاربة المتخالفة ـ جاء مذعورا قلقا ، يموج فى أخلاط من الآراء المتناقضة ، والأقوال المتخالفة ، لا يكاد المرء يعرف منها وجها من ظهر.
من أجل هذا « تميّعت » مسائل الدين ، وغامت فى أنظار المسلمين ، فهم إنما يطوفون بها فى إجلال وتقديس ، أشبه بإجلال المجهول وتقديسه ، لا يقوم فى النفس مقاما ثابتا مطمئنا أبدا ، بل سرعان ما يذهب ذلك الشبح الباهت إذا طلع عليه بصيص من نور ، أو لمعة من سراب! والقرآن ـ من غير شك أو جدال ـ هو مصدر الشريعة الإسلامية ، وهو دستورها القائم أبد الدهر ..
وقد استغنى به المسلمون فى الصدر الأول للإسلام ، فأغناهم عن كل شى ء ..
لا يمدون أبصارهم إلى غيره ، ولا يأخذون لدينهم ودنياهم إلا بما توحى به إليهم كلماته ، وتومى ء به إليهم آياته! وطبيعى أن هذا الذي نقوله عن كتاب اللّه ، نقوله كذلك فيما ثبت من سنة رسول اللّه ، القولية والفعلية ، إذ كانت السنة المطهرة تطبيقا شارحا لكتاب اللّه ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » (7 : الحشر).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 11
و لا يستقيم هذا القول ، الذي نقوله فى القرآن ـ بأنه مصدر التشريع الإسلامى ـ إلّا بفهم سليم صحيح لكتاب اللّه ، ولا يكون هذا الفهم السليم الصحيح إلا عن طول تأمل وتدبر لكتاب اللّه ، وتذوق لأساليب بيانه ، ووقوف على بعض أسراره.

(1/8)




و بهذا الفهم لكتاب اللّه ، يتحقق لنا أمران :
أولهما : اتصالنا بكتاب اللّه اتصالا وثيقا ، قائما على معرفة به ، وتذوق لجنى طعومه الطيبة ، وهذا مما يجعل لتلاوتنا للقرآن ، أو استماعنا لتلاوته أثرا فى نفوسنا ، ووقعا على قلوبنا ، وتجاوبا مع آدابه ، واستجابة لنداءته .. فيما يدعو إليه ، من أمر بالمعروف ، ونهى عن المنكر! وثانيهما : تصور مسائل الدين تصورا واضحا محددا ، بلا ذيول ، ولا معلقات ..
وبهذا يعرف المسلم الحكم قاطعا ، فيما أحل اللّه ، وفيما حرم ، فيكون على بينة من أمره ، فيما يأخذ أو يدع من أمر دينه! ومن أجل هذا كانت صحبتنا هذه لكتاب اللّه ، على هذا الوجه ، الذي لا ننظر فيه إلى غير كتاب اللّه ، وإلى تدبر آياته ، بعيدا عن طنين المقولات الكثيرة التي جاءت إلى القرآن من كل صوب ، وكادت تخفت صوته ، وتغيم على الأضواء السماوية المنبعثة منه! إننا فى صحبتنا هذه للقرآن ، لا نقيم نظرنا على غير كلماته وآياته ، ولا نخط على هذه الصفحات غير ما يسمح لنا به النظر فى كلماته وآياته.
إننا لا نفسر القرآن بالمعنى المعروف للتفسير ، فى هذه الصحبة التي نصحب فيها كتاب اللّه .. وإنما نحن نرتل آيات اللّه ترتيلا .. آية آية ، أو آيات آيات .. ثم نقف لحظات نلتقط فيها أنفاسنا المبهورة ، لما تطالعنا به الآية أو الآيات ، من عجب ودهش وروعة ، ثم نمسك القلم ، لنمسك به على الورق بعض
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 12

(1/9)




ما وقع فى مشاعرنا من صور العجب والدهش والروعة .. وإنها لصور باهتة بالنسبة للواقع الذي حملته تلك المشاعر .. فما أبعد الفرق بين الشعور المشتمل علينا ونحن بين يدى كلمات اللّه ، وبين الكلمة التي تنقل هذا الشعور!! ولكنها ـ على أي حال ـ معلم من معالم الطريق إلى كتاب اللّه ، يمكن أن يجد فيه السالك نورا ، ويزداد به المهتدى هدى .. « وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ » « وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ..
وسلام على المرسلين ، والحمد للّه ربّ العالمين.
المؤلف القاهرة فى الثاني والعشرين من ذى القعدة 1386 ه فى الثالث من مارس 1967 م
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 13
دراسات حول القرآن
أولا : المكىّ والمدنيّ
المكىّ من القرآن ما نزل بمكة ، والمدنىّ ما نزل بالمدينة.
وعدد سور القرآن مائة وأربع عشرة سورة باتفاق.
السّور المكية.
1) اقرأ باسم ربك 2) ن 3) المزمل 4) المدثر 5) المسد 6) التكوير 7) الأعلى 8) الليل 9) الفجر 10) الضحى 11) الشرح 12) العصر 13) العاديات 14) الكوثر 15) التكاثر 16) الماعون 17) الكافرون 18) الفيل 19) الفلق 20) الناس 21) الإخلاص 22) النجم 23) عبس 24) القدر 25) الشمس 26) البروج 27) التين 28) قريش 29) القارعة 30) القيامة 31) الهمزة 32) المرسلات 33) ق 34) البلد 35) الطارق 36) القمر 37) ص 38) الأعراف 39) الجن 40) يس 41) الفرقان 42) المعارج 43) مريم 44) طه 45) الواقعة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 14

(1/10)




46) الشعراء 47) النمل 48) القصص 49) الإسراء 50) يونس 51) هود 52) يوسف 53) الحجر 54) الأنعام 55) الصافات 56) لقمان 57) سبأ 58) الزمر 59) المؤمن 60) حم (السجدة) 61) حم عسق 62) الزخرف 63) الدخان 64) الجاثية 65) الأحقاف 66) الذاريات 67) الغاشية 68) الكهف 69) النحل 70) نوح 71) إبراهيم 72) الأنبياء 73) المؤمنون 74) آلم : السجدة 75) الطور 76) الملك 77) الحاقة 78) المعارج 79) النبأ 80) النازعات 81) الانفطار 82) الانشقاق 83) الروم 84) العنكبوت 85) المطففون
السور المدنية :
86) البقرة (أول ما نزل بالمدينة) 87) الأنفال 88) آل عمران 89) الأحزاب 90) الممتحنة 91) النساء 92) الزلزلة 93) الحديد 94) محمد صلى اللّه عليه وسلم 95) الرعد 96) الرحمن 97) الإنسان 98) الطلاق 99) البينة 100) الحشر 101) النصر 102) النور 103) الحج 104) المنافقون 105) المجادلة 106) الحجرات
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 15
107) التحريم 108) الجمعة 109) التغابن 110) الصف 111) الفتح 112) التوبة 113) المائدة 114) فاتحة الكتاب .. اختلف فى نزولها بمكة أو بالمدينة.
وقيل إنها نزلت مرتين ـ مرة بمكة ومرة بالمدينة.
ثانيا : عدد آياته ، وكلماته ، وحروفه
و كان من اهتمام المسلمين بالقرآن ، وحرصهم عليه أن أحصوه آية آية ، وكلمة كلمة ، وحرفا حرفا .. ونسجل هنا هذا الجهد المشكور لعلماء القرآن رضى اللّه عنهم.
عدد آيات القرآن :
اختلف الدارسون للقرآن فى إحصاء آياته ..
فقال بعضهم : هى ستة آلاف آية.
وقال آخرون : ستة آلاف آية ومئتان وأربع آيات.
وقيل : سنة آلاف ومئتان وأربع عشرة آية.
وقيل : ستة آلاف ومئتان وتسع عشرة آية.
وقيل ستة آلاف ومئتان وخمس وعشرون أو ست وعشرون أو ست وثلاثون ..
عدد كلماته :
أجمع العلماء على أن عدد كلمات القرآن سبع وسبعون ألفا وأربع مئة وسبع وثلاثون كلمة.
عدد حروفه :
وأما عدد حروفه فهى ثلاثمائة وواحد وعشرون ألف حرف.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 16
وقيل إن الحجاج بن يوسف جمع القراء والحفاظ والكتّاب ، فقال لهم :
أخبرونى عن القرآن كله ، كم من حرف هو؟ فأجمعوا على أنه ثلاثمائة وأربعون ألفا وسبع مئة وأربعون حرفا.
قال : فأخبرونى عن نصفه ..
قالوا : عند الفاء من قوله تعالى فى سورة الكهف : « وَ لْيَتَلَطَّفْ » (19 : الكهف).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 17

(1/11)




1 ـ فاتحة الكتاب
نزولها : مكية ، وقيل إنها نزلت بمكة ، ثم نزلت مرة أخرى بالمدينة.
ولا وجه لهذا القول.
عدد آياتها : سبع.
عدد كلماتها : خمس وعشرون كلمة.
عدد حروفها : مائة وثلاث وعشرون حرفا.
من أسمائها : سميت بأسماء كثيرة ، جاوزت المائة ، وذلك حسب ما يقع فى الخاطر منها.
ومن أسمائها : الفاتحة ، وفاتحة الكتاب ، والحمد ، وسورة الحمد ، والشافية ، والشفاء ، وأم القرآن ، وأم الكتاب : والسبع المثاني (لأنها تثنى ـ أي تكرر ـ فى كل صلاة).
آية : (1) [سورة الفاتحة (1) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)
التفسير : باسم الألوهية يقوم الوجود ، وإليه يركن كل موجود .. فكل عوالم الكون مألوهة للّه ، خاضعة لمشيئته ، محفوفة برحمته.
ووصف الألوهية بهاتين الصفتين : « الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » يدل على أن هذا الوجود إنما هو فيض من رحمانية اللّه ورحمته. إذ الوجود ـ على أية صورة من صوره ـ نعمة وخير ، إذا هو قيس بالعدم ، الذي هو فناء مطلق ، وتيه وضياع.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 18
آية : (2) [سورة الفاتحة (1) : آية 2]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)

(1/12)




التفسير : بهذا الحمد للّه تنطق المخلوقات كلها ، فهو سبحانه الذي أوجدها من العدم وأعطاها خلقها بين المخلوقات ، وقام عليها مدبرا ، وحافظا ، « الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى » (50 : طه) ، فحق عليها أن تحمده ، وتشكر له ، وقد لزمها هذا الحق الذي لا انفكاك لها منه ، إن لم تؤده اختيارا أدته اضطرارا ، وإن لم يفصح عنه ظاهرها نمّ عليه باطنها : « تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ ، وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ، وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » (44 : الإسراء)
آية : (3) [سورة الفاتحة (1) : آية 3]
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3)
التفسير : استفاضة رحمانية اللّه ، وشمول رحمته ، يجدها كل موجود فى نفسه ، وفيما حوله ، ولهذا كان حمد اللّه واقعا بين هاتين الصفتين ، كأنه تعقيب عليهما أولا ، وكأنهما تعليل له ثانيا.
آية : (4) [سورة الفاتحة (1) : آية 4]
مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
التفسير : يوم الدين : هو يوم الدينونة ، أي الحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة : « وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ. ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 19
يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ » (17 ـ 18 ـ 19 :
الانفطار).
ومجى ء « مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ » معطوفا عطف بيان على « الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » للإشعار بأن هذه الملكية ملكية رحمانية ورحمة ، تضع موازين القسط للفصل بين الناس ، حيث يثاب المحسنون ، ويعاقب المسيئون ، وهو عقاب فيه رحمة لهم ، حيث يطهرهم من أدران الآثام التي علقت بهم ، ليكونوا أهلا لمساكنة الملأ الأعلى.
آية : (5) [سورة الفاتحة (1) : آية 5]
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

(1/13)




التفسير : من مقتضى حمد للّه الذي استوجبه على عباده بربوبيته ، ورحمته ، أن يفرد بالعبودية ، وأن يختص بالعبادة ، فلا متوجّه إلا إليه ، ولا لجوء إلا له ، ولا معول إلا عليه. « إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ ، فَادْعُوهُمْ ، فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » (194 : الأعراف).
آية : (6) [سورة الفاتحة (1) : آية 6]
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
. التفسير : الصّراط المستقيم : هو الطريق القائم على الحق والعدل ، الموصّل إلى الخير والفلاح ، لا يضل سالكه ، ولا تتعثر له قدم فيه.
آية : (7) [سورة الفاتحة (1) : آية 7]
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 20
التفسير : هذا بيان للصراط المستقيم ولأهله ، الذين أنعم اللّه عليهم ، فهداهم إليه ، وأقامهم عليه ، ثم بيان آخر للصراط المستقيم ، وهو صراط لا يسلكه للمغضوب عليهم ، الذين مكروا بآيات اللّه ، وكفروا بنعمه ، فضربهم بغضبه ، وصبّ عليهم لعنته ، وهو صراط لا يستقيم عليه من اتبع هواه ، وعمى عن الحق الذي بين يديه! والمغضوب عليهم هم اليهود ، وقد صرّح القرآن فى غير موضع وفى أكثر من آية ، بأنهم مغضوب عليهم من اللّه ، فقال تعالى : « قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ » (60 : المائدة) وليس وصف اليهود بالمغضوب عليهم مانعا من إطلاق الوصف على كل من غضب اللّه عليه ، فحاد عن الطريق المستقيم ، وكذلك الشأن فى « الضالين » باعتباره وصفا لكل من ضل طريق الحق والهدى.

(1/14)




و فى دعاء المؤمنين بأن يهديهم اللّه الصراط المستقيم ، ويجنبهم صراط المغضوب عليهم ، والضالين عن الطريق القويم ـ فى هذا الدعاء غاية فى تحرّى الطريق إلى اللّه ، والتماسه مستقيما خالص الاستقامة ، بعيدا عن مزالق المفتونين فى دينهم ، والمنحرفين عن سواء السبيل.
و« آمين » دعاء تختم به السورة ، وهو اسم فعل أمر ، بمعنى استجب يا اللّه ما دعوناك به. وهذا اللفظ ليس من القرآن ..
وهذا ، وتلك السورة الكريمة ، فوق أنها قرآن كريم ، هى مفتتح هذا القرآن ، وهى أم الكتاب الكريم ، لاشتمالها على أصول الشريعة الإسلامية ، من توحيد ، وعبادات ، وآداب ، ومعاملات ..
ولهذا كانت ملاك الصلاة ، التي هى بدورها ملاك الإسلام كله ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 21
إذ لا صلاة لمن لا يصلى بها ، ومن أجل هذا سميت آياتها السبع ، السبع المثاني ، إذ يثنّى بها فى كل صلاة ، أي تقرأ مثنى فى الصلاة ذات الركعتين ، ومثنى مثنى فى الصلاة ذات الأربع ركعات! واستمع إلى هذا الدعاء أو الصّلاة.
«أبانا الذي فى السماوات .. ليتقدّس اسمك ، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما فى السّماء كذلك على الأرض .. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم ، واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضا للمذنبين إلينا .. ولا تدخلنا فى تجربة ..
لكن نجّنا من الشّرّير .. لأن لك الملك والقوة والمجد إلى الأبد .. آمين » أ تدرى ما هذا الكلام؟
إنّه الصّلاة التي كان يصلّى بها السيّد المسيح ، والتي علّم أتباعه أن يصلوا بها .. إذ يقول لهم :
«و حينما تصلّون لا تكرروا الكلام باطلا كالأمم ، فإنهم يظنون أنهم بكثرة كلامهم يستجاب لهم .. فلا تتشبهوا بهم .. لأن أباكم يعلم ما تحتاجون إليه قبل أن تسألوه ..
فصلّوا أنتم هكذا » « 1 » .
ثم يذكر لهم هذه الصلاة على النحو السابق ..
وأنت ترى ما بين هذه الصلاة التي كان يصلى بها السيد المسيح ، ويعلمها أتباعه ، وبين فاتحة الكتاب التي هى قرآن المسلمين فى صلاتهم ـ أنت ترى ما بين هذه وتلك من تشابه كبير فى الروح التي تستولى على الإنسان وهو
__________________________________________________
(1) إنجيل متى : الإصحاح السادس.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 22
يتلوها ، خاشعا متعبدا .. أليس ذلك دليلا على أنهما من معدن واحد ، وأن متنزلهما السماء ، وحيا من رب العالمين؟ ثم أليس ذلك دليلا على ما بين الديانات السماوية من صلات وثيقة قائمة على الحق العدل؟ بلى! وإنه لو سلمت الكتب السماوية السابقة من التحريف ، لالتقت مع القرآن فى كل ما جاء به ، ولكن التحريف والتعديل باعد بين تلك الكتب وبين القرآن فى أصول الدعوة وفروعها على السواء.!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 23

(1/15)




2 ـ سورة البقرة
نزولها : نزلت بالمدينة ، وهى أول سورة نزلت بعد هجرة النبىّ صلى اللّه عليه وسلم إلى المدينة.
عدد آياتها : مائتان وست وثمانون آية.
عدد كلماتها : ستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمة.
عدد حروفها : خمسة وعشرون ألفا وخمسمائة حرف.
آية : (1) [سورة البقرة (2) : آية 1]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (1)
التفسير : فى القرآن الكريم تسع وعشرون سورة ، بدأت بحرف أو أكثر من حروف الهجاء ، وكل حرف ينطق به نطقا مستقلا مرتلا ، هكذا :
ألف .. لام .. ميم .. أو : طا ، ها ، أو : ياسين. وعلى هذا النحو تنطق جميع الحروف التي جاءت مفتتحا لسور القرآن.

(1/16)




و قد شغلت هذه الحروف علماء التفسير ، فأطالوا النظر فيها ، وأكثروا القول فى تأويلها وتفسيرها ، حتى لقد تجاوزت وجوه الرأى فيها أربعين وجها! والمفهوم الذي نستريح إليه لهذه الأحرف ، أنها مجرد حروف هجاء ، مما بنيت منه كلمات القرآن الكريم ، وآياته ، وسوره ، وأنها حين يبدأ بها فى التلاوة هكذا .. حرفا حرفا ، آخذا كل حرف نغما مستقلا على لسان القارئ ـ ترسم لمرتل القرآن أسلوبا خاصّا فى التلاوة ، فيقرأ الكلمات قراءة مستأنية ، يأخذ فيها كل حرف مكانه على لسان القارئ ، كما أخذت حروف هذه المفتتحات وضعها المستقل على لسانه! فى أناة وتقطيع .. حرفا حرفا!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 24
و بهذا يتحقق الأداء السليم لتلاوة القرآن ، كما يقول اللّه تعالى : « وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا » (4 : المزمل).
إن العرب الذين نزل القرآن بلسانهم ، هم قوم أميون ، تلقّوا لغتهم سماعا ، وحفظوا كلماتها وأساليبها ، أصواتا تحمل من المعاني ما تحمل أنغام الموسيقى إلى أربابها! فالعربى كان يعرف الكلمة جملة ، كما كان يعرف مدلولها الذي تدل عليه جملة أيضا ، بل إنه يعرف مدلول الكلمة أكثر مما يعرف الكلمة ذاتها ، فإذا نطق بكلمة « سيف » أو « درع » أو « جمل » أو « ليلى » أو نحو هذا ، ارتسم فى الحال لعينيه مدلول الاسم الذي نطق به ، دون أن يلتفت كثيرا إلى الصوت الذي انطلق من فمه! وإذ كان حساب الكلمات عند العرب الجاهليين على هذا النحو ، الذي تبدو فيه الكلمات وكأنها مجرد أصوات! وإذ كان ذلك كذلك ، وإذ كان القرآن الكريم كلاما معجزا ، فإن وجه الإعجاز لا ينكشف فى كلماته وآياته إلا إذا تحقق للكلمة وجود ذاتى ، وعرف لها ناطقها وسامعها أنها كائن له مشخصاته ، التي تحقّق له وجودا مستقلا عن غيره ، مباينا له ، كما يستقل الإنسان عن الإنسان بذاته ومشخصاته.

(1/17)




و على هذا التقدير ، تحدث القرآن الكريم إلى هؤلاء الأميّين بما يكشف لهم عن شخصية الكلمة ، وأنها بناء يقوم على أسس ، ويبنى على أصول ، وأن لبنات هذا البناء هى حروف : ألف ، لام ، ميم ، نون ، قاف .. وهكذا.
وبهذا النظر إلى الكلمات ، ينطق العربىّ بكلمات القرآن الكريم متأنيا ، متأملا ، حتى لكأن الحرف كلمة! وبهذا يتصل قارئ القرآن بكلمات القرآن اتصالا وثيقا ، يخلص إليه منه كثير من أضوائه ونفحاته ، وذلك هو
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 25
بعض الحكمة من ترتيل القرآن ، وقراءته على هذا الوجه الذي ينفرد به عن قراءة أي كلام ، حيث يقول اللّه تعالى : « وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا » (4 : المزمل) ويقول سبحانه : « وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا » ! (106 : الإسراء) وقد امتثل النبي الكريم ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ أمر ربّه ، فكانت قراءته ترتيلا منغما ، يأخذ فيه كل حرف مكانه فى الكلمة ، وتأخذ كل كلمة مكانها فى الآية ، دون أن يختفى حرف ، أو تضيع كلمة.
روى البخاري عن أنس ، أنه سئل عن قراءة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، فقال : « كانت مدّا » ثم قرأ ـ أي أنس ـ « بسم اللّه الرحمن الرحيم » يمدّ اللّه ، ويمدّ الرحمن ، ويمد الرحيم » أي أنه يمثّل بهذا الأسلوب القراءة التي كان يقرأ بها النبي الكريم.
وعلى هذا ، فإن مجى ء هذه الأحرف المقطعة فى بعض سور القرآن ، وفى مفتتح السور التي جاءت فيها ـ إن هذا أشبه « بالوحدة » التي يقوم عليها اللحن الموسيقى ، والتي يسرى صداها فى اللحن كله ، من أوله إلى آخره ، وإن تعددت أنغامه ، وخفتت أو علت أصداؤه.!
فليس من الضروري إذن أن يجتهد فى البحث عن معنى لهذه الأحرف المقطعة ، ولنا أن نحسبها مطلعا موسقيا ، تقوم عليه وحدة النغم فى ترتيل آيات السور التي بدئت بحرف أو حرفين أو أكثر.
آية (2) [سورة البقرة (2) : آية 2]

(1/18)




ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2)
التفسير : « الكتاب » هو القرآن ، وتسمية القرآن كتابا إشارة إلى أن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 26
من شأن هذا الكلام أن يكتب ويوثّق ، حتى يحفظ من التبديل والتحريف ، وهذا ما فعله الرسول الكريم ، فى كل ما تلقاه وحيا من القرآن ، إذ كان صلوات اللّه وسلامه عليه لا يكاد يفرغ من تلقّى ما أوحى إليه من ربّه ، حتى يمليه على جماعة عرفوا بأنهم كتاب الوحى.
وأول ما أوحى إلى الرسول من كلمات اللّه قوله تعالى :
«اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ » « 1 » .
وانظر إلى تلك المفارقات العجيبة البعيدة بين إنسان أمّى ، لا يقرأ ولا يكتب ، يصطفيه اللّه للنبوة ، ويختاره لرسالة دستورها القرآن الكريم ، الذي يتلقاه وحيا من السماء على مدى نيف وعشرين سنة .. ثم تكون « اقْرَأْ » أول كلمة تفتتح بها هذه الرسالة .. ثم تتبع بكلمتي « عَلَّمَ بِالْقَلَمِ » .
وفى هذا ما يؤذن النبىّ بمحتوى جديد من محتويات رسالته ، وهو الدعوة إلى القلم والقراءة والكتابة ، فذلك من النعم التي أنعم اللّه بها على عباده ، إذ سرعان ما أقبل العرب الأميون على القراءة والكتابة ، على أنها دعوة من دعوة الدين ، ولفتة من لفتات الشريعة ، فتعلّموا وعلموا ما لم يكونوا يعلمون.
(الآيات : (3 ـ 4 ـ 5) [سورة البقرة (2) : الآيات 3 الى 5]
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
__________________________________________________
(

(1/19)




1) الآيات الأولى من سورة العلق.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 27
التفسير : تلك هى صفات المتقين.
يؤمنون بالغيب .. والغيب ما خرج عن متناول الحواس ، وإدراك العقل.
والإيمان بما يجى ء من عالم الغيب ، لا معتبر له إلا إذا كان مستنده إلى جهة لا يتطرق الكذب إليها ، وإلا كان التصديق بما يخبر به العرافون والكهنة وغيرهم ممن يدّعون علم الغيب. إيمانا ، وهو ليس من الإيمان فى شى ء ، وإنما المراد بالإيمان هنا ما يخبر به رسل اللّه وأنبياؤه أقوامهم ، من أمر البعث ، والحساب ، والجنة ، والنار ، ونحو هذا ، مما هو من أنباء الغيب ، التي لا تقع لعلم الناس ، ولا تستجيب لمدركاتهم.
فأول صفة من صفات المتقين ، هى الإيمان بتلك الغيبيات ، على الصورة التي يخبر بها الرسل ، حيث تلقّوا الأخبار عن تلك الغيبيات ، وحيا من اللّه ، وهم الأمناء على ما أوحى إليهم من ربّهم.
فلا إيمان لمن لا يؤمن باللّه ، ولا إيمان باللّه لمن لا يؤمن برسل اللّه ، ولا إيمان برسل اللّه لمن لا يؤمن بما يحمل رسل اللّه من رسالات ، وما يبلغون من أوامر ونواه ، وما يلقون من أخبار.
وملاك التقوى هو الإيمان ، فلا تقوى لمن لا إيمان له ، فإذا جاء الإيمان على تلك الصورة ، كان داعية لأن يقيم الإنسان على طريق التقوى ، وأن يؤهّله لتلك الصفات التي وصف اللّه سبحانه بها المتقين : الذين يقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم اللّه ، ويؤمنون بما نزل على محمد ، إيمانا مفصلا ، وبما أنزل على الرسل من قبله ، إيمانا مجملا ، ثم ينتهى بهم ذلك الإيمان إلى الإيمان باليوم الآخر ، وما فيه من حساب ، وثواب ، وعقاب وجنة ونار .. وعندئذ يصبح المؤمن المستكمل لتلك الصفات مؤهلا لأن يحسب من المتقين ، ويدخل فى عدادهم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 28
الآيتان (6 ـ 7) [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7]

(1/20)




إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)
التفسير : الناس ثلاثة : مؤمنون ، وقد بدأت السورة بذكرهم. وكافرون ، وهم المذكورون فى هاتين الآيتين. ومنافقون مذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ، سيجيئ ذكرهم بعد هذا.
ويلاحظ أن القرآن ذكر هنا كلمة « المتقين » فى مقابل الكافرين ، ولم يقل « المؤمنين » ، وذلك أن من شأن الإيمان الصحيح أن يبلغ بصاحبه منازل المتقين.
والذين كفروا المذكورون فى هذه الآية ، ليسوا مطلق الكافرين ، بل هم كفار مكة ، الذين حادّوا اللّه ورسوله ، وأشربوا فى قلوبهم الكفر ، وعلم اللّه أنهم لن يستجيبوا للرسول ، كأبى جهل ، وعتبة بن ربيعة وغيرهما ممن مات على الكفر فى غزوة بدر وأحد ، من قتلى قريش .. فهؤلاء قد حكم اللّه عليهم هذا الحكم : « سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ .. لا يُؤْمِنُونَ .. » وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى سورة يس : « يس وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ. إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ. لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ. لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » فهؤلاء الذين حق عليهم القول بألا يؤمنوا هم الذين تعنيهم هذه الآية : « إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ » .
وإلا فلو كان المراد بالذين كفروا فى هذه الآية مطلق الكافرين ، لما كان
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 29

(1/21)




لدعوة الرسل حكمة ، ولما كان لعرض رسالاتهم على الناس معنى ، لأنهم إنما يبعثون إلى قوم كافرين ، فيستجيب لهم من يستجيب ، ويقيم على كفره من حقّ عليه القول منهم .. أما تيئيس الكافرين مطلقا ، والحكم عليهم بألا يؤمنوا أبدا ، فذلك بعيد عن حكمة اللّه فى ابتلاء الناس واختبارهم ، وإقامة الحجة عليهم ، بإرسال الرسل إليهم .. « لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ » (42 : الأنفال).
وقوله تعالى : « خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ، وَ عَلى سَمْعِهِمْ ، وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ ، وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » هو كشف لما اشتمل عليه كيان هؤلاء الكافرين الذين لا يتحولون عن كفرهم أبدا ، بما قام فى كيانهم من حواجز تعزلهم عن التجاوب مع دعوة الإيمان ، ولا تسمح لشعاعة من شعاعات الحق أن تخترق تلك الحواجز ، فقد « خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » .. والختم على الشي ء وضع خاتم عليه ، أشبه بالقفل المحكم ، بحيث لا ينفذ إليه شى ء .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى فى آية أخرى : « أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها » .
(24 : محمد) « وَ عَلى سَمْعِهِمْ » أي وختم على سمعهم ، فالواو هنا للعطف على قوله تعالى :
«خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ » والختم على السمع : الضرب عليه بحجاب ، فلا تنفذ منه دعوة الحق إلى موطن الإدراك من العقل ، فهم أشبه بالنائم المستغرق فى نومه ، حواسه كلها سليمة ، ولكنها معطلة لا تعمل فى تلك الحال .. كما يقول سبحانه وتعالى فى أصحاب الكهف : « فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً » .
(11 : الكهف).
«وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ » .. أي أن أبصارهم لا ترى الأشياء رؤية واضحة ، بل تبدو المرئيات لها مهزوزة غائمة ، تضطرب فى مجال الرؤية ، فلا يعرف الرائي حقيقة ما رأى.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 30

(1/22)




و هذه الصورة الحسية التي صورت بها حال أولئك الكافرين ، إنما هى تجسيم لطبائعهم النكدة ، وعقولهم المظلمة! وإلا فإن آذانهم مرهفة ، وأبصارهم حديدة ، ولكنهم لا يحصّلون بها خيرا ، ولا يهتدون بها إلى سبيل الرشاد والهدى.
ويثار هنا قول ، هو : ما لهؤلاء الكافرين إذ لم يهتدوا إلى الإيمان وقد عطل اللّه مداخل الإيمان إلى كيانهم؟.
وهذه مسألة كثر فيها الرأى ، واختلف عليها العلماء ، حتى صار المسلمون فيها فرقا ، من سنية ، ومعتزلة ، وشيعة ، وخوارج.
والرأى فى هذا أن يفوض الأمر كله للّه .. فالخلق خلقه ، والناس عبيده ، يقضى فيهم بحكمه كيف اقتضت إرادته .. كما فى قوله تعالى : « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ ، فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » (2 : التغابن) وكما يروى فى الحديث الشريف :
«

(1/23)




عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ سئل عن معنى قوله تعالى : « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ » (172 : الأعراف) فقال عمر : سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، سئل عنها فقال : « إن اللّه عز وجل لمّا خلق آدم مسح على ظهره بيمينه فاستخرج منه ذريته ، فقال : خلقت هؤلاء للجنة ، وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح على ظهره بشماله ، فاستخرج منه ذريته ، فقال : هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون ، فقام رجل فقال : يا رسول اللّه : ففيم العمل؟ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : « إن اللّه عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل أهل الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت وهو على عمل أهل النار فيدخله به النار » .. هكذا قضى اللّه فى عباده ، فريق فى الجنة ، وفريق فى السعير .. ومن حكمة اللّه ولطفه بعباده أنه لم ينكشف
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 31
الأمر لأىّ من الفريقين ، فلا أحد من أصحاب الجنة يعلم أنه من أصحاب الجنة ، ولا أحد من أهل النار يعرف أنه من أهل النار ، بل الجميع مدعوّون من عند اللّه إلى أن يعملوا على مرضاته ، ليفوزوا بالجنة .. وهنا يبدو مجال العمل للجنة فسيحا يسع الناس جميعا ، فيسعى كلّ سعيه ، فمن كان من أهل الجنة عمل عمل أهل الجنة حتى يبلغها ، ومن كان من أهل النار عمل عمل أهل النار حتى يدخلها « و كلّ ميسّر لما خلق له » .!!
الآيات : (8 ـ 9 ـ 10) [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 10]

(1/24)




وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10)
التفسير : هؤلاء هم الصنف الثالث من الناس ، وهم المنافقون ، الذين ليسوا بالمؤمنين ولا بالكافرين.
والنفاق شر من الكفر الصّراح ، لأن الكافر على بينة من أمره مع نفسه ، وعلى حال يعرف الناس منها وجهه .. وليس الكافر بالميئوس منه أن يتحول فى أية لحظة من الكفر إلى الإيمان ..
أما المنافق فأمره مختلط ، وشأنه مضطرب ، يدور حول نفسه التي تحمل الكفر والإيمان معا ، فلا هو فى الكافرين ، ولا فى المؤمنين ..
ولهذا توعد اللّه سبحانه المنافقين بما لم يتوعد به الكافرين ، من عذاب ونكال ، حيث يقول سبحانه : « إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً » (145 : النساء).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 32
و قد توعد اللّه سبحانه المنافقين هنا بالعذاب الأليم ، فقال :
«وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ » على حين توعد الكافرين فى الآية قبلها بالعذاب العظيم ، فقال سبحانه : « وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ » والأليم أشد هولا ونكالا من العظيم ، فقد يكون العظيم عظيما فى شخصه وهيئته ، وليس عظيما فى أفاعيله وسطوته .. أما الأليم فهو البالغ الغابة فى الإيلام ، ولو ضؤل شخصه! « فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ » .
آفة الكافرين فى كفرهم موزعة بين أجهزة ثلاثة فى كيانهم ، هى القلب ، والسمع ، والبصر .. فقلوبهم مغلقة عن الخير ، وأسماعهم نابية عن الحق ، وأبصارهم كليلة عن الهدى ..

(1/25)




أما المنافقون فإن آفة نفاقهم فى القلوب وحدها ، حيث قد سمعوا الحق ووعوه ، وأبصروا الهدى واستيقنوه ، ولكن حين ينفذ هذا كله إلى موطن الإيمان من قلوبهم ، يصادف قلوبا مريضة ، لا تقبل الحق والخير ، وإن قبلتهما فإنها سرعان ما تلفظهما ، كما يلفظ المحموم طيب الطعام.
«فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً » يمكن أن تكون الفاء هنا للسببية ، ويكون المعنى أن ما أرسل اللّه من هدى على يد النبىّ قد استقبلوه بتلك القلوب المريضة فهيج علّتها ، وأيقظ نائم دائها.
كما يمكن أن تكون « الفاء » للتفريغ ، وتكون الجملة بعدها دعائية ، والمعنى أن هؤلاء المنافقين ـ بما استبطنوا من نفاق لا يرجى شفاؤه ـ استحقوا أن يدعى عليهم بما يزيد مرض قلوبهم مرضا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 33
آية : (11) [سورة البقرة (2) : آية 11]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)
التفسير : هكذا ينافق المنافق حتى مع نفسه ، فيرى أنه على طريق الحق ، على حين أنه غارق فى الضلال .. واللّه سبحانه وتعالى يقول : « أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً » . (8 : فاطر) فلقد غلبت عليهم شقوتهم ، ونظروا إلى أنفسهم فى مرايا النفاق ، فرأوا أنهم أحسن الناس حالا ، وأكملهم كمالا!!
(آية 12) [سورة البقرة (2) : آية 12]
أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)
. التفسير : إنهم هم المنافقون! لقد فضح اللّه باطنهم الخبيث ، وما انطوى عليه من سوء ، فدمغهم بهذا الحكم القاطع المؤكد أوثق التوكيد « بجملة أدوات » : ألا (الاستفتاحية) وإنّ (المؤكدة) وهم (ضمير الفصل) وال (المعرّفة للخبر بما يدل على قصر الفساد عليهم وحدهم).
آية (13) [سورة البقرة (2) : آية 13]

(1/26)




وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13)
.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 34
التفسير : فى إسناد مقول القول « آمنوا » إلى المبنى للمجهول ، ما يشعر بأن ضلالهم ـ قد أصبح من الانكشاف والوضوح بحيث أنطق كل موجود فى محيطهم ، بدعوتهم إلى الاستقامة ، والانتظام فى موكب « الناس » ، الذين صانوا إنسانيتهم عن هذا الانحراف السفيه ، الذي يعيش فيه المنافقون.
ولهذا جاء قول اللّه تعالى : « كَما آمَنَ النَّاسُ » ولم يجى ء : « كما آمن المؤمنون » وفيه ما يدل على أن الإيمان أقرب شى ء إلى الفطرة التي فطر الناس عليها ، وأن من شأن الناس أن يستجيبوا لدعوة الإيمان ، وأن من استجاب للرسول ـ صلوات اللّه وسلامه عليه ـ هم الناس ، ولا اعتبار لغيرهم.
وجاءت فاصلة الآية هنا : « لا يعلمون » على حين أنها جاءت فى الآية السابقة عليها : « لا يشعرون » وذلك لاختلاف المقام هنا وهناك.
«هُمُ الْمُفْسِدُونَ .. وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ » « هُمُ السُّفَهاءُ .. وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ » الإفساد فى الأرض ـ مع أنه مما يجابه الحواس ، ويقع فى محيط إحساسها ـ لا يشعر به أولئك المنافقون ، لكثرة ما ألحقوا على هذه الحواس من خداع وتضليل ، ولكثرة ما تعالوا معها بالتعمية والتمويه : « أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ » .
والسّفه ـ مع أنه انحراف حاد عن طريق الحق والخير ـ لا يقع فى علم هؤلاء السفهاء ، ولا يرون فيه ما يرى الراشدون من الناس من حماقة ومنقصة! :
«أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 35
الآيات (14 ـ 15 ـ 16) [سورة البقرة (2) : الآيات 14 الى 16]

(1/27)




وَ إِذا لَقُوا الَّذِين َ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)
. التفسير : هذه حال المنافقين دائما .. يلقون الناس بوجهين ، وجه يظهر الحب والمودة ، ووجه يضمر السوء والشر .. إنهم مع أهوائهم الضالة ، ونفوسهم المريضة ، فحيث كان لهذه الأهواء منتجع ، وكان لتلك النفوس مستراح ـ فهم هناك .. يتقلبون مع كل ريح ، ويطعمون من كل مائدة! و«شياطينهم » هم رءوس النفاق فيهم ، وأصحاب الأمر والتدبير عندهم.
وفى قوله تعالى : « وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ » بعد قوله سبحانه « فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ » توكيد لخسرانهم وضلالهم ، إذ قد لا يربح التاجر فى تجارته ، ولكن ذلك لا ينقص من ميزانه الخلقي مثقال ذرة ، إذ قد يكون عدم ربحه ، أو خسارته ، لأسباب لا يدله فيها. ولكن هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى إنما هم مغبونون فى تلك الصفقة التي عقدوها ، ولو جرّت عليهم كثيرا من حطام الدنيا ، لأنهم خسروا أنفسهم ، وذلك هو الخسران المبين ، فهو خسران محقق ، وغبن فاحش ، يملأ النفس حسرة وندما. عند من وعى وعقل!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 36
الآيتان : (17 ـ 18) [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 18]
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)
.

(1/28)




التفسير : أكثر المفسرين على أن الكاف فى « كمثلهم » زائدة ، باعتبار أن كلمة « مثل » أداة للتشبيه ، والكاف أداة للتشبيه ، ولا تجتمع الأداتان على مشبّه به واحد ، وعلى هذا تكون الصورة هكذا : « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً » أو « مثلهم كالذى استوقد نارا » .
وبلاغة القرآن أعظم وأسمى من أن تخضع لمقاييس النحو وتخريج النحاة! فليس فى كلمات اللّه ما يحتاج إلى علل النحاة ، وو مما حكاتهم ، ليستقيم على علمهم ، ولينضبط مع قواعدهم ـ وحسب القرآن أن يقول قولا ، أو ينهج أسلوبا ، فيكون قوله الحق ، وأسلوبه الفصل ، ولا عليه أن تضطرب قواعد النحو ، وتتبلبل عقول النحاة! والأمر هنا ـ فيما يتعلق بالكاف فى « كمثل » ـ يجرى على أسلوب القرآن كله ، فى إعجازه ، واستيلائه على أعنّة البلاغة وأزمّتها.
فقوله تعالى : « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً » هو تشبيه حال بحال ، وشأن بشأن .. بمعنى أن شأن هؤلاء المنافقين وحالهم ، كشأن أو حال من استوقد نارا.
فهؤلاء المنافقون مثل ، وذاك الذي استوقد نارا مثل .. وبين المثلين تشابه وتطابق ، فصح أن يكون كل منهما طرفا فى تشبيه واحد ، وكاف التشبيه أداته .. فكأنه قيل : هذا المثل كهذا المثل! وننظر فيما بين المثلين من وجه شبه ، فنرى :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 37
فى المشبه ، وهم المنافقون .. كانوا فى زمرة الكافرين ، ثم إنهم أعلنوا إيمانهم ، واتخذوا هذا الإيمان جنّة يتقون بها يد المؤمنين ، إذا هى علت على الكافرين ، وأنزلتهم على حكمهم ، وذريعة يتوصلون بها إلى ما قد يفى ء اللّه على المؤمنين من خير! .. فكان أن فضح اللّه نفاقهم ، وجاءت آياته تنزع عنهم هذا الثوب الذي ستروا به هذا النفاق ، فأصبحوا عراة لا يستطيعون أن يظهروا فى الناس ، إلا كما تظهر الحيات برءوسها من وراء أجحارها! وفى المشبه به ، وهو هذا الذي استوقد نارا ..

(1/29)




هذا الإنسان ، كان فى ظلمة الليل ، وفى لفح زمهريره القارس ، فاستوقد نارا ، كى يجد فيها الدف ء والنور! ثم جاء هؤلاء المنافقون فيمن جاء إلى هذا الضوء ، ليجدوا عنده الأمن ، والدف ء ..
ولكنّ هؤلاء المنافقين ، وإن اختلطوا بالمجتمعين على هذا الضوء ، وحسبوا ـ فى ظاهر الأمر ـ على ما عليه القوم ، فإن اللّه سبحانه حجز عنهم النور ، وأخذ على أبصارهم ، فلم يروا ما حولهم ، ولم يعرفوا وجه الطريق الذي يسلكون ، فركبتهم الحيرة ، وقيدهم العمى والضلال ..!
و نقرأ الآية الكريمة : « مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ، فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ ، وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ » ، فنجد لمحة من لمحات الإعجاز القرآنى ، فى هذا التخالف بين أجزاء الصورة فى المشبه به ، حيث كان الظاهر أن يقال : « ذهب اللّه بنوره وترك فى ظلمات لا يبصر » .
ولكن هذا يفسد المعنى ، حيث يقضى بهذا الحكم على موقد النار ، فيذهب بنوره الذي رفعه لهداية الناس ، وحيث يقع هذا الحكم على غير المنافقين ، من طالبى الهدى عنده.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 38
و الصورة التي رسمتها الآية الكريمة ـ على ما جاءت عليه ـ تأخذ المنافقين وحدهم بجرمهم ، فتحرمهم الإفادة من هذا النور الذي يملأ الوجود من حولهم .. ثم لا تحرم المهتدين ما أفادوا من هدى.
ولقد جاء القرآن بمثل آخر لهؤلاء المنافقين فى الآيتين التاليتين :
الآيتان (19 ـ 20) [سورة البقرة (2) : الآيات 19 الى 20]

(1/30)




أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)
التفسير : الصيّب هو المطر. وقد شبّه به هدى السماء ، الذي تلقاه الرسول من ربّه ، ليحيى به موات القلوب ، كما يحيى المطر جديب الأرض.
وفى القرآن وعد ووعيد ، وتكاليف وأعباء ، كالعبادات ، والجهاد فى سبيل اللّه ، ومجاهدة النفس فى اجتناب المحرمات .. ثم هو مع هذا رحمة وشفاء! وفى الغيث الذي ينزل من السماء ظلمات من السحب المتراكمة ، ورعد وبرق .. ثم هو مع هذا نعمة وحياة! كذلك كانت آيات القرآن حين تتنزل ، تنخلع لها قلوب المنافقين ، وتنفطر منها أفئدتهم ، لما يتوقعون فيها من صواعق تدمدم عليهم ، وتفضح
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 39

(1/31)




مكنون صدورهم ، بما يبيتون ما لا يرضى من القول ، وما لا يحمد من العمل .. فإذا تلقى الرسول وحيا من ربّه ، وأعلنه فى أصحابه ، اصطكت به أسماع المنافقين ، ووجفت قلوبهم هلعا وفزعا! هذا هو حظهم من كتاب اللّه ، وذلك مبلغ ما ينالهم من هذا الخير العظيم .. اضطراب ، وذعر ، وهمّ مقيم .. حذر الخزي والفضيحة! وذلك شأنهم تماما مع الغيث .. الناس ، والحيوان ، والنبات ، وحتى الجماد .. يحيون بهذا الغيث ، ويترقبون فى شوق ولهف مواقيت نزوله ، دون أن يتأدّى إليهم خوف أو قلق ، مما يصحبه من ظلام ورعود! لأنهم يعلمون ما وراء هذه الرعود والبروق من رى وحياة!! أما المنافقون ، فشأنهم مع هذا الغيث كشأنهم مع كل خير .. يلتوون به ، ويستقبلونه بنفوسهم المريضة ، فلا يصيبهم منه إلا الشرّ ، الذي يكمن فى كل خير تستقبله النفوس المريضة ، وفى كل نعمة تقع فى يد السفهاء من الناس!.
الرعود والصواعق ، هى التي يستقبلها أولئك المنافقون من كل ما تحمل هذه الظاهرة الطبيعية ، من خير ورحمة!.
وفى قوله تعالى : « وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ » إشارة إلى دورة من دورات المنافقين ، حيث انتهى بهم ترددهم بين الإيمان والكفر ، إلى الكفر الغليظ .. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ، ثُمَّ كَفَرُوا ، ثُمَّ آمَنُوا ، ثُمَّ كَفَرُوا ، ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً ، لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا » (137 : النساء). فالمنافقون هم كفار ، وأكثر من كفار .. كفار ومنافقون معا!.
وفريق آخر من المنافقين ما يزال أمرهم مرددا بين النفاق والكفر ـ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 40

(1/32)




هؤلاء وإن ذهب اللّه بالنور الذي دخل عليهم من القرآن ، حين خادعوا اللّه ورسوله ـ فإنهم لا يزالون على صلة بالإسلام والمسلمين ، لم يتحولوا إلى الكفر تحولا صريحا ، ولهذا فإن لمعات من ضوء الإسلام تطلع عليهم بين الحين والحين فتمسك بهم على طريق الإسلام وفى جماعة المسلمين ، ثم تهجم عليهم ضلالاتهم ، فتعمّى عليهم السبل ، وتتقطع بينهم وبين الإسلام المسالك ، فإذاهم فى حيرة واضطراب .. وهكذا تترد أحوالهم بين الإيمان والكفر ، إلى أن يموتوا على هذا النفاق .. « يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ ، وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا » .
الآيتان : (21 ـ 22) [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 22]
يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
التفسير : دعوة عامة شاملة إلى الناس ، من ربّ الناس ، بعد أن عرضهم هذا العرض الكاشف ، من مؤمنين ، وكافرين ، منافقين .. فالطريق إلى اللّه مفتوح للناس جميعا ، يسع برّهم وفاجرهم ، مؤمنهم وكافرهم ، وبين يدي كل إنسان شواهد قائمة ، وأعلام منصوبة على الطريق ، تدعوه إلى اللّه ، وإلى الإقرار بوحدانيته ، إذا هو نظر فى هذا الوجود ، نظرة بعيدة عن الهوى ، خالصة من الضلال والزيغ.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 41
آية (23) [سورة البقرة (2) : آية 23]
وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23)

(1/33)




التفسير : وهذا الكتاب الذي نزل على محمد ، هو آية من آيات اللّه ، وعلم من أعلامه الدالة عليه ، وعلى قدرته ووحدانيته .. فمن قصرت بصيرته عن تناول الآيات الكونية ، وعن فهم ما تحدّث به عن اللّه ، وعن قدرته ووحدانيته ، فهذا هو كتاب اللّه ، ترجمان هذه الآيات ، بلسان عربى مبين ، يفهم عنه كل عربى ما يقول .. فليستمع إليه ، وليأخذ بما يقول ، وليؤمن به .. لأنه لا يقول إلا صدقا ، ولا ينطق إلا حقّا وعدلا ، إذ هو كلام ربّ العالمين .. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وليس الكشف عن صدق هذا الكتاب ، وعن علوّ متنزله ، بالأمر الذي يعجز عنه العربي ، إذ هو ناطق بلسانه متحدث باللغة التي يعرف دقائق أسرارها ، وروائع أساليبها .. وما عليه إلا أن يستمع إلى آيات من هذا الكتاب ، ثم إلى ما يتخير من فنون الكلام عند قومه : من شعر ، وخطابة ، وأمثال ، وسجع كهان .. ثم يزن كلا القولين ، بأى ميزان من موازين القول عنده .. وفى غير عناء سيبدو له أنه يقابل الدر بالحصى ، ويفاضل بين الجواهر والأصداف ، وأن كلام اللّه هو كلام اللّه ، وأن كلام الناس هو كلام الناس! فإن شكّ شاك فى هذا فليضع الأمر موضع الامتحان العملي .. فهذه كلمات اللّه ، فى جلالها ، وسموها ، تقف فى الميدان ، متحدية أرباب الفصاحة والبيان ، بكل صور التحدي : أن يأتوا بسورة من مثل هذا القرآن ، وأن يجمعوا إليهم كل
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 42
ما استطاعوا جمعه من قوى مادية ومعنوية ، بشرية أو غير بشرية .. وهيهات أن يبلغوا من ذلك إلا العجز ، والاستخزاء.
آية : (24) [سورة البقرة (2) : آية 24]
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

(1/34)




التفسير : فإذا كشفت هذه التجربة عن العجز الفاضح ، وظهر منها أن هذا الكلام هو كلام اللّه ، وأن هذا الرسول هو رسول اللّه ، لم يكن بد من تصديقه ، وتصديق ما جاء به ، من الإيمان باللّه ، وملائكته ، وكتبه ورسله ، واليوم الآخر ، والامتثال لما يأمر به ، وينهى عنه ، وإلا فهو العناد الآثم ، والكبر الوقاح ، المفضى بصاحبه إلى هذا المصير المشئوم : « النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ » .
آية : (25) [سورة البقرة (2) : آية 25]
وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)
التفسير : وهذه الصورة الكريمة التي تعرضها الآية للمؤمنين ، وما يلقون من كرامة ونعيم ، فى مواجهه الصورة الكئيبة التي تعرض فيها الآيات السابقة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 43
جهنم وما يلقى الكافرون من أهوالها ـ هى دعوة أخرى إلى الإيمان باللّه ، وإغراء بهذا النعيم ، وتحذير من جهنم ، وما يلقى أهلها من عذاب ونكال.

(1/35)




و فى قوله تعالى : « كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً » تبيان لطيب ثمر الجنة ، وأنه على درجة واحدة من طيب الطعم وحسن المنظر ، وأنه فى اختلاف أصنافه وألوانه ، هو واحد فيما يجد الطاعم له من لذة ومتعة ونعيم! وهذا شأن آيات اللّه فى كمالها ، وجلالها ، وتشابهها فى الكمال والجلال وبهذا وصف اللّه ـ سبحانه ـ القرآن الكريم بقوله : « اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً » . ولعل سائلا يسأل : ألا تملّ النفس هذا المستوي الواحد من الطعوم التي تكاد تكون لونا واحدا من ألوان الطعام؟ أفلا كان من تمام النعيم أن تتجدد طعومه ، وتختلف مذاقاته ، فيكون نعيما فوق نعيم ، تتضاعف به اللذة ، وتتجدد فيه الرغبة؟
و نقول : إن نعيم الجنة لا يقاس بنعيم الدنيا ، وأحوال أهل الجنة لا تقابل بأحوال أهل الدنيا ، فهم إنما ينعمون نعيما كاملا لا نقص فيه ، ولا يقبل مزيدا عليه .. نعيما متصلا لا ينقطع أبدا .. فكل ما ينالون من ثمار الجنة يحقق لهم هذا النعيم الذي ليس فوقه نعيم ، دون سأم أو ملل ، لأن النفس إنما تسأم الشي ء الذي يلحّ عليها ، بعد أن تتشبع به ، وتستوفى حظها منه ، فتزهد فيه ، لأنه إن أرضاها فى حال ، فلن يرضيها فى جميع الأحوال .. وليس كذلك نعيم الجنة ، الذي يرضى أهله إرضاء كاملا متصلا.
هذا ، مع أن نجعل فى تقديرنا ، تلك الفروق الشاسعة بين أحوال الآخرة وأحوال الدنيا ، وبين إنسان الجنة الخالد ، وإنسان الدنيا الزائل.
هذا ، وللآية الكريمة وجه آخر يمكن أن تفهم عليه ، وهو أن ما يتلقاه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 44

(1/36)




أهل الجنة من ثمارها ليس هو كل طعام أهل الجنة ، فهنالك ألوان من النعيم لا عدد لها ولا حصر ، والثمار لون واحد من ألوان النعيم ، وهى وإن جاءت إليهم متشابهة فى صورها ، حتى ليحسب اللاحق منها أنه من صنف السابق ـ فإنها عند الطعم والمذاق تكشف عن أنها من جنس غير جنس ما سبقها ، وفى هذا ما فيه من لذة المفاجأة ، وإثارة الواقع غير المتوقع!
الآيات : (26 ـ 27 ـ 28) [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27]
إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)
التفسير : الكائنات كلها ـ صغيرها وكبيرها ـ صنعة اللّه ، خلقها بحكمته ، وأبدعها بقدرته .. فهى فى معرض ملكه سواء فى الإعلان عن تلك الحكمة وهذه القدرة ، ففى كل ذرة من ذرات هذا الكون العظيم آية تحدّث عن جلال اللّه وعظمته! فللّه ـ سبحانه ـ أن يضرب المثل بأيّ من مخلوقاته ، وأن يقيم منه شاهدا لما يريد .. فأما الذين آمنوا ، فيجدون فى هذا المثل هدى إلى هدى ، ونورا إلى نور ، وأما الذين كفروا فلا تزيدهم الأمثال الكاشفة إلا ضلالا إلى ضلال ، وإلا عمى إلى عمى.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 45
و فى قوله تعالى : « وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » نظرتان :

(1/37)




النظرة الأولى : إلى العدول عن الكافرين ، والتعبير عنهم بالفاسقين ، إذ سياق الكلام يقضى بأن يكون الإضلال للكافرين الذين وقفوا من المثل هذا الموقف اللئيم ، فقالوا فى استهزاء واستنكار : « ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ » فكان المتوقع أن يكون الجواب هكذا : « يضلّ به كثيرا ، ويهدى به كثيرا وما يضلّ به إلّا الكافرين » .. ولكن لكلام اللّه حساب غير هذا الحساب ، وتقدير فوق هذا التقدير ، فجاءت فاصلة الآية هكذا : « وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » .
والفسق معناه فى اللغة : الخروج ، يقال : فسق ، وفسق أي خرج عن طريق الهدى والصلاح ، وانفسق الرّطب عن قشره : أي خرج.
والكافر فاسق ، لأنه خرج عن طريق الهدى والإيمان ، وركب طريق الضّلال والكفر ، خرج عن فطرته التي فطره اللّه عليها ، ونقض الميثاق الذي واثقه اللّه عليه ، فى قوله سبحانه : « وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا » (172 الأعراف) والنظر الثانية : إلى قوله تعالى : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً .. الآية » فهى جواب عن سؤال أولئك الذين فى قلوبهم مرض ، الذين استخفّوا بالأمثال التي يضربها اللّه ، ويتخذ مادتها من مخلوقات ضئيلة من خلقه .. فيقولون فى عجب واستنكار : ماذا أراد اللّه بهذا مثلا؟ فكان جواب الحق جلّ وعلا : « يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً ، وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً ، وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ » ! والنظرة هنا إلى نسبة الإضلال إلى اللّه سبحانه وتعالى ، بضرب
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 46
مثل هذا المثل .. فكيف يفتح اللّه لعباده بابا إلى الضلال ، ويسوقهم إليه.
ثم يحاسبهم عن هذا الضلال ، ويأخذهم بالعذاب الأليم؟.
والجواب على هذا ، قد كثر حوله الخلاف ، وتعددت فيه المذاهب ..

(1/38)




هل الإنسان حرّ مختار فيما يأتى من خير وشر ، فيكون حسابه جزاءا وفاقا لما عمل بحريته واختياره ، أم هو مجبر مضطر ، مسوق إلى قدره المقدور ، فيكون عمله غير محسوب عليه ، ويكون حسابه على ما عمل ، ظلم له ، وعدوان عليه؟ أم أن الإنسان مزيج من الجبر والاختيار ، له إرادة ، وله قدرة على فعل ما يريد ، ولكنّ إرادته وقدرته مرتبطتان بإرادة فوق إرادته وبقدرة فوق قدرته؟ فهو يريد ، ولكن وفق ما تريد تلك الإرادة العليا ، ويفعل ، ولكن داخل فعل تلك القدرة المهيمنة على قدرته .. فالإنسان فى هذا التصور أشبه بترس فى آلة (مكانيكية) .. يتحرك بحركة تلك الآلة ، ويسكن بسكونها.
فهو متحرك ، وغير متحرك معا!.
والرأى ـ عندنا ـ أن الإنسان صنعة اللّه ، وللّه سبحانه أن يضعه حيث يشاء ، ليأخذ مكانه واتجاهه فى هذا الوجود. ومع هذا فإن الإنسان ـ بما أودع اللّه فيه من عقل ـ مطالب بأن يستعمل هذا العقل وما فيه من قوى ، فى وزن الأمور وتقديرها .. فيتقدم أو يتأخر ، ويقدم أو يحجم ويؤمن أو يكفر ، ويهتدى أو يضل .. وهو فى كل هذا سائر فى الطريق المرسوم له ، والذي هو مستور فى الغيب عنه ، إلى أن يستوى عليه ، وذلك هو قدره المقدور ، يرى وكأنه من صنعة يده ، وهو فى الحقيقة صنعة يد فوق يده .. يد القدرة القادرة الباهرة : « بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً » (31 : الرعد)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 47
«كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ » (31 : المدثر) .. « هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ » (2 : التغابن) « 1 » .
آية (29) [سورة البقرة (2) : آية 28]
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
.

(1/39)




التفسير : وهذه مواجهة فاضحة مخزية ، لأولئك الذين لجّ بهم العناد والضلال ، فاستحبّوا العمى على الهدى ، وجعلوا للّه أندادا ، يعبدونهم من دونه .. وهذا أمر لا يقيم عليه إلا سفيه ، ولا يرضى به إلا سقيم القلب ، أعمى البصر والبصيرة.
فاللّه وحده هو الذي خلق الإنسان من الموات ، ثم سوّاه بشرا سويا ، ثم يردّه إلى الموات ، ثم يعيده مرة أخرى إلى الحياة .. للحساب والجزاء ..
فكيف يكون لإنسان أن يتنكر لخالقه ، ويعدل وجهه عنه إلى عبادة المخلوقين .. من جماد وغير جماد؟ ذلك ضلال بعيد ، وخسران مبين!
آية (30) [سورة البقرة (2) : آية 29]
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)
.__________________________________________________
(1) انظر فى هذا كتابنا « القضاء والقدر » ففيه دراسة مستفيضة لهذه القضية.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 48
التفسير : ومن ألطاف الخالق العظيم ورحمته بالناس ، أن أقام الإنسان على هذه الأرض ، ومكّن له من أسباب الحياة فيها ، والسيادة ، عليها فجعل يده مبسوطة على كل شى ء شى ء فيها ، بما وهبه اللّه من قوة عاقلة ، انفرد بها من بين ما على الأرض من مخلوقات .. وذلك من شأنه ألّا يجعل سبيلا لعاقل أن يعطى ولاءه لغير اللّه رب العالمين.
وقد يفهم من قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ » بعد قوله سبحانه : « هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً » ـ قد يفهم من هذا أن خلق السموات ، جاء تاليا لخلق الأرض.

(1/40)




و لكن ، مع قليل من النظر ، يتضح أن ذلك كان بعد خلق السموات والأرض .. فالأرض كانت مخلوقة ، ثم خلق اللّه بعد ذلك ، ما فيها من مخلوقات .. وكذلك السماء ، كانت قائمة ، فجعلها اللّه سبحانه سبع سموات. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة ، فى قوله تعالى : « ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ » (11 : فصلت).
وهذا لا يصادم ما يقول به العلم الحديث ، من أن الأرض وليدة انفجار فى الشمس ، تسبب عنه انفصال أجرام منها ، وكانت الأرض واحدة من تلك الأجرام! فعوالم السماء مخلوقة قبل الأرض ، والأرض مولود من مواليدها! وأمر آخر نحب أن نشير إليه هنا ، وهو أن ما جاء فى القرآن الكريم عن خلق السموات والأرض وما بينهما فى ستة أيام ، لا مدخل له فى تكييف قدرة اللّه سبحانه وتعالى ، وأن ذلك الخلق قد احتاج إلى عمل هذه القدرة ستة أيام ، فذلك تحديد لقدرة اللّه ، التي لا يحدّها شى ء ، ولا يعلق بها قيد من قيود الزمان والمكان « إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ » (82 : يس).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 49
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 49
و أما الأيام الستة التي ذكرها القرآن الكريم فى أكثر من موضع زمنا لخلق السموات والأرض ، فهى الوعاء الزمنى الذي استكملت فيه السموات والأرض تمام خلقهما ، شأنهما فى ذلك شأن كل مخلوق .. من حيوان أو نبات أو جماد .. الإنسان « حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً » وبعض الحيوانات يتخلق فى ساعة أو ما دون الساعة ، وبعضها يتخلق فى عام أو أكثر من عام ، والحبة تكون نبتة فى كذا ، وشجرة فى كذا من الزمن ، وهكذا ..

(1/41)




فقوله تعالى : « خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ » يشير إلى أن الوعاء الزمنى الذي تم فيه خلق السموات والأرض هو ستة أيام ، فقد تخلّفا فى هذه الأيام الستة كما تتخلق الكائنات ، وتستكمل وجودها ، فى زمن مقدور لها ، تعيش فيه ، متنقلة من طور إلى طور ، ومن حال إلى حال ، حتى تأخذ الوضع الذي تبلغ به تمامها.
آية (30) [سورة البقرة (2) : آية 30]
وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)
التفسير : حين أصبحت الأرض صالحة لاستقبال الكائن البشرى ، أعلن اللّه تعالى فى الملأ الأعلى هذا الخبر ، وآذن الملائكة بأن كائنا بشريا سوف يظهر فى الكوكب الأرضى ، وسيتولى قيادة هذا الكوكب ، ويكون خليفة اللّه فيه! والآية صريحة فى أن هذا الكائن البشرى أرضىّ المولد ، والنشأة ، والموطن ، وأنه من طينة الأرض نشأ ، وفى الأرض يتقلب ، وفى شئونها
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 50
يتصرف .. « إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً » .. هكذا من أول الأمر ..
فلم يكن آدم ابن السماء فلما عصى ربه طرد منها ليكون خليفة اللّه على الأرض ولو كان ذلك كذلك لما كان للملائكة أن ينفسوا على آدم هذه الخلافة ، التي تبدو فى هذا التصور عقوبة وتجريما ، أكثر منها حباء وتكريما.

(1/42)




و لكن آدم ـ وهو ابن الماء والطين ـ لا يتوقع منه إلا أن ينضح بما فى الماء والطين ، وبما يتخلّق من الماء والطين ، من طبائع بهيمية ، تغرى بالعدوان والفساد .. وهذا ما جعل الملائكة يقولون هذا القول بين يدى اللّه ، فى آدم وما يتوقع منه ، فما هو إلا إنسان فى مسلاخ حيوان ذى مخالب وأنياب! وذلك قبل أن يكشف اللّه لهم عن ملكات أخرى لهذا الكائن الترابي ، لا يملكها الملائكة ، فى عالمهم العلوي ، عالم النور والصفاء! وتلك آيات بينات ، تشهد لقدرة الخالق العظيم.
الآيات (31 ـ 33) [سورة البقرة (2) : الآيات 31 الى 33]
وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
التفسير : وهذا الامتحان الذي يعقد فى الملأ الأعلى ، يكشف عن الاستعداد الفطري لتفوق آدم على الملائكة فى العلم الذاتي ، الذي يكتسبه بالنظر والملاحظة والتجربة ، وبالمعاناة والمجاهدة ، الأمر الذي ليس من طبيعة الملائكة أن تعالجه وتعانيه.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 51

(1/43)




ففى آدم ـ بما أودع اللّه فيه من قوى ـ قدرة على الترقي والاستزادة من المعارف ، بتوجيه ملكاته إلى النظر فى هذا الوجود ، وملاحظة الأسباب والمسببات ، وربط العلل بالمعلولات ، وبهذا يتنقل الإنسان من طور الطفولة إلى الصّبا والشباب والاكتهال والشيخوخة ، وفى كل طور يحمل معارف جديدة إلى الطور الذي يليه ، تعينه على اكتساب معارف أخرى ، ينتقل بها إلى طور آخر ، وهكذا .. ثم هذا التطور الخلّاق الذي يقع فى حياة الإنسان الواحد ، يقع فى الجنس البشرى كله ، حيث يتلقى كل جيل من الجيل الذي قبله جميع معارفه ، وتجاربه ، ويضيف إليها معارف جديدة وتجارب جديدة ، يتركها ميراثا للجيل الذي بعده .. وهكذا.
أما الملائكة .. فهم على حال واحدة ، لا يطرأ عليها تحول ولا تبدل ..
فليس لهم طفولة وصبا وشباب وشيخوخة ، كما أنه ليس لهم مع الزمن زيادة فى علم أو معرفة عن طريق الكسب الذاتي ، وإنما يجى ء علمهم ومعرفتهم بما يتلقونه من اللّه تلقيا مباشرا : « لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا » .. وبهذا اختلف الناس ، فكان كلّ إنسان عالما وحده ، له وجوده الذاتي ، وله تفكيره ، وإرادته ، ومنزعه .. فكان فيهم المؤمن والكافر ، والمهتدى والضال ، والعالم والجاهل ..
أما الملائكة فهم نمط واحد ، من الصفاء ، والبهاء ، والطاعة المطلقة ، المستسلمة ، التي لا تنزع عن إرادة ، ولا ترجع إلى نظر وتقدير.
«لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ ، وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ » !.
وعلى هذا ، فالملائكة ـ وإن شرفوا قدرا ، وعلوا منزلة ـ ليسوا أهلا للخلافة على هذا الكوكب الأرضى .. لأن منصب الخليفة يقتضى استقلالا فى تصريف الشئون فيما هو خليفة فيه ، ومتسلط عليه ، كما يقتضى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 52
تفكيرا وتقديرا للأمور ، ثم إرادة تمضى ما انعقد عليه الرأى. شأنه فى هذا شأن الوكيل ، الذي يتولّى عن الأصيل التصرف فيما وكّل فيه ، دون الرجوع إلى موكّله.

(1/44)




و الإنسان ، بما له من عقل ، وإرادة ، هو المستأهل لهذه الخلافة على الأرض ، يتولاها عن اللّه ، ويتولّى ضبط أمورها وسياسة شئونها.
«وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها » .
اختلف فى هذه الأسماء التي علمها اللّه سبحانه آدم ـ أعنى الإنسان ـ والرأى فى هذا ، أن اللّه سبحانه أودع فى الإنسان القدرة على البحث والنظر فى الكشف عن خصائص الأشياء ، وعللها ، وأسبابها ، والوقوف على أسرارها المودعة فيها ، وحلّها وتركيبها .. وبهذه القدرة عرف حقائق كثير من الأشياء ، وهو جادّ أبدا فى الكشف عن المزيد منها ، يوما بعد يوم ، وجيلا بعد جيل ، وعصرا إثر عصر! وكلما عرف حقيقة وضع لها اسما تعرف به.
فالمراد بالأسماء هنا هو مسميات تلك الأسماء ، والمراد بالمسميات ، خصائص هذه المسميات ، وحقائقها.
والأسماء كلها ، لا يراد بها أسماء جميع الموجودات فى هذا الوجود ، إذ أن آدم لا يمكن أن يحيط علمه بكل موجود ، ظاهر أو خفى ، قريب أو بعيد ..
وإنما المراد ـ واللّه أعلم ـ المسميات التي تكشفت حقائقها لآدم وذريته ، واهتدوا إلى التعرف عليها ، وتحديد موقفهم منها ، إيجابا أو سلبا ..
ففى دائرة هذه المعرفة كان امتحان الملائكة ، وكان عجزهم ، وكان إعلام آدم إياهم بما عجزوا عن معرفته! فكان ذلك أبلغ ردّ على اعتراض الملائكة ، وجلاء الموقف الذي وقفوه من آدم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 53
فالمراد بآدم هنا هو الإنسانية كلها ، وكان امتحان الملائكة فيما عرف أبناء آدم من أسرار هذا الوجود.
«ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ » .
أي عرض اللّه مسميات هذه الأسماء ، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى :
«أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ » .
فالمعروض لنظر الملائكة ذوات مشخصة ، يراد من الملائكة أن يضعوا لها أسماء ، تدلّ عليها ، وتكشف عن حقيقة كل واحد منها.

(1/45)




و الأشياء المعروضة هنا عاقلة ، أو فى حكم العاقلة ، لأنها من صنعة العقلاء حيث خوطبت خطاب العقلاء ، وحيث أشار إليها سبحانه وتعالى بقوله :
«عرضهم » .. « هؤلاء » .
ذلك هو الوجه الأقرب لملفوظ الآية ، وليكن فى تقديرنا أن الزمن الذي احتوى هذا الحدث ليس ابن لحظة أو ساعة ، فقد يمتد إلى مئات السنين وآلافها ..
فإذا آذن اللّه الملائكة بأنه جاعل فى الأرض خليفة ، فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يظهر هذا الخليفة .. ثم إذا ظهر فقد تمضى مئات السنين وآلافها قبل أن يتحدث الملائكة إلى اللّه بهذا الحديث عن آدم :
«أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ » وذلك بعد أن عاش الإنسان على هذه الأرض ، وأحدث ما أحدث فيها من خير وشر! وآدم الذي واجه الملائكة ، قد لا يكون أول السلالة الإنسانية ، بل لعله فى حلقة متأخرة شيئا ما عن الحلقة الأولى لهذه السلالة.
إن لآدم ـ فى نظرنا ـ مفهوما غير هذا المفهوم الذي تحدث عنه روايات
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 54
المفسرين التي تعتمد فى هذا على الإسرائيليات ، وعلى ما بقي من أساطير الأقدمين من قصة « الخلق » ومكان آدم فيها.
وسنعرض لهذا بعد قليل.
آية (34) [سورة البقرة (2) : آية 34]
وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

(1/46)




التفسير : أما وقد نجح آدم فى هذا الامتحان ، وأظهر من العلم ما قصر علم الملائكة عنه ، فقد استحق أن يكرم ، وأن يكون هذا التكريم من الملائكة أنفسهم ، لأنهم هم الذين أنكروا عليه تلك « الخلافة » التي جعلها اللّه له ، ليكون ذلك بمثابة ردّ اعتبار لآدم عند من نقصوه ، وثمنا يقتضيه منهم لقاء انتقاصهم له!! وقد تلقى الملائكة أمر اللّه بالقبول والرضا ، فسجدوا لآدم سجود تعظيم وتكريم ، لا سجود عبادة وتأليه ، فلا عبادة إلا للّه ، ولا مألوه غير اللّه! [الجن .. إبليس .. الشيطان ] سجد الملائكة كلهم أجمعون .. إلا إبليس! ومن إبليس هذا؟
ورد فى القرآن الكريم وفى أكثر من موضع ذكر إبليس ، والشيطان ، والجن ، على أنها قوى خفية ، تتحرك فى المجال الإنسانى ، وتراه دون أن يراها.
وإبليس والشيطان ، يذكران دائما فى معرض التحذير منهما ، والتخويف
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 55
من إغرائهما وإغوائهما ، إذ كان من شأنهما العداوة للإنسان ، والنقمة عليه.
ويذكر « إبليس » وحده فى مقام دعوة الملائكة للسجود لآدم وامتناعه هو عن السجود ، استكبارا لذاته ، وعلوا على آدم الذي خلق من طين ، على حين أنه خلق من نار.
وفى هذا يقول اللّه تعالى فى الآية السابقة : « وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ ، أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ » .
ويقول سبحانه فى سورة الأعراف : « ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ » (11 : الأعراف).
ويقول سبحانه فى سورة الإسراء : « وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ : أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً » .
(

(1/47)




61 : الإسراء) ويقول جل شأنه فى سورة الكهف : « وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » (50 : الكهف). ويقول فى سورة طه : « وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى » (116 : طه) وفى سورة ص : « فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ. إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ » (73 ـ 74 ص) ويلاحظ أنه لم يذكر فى هذا الموقف « الشيطان » أو « الجن » .. وهذا ما يشعر بأن « إبليس » على صفة خاصة ، غير صفة الشيطان ، والجن ، وإلا لما
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 56
التزم القرآن ذكر إبليس فى هذه الصور المتعددة لموقف واحد ، الأمر الذي لا يلتزمه القرآن إلا حيث لم يكن من التزامه بد.
وننظر من جهة أخرى فنجد القرآن الكريم يتحدث عن « إبليس » بأنه كان من الجنّ ففسق عن أمر ربه .. كما جاء ذلك فى الآية الواردة فى سورة الكهف .. فإبليس ـ على هذا ـ من عالم الجن ، وأنه وحده الذي خرج عن أمر ربه ، وأعلن هذا العصيان الوقاح!.
ويتحدث القرآن فى ثمانية وستين موضعا عن الشيطان ، بلفظ المفرد « الشيطان » وفى أحد عشر موضعا بلفظ الجمع : « الشياطين » .
وفى جميع هذه المواضع يجى ء الحديث عن الشيطان أو الشياطين فى مقام التحذير من الضلال والغواية للإنسان من كيد الشيطان ..
«إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً » (53 : الإسراء).
«إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا » (6 : فاطر) وهذه العداوة التي بين الشيطان وآدم ، وذرية آدم ، هى امتداد لتلك العداوة التي حملها إبليس لآدم ، حين امتنع عن السجود له مع الملائكة ، كما أمره اللّه ، وكان ذلك سببا فى أن لعنه اللّه وطرده من الجنة.

(1/48)




و فى هذا يقول اللّه تعالى : « يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ » (27 : الأعراف) ، ويقول سبحانه عن الشيطان وهو يوسوس لآدم ويغريه بالخروج عن أمر ربه : « فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى » .
(120 : طه) ويقول سبحانه :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 57
«فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ » .
(20 ، 21 : الأعراف) وهنا يبدو الشيطان وإبليس وكأنهما اسمان لذات واحدة ، فما عرف إبليس إلا بهذا الوجه المنكر الملعون ، وما عرض الشيطان إلا فى هذه الصورة الكريهة المخيفة ..
ومن جهة أخرى فقد كان إبليس من عالم الجن ، ففسق عن أمر ربه ..
«فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » (5 : الكهف) ومن جهة ثالثة تحدّث آيات القرآن عن إبليس وكأنه من عالم الملائكة ، حيث توجّه الأمر للملائكة بالسجود ، فامتثلوا جميعا أمر ربّهم إلا إبليس ..
فهو استثناء متصل .. « فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلَّا إِبْلِيسَ ، أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ » (31 : الحجر) « وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ ، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ » (5 : الكهف) وعلى هذا نستطيع أن نقول :
أولا : إن إبليس كان من الملائكة ..

(1/49)




ثانيا : أنه كان فى درجة دنيا ، فى هذا العالم الروحي ، هى درجة الجنّ الذين وإن أشبهوا عالم الملائكة فى أنهم خلقوا من شعلة مقدسة ، إلا أن الملائكة كانوا من نور هذه الشعلة ، على حين كان الجن من نارها ، كما يقول تعالى : « وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ » .
ولهذا كان الملائكة صفاء خالصا ، بينما كان الجن صفاء مشوبا بكدر ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 58
نارا مختلطة بدخان! ، ولهذا أيضا كان الجن فيهم الخير والشر ، وكان منهم الأخيار والأشرار ، كما يقول اللّه تعالى على لسانهم :
«وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ « 1 » فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً » (14 ، 15 الجن).
ثالثا : لم يظل « إبليس » فى جماعة الجنّ ، بل أخرجه اللّه من بينهم ، حين أبى أن يسجد لآدم مع الساجدين ، فلعنه اللّه ، وطرده ، وجعل له اسم « إبليس » سمة يعرف بها ، فى هذا الموقف الذي حلّت عليه فيه اللعنة والإبلاس.
رابعا : بدأ إبليس منذ اللعنة التي حلّت به يتحول خلقا آخر ، فإذا هو « شيطان » مريد ، وشيطان رجيم ، وإذا هو قوة شر منطلقة ، يتطاير منها شرر ، يصيب من يتعامل معه ، ويتبع خطاه ، وتلك الشرارات المنطلقة منه هى ذريته التي يتحدث عنها القرآن فى قوله تعالى : « أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي ، وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ؟ » .. وهى شياطين أخرى ، تنطلق منها شرارات شيطانية .. وهكذا.
فإبليس كان من عالم الجنّ ، ثم نزل إلى « إبليس » ثم تحول من إبليس إلى شيطان ..!
الآيات : (35 ـ 39) [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 39]

(1/50)




وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)
__________________________________________________
(1) القاسطون : أي الظالمون.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 59
[آدم وجنته ]
أشرنا فيما سبق ، إلى أن آدم أرضى المولد ، والنشأة ، والموطن ، وأنه من طينة الأرض نشأ ، وفى الأرض يتقلب ، وفى شئونها يتصرف ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى » (55 : طه) ونريد هنا أن نقف قليلا مع قصة الخلق ـ خلق آدم ـ كما تحدث عنها القرآن ، لا على ما جاءت به التفاسير من إسرائيليات وأساطير عن خلق آدم ، فألقت بذلك ظلالا على آيات اللّه ، وأخرجت منها مفهوما لخلق آدم ، يبعد كثيرا عمّا صرح به منطوق الآيات ومفهومها ، ويصادم أيضا بعض حقائق العلم الحديث فيما كشف عنه علم الحياة وأصل الأنواع ، بل ويصادر العقل الإسلامى الذي يفهم القرآن على ضوء هذه التفاسير ، فلا يجد له سبيلا إلى النظر والبحث عن أصل الإنسان ، ومكانه فى سلسلة التطور.

(1/51)




و الحق أن القرآن الكريم يعرض قصة خلق آدم عرضا محكما ، يقف أمامه العلم ـ فى جميع مستوياته ـ خاشعا مستسلما ، ويستقبله العقل ـ فى مختلف أطواره ـ راضيا مسلّما ، لا يستطيع أن يجد فيه ثغرة للطعن ، أو النقض.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 60
و مع أن القرآن ليس كتاب علم ، وليس من همّه أن يقرر حقائق علمية ، فإنه فى قضية خلق آدم ، قد أمسك بها من أطرافها ، وجاء بها على الوضع الذي يلتقى مع الحقائق العلمية فى أصدق وجوهها وأضوئها.
فمن شاء أن يلقى القرآن هنا بكل ما تكشف من العلم ، وما ثبت من حقائقه فى قضية الخلق ، فليأت بما معه ، وليدل بحجته بين يدى كتاب اللّه ، كمن يحمل الماء إلى البحر ، أو يرسل الضوء إلى الشمس.
استمع إلى ما يحدث به القرآن عن خلق الإنسان :
1 ـ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ » (105 : الحج).
2 ـ « وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ » .
(26 : الحجر) 3 ـ « خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ » (14 : الرحمن) 4 ـ « إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ » (71 : ص) 5 ـ « إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ » (11 : الصافات) 6 ـ « الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ » (7 : السجدة) 7 ـ « وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » (12 : المؤمنون) 8 ـ « ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً » (13 ـ 14 نوح)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 61

(1/52)




9 ـ « وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً » (17 : نوح) فالطين كما تصرح به الآيات هنا ، هو الأصل الذي خلق منه الإنسان ، وأن هذا الطين قد تقلب فى أطوار عديدة ، حتى ظهر منه هذا الإنسان ..
فهناك : التراب ، وهناك الطين ، والطين اللازب ، ثم الصلصال ، ثم الحمأ المسنون .. فالتراب هو المادة الأولى فى خلق الإنسان ، ثم يلبس التراب طورا آخر ، هو الطين ، ويتتقل الطين إلى طور جديد هو الصلصال ، ثم الصلصال إلى حمأ مسنون .. وهكذا يتنقل التراب فى أطوار حتى يكون إنسانا.
والحمأ المسنون ، هو الطين بعد أن يتخمر ويتعفّن ، وبين طور الطين والحمأ المسنون طور آخر هو الصلصال ، الذي يتحول فيه الطين إلى مادة من الزبد تشبه الفخّار.
وبلغة العلم : يكون التراب فالطين ، فالصلصال ، فالحمأ المسنون ، أربعة أطوار تتنقل فيها بذرة الحياة ، وإن هذا التخمر والتعفّن الذي أصاب الطين فجعله (الحمأ المسنون) لهو بشائر الحياة ، إذ هو « البكتريا » التي تولدت منها خمائر الحياة ، وظهرت منها جرثومتها الأولى.
«ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً » .
(13 ـ 14 نوح) ومقررات العلم الحديث تقول : إن الحياة ظهرت على هذه الأرض أول ما ظهرت ، على شواطى ء البحار ، حين يتكون الطين ، فالزبد ، فالحمأ المسنون ، فالطحالب ، فالنبات ، فالحيوان ، فالإنسان ..
هكذا يقرر العلم الحديث فى نشوء الحياة وتطورها ، وهو ـ أي العلم ـ يرى أن هذه الأطوار قد سارت عبر ملايين السنين حتى أثمرت شجرتها الأولى أكمل وأكرم ثمرة .. هى الإنسان.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 62

(1/53)




و القرآن الكريم ، وإن لم يتعرض لهذه الشجرة التي كانت منها أصول الحياة وفروعها ، والتي كان الإنسان ـ فيما نرى ـ فروعا من فروعها وثمرة من ثمارها ـ لم يجى ء بما ينفى هذه الصلة ، وتلك القرابة ، التي بين الإنسان وبين عوالم الأحياء .. بل إنه ـ على عكس هذا ـ قد أشار فى أكثر من موضع إلى ما يمكن أن يستقيم منه فهم واضح لتلك الصلة الوثيقة ، بين الإنسان وعالم الحياة كله.
ففى قوله تعالى « وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ » (45 : النور) وقوله سبحانه : « وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ » (30 : الأنبياء) دلالة قوية على أن الأحياء كلها ـ ومنها الإنسان ـ مخلّقة من مادة واحدة .. هى الماء .. والماء هو المادة التي يتكون منها الطين ، إذ لا وجود للطين إلا مع الماء ، وبالماء.
وقد نجد عند بعض المفسرين لمحات ذكية ، تشير إلى شى ء من هذا الذي أصبح من مقررات العلم الحديث.
«فالبيضاوى » يقول فى تفسيره لقوله تعالى : « مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ » : أي من طين تغير واسودّ من طول مجاورة الماء. « 1 »
فالقول بانتماء الإنسان فى أصل نشأته إلى شجرة الحياة العامة النابتة فى الأرض ، من الأرض ، لا يعارض نصا من نصوص القرآن ، بل إنه ليلتقى معها فى يسر ووضوح .. فإذا كان الإنسان ـ آدم ـ خلق من طين ، فالأحياء كلها ـ نباتا وحيوانا ـ مخلوقة من طين! فالإنسان إذن هو ابن هذه الأرض : « مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى » (55 : طه)
__________________________________________________
(1) تفسير البيضاوي « سورة الحجر » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 63

(1/54)




و أكثر من هذا ، يحدّث القرآن فى صراحة ، أن الإنسان ـ أي أصله ـ نبتة من نبات الأرض : « وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً » (17 : نوح) ولو كان الإنسان من طينة غير طينة هذه الأرض ، لما كان له سبيل إلى الحياة على هذه الأرض والقرار فيها ، والانتفاع بموجوداتها ، من جماد ، ونبات ، وحيوان! وليس ذلك بالذي يزرى بالإنسان ، أو يحط من قدره ، فمن هذا الطين تتخلق أكرم الجواهر ، وأنفس المعادن .. من لؤلؤ ومرجان ، وذهب ، وفضة ، وغيرها .. والإنسان هو الذي يضع نفسه حيث يشاء .. إن شاء كان جوهرا كريما ، وإن أراد كان طينا لازبا أو حمأ مسنونا أو حجرا صلدا ، واللّه سبحانه وتعالى يقول : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ .. »
و صدق رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذ يقول : « الناس معادن ، خيارهم فى الجاهلية ، حيارهم فى الإسلام » .. ففى هذه الكلمة النبوية الجامعة ، ما يشير إلى مدلول الآيات القرآنية ، التي تتحدث عن خلق آدم ، والمادة التي خلق منها ، على الوجه الذي قهمناها عليه! يقول الفيلسوف المسلم محمد إقبال فى معرض حديثه عن قصة آدم ، كما جاءت فى القرآن الكريم ، وفى التوراة .. يقول :
«و هكذا نرى أن قصة هبوط آدم كما جاءت فى القرآن لاصلة بها بظهور الإنسان الأول على هذا الكوكب ، وإنما أريد بها ـ بالأخرى ـ بيان ارتقاء الإنسان ، من بدائية الشهوة الغريزية ، إلى الشعور بأن له نفسا حرة قادرة على الشك والعصيان » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 64
«و ليس يعنى الهبوط « 1 » ، أىّ فساد أخلاقى ، بل هو انتقال الإنسان من الشعور البسيط إلى ظهور أول بارقة من بوارق الشعور بالنفس ، هو نوع من اليقظة فى حلم الطبيعة ، أحدثتها خفقة من الشعور بأن للإنسان صلة علّيّة شخصية بوجوده » « 2 » .

(1/55)




و هذا الفهم الذي فهمه « إقبال » لآيات القرآن الكريم فى خلق آدم ، هو ـ كما ترى ـ أقرب فهم إلى منطوق كلمات القرآن ، ودلالتها اللغوية ، كما أن هذا الفهم الذي يقف بآيات القرآن عند هذه الحدود ، يحمى ينابيع القرآن الصافية ، من هذا الغثاء الذي يلقى به فى ساحتها ، من تلقيات الأوهام والخرافات التي تتناقلها أجيال الناس ، وتلونها بألوان وأصباغ ، تكاد تغطى سماء آيات الكتاب الكريم ، وتحجب أضواءها.
ثم إنه بمثل هذا الفهم الملتزم لحدود المعنى اللغوي لآيات الكتاب الكريم يظل الطريق مفتوحا بين آيات الكتاب وأنظار الناظرين فيها ، كلما جدّ للناس فهم فى الحياة ، وكلما انكشف لهم سر من أسرارها .. حيث يمكن عرض كل جديد ، على القرآن ، فى حدود منطوق كلماته ومفهومها ، فيقبل من هذا الجديد ما يقبل ، ويرفض ما يرفض ، دون أن يكون عليه من ذلك شى ء .. بل يظل فى عليائه ، مشرفا مشرقا ، تأخذ العيون من ضوئه ، على قدر استعدادها وقوتها.
فمثلا نظرية « دارون » فى أصل الأنواع ، وفى النشوء والارتقاء.
هذه النظرية ، كانت ولا تزال عند كثير ممن أخذوا فهم الآيات القرآنية فى خلق آدم ، عن هذه النقول الخرافية ، وهذه المقولات الأسطورية التي جمعها
__________________________________________________
(1) يعنى الهبوط المشار إليه فى قوله تعالى « اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً » .
(2) تجديد التفكير الديني فى الإسلام لإقبال ، ص 99.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 65

(1/56)




المفسرون والقصّاص ، من كل ساقطة ولاقطة ـ كانت ولا تزال هذه النظرية عند كثير من هؤلاء ، من الكفريات ، والإلحاديات ، التي إن جرت على لسان ، كان مجرد جريانها عليه كفرا وإلحادا!! ولهم عذرهم فى هذا!! فالذين قرءوا فى كتب التفاسير والقصص ، أن آدم خلق فى الملأ الأعلى ، وأن طينته غرست فى جنة عدن ، أو جنة الخلد ، أو غيرهما من الجنان ـ على اختلاف روايات المفسرين فى هذا ـ هؤلاء الذين قرءوا هذه المقولات فى نشأة آدم ، يرون أن كل قول يخالف هذا ، هو خروج على الدّين ، بل خروج من الدين! فى حين أن هذا الأمر كلّه ليس فيه شى ء من الدين ، ولهذا أباح المفسرون أن يترخصوا فى الحديث عنه ، وألا يلتزموا فيه حدّا ، فكان لكل منهم مقولاته ، التي قرأها أو سمعها ، أو توهمها ، لأن هذا الأمر ليس من باب التشريع والأحكام ، فتتحرّى له الصحة والضبط.
على أن مقولات « دارون » التي أنكرها علماء الدين ، وهاجوا وماجوا من أجلها ، إنما تقوم على علم وتجربة ، وقد يكون فيها قليل أو كثير من الخطأ فى الاستنتاج ، ولكن الذي ينبغى أن يكون عليه موقف العقل إزاءها ، هو الاحترام لها ، والتقدير للجهد الذي بذل فيها ، وما دامت ترجع إلى التجربة ، وتحتكم إلى العقل ، فإن كل عقل مدعوّ إلى الوقوف عندها ، والنظر فيها ، وأخذ ما يطمئن إليه منها .. أما صدّ العقل عنها ، وفراره من بين يديها ، فذلك إزراء بالعقل ، وامتهان له ، وتعطيل للوظيفة التي خلق لها ، وخروج على دعوة القرآن التي دعاه إليها.
ثم إن « داروين » الذي أثار هذا الإعصار العاصف ، فى عقول رجال الدين ـ من كل دين ـ لم يكن منكرا للّه ، ولا كافرا به ، بل إنه ـ فيما يروى عنه ـ كان من أشد الناس إيمانا باللّه ، وشهودا له فى آياته ، التي رآها رأى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 66

(1/57)




العين ، فيما أبدع الخالق وصوّر ، من مخلوقات متطورة ، تتحرك فى مسار الحياة ، من الطين ، إلى أن تكون إنسانا عاقلا ، حكيما عالما ، نبيّا .. يطاول السماء فيتناول بيديه كتاب اللّه ، ويسمع بأذنيه كلمات اللّه! يقول « داروين » فى حديثه عن أصل مذهبه : « إن المشابهة ، وأسبابا أخرى ، تدعونا ضرورة إلى الاعتقاد بأن الأحياء أصلها واحد ، وألّا فاصل جوهريا بين العالمين : عالم النبات ، وعالم الحيوان ..
ثم يقول : « إنى أرى ، فيما يظهر لى ، أن الأحياء عاشت على هذه الأرض من صورة واحدة أولية ، نفخ الخالق فيها نسمة الحياة » « 1 » ! وإذا كان لأحد أن يقف من « دارون » موقف الهلع والخوف ، على معتقده الديني ، فليس هو المسلم ، الذي يعترف دينه بالعقل ، وبحقه فى البحث والنظر ، وفى احترام مؤدّى هذا البحث والنظر ، الذي لا يقوم على هوى ، ولا يستند إلى سلطان غير سلطان الحجة والبرهان! ثم إنه إذا كان لأى دين أن يجافى مقولات « داروين » أو أن يضيق بها فليس هو الدين الإسلامى ، الذي تكاد تنطق آياته بما أعيا « داروين » والعلم الحديث ، الوقوف عليه ، من أسرار الخلق وعظمته! ومع ما نعرف من أن القرآن الكريم ليس كتاب علم ، وأن الرسالة الإسلامية لم تجى ء لتقرير حقائق علمية « 2 » ـ فإن فى عرضه لمشاهد الكون وفى كشفه عن مظاهر الوجود ، لمحات مضيئة ، وإشارات مشرقة ، يجد فيها العلم الحديث مستندا لمقولاته ، ومجازا لمقرراته.
__________________________________________________
(1) مذهب النشوء والارتقاء ـ الكتاب الأول ، الجزء الأول ، للمرحوم إسماعيل مظهر ص 47.
(2) انظر فى هذا كتابنا ـ إعجاز القرآن ـ الجزء الثاني.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 67
و سنرى فى قصة آدم ، التي نحن بصددها ، أنها تسبق ما يقرره « داروين » فى نظرياته ، عن التطور وأصل الأنواع! ونعود إلى تلك القصة ، فنقول :

(1/58)




ربما رأى بعض علمائنا أن فى قوله تعالى : « إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ » ، وفيما جاء من الآيات التي تحدّث عن دعوة اللّه سبحانه وتعالى الملائكة أن يسجدوا لآدم ، عند ما ينفخ فيه الحق جل وعلا من روحه ـ قد يرى بعض علمائنا أن فى هذا ما يدل على أن آدم قد انفرد بخلق خاص ، دون سائر المخلوقات الأرضية ، وأنه لهذا استحق التكريم والاحتفاء! ونقول : إن ما ورد فى الآية السابقة وأمثالها ، إن دلّ على خصّيصة لآدم ، فإنه لا ينفى أن يكون ذلك قد كان حين وصل تطور الحياة بالأحياء إلى هذه المرحلة ، التي بلغ فيها التطور غايته ، بظهور هذه السلالة الناضجة من ثمرات الحياة ، وبزوغ أول مواليد النوع الإنسانى .. ويكون معنى قوله تعالى : « إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ ، فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ » أنه إذا بلغ الكتاب أجله بهذا الطين ، الذي سرت فيه الحياة ، وتوالدت منه الأحياء ، إلى أن آذنت فى تطورها بظهور النوع البشرى الذي تهيأ لقبول النفخة الإلهية فيه ـ « فقعوا له ساجدين » إذا هو تلقى النفخة من روح الحق جلّ وعلا ، وتكون تلك النفخة هى منحة السماء للأرض ، فى يوم ميلادها لمولودها الذي يدبّر أمرها ، ويكون خليفة اللّه عليها.
ولعل فى قوله تعالى : « وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ » لعل فى هذا ما يشعر بالمعنى الذي ذهبنا إليه ، وهو أن آدم لم يجى ء من الطين مباشرة ، وإنما كان ذلك بعد سلسلة طويلة من التطورات ، وبعد عمليات
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 68

(1/59)




معقدة من التصفية والانتخاب ، استمرت ملايين السنين ، حتى انتهت بظهور الإنسان على تلك الصورة التي علا بها جميع أبناء سلالاته ، وكان أهلا لتلقى النفخة الإلهية يوم مولده ، وكأنها التاج الذي توّج به ملكا على العالم الأرضى كله. وهذا ما تشير إليه أيضا الآية الكريمة : « ما لكم لا ترجون للّه وقارا ، وقد خلقكم أطوارا » .
ثم إن النظر العابر فى عالم الأحياء يعطى دلالة قاطعة على أن الإنسان هو من طينة الأسرة الحيوانية .. فهذا التشابه الكبير فى تركيب الأعضاء ، والحواس ، وعملية الهضم ، والتنفس ، ومجرى الدم فى العروق ، ثم فى عملية التناسل فى مراحلها المختلفة .. كل هذا التشابه يقطع بأن الإنسان حيوان قبل أن يكون إنسانا! وإنك لتجد الإنسان كله فى أدنى المخلوقات ، وفى أرقاها .. من الدودة والحشرة ، إلى القرد والغوريلا.
وعلى هذا ، فإننا لا نستطيع أن نقبل أقوال المفسرين فى خلق آدم ، على تلك الصورة التي يرسمونها للأسلوب الذي ولد به ..
فمثلا ، « القرطبي » يقول فى تفسيره عن خلق آدم : « فخلقه اللّه بيده ، فكان جسدا من طين أربعين سنة من مقدار يوم الجمعة « 1 » ، فمرت به الملائكة ، ففزعوا منه لمّا رأوه ، وكان أشدهم فزعا إبليس ، فكان يمر به ، فيضربه ، فيصوّت الجسد ، كما يصوّت الفخار تكون له صلصلة ، ويقول إبليس :
«لأمر ما خلقت!! » « 2 » .
__________________________________________________
(1) تبعا للمقولات الإسرائيلية التي تقول إن اللّه خلق الأحياء فى يوم الجمعة ..
وقد اقتطع القرطبي من هذا اليوم أربعين سنة لخلق آدم ، على اعتبار أن اليوم عند اللّه كألف سنة من أيامنا.
(2) تفسير القرطبي.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 69
و هذا القول وأمثاله إن هو إلا من موارد قصص الأولين وأساطيرهم ، وليس فى آيات القرآن الكريم دلالة عليه ، من قريب أو بعيد.

(1/60)




و ننتهى من هذا إلى قول واحد فى هذه القضية ، وهو الاحتفاظ بها فى الإطار القرآنى ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
فآدم مخلوق من « تراب » أو من « طين » أو « حمأ مسنون » أو من « طين لازب » أو من « سلالة من طين » أو من « صلصال كالفخار » أو نبت من الأرض نباتا ..
فهذا هو الذي يقوله القرآن فى خلق آدم! ثم ليقل العلم ما يشاء من مقولات ، فإن مصير العلم وما يقع له من حقائق ثابتة فى هذا الشأن لا بد أن ينتهى إلى تلك الصورة التي رسمتها الآيات القرآنية الكريمة ، لهذه القضية!
الشجرة التي أكل منها آدم
نهى اللّه سبحانه وتعالى آدم عن أن يقرب شجرة من أشجار تلك الجنة التي أسكنه فيها ، وأباح له الأكل رغدا من ثمارها.
وهذه الشجرة لم يعرض القرآن لبيان نوعها ، ولهذا فهى ـ في محيط القرآن ـ غير معروفة النوع ولا الصفة ، وإن كانت معروفة لآدم ، حيث أشار إليها الحق سبحانه وتعالى ، إشارة كاشفة ، حين نهاه وزوجه عنها ، بقوله سبحانه : « وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ » .
وقد وصف إبليس هذه الشجرة لآدم وحواء ، وصفا كاشفا لها ، وللمعطيات التي ضمّت عليها ، وفى هذا يقول اللّه تعالى :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 70
«فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ ، قالَ يا آدَمُ : هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى » (120 : طه ويقول سبحانه :
«فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ ، لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ » (20 : الأعراف) وهذه الأوصاف التي خلعها إبليس على تلك الشجرة لا تلتقى مع الواقع ، ولا تحدّث عن الحق ، وإنما هى من تلفيقات إبليس وأكاذيبه ، ليخدع بها ويغرى.

(1/61)




و مع ذلك فإن المفسّرين والقصاص ، قد ذهبوا فى الحديث عن الشجرة ونوعها كل مذهب ، مستندين فى هذا إلى بعض الروايات المعزوّة إلى بعض الصحابة والتابعين ، لتكتسب شيئا من الاحترام والقبول ، وهى فى حقيقتها إسرائيليات ، وأساطير ، وخرافات.
فالشجرة ، هى « السنبلة » فيما يروى عن ابن عباس.
وهى « الكرمة » فيما يروى عن ابن مسعود ، والسّدّىّ.
وهى « التينة » عن ابن جريج.
وهى شجرة « الكافور » .. عن علىّ بن أبى طالب.
وهى شجرة « العلم » ـ [علم الخير والشر.]. عن الكلبي.
وهى شجرة « الخلد » التي كانت تأكل منها الملائكة .. عن ابن جدعان » « 1 » .
وبعيد أن يكون لهذه المقولات مستند صحيح من كتاب أو سنة ، وإلا لما كان بينها هذا الاختلاف البعيد ، فى حقيقة واحدة!
__________________________________________________
(1) انظر مجمع البيان فى علوم القرآن للطبرسى ـ الجزء الأول.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 71
و القرآن الكريم ، إذ وقف بالشجرة دون أن يحدّد نوعها ، فإنما ذلك لأنها معروفة معهودة لآدم ولزوجه ـ كما قلنا ـ ثم إن عدم تحديد نوعها فى الحديث عنها إلينا ، لا يمنع أن يكون للشجرة مفهوم خاص عندنا ، وإن لم يدخل فيه نوعها .. أيّا كان! فلنحاول فهم الشجرة على أنها مجرد شجرة ، ليس لها صفة خاصة تمتاز بها ، عن الأشجار التي معها ، إلا فى تحديد ذاتها بالإشارة إليها! فلتكن هذه الشجرة ما تكون .. شجرة كرم ، أو تين ، أو كافور ، بين العديد من مثيلاتها ، إلّا أن النهى والتحريم وقع عليها ، دون غيرها.

(1/62)




و هذا التحريم لشجرة بعينها ، إنما هو امتحان لآدم وابتلاء لعزيمته ، أمام الإغراء ، وحبّ الاستطلاع ، الذي هو غريزة قوية عاملة فيه .. وهذا ما أحبّ أن أفهم عليه قوله تعالى : « وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً » (115 : طه) وننظر ، فنجد غريزة حب الاستطلاع أقوى غريزة متمكنة فى طفولة الإنسانية بنوع خاص ، كما هى متحكمة فى طفولة الأطفال! وطفولة الإنسانية كلها مندسة فى كيان « آدم » .. أول تباشير النوع البشرى فى هذا الوجود! ولهذا ، فإن هذا النهى الذي تلقاه آدم من ربّه ، عن الاقتراب من تلك الشجرة خاصة دون مثيلاتها ، قد وقع من نفس آدم موقعين :
1 ـ موقع الخوف من الجهة التي ألقت إليه بهذا النهى ، والحذر من أن يخالف ما نهى عنه.
2 ـ الرغبة الصارخة فى مداناة هذه الشجرة ، والتعرف عليها ، وعلى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 72
ما يكمن فيها ، استجابة لغريزة حبّ الاستطلاع التي ألهبها هذا النهى ، وأيقظها فى كيانه.
ثم إلى جانب هذه الرغبة الصارخة إلى مقاربة الشجرة ، كانت وسوسة إبليس لآدم ، وإغراؤه له ، الأمر الذي عجّل بخطوات آدم إلى الشجرة ، وسيره حثيثا إليها ..
ولو لم يقم إبليس من وراء آدم ، يغريه بالشجرة ، ويدفعه إليها ، لسار إليها وحده ، ولبلغها ، ولأكل منها! ولكن لا يكون هذا إلا بعد زمن متراخ عن هذا الوقت الذي اقترب فيه بالفعل من الشجرة ، وأكل منها!! هكذا الإنسان ، وهكذا الناس ، يتحدّون كل سلطان يقيد نوازعهم ، ويتسلط على إرادتهم ، ولو كان ذلك لخيرهم وإسعادهم.

(1/63)




و لهذا فإنى أحب أن أذكر هنا قوله تعالى : « خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ » (37 : الأنبياء) وقوله جل شأنه : « وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً » (28 : النساء) كما أحب أن أفهم هاتين الآيتين الكريمتين على أنهما تكملان الصورة التي خلق عليها آدم ، وأن إغراء إبليس له قد عجل بظهور الإنسان فى آدم ، وفى إنضاج ثمرته قبل أوانها!! فمنذ انتهى آدم إلى الشجرة ، وذاق من ثمرها ، بعد هذا الصراع العنيف بينه وبين نفسه ـ أدرك أنه جنى جناية غليظة ، كما أدرك أنه سيلقى جزاء ما اقترف .. وهنا يتنبه إلى وجوده ، فيرى أنه مخلوق ذو إرادة ، يستطيع بها أن يزن أموره ، وأن يتقدم أو يتأخر ، بوحي من ذاته ، وأنه لم يعد شيئا من أشياء الوجود التي لا تشارك فى نسج حياتها ، وفى صنع قدرها ، وهنا يتنبه إلى أنه عار مكشوف العورة كالحيوانات السائمة ، الأمر الذي لم يكن يراه من
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 73
قبل ، أو ينكره ، ثم لم يكن فى مقدور عقله وحيلته ـ بعد أن عرف أنه عريان ـ أن يسعفاه بأكثر من ورق الشجر ، ليستر به سوأته .. تماما كما يفعل الآدميون من سكان الأدغال ، حين ينتقلون من طور العرى الخالص إلى طور التستر بأوراق الشجر .. إنهم هم « آدم » وإن تأخر بهم الزمن آلاف السنين أو ملايينها!! يقول الفيلسوف المسلم « محمد إقبال » :
«فالمعصية الأولى للإنسان ، كانت أول فعل له ، تتمثل فيه حرية الاختيار ، ولهذا تاب اللّه على آدم ، كما جاء فى القرآن ، وغفر له.
«و عمل الخير لا يمكن أن يكون قسرا ، بل هو خضوع عن طواعية للمثل الأخلاقى الأعلى ، خضوعا ينشأ عن تعاون النظرات الحرة المختارة ، عن رغبة ورضى! « و الكائن الذي قدّرت عليه حركاته كلها ، كما قدّرت حركات الآلة ، لا يقدر على فعل الخير! ثم يمضى قائلا :
«و على هذا ، فإن الحرية شرط فى عمل الخير.
«

(1/64)




و لكن السّماح بظهور ذات متناهية لها القدرة على أن تختار ما تفعل ، بعد تقدير القيم النسبية للأفعال الممكنة لها ـ هو فى الحق مغامرة كبرى ، لأن حرية اختيار الخير ، تتضمن كذلك اختيار عكسه! ثم ينهى إقبال هذا الموقف بقوله :
«ربما كانت مغامرة كهذه هى وحدها التي تيسر الابتلاء والتنمية للقوى الممكنة لوجود خلق : « على أحسن تقويم » ثم رددناه : « أَسْفَلَ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 74
سافِلِينَ »
«1 » وكما يقول القرآن : « وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً » .
وهذا كلام واضح مشرق ، لا يحتاج إلى تعليق ، أو توضيح.
الجنة التي أهبط منها آدم
يكاد يجمع المفسرون على أن الجنة التي كان فيها آدم ، قبل المعصية ، هى جنة واقعة وراء الحس ، أي أنها من تلك الجنات السماوية ، التي وعد المتقون بها فى الآخرة.
وقد أعان على هذا الفهم للجنة ، أمور .. منها :
1 ـ ما وقع فى التفكير الإسلامى من اختصاص آدم بهذا الخلق الذي انفرد به عن سائر المخلوقات .. مادة ، وصفة!! 2 ـ ما ورد فى القرآن الكريم من وصف تلك الجنة ، وما كان يلقاه فيها من راحة ونعيم : « إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى ، وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى » (117 ـ 118 طه).
3 ـ كثرة ذكر الجنة فى القرآن الكريم ، مرادا بها الجنة السماوية.
ومع هذا ، فإن هذه الأمور لا تعطى حكما قاطعا بأن جنة آدم كانت جنة سماوية ، ولا تدفع القول بأنها كانت جنة أرضية ، من تلك الحدائق والغابات المبثوثة فى بقاع شتى من الأرض ، التي تخرج بطبيعتها من غير صنعة إنسان.
أما تلك العناصر التي مهدت للقول بأنها جنة سماوية ، فيمكن فهمها فهما آخر. « 2 »
__________________________________________________
(1) إشارة إلى قوله تعالى فى سورة التين : « لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ .. »
(

(1/65)




2) تجديد التفكير الديني فى الإسلام ، لإقبال .. ص 96. [.....]
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 75
فأولا : ما يقال من اختصاص آدم بخلق تفرّد به من بين المخلوقات ـ هذا القول لم تشهد له آيات القرآن الكريم ، وقد تحدثنا عن ذلك فيما مضى ، وانتهينا إلى القول بأن آدم مخلوق أرضى ، نبت فى الأرض ، كما نبتت سائر المخلوقات التي دبّت عليها.
ثانيا : الوصف الذي وصفت به جنة آدم بأن ساكنها لا يجوع فيها ولا يعرى ، ولا يظمأ ولا يضحى ـ هذا الوصف يمكن أن يتحقق فى كثير من جنات الأرض ، حيث يجد من يعيش فيها ما يكفى مطالب الحياة وضروراتها ، خاصة وأن آدم ـ فى هذا الطور من حياته ـ لم يكن قد عرف نفسه ، ولم يكن قد تعرف على ما فيه من إرادة ، وأنه لم يكتمل فيه الإنسان الذي ظهر بعد أن أكل من الشجرة ـ فمطالبه ، والحال كذلك ، لا تعدو مطالب الرجل البدائى من سكان الأدغال .. وكل هذا حاضر عتيد بين يديه ، لا يتكلف له جهدا.
وثالثا : إذا كانت الجنة السماوية قد ذكرت كثيرا فى القرآن الكريم ، فى معرض الجزاء الأخروى للمتقين ، فإن الجنة الأرضية قد ذكرت أيضا بهذا الاسم .. « جنّة » فقال تعالى : « أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ » .
(166 : البقرة) .. وقال سبحانه وتعالى : « وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً » (32 ، 33 : الكهف) .. إلى آيات كثيرة ، ورد فيها ذكر الجنة على هذا المعنى.
والقرائن التي قدمناها فى هذا البحث تميل بجنة آدم إلى الجانب الأرضى وتقيمها على أي مكان من الأرض.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 76

(1/66)




و قد سبق بعض قدماء المفسرين إلى القول بهذا الرأى ، الذي ربما أنكره ، وفزع منه كثير من علماء القرن العشرين! فهذا أبو مسلم الأصفهانى ، صاحب التفسير ، الذي كان عمدة كثير من علماء المسلمين وفقهائهم ـ يقول عن جنة آدم : « هى جنة من جنات الدنيا فى الأرض .. »
ثم هو يجيب على الإشكال الذي يعترض به المعترضون فى قوله تعالى لآدم وإبليس : « اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً » من أن هذا الهبوط يعنى نزولا من السماء إلى الأرض ـ يجيب على هذا الإشكال بقوله : « إن قوله تعالى : « اهْبِطُوا مِنْها » لا يقتضى كونها السماء ، لأنه مثل قوله تعالى : « اهْبِطُوا مِصْراً » « 1 » .
ويقول محمد إقبال عن تلك الجنة أيضا : « ليس هناك من سبب لافتراض أن كلمة جنة أي (حديقة) استعملت فى هذا السياق ـ سياق قصة آدم ـ للدلالة على جنة وراء الحسّ ، يفترض أن الإنسان هبط منها إلى هذه الأرض.
ثم يقول :
«و طبقا للقرآن ـ وليس الإنسان غريبا عن هذه الأرض ، إذ يقول اللّه تعالى : « وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً » ـ فالجنة التي ورد ذكرها فى القصة لا يمكن أن يقصد بها الجنة التي جعلها اللّه مقاما خالدا للمتقين.
ثم يقول :
«و على هذا ، فأنا أميل إلى اعتبار الجنة التي جاء ذكرها فى القرآن تصويرا لحالة بدائية ، يكاد يكون الإنسان فيها مقطوع الصلة بالبيئة التي يعيش
__________________________________________________
(1) من تفسير أبى مسلم ، نقلا عن مجمع البيان فى علوم القرآن للطبرسى :
جزء ـ 1 ص 167.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 77
فيها ، ومن ثمّ فإنه لا يحسّ بلذعة المطالب البشرية ، التي تحدد نشأتها ـ دون سواها من العوامل ـ بداية الثقافة الإنسانية » « 1 » .
الآيات (40 ـ 43) [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43]

(1/67)




يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
التفسير : بعد أن دعا اللّه عباده جميعا إلى الإيمان به ، وأنكر على الكافرين كفرهم مع قيام الآيات الشاهدة على قدرة اللّه ، وعلى سوابغ نعمه على الناس ، وعلى خلقهم من تراب ، وإخراجهم على تلك الصورة الكريمة من بين المخلوقات ـ بعد هذا خصّ بنى إسرائيل بالذكر مرة أخرى ، لأنهم أهل كتاب ، ولأنهم شهود بأن ما نزل على محمد هو من عند اللّه ، وأن محمدا هو النبىّ العربي المنتظر ، كما يعرفون ذلك من التوراة ، عن يقين.
ولكن اليهود مكروا بآيات اللّه ، وكتموا الحق الذي يعلمونه ، كما أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنهم بقوله : « الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ » (146 : البقرة)
__________________________________________________
(1) تجديد التفكير الديني فى الإسلام .. لمحمد إقبال ص 98.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 78

(1/68)




و النعمة التي أنعم اللّه بها على بنى إسرائيل ، هى بعث الرسل إليهم ، يحملون الهدى والنور ، ولكن القوم فى عمى وضلال ، وفى شغل بالدنيا لإشباع أطماع قاتلة مسلطة عليهم ، فكتموا ما أنزل اللّه ، لقاء عرض زائل منّتهم به أنفسهم ، من وراء تلك الشهادات المزوّرة التي يدفعون بها إلى كفار قريش ، فيما يسألونهم عنه من أمر « محمد » باعتبار أنهم أهل كتاب ، وأهل علم ، كما قال اللّه تعالى عنهم « أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا ، أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً » (51 ـ 52 النساء).
والعهد الذي دعا اللّه بنى إسرائيل إلى الوفاء به ، هو ما أخذه اللّه على أهل الكتاب ، وأهل العلم منهم خاصة ـ وهو أن يؤدوا هذه الأمانة ـ أمانة العلم ـ التي حملوها إلى الناس ، وألا يكتموا منها شيئا ، أو يحرفوها على غير الوجه الذي جاءت عليه .. كما يشير إلى ذلك قوله تعالى :
«وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا ، فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ » (187 : آل عمران) وكما يشير إليه أيضا قوله سبحانه : « وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ » (81 : آل عمران) والمراد بالنبيين هنا النبيون وأتباعهم ، فقد أخذ اللّه هذا الميثاق على النبيين ثم أخذه النبيّون على أتباعهم ، وبذلك يتناصر المؤمنون ، ويجتمعون على كلمة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 79

(1/69)




الحق ، وتحت راية الحق ، وإن تباعدت أوطانهم ، واختلفت أجناسهم.
الآية : (44) [سورة البقرة (2) : آية 44]
أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)
التفسير : والخطاب هنا خاص لبنى إسرائيل ، ولا تمنع خصوصيته من عموميته ، وبهذا يكون الخطاب لكل من يحسن القول ، ولا يحسن العمل ، ويندب الناس إلى الخير ، ويأمرهم به ، ولا ينظر إلى نفسه ، ولا يحملها على أخذ حظها من هذا الخير الذي يدعو إليه .. وفى ذلك ظلم للنفس ، وخسران مبين.
وقد ذمّ اللّه سبحانه من يسلك هذا المسلك المتناقض ، من الناس ، فقال تعالى :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ » والقول المراد هنا هو ما كان على طريق الحق والخير ، أما ما كان على غير هذا الطريق فالنكول عنه هو الخير والبر.
الآيتان : (45 ـ 46) [سورة البقرة (2) : الآيات 45 الى 46]
وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46)
التفسير : وهذه دعوة إلى المؤمنين ، الذين استجابوا اللّه والرسول ، من أهل الكتاب وغيرهم ـ أن يستعينوا على التزام الصراط المستقيم بالصبر والصلاة ، إذ أن هذين الأمرين ـ الصبر والصلاة ـ يمدّان المؤمن بالقوة التي تعينه على احتمال تكاليف العبادة ، ومشقة الجهاد ومدافعة شهوات النفس وأهوائها.
وقدّم الصبر على الصلاة ، لأنه مطلوبها الذي يعين عليها ، وعلى أدائها فى أوقاتها .. وفى هذا يقول اللّه تعالى مخاطبا النبي الكريم : « وَ أْمُرْ أَهْلَكَ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 80
بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها »
(

(1/70)




32 : طه) وخصّت الصلاة وحدها هنا بالذكر ، من بين العبادات ، لأنها رأس العبادات جميعها ، وملاك الطاعات كلها ، فمن أداها كاملة ، فى جلالها وخشوعها ، سلكت به مسالك الخير والهدى ، وحادت به عن طرق الضلال والآثام ، إذ يقول الحق سبحانه : « وَ أَقِمِ الصَّلاةَ ، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ » (44 : العنكبوت) وقوله تعالى : « وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ » الضمير هنا يعود على الصلاة ، وإنها لكبيرة ـ أي ثقيلة ـ إلا على ذوى القلوب المتفتحة للخير ، المتقبلة له ، أما ذوو القلوب القاسية المتحجرة ، التي لا تنضح بخير ، فأمرها ثقيل عليهم ، لا يأتونها ـ إن أتوها ـ إلا فى تكاسل ، وفتور ، أو فى تكرّه وتبرّم! والذي يفيض على القلب الخشية والخشوع ، هو الإيمان باللّه ، وبلقاء اللّه يوم الجزاء فى الآخرة ، فذلك هو الذي يثبّت خطو المؤمن على طريق الإيمان ، ويعينه على أداء الطاعات والعبادات! وفى قوله تعالى : « يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ » ـ فى هذا التعبير بالظن هنا ، إشارة دقيقة إلى أن الإيمان بالبعث وبلقاء اللّه إنما هو إيمان بالغيب ، لا يستند إلى مدرك حسّىّ ، ومن ثمّ كان الإيمان به واقعا فى دائرة الظن المستيقن ، أو اليقين المحفوف بالظن ـ ذلك هو أول درجات الإيمان ـ فإذا ما درج المؤمن فى طريق الإيمان ، مستعينا بالصبر والصلاة اطمأن قلبه ، وجلت عنه وساوس الظنون ، كما يقول سبحانه : « الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ، أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ » (28 : الرعد)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 81

(1/71)




و العطف بالواو بين الإيمان باللّه واطمئنان القلوب ، يبدو هنا وكأنه عطف بثمّ ، كما يبدو ذلك من نظم الآية ، ومن النّبرة الموسيقية لواو العطف بعد الواو فى الفعل « آمنوا » .. حيث يقوم فاصل زمنى بين النطق بواو العطف ، والتاء فى الفعل « تطمئن » .. هكذا : « آمَنُوا وَ .. تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ » .
الآيتان : (47 ـ 48) [سورة البقرة (2) : الآيات 47 الى 48]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

(1/72)




التفسير : هذه النداءات المكررة من ربّ العزة إلى هذا القطيع الشارد ، من بنى إسرائيل ـ إنما تشير إلى ما فى نفوس هؤلاء القوم من كنود ، وما فى طباعهم من جفاء وجماح ، وما ضمّ عليه كيانهم من جحود للإحسان ، وكفران بالنعم وليست هذه النداءات المتكررة إلا لإقامة الحجة عليهم ، ومظاهرة النذر لهم ، حتى إذا أخذوا بعنادهم وجماحهم كان أخذهم شديدا أليما .. ومن أجل هذا أخذهم اللّه بالبأساء والضراء ، وأوقع عليهم اللعنة ، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت ، فقال تعالى فى بنى إسرائيل : « فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ » (13 : المائدة) ويقول سبحانه : « ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ ، وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ » (112 : آل عمران)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 82
و أما قوله تعالى : « وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ » فالمراد بالعالمين هم أهل زمانهم المعروفون لهم من الأمم المجاورة ، إذ كانوا هم أهل كتاب ، وفيهم الرسل والأنبياء ، على حين كان جيرانهم وثنيين ، على كفر وشرك وضلال.

(1/73)




و ممّا يشهد لهذا أن موسى عليه السلام وهو رأس بنى إسرائيل فى الكرامة والفضل عند اللّه ـ كان بمنزلة تلميذ ، يتلقى العلم والمعرفة على يد عبد من عباد اللّه ، كما فى قوله تعالى : « فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً » . (65 ـ 66 : الكهف) ويشهد لهذا أيضا شهادة قاطعة ، قوله تعالى عن أمة الإسلام :
«كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ » (110 : آل عمران) .. فهذا حكم قاطع بالخيرية المطلقة لهذه الأمة ـ فى مقام الهداية ، وصدق الإيمان باللّه ـ على سائر الأديان ، وجميع الملل!
الآيات : (49 ـ 61) [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 61]
وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)

(1/74)




وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58)

(1/75)




فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 84
فى هذه الآيات الكريمات تفصيل لتلك النعم ، التي أنعم اللّه بها على بنى إسرائيل ، والتي جاء إجمالها فى قوله تعالى : « يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ، وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ » .
ومع تتابع هذه النعم السابغة ، وتوالى هذه الآلاء الكريمة ، فإن القوم لم يلقوا هذا الإحسان إلا بالكفران ، واللجاج فى العناد ، والمحادّة للّه ورسوله.

(1/76)




ينجيهم اللّه من فرعون ، وما رهقهم به من محن ، وما رماهم به من بلاء ، حيث كان يذبّح أبناءهم ، ويستحيى نساءهم بما يدخل عليهم من جنده من استخفاف بحرماتهن ، وهتك لأستارهن ، مما يجرح حياء المرأة ، ويغرق وجه الحرة بماء الخجل! ويكرم اللّه نبيهم موسى ، فينزله فى رحاب ضيافته أربعين ليلة ، يناجيه فيها ، ويوحى إليه بآياته وكلماته ... « وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ » والكتاب هو التوراة ، والفرقان من عطف الصفات ، فهو كتاب وهو فرقان ، يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، وما للّه وما لخلق اللّه! ولكن تأبى طباعهم النكدة أن تعلو إلى مشارف هذا النور ، بل هى رابضة على التراب ، ترعى مع البهائم ، وتهيم فى أودية الضلال .. فيتخذون من العجل إلها معبودا من دون اللّه! ويتلقّى هؤلاء المناكيد العقاب الطبيعي من اللّه ، فيأمرهم أن يقتلوا أنفسهم ، فتلك نفوس لا حرمة لها ، بعد أن نزلت إلى هذا المستوي الحيواني ، بل ونزلت عن هذا المستوي ، فوضعت جباهها تحت أقدام الحيوان ، تعفّر جبينها بالتراب عابدة ساجدة له.
ويتسلط القوم بعضهم على بعض ، ويضرب بعضهم رءوس بعض ، كما تتناطح الوعول ، أو كما تتناهش العقارب والحيات!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 85

(1/77)




و لا تنفع فى القوم هذه المثلات ، ولا تقوم لهم منها شواهد العبر والعظات ، وإذا الذين رحمهم اللّه منهم من هذه المحنة ونجاه من القتل لا يزالون فى ريبة من ربّهم ، وفى شك من معبودهم ، فيجيئون إلى موسى بهذا الطلب العجيب : « لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » وهم بهذا يكشفون عن بلادة حسّهم ، وطفولة مداركهم ، بحيث لا يتعاملون مع الحياة إلا بما يلامس حواسّهم ، ويجبه أبصارهم ، أمّا ما يستشفه الوجدان ، ويتمثله الحدس والخيال فليس لهم حظ منه ، ولا تجاوب معه .. إنهم لم يستطيعوا أن يروا اللّه فى آياته التي تبدو فى ظاهر الموجودات وباطنها ، أو أن يشهدوه فيما يجريه اللّه تعالى على يد موسى عليه السلام ، من معجزات ناطقة بقدرة اللّه ، وبسلطانه المتمكن فى كل ذرة من ذرات الوجود ، حتى لقد آمن سحرة فرعون بين يدى موسى من غير دعوة إلى الإيمان ، وهم منه فى وجه خصومة بادية وعداوة متحدية ، بل لقد اضطر فرعون إزاء سطوة المعجزة أن يقول : « آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل » .. ولكن القوم رجال فى مساليخ أطفال ، لا يكادون يخطون على طريق الهدى خطوة أو بضع خطوات حتى يتعثروا ويسقطوا فى التراب والوحل! وكان من إعناتهم لنبيهم موسى ، وإلحاحهم عليه ، فى ثرثرة كثرثرة الصبيان ، ولهفة كلهفة الأطفال ـ أن طلب موسى من ربّه أن يراه حتى يراه معه هؤلاء الأغبياء ، كما جاء فى قوله تعالى على لسان موسى :
«وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ ، قالَ لَنْ تَرانِي ، وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا ، وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً » (143 : الأعراف)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 86

(1/78)




و كذلك صعق القوم الّذين كانوا معه ، وكانت عدتهم سبعين ، وقع عليهم الاختيار ، ليكونوا شهودا عند القوم بأنهم رأوا اللّه جهرة! وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا ، فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ » (155 : الأعراف) وقد كاد يكون إجماع المفسرين على أن البعث فى قوله تعالى : « ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » ـ هو إحياؤهم بعد أن أخذتهم الصاعقة ، وأن كلمتى البعث والموت هنا مجازيتان فى مقابل اليقظة والنوم ، كما فى قوله تعالى « اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها ، فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى » (42 : الزمر) والأولى ـ عندى ـ أن يحمل المعنى على ظاهر اللفظ ، فيكون الموت موتا حقيقيا ، والبعث بعثا حقيقيا أيضا ، أي بعث الآخرة! ويشهد لهذا الوجه ، العطف بثم ، فى هذه الآية « ثم بعثناكم من بعد موتكم » كما يقوّيه أيضا ما جاء لسان موسى فى قوله تعالى مخاطبا ربّه : « لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ » ! فلو أنهم عادوا إلى الحياة مرة أخرى ، لما كان لموسى أن يسأل ربه ما سأل.
وأحسب أن الذي حمل المفسّرين على القول بإحياء القوم بعد أن أخذتهم الرجفة ، حتى أعيدوا إلى الحياة الدنيا مرة أخرى ـ هو قوله تعالى فى خاتمة الآية : « لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ » كأنّ استحقاق الشكر لا يكون إلا عن البعث الدنيوي ، وكأن البعث الأخروى ليس بالنعمة المستأهلة للحمد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 87

(1/79)




و الشكر ، وهذا غير صحيح ، فالحياة على أية حال من الأحوال خير من العدم واللّه سبحانه وتعالى يقول : « يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ » (52 : الإسراء) والمراد بالدعوة هنا الدعوة إلى الحشر ، التي يستجيب لها الأموات جميعا بالحمد للّه رب العالمين.
ثم إن مجى ء الآيات بعد هذا خطابا عاما لبنى إسرائيل ، معدّدة النعم التي أنعم اللّه بها عليهم ، مذكرة بالبعث بين عرض هذا النعم ـ فيه إيقاظ للشعور بيوم الجزاء ، والعمل له ، وتغليظ للمنكرات التي يقترفها القوم ، فى مواجهة هذه النعم الجليلة المتتابعة عليهم.
وفى قوله تعالى : « وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ ، وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى ، كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ، وَ ما ظَلَمُونا ، وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ » ..
عرض لبعض هذه النعم .. ففى التّيه الذي رماهم اللّه به فى الصحراء ، وكتبه عليهم أربعين سنة ، لم تتخلّ عنهم رحمة اللّه ، فساق إليهم الغمام ليظلّهم من وقدة الشمس ، ولفح الهجير ، وأرسل عليهم المنّ والسلوى ، طعاما لا يتكلفون له عملا ، فالمنّ مادة عسلية تفرزها بعض الأشجار ، والسلوى طيور طيبة الطعام هى السّمانى.
ولكن هذه الألطاف الرحمانية ، وهذا الطعام الطيب المسوق بقدرة اللّه ، المحفوف برحمته لم تستسغه هذه النفوس الحيوانية ، فعافته وتنكرت له ، وطلبت ما يملأ معدة الحيوان .. من بقل وقثاء ، وحنطة وعدس وبصل! ، فكان أن أجابهم اللّه إلى ما طلبوا ، وساقهم سوق الحيوان إلى المرعى الذي يجدون فيه الطعام الذي اشتهوا!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 88
«وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ ، فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً ، وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ، وَ قُولُوا حِطَّةٌ ، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ » .

(1/80)




و القرية التي دعوا إلى دخولها ، ليأكلوا منها حيث شاءت لهم أنفسهم ، هى قرية لم يذكر القرآن اسمها ، وإنما أشار إليها بقوله : « هذِهِ الْقَرْيَةَ » فهى معروفة للقوم ، ولعلها بيت المقدس ، كما يرى ذلك أكثر المفسرين ، ولعل مما يقوّى هذا الرأى أنهم أمروا بدخولها على صفة خاصة ، وبمراسيم محددة تؤدّى لها .. « ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً ، وَ قُولُوا حِطَّةٌ » .. هكذا ينبغى أن يكون دخولهم هذه القرية .. أن يدخلوا الباب ساجدين ، وأن يقولوا عند دخولهم : حطة لذنوبنا ، أي مغفرة لها ..
ومما يقوى الرأى بأن القرية المشار إليها هنا هى بيت المقدس ، أن بابها المأمور بدخوله فى هذه الآية قد ورد فى قوله تعالى : « قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ ، فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ » (23 : المائدة).
وفى قوله تعالى : « فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ، فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ » .
ما يكشف عما فى طبيعة القوم من عناد ، وإنه عناد الأطفال .. يأبون إلا ركوب رءوسهم ، والاتجاه إلى غير ما يوجّهون إليه ، ولو كان فى ذلك تلفهم وهلاكهم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 89
فهذه كلمات علوية سماوية من ربّ العزة ، جاءتهم على لسان نبى كريم :
«وَ قُولُوا حِطَّةٌ » .
ومع هذا فقد سوّلت لهم أنفسهم الخبيثة أن يغيّروا ويبدلوا من صور هذه الكلمات ، لا لشى ء إلا لإرضاء نزعة العناد الصبيانى فيهم ، وإشباع غريزة التخريب الطّفلى عندهم .. « فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ » إنهم لم يستطيعوا أن يحملوا أمانة الكلمة ، فكيف بأمانة العمل؟ ولهذا كانت الصفة الغالبة عليهم : نقض المواثيق ، والتحلل من العهود والعقود ..

(1/81)




و كان ذلك هو الوصف الملازم لهم فى القرآن الكريم : « يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ » (12 المائدة) « يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ، وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ ، وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ » : (27 : البقرة).
وقوله تعالى : « وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ ، كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ » .
تلك آية من آيات اللّه البينة ، ونعمة من نعمه الجليلة ، على هؤلاء القوم الشاردين عن موارد الحق والهدى .. تتحرق أكبادهم عطشا فى هجير الصحراء ، فتطلع عليهم رحمة اللّه ، فيما يتلقى موسى من أمر ربه : « اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ » فيتدفق الماء عذبا زلالا ، من اثنتي عشرة عينا ، بعدد قبائلهم.
وانظر كيف أبت عليهم نفوسهم المتبلدة الضيقة أن تتآلف جماعاتهم فى وجه تلك المحن التي يلاقونها فى هذا التّيه ، فتعيش كل جماعة منهم فى محيطها .. اثنتي عشرة جماعة!!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 90
هكذا قطّعوا أمما وهم فى هذا التيه ، وهكذا هم يقطّعون أمما فى الأرض ، ويتيهون فى الأمم والشعوب إلى يوم الدين.
وفى قوله تعالى : « فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً » إشارة إلى تدفق الماء بقوة وغزارة أكثر مما فى قوله تعالى فى سورة الأعراف « فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً » .. فالانبجاس دون الانفجار ، قوة وأثرا.

(1/82)




و هذا الاختلاف فى التعبير إنما هو لاختلاف الحال ، فحين ضرب موسى الحجر كان الانبجاس أولا ، ثم تلاه الانفجار .. فكل من الانبجاس والانفجار وصف لحال من أحوال ضربة العصا ، وأثر من آثارها .. وذلك وجه مشرق من وجوه الإعجاز ، فى التكرار الوارد على الأحداث ، فى القصص القرآنى ، كما سنعرض له ، بعد ، إن شاء اللّه.
وفى قوله تعالى : « وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ » .
حكم قاطع على هذه الجماعة الشاردة المعربدة ، بأن تشتمل عليها الذلة والمسكنة باطنا وظاهرا ، أي فى كيانها الذاتي ، وفى واقع الحياة المسلطة عليها ، فقد كان العقاب الطبيعي لهذا الغرور المستولى عليهم أن يقتل اللّه فيهم معانى الإنسانية الكريمة ، وأن يميت فى نفوسهم كل معالم القوة والرجولة ، ثم يسلّط عليهم ـ مع هذا ـ من خارج أنفسهم قوى تسيمهم الخسف والهوان ، كما يقول تعالى :
«وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ » (167 : الأعراف) .. وهذا هو معنى ضرب الذلة والمسكنة عليهم ، فالضرب بالشي ء على الشي ء ، هو إحاطته به واشتماله عليه ، كما تضرب الخيمة على من تحتها! وفى قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 91
بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ »
بيان لجرائمهم التي استحقوا عليها هذا العقاب الأليم .. فقد كفروا بآيات اللّه ، وجحدوا النعم التي غمرهم اللّه بها ، وغيّروا وبدّلوا فى كلمات اللّه ، حسب ما أملت عليهم أهواؤهم ، وسوّلت لهم أنفسهم ، ثم تمادوا فى كفرهم وضلالهم فمدوا أيديهم بالأذى إلى رسل اللّه ، الذين حملوا إليهم ما حملوا من نعم اللّه ، وبلغ بهم الأمر فى هذا إلى أن استباحوا دم بعض هؤلاء الأنبياء!.

(1/83)




و فى قوله تعالى : « وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ » ما يكشف عن طبعهم اللئيم ، الذي يرى الحق رأى العين ، فيكتمه وينكره ، ويقيم الباطل مقامه ..
فهم إذ يقتلون من قتلوا من الأنبياء ، يعلمون عن يقين أنّ هؤلاء الذين مدّوا إليهم أيديهم بالقتل ، هم أنبياء اللّه ، ولكن جاءوهم بما لا تشتهى أنفسهم ، وعلى غير ما كانت تراودهم به أحلامهم .. فالمسيح ـ مثلا ـ الذي وقفوا منه هذا الموقف اللئيم ، والذي دبروا له القتل صلبا ، إنّما أنكروه وأنكروا آياته المشرقة إشراق الشمس فى يوم صحو ، لأنه جاءهم بغير ما كانوا يحلمون به ، من مسيح بعيد إليهم ملك سليمان ، ودولته ، ويمكّن لهم فى الأرض على رقاب النّاس ، إذ جاءهم بالدعوة إلى التخلص من هذا الداء المتمكن فيهم ، وهو حبّ الحياة ، والاستكثار من متاعها .. فرفضوه ، ثم أنكروه ، ثم مكروا به ليصلبوه ، ولم تسترح أنفسهم إلا بعد أن أيقنوا أنهم صلبوه .. وفى هذا يقول اللّه تعالى : « أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ، فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ » (87 : البقرة).
واللّه سبحانه وتعالى يقول : « وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ » أي إلا بما يوجب قتلها ، كأن تقتل نفسا عمدا ، أو تحادّ اللّه ورسوله والمؤمنين .. ورسل اللّه لا يكون ذلك منهم أبدا ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 92
و أنهم إذا أنكر عليهم أحد أنّهم أنبياء ، فذلك أمره إليه ، ووزره واقع عليه ، ولكن إذا ذهب به هذا الإنكار إلى حدّ الاعتداء على النبىّ وقتله ، فإنه حينئذ يكون معتديا ، إذ قتل نفسا بغير الحق ، لأنها لم ترتكب ما يوجب القتل!.
آية (62) [سورة البقرة (2) : آية 62]

(1/84)




إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
التفسير : فى تعداد هذه النعم التي تفضل اللّه بها على بنى إسرائيل ما يوحى بأن فضل اللّه مقصور على جماعة بعينها من خلقه ، بل ربما أثار ذلك فى بنى إسرائيل شعورا بالتعالي على الناس ، كما سوّلت لهم بذلك أنفسهم ، وانطبع به سلوكهم فى الحياة!.
وتلك ضلالة وافتراء عظيم على اللّه ، فالخلق جميعا خلق اللّه ، والناس كلهم عباده ، خلقهم جميعا من نفس واحدة ، فكيف يكون بينهم تفاضل عنده ، بغير ما يستوجب الفضل ، ولا فضل إلا بالعمل الذي تختلف به موازين الناس. وتتباين به منازلهم عند اللّه؟
فالذين آمنوا ، أي الذين سبقوا بالإيمان ليس لهم أن يستأثروا برحمة اللّه ، وأن يحجبوها عن عباده الذين لم يؤمنوا بعد ـ بل رحمة اللّه واسعة ، وسعت كل شى ء ، وباب القبول للدخول فى رحابه مفتوح لكل قاصد!.
فأى إنسان ـ على أية ملّة ، وعلى أي دين ـ هو مدعوّ إلى رحاب اللّه ، فسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 93
فإن استجاب ، وآمن باللّه واليوم الآخر ، وعمل صالحا ، فله أجره عند اللّه ، يوفّاه كاملا ، كما يوفّاه المؤمنون جميعا ، من كل أمة ، ومن كل جنس! وهؤلاء المؤمنون جميعا ـ سابقهم ولاحقهم ـ لا خوف عليهم مما ينتظرهم من جزاء فى الآخرة ، ولا حزن لما فاتهم من طاعات حين لم يسبقوا إلى الإيمان ، فالإيمان يجبّ ما قبله!. وفى هذا ما فيه من رحمة واسعة من اللّه على عباده ، واستنقاذ لمن قصّروا وفرطوا ، ثم أرادوا أن يلحقوا أو يسبقوا.
(الآيات 63 ـ 66) [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66]

(1/85)




وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
التفسير : نعم ما أعظمها ، وما أولاها بالتلقى بالشكر والولاء للمنعم ..
ولكن أنّى للعمى أن يبصروا ، وللصمّ أن يسمعوا؟.
طلبوا إلى موسى آية يرون اللّه فيها ، فجاءتهم الآية منذرة مفزعة ..
رأوا الجبل الذي بين أيديهم يتحول إلى سقف مرفوع فوق رءوسهم ، لا يمسكه شى ء وظنوا أنه واقع عليهم ، ففزعوا إلى موسى يطلبون الخلاص والرجوع إلى اللّه ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ » (17 : الأعراف).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 94
و فى قوله تعالى بعد ذلك : « خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ » دعوة مجدّدة ، بعد هذه الآية المجدّدة ، إلى أن يقبلوا على اللّه ، وأن يشدّوا قلوبهم إلى الكتاب الذي أنزل إليهم ، وأن يذكروا ما فيه ، فلعلّ ذلك يحيد بهم عن طريق الضلال الهائمين فيه ، ويقيمهم على طريق الهدى الذي طالت غربتهم عنه.

(1/86)




و « لعل » هنا الدالة على الترجّى ، إنما يتوجه بها إلى المخاطبين ، وإلى ما عندهم من استعداد لهذا الخطاب ، فهم على رجاء من القبول ، أو التوقف ، أو النكوص على الأعقاب .. وهكذا كل صيغة رجاء واردة فى القرآن الكريم ، إنما هى للمخاطبين ولموقفهم من فحوى ما خوطبوا به وليس لهذا الترجّى متوجّه إلى اللّه ، الذي يرجى ولا يرجو.
والقوم هنا لم يستجيبوا لتلك الدعوة ، بل تولّوا ونكصوا على أعقابهم ، ولكن اللّه أمهلهم ، ولم يعجّل لهم العقاب ، كما وقع لأسلاف لهم من قبل .. خالفوا أمر اللّه واعتدوا فى السّبت ، فمسخهم اللّه قردة ، وأنزلهم من مرتبة الإنسان إلى مرتبة الحيوان ، فما أبشع تلك صورة وأخسّها ، يعيشون فى صور القرود بمشاعر الإنسان ، وإدراك الإنسان ، وذلك هو العذاب ، ولعذاب الآخرة أخزى وأوجع!.
ولنا أن نذكر هنا ، أن تحوّل هؤلاء الممسوخين من الإنسان إلى القرد يمكن أن يستأنس به فى بحثنا الذي عرضناه من قبل ، فى خلق الإنسان وفى تطوره فى الخلق ، وأن الإنسان كما انتقل صاعدا من قرد إلى إنسان ، كذلك ردّ نازلا من إنسان إلى قرد!.
ولعلّ فى قوله تعالى : « خاسِئِينَ » ما يقوّى هذا الرأى الذي ذهبنا إليه ..
إذ يقال فى اللغة : خسأ الكلب يخسأه خسأ : طرده ، وخسأ البصر
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 95
يخسأ خسوءا : كلّ وأعيا ، وخسئ الكلب يخسأ وانخسأ : انزجر وبعد ، والخاسئ من الخنازير والكلاب : المبعد المطرود.
ومعنى « خاسئين » مبعدين ، مطرودين من عالم الإنسان ، مردودين إلى عالم الحيوان ، وإلى فصيلة القردة منه ، التي هى أعلى مراتب الحيوان وأول مراتب الإنسان الحيوان!.
الآيات (67 ـ 74) [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 74]

(1/87)




وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)
وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 96
التفسير : وهذا موقف آخر من مواقف العنت والعناد ، من هؤلاء القوم مع اللّه ، ومع آيات اللّه ، حيث لا تزيدهم الآيات إلا كفرا ، ولا يزيدهم النور إلا عمى.

(1/88)




لقد قتل فى القوم قتيل فادّارءوا فيه : أي اختلفوا فى التعرف على قاتله ، إذ رمى بعضهم بعضا به ، ودفع بعضهم بعضا إلى موقف الاتهام فيه.
ولجأ القوم إلى موسى يسألونه آية تنطق القتيل باسم قاتله ، وهم يريدون بهذا أولا وقبل كل شى ء ، امتحانا لموسى ، واستيقانا من دعواه أنه رسول اللّه ، وكليم اللّه!.
وتجى ء آية اللّه من وراء ما يقدّر القوم ، فتدور لها رءوسهم ، وتضطرب لها عقولهم.
يقول لهم موسى ما أمره اللّه به : « إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً » ! ويذهل القوم ويدهشون! ما للقتيل والتعرف على قاتله وهذه البقرة التي يؤمرون بذبحها؟ المسافة كما تبدو فى ظاهر الأمر .. بعيدة جدا ، بين السؤال وجوابه ، وبين المطلوب والأسباب الموصلة إليه! ثم إنهم طلبوا آية ، فهل فى أن تذبح بقرة من البقر آية؟.
ويرى القوم كأن موسى يعبث بهم ، فيقولون له : « أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً » ؟
فيجيبهم : « أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ » ـ إن العبث لا يكون إلا عن جهل ، ولا يقع إلا من جهّال ، وهو نبى معصوم ، توجهه السماء ، فلا يضل ولا يهزل!! ولا يجد القوم فى هذا مقنعا ، ويذهب بهم جهلهم وحمقهم إلى أن البقرة المطلوبة ليست مجرد بقرة ، وإنما هى على أوصاف نادرة لا تتحقق إلا فيها ، حتى يمكن أن تتخلّق منها الآية التي طلبوها .. هكذا فكروا وقدّروا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 97
«

(1/89)




قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ؟ » لقد جمعوا بين الجهل والسفاهة ، فأبوا أن يقولوا « ادع لنا ربنا » وقالوا : « ادْعُ لَنا رَبَّكَ » وكأنه ربّ موسى وليس ربا لهم! ومع هذا فقد أجابهم اللّه إلى ما طلبوا : « قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ ، عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ » أي هى من أواسط البقر فى سنها ، ليست كبيرة ولا صغيرة .. والفارض هى التي ولدت مرات كثيرة ، والبكر ، التي لم تلد بعد .. فهى وسط بين هذين الطرفين.
وفى قوله تعالى : « فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ » تنبيه لهم .. إن كانوا يعقلون ..
أن ينتهوا عند هذا ، وألا يطلبوا وراء هذه الصفات صفات أخرى ..
ولكن يأبى القوم إلا أن يلبسوا بقرتهم أثوابا لا ترى على كثير من البقر ..
فعادوا إلى موسى يسألونه : « ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها » وفى كل مرة يقولون « ربّك » ولا يقولون « ربّنا » ويجيبهم الرحمن الرحيم إلى ما طلبوا : « إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ » ولم يدعهم فى هذه المرة إلى أن يفعلوا ما يؤمرون ، بل تركهم وما تختار لهم أنفسهم من ركوب هذا المركب الخشن ، حتى تحفى أقدامهم وتنهدّ قواهم! ويعودون إلى موسى مرة أخرى : « ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ ، إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا » !! والبقر هو البقر .. يشبه بعضه بعضا ، ولكنهم يريدونها بقرة لا شبيه لها .. بقرة خلقها الخالق لهذا المطلب ، ولم يخلق مثلها ..!
و يجيئهم أمر اللّه : « إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ ، وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ ، مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها » أي إنها بقرة لم يذللها العمل ، بل هى بقرة بريّة مرسلة ، لم تستخدم فى حرث الأرض ، ولا فى سقى ما يحرث من الأرض ، ثم هى بريئة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 98
من كل عيب يدخل عليها فى أعضائها ، أو فى لونها : « مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها » .

(1/90)




و هنا يجد القوم أن بقرتهم قد لبست أوصافا لا تكاد تقع إلا فى القليل النادر ، فيجدّون فى البحث عنها ، وهم سعداء بهذا الجري اللاهث وراءها ..
ويلقون إلى موسى بتلك الفرحة التي ملأت صدورهم ، قبل أن يعثروا عليها « الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ » !! الآن فقط! كأنه إنما كان فى كل ما جاءهم به من قبل عن هذه البقرة وغيرها ، ليس مما هو حق ، بل باطل وعبث! « فذبحوها ، وما كادوا يفعلون » أي أنهم لم يكادوا يجدون بقرة على تلك الصفة ، أو أنهم حين وجدوها صغرت فى أعينهم ، فكادوا ينصرفون عنها ، ويطلبون أوصافا أخرى لبقرة غيرها! فانظر كيف يستبدّ بهم اللجاج والعناد ، وكيف يوردهم لجاجهم وعنادهم موارد التّيه والضلال ، ولو أنهم امتثلوا ما أمروا به من أول الأمر ، وعمدوا إلى أية بقرة من البقر لكانوا قد أدوا ما أمروا به ، وكفوا أنفسهم مئونة هذا العناء.
وإذ يذبحون البقرة يفتحون أعينهم وأفواههم إلى موسى قائلين له : ماذا بعد ذلك؟ ويجيئهم الجواب :
«فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى ، وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »
.
ويضرب الميت ببعض لحم البقرة ، فتعود إليه الحياة ، وينطق باسم قاتله ، ثم يعود إلى عالم الموتى ، إلى يوم يبعثون! بقدرة اللّه قام هذا الميت ، وليس للبقرة ولا لذبحها وضربه ببعض لحمها علاقة بهذه الحياة التي عادت إليه ، فقدرة اللّه فوق الأسباب جميعها ، ولكن مطلوب من الناس أن يعملوا ، وأن يتحركوا إلى الغايات التي ينشدونها ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 99
و أن يعلموا أن الأسباب الظاهرة التي يتخذونها طريقا إلى المسببات ، ليست هى العاملة فى النتائج التي يحصلون عليها ، فقد يقدّر المرء أسبابا يراها منتجة لثمرة بعينها ، فيقع الأمر على خلاف ما قدر .. فالتلازم بين الأسباب والمسببات مرهون بإرادة اللّه ، وبقدرة اللّه.

(1/91)




و الملاحظ فى هذه القصة ـ قصة البقرة ـ أن النظم القرآنى لها ، قد قلب أحداثها ، فقدّم ما حقه التأخير ، وأخر ما من شأنه أن يقدم .. إذ أمر القوم بذبح البقرة بعد أن وقع حادث القتل ، وبعد أن تراموا بالتهم فيه ، ولكن ـ وكما يبدو من سياق النظم ـ أمروا بذبح البقرة أمرا يبدو كأنه لا لغاية يقصد لها ، ثم أخذوا فى اللجاج والتخبط إلى أن عثروا على البقرة التي استكثروا من أوصافها ، وذبحوها .. وهنا ، ولأول مرة ـ تتضح الصلة بين ذبح البقرة وهذا القتيل الذي يؤمرون بضربه ببعضها! وهذا لون من ألوان النكال بالقوم ، عقابا لعنادهم وكفرهم بآيات اللّه ، إذ يرمون بهذا التيه ، حتى وهم فى آية من آيات اللّه ، لأنهم سيمكرون بها كما مكروا بغيرها مما سبقها ، أو مما سيلحق بها ، وهذا ما أخبر اللّه سبحانه وتعالى عنه ، بعد تلك القصة مباشرة : « ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً » إنها قلوب لا تلتقى مع الخير أبدا ، ولا تنتفع به إذا هو طاف بها وطرق بابها!!
الآيات : (75 ـ 77) [سورة البقرة (2) : الآيات 75 الى 77]
أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76) أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 100

(1/92)




التفسير : فيما عرض اللّه سبحانه وتعالى من النعم التي أنعم بها على بنى إسرائيل ، ما قد يدخل منه على الشعور بأن القوم أهل لهذه النعم ، وأن اللّه قد اصطفاهم دون عباده ، إذ ساق إليهم تلك النعم وغمرهم بها ، ولكن الأمر على خلاف هذا ، فإنه ما ذكر القرآن نعمة أنعمها اللّه على بنى إسرائيل إلّا جاء بعدها التنديد بهم والوعيد لهم ، واللعنة عليهم ، بسبب مكرهم بآيات اللّه ، وكفرهم بنعمه ، وما زالت نعم اللّه تتوالى عليهم ، وما زالت نقمه تنصبّ عليهم ، حتى خرجوا من عالم الإنسان إلى عالم القردة والخنازير .. وهكذا ، على قدر النعم يكون الابتلاء ، فمن حفظها حفظه اللّه ، ومن ضيعها ضيعه اللّه!! وفى أعقاب قصة البقرة ذكر اللّه ما فى قلوبهم من قسوة دونها قسوة الحجارة وبلادتها ، وإنها لقسوة وبلادة أصبحت جبلّة وطبيعة فيهم ، بحيث تنقلت فى أجيالهم إلى أن التقت بعض ذراريهم بالدعوة الإسلامية ، وبصاحب الدعوة ، النبىّ الأمىّ ، الذي يجدونه مكتوبا عندهم فى التوراة والإنجيل .. وإذا هؤلاء الأبناء ليسوا خيرا من آبائهم ، وإنه لا مطمع فى استجابتهم للدعوة الإسلامية ، ولا رجاء فى انتفاعهم بها .. إنهم يمكرون بآيات اللّه كما مكر آباؤهم بها ..
يسمعون كلام اللّه ، ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ، أي إنهم يحرفون عن عمد ويضلون على علم ، وتلك هى قاصمة الظهر ، فلو أنهم حرّفوا عن سهو أو أخطأوا عن جهل ، لكان لهم وجه من العذر ، ولكنهم عن عمد حرفوا ، وعلى علم ضلّوا وأضلوا ..
ثم إن لهم مكرا آخر مع الدعوة الإسلامية ، عدا التحريف فيها ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 101

(1/93)




و التشويش عليها .. إنهم يلقون المؤمنين بوجه المنافقين ، يقولون لهم آمنا بما تؤمنون به ، وذلك منهم على سبيل الاستهزاء المتستر وراء نفاقهم المفضوح ، ثم إن لهم مكرا غير هذا المكر أيضا ، حين يخيل إليهم جهلهم أن دعوة الإسلام قائمة على خواء ، وأنها تتلمس من خارج محيطها القوى التي تسندها وتشدّها ، ولهذا فهم يتناجون ويتناصحون : ألا يتحدثوا إلى المسلمين بما عندهم من علم التوراة وأخبارها ، حتى لا يتخذ المسلمون من ذلك حججا يقيمونها فى وجه اليهود! وكذبوا وضلوا ، فما قامت الدعوة الإسلامية إلا على الحق ، فمن الحق منزلها ، وبالحق نزلت ، رحمة وهدى للناس!
الآيتان (79 ـ 80) [سورة البقرة (2) : الآيات 78 الى 79]
وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
التفسير : والقوم فريقان : عامة ، وخاصة ، أو أميون ، وعلماء .. والأميون ـ شأنهم فى كل أمة ـ مقودون لمقولات العلماء وأصحاب الفتيا فيهم ، فإن ضلّ العلماء أو انحرف المفتون ، عظم البلاء ، وعمّ الخطب ، فشمل الأمة كلها ، ولهذا أخذ اللّه الميثاق على العلماء أن يؤدّوا أمانة ما حملوا من علم ، فيفتحوا للناس طرق الهداية ، ويكشفوا لهم سبل الرشاد : « وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ (87 آل عمران) وعلماء بنى إسرائيل هم دعاة غواية وضلال فيهم ، لا يؤدّون أمانة العلماء بينهم ، بل يجيئون إليهم بالحق متلبّسا بالباطل ، وبالهدى مختلطا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 102

(1/94)




بالضلال. « يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ » .. « فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ »
الآيات (80 ـ 82) [سورة البقرة (2) : الآيات 80 الى 82]
وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)
التفسير : ولا يقف سفه اليهود عند حدّ ، فهم يفترون على اللّه الكذب ، إذ يتخذون لأنفسهم مكانا عنده ، تمليه عليهم أهواؤهم ، حتى لكأنهم بحيث لهم سلطان على اللّه ، ومشيئة فوق مشيئته.
قالوا : نحن أبناء اللّه وأحبّاؤه. فكان قول الحق لهم : « فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ » (18 : المائدة) « وَ قالُوا : لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً » فكان إنكار الحق عليهم بقوله : « أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ .. أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟ » وهذا القول من اليهود ليس بلسان المذنبين منهم ، ليهوّنوا على أنفسهم اقتراف المنكر ، واستساغة تعاطيه وإدمانه ، وإنما هو على لسان الشريعة التي افتروها على اللّه ، وخصّوا بها أنفسهم .. إن أشرارهم وعصاتهم لن يعاقبوا كما يعاقب سائر الناس ، وإنما ـ إذ كانوا يهودا ـ لهم حكم خاص ، فلا تنالهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 103
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 103

(1/95)




النار إلا مسّا ، ولأيام معدودة .. هذا هو حكم العصاة والمجرمين والملحدين منهم ، الذين غرقوا إلى أذقانهم فى الإثم والضلال!! وبهذا التفكير الآثم ، الذي أدخلوه مدخل الشريعة. استطاعوا أن يترضّوا أهواءهم ، وأن يشبعوا أطماعهم ، وأن يركبوا كل منكر ، ويأتوا كل قبيح ، فى جانب اللّه ، وفى حق الناس! وكلّا ، فإن المحسنين منهم ـ وقليل ما هم ـ يلقون جزاء الإحسان بالإحسان ، وإن المسيئين منهم ـ وما أكثرهم ـ فالنار مثوى لهم : « مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ ، وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ » .
هذا هو حكم اللّه ، يقضى به بين عباده : يهودا كانوا أو غير يهود ، والخطيئة التي تحيط بالإنسان وتحبط عمله هى الكفر باللّه ، نعوذ باللّه منه ، ولكن اليهود لا يرون فى اليهودىّ إذا كفر باللّه أن يلقى مصير الكافرين ..
لا لشى ء إلّا لأنه يهودى! وهذا هو الذي جعل اليهود يعزلون أنفسهم عن الناس ، ويحجزون أنفسهم عن الاختلاط بهم ، حتى يحتفظوا بهذا الامتياز المفترى ، الذي يرجع أولا وآخرا إلى النسب ، لا إلى الإيمان والتقوى! « وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً » (41 : المائدة)
آية : (83) [سورة البقرة (2) : آية 83]
وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 104

(1/96)




التفسير : هذا هو ميثاق اللّه الذي أخذه على عباده ، كما حملته شرائعه ، وبلغه رسله ، وهو الميثاق الذي أخذه اللّه على بنى إسرائيل. ولكن للقوم دون عباد اللّه جميعا موقف لئيم ماكر ، يكشفه قوله تعالى : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ » . فهم جميعا يلقون آيات اللّه معرضين عنها ، يلقونها غير آبهين لها ، ولا ملتفين بوجودهم كله إليها .. ثم إذا هم بعد ذلك فريقان : الفريق الأكثر الذي يكاد ينتظم الجماعة كلها ، لا يحتمل حتى هذا الموقف المنحرف مع آيات اللّه ، بل يولّى عنها ، معطيا ظهره إياها .. وفئة قليلة هى التي تستطيع أن تمسك نفسها على هذا الموقف المنحرف! إن أحسن اليهود حالا ، وأقربهم إلى اللّه ، لا يسكن الإيمان قلوبهم ، ولا تجد الخشية مكان الطمأنينة فى كيانهم ، إنهم على طريق معوج منحرف ، لا يستقيم بهم أبدا.
ومن إعجاز القرآن هنا أنه وصف اليهود الوصف الكاشف الملازم لهم ، فما وصفوا فى القرآن بوصف ينقض هذا الوصف فى أي حال ، وفى أي موقف ..
علماؤهم يبدّلون ويحرفون ويشترون بآيات اللّه ثمنا قليلا ، وجميعهم ـ عامة وعلماء ـ يحملون قلوبا قاسية ، هى كالحجارة أو أشد قسوة .. فسبحان من هذا كلامه .. « وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً » .
الآيات : (84 ـ 86) [سورة البقرة (2) : الآيات 84 الى 86]

(1/97)




وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 105
التفسير : وهذا ميثاق آخر أخذه اللّه على بنى إسرائيل : أن يحترموا حرمات الدماء والأموال ، فلا يسفك بعضهم دم بعض ، ولا يعتدى بعضهم على ما بيد بعض من أموال وديار .. وإذ كان هذا الميثاق عاملا ماديا يحرس أمنهم وسلامتهم ، فقد أقروا به ، وشهدوا آثاره حين استجابوا له ، وعملوا به ، فهو قانون يعطى ثماره عاجلة غير موجّلة.
وانظر كيف جاءت فاصلة الآية هنا : « ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ » حيث يقتضى الأمر تسليما ورضى به من كل إنسان ، إذ فيه أمنه وسلامته ..

(1/98)




على حين جاءت الفاصلة فى الآية التي قبلها ، وهى التي تحمل الميثاق بالإيمان باللّه واليوم الآخر ، والإحسان إلى الوالدين وذوى القربى والمساكين وابن السبيل ، والإحسان إلى الناس بالقول مع الإحسان إليهم بالعمل ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ـ جاءت الفاصلة هناك هكذا : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ » حيث لا تلقى هذه الدعوة استجابة ورضى إلا من قلوب متفتحة للحق ، ونفوس متقبلة للخير.
وحظ القوم ـ أعنى اليهود ـ من هذا وذاك قليل ، فلا يهشّون لمثل هذه الدعوة ، التي لا تضع بين أيديهم كسبا عاجلا ، وثمرا ناضجا!! ومع أن القوم أقروا بهذا الميثاق الذي يضمن لهم صيانة دمائهم وأموالهم ، وشهدوا آثاره الطيبة العاجلة فيهم ـ مع هذا ، فإنّهم سرعان ما تغلب عليهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 106
شقوتهم ، وتقهرهم نزواتهم الشريرة الكامنة فيهم ، فينقضون هذا الميثاق :
«ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ ، وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ ، تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ » .
ومن عجب هؤلاء القوم أنهم إذ يخرجون فريقا منهم من ديارهم ظلما وعدوانا ، فإنهم إذا وقع إخوانهم هؤلاء ليد أعدائهم وعرض عليهم فداؤهم من الأسر ، قبلوا ذلك ، وبذلوا لهم من أموالهم .. فكيف يلتقى هذا العمل الطيب ، مع العمل الردي ء الذي سبقه؟ كيف يضربون إخوانهم بأيديهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم ، ثم يعودون فيحررونهم من الرق ، إذا أسروا؟
و الأمر وإن بدأ متناقضا ، إلا أنه مستقيم مع طبيعة هؤلاء القوم ، التي تتحكم فيها الأنانية وحب الذات ..

(1/99)




فالأخوّة عندهم ليست أخوة على إطلاقها ، فى السرّاء والضراء ، وإنما هى أخوّة ما جلبت نفعا ذاتيا ، وحققت مصلحة خاصة ، أما إذا لم يكن ذلك من معطياتها فهى أخوّة ذئاب ، إذا جرح ذئب فيها لم يحملوه ، بل أكلوه! هذا شأنهم مع وصايا الرسل والأنبياء ، ومع كل ما يحمل إليهم من أمر أو نهى .. يتخيرون ما يرضيهم ، ويعرضون عما لا يقع منهم موقع الرضا والقبول ، على المستوي المادي ، وفى حدود الدائرة الذاتية ، التي يعيش كل منهم فيها بنفسه ولنفسه! ولهذا أنكر اللّه عليهم هذا الموقف اللئيم ، وتوعدهم عليه بقوله :
«أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ ، وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ ، وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ. »
و الخزي الذي ينالهم فى هذه الدنيا. هو من تبدل مواقفهم فى الأمر الواحد ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 107
حسب ما تمليه أحوالهم ، وتقتضيه ظروفهم .. يأخذ أحدهم بالأمر اليوم ، ثم إذا هو يردّه غدا ، ثم يعود إليه ، ثم يرده ، وهكذا .. وليس من ضابط لهذا إلا المصلحة الخاصّة ، والهوى الذاتي .. وهذا من شأنه أن يخزى الإنسان أمام نفسه ، إن كان على شى ء من الإحساس والشعور ، وإلا فهو الخزي الذي ترميه به العيون الراصدة ، لتقلّبه مع كل ريح .. وهذا هو أصل النفاق ، ذلك الداء المتمكن فى اليهود ، إنهم يتحركون دائما مع الريح المواتية لأهوائهم ، المشبعة لنهمهم ، دون التزام بمبدأ أو خلق ، ودون رعاية لشريعة أو دين!
(الآيات : 87 ـ 90) [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 90]

(1/100)




وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90)
التفسير : قصة بنى إسرائيل مع رسل اللّه ، تكشف عن العناد الصبيانى الذي تنطوى عليه طبيعة القوم ، فهم مع كل رسول مكرة معاندون ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 108
لا يجمعهم إليه رحم ، ولا يمسك بهم معه إيمان .. فما لقى منهم أنبياؤهم إلا البهت والتكذيب ، أو التطاول بالأذى والقتل ..
ومن أساليبهم الخبيثة فى قطع الوسائل بينهم وبين حملة الهدى إليهم من أنبيائهم ، أنهم إذا أعيتهم الحيل فيهم ، وفضحتهم الحجج معهم ، وضاقت عليهم سبل الإفلات من الآيات المشرقة التي تطلع عليهم من كل أفق ـ لا يتحرجون من أن يلصقوا بأنفسهم التّهم ويقولون فيما يقولون :
«قُلُوبُنا غُلْفٌ » !!.

(1/101)




هكذا هم حقّا ، ولكن القوم يقولونها بألسنتهم لا عن اعتراف بالحق ، ولا عن شجاعة فى كشف عيوب النفس بغية إصلاحها ، ولكن يقولون ذلك تخابثا واحتيالا ، ليتخلصوا من يد الحق المستولية عليهم ، ولهذا كان ردّ اللّه زاجرا قاتلا : « بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ » أي أنهم واقعون تحت لعنة اللّه ، فإذا آمن أحدهم فلا يخالط الإيمان كيانه ، وإنما يلمّ به إلماما ، وقد أشرنا إلى هذا فى تفسير قوله تعالى : « ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ » !.
إن الحق عند القوم ليس حقّا لأنه حق فى ذاته ، وإنما يكون حقّا يأخذون به ، ويلتزمونه ، إذا هو حقق لهم نفعا عاجلا ، وكسبا ذاتيا ، وإلا فهو باطل الأباطيل ، يسلقونه بألسنتهم ، ويرمونه بأيديهم .. هكذا هم فى قديمهم ، وكذلك هم فى حديثهم!.
كان علمهم من التوراة يحدثهم بأن نبيا سيظهر فى العرب ، وأن اللّه قد أخذ على الأنبياء ، وعلى أتباع الأنبياء ، الميثاق أن يكونوا مع هذا النبىّ إذا ظهر ، وجاءهم بكتاب مصدق لما معهم .. وقد تحدّث اليهود إلى العرب بهذا ، وبأنهم سينتصرون لهذا النبىّ ويكونون معه وبه قوة على العرب
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 109

(1/102)




المشركين .. فلما بعث اللّه محمدا صلى اللّه عليه وسلم وبدأ دعوته بعشيرته الأقربين امتثالا لقوله تعالى « وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ » (214 : الشعراء) وحين سبق إلى الإيمان به نفر من قومه ، تردد اليهود وتوقفوا ، ثم لما أن سبقهم الأنصار من الأوس والخزرج إلى الإيمان ، تنمّروا وتنكروا ، وأخذوا يمكرون بالدعوة الإسلامية ، ويظاهرون مشركى قريش عليها ، إذ أن سبق من سبق من المهاجرين والأنصار قد فوّت عليهم الاستيلاء على الدّعوة وحجزها فى محيطهم وحدهم دون الناس ، لأنهم يريدون أن يستولوا على كل شى ء ، ويستأثروا بكل شى ء ، فإن كان أمر لأحد معهم فيه نصيب أعلنوا الحرب عليه ، وحاولوا إفساده بكل سبيل ، حتى لا ينتفع به!.
ولهذا تشوه دعوة الإسلام فى أعينهم ويتحول الحق الذي عرفوه إلى باطل ، يأتمرون به ويحاربونه ، سرا وجهرا.
وقد سجّل اللّه سبحانه وتعالى عليهم هذا الموقف اللئيم فى قوله سبحانه :
«وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ ، وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا ، فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ. بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ » ..

(1/103)




إن الحسد ليأكل صدورهم ، وإن الشّره ليعمى أبصارهم ، حتى إنهم ليهلكون أنفسهم ، ويحرمونها موارد الخير ، لأن غيرهم قد سبقهم إلى هذا الخير ونال منه. وهو خير لا ينفد أبدا ، يسع الناس جميعا ، ومع هذا فهم يريدونه خالصا لهم من دون الناس ، لا ينال أحد شيئا منه .. وقد غضب اللّه عليهم غضبا بعد غضب ، غضب عليهم أولا ، لأنهم عرفوا الحق ولم ينصروه ، بل خذلوه ومكروا به وحاربوه .. وغضب عليهم ثانيا ، لأنهم نقضوا الميثاق
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 110
الذي أخذه اللّه عليهم فى الكتاب الذي بين أيديهم ، ثم حرّفوا فى كتابهم هذا وبدلوا ، واستباحوا حرمته ، وهذا كفر بكتابهم بعد كفرهم بمحمد وبما نزل عليه. وهذا ما جعلهم بمعرض من غضب اللّه ، حالا بعد حال ، ومرة بعد مرة!.
الآيات : (91 ـ 93) [سورة البقرة (2) : الآيات 91 الى 93]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

(1/104)




التفسير : كل حجّة كانت تقطع على القوم سبيل الإفلات منها ، كانوا يلقونها بوجه وقاح ، لاحياء فيه .. فمع علمهم بأن دين اللّه واحد ، ورسالات رسله تصدر جميعها عن هذا الدين ، فإنهم إذا دعوا إلى الإيمان بما أنزل اللّه على رسله لوّوا رءوسهم ، وقالوا : « نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا » !! كأنما يحسبون أن ما أنزل عليهم هو شرع شرعه اللّه لهم ، وخصهم به من دون الناس ، وجعل لهم به سلطانا على العباد .. وكذبوا وضلوا! فالكتاب الذي نزل على محمد يحوى مضامين ما أنزل على موسى وعيسى وما أنزل على النبيين جميعا ، ولهذا أمر أتباع محمد أن يؤمنوا بما أنزل على أنبياء اللّه ، كما يقول القرآن الكريم ، متوجها بهذا الأمر إليهم : « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 111
إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ »
:
(123 : البقرة) ومع هذا فهل آمن بنو إسرائيل بما أنزل عليهم حقّا؟ إذن فلم قتلوا أنبياءهم؟ ولم حادّوا اللّه ورسله مع الآيات البينات التي جاءتهم على يد الأنبياء؟
و لم عبدوا العجل بعد أن أراهم موسى من آيات ربّه ما تلين له الصمّ الجلاد! أ فهذا هو الإيمان ، وما يأمر به الإيمان؟.
وفى قوله تعالى : « قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا » وفى الجمع بين السمع والعصيان ما يشير إلى تلك الطبيعة اللئيمة المستقرة فى كيان القوم ، وهى أنهم لا يتقبلون الخير ولا يستقيمون عليه ، وأنه إذا نفذت إلى آذانهم دعوة الخير استقبلها من قلوبهم عواء مخيف ، يردّها عن أفقه ، ويصدها عن مورده : « سمعنا وعصينا » ! سمعنا بآذاننا وعصينا بقلوبنا!.

(1/105)




و فى قوله تعالى : « إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ » وتكرار هذا القول مرتين فى موقف واحد ـ فى هذا ما يكشف عن حقيقة هذا الإيمان الذي يدّعونه ..
فهو إيمان على دخل ، تختلط به خمائر الشك ، والنفاق .. وهذا إيمان لا يقبله اللّه ، ولا يدخل أهله فى زمرة المؤمنين به!.
الآيات (94 ـ 96) [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96]
قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 112
التفسير : إن الدعوى التي يدعيها بنو إسرائيل ، ليتخذوا منها مقنعا لهم وللناس ، من أنّهم أبناء اللّه ، وأنهم موضع رعايته واختصاصه إياهم بالرحمة والرضوان ـ هذه الدعوى مفتراة على اللّه ، أوردوا بها أنفسهم موارد الضلال والهلكة ..
وليس أدل على بطلان هذه الدعوى وفساد هذا المتعلّق الذي يتعلقون به ، من أنهم لو كانوا يؤمنون حقّا بصدق هذه الدعوى لكان تعلقهم بالدار الآخرة أكثر من تعلقهم بالحياة الدنيا ، ففى الآخرة نعيم لا ينفد أبدا ، وسعادة شاملة لا تدخل عليها شائبة من شقاء أو نصب .. ولكن القوم يتعلقون بالحياة الدنيا أشد التعلق ، وينفرون من كل أمر يقطعهم عن هذه الحياة ويصلهم بالآخرة ، أشدّ النفور .. « وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا » ..

(1/106)




فهم أحرص الناس جميعا بلا استثناء على الحياة ، حتى إنّ المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة ، ولا يرجون حياة بعد هذه الحياة ليس فيهم هذا الحرص على التمسك بالحياة التي يحرص اليهود عليها هذا الحرص العجيب .. « يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ » ليستوفى حطّه من الجمع والاقتناء .. « وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ » فليس له من هذا المصير مهرب ، وإن امتد عمره إلى آلاف السنين!.
الآيات (97 ـ 99) [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 99]
قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 113
التفسير : الحسد الذي أدّى ببني إسرائيل إلى الكفر ، وأوردهم موارد الهلاك ـ هذا الحسد قد جعلهم يحادّون اللّه علنا ، ويجهرون بالتطاول على ملائكته ، الذين يصدعون بأمره ، ويحملون رحمته إلى عباده .. فهم يعلمون أن جبريل ـ عليه السلام ـ هو حامل كلمات اللّه إلى الرسول الكريم ، وهم ـ مع علمهم هذا ـ يضمرون البغضة والعداوة لهذا الملك الكريم ، لأنه حمل رحمة اللّه إلى عبد من عباد اللّه ، وهم يرون أنهم أحق بهذه الرحمة وأهلها ، وأن اللّه هو إلههم وحدهم ، ورحمته مقصورة عليهم!! فكيف يحمل جبريل رحمة السماء إلى أرض غير أرضهم ، وإلى جنس غير جنسهم؟

(1/107)




و انظر إلى قوله تعالى : « مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ » حيث الشرط الذي يفيد العموم ، وهو يراد به بنو إسرائيل خاصة .. وفى هذا ما ينادى بأن هؤلاء القوم لا يحتاجون فى هذا المقام إلى وصف أو تخصيص ، فإذا ذكرت فعلة شنعاء دون متعلّق لها ، فإنها لا تعلق إلا بهم ، ولا تأخذ إلا بمخانقهم ، من دون الناس جميعا ، وإذا أطلقت صفة ذميمة على عمومها ، فإنها تحوّم وتحوّم ، ثم لا تسقط إلا على رءوسهم هم أولا.
وفى قوله تعالى : « فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ » توكيد لتمكن القرآن الكريم من كيان الرسول ، وأنه تلقاه سماعا من الوحى ، فإن هذا السماع ينفذ إلى القلب ، ويستقر فيه ، وحتى لكأن القلب هو الأذن التي تلقّت كلمات اللّه! أو لكأن الأذن هى قلب ، فى الحفظ والوعى لما تسمع!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 114
هذا ، وقد تعلق بعض المفسرين بظاهر اللفظ فى قوله تعالى : « نَزَّلَهُ » ففهم أن الوحى لم يكن من لفظ مسموع يلقيه جبريل إلى النبىّ الكريم ، وإنما كان إلهاما يجده الرسول فى قلبه ، فيتحدث به لسانه ، واستند أصحاب هذا الرأى إلى قوله تعالى للنبى الكريم ، فى آية أخرى : « لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ »
فقالوا : إن النبىّ كان حين يلقى إليه الوحى على هيئة خواطر فى قلبه ، يبادر فيشكلّها كلمات يجريها على لسانه فى عجلة ، مخافة أن تفلت منه ، أو تتغير هيئتها! وهذا الرأى قد فتح للمستشرقين وغيرهم بابا للقول ، بأن القرآن فى هيئته اللفظية ، ليس كلام اللّه ، وإنما هو من صياغة « محمد » ، حيث كان يصوغ الخواطر التي يتلقاها من الوحى ، فى الصورة اللفظية المناسبة.

(1/108)




و لهذا ـ كما يقولون ـ جاء القرآن أنماطا مختلفة من الأساليب ، بعضها ممتد النفس ، هادى ء ، ليّن ، وبعضها متقطع الأنفاس ، صارخ عنيف .. وذلك حسب حال النبىّ ، وما تثيره الخواطر المتنزلة عليه .. وعلى عكس هذا لو كان القرآن لفظا ومعنى من عند اللّه ، فإنه يكون نمطا واحدا ، لا يتأثر بالعوامل النفسية الإنسانية ، التي يكون عليها النبىّ حين يتصل بالوحى .. وهذا جهل أو تجاهل ، بالحق الواضح ، إذ أن كلام اللّه الذي يخاطب به عباده ، إنما يبلغ آثاره فيهم ، إذا جاء على أنماط كلامهم ، وجرى على أساليب بيانهم ، فلان فى مواضع اللّين ، واشتدّ فى أحوال الشدة ، وهذا ما عبر عنه علماء البلاغة فى وصفهم للكلام البليغ ، بأنه : المطابق لمقتضى الحال.
وهذا القول إنما يقوله من المستشرقين من يسلّمون لمحمد بالنبوة والرسالة.
أما من لا يؤمنون بالوحى ، ولا يعتقدون فى الرسالات السماوية فيقولون :
إن القرآن ـ لفظا ومعنى ـ هو من عمل محمد!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 115
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 115
و فى قوله تعالى : « وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ » توكيد لما نزل على النبىّ من قرآن ، وآيات بينات ، منزلة من اللّه ..
وفى قوله سبحانه : « وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ » تهديد لليهود ، ووعيد لهم ، على كفرهم وفسقهم .. فهم الكافرون الفاسقون .. كفروا بمحمد ، وفسقوا عن دينهم الذي كانوا عليه ، أي خرجوا عن دينهم ، حين أنكروا ما فيه من أمر محمد ورسالته.
الآيات : (100 ـ 103) [سورة البقرة (2) : الآيات 100 الى 103]

(1/109)




أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)
التفسير : نبذ العهود ونقض المواثيق ، هو الطبيعة الغالبة على بنى إسرائيل ، لا فرق فى موقفهم هذا مع الناس ، أو مع اللّه! ذلك لأنهم لا يؤمنون بالمبادى ء
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 116
و القيم ، ولا يتقيدون بقيد الفضيلة والشرف ، لما يغلب عليهم من أثرة قاتلة ، وأنانية متحكمة ، يستبيحون بها كل شى ء ، وينزلون بها عن كل شى ء ، من خلق أو دين.

(1/110)




و فى قوله تعالى : « نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ .. » حيث عدل عن التعميم إلى التخصيص ، فى قوله « الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ » بدلا من « منهم » ـ فى هذا ما يشير بأن علماء القوم وأهل الذكر فيهم ، هم الذين يتولّون هذا الإثم العظيم ، وينبذون كتاب اللّه وراء ظهورهم ، بالخلاف عليه ، والتحريف فيه ، عن علم ، و«كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ » ! ولو أن هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل قد انتهت جريمتهم عند هذا المكر بكتاب اللّه والخلاف عليه ، مع ما فى هذا العمل الآثم من شناعة وفظاعة لكانت مصيبتهم مصيبة واحدة ، وإن غلظت وعظمت ، ولكنهم إذ وقفوا من كتاب اللّه الذي بين أيديهم هذا الموقف ، راحوا يتعاملون مع الأباطيل والتّرهات ، مما كانت تلقيه الشياطين على ملك سليمان ، وهى خاضعة لسلطانه ، من صور الأعمال الخارجة عن قوة البشر .. فلقد تعلق القوم بها ، وتمسّحوا بما يرجف به المرجفون عنها ، من شعوذات ، ابتغاء الوصول إلى شى ء من تلك القوى التي تملكها الشياطين ، ليتسلطوا بها على العباد ، وليجنوا من ورائها الربح المادىّ الذي يحلمون به! ولهذا كثر فى بنى إسرائيل الأنبياء الكذبة ، الذين طلعوا فيهم من كل ناحية ، والذين حدّثت التوراة عنهم ، وحذّرت منهم ، ولكن القوم اتبعوا هؤلاء المتنبئين الأدعياء ، وكفروا بأنبياء اللّه وبهتوهم.
وفى قوله تعالى : « وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا » احتراز عن فهم خاطئ لاستخدام الشياطين ، التي لا يحمد لها قول أو عمل ، وذلك أن سليمان كان يضبط أعمالها على الوجه المحمود ، الذي لا يخرج بها عن طريق الحق
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 117
و الخير!! أما هؤلاء القوم فإنما يبتغون من وراء تسخيرها التسلط على الناس ، ووضع مقدّراتهم تحت أيديهم ، حيث يتعلمون منهم أبوابا من الحيل ، وأشتاتا من المكايد.

(1/111)




و القوم إنما يلتمسون الباطل من كل وجه ، ويصيدون الضلال من كل أفق ، فهناك غير ما ألقت به الشياطين على ملك سليمان ، وما تركته من آثار أفعالها ـ هناك كان لملكيين أو ملكيين ـ بكسر اللام ـ اسمهما هاروت وماروت ، حديث إلى الناس فى بابل ، وفى هذا الحديث ضروب من السحر والحيل ، كانا يكشفان أمرها للناس ، على سبيل الابتلاء والاختبار ، حيث يقولان لكل من يستمع إليهما : « إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ » ! وللّه سبحانه وتعالى أن يبتلى عباده بما يشاء من الشر والخير ، كما يقول سبحانه. « وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً » : (35 : الأنبياء) ، ولقد ابتلى اللّه سليمان عليه السلام بتلك القوى القاهرة التي وضعها بين يديه ، لينظر كيف يكون أمره معها ، وفى هذا يقول اللّه سبحانه على لسان سليمان : « هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ » (40 : النمل) فهذا الذي كان من فعل الملكين ـ بفتح اللام أو بكسرها ـ إنما هو من قبيل الابتلاء. وقد عمد القوم إلى تلك الآثار التي خلّفها الملكين من ضروب السحر والحيل فجعلوها أسلحة فتك ودمار ، وأدوات تهديد وتبديد للناس ، لم يتعلموا منها إلّا ما هو بلاء ونقمة ، كما يقول تعالى : « فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ » أي ما يشيع الفرقة والتفكك فى المجتمع ، وما يفصم أواصر المودة والأخوة بين الناس! حتى بين ألصق الناس بعضهم ببعض ..
المرء وزوجه! وهذا الذي يتلقاه هؤلاء العلماء من بنى إسرائيل ، من قوى السحر ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 118

(1/112)




ليس بالذي يؤثّر أثره تلقائيا ، وإنما شأنه شأن كل قوة فى الوجود .. هو خاضع لأمر اللّه ، ماض بحكمه وتقديره : « وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ » فماهم إلا أدوات كأدوات السحر التي فى أيديهم ، وما تلك الأدوات وأفعالها إلا محنة وبلاء عليهم ، حيث تعلق آثامها بهم ، وينسب شرها إليهم ، وفى هذا يقول سبحانه : « وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ » فذلك هو محصّل القوم من هذا العلم الذي تعلموه : الشرّ المحض الذي لا نفع معه : « وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ » فهم وإن حققوا نفعا عاجلا فى هذه الدنيا بهذا السّحر الذي تعلموه ، فإنهم لا يمسكون من هذا السحر فى الآخرة إلا بما يحزن ويسوء! « وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ » .
الآيتان (104 ـ 105) [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
التفسير : الكلمة المنافقة على ألسنة المنافقين ، هى سلاح من أسلحة العمل فى سبيل الغايات الخسيسة التي يعملون لها ، ولهذا كان اليهود أبرع الناس فى هذه التجارة الخاسرة ، تجارة النفاق ، بالكلمة ، وبالعمل .. معا.
سمعوا المسلمين يهتفون برسول اللّه ، تقرّبا : « راعنا يا رسول اللّه » ، أي ضمّنا إليك ، واجعلنا تحت رعايتك .. فحرفوا الكلم عن مواضعه ، شأنهم فى ذلك مع كلام اللّه ، ومع كل طيب من الكلم ، تأبى نفوسهم إلا أن تمجّه ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 119

(1/113)




و تأبى ألسنتهم إلا أن تلتوى به ـ فجعلوا « راعنا » « راعنا » بالتنوين ، يريدون بها صفة ذم ، من الرعونة والطيش ، ينطقون بها فى خبث تلتوى به ألسنتهم ، حتى لا ينفضح أمرهم ، ولا يجد من يعلم خبيئة أنفسهم ، وسوء مكرهم ، السبيل إلى مؤاخذتهم .. هكذا المنافق ، حريص حرص الغراب ، حذر حذر الضبّ ، ناعم نعومة الحية!.
ولإبطال هذا المكر السيّ ء ، نبّه اللّه المؤمنين إلى أن يستبدلوا بكلمة « راعنا » كلمة « انظرنا » ، حيث لا يجد اليهود سبيلا إلى هذه الكلمة ، بالتحريف الماكر! وقد ذكر القرآن الكريم هذا الموقف اللئيم الذي يقفه اليهود من الحديث مع رسول اللّه ، وتعاملهم بالكلمة المنافقة معه ، فقال تعالى :
«مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا » (46 : النساء).
وانظر كيف نفاقهم .. تصرح ألسنتهم بالكلمة الطيبة ، ثم تخطفها قلوبهم ، بالكلمة الخبيثة .. فإذا قالوا جهرا : « سمعنا » قالوا سرا : « و عصينا » ! وإذا قالوا وأسمعوا : « اسمع » قالوا ولم يسمعوا : « غير مسمع » ! يدعون على النبىّ بالصمم .. وإذا قالوا « راعنا » نطقوا بحروفها الأولى نطقا سليما ، حتى إذا بلغوا مقطعها الأخير ، اضطربت ألسنتهم بالنون فجاءت بين المدّ والتنوين! وقد كان الأولى باليهود ، أهل الكتاب ، أن يدعوا الناس إلى اللّه ، وأن يسعدوا بهداية الناس إلى طريق الحق والهدى ، ولكن الأثرة التي تملك
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 120

(1/114)




عليهم وجودهم ، تجعلهم يتمنّون لعباد اللّه الضلال والكفر باللّه ، حتى لا يدخل إلى رحاب اللّه أحد غيرهم ، حسبما يقدّرون ويزعمون! ولهذا فقد جمعهم اللّه مع المشركين من كفار قريش فى هذا الموقف ، إذ يقول سبحانه : « ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ » وأول هذا الخير وأعظمه ، هو هذا القرآن الكريم ، وما يحمل من صنوف الخير وألوان النعم.
الآيات (106 ـ 110) [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107]
ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107)
النسخ : معناه ومتعلقه مسألة النسخ فى القرآن الكريم من الأمور التي كانت ولا تزال مثار جدل وخلاف بين علماء المسلمين ، كما أنها كانت ولا تزال داعية تخرّص وتقوّل على القرآن .. من أعداء الإسلام.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 121
و بكلمة واحدة نخرس أولئك الذين يتربّصون بالقرآن وأهله ، ثم نتركهم فى غيظهم وكيدهم ، لننظر فى هذا الخلاف الذي بين المسلمين فى أمر النسخ.
والكلمة التي نقولها لأعداء هذا الدين هى قوله تعالى فى كتابه الكريم :
«إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ » (9 : الحجر).

(1/115)




فهذا التحدّى القائم عليهم بحفظ اللّه تعالى للقرآن ، هو مقطع القول فيما بينهم وبين القرآن .. فإذا استطاعوا أن يبدلوا حرفا أو يغيروا كلمة ، أو يزيلوا آية من كتاب اللّه ـ كان لهم أن يقولوا فى هذا الكتاب ما يحلو لهم ، من تشنيع عليه ، واستهزاء به .. وهيهات هيهات .. فقد ذهبت سدى جميع المحاولات التي بذلها أعداء الإسلام ، منذ قام الإسلام إلى اليوم ، ليشوهوا وجه هذا الدين ، بالتشويش على كتابه ، والتشكيك فى صحته!.
أما الخلاف الذي بين المسلمين فى أمر النسخ فقد وقع نتيجة للاختلاف فى فهم الآية الكريمة : « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » .
فالذين قالوا بوجود « النسخ » فى القرآن ، وأخذوا بمنطوق هذه الآية ، دارت أعينهم فى كتاب اللّه ، يلتمسون مصداق هذه الآية ، ويستخرجون لها الشواهد لآيات منسوخة بآيات ناسخة .. وقد وقعت أنظارهم على آيات يمكن أن تفسّر عليها تلك الآية الكريمة .. فكان النسخ عندهم أمرا لا بد من وقوعه فى القرآن ، إذ نطقت به آية كريمة من آياته.
والذين لم يفهموا الآية على هذا الوجه ، فلم يروا فى القرآن ناسخا ولا منسوخا ـ هؤلاء جعلوا للآيات التي قيل إنها منسوخة ، وجها من التأويل ، بحيث يبقى حكمها كما بقيت تلاوتها ..
وهذا إجمال يحتاج إلى شى ء من التفصيل.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 122
فأولا : ما هو النسخ؟
يجى ء النسخ بمعنى المحو والإزالة ، وذلك كما فى قوله تعالى :
«وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ » (52 : الحج).

(1/116)




و يأتى النسخ بمعنى النقل من موضع إلى موضع ، ومنه نسخت الكتاب أي نقلت ما فيه إلى كتاب آخر .. قالوا : ولا يقع هذا المعنى من النسخ فى القرآن .. إذ نقل الآية أو الآيات من كتاب إلى كتاب لا يسمّى نسخا بالمعنى الذي يفهم منه إزالة حكم الآية أو تلاوتها ..
ويأتى بمعنى التبديل ، كما فى قوله سبحانه :
«وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ » (101 : النحل).
هذا هو النسخ فى لسان الشرع ، وهو فى اللغة قريب من هذا ، فيقال :
تناسخ الشيئان : إذا حلّ أحدهما محل الآخر ، كما يتناسخ الليل والنهار ، ويقال تناسخت الأزمنة : أي تبع بعضها بعضا ، ومنه تناسخ الأرواح ، بمعنى انتقال الروح من بدن إلى بدن ، عند من يعتقد هذا المذهب.
وثانيا : ما هو المنسوخ؟
اختلف العلماء فى المنسوخ ، فقيل هو ما رفع تلاوة تنزيله ، كما رفع العمل به. وردّ هذا القول بأن اللّه نسخ التوراة والإنجيل ، وهما متلوّان.
وقيل لا يقع النسخ بمعنى الرفع فى قرآن نزّل ، وتلى ، ذلك أن القول بأن من القرآن ما نزّل وتلى ثم رفع بالنسخ ـ فيه تعسّف شديد ، ومدخل إلى الفتنة والتخرص.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 123
فإذا ساغ أن ينزل قرآن ، ويتلى على المسلمين ، ثم يرفع ، ساغ لكل مبطل أن يقول أي قول ، ثم يدّعى له أنه كان قرآنا ثم نسخ .. وهكذا تتداعى على القرآن المفتريات ، والتلبيسات ، ويكون لذلك ما يكون من فتنة وابتلاء.
ثم من جهة أخرى. ما حكمة هذا القرآن الذي ينزل لأيام أو لشهور ، ثم يرفع ، فلا يتلى ، ولا يعرف له وجه بعد هذا؟ أ يكون ذلك الرفع بقرآن يقول للناس :
إن آية كذا رفعت تلاوتها ، فلا تجعلوها قرآنا يتلى؟ أم أن هذا النوع من النسخ يقع بمعجزة ترفع من صدور الناس ما قد حفظوا من هذا القرآن المنسوخ؟

(1/117)




و إذا رفع بتلك المعجزة ، فهل تكون معجزة أخرى يرفع بها ما كتب بأيدى كتاب الوحى بين يدى النبىّ؟ وإذا رفع من الصدور أو من الصحف المكتوبة بمعجزة من المعجزات ، فما الذي يدلّ على أن قرآنا كان ثم رفع؟
إن هذا القول مسرف فى البعد عن مجال المنطق والعقل! وثالثا : هل فى القرآن نسخ؟
كثر علماء المسلمين على أن فى القرآن نسخا ، وأن هناك آيات ناسخة وأخرى منسوخة بها.
ومعرفة الناسخ والمنسوخ ودراستهما ، مما اهتم له العلماء والفقهاء ، وجعلوه أصلا من أصول الدراسات القرآنية ، ومجازا من المجازات التي يدخل بها العالم أو الفقيه فى جماعة العلماء والفقهاء. فمن لم يعرف ناسخ القرآن ومنسوخه ، فلا مدخل له فى باب العلماء والفقهاء.
وقد استند القائلون بالنسخ فى القرآن إلى قوله تعالى : « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » .
وقد أسعفهم النظر فى آيات القرآن الكريم بشواهد تؤيد ما ذهبوا إليه من القول بالنسخ.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 124
و من أمثلة هذا آية الوصية ، وهى قوله تعالى : « كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ » (180 : البقرة).
فهذه الآية ، قيل إنها منسوخة بآية المواريث ، وقيل بحديث :
«ألا لا وصيّة لوارث » عند من يقول بنسخ القرآن بالسنّة ، وقيل منسوخة بالإجماع.
ومن أمثلة ذلك أيضا قوله تعالى :
«وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ » (240 : البقرة).
قيل : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :
«وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً » (234 : البقرة).

(1/118)




فقد كانت المرأة إذا مات عنها زوجها لزمت التربص بعد انقضاء العدة حولا كاملا ، ونفقتها فى مال زوجها ، وهذا هو معنى قوله تعالى : « مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ » فنسخ ذلك بالآية المشار إليها ، وصار تربصها أربعة أشهر وعشرة أيام ، ولها نصيبها المعروف فى الميراث.
وهكذا يعدّون الآيات المنسوخة والناسخة فى إحدى وسبعين سورة من القرآن الكريم « 1 » .
أما الذين يقولون بألا نسخ فى القرآن ، فيتأولون هذه الآيات ، ويعطونها الحكم الذي تضمنته .. كما سنرى ذلك بعد قليل.
__________________________________________________
(1) الإتقان فى علوم القرآن للسيوطى جزء 2 ص 21.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 125
رابعا :
القول بألا نسخ فى القرآن :
يرى عدد غير قليل من العلماء أن النسخ فى القرآن ليس نسخا بمعنى إزالة الحكم ، كما ذهب إلى ذلك القائلون بالنسخ .. وإنما هو نسأ وتأخير ، أو مجمل أخّر بيانه ، أو خطاب قد حال بينه وبين أوله خطاب غيره ، أو مخصوص من عموم ، أو حكم عام لخاص ، أو لمداخلة معنى فى معنى. وأنواع الخطاب كثيرة ، فظنوا ـ أي القائلون بالنسخ ـ أن هذا نسخا ، وليس به ، وإنه ـ أي القرآن ـ الكتاب المهيمن على غيره ، وهو نفسه متعاضد » « 1 » .
وبهذا التحقيق يتبين ضعف ما لهج به كثير من المفسّرين فى الآيات الآمرة بالتخفيف من أنها منسوخة بآية السيف.
والواقع أنها ليست كذلك ، بل هى من النّسأ ، بمعنى أن كل أمر يجب امتثاله فى وقت ما ، لعلّة توجب ذلك الحكم ، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر ، وليس بنسخ ، إذ النسخ معناه الإزالة.
وتطبيقا لهذا الرأى ، نجد ألا تعارض ، ولا تناسخ بين الآيات التي تختلف أحكامها فى الأمر الواحد ، إذ أن كل حكم محكوم بحال خاصة به ، مقدرة له ، وعلة تدور معه وجودا وعدما.
فمثلا .. قوله تعالى :
«

(1/119)




يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ » (65 : الأنفال).
__________________________________________________
(1) انظر البرهان فى علوم القرآن للزركشى : جزء 2 ص 44.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 126
و قوله تعالى بعد هذا :
«الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ » (66 : الأنفال).
وليس بين الآيتين تعارض ، أو تناسخ ، وإن عرضا لأمر واحد ، واختلف منطوق الحكم فيهما.
فالآية الأولى تفرض على المؤمنين حكما فى فيها حال هم أهل للوفاء بهذا الحكم ، لما فيهم من قوة إيمان وثبات يقين .. فإذا كانوا فى تلك الحالة كان واجبا عليهم إذا التقوا فى ميدان الحرب بأعدائهم من الكافرين ـ أن يثبت العشرون منهم لمئتين من أعدائهم ، وأن تثبت المائة للألف.
فلما أن وقع الضعف فى المسلمين ، حين كثر عددهم ، ودخل فيهم من دخل ، وليس فيهم ما فى هؤلاء النفر القليل الكرام ، الذين سبقوا إلى الإسلام ، من كرم المعدن ، وصفاء الجوهر ، والتعرّف على الحق ، والبدار إليه ـ لمّا أن كان هذا من أمر المسلمين ، خفف اللّه عنهم ، وجعل أمرهم يسرا ، ففرض عليهم ألّا تفرّ المائة من المائتين ، ولا الألف من الألفين.

(1/120)




و انظر كيف كانت أعداد المسلمين فى الآية الأولى. « عشرون » و«مئة » ثم أصبحت فى الآية الثانية هكذا : « مئة » و«ألفا » .. وإن ذلك ليكشف عن المعنى الذي أشرت إليه من قبل ، وهو أن الضعف الذي عرض للمسلمين فى هذا الوقت المبكر من الدعوة الإسلامية ، وفى عهد النبوة ، لم يكن من جهة المسلمين السابقين إلى الإسلام ، فهؤلاء كانوا كلما مرّت بهم الأيام فى الإسلام ، وفى صحبة الرسول ، ازدادوا إيمانا مع إيمانهم ، ولكن الضعف الذي وقع ، كان على مجموع المسلمين ، حين كثر عدد الداخلين فى الإسلام ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 127
و لا شك أن هذه الأعداد الكثيرة التي دخلت فى دين اللّه أفواجا ، لم يكن لها جميعها من وثاقة الإيمان ، وقوة اليقين ما كان فى هذه الصفوة التي سبقت إلى الإسلام.
وطبيعى أنة إذا عادت حال المسلمين إلى الحال الأولى التي كانوا عليها قبل هذا الضعف ، عاد الحكم الأول ، فإذا ضعفوا لزمهم حكم الآية الثانية ، الذي لا ينبغى أن ينزلوا عنه أبدا ، حتى فى أضعف أحوالهم .. المائة تغلب المائتين ، والألف تغلب الألفين.
وفى هذا ما فيه من تكريم الإسلام والمسلمين ، ورفع درجة الجماعة الإسلامية بهذا الدّين ، حتى فى أنزل منازلها ، وأسوأ أحوالها.
«ما ننسخ من آية » :
و نعود إلى الآية الكريمة ، التي فتحت على المسلمين بابا فسيحا للتأويل ، ثم الخلاف فى هذا التأويل ، ثم الانتقال به إلى دائرة فسيحة فى القرآن ذاته.
حيث يقال عن آيات كثيرة إنها منسوخة حكما ، وإن بقيت تلاوتها.
وإذ ننظر فى الآية الكريمة نسأل أولا :
هل إذا جاء شرط فى القرآن الكريم .. أ يجب أن يقع هذا الشرط ، وأن يتحقق تبعا لذلك جوابه؟
و الجواب على هذا : أن ليس من الحتم اللازم أنه إذا ورد فى القرآن أسلوب شرطى أن يقع هذا الشرط ، وإنما الحتم اللازم هو ، أنه إذا وقع الشرط فلا بد أن يقع ويتحقق الجواب المعلق على وقوع هذا الشرط.

(1/121)




فما أكثر ما وردت أساليب شرطية فى القرآن غير مراد وقوعها ، وتحقيق جوابها .. ومن ذلك قوله تعالى ، لنبيه الكريم :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 128
«وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ » (116 : الأنعام) وقوله تعالى عن نبيه الكريم أيضا :
«وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ » (44 ـ 46 الحاقة) وقوله تعالى خطابا له : « لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ » (65 : الزمر).
فلم يقع شرط أي آية من هذه الآيات ، ولم يقع جوابها كذلك.
وعلى هذا ، يجوز فى الآية الكريمة « ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها » ـ يجوز ألا يقع شرطها وجوابها ، وتكون من قبيل القضايا الفرضية ، التي يراد بها العبرة والعظة.
والذي نأخذه من هذا ، أن النسخ الذي أشارت إليه الآية الكريمة ، ليس لازما أن يقع ، وإنما وقوعه أمر احتمالي ، يشهد له الواقع أو لا يشهد ، فإن شهد له اعتبر ، وإلا فلا.
وإذن فلا نستصحب معنا هذا الحكم ، الذي تقضى به الآية لو وقع شرطها وجوابها ـ لا نستصحب هذا الحكم ، ونحن ننظر فى الآيات التي يقال إنها ناسخة أو منسوخة .. بل ننظر فى تلك الآيات نظرا منقطعا عن كل تأثير لهذا المفهوم الذي فهمت الآية الكريمة عليه.
والآن ننظر فى آية النسخ نفسها ..
«ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها .. أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ » .. هذه الآية قد جاءت مع آيات كثيرة غيرها ، دفاعا عن أمر أراده اللّه للمسلمين ، وهو تحويل قبلتهم التي كانوا عليها ، من بيت المقدس إلى البيت الحرام.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 129

(1/122)




و هذا التحول كان حدثا كبيرا من أحداث الإسلام فى حينه ، كما كان فتنة وابتلاء لكثير من المسلمين ، ومدخلا كبيرا للطعن فى الدين ، والتشويش على المسلمين.
وكان من تدبير القرآن الكريم لهذا الأمر ، أن قدّم له هذه الآيات الكريمة ، قبل أن يقع ، لتكون إرهاصا به من جهة ، وقوة يستند إليها المسلمون فى دفع كيد اليهود ، ووسوسة الشيطان .. من جهة أخرى! واستمع لتلك الآيات الكريمات ، ثم استمع للأمر الذي جاء بعدها :
الآيات : (108) [سورة البقرة (2) : آية 108]
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)
فهذا الاستفهام الإنكارى : « أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ » ؟ والذي يتوجه به القرآن إلى المسلمين ـ فيه تحذير لهم من أن يكونوا مع النبىّ ، كما كان اليهود مع موسى ، كلما جاء بأمر لم يتلقوه بالامتثال والطاعة ، بل قابلوه بالحذر والريب ، وواجهوه بالأسئلة الكثيرة ، التي تنبى ء عن خبث طوية ، وفساد سريرة.
وتحويل القبلة إذا كان أمرا وشيك الوقوع ، وقد كان المسلمون يصلّون إلى بيت المقدس منذ سبعة عشر شهرا ، فإذا وقع هذا التحويل ، نزعت بهم نوازع كثيرة تدعوهم إلى التساؤل : فيم كنا؟ ولم هذا؟ وهل سنتحول عن القبلة الجديدة فيما بعد أم سنظل عليها؟ .. وهكذا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 130
ثم إن من وراء ذلك ، اليهود ، يلقون إلى المسلمين بما يفتح للشيطان طرقا كثيرة إلى قلوب لم يتوثّق فيها الإيمان بعد .. فكان هذا التحذير من قبل أن يقع هذا الأمر الذي من شأنه أن يثير شكا وتساؤلا ـ كان تدبيرا حكيما من حكيم ، ووقاية للمسلمين من داء أصيب به اليهود من قبل ، فعزّ شفاؤهم منه ، وطال شقاؤهم به. ثم يقول سبحانه بعد هذا :
الآيات (109 ـ 110) [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110]

(1/123)




وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
و هذا تحذير آخر من اللّه سبحانه ، من أن يستمع المسلمون إلى ما يلقاهم به اليهود عند وقوع هذا الأمر ، وهو تحويل القبلة إلى المسجد الحرام ـ من تلبيسات وتلفيقات وأكاذيب.
ثم هو تنبيه للمسلمين أن يمضوا إلى ما أمرهم اللّه به ، وأن يستقيموا على قبلتهم التي وجههم اللّه إليها ، غير ملتفتين إلى تخرصات المتخرصين ، وضلالات الضالين.
ثم يقول تعالى :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 131
الآيات : (111 ـ 113) [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113]
وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
«

(1/124)




1 » التفسير : هذا موقف من مواقف أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ إزاء المسلمين .. فاليهود يقولون : لا يدخل الجنة إلا من كان على اليهودية ، والنصارى يقولون : لا يدخل الجنة إلا من كان على النصرانية .. أي أن كل فريق منهما يرى أن دينه الذي يدين به هو الحق ، ولا دين حق غيره. وأن قبلته التي يصلّى عليها هى القبلة الحق ، ولا قبلة حق غيرها! .. وتلك أمانىّ وأحلام ، لا برهان عليها ..
إن دين اللّه واحد .. يلتقى عنده المؤمنون جميعا ، وتترجم عنه رسالات الرسل ودعوات الأنبياء جميعا ، فمن آمن باللّه وأسلم وجهه له ، دون التفات إلى سواه ، ثم استقام على طريق الحق ، فامتثل أوامر اللّه ، واجتنب نواهيه ـ من فعل ذلك فهو المؤمن حقّا ، الموعود من اللّه بالجزاء الحسن والجنة التي عرضها السموات والأرض ، أعدت للمتقين.
__________________________________________________
(1) بلى : جواب بالإيجاب عن النفي قبلها ، ولا تقع إلا بعد نفى ، ويكون ما بعدها مخالفا لما قبلها فى الحكم ، « و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى » فكان الجواب : بلى يدخلها « من أسلم وجهه للّه وهو محسن » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 132
و اليهود يقولون إن ما يدين به النصارى هو الباطل ، والنصارى يقولون فى اليهود مثل هذا القول .. وكل منهما يرجع إلى كتاب اللّه .. كما يقول اللّه تعالى : « وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ » .
وهذا يعنى أن الفريقين قد حرّفوا وبدلوا فيما بين أيديهم من التوراة والإنجيل ، وإلّا لما كان بين الفريقين هذا الترامي بتهمة الكفر ، إذ التوراة والإنجيل فى حقيقتهما على سواء ، فى الحق الذي نزلا به من عند اللّه ، ولهذا عبّر القرآن عنهما معا بالكتاب « وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ » فكأن التوراة والإنجيل كتاب واحد ، وإن اختلفا لغة ، وتباعدا زمنا.

(1/125)




و من قبيل ما يقوله كل من اليهود والنصارى فى رمى كل فريق منهما الآخر بالكفر ، ما يقوله المشركون عن كل ذى دين غير دينهم ، وقد وصفهم اللّه بأنهم « لا يَعْلَمُونَ » أي لا علم لهم من كتاب سماوى : « كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ » وإذا كان للمشركين عذر فى اتهام أهل الكتاب ورميهم بالكفر ، فإنه لا عذر لأهل الكتاب ، لأن المشركين يقولون ما يقولون عن غير علم ، على حين يقول أهل الكتاب ما يقولون عن علم ، أو ما ينبغى أن يكون عن علم!.
ثم يقول تعالى :
الآيتان : (114 ـ 115) [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115]
وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 133

(1/126)




التفسير : فى هاتين الآيتين تهديد ووعيد ، لأولئك الذين يحولون أن يحتجزوا رحمة اللّه فى دائرة مغلقة عليهم دون الناس جميعا ، والذين يتصورون أن ما بأيديهم وحدهم هو الحق الذي يسعهم وليس لغيرهم مكان فيه ـ هؤلاء يظلمون الحق ، ويظلمون أنفسهم ، ويظلمون الناس .. ذلك أن هذا القصور الخاطئ للحق يقيم فى كيانهم عصبية عمياء ، لا يرون معها إلا ذواتهم ، ولا يحسبون لأحد حسابا معهم ، ولا يرعون حرمة دين غير ما يدينون به ، ولو كان هو الحق من عند اللّه .. ولهذا فهم ـ مع هذا الشعور ـ لا يجدون حرجا فى أن يصدّوا الناس عن عبادة اللّه ، وأن يحولوا بينهم وبين مساجده ، بل وأن يعطلوا هذه المساجد ويخربوها!! واليهود يقومون بدور خطير فى هذا المجال ، بما يسوقون إلى المؤمنين من فتن ، وما يدخلون به عليهم من تلبيسات وضلالات ، تثير الحيرة ، والبلبلة ، وقد فعل اليهود هذا عند ما أمر اللّه النبي والمسلمين أن يتحولوا بقبلتهم إلى المسجد الحرام ، بعد أن كان المسجد الأقصى هو قبلتهم فى الصلاة ، فاتخذ اليهود من هذا الحدث مدخلا إلى الفتنة ، يلقون بها بين جماعة المسلمين ، وقد وصف اللّه اليهود بهذا الوصف الكاشف ، فسماهم السفهاء فى قوله تعالى :
«سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها » ؟
و فى قوله : « أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ » إشارة إلى أن هذا الجرم الذي يرتكبه المنافقون فى الكيد لبيوت اللّه لا يخليهم أبدا من شعور الخوف من افتضاح أمرهم ، وخاصة إذا دخلوا هذه المساجد ليستروا موقفهم منها ، وليرى الناس منهم أنهم من أهلها ، شأن المجرم يحوم حول جريمته ، وقلبه يرجف حوفا وفزعا.

(1/127)




و فى قوله تعالى : « وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ » ردّ مفحم على هؤلاء المنافقين الذين يحاولون أن يردوا المسلمين عن قبلتهم الجديدة ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 134
و أن يعملوا على خراب هذا المسجد والمساجد التي ستقام على سمته وتدور فى فلكه.
وفى قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ » ردّ أيضا على أولئك الذي أعمتهم الأنانية ، فحاربوا الناس فى كل موقع من مواقع رحمة اللّه التي لا حدود لها ، يصيب بها من يشاء من عباده ، حسب علمه وحكمته.
ثم يقول سبحانه :
الآيتان : (116 ـ 117) [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 117]
وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
التفسير : وهذه مقولة من مقولات أهل الكتاب ، تكشف عن زيغهم ، وترى أنهم ليسوا على الحقّ الذي يدّعون أنهم أهله دون الناس جميعا ، فاليهود يقولون : عزير ابن اللّه ، النصارى يقولون المسيح : ابن اللّه .. وتعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا ، له ما فى السموات والأرض ، كل ما فيهما مستعبد له :
«إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً » (93 : مريم) ثم يقول جل شأنه :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 135
الآيتان : (118 ـ 119) [سورة البقرة (2) : الآيات 118 الى 119]
وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119)

(1/128)




التفسير : وهذه مقولة أخرى لغير أهل الكتاب ، من مشركى قريش ، قالوا : « لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ » إنهم يأبون أن يعترفوا بوجود اللّه حتى يروه رأى العين ، كما قال بنو إسرائيل لموسى : « لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً » (55 : البقرة) .. فهكذا وساوس الشيطان تعبث بقلوب الناس وعقولهم ، فتفسد عليهم الرؤية الصحيحة للحق ، إلّا من عصم اللّه.
وفى قوله تعالى : « إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ » مواساة للنبىّ الكريم ، وتخفيف عليه ، مما يلقى من عنت قومه ، فما هو إلا رسول ، يبلغ ما أنزل إليه من ربّه ، فمن أبصر فلنفسه ومن عمى فعليها.
ثم يقول سبحانه :
الآيتان : (120 ـ 121) [سورة البقرة (2) : الآيات 120 الى 121]
وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 136
التفسير : هذا هو مقطع الفصل فيما تحدثت به الآيات السابقة ، عن الكيد الذي يكيد به أهل الكتاب ـ وخاصة اليهود ـ للنبىّ ولرسالته ، فى صدّ الناس عنه ، وإلقاء الشبه والضلالات بين يدى المسلمين .. إنهم لن يرضوا عن النبىّ ولن يهادنوه ، حتى يترك دعوته ، ويطوى رسالته ، ويدخل فيما هم فيه! « قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى » أي إن الهدى الذي بين يديك هو هدى اللّه ، وهو الهدى الذي لا هدى إلا به.
«

(1/129)




وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ » وهذا توكيد بأن ما مع النبي هو الهدى ، وأن العدول عنه إلى ما يدعو إليه أهل الكتاب من مخلقات أهوائهم ، هو البوار والهلاك.
وليس هذا مما ينتقص من الكتب السّماوية التي بين يدى أهل الكتاب ، فهى والكتاب الذي نزل على محمد ، سواء فيما تحمل إلى الناس من الحق والخير ، ولكنّ الأهواء هى التي أفسدت على أهل الكتاب أمرهم ، حين زاغت أبصارهم عن الحق ، فمكروا بآيات اللّه .. ولهذا فإن الذين يتلون منهم كتاب اللّه الذي بين أيديهم حقّ تلاوته ، لا يحرفون كلمه ، ولا يبغونها عوجا ـ هؤلاء يجدون أنهم والكتاب الذي نزل على محمد على طريق واحد ، وأنهم ملزمون بالإيمان به ، وأن من يكفر به فإنما يكفر عن عناد ، وعن علم ، وذلك هو الفسوق الذي يورد صاحبه موارد الضلال والهلاك.
ثم يقول سبحانه وتعالى :
الآيتان : (122 ـ 123) [سورة البقرة (2) : الآيات 122 الى 123]
يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 137
التفسير : وهذا تذكير لبنى إسرائيل بالنعم التي ساقها اللّه إليهم ، وأنه على قدر هذه النعم سيكون البلاء ، ويكون الحساب ، وقد مكر القوم بآيات اللّه ، وكفروا بنعمته ، فهم فى معرض النقمة ، إن لم يرعوا حقّ اللّه فيما آتاهم من فضله.

(1/130)




و فى قوله تعالى : « وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ » (123) وفى قوله سبحانه فى آية سابقة : « وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ » .
(48 : البقرة) فى هاتين الآيتين نظر ، حيث اختلف نظمهما على حين كان ينتظر ـ فى ظاهر الأمر ـ أن يجيئا على نسق واحد! ولكن للنظم القرآنى ، ولإعجاز هذا النظم ـ جاء هذا الاختلاف ، تقريرا للواقع ، ومراعاة لمقتضى الحال ، وتحقيقا للإعجاز الذي هو أمر لا انفكاك له ، فى كل آية من آيات الكتاب الكريم ، بل وفى كل كلمة من كلماته ، وحرف من حروفه.
ففى الآية (48) يتوجه الخطاب إلى أصحاب الرّيب والشناعات من بنى إسرائيل ، الذين يلبسون الحق بالباطل ، ويكتمون الحق وهم يعلمون ، والذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ، فكان من مقتضى الحال أن يحذروا من هذا اليوم الذي يعرضون فيه على الحساب ، حيث لا تجزى نفس عن نفس شيئا ، وحيث يتلفت المفلسون فى هذا اليوم إلى من يجيرهم ، ويمدّون أبصارهم إلى
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 138
من أخذ بيدهم ، فلا يجدون من يجير أو يغيث : « لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ » (37 : عبس) حيث لا تدفع نفس عن نفس مكروها ، وحيث لا يقبل منها شفاعة فى أحد ، وحيث لا يؤخذ منها فدية لأحد.
وقد جاء البذل فى هذه الآية معبرا عنه بقوله تعالى : « يُقْبَلُ » و«يُؤْخَذُ » لأنه مجلوب على سبيل الإحسان للمفلس المحتاج فى هذا اليوم ، فهى مجابهة للأشقياء ، فى مواجهة من يرجون عندهم العون والنصرة.

(1/131)




أما ما فى الآية : (123) فهو مواجهة صريحة للأشقياء بمعزل عمن يرجون نصرهم ، وبمنقطع عمن يطمعون فى الوقوف إلى جانبهم ، فإذا تعلق هؤلاء الأشقياء بالآمال الكاذبة وطمعوا فى أن يقع لأيديهم ما يفتدون به أنفسهم فلا فدية تقبل منهم ، وإذا تمنّوا أن يطلع عليهم من يشفع لهم فشفاعته غير مقبولة فيهم « فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ » : (48 : المدثر).
وبهذه الصورة من صور التيئيس ، والصورة التي قبلها يتم إغلاق دائرة اليأس عليهم ، فلا ينفذ إليهم بصيص من أمل ، ولو كان كاذبا! ثم يقول سبحانه :
آية : (124) [سورة البقرة (2) : آية 124]
وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
التفسير : اختلف فى معنى الكلمات التي ابتلى اللّه إبراهيم بها ، وتشعبت مذاهب المفسرين لها.
ولعل أعدل طريق وأقومه فى مثل هذا المقام أن نقف عند حدود اللفظ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 139
القرآنى ، ولا نتجاوزه إلى مقولات يناقض بعضها بعضا ، إن أخذ بأحدها كان ترك غيرها مجازفة لا يؤمن معها الخطأ ، وإن أخذ بها جميعا لم يكن للجمع بينها سبيل.

(1/132)




و هنا فى هذه الآية تجد أن بعضها يفسر بعضا ، وأن قوله تعالى : « قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » هو التفسير المناسب للكلمات التي ابتلى اللّه بها إبراهيم .. فالكلمات التي ابتلى اللّه بها إبراهيم هى قوله تعالى : « إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً » والإمامة وإن تكن نعمة وفضلا من اللّه ، فهى ابتلاء ، لما لها من أعباء ، لا يقدر على حملها والوفاء بها على وجهها إلا أولو العزم من النّاس ، وقد كان إبراهيم قدوة للناس فى قيامه على هذه الإمامة ، فنوّه اللّه به فى أكثر من موضع فى القرآن الكريم ، فقال : « وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى » (37 : النجم) أي وفّى الأمانة التي أداها على وجهها كاملة ، ويعضد هذا المعنى الذي نراه ، ارتباطه بما سبقه من الحديث عن أهل الكتاب ، وأنهم حمّلوا أمانات فضيعوها ، وخانوا اللّه وخانوا أنفسهم فيها.
وقوله تعالى : « قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي » يمكن أن يكون هذا استفهاما أو دعاء من إبراهيم ، بمعنى : أ هذه الإمامة له وحده أم هى ممتدة فى ذريته من بعده؟.
أو بمعنى : اجعل هذه الإمامة فى بعض من ذريتى. فكان جواب الحق جلّ وعلا : « لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » .. أي هذا عهد لا يمتد إلى الظالمين ، فمن سلم من ذريته من الظلم ، كان أهلا لأن ينضوى تحت هذا العهد ، ويأخذ ميراثه منه.
ثم يقول جل وعلا :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 140
آية (125) [سورة البقرة (2) : آية 125]
وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)
و هذا فضل من اللّه اختصّ به مكانا مباركا ، فجعله حرما آمنا ، يأوى إليه الناس ، فيجدون فى ظله السّكن والاطمئنان!.
والمثابة : المرجع ، يثوب إليه الناس ويرجعون.

(1/133)




و البيت. هو البيت الحرام بمكة ، وقد ذكر معرّفا هكذا : « البيت » إشارة إلى أنه واحد البيوت كلّها ، وأنه إذا ذكر « البيت » كان هو هذا البيت! .. البيت الحرام.
وفى قوله تعالى : « وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى » التفات من غيبة إلى حضور ، ومن خبر إلى أمر ، للتنويه بشأن هذا البيت ، وبالأمر المتعلق به.
وفى قوله تعالى : « وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ » التفات من أمر إلى خبر ، ليقوّى من شأن الأمر ، وليزيد فى ظهوره ، والعهد هنا ، معناه : التكليف والأمر .. وتطهير البيت : إعداده وتخصيصه للمؤمنين باللّه ، فلا يقربه مشرك ، ولا يطوف به ، ولا يعكف فيه إلا مؤمن خالص الإيمان.
ثم يقول سبحانه :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 141
آية : (126) [سورة البقرة (2) : آية 126]
وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

(1/134)




التفسير : وإذ جعل اللّه البيت الحرام مثابة للناس وأمنا ، وإذ جعله اللّه مقاما لإبراهيم ومصلّى للمؤمنين ، وإذ عهد إلى إبراهيم وإسماعيل بالقيام على هذا البيت وتطهيره من أن يلمّ به رجس ـ إذاك توجه إبراهيم إلى ربّه أن يبارك البيت وما حوله ، وأن يصيب البلد الذي يقوم حول هذا البيت ببعض نفحاته وبركاته .. هكذا الطيب يعبق ريحه ، فيطيّب الأجواء من حوله .. ومن شأن هذا البيت الطهور القدس أن يجد ريحه الطيب كلّ شى ء يدنو منه ، من إنسان وحيوان ونبات .. فأما كنه آمنة ، والناس فيها آمنون ، وحيوانها ونباتها آمن ، فلا يصاد حيوانها ولا يعضد شجرها ، « رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً » أمنا مطلقا يصيب كل شى ء .. « وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ » فهذا الرزق هو مما يكفل الأمن لأهله .. « مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ » .. وفى قول إبراهيم :
«بَلَداً آمِناً » ، وقوله فى آية أخرى فى سورة إبراهيم : « رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً » ما يشعر بأن بين « البلد » و«بلدا » فرقا .. وهذا ما يحدّث عنه التاريخ ، من أن إبراهيم كانت له عودة إلى البلد الحرام بعد أن ترك إسماعيل وأمه فيها .. فحين تركهما لأول مرة كانت غير معمورة ، فهى « بلد » لم يكتمل بعد ، فلما عاد إليها بعد مدة كانت قد أخذت تعمر فهى « البلد » ! وقد تأدب إبراهيم مع ربّه ، ونظر إلى قوله تعالى « لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ » فخصّ بدعائه هذا من آمن باللّه واليوم الآخر ، حيث لا مكان فى هذا البيت القدس لمن كفر باللّه ، ولكن رحمة اللّه تسع البرّ والفاجر ، ومن طبيعة الحياة ألا يستقيم فيها الناس جميعا على صراط اللّه : فكان ردّ اللّه على إبراهيم أن سمع دعاءه فى المؤمنين ، وأما من كفر فلا يحرم هذا الرزق المساق إلى البيت
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 142

(1/135)




الحرام ، متاعا له فى هذه الدنيا ، ثم يوفىّ حسابه فى الآخرة ، بما أعد للكافرين من عذاب أليم.
ثم يقول سبحانه :
الآيات : (127 ـ 129) [سورة البقرة (2) : الآيات 127 الى 129]
وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
التفسير : فى هذه الآيات خبر بناء البيت الحرام بيد إبراهيم وإسماعيل ، وقد ذكر البيت قبل هذه الآيات وهو مستكمل وجوده ، ومهيأ للعبادة ، وهذا ما يشعر بجلاله وقدسيته ، وأنه كان معدا من قبل بيد القدرة ، وأن يدى إبراهيم وإسماعيل اللتين جرتا عليه بعد هذا ، إنما لإظهار هذا السرّ المضمر ، والقدر المقدور.
وفى قوله تعالى : « وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ » هو ظرف حاو للحال التي كان عليها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت ، ويدعوان اللّه بما دعواه به ، فى قولهما : « رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ » وقد استجاب اللّه لهما ، فجعل منهما أمة محمد ، ثم كان من دعائهما قولهما : « رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ » . وقد استجاب اللّه لهما فبعث
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 143

(1/136)




النبىّ العربىّ ، محمد بن عبد اللّه ، صلوات اللّه وسلامه عليه ، وفى هذا يقول النبىّ الكريم : « أنا دعوة أبى إبراهيم ، وبشرى أخى عيسى » ، والكتاب هو القرآن ، والحكمة هى السنّة ، وبهما يتزكى المؤمن ويتطهر.
ثم يقول سبحانه تعالى :
الآيات : (130 ـ 132) [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132]
وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
التفسير : الدّين الذي اصطفاه اللّه سبحانه لإبراهيم واصطفى إبراهيم له ، هو الإسلام ، وهو دين اللّه ، كما يقول سبحانه : « إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ » (19 : آل عمران).
وتلك هى ملة إبراهيم ، فمن رغب عنها فقد رغب عن الحق ، وتنكّب عن الهدى ، ولا يفعل ذلك إلا سفيه أحمق ، اشترى الضلالة بالهدى.
وقوله تعالى : « إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ » هو مما ابتلى اللّه به إبراهيم من كلماته ، وقد استجاب إبراهيم للّه ، وخرج من الابتلاء سليما معافى ، مستأهلا لرضى اللّه ورضوانه.
وفى قوله تعالى : « وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ » يعود الضمير فى « بها » إلى الكلمات التي ابتلى اللّه بها إبراهيم ، والتي وصّى بها إبراهيم يعقوب ، ثم وصّى بها يعقوب بنيه من بعده.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 144
ثم يقول جل شأنه :
الآيتان : (133 ـ 134) [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 134]

(1/137)




أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)
التفسير : الخطاب هنا لبنى إسرائيل ، ليذكروا تلك الوصية التي وصّى بها يعقوب بنيه حين حضرته الوفاة ، وأنه أقامهم على دين اللّه ، دين إبراهيم وإسماعيل وإسحق ، وهو دين الإسلام.
وإذن فهذا الدين الذي جاء به « محمد » ليس بدعا من الدين ، وإنما هو امتداد لدين إبراهيم ، الذي وصّى به بنيه : إسماعيل وإسحق ، والذي وصّى به اسحق يعقوب ، كما وصى به يعقوب بنيه! وإذن فلم يدّعى بنوا إسرائيل ـ وهو يعقوب ـ أنهم على الحقّ وحدهم؟ وكيف ودينهم هو فرع من أصل هو دين إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحق؟.
إن دعوى أنهم المصطفون وحدهم لدين اللّه دعوى باطلة ، إذ ليس إبراهيم لهم وحدهم ، وليس دينهم ميراثا من إبراهيم ، مقصورا على إسرائيل « يعقوب » وحده فإن يكن هذا الدين ميراثا ، فقد ذهب إسماعيل بشطره ، على حين ذهب اسحق بالشطر الآخر!.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 145
و يقول سبحانه :
الآيتان : (135 ـ 136) [سورة البقرة (2) : الآيات 135 الى 136]
وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

(1/138)




التفسير : وقال اليهود للمسلمين : كونوا هودا تهتدوا ، وقال لهم النصارى :
كونوا نصارى تهتدوا ، حيث حسب اليهود أن اليهودية وحدها هى الدين الحق ، وحيث حسب النصارى أن النصرانية وحدها هى الدين الحق ، فردّ اللّه سبحانه وتعالى على الفريقين هذا الردّ الذي لقّنه المسلمين ، وأمرهم أن يكون هو المعتقد الذي يعتقدونه ، والدّين الذي يدينون به ، والقول الذي يلقون به اليهود والنصارى على السواء : « بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين .. قولوا آمنّا باللّه ، وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وما أوتى موسى وعيسى وما أوتى النبيّون من ربّهم لا نفرّق بين أحد منهم ونحن له مسلمون » فهذا هو دين اللّه ، الذي حمله الأنبياء والرسل إلى عباد اللّه .. فمن آمن برسول من رسل اللّه ولم يؤمن بجميع الرسل ، فليس من المؤمنين ، ومن تمسك بكتاب وكفر بما سواه من كتب اللّه ، فهو من الكافرين .. وقد ذمّ اللّه أهل الكتاب ـ من اليهود والنصارى ـ الذين فرّقوا دين اللّه وتوعدهم بالعذاب الأليم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 146

(1/139)




فقال تعالى : « إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (150 ـ 151 : النساء) على حين اللّه مدح المؤمنين الذين يؤمنون برسله جميعا ، ولم يفرقوا بين أحد منهم ، وأنزلهم منازل رضوان ، وأوسع لهم فى جناب رحمته ومغفرته ، فقال تعالى : « وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً » : (252 : النساء) ويقول جل شأنه :
الآيات : (137 ـ 139) [سورة البقرة (2) : الآيات 137 الى 139]
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
التفسير : الإيمان باللّه وكتبه ورسله من غير تفرقة بين اللّه ورسله ، هو الإيمان الذي قامت عليه دعوة الإسلام ، واستقام عليه المسلمون ، فإن آمن أهل الكتاب مثل هذا الإيمان فقد اهتدوا ، وصح إيمانهم ، وإن تولّوا فقد ضلّوا سواء السبيل ، وصار أمرهم إلى خلاف وشقاق بينهم وبين المؤمنين ، ثم بينهم وبين أنفسهم ، وليس على النبىّ والمسلمين من بأس فى مخالفة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 147
أهل الكتاب لهم ، واتباعهم سبيلا غير سبيل المؤمنين ، فاللّه سبحانه ، سيكفى النبىّ شرّهم ، ويبطل كيدهم.

(1/140)




و قوله تعالى : صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ » داخل فى مقول القول ، فى قوله تعالى : « قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ » أي قولوا آمنا باللّه وصبغنا صبغة اللّه ، أو رضينا صبغة اللّه ، والصبغة هنا هى السّمة واللون الذي يظهر به المسلمون فى الناس ، وهو الإسلام.
وقوله تعالى : « قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ » إنكار من المسلمين على أهل الكتاب أن يجادلوهم فى اللّه ، إذ الأمر لا يتسع لجدال فى حقيقة واحدة ، فإمّا إيمان ، وإما كفر.
ثم يقول سبحانه :
آية : (140) [سورة البقرة (2) : آية 140]
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
التفسير : وهذا إنكار أعلى هل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ أن يقول اليهود إن إبراهيم وإسماعيل : وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا يهودا ، وأن يقول عنهم النصارى إنهم كانوا نصارى ، وقد أخبر اللّه أنهم لم يكونوا يهودا ، أو نصارى : « ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا ، وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 148
مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ »
: (67 : آل عمران) وأهل الكتاب يعلمون من التوراة والإنجيل هذه الحقيقة ، ولكنهم يكتمونها ، ويشهدون زورا وبهتانا على خلافها ، وذلك ظلم مبين للحقيقة ، ولأنفسهم ، التي حجبوها عن الحق ، وأوردها موارد الضلال والخسران.
ثم يختم اللّه هذا الموقف بقوله سبحانه :
آية : (141) [سورة البقرة (2) : آية 141]

(1/141)




تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)
التفسير : الأمة هى الجماعة ، ويراد بها هنا إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ، وأتباعهم ، وقد صار أمرهم إلى اللّه ، والخلاف فيهم لا ثمرة له ، وإنما يؤخذ كل إنسان بعمله ، فمن أحسن فلنفسه ، ومن أساء فعليها ، وما ربك بظلام للعبيد.
فانظر كيف كان دفاع القرآن عن هذا الأمر الذي جاء به ، ودعا المسلمين إليه؟ إنه إلى الآن لم يجى ء الأمر المرتقب ، وهو دعوة المسلمين إلى أن يحوّلوا قبلتهم إلى البيت الحرام .. ومع هذا كانت تلك المواقف التي كشف فيها القرآن عن طوايا النفوس ، وما يحمل أهل الكتاب فى نفوسهم ـ وخاصة اليهود ـ من ضغينة وحقد على الإسلام! كانت إعجازا من إعجاز القرآن.
وأنت ترى أن الأمر بتحويل القبلة لم يذكر بعد ، ولهذا لم يكن لأهل الكتاب ولا لغيرهم حديث عنه ، وإنما سبق القرآن إلى الكشف عن المستقبل ، وأطلع المسلمين على ما سيلقى به أهل الكتاب هذا الأمر.!
و أول آية تلقانا بعد هذا هى قوله تعالى : « سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 149
ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها » (الآية : 142) .. إنهم لم يقولوا بعد شيئا ، ولكنهم سيقولون ، حين يجى ء الأمر الذي قدره اللّه وأراده! وسنرى فى الآيات الآتية كيف كان دفاع القرآن ، وكيف كان ردّه وردعه لهؤلاء السفهاء ، المتطاولين على الحق ، المتربصين به وبأهله السوء! وإنك لترى من هذا كلّه أن آية النسخ كانت مقدمة الدفاع ، فى قضية التحوّل بالقبلة إلى المسجد الحرام .. وكأنها تقول للمسلمين ولأهل الكتاب :
إن اللّه سبحانه وتعالى إذا نسخ آية من آياته ، أو بدل حكما من أحكامه بحكم آخر ، فذلك بمقتضى حكمته ورحمته بعباده.

(1/142)




و قد نسخ اللّه كثيرا من الشرائع التي تقدمت شريعة الإسلام ، وأنساها فلم يعد أحد يذكر عنها شيئا .. فأين رسالة نوح؟ وأين صحف إبراهيم التي ذكرها القرآن فى قوله تعالى : « إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى ، صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى » ؟ وأين رسالات الأنبياء : صالح ، وهود ، وشعيب ، ولوط؟
يقول ابن كثير فى تفسيره :
«و الذي يحمل اليهود على البحث فى مسألة النسخ هو الكفر والعناد ، فإنه ليس فى العقل ما يدل على امتناع النسخ فى أحكام اللّه تعالى .. لأنه يحكم ما يشاء ، كما أنه يفعل ما يريد .. كما أنه قد وقع ذلك فى كتبه المتقدمة ، وشرائعه الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرّم ذلك ، كما أحلّ لنوح عليه السلام بعد خروجه من السفينة ، جميع الحيوانات ، ثم نسخ حلّ بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحا لإسرائيل وبنيه ، وقد حرّم فى شريعة التوراة وما بعدها. وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ، ثم نسخه قبل الفعل ... » « 1 »
__________________________________________________
(1) تفسير ابن كثير. الجزء الأول.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 150
و على هذا ، فإن أقرب مفهوم إلى النسخ الذي تشير إليه الآية :
«ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ » هو نسخ الأمر بالتوجّه بالصلاة إلى البيت المقدس ، وجعله إلى المسجد الحرام .. وكلا المسجدين آية من آيات اللّه ، إذ قاما بأمره ، وأفاض عليهما من فضله ، فإذا نسخ المسجد الحرام المسجد الأقصى ، فإنما هو نسخ آية بآية ، وتبديل نعمة بنعمة! .. « أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ » .
أما قوله تعالى : « أَوْ نُنْسِها » ففيه قراءتان : ننسها ، أو ننسأها.
فعلى القراءة الأولى ، يكون من النسيان ، بمعنى أنه تعالى يعفّى آثار بعض شرائعه التي شرعها ، وأحكامه التي قد فرضها فى أجيال الماضين ..
قال أبو بكر الرازي :
«

(1/143)




إنما يكون بأن ينسيهم اللّه إياه ، ويرفعه من أوهامهم ، ويأمرهم بالإعراض عنه وكتبه فى الصحف ، فيندرس على الأيام ، كسائر كتب اللّه القديمة ، التي ذكرها اللّه فى كتابه ، فى قوله تعالى : « إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى » .. ولا يعرف اليوم منها شى ء » .
وعلى القراءة الثانية ، يكون من النّسأ ، وهو التأخير ، ومعنى هذا أن اللّه سبحانه قد يؤخر نسخ آية إلى أجل معلوم ، كما أخر نسخ التوجه إلى بيت المقدس ، منذوجّه المسلمون وجوههم إليه فى الصلاة ، إلى أن أمروا بالتحول إلى المسجد الحرام .. بعد سبعة عشر شهرا!.
ونخلص من هذا كله ، إلى القول ، بأن آية النسخ ليست موجهة إلى نسخ آيات من القرآن الكريم ، بآيات أخرى ، وإنما إلى نسخ قبلة وإحلال أخرى مكانها .. وأن النّسأ هو تأخير الحكم الذي دعى به المسلمون إلى التحول إلى البيت الحرام ـ مدّة بلغت سبعة عشر شهرا ، كانوا يتجهون خلالها
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 151
نحو بيت المقدس ، وذلك لحكمة أرادها اللّه تعالى ، فيها امتحان وابتلاء لعباده ، من مؤمنين ، وكافرين ، ومنافقين ..
تأويل بعض ما يبدو فيه النسخ :
من آيات الأحكام ما يبدو فيها النسخ ، إذ كانت القضية واحدة ، والأحكام فيها مختلفة ، وأوضح مثل لهذا ، الآيات التي جاءت فى « الخمر » ومثلها الآيات التي جاءت فى « الربا » .
فقد جاء فى « الخمر » آيات فى عدة مواضع من القرآن ، وفى كل موضع حديث عن الخمر ، يختلف عما تضمنته الآيات الأخرى ، وذلك فى صدد تحريمها ، ومثل ذلك ما ورد فى الربا.

(1/144)




و يرى العلماء القائلون بالتناسخ بين هذه الآيات أن ذلك لحكمة تربوية ، قصد بها التلطّف فى الدخول على النفوس دخولا مترفقا ، فى تحريم أمور كانت ذات ارتباط وثيق بها ، وسلطان قاهر لها .. وفى انخلاع النفس عنها جملة ، ما لا يؤمن معه سلامة النفس ، أو تقبلها لهذه الأوامر إذا هى حملت عليها دفعة واحدة ، على هذا الوجه المفاجئ ، فقد تخور كثير من النفوس ، وقد تتصدع وتنحلّ ، إذا هى واجهت الأمر مرة واحدة دون إعداد وتمهيد.
ففى الخمر .. حين أراد اللّه أن يحرمها ، سلك ذلك المسلك التربويّ الحكيم ، الذي لا يرى ألطف ، ولا أحكم ، ولا أعدل مدخلا منه إلى النفس.
(1) : كان أول إشارة إلى الخمر تلك الإشارة التي تضعها وضعا غير كريم بين النعم التي أنعم اللّه بها على عباده ، فقال تعالى :
«وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً » (67 : النحل).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 152
فالرزق الحسن الذي يتخذ من ثمرات النخيل والأعناب ، ليس منه السّكر الذي يتخذ من هذه الثمرات .. وإلا لكان قد وصف بأنه سكر حسن ، كما وصف الرزق بأنه رزق حسن.
وفى هذا ما يفتح للكثير من ذوى البصائر سبيلا إلى العزوف عن هذا السّكر وتجنبه ، إذ كان رزقا غير حسن! (2) : ثم تجى ء الآية الثانية بعد هذا ، وفيها تشنيع على الخمر ، وتقبيح لها ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » (219 : البقرة).
فقد قرنت الآية الخمر إلى الميسر ، وجعلتهما فى مقود واحد ، إذ كانا من فصيلة الشر والفساد على السواء ..
ومن تدبير القرآن الكريم فى هذا أنه لم يغفل الوجه الآخر لهذه المنكرات.

(1/145)




فكل شى ء وإن بلغ ما بلغ من السوء ، له جانب آخر غير سيى ء .. إذ ليس هناك شر خالص ، أو خير محض ، فيما يدور فى دنيا الناس ، وفيما يتقلّبون فيه.
فلم ينكر القرآن هذه الحقيقة الواقعة ، وهى أن للخمر والميسر منافع من بعض الوجوه ، وعند بعض الناس ، ولكن هذه المنافع ليست شيئا إذا هى قيست إلى جانب الإثم والشرّ اللّذان ينجمان منهما.
فإذا ربح إنسان من الميسر مرة ، فإن خسائره المحققة آخر الأمر أضعاف ما ربح ، وإذا كان للخمر عند شاربها لذة أو نشوة فى أول عهده بها ، فإنها تنتهى به إلى تدمير كامل ، لقواه العقلية والجسدية والنفسية ، إن لم يكن فى جميع الأحوال ففى غير قليل منها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 153
(3) : ثم تجى ء بعد ذلك إشارة أوضح وأصرح من سابقتها فى التحذير من الخمر .. إذ يقول تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » (43 : النساء) فقد حرمت هذه الآية على المسلم أن يدخل فى الصلاة وهو فى حال سكر ، لا يعلم معها ما يقول.
والصلاة تتكرر فى اليوم خمس مرات ، فى أوقات متفاوتة ، تكاد تجعل الليل والنهار قسمة بينها ، وهيهات أن يشرب شارب الخمر عقب صلاة من الصلوات ، ثم تدركه الصلاة التالية ، وقد صحا من خماره ، أو أفاق من سكره.
ولقد دعت هذه الإشارة كثيرا من المسلمين إلى أن يتجنبوا الخمر ، وألا يقربوها بحال ، على حين ظل بعضهم يلقاها بين الحين والحين ، وفى حذر وإشفاق ..
(4) : ثم كانت الحاسمة .. فجاء قوله تعالى :
«

(1/146)




إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ » (91 ـ 92 المائدة).
وبهذا يجى ء الحكم القاطع فى تحريم الخمر ، فتصبح منذ اليوم الذي نزلت فيه هاتان الآيتان الكريمتان ، محرمة على المسلم! والسؤال الوارد بعد هذا : هو : ماذا يقال عن تلك الآيات التي تحدثت عن الخمر ، قبل هاتين الآيتين اللتين جاءتا صريحتين قاطعتين بتحريم الخمر؟
أ هي منسوخة بهاتين الآيتين؟ وهل هناك سلسلة من التناسخ بينها ، بحيث ينسخ بعضها بعضا .. اللاحق منها ينسخ السابق؟
و الجواب على هذا ليس جوابا واحدا .. فإذا قلنا بوجود النسخ فى القرآن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 154
كان واضحا أن هذه الآيات جميعها منسوخة بالآيتين الأخيرتين ، وكانت مراحل النسخ بينها متتابعة .. اللاحق منها ينسخ السابق! أما إذا قلنا بألّا نسخ فى القران ، كان الجواب ، بأن هذه الآيات جميعها عاملة ، تلاوة وحكما ، وأن اللاحق منها هو منسأ تأخر نزوله ، ووجب امتثاله ، كلّ فى وقته ، لحكمة توجب ذلك الحكم الذي تضمنته الآية.
وهنا يلقانا هذا السؤال : كيف يمكن التوفيق بين هذه الأحكام المختلفة ، فى أمر واحد هو الخمر؟
فالخمر : رزق غير حسن ..
وهى إثم ونفع ، وإثمها أكبر من نفعها ..
وهى محرمة .. إذا دخل بها شاربها الصلاة وقد سكر منها.
ثم هى محرمة حرمة مطلقة من كل قيد! هذه سلسلة من الأحكام ، واقعة على أمر واحد هو الخمر.
فأى هذه الآيات ، أو بمعنى آخر ، أي أحكام هذه الآيات يلزم المسلمين العمل ، والوقوف عنده؟
و قبل الإجابة على هذا السؤال ، نسأل سؤالا آخر ونجيب عليه ، وهو :

(1/147)




هل من شأن النهى القاطع الملزم الذي جاءت به آخر آية فى تحريم الخمر ـ هل من شأن هذا النهى أن يحول بين المسلم وبين أن يشرب الخمر؟ أو بمعنى آخر هل فى هذا النهى من القوى الذاتية ما يعصم المسلمين جميعا من شرب الخمر أو يحميهم جميعا ـ فردا فردا ـ من الضعف النفسي إزاءها؟
و الجواب على هذا إنما نأخذه من الواقع التطبيقى فى الحياة ، للأوامر والنواهي ، التي جاءت بها الأديان ، وهى أن أي أمر أو نهى لا يستقيم الناس جميعا عليه ، ولن يلتزموه التزاما كاملا ، فما أكثر الذين يخرجون عن تلك
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 155
الأوامر والنواهي ، فلا يأتون منها ما أمر اللّه به ، ولا ينتهون عما نهى اللّه عنه.
فالأديان تنهى عن الكذب ، وكثير من أتباع هذه الأديان يكذبون ، والأديان تنهى عن الظلم ، وكثير من أتباع هذه الأديان يظلمون ، والأديان تنهى عن السرقة وكثير من أتباع هذه الأديان يسرقون .. وهكذا الشأن فى كل ما تأمر به الأديان أو تنهى عنه ، لا يستقيم الناس أبدا على أوامرها ونواهيها. ، استقامة مطلقة ، تحتوى الناس جميعا! والأديان تعلم هذا مقدما ، ولهذا تفرض عقوبات دنيوية وأخروية ، للمخالفات التي تقع من أتباعها.
والخمر التي نهى الإسلام عنها ، قد رصد الشارع العقوبة الرادعة لمن يشربها ، ولا ينتهى عما نهى اللّه عنه منها.
والسؤال هنا : إذا شرب مسلم الخمر .. فما موقف الإسلام منه؟ وما موقفه هو من الإسلام؟
أما الإسلام هنا ، فإنه يراه آثما ، يستحق العقوبة الرادعة فى الدنيا ، وهى الجلد ، وأمره إلى اللّه فى الآخرة .. إن شاء غفر ، وإن شاء أخذه بما ارتكب.
وأما هو ـ أي شارب الخمر ـ فهو على ما به من إثم ـ مسلم .. آثم ، عاق.

(1/148)




و لا تلتفت هنا إلى قول من يقول بتكفيره .. فقد شرب الخمر من شربها من المسلمين فى عهد النبوة ، وفى عهد خلفائه الراشدين ، وقامت البينة القاطعة التي أوجبت الحدّ عليهم .. ومع هذا فقد بقي معهم إسلامهم ، وكانوا يشهدون مشاهد المسلمين فى الصلاة وغيرها.
وإذن ، فقد يشرب المسلم الخمر ، يشربها ويدمغ بالإثم والعصيان ، ولكن على أي حال هو مسلم ، لا تسقط عنه الواجبات المفروضة على المسلم ، ومن بينها الصلاة .. وليس من حائل يحول بينه وبين الصلاة فى هذه الحال ، إلا أن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 156
يكون فى حال سكر ، لا يدرى معها ما يقول .. وهنا نجد الآية الكريمة :
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » نجدها عاملة غير معطلة ، فهى تفرض حكمها على من خالف ما نهى اللّه عنه ـ من أمر الخمر فشربها حتى سكر ، وهو ألا يقرب الصلاة حتى يصحو من سكره ، ويعلم ما يقول.
وتبقى بعد هذا الآيتان : الأولى والثانية ، وهى قوله تعالى : « وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً » وقوله تعالى : « يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما » .
وهاتان الآتيان تعرّضان بالخمر ، وتشنّعان عليها ، وتضعانها موضعا غير كريم ، وتزنانها بميزان يقلّ فيه خيرها ويكثر فيه شرها.
فهى رزق .. ولكنها رزق غير حسن.
وهى نفع .. ولكن إثمها أكبر من نفعها.
وهى رجس .. ولكن بعض الناس يلطخ نفسه بهذا الرجس!.
فجميع هذه الأوصاف هى للخمر ، وهى أوصاف خسيسة كلها ، ولكنها درجات فى الخسّة من حيث النظرة التي ينظر بها إليها ، وهى على جميع مواقع النظر موسومة بسمة القبح والإثم والرجس ، وتلك الأوصاف ملازمة لها ، لا تنفصل عنها أبدا.

(1/149)




و إذن فالآيات الأربع الواردة فى شأن الخمر ، لا تعارض بينها ، ولا تناسخ ، بل كلها عاملة ، تعطى الوصف المناسب لها ، كما تعطى الحكم المناسب أيضا.
وما قيل فى آيات الخمر ، يقال فى آيات الربا كذلك :
فالآيات التي نزلت فى شأن الربا ، جاءت متدرجة على مراحل ، على نحو ما جاءت عليه آيات الخمر فى الخمر.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 157
فأول ما نزل فى شأن الربا قوله تعالى : « وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ » (39 : الروم).
وفى هذا تحريم للرّبا ، وتشنيع عليه ، وكشف لوجه كريه من وجوهه.
ثم نزل بعد هذا قوله تعالى فى شأن اليهود المتعاملين بالربا ، المستحلّين له :
«وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ » (161 : النساء).
وهذه الإشارة والإشارة التي قبلها تدعوان كثيرا من المسلمين إلى أن يحذروا هذا النوع من المعاملات ، وأن ينفروا منه ، وإن لم يكن قد حرّم عليهم بعد.
ثم نزل بعد هذا قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ » (130 : آل عمران).
«و النهى هنا ليس نهيا قاطعا فى تحريم الربا تحريما مطلقا ، وإنما وقع تحريمه فى صورة خاصة ، وهى أن يكون أضعافا مضاعفة .. وهذه الصورة تقابل فى تحريم الخمر قوله تعالى : « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ » .
ثم كانت الكلمة الأخيرة فى الرّبا ، فنزل قوله تعالى :
«

(1/150)




يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ » (278 ـ 279 : البقرة).
وبهذا كان الحسم والقطع فى تحريم الرّبا!.
هذا ، ويرى كثير من العلماء أن ما جاء فى الربا والخمر ، ليس من قبيل النسخ ، لأن النسخ هو إزالة حكم شرعى بحكم آخر شرعى .. والخمر والربا لم يكن قد جاء فيهما حكم شرعىّ بحلّهما ، ثم جاء حكم شرعىّ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 158
آخر بتحريمهما ، فيكون الحكم الثاني ناسخا للحكم الأول ، وإنما هما مما كانا للعرب فى الجاهلية ، ثم جاء الإسلام فوجدهما على ما هما عليه فحرّمهما .. وقد ظلّت الخمر غير محرّمة إلى صلح الحديبية ، حيث جاء القرآن إذاك بتحريمها.
وكذلك الرّبا ، لم يحرم تحريما قاطعا إلا قبيل وفاة النبىّ الكريم.
ولكن إذا قيل فى القرآن نسخ ـ ألا تعتبر هذه المراحل التشريعية للأمر الواحد واختلاف الحكم فى كل مرحلة منها ـ ألا تعتبر هذه المراحل مما يقيم للقائلين بالنسخ فى القرآن ، الشرط الذي يطلبونه له ، وهو إزالة حكم شرعى ، بحكم شرعى آخر؟.
ثم ألا تعتبر كل مرحلة من هذه المراحل مظروفة بحكم يخصّها .. ثم تجى ء المرحلة التالية فتنسخ حكمها؟.
وعلى أىّ فإن رأينا فى الآيات التي نزلت فى الخمر والرّبا ألّا تناسخ بينها ، وأنها جميعا محكمة ، عاملة ، تلاوة وحكما.
وندع هذه الآيات التي يلتقى معنا فى الرأى فيها بعض الذين يقولون بالنسخ ، وإن كان هذا اللقاء على وجه مختلف بيننا وبينهم!.
وننظر فى آيات أخرى يقطعون بالقول بنسخها ، ونقطع نحن بالقول بأنها غير منسوخة.
فمن ذلك قوله تعالى :
«

(1/151)




وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً » (8 : النساء).
فالقائلون بالنسخ مجمعون ـ قولا واحدا ـ على أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 159
و القول ينسخ هذه الآية يسدّ على الفقراء والمساكين واليتامى بابا من أبواب الرحمة ، أراد اللّه سبحانه أن يفتحه عليهم ، كما أنه يقطع آصرة المودة بين ذوى القربى ، التي أمر اللّه بها أن توصل!.
وما أعدل الإسلام ، وما أحكم أحكامه التي تتجلّى فى كل آية من آياته! وهنا فى هذه الآية الكريمة ، التي يريد القائلون بالنسخ ، عزل المسلمين عنها ـ تدبير حكيم من الإسلام ، وآية من آيات خلود هذا الدين.
فالميراث الذي يتركه الميت لورثته هو خير غير مرتقب ، قد شمل أعدادا من الناس بحكم قرابتهم لهذا الوارث ..
وهناك عيون كثيرة تتطلع إلى هذا الخير ، وتتبع مواقعه التي وقع فيها ، وخاصة ذوى القربى الذين لا نصيب لهم بين الورثة ، وكذلك من يشهد قسمة هذا الميراث من فقراء ومساكين ، لهم بالمورّث صلة جوار أو معرفة.
إن هؤلاء وأولئك يرون مائدة ممدودة حافلة بأنواع الطعام ، وهم جياع يسيل لعابهم إلى القمة مما عليها.
هذا هو الموقف ، كما يراه القرآن ، وكما تشهده الحياة ..
فماذا لو ذهب الورثة بكل هذا الميراث؟ ثم لم يكن لذوى قرابتهم المحرومين منه ، نصيب؟ ولم يكن للفقراء والمساكين الذين تتلمظ شفاههم إلى نفحة منه شى ء؟
ماذا يكون؟.
أحقاد وأضغان ، وعداوات ، تثير السخط والنقمة ، وتذهب بالإخاء والمودة بين الناس والناس!.
وتأمل قوله تعالى : « إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ » .. أي إذا كانت القسمة بمحضر منهم ، وبمشهد وعلم.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 160

(1/152)




فهذا الحضور هو شرط فى أن يرزق هؤلاء الحاضرون من هذا الخير الذي شهدوه ، ورأوا الأيدى تمتد إليه وتنال منه! وأنت ترى ما فى هذا التوجيه السماوي ، تلك الحكمة الحكيمة التي تقوم عليها شريعة الإسلام فى تربية الأمم ، ودعم بنائها ، وإقامة أسسها على دعائم وطيدة من التضامن الاجتماعى ، وحراسة المجتمع الإنسانى من أن تدخل عليه آفات التباغض والتحاسد ، التي هى أفتك الأدواء فى تقويض الجماعات والأمم!.
إن ضريبة « الزكاة » التي تفرضها كثير من الدول على ما ترك المورّث ليس إلا تطبيقا إجباريا ، لهذا المبدأ الكريم السمح ، وإلا وحيا من وحيه ، وإن كان البون شاسعا ، والمدى بعيدا ، بينها وبين ما جاء به القران وشرعه الإسلام.
فالإسلام لم يجعل هذا الأمر على وجه ملزم ، بل جعله دعوة مطلقة للخير وللبر ، فى مقام يحضره داعيان من دواعى الخير والبر ، وهما : الوجد والموت ..
إذ المال موجود عتيد بين يدى من سيصير إليهم من الورثة ، وهو مال لم يقع فى أيديهم بعد .. ومن أجل هذا فإن النفس ـ فى تلك الحال ـ لا يغلبها الحرص عليه ، والضنّ به كما لو وقع فى اليد ، وصار فى حوزة صاحبه .. خاصة وأنه لم يبذل له جهدا ، ولم يتكلف له عملا ، بل جاءه هكذا عفوا من غير سعى ..
ثم الموت المشهود المذكور فى هذا الوقت ، حيث كل شى ء من هذا المال يذكّر بالميت والموت معا .. ومن أجل هذا فإن النفس لا يغلبها الشح ، ولا يمسك بها عن البذل والإنفاق فى سبيل اللّه ، داعى الحرص على الحياة فى هذا الوقت ، الذي يطلّ عليها فيه شبح الموت ، ويذكرها بأن كل شى ء إلى زوال « و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا » !.
هذه الآية من الآيات الكثيرة التي قيل ـ على سبيل القطع ـ إنها منسوخة ، وهى ـ كما رأيت ـ دعوة كريمة من دعوات الإسلام إلى البرّ والإحسان ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 161
و قوة عاملة فى حراسة المجتمع وحمايته من عوادى العداوة والبغضاء!.

(1/153)




فإذا كان هذا ما ينسخ من آداب القرآن وأحكامه .. فماذا يبقى من آدابه وأحكامه؟ بل ولم يبقى ـ بعد هذا ـ على شى ء من آدابه وأحكامه!؟
إننا لا نسيغ القول أبدا بأن شيئا منسوخا من هذا القرآن الذي نقرؤه ، ونتعبّد به! إذ لا حكمة ـ مع هذا ـ لآيات كريمة نتلوها ونتعبّد بتلاوتها ، ثم لا نعمل بها ، ولا نأخذها مأخذ الجدّ ، فى تحصيل الخير المشتمل عليه كيانها! إن النسخ معناه عزل الآيات المنسوخة عن الحياة ، وإحالتها إلى « المعاش » .. وما الاحتفاظ بها فى القرآن إلا كالاحتفاظ بجثث الأموات محنطة فى توابيت!! وذلك مقام تنزّه عنه كلام اللّه رب العالمين! ولا نستكثر من عرض الآيات التي قيل إنها منسوخة ـ وهى كما يقول القائلون بالنسخ ـ كثيرة ، تبلغ نحو ثلث القرآن عند بعضهم .. وسنلتقى أثناء نظرنا فى كتاب اللّه مع بعض تلك الآيات ، التي قيل إنها منسوخة ، وسنكشف إن شاء اللّه عن وجه الحق فيها! واللّه المستعان ، ومنه السداد والتوفيق.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 164
الآية : (142) [سورة البقرة (2) : آية 142]
سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
كان تحوّل النبىّ والمسلمين بقبلتهم فى الصلاة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام ، حدثا اتخذه اليهود ذريعة للتشويش على المسلمين ، وإدخال البلبلة والاضطراب على معتقدهم ، فكانوا يرصدون كل حدث يقع فى محيط المسلمين ، ليقعوا منه على سلاح مسموم ، يعملونه فى المعركة التي يخضونها ضد الإسلام والمسلمين.

(1/154)




و حين أمر اللّه نبيه أن يتحول بالمسلمين إلى المسجد الحرام فى الصلاة وجدها اليهود فرصة سانحة للعمل ، فأذاعوا أن محمدا إنما فعل ذلك على حساب عقيدته ، للخلاف الذي بينه وبينهم ، وأن بيت المقدس هو قبلة الأنبياء جميعا ، فكيف استباح محمد لنفسه أن يخرج على شريعة الأنبياء وهو الذي يدعو إلى الإيمان بهم جميعا؟ فإذا كان دينه من عند اللّه ، فهذا الذي فعله هو إبطال لهذا الدين ، ومعالنة صريحة بالخروج على أحكامه ، وأما إذا كان ما يدعو إليه من دين هو من عمله ، فإن له أن يغيّر فيه ويبدّل كيف يشاء ، لكن على ألا يتحكك بالأديان السماوية ، وألا يعقد صلة بينه وبين الأنبياء.!
بمثل هذه التخرصات كان يلقى اليهود المسلمين ، على ألسنة المنافقين ومن فى قلوبهم مرض ، وقد أثاروا بهذه المقولات بلبلة واضطرابا ، حتى لقد وقع عند بعض المسلمين أن صلاتهم التي اتجهوا بها إلى بيت المقدس لم تكن قائمة على وجهها الصحيح ، ولهذا أمرهم اللّه بالتحول إلى البيت الحرام!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 165
هذا ، وفى قوله تعالى : « سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ » إخبار بما سيكون من هؤلاء السفهاء من سفاهة ، قبل أن يقع منهم هذا السّفه عن تلك الواقعة ، وفى هذا ما يكشف عن لؤم القوم وخبث طويتهم ، وأنهم ـ بحكم ما هم عليه من خبث ولؤم ـ لن يتركوا هذا الحدث من غير أن يثيروا الغبار حوله ، وأن يشعلوها فتنة عمياء ، إن استطاعوا إلى ذلك سبيلا! وفى قوله تعالى : « قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ردّ مفحم على تلك السفاهة المضلة ، فإذا كانت العبادة للّه وحده ، وإذا كانت وجوه العابدين إنما قبلتها للّه وحده ، فإن أي متجه يتجه إليه المؤمن هو وجه قاصد إلى اللّه : « فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ » ..
«قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » ...

(1/155)




و قد وجّه اللّه المسلمين وجهتهم الأولى ، وهو الذي وجههم وجهتهم الثانية ، وهم فى وجهتيهم على صراط مستقيم ، إذ كانوا ملتزمين أمر اللّه ، آخذين بهديه ، عابدين له وحده!
آية : (143) [سورة البقرة (2) : آية 143]
وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)
التفسير :
قوله تعالى : « وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً » عطف على قوله سبحانه :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 166
«وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » أي قد هديناكم إلى صراط مستقيم « وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً » أي أمة قائمة على صراط مستقيم ، هو الوسط بين التقصير والغلوّ. وهذا هو أعدل المناهج وأقومها ، حيث أن التقصير يقعد بصاحبه عن اللحاق بالركب ، كما أن الغلوّ يقطع صاحبه عن مواصلة الرحلة ، بعد أن يكلّ حدّه ، ويفتر عزمه.
وقوله تعالى : « لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » تعليل شارح للأمة الوسط ومكانها المحمود بين الأمم ، فأهل هذه الأمة ، هم بموقفهم الوسط ، شهادة قائمة على الناس جميعا ، إذ كان سيرهم على خط الحياة سيرا يحتمله جهد الأقوياء والضعفاء جميعا ... إنه سير يحفز همّة الضعيف ويشحذ عزمه ، على حين أنه يمسك زمام الشارد ، ويردّ أنفاسه المبهورة.

(1/156)




و قوله تعالى : « وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً » هو الميزان الذي يضبط الأمة الوسط ، ويحكم قيامها على هذا الطريق السّوىّ ، حيث كان الرسول الكريم هو المثل الأمثل لأمته ، فهو فى الأمة الوسط شهادة قائمة عليها ، يأخذ بقوله وعمله خطّ الوسط فيها ، فيمسك بالضعاف أن ينزلوا عن المستوي الجامع للأمة الوسط ، ويهتف بالمغالين ألّا يتفلتوا من خط هذه الأمة وينقطعوا عنه.
والوسط من كل شى ء هو مركز الاعتدال منه ، ونقطة التوازن فيه.
وطبيعى أن فوق الوسط منزلة أعلى منه ، وأنه ليس غاية الكمال ، ومع هذا ، فإنه ـ فى مجموعه ـ خير مما فوقه ، لأنه أثبت وأدوم ، ولأنه أقرب إلى متناول الناس ، إن لم يكن الناس جميعا ، فالأغلب الأعم منهم.
إن الاعتدال فى أي شى ء وفى كل شى ء ، هو مما يحتمله الناس ويقدرون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 167
على الوفاء به ، ويصبرون على ما يكرهون منه ، أما ما فوق الوسط فهو أمر لا تحتمله أكثر النفوس ، ولا تصبر عليه .. وقد يرتفع الإنسان إلى أكثر مما يحتمل ، فيختل توازنه ويسقط .. ولا تكون السلامة والعافية إلا حيث الاعتدال ، الذي يجد الإنسان فى مجاله القدرة على التحرك إلى فوق ، وإلى تحت ، وهو فى تلك الحركة ـ بحكم الوسط ـ لا يخرج عن المقام الكريم اللائق به ، حيث يظل ـ بالوضع الذي هو فيه ـ مشرفا على الأرض ، مستشرفا للسماء! وقد يقول بعض القائلين : إن الوسط لا طعم له ، ولا ذاتية لوجوده ..
إنه أشبه بالخط الوهمي بين شيئين .. إنه ليس شيئا ، ولا ضد شى ء.
إن القسمة فى الأمور ، هى الشي ء وما يقابله .. الخير والشر .. الأبيض والأسود .. الحلو والمر .. الجميل والقبيح .. اليمين والشمال ..
أما الوسط الذي يفصل بين هذه المتقابلات فليس إلا خطا وهميا ..

(1/157)




و نقول : إننا لا ننكر أن الوسط ليس هو الكمال كله ، وأن فوق الوسط منازل كثيرة للفضل ، وأنه غير محجور على الناس أن يرتفعوا إليها ، وأن يتنافسوا فيها .. بل إن ذلك مندوب محمود ..
ولكن هذا شى ء ، والتشريع العام شى ء آخر.
التشريع إلزام لا انفكاك منه .. التشريع عقد بين صاحب الشريعة وأتباع هذه الشريعة .. فهم مطالبون بالوفاء بما شرع لهم ، وهم ملومون مأخذون بالعقاب إذا قصروا .. وليس الأمر كذلك فيما كان عن تطوع واختيار .. إذ للإنسان أن يمضيه أو يعفى نفسه منه .. ولا لوم عليه! والتشريع حين يكون عاما .. لأمة ، أو للإنسانية كلها ـ تقتضى الحكمة
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 168
فيه أن يكون قائما على معيار يسع الناس جميعا .. الأقوياء والضعفاء .. فى جميع الأزمان والأوطان.
لذلك اقتضت رحمة الخالق بعباده ، فى دعوتهم إلى الإسلام ، الذي أريد له أن يكون دين الإنسانية ، ومختتم رسالات السماء ـ اقتضت هذه الرحمة الراحمة أن تكون شريعة هذا الدين مقدرة على قدر ما يحتمل الضعفاء لا الأقوياء ، وأن يكون ما فى الأقوياء من قدرة على احتمال ما فوق هذا التشريع هو فضل من فضل اللّه عليهم ، يزدادون به كمالا فوق الكمال الذي بلغوه بأداء ما كلّفوا .. فإنه ما على المحسنين من سبيل.

(1/158)




و قوله تعالى : « وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ » بيان للحكمة التي أرادها اللّه من وراء هذا الامتحان الذي امتحن المسلمين به ، حين وجههم إلى بيت المقدس ، ثم عدل وجههم عنه إلى البيت الحرام. ففى هذا الامتحان يختبر إيمان المؤمنين ، وتظهر حقيقة ما عندهم من طاعة وامتثال للّه ولرسوله ، من غير أن تدور فى رءوسهم أسئلة التوقف ، فيقول قائلهم : ما هذا؟ ولم؟ وكيف؟ إذ أن من شأن المؤمن أن يتلقى أمر الرسول بالقبول والتسليم ، امتثالا لقوله تعالى : « وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا » : (7 : الحشر) وفى قوله تعالى : « وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ » إشارة إلى أن هذه المحنة التي امتحن بها المؤمنون كبيرة ، لا يجوزها بقلب سليم ، ونفس مطمئنة إلّا الذين هداهم اللّه وثبت أقدامهم على طريق الحق واليقين :
«وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ » : (213 : البقرة).
وقوله تعالى : « وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ » تطمين لقلوب المؤمنين الذين وقع فى نفوسهم شى ء من صلاتهم التي كانوا يصلّونها إلى بيت المقدس ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 169
فهى صلاة كاملة ، مقبولة عند اللّه .. ذلك أن المسلمين كانوا يصلون إلى بيت المقدس ، فلما هاجر النبىّ وتحولت القبلة إلى البيت الحرام اهتزت مشاعرهم ، وساورهم القلق فى شأن تلك الصلاة التي صلّوها إلى بيت المقدس ، فكان أن تداركهم اللّه برحمته ، وأنزل عليهم قوله : « وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ » .
آية : (144) [سورة البقرة (2) : آية 144]

(1/159)




قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
التفسير : يخبر اللّه سبحانه فى هذه الآية عن الحال التي كان يعانيها النبىّ الكريم ، حين هاجر إلى المدينة وقلبه معلّق بمكة والبيت الحرام ، ووجهه يتردد فى السماء بين مطالع المسجدين : المسجد الحرام والمسجد الأقصى ، وهما على سمت واحد ، فقطع اللّه عليه طريق التردد ، وأمسك وجهه على القبلة التي تهفو إليها نفسه : « فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ ، وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ » .
ويلاحظ أن هنا تقديما وتأخيرا فى عرض الأحداث ، إذ جاء ذكر الآثار التي ترتبت على هذه الواقعة ، قبل وقوعها ، فكشفت الآيات عن موقف اليهود من تحول القبلة إلى المسجد الحرام أولا ، ثم عرضت الأمر بهذا التحول بعد ذلك ، وفى هذا ما يشعر بأن هذا التحول فى ذاته ما كان ليكون موضع تساؤل وجدل ، فهو أمر من أمر اللّه ، ووجه من الوجوه إليه : « وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 170
وَ الْمَغْرِبُ »
.. ولكن النفوس المريضة لا تجد طعما لحلو ، ولا مساغا لطيب ، وهذا هو الذي ينظر فيه ، ويهتم له ، خاصة إذا كان المراء فيه عن علم : « وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ » .
آية : (145) [سورة البقرة (2) : آية 145]

(1/160)




وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
التفسير : المراد بالقبلة هنا الدين والملّة ، وموقف أهل الكتاب من النبىّ وما جاء به موقف عنادىّ ، فهم منه على خلاف ، لا يردّهم عنه أي برهان ، ولا تنفعهم معه أية حجة ، ولو جاءهم النبىّ بكل آية قاهرة ما آمنوا له ، ولا اجتمعوا إليه .. وإذن فهم أبدا على ما هم عليه من هذا الخلاف .. هم مع باطلهم فى جانب ، والنبي مع الحق الذي معه فى جانب ، ثم هم فيما بينهم مختلفون ، لا يلتقى بعضهم ببعض ، ولا يستقيم بعضهم على طريق بعض!.
وفى قوله تعالى : « وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ » استبعاد من أن يميل النبىّ إلى جانبهم ، لأنهم إنما يتبعون أهواء ، ويميلون مع مفتريات!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 171
الآيتان : (146 ـ 147) [سورة البقرة (2) : الآيات 146 الى 147]
الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)

(1/161)




التفسير : هؤلاء الذين يجادلون النبىّ ويكذّبون به وبرسالته ، من أهل الكتاب ـ وخاصة علماءهم ـ يعرفون صدق هذا النبىّ ، إذ يجدون صفته فى التوراة والإنجيل ، بحيث لا يلتبس عليهم من أمره شى ء ، ولكنهم ينكرون هذا الحق الذي يعلمونه علم اليقين ، حسدا وبغيا ، وذلك ضلال ما بعده من ضلال ، واللّه سبحانه وتعالى يقول : « أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ » (23 : الجاثية) وقوله تعالى : « الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ » تطمين للنبىّ الكريم ، وتثبيت له على ما عنده من آيات اللّه ، فهى الحق من عند اللّه ، فلا جدال فيها ولا امتراء ، كما يجادل ويمارى الذين بأيديهم مثل هذا الحق من أهل الكتاب.
آية : (148) [سورة البقرة (2) : آية 148]
وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148)
التفسير : أي دع مراء هؤلاء القوم ، فلهم وجهتهم ، ولك وجهتك ، واستبق الخيرات أنت ومن معك من المؤمنين ، فذلك هو الذي ينفع يوم الجزاء ، يوم يقوم الناس لربّ العالمين.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 172
آية : (149) [سورة البقرة (2) : آية 149]
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)

(1/162)




التفسير : لا مراء مع أهل الكتاب ، ولا التفات إلى ما يرجف به المنافقون فى شأن القبلة وتحول المسلمين إلى البيت الحرام ، وإذن فالمسجد الحرام هو قبلتك أيها النبىّ ، تتجه إليه أينما كنت ، فى الحضر أو فى السفر ، فذلك الأمر هو الحق المنزل إليك من ربّك ، الذي لا يخفى عليه شى ء فى الأرض ولا فى السماء.
آية : (150) [سورة البقرة (2) : آية 150]
وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
التفسير : أعيد الأمر مرة ثانية بأن يوجّه النبىّ وجهه شطر المسجد الحرام ، ولكن فى هذه المرة دخل المسلمون معه فى هذا الأمر ، وإن كان دخول المسلمين مع النبي لازما فى الأمر الأول ، وذلك ليتقرر فى نفوس المسلمين أنه أمر لازم لا رجوع فيه ، ولا تحول بعده.
وفى قوله تعالى : « لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ » ما يقطع بأنه لا تحول عن البيت الحرام بحال أبدا ، فذلك مما يعطى اليهود حجة على المسلمين إذا هم رجعوا
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 173
فتحولوا بقبلتهم إلى بيت المقدس ، استجابة لما يوسوس لهم به اليهود ، إذ أن الحق طريق واحد ، والتردد فيه يعمّى السبل إليه.
وقد عبّر القرآن عن اليهود هنا بكلمة « الناس » ليدخل معهم غيرهم ، ممن تأثر بوسوستهم واستمع لضلالتهم.
الآيتان : (151 ـ 152) [سورة البقرة (2) : الآيات 151 الى 152]

(1/163)




كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)
التفسير : من تمام النعمة على المسلمين ، أن اللّه سبحانه أرسل فيهم رسولا من أنفسهم ، يتلو عليهم آيات اللّه ، ويطهرهم بالإيمان من أرجاس الوثنية والشرك ، ويعلمهم ما فى كتاب اللّه من شرائع وآداب ، وما فى سنة الرسول من أدب وحكمة ، ويفتح لهم بذلك آفاق العلم والمعرفة .. وحقّ على المسلمين من أجل هذا أن يذكروا فضل اللّه عليهم ، وأن يحمدوه ويمجدوه ، ليزيدهم اللّه من فضله : « فاذكرونى أذكركم » أي اذكروني بالحمد والشكران ، أذكركم بالمزيد من الفضل والإحسان.
الآيتان : (153 ـ 154) [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 154]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 174
التفسير : الطاعات والاستقامة عليها ، لها أعباؤها التي تحتاج إلى قوة احتمال ومجاهدة ، ولكى يقوى الإنسان على حمل هذه الأعباء ، كان لا بد له من زاد يعينه ، ويمسك عليه عزمه ومضاءه ..
والصبر والصلاة هما خير ما يتزود الإنسان به ، لكى يجد من نفسه القدرة على الوفاء ببعض حق اللّه عليه.
والصبر قوة معنوية لا يحصل عليها الإنسان إلا بعد رياضة ومعاناة ، وتلك الرياضة وهذه المعاناة يحتاجان إلى الصبر ، والصبر يحتاج إليهما ..

(1/164)




و إذن فالدعوة إلى الصبر دعوة إلى التمرس بالطاعات أولا ، والتعود على أداء الواجبات ، فذلك هو الذي يخلق فى الإنسان خلق الصبر .. وفى هذا يقول اللّه سبحانه للنبى الكريم : « وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها » ..
فأداء الصلاة والمداومة عليها يحتاج إلى الصبر والمصابرة ، وبذلك توضع الخمائر الأولى للصبر فى كيان الإنسان ، ومع الزمن ينمو الصبر ، ويصبح قوة عاملة فى الإنسان.
هذا ويذهب بعض المفسّرين إلى أن معنى الصّبر فى قوله تعالى :
«وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ » هو « الصوم » إذ كان الصوم فى صميمه تجربة حية مباشرة لغرس بذرة الصبر وإرواء نبتته ، ولهذا سمّى رمضان شهر الصبر.
ونحن نأخذ بهذا المعنى للصبر ، ونرى فى التعبير القرآنى عن الصوم بالصبر إعجازا من إعجاز القرآن ، حيث كان الصبر والصوم متلازمين ، لا وجود لأحدهما بغير الآخر ، فلا صوم إلا مع الصبر ، ولا صبر إلا ومعه صوم وحرمان ..
صوم عن مكروه ، وحرمان من محبوب!.
ولأن الصوم لا يكون إلا ومن ورائه الصبر ، كان التعبير عنه بالصبر أولى من التعبير عن الصبر بالصوم ، إذ قد يكون الصبر ولا صوم ، ولكن لا يكون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 175
الصوم بغير الصبر!.
والجهاد فى سبيل اللّه ، والانتظام فى صفوف المجاهدين ، والإقدام على ملاقاة الأعداء ، والتعرض لمواجهة الموت ـ ذلك كله يحتاج إلى رصيد عظيم من الصبر والإيمان .. ولهذا جاءت دعوة اللّه إلى الجهاد فى سبيل اللّه ، بعد دعوته إلى الاستعانة بالصبر والصلاة ، على المحن والشدائد.
والجهاد فى سبيل اللّه ، محفوف دائما بالبذل والتضحية .. بذل المال ، وتضحية النفس ، والأهل والولد.

(1/165)




و الابتلاء بفقد الأحباب ـ ولو كان فى سبيل اللّه ـ شاق على النفس ، أليم وقعه على الأحياء ، ولهذا لم يكن الفي ء إلى الصبر والصلاة ـ مهما كان شأنهما ـ بالذي يقهر نوازع الحزن ، ويذهب بلواعج الأسى فى هذا المقام ..
ولهذا جاءت تلك المواساة الكريمة الرحيمة من رب العالمين ، لتمسح بيد الرحمة على ما بقلوب المبتلين بفقد أحبابهم ، والمصابين باستشهاد أهليهم ، من آلام وأحزان ، فهؤلاء الشهداء ـ كما يخبر رب العالمين ـ ليسوا بالأموات ، وإنما هم أحياء. فى أطيب منزل ، وعند أرحب جناب : « عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ، فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ » (179 ـ 170 : آل عمران) إن لهؤلاء الشهداء شأنا آخر عند اللّه غير شأن غيرهم ممن ينقلون من هذه الدنيا إلى الدار الآخرة .. فهم أحياء عند ربّهم وإن كنا لا نشعر بحياتهم ، هم فى عالم ونحن فى عالم ، وبين العالمين حجاز .. وحسب المؤمن أن يتلقّى هذا الخبر عن اللّه تعالى فيعلم ، عن يقين أن الشهداء أحياء ، يلبسون صورة للحياة أكرم وأبقى من الحياة التي كانوا عليها .. وهم فى نعيم لا يقاس به أي نعيم ينعم به المنعمون فى هذه الدنيا.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 176
الآيات : (155 ـ 156 ـ 157) [سورة البقرة (2) : الآيات 155 الى 157]
وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

(1/166)




التفسير : الناس جميعا مبتلون فى هذه الحياة ـ سواء أ كانوا أفرادا أو جماعات أو أمما ـ بشى ء من الخوف والجوع ـ يختلف قلة وكثرة ـ وبنقص فى الأموال والأنفس والثمرات .. فليس أحد فى هذه الدنيا بمأمن أبدا من أن تنزل به هذه النوازل ، متفرقة أو مجتمعة ..
والجزع فى هذه المواطن هو الذي يثقّل المصيبة ، ويولّد منها مصائب ، فيضاعف معها البلاء ، ويعظم الألم ، ويطبق اليأس ، ويغلق كل باب للأمل والرجاء!.
أما الذي يلقى أحداث الحياة ومصائبها بالصبر ، ويواجهها بالتسليم والرضا ، عن يقين وإيمان بأن ما وقع إنما هو بقضاء اللّه وقدره ـ فإن ذلك يهوّن عليه من وقع المصائب وإن عظمت ، ويمدّه بمعين عظيم من الصبر والاحتمال ، ويفتح له بابا واسعا من الأمل والرجاء فيما هو خير عند اللّه وأبقى :
«وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ » فحين يذكر المؤمن أنه ـ ذاتا ومالا وأهلا وولدا ـ ملك للّه ، لا يملك مثقال ذرة مما فى ملك اللّه ، وأن مصائر الأمور كلها إلى اللّه ، ومردّها جميعا إليه ـ حين يذكر المؤمن هذا لا يأسى على فائت ، ولا يحزن على مفقود ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 177
و تلك هى أولى بشريات المؤمنين فى هذه الدنيا ، لا ينزل الحزن ساحتهم ، ولا يرهق الهمّ والكرب قلوبهم : « أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ » .
آية : (158) [سورة البقرة (2) : آية 158]
إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

(1/167)




التفسير : الصفا والمروة جبلان صغيران قرب مكة ، وهما منسكان من مناسك الحج ، والسعى فيهما واجب فى الحج والعمرة عند بعض المذاهب ، ونافلة عند البعض الآخر.
وفى قوله تعالى : « فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » ما يشعر بأن الأصل فى الطواف بهما هو الحظر ، وأن رفع الحظر والجناح وارد استثناء على هذا الحظر ، وهذا يعنى أن هذا الطواف تركه أبرّ من فعله ..
ولكن كيف يكونان ـ الصفا والمروة ـ من شعائر اللّه ، ثم يكون الطواف بهما أو السعى بينهما داخلا فى باب الحرج؟.
هذا ما دعا أكثر المفسرين إلى البحث عن وجه يوفّقون به بين هذين الأمرين! وقد كثرت فى هذا المقولات واختلفت المرويات ، كما هو الشأن دائما فى مثل هذا الموقف!.
ومما قيل هنا : إنه كان هناك صنمان فى الجاهلية ، أحدهما اسمه أساف ، على الصّفا ، والآخر اسمه نائلة ، على المروة ، وأن العرب فى الجاهلية كانوا يترددون
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 178
عليهما ، ويطوفون بهما ، فلما جاء الإسلام ، ودخل النبىّ ـ صلى اللّه عليه وسلم ـ مكة معتمرا وأراد أن يسعى بين الصفا والمروة ، وقع فى بعض نفوس المسلمين شى ء من الكراهية ، فنزل قوله تعالى : « إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ ، فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » أي حيث أن الصفا والمروة من شعائر اللّه ومناسك عبادته ، ولأن السعى بينهما منسك من مناسك الحج ، يجب أو أن يندب أداؤه عند الحج أو العمرة ، فليسع الحاجّ أو المعتمر بينهما ، ولا عليه من بأس أو جناح من وجود هذين الوثنين! فرفع الحرج هو عن السعى مع وجود الصنمين ، لا عن ذات السعى.

(1/168)




و لكن هذا التعليل إن ساغ فى تلك الحال العارضة يوم نزول الآية ـ كما يقال ـ فإنه بعد ذلك يجعل الآية معلقة بوقت نزولها ، منقطعة عن الحياة بعد هذا الوقت ، فإن نظر إليها ناظر اليوم على أنها حكم من أحكام الحج ، وجد فيها هذا الحرج قائما ، يجده فى قلبه من يطوف أو يسعى بين الصفا والمروة!!.
إن كلمات اللّه فوق هذا النظر المتهافت الكليل ، وإن آيات اللّه لا يقطعها الحادث العارض لنزولها ، عن أن تظل عاملة فى الحياة ، ومصدر هدى ونور للناس إلى يوم الدين.
وبنظرة أكثر عمقا وأبعد مدى ، نرى فى تلك الآية ـ بما أرانا اللّه ـ ما يطمئن إليه القلب ، وتستريح له النفس ، وينشرح به الصدر .. والحمد للّه رب العالمين.
ففى قوله تعالى : « إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ » حكم قاطع بأن هذين المكانين من أماكن اللّه ، التي اختصها بأن يتعبّد له فيها العابدون ، ويتقرب إليه عندها المتقربون!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 179
و قد جعل اللّه السعى بينهما منسكا من مناسك الحج ، وفعلا من الأفعال التي تتم بها هذه الفريضة! وليس يعقل بحال أن يلمّ بمن يؤدى هذا المنسك ـ حاجّا أو متعمرا ـ غير نفحات الرحمة والرضوان ..
وإذن فينبغى أن يكون معنى قوله تعالى : « فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » كاشفا عن هذه الحقيقة ، وعن نفحات الرضا والرحمة التي تحفّ بمن يطّوّف بهما! وننظر فنرى أن كلمة « يطّوف » بالتشديد غير كلمة « يطوف » بالتخفيف ، ومعنى هذا أنها تعنى كثرة الطواف ، لا مجرد الطواف! ومن جهة أخرى ، فإن الطواف معناه الدوران ، ومنه الطواف حول الكعبة ، ومنه الطائفة وهى الجماعة المتحلّقة ، وعلى هذا يكون المراد بالتطوف بالصفا والمروة : الدوران حولهما لا السعى بينهما .. والطواف بهما أمكن وأشق من السعى.

(1/169)




و على هذا يكون معنى التطوف : إما الإكثار مع السعى بين الصفا والمروة ، أو التطوف حولهما مع السعى بينهما.
وعلى هذا أيضا ، يكون رفع الحرج والجناح لا عن السعى ، بل عن الاستزادة من السعى ، أو الجمع بين الطواف والسعى ، حيث يظن أن أداء الشعيرة موقوف به عند السعى بعدد من المرات ، لا يتجاوزه الحاج أو المعتمر ، أو أن الجمع بين الطواف والسعى غير مستحب ، فكان رفع الحرج بإطلاق قيد العدد فى السعى ، إلى ما يمكن أن يحتمله الجهد والطاقة ، أو بالجمع بين السعى والطواف ـ كان الرفع للحرج إغراء بالإكثار من السعى ، أو بالسعي الذي يجعل الطواف بالصفا والمروة جزءا منه .. فذلك زيادة فى العمل فى باب الخير ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 180
يزداد به الثواب ، ويتضاعف به الجزاء ، ولهذا جاء قوله تعالى : « وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ » عقب قوله سبحانه : « فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما » بيانا لهذه الاستزادة من التطوف التي هى زيادة فى خير ، ومضاعفة لأجر ، فمن استزاد خيرا فهو خير له.
والفاصلة التي تختم بها الآية : « فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ » إقرار لهذا التطوع بالخير ، الذي يجى ء عن تبرع بما هو فوق المطلوب ، وتقبّل له بالحمد والرضا من رب العالمين : « فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ » .
ومثل هذا ما جاء فى قوله تعالى فى صوم رمضان : « وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ » .
فالذين يجدون جهدا أو مشقّة فى صوم رمضان ، مباح لهم أن يفطروا وأن يطعموا مسكينا عن كل يوم ، وإطعام المسكين هو القدر المطلوب الذي يجزى كفدية عن إفطار يوم ، لمن يفطرون رمضان حين يجدون مشقة فى صومه :
«

(1/170)




فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ » أي من زاد عن المطلوب ، فأطعم مسكينين أو ثلاثة ، أو عشرة ، أو مائة ، أو أكثر ، فذلك زيادة فى عمل الخير ، وعلى قدر هذه الزيادة يزاد فى الثواب.
ومثل آية الطواف بالصفا والمروة ما جاء فى قوله تعالى فيما هو من أعمال الحج : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ » .
فبالإفاضة من عرفات تتم أعمال الحج ، ولكن الحاج لا يزال فى تلك المواطن
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 181
المقدسة ، ونفسه معلقة بها ، وأشواقه نازعة إليها. وعزيز عليه أن تنقطع الصلة بينه وبينها .. إلا أنه من جهة أخرى يرى أنه أدّى الفريضة وقضى مناسكها ، وربما لو أنى عملا آخر ولو كان برا لم يقع عند اللّه موقع القبول ، لأنه جاء على غير شرع اللّه ، فكان قوله تعالى : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ » إذنا بالدخول فى باب جديد من أبواب الخير ، فيه طلب المزيد من فضل اللّه : « فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ » .
الآيتان : (159 ـ 160) [سورة البقرة (2) : الآيات 159 الى 160]
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

(1/171)




التفسير : مناسبة هذه الآية للآية التي قبلها ـ على ما يبدو فى ظاهر الأمر من بعد الصلة بينهما ـ هو أن اللّه سبحانه وتعالى يرسل رسله بالبينات والهدى ليكشفوا للناس طريقهم إلى اللّه ، وما يتقربون به إليه ، من عبادات ومعاملات ، وقد بينت الآية السابقة منسكا من مناسك الحج ، وفتحت للناس بابا من أبواب التقرب والزّلفى إلى اللّه.
وآيات اللّه هذه هى ميراث المؤمنين عن أنبيائه ، والعلماء هم الأمناء على هذا الميراث الكريم .. وقد أخذ اللّه عليهم الميثاق أن يبينوه للناس ولا يكتموا شيئا منه .. كما قال تعالى : « وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 182
و إذا كان أهل الكتاب ـ وخاصة علماءهم ـ قد نقضوا هذا الميثاق ، فكتموا ما أنزل اللّه عليهم. وشوهوا معالم الحق فيه ، فكان من المناسب أن يذكّروا فى تلك الحال بما هم متلبسون به ، وأن يحذّروا ، حتى ينتزعوا أنفسهم مما هم فيه ، من خلال ، إن كان لهم إلى أنفسهم عودة وإلى استنقاذها رغبة! والضمير فى قوله تعالى « مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ » يعود إلى الاسم الموصول فى قوله تعالى « ما أَنْزَلْنا » أي من بعد ما بينا هذا المنزل ، وجعلناه فى كتاب ، وهو التوراة والإنجيل.
وقوله تعالى : « أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ » وعيد شديد لهؤلاء الذين يكتمون ما يعرفون من الحق ، الذي بيّنه اللّه لهم فى كتبه ، واللعنة معناها المقت والطرد من رحمة اللّه.

(1/172)




و أما قوله سبحانه : « وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ » فهو تشنيع عليهم ، وتغليظ لجرمهم ، وفضح لهم بعرضهم فى وجه كل مسبّة يتسابّ بها الناس ، ورميهم بكل سوء يرمى به الناس فى دنيا الناس .. هكذا بكل لسان ، وفى كل مكان وزمان!! وقوله تعالى : « إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا » هو يد رحيمة منعمة ، يمدها اللّه سبحانه لهؤلاء الذين غرقت سفينتهم ، وتدافعت بهم أمواج الضلال والفتنة ، لتلقى بهم إلى حيث البلاء المبين ، والعذاب الأليم ، وتلك فرصتهم إن اهتبلوها ومدوا أيديهم إلى اللّه ، وأخلصوا له القول والعمل ، كان فى ذلك خلاصهم ونجاتهم ، ففى رحمة اللّه متسع لهم ، فعلى هؤلاء الذين مكروا بكتاب اللّه ان يتوبوا ، وأن يعدلوا عن طريقهم المعوج الذين ركبوه ، وأن يصلحوا ما أفسدوا وما أدخلوا على كتاب اللّه من تحريف وتبديل ، وأن يبينوا ما فى كتاب اللّه من حق ، فى شأن النبي ورسالته .. هنالك يستقيم طريقهم ، وتقبل توبتهم : « فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » .
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 183
و انظر فى قوله تعالى : « وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » كم تجد فى قول الحق جل وعلا : « أَنَا » من معطيات الأمل والرجاء لمن يلفتهم اللّه إليه ، ويتجلّى عليهم بذاته؟ وكم تجد فى « واو » العطف فى قوله سبحانه : « وَ أَنَا » من قوى الجذب إلى اللّه لهؤلاء الضالين الظالمين؟
«فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ » فهم الراجعون إلىّ ، الطامعون فى رحمتى « وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ » . الذي يقبل التوبة عن عباده ، ويرحمهم.
الآيتان : (161 ـ 162) [سورة البقرة (2) : الآيات 161 الى 162]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

(1/173)




التفسير : أما الذين أصروا على الكفر وماتوا عليه ، دون أن يتطهروا منه بالتوبة والإيمان ، فقد ضلّ سعيهم ، وساء مصيرهم ، ووقع عليهم من ربهم رجس وغضب ، ومن الوجود كلّه ـ أرضه وسمائه ـ المقت واللعنة ..
والضمير فى قوله تعالى : « خالِدِينَ فِيها » يعود إلى اللعنة فى قوله تعالى :
«أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ » أي هم واقعون تحت هذه اللعنة ، خالدين فيها أبدا ، لا يخفف عنهم عذابها ، ولا ينظر إليهم بعين الرحمة أبدا.
الآيتان : (163 ـ 164) [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 164]
وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 184
التفسير : هذه دعوة إلى كل مخلوق : أن يشهد أن لا إله إلا اللّه ربّ العالمين ، لا شريك له ، رحمن السموات والأرض ورحيمهما.
وبين يدى هذه الدعوة ، معارض مختلفة الصور والألوان لما أبدعت يد الخالق ، وما أودعت قدرته وحكمته فى هذا الوجود من آيات وشواهد ، تحدّث بجلال اللّه وعظمته ووحدانيته.
وفى كلّ شى ء له آية تدلّ على أنه الواحد
فنظرة مستبصرة فى هذا الوجود تفتح للناظر أكثر من طريق إلى اللّه ، إن هو احترم عقله ، واستفتى قلبه!
آية : (165) [سورة البقرة (2) : آية 165]

(1/174)




وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165)
التفسير : وإنه لضلال ما بعده من ضلال ، وسفه ليس وراءه من سفه أن تكون دلائل القدرة ، وشواهد الوحدانية مبثوثة فى كل أفق ، ناجمة فى كل مكان ، ثم يكون مع ذلك فى الناس من لا يعرف طريقه المستقيم إلى اللّه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 185
فتتفرق به السبل إليه ، فيرى اللّه بعين مريضة ، وبقلب سقيم ، وإذا اللّه عنده ربّ مع أرباب ، وإله بين آلهة ، فولاؤه للّه قسمة بينه وبين ما أشرك معه من آلهة وأرباب ، وحبه للّه موزع مشاع بينه وبين الشركاء الذين جعلهم معه ، وليس كذلك حبّ الذين آمنوا وأخلصوا إيمانهم للّه ، فهو الحبّ كل الحبّ للّه وحده ، لا شريك له فيه.
وقوله تعالى : « وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ » وعيد مزلزل لكيان أولئك الذين أشركوا باللّه وجعلوا له أندادا ، وانتقال خاطف بهم إلى يوم القيامة وأهوالها ، والنار الجاحمة المعدة لهم ، وعندئذ يرون أن الملك للّه وحده ، وأن القوة كلها بيده ، لا يملك أحد منها مع اللّه شيئا ، يدفع عنهم هذا العذاب المحيط بهم.
الآيتان : (166 ـ 167) [سورة البقرة (2) : الآيات 166 الى 167]
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

(1/175)




التفسير : هنالك فى هذا الموقف المتأزم الخانق ، وبين يدى هذا الجحيم الآخذ بالنواصي والأقدام ، يكثر التلفت إلى الوراء ، وترتفع صيحات الحسرة والندم من الآثمين الضالين! وفى مشهد من تلك المشاهد تقع الملاحاة بين الأتباع والمتبوعين ، ويتبرأ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 186
المتبوعون من الأتباع ، وتتقطع بينهم أسباب التقارب والتواصل ، ويترامون بالعداوة والبغضاء! والأتباع والمتبوعون هنا هم جميعا من أهل الضلال .. أما الأتباع فهم العامة ، وأما المتبوعون فهم العلماء وأصحاب القيادة الدينية فيهم ، إذ هم الذين زينوا للعامة هذا الضلال ، وهم الذين حرّفوا لهم الكلم عن مواضعه ، فأهلكوهم وهلكوا معهم جميعا.
فالمشهد هنا بين الأتباع والمتبوعين قائم على شفير جهنم التي يساق إليها الأتباع والمتبوعون معا.
ولما كان هؤلاء المتبوعون هم الذين زينوا لأتباعهم هذا الضلال الذي أوردهم موارد الهلاك ، فقد وقع فى أنفسهم حين رأوا العذاب الذي ينتظرهم ، أن أتباعهم سوف يتعلقون بهم ، ويسوقونهم للقصاص منهم ، بتهمة التحريض والغواية لهم ، إذّاك بادر هؤلاء المتبرعون وتبرءوا من أتباعهم ، ونفضوا أيديهم من كل صلة بهم! وحين يجد الأتباع أنهم وقادتهم حصب جهنم ، كما يقول اللّه تعالى :
«فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ » : (33 : الصافات) يتضاعف حزنهم وتشتد حسرتهم ، ويقطّع اليأس نياط قلوبهم ، حين لم ينالوا منالا من هؤلاء الذين غرروا بهم ، وأوردوهم هذا المورد الوبيل! وإذ ذاك تنطلق ألسنتهم بكلمات تتميز غيظا ويأسا : « لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً! فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا؟ » فهم إنما يتمتمون ـ فى يأس مغلق ـ أن يردّوا هم ورؤساؤهم إلى هذه الدنيا ، ليراجعوا حسابهم معهم على ضوء ما تكشّف لهم فى هذا الموقف ، وليصموا آذانهم عن كل دعوة باطلة يدعونهم إليها ..

(1/176)




أما تبرؤهم منهم فى الآخرة فإنه لا يجدى نفعا .. فقد دعوا إلى الضلال وأجابوا ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 187
و هاهم أولاء يجنون ثمرة ما زرعوا من شرّ ، وما ثمّروا من إثم! « كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ » .
الآيتان : (168 ـ 169) [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 169]
يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)
التفسير : تكشف هاتان الآيتان عن وجه آخر من وجوه الضلال ، فكما يفسد بعض الناس على الناس تفكيرهم ، ويفتنونهم فى دينهم ، كذلك تفسد نفس الإنسان على الإنسان تفكيره وتفتنه عن دينه ، حين يسلم المرء زمامه لنفسه فلا يراجعها ، ويتبع هواها حيث يميل به ، والإنسان بما فيه من عقل وإدراك مسئول عن نفسه مسئولية لا يدفعها عنه إغواء المغوين ولا إضلال المضلين ، حتى ولو كان وارد هذا الإغواء ، ومهب ذلك الضلال نابعا منه ، ومن نفسه التي بين جنبيه. وهو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالشيطان .. فسواء أ كان الشيطان هنا أو هناك ، بعيدا أو قريبا ، فإنه لا يبدو للإنسان ، ولا يجد له وجودا قائما فى كيانه ، وإنما هى وسوساته وخطراته ، التي يقذفها فى النفس ، فتتحرك أهواؤها ، وتتناغى بلابل شهواتها ، فإذا لم يتنبه الإنسان لها ، ويأخذ السبيل عليها ، ملكته ، وأسرته ، وألقت به ليد الشيطان! فالشيطان ، هو دعوة الضلال التي تساق إلى النفس ، على لسان إنسان ضال مضلّ ، وذلك هو شيطان الإنس ، أو التي تتحرك من داخل كيان الإنسان فيجد مسّها فى صدره ووقعها على نفسه ، من وارد خفى ، لا يدرى من
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 188

(1/177)




أين جاء ، وذلك هو شيطان الجن : « قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ » .
الآيتان (170 ـ 171) [سورة البقرة (2) : الآيات 170 الى 171]
وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)
التفسير : هؤلاء الذين لم يستمعوا لنداء الحق ، ولم يستجيبوا لدعوة العقل ، فاتبعوا خطوات الشيطان ، وأسلموا زمامهم ليده ـ هؤلاء قد ألغوا عقولهم ، وباعوها بيع المفلسين .. بلا ثمن ..
فإذا دعاهم داعى الحق : أن آمنوا بما أنزل اللّه ، قالوا : « بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا » هكذا يريحون أنفسهم من عناء التفكير والنظر ، وحسبهم أن يقفوا آثار آبائهم ، وأن يرثوا عنهم عقيدتهم ، ويتلقوا منهم دينهم ، كما يرثون ما خلّفوا من متاع ، وكما يتلقون ما استقر فيهم من تقاليد وعادات!! والمجتمع الذي يحيا هذه الحياة ، مجتمع مصيره إلى الضياع والبوار ، لأنه أشبه بالبركة الراكدة ، التي لا يلبث ماؤها طويلا حتى يفسد ويتعفّن! أما المجتمعات التي يكتب لها النماء والازدهار فهى المجتمعات التي يتجدد شبابها بالعمل المادي والعقلي ، فتفيد من تجارب أسلافها ، وتضيف إلى تلك التجارب جديدا يجلو صدأها ، وينمّى ذاتها ، ويستولد الجديد الكريم منها.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 189

(1/178)




و ماذا على هؤلاء الذين يدعون إلى الإيمان بما أنزل اللّه ، لو نظروا بعقولهم فى هذا الذي يدعون إليه ، فإن صحّ فى عقولهم ، واستقام مع الحق البعيد عن الهوى ، اتبعوه عن علم ، ولا عليهم أن يكون موافقا أو مخالفا لما عليه آباؤهم ..
فإن كان موافقا له ، زاد إيمانهم إيمانا ، ويقينهم يقينا ، وإن كان مخالفا وقوا أنفسهم شرّ الهاوية التي كانوا سيهوون إليها ، لو أنهم اقتفوا آثار آبائهم ، وسلكوا مسلكهم! وفى قوله تعالى : « وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً » تصوير كاشف لحال هؤلاء الذي لبسوا الكفر تقليدا ومتابعة وإرثا ، فجمدوا على ما هم فيه ، وأبوا أن يتحولوا عنه ، ولو زلزلت الأرض بهم ..
إنهم ـ وهذا شأنهم ـ لا يستمعون لداع ، ولا يستجيبون لمناد ، فلا تختلف حالهم كثيرا عن حال الحيوان الأعجم الهائم على وجهه ، يهتف به : أن أقبل ، أو اتجه يمينا أو يسارا ، أو ما أشبه ذلك ، فلا تترجم هذه المعاني فى سمعه إلا على أنها أصوات هائمة ، لا معقول لها عنده ، فتسقط الكلمات على أدنه كما تسقط الحجارة على الحجر! « صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ » فلقد سدّت عليهم منافذ العلم ، وأغلقت دون عقولهم أبواب المعرفة.
وفى قوله تعالى : « يَنْعِقُ » إشارة إلى أن الكلمات التي يهتف بها الهاتف إلى هذا الحيوان هى بالنسبة إليه نعيق ، ولهذا عبّر عنها بما هى صائرة إليه ، لا بما كانت عليه عند منطلقها من فم قائلها!
الآيتان : (172 ـ 173) [سورة البقرة (2) : الآيات 172 الى 173]

(1/179)




يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 190
التفسير : هذا نداء إلى الذين آمنوا ، والتفات إليهم بعد الانصراف عن أولئك الذين أصمّوا آذانهم عن دعوة الحق ، وأغلقوا قلوبهم على ما أشربوا من التعلق بما كان عليه أسلافهم من ضلال.
وطيبات الرزق ، هى الصفو الخالص من كل شائبة ، وقد أبيح للمؤمنين كل طيب ، وحرم عليهم كل خبيث ، حتى لا يدخل على أجسامهم من الطعام إلا الطيب ، كما لم يدخل على عقولهم من الدين إلا الحق.
وما أهلّ به لغير اللّه ، هو ما لم يذكر اسم اللّه عليه ، وذبح قربانا لمعبود غير اللّه.
وفى قوله تعالى « غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ » ضبط للقدر الذي يقف عنده المضطر حين يدعوه الاضطرار إلى تناول شى ء من هذه المحرّمات ، فلا يفتعل الاضطرار ، ولا يركب الأمور التي يعلم أنها ستدخله مداخل الاضطرار وهو قادر على ركوب غيرها فإذا دخل منطقة الاضطرار من غير بغى ، فلا ينال من هذه المحرمات إلا القدر الذي يمسك عليه حياته ، ولا يلقى به فى التهلكة ..
من غير عدوان ومجاوزة الحدّ ، الذي يحفظ النفس من التلف.
الآيات : (174 ـ 175 ـ 176) [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176]

(1/180)




إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 191
التفسير : من الذين يأكلون السحت ويملئون بطونهم بالحرام ، أولئك الذين عندهم علم الكتاب من أهل الكتاب ، ثم يكتمون علمهم هذا ، ولا يؤدون الشهادة على وجهها إذا دعوا ليدلوا بما عندهم من علم ، فى أمر ما ، بل يحرّفون ويبدلون ، لقاء الاحتفاظ برياسة دينية لهم على الناس ، أو انتصارا للمشركين على المؤمنين فى مقابل ثمن معلوم.

(1/181)




فهؤلاء إنما يأكلون فى بطونهم النّار فى هذه الحياة الدنيا ، لأن هذا الطعام الذي يأكلونه إنما هو مما باعوا به دينهم ، وبهذا صاروا أهلا للنّار ، وقد أعدت أجسامهم التي نمت من هذا الطعام الحرام لتكون وقودا لتلك النار! وفى قوله تعالى : « فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ » صوت يتردد من خارج النار التي تلتهم أولئك الذين مكروا بما أنزل اللّه ، فاشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة ، إنه صوت أولئك الذين نجاهم اللّه من هذا البلاء ، يعبّرون به ـ فى دهشة واستغراب ـ عن صبر هؤلاء الأشقياء الذين تأكلهم النار وهم يتقلبون على جمرها .. إن كل من يطلع عليهم لا يملك إلا أن يستهول هذا الهول الذي هم فيه ، ويتعجب من احتمالهم له ، وصبرهم عليه! واستحضار هذه الصورة فى الدنيا ، فيه تنفير من هذا الموقف الأليم ، وتحذير من هذا المصير المشئوم! والإشارة فى قوله تعالى : « ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ » واردة على هذا المصير البغيض ، الذي صار إليه أولئك الذين كتموا ما أنزل اللّه من
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 192
الكتاب واشتروا بآيات اللّه ثمنا قليلا ، وأنهم إنما استحقوا هذا الجزاء السيّ ء لانحرافهم عن الحق عن علم .. ذلك بأن اللّه نزل الكتاب ناطقا بالحق ، وقد عرفوه ، فلا عذر لهم إذا هم تنكبوا طريق الحق ، وركبوا شعاب الباطل والضلال!.
الآية : (177) [سورة البقرة (2) : آية 177]

(1/182)




لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
التفسير : يحسب علماء أهل الكتاب أن مراسيم العبادات وصورها وأشكالها التي يقفون عندها ، بحيث لا تنفذ آثارها إلى باطنهم ، ولا تؤثر فى سلوكهم ـ يحسبون أن ذلك هو غاية الدين ، ومقصد الشرع ، فنعى اللّه عليهم ذلك ، وكشف سوء فهمهم للدين ، وقصر نظرهم إلى الشرع ..
فالدين معتقد وعمل ، وعبادة وسلوك ، وغرس وثمر! وفى الآية الكريمة أكثر من نظر :
ففى قوله تعالى : « وَ فِي الرِّقابِ » وهو معطوف على ما قبله .. وكان سياق النظم يقضى أن يكون : و«الأرقاء » أو نحو هذا ، حيث أن المال المدعوّ إلى بذله ، إنما يبذل لذوى القربى واليتامى ، والمساكين وابن السبيل والسائلين ،
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 193
أي أنه يقدم لأيد محتاجة إليه ، ولأشخاص يسدون به حاجاتهم ، وهو مع الأرقاء لفك رقابهم ، ولكن لما كان الرقيق يمكن أن تفك رقبته من غير أن يأخذ هو المال فى يده ، بأن يشترى من مالكه ثم يعتق بيد شاريه ، أو يكون ملكا بشراء أو بغير شراء ثم يعتقه مالكه ـ فعتقه هنا إنما هو بذل المال ، وإن لم يكن مقبوضا. ولهذا كان لفظ القرآن هو اللفظ الذي لا لفظ غيره فى هذا المقام : « و فى الرقاب » أي وإنفاق المال فى فك الرقاب ، وتخليص الأرقاء وتحريرهم.

(1/183)




و فى قوله تعالى : « وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ » عطف جملة على جملة ، حيث عطف الفعل « أقام الصلاة » على قوله تعالى : « مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ » أي البرّ :
من آمن باللّه ... وأقام الصلاة وآتى الزكاة!.
وإيتاء الزكاة ، بعد بذل المال على ذوى القربى واليتامى والمساكين والسائلين وفى الرقاب ـ هو فرض واجب ، على حين أن البذل المدعوّ إليه قبل ذلك ، هو من قبيل التطوع الذي لا تسقط به فريضة الزكاة!.
قوله تعالى : « وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ » معطوف على « من آمن » أي البر هو آمن باللّه واليوم الآخر ، و... و... والموفون بعهدهم إذا عاهدوا أي والذين أوفوا بعهدهم إذا عاهدوا.
قوله تعالى : « وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ » قطع للصابرين عما قبلها ، منصوبة على الاختصاص ، إظهارا لفضل الصبر ، وأنه ملاك كل أمر ، كما بينا ذلك من قبل .. إذ لا وفاء بتكليف إلا مع عزيمة ، ولا عزيمة إلا مع الصبر ، وبالصبر.
والبأساء : الحاجة والفقر ، والضراء : ما يصيب الإنسان فى ماله أو نفسه ، أو أهله ، وحين البأس : أي حين الحرب والقتال.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 194
الآيتان : (178 ـ 179) [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

(1/184)




التفسير : ممّا هو من البر الذي ذكر فى الآية السابقة على هذه الآية ، أن يأخذ المسلمون أنفسهم بالتطبيق العملي لما فرض عليهم فى جرائم القتل ، وهو القصاص ، وهو قتل القاتل بمن قتل!.
وفى قوله تعالى : « الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى » بيان لتكافى ء المسلمين .. فليس حرّ أحسن من حرّ ، أو عبد أكرم من عبد ، أو أنثى أفضل من أنثى!.
وقد رأى بعض الأئمة الفقهاء أن القصاص هنا إنما يقع بين المتماثلين :
الحرّ بالحرّ ، والعبد بالعبد ، والأنثى بالأنثى .. فلا يقتل الحرّ بالعبد ، ولا الرجل بالمرأة!.
وهذا تخريج غير سليم للآية الكريمة .. إذ ليس هذا التقسيم التنويعى للناس ، بالذي يوجب التفاضل بين نوع ونوع! ولو كان موجبا لذلك لما كان قتل المرأة بالرجل ، ولا العبد بالحرّ قصاصا .. إذ لا بفي دم المرأة ـ على هذا التقدير ـ بدم الرجل ، وكذلك دم العبد ودم الحرّ!.
وأولى من هذا أن تفهم الآية على وجه آخر .. وهو أن التنويع الذي جاءت به الآية ، ليس مقصودا به التفاضل بين نوع ونوع ، وإنما المقصود به أولا هو :
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 195
ألّا تفاضل بين أفراد الأنواع .. فالحر لا يفضل الحرّ ، سواء أ كان قرشيا ، أو غير قرشى .. وهكذا سائر الأنواع ..
فإذا استقام ذلك ، وزالت الفوارق بين الناس ، فى النسب ، والدم ، والجاه ، والسلطان ، جمعهم جميعا ـ أحرارا وعبيدا ، ذكورا وإناثا ـ نسب واحد .. هو الإسلام ، الذي اصطبغوا بصبغته وحدها ، وتعرّوا من كل نسبة إلا نسبته ، وهنا تتكافأ دماؤهم .. الحر ، والعبد ، والأنثى .. سواء ، كما فى الحديث الشريف : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » .
وعلى هذا تقتل النفس بالنفس ، أيّا كان جنسها ، أو مكانها الاجتماعى ..
إنسان بإنسان ، وروح بروح.
الآيتان : (180 ـ 181) [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 181]

(1/185)




كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
التفسير : ومما هو من البر أيضا ، التزام هذا التشريع الذي كتب على المؤمنين ، وهو الوصية للوالدين والأقربين .. وقد ذكر فى الآية (177) أن مما يقوم عليه البر هو إيتاء ذوى القربى ، وإذ جاء ذلك مطلقا من غير أن يبيّن ، أهو على سبيل الوجوب ، أو التطوع ، فقد جاء فى هذه الآية مبينا بأنه على سبيل الوجوب ، إذ كان مما كتبه اللّه وفرضه على المؤمنين.
وقد اختلف فى وصف « الخير » الذي يتركه الذين يحضرهم الموت ، من حيث الكثرة والقلة .. والرأى أنه يكون شيئا له وزنه واعتباره ، بحيث يكون مما تطمح إليه الأنظار ، وترصد مساره النفوس ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 196
و قوله تعالى « الْوَصِيَّةُ » هو نائب فاعل للفعل : كتب عليكم ، أي فرض عليكم الوصية للوالدين والأقربين إذا حضر أحدكم الموت.
وقوله تعالى « بِالْمَعْرُوفِ » هو ضبط للمعيار الذي تقوم عليه الوصية ، فلا يتحكم فيها هوى ، فتميل بجانب ، وتخفّ بجانب ، أو أن يراد بها الكيد لا البرّ ..
وهذه الآية مما قيل إنها من المنسوخ ، وأنها نسخت بآية المواريث! ونحن لا نقول بالنسخ ، ولا نراه فى تلك الآية الكريمة ..

(1/186)




فهى برّ خاص بالوالدين ، اللّذين قد لا يقوم الميراث بحاجتهما ، وخاصة إذا كانا قد تقدمت بهما السنّ ، وخلا ظهرهما من الابن الذي كانا يأملانه لكفالة شيخوختهما! وإذا كان ما فرضه اللّه سبحانه وتعالى لهما من ميراث فيما ترك ابنهما هو القدر الذي قضت به الشريعة ، كنصيب مفروض لهما ، فإن ذلك لا يقضى بحرمانهما من برّ خاص يجى ء من قبل الابن ، أو الابنة ، وهما فى حال الحياة ، ومن قبل أن يصير ما فى أيديهما خارجا عن سلطانهما ، ملكا لغيرهما ..
وليس تأخير الوصية والبر الذي تحمله إلى ما بعد الوفاة ـ بالذي يخرجها عن كونها برّا خاصّا ، جاء من عمل ابنهما أو ابنتهما ، وعن إرادتهما .. فإذا عرفنا ـ مع هذا ـ أن الوصية محددة القدر ، وأنّها ، لا تتجاوز بحال ثلث التركة ـ كان القول بنسخها قطعا لآصرة المودة والبر بالوالدين ، هذا البرّ الذي يرى فيه الولد ـ وقد أحسّ دنوّ أجله ـ شيئا من العوض عما فاته من برّ والديه ، وقد قضى الموت قضاءه فيه قبلهما ، ثم إن هذا البرّ قد يكون شيئا رمزيّا ، لا يراد به إلا التعبير عمّا للوالدين من حقّ قبل ولدهما ، إذ لم يكن ما يوصى به مقدورا بقدر معيّن من المال! هذا فى الوصية للوالدين ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 197
أما الأقربون ، فإن كانوا ورثة كالزوجة والابن وغيرهما ، فشأنهم شأن الوالدين ، فى إطلاق إرادة المورث ، المشرف على الموت ، أن يوصى لمن شاء منهم ـ فى حدود الثلث ـ بما يراه ، ليسدّ حاجة يراها المورث فى ورثته ، كأن تكون الزوجة مريضة ، أو يكون أحد الأبناء ذا عاهة أو نحو هذا ..

(1/187)




فإن كان الأقربون غير ورثة ، فإطلاق إرادة المورث بالوصية لهما بشى ء مما سيترك ، أوجب وألزم .. إذ يرى أنهم ـ وهم ذوو رحمة ـ محرومون مما ترك للورثة من أقاربه! فالوصية ـ على هذا التقدير ـ ليست إلا استثناء من حكم عام هو الميراث ، وبهذا الاستثناء تعالج الثغرات التي تظهر فى الحكم العام عند تطبيقه ، الأمر الذي لا يخلو منه حكم عام! وفى قوله تعالى : « بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ » حراسة مؤكدة على هذا الاستثناء من أن يجوز على الحكم العام أو يعطّله ..! وبهذه الحراسة المؤكدة تكون الوصية دعامة قوية يقوم عليها الميراث ، وتكمل بها جوانب النقص الذي قد يكون فيه ، فى أحوال وظروف خاصة ، يترك تقديرها للمورث ، ولما فى قلبه من تقوى ، خاصة وهو على مشارف الطريق إلى اللّه.
وقوله تعالى : « فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ » الضمير فى « بدّله » يعود إلى قوله تعالى « خَيْراً » أي فمن بدّل فى هذا الخير المسوق إلى الموصى إليهم من الموصى ، بأن زاد أو نقص فيما سمع من الموصى ، فإن إثم ذلك التحريف والتبديل واقع عليه .. فليحذر شاهد الوصية أن يشهد بغير ما سمع : « إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ » قد سمع ما نطق به الموصى ، وعلمه وشهد عليه .. ومخالفة شاهد الوصية لما أوصى به الموصى ، هو مخالفة لما سمعه اللّه وعلمه ، وشهد به.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 198
و الحديث المروىّ : « لا وصية لوارث » حديث غير متواتر ، لا ينسخ به حكم من أحكام القرآن.
آية : (182) [سورة البقرة (2) : آية 182]
فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

(1/188)




التفسير : بعد أن أثّم اللّه سبحانه وتعالى الذين يحرّفون الوصية على غير ما أراده الموصى ونطق به ، كان مما قضت به حكمة الحكيم العليم أن يقيم الوصية على العدل ، وأن يحمى هذا البر من أن يدخل عليه ما يجعل منه أداة للظلم ، وطريقا إلى الإثم.
فقد يركب الموصى رأسه ، فيتخذ من الوصية سلاحا يضرب به فى عصبية وعمى ، فيعمل على حرمان بعض أصوله أو فروعه ، على حين يعطى بغير حساب من تقع عليه مشيئته منهم .. وفى هذا ما فيه من تقطيع أو أصر المودة والرحمة بين ذوى القربى.
ولهذا جعل اللّه لشاهد الوصية جانبا من المسئولية فيها ، وفى إقامتها على العدل والخير والمعروف. فهو ـ أي الشاهد ـ مطالب بأن يؤدى الشهادة فى الوصية على وجهها ، إذا كانت محققة للعدل والخير والمعروف ، فإن حرّف أو بدل ، اتباعا لهوى ، أو ميلا إلى ذى قرابة أو صداقة ، فهو آثم ، يلقى من اللّه جزاء الآثمين ، فإن كان التحريف أو التبديل لسدّ خلل فى الوصية ولإقامة ميزان العدل فيها فإنه لا بأس حينئذ منه.
ولما كان هذا التبديل خروجا على الأصل ، فهو فى حكم ما أبيح للاضطرار ، ينبغى الأخذ منه بالقدر الضروري ، وبحذر وحرج معا ، إنه
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 199
أشبه بعملية جراحية ، لا تتعدى العضو الفاسد ، وإلا كان الخطأ والخطر ، وكان اللوم والمؤاخذة!.
وفى قوله تعالى : « فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ » إشارة صريحة إلى الطريق الذي يلتزمه شاهد الوصية ، إذا رأى أن يعدّل من صورتها ، وهو الصلح بين ورثة الموصى وقرابته ، بحيث يكون حظهم مما ترك مادة خير لهم ، لا مصدر شقاق وفرقة.
وفى قوله سبحانه : « فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ » إشارة رفيقة إلى أن ما يفعله شاهد الوصية من تبديل ، فى الحال التي يعالج ما بها من عوج ، ليس من باب اكتساب الثواب ، وحسبه إن هو أحسن ووفق أن يخرج معافى ، لا له ولا عليه! ..
«

(1/189)




فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ! » وفى قوله تعالى : « إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ » إشارة ثالثة إلى أن ما فعله شاهد الوصية فى هذا الموقف أمر ترجى له المغفرة والرحمة من رب غفور رحيم ، إذ كان داعيته البر والخير ، وكانت النية القائمة وراءه الإصلاح بين الناس ، فهو والأمر كذلك أشبه بمعصية ، ترجى لها الرحمة والمغفرة ، فإنّ الكذب هو الكذب ، حتى ولو كان فى سبيل البرّ والخير .. ولكنه فى هذا المقام متسامح فيه بالقدر الضروري ، كما يتسامح فى أكل الميتة ولحم الخنزير وغيرهما من المحرمات عند الاضطرار!
الآيتان : (183 ـ 184) [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 184]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 200
التفسير : فى آية البر (177) لم يذكر الصوم فيما ذكر من شعائر البر ، ولكن قد أشير إليه ضمنا فى قوله تعالى : « وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ » إذ كان الصوم مما يدخل فى دائرة الصبر .. بل هو « الصبر » نفسه.
وفى هذه الآية بيان لفريضة الصوم ووقتها وأحكامها ، كما ذكر ، فى الآيات التي قبلها من أعمال البر : القصاص فى القتلى ، والوصية عند الموت ، وهما أمران يستندان إلى الصبر ، وكما سيذكر بعد ذلك الجهاد فى سبيل ، وهو أمر لا يقوم إلا على الصبر.
وفى قوله تعالى : « وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ » بيان لمن أبيح لهم الخروج من هذا الحكم العام الذي دخل فيه المسلمون جميعا ، وهو وجوب الصوم ..

(1/190)




و يقال : طاق الشي ء يطوقه طوقا وطاقة ، وأطاقه إطاقة إذا قوى عليه ، وطوّقه تطويقا ألبسه الطوق ، يقول اللّه تعالى : « سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ » :
(180 آل عمران) ومعنى هذا أن الذي يطيق شيئا إنما يعطيه طاقته ، أي كل قوته ، وهذا لا يكون إلا مع الأمر الشاق ، الذي لا يقدر علية إلا بجهد ومشقّة.
والذين يطيقونه هم الذين يرهقهم الصوم ، ويبلغ بهم المشقة والجهد ، كالمريض مرضا ملازما ، وكمن دخل مرحلة الشيخوخة ، وكبعض الحوامل اللائي يعانين من حملهن ما يلزمهن نظاما خاصّا فى التغذية .. وهكذا كلّ من خرج بناؤه الجسدى عن حد الاعتدال ، فلا يستطيع الصوم ، وإن استطاعه وجد المشقة والحرج ، فلهؤلاء أن يفطروا ، فقد رفع اللّه عنهم الحرج بقوله تعالى :
«وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ » (78 : الحج) وبقوله سبحانه :
«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها » : (286 : البقرة).
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 201
و الفدية هى ما يفتدى به المفطر الذي أباحت له حاله الجسدية الإفطار ، وهو ما يقدمه كفّارة عن إفطاره ، كما بينه اللّه تعالى فى قوله : « طَعامُ مِسْكِينٍ » أي عن كل يوم.
وقوله تعالى : « فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ » ترغيب فى عمل البر والاستزادة منه ، فإذا جعل اللّه سبحانه الفدية الواجبة هى طعام مسكين ، فإنما ذلك رحمة بعباده ورفقا بالمعسرين منهم ، وتمكينا للفقراء أن يلحقوا بالأغنياء ، بتقديم هذا القربان إلى اللّه ، وبالمشاركة فى البر والمواساة ، ثم إن باب التطوع متسع مع هذا لمن تسخو نفسه بالبذل ، وتسمح يده بالعطاء : « فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ » !.

(1/191)




و فى قوله تعالى : « وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ » ما يضبط ميزان الاتجاه إلى الإفطار عند ذوى الأعذار. فلا يميل بهم إلى التفلّت من الصوم ، مع الجهد المحتمل ، ومع المشقة الممكنة ، فالصوم تكليف ، ولكل تكليف أعباؤه ومشقاته ، وإلا لما كان ثواب وجزاء .. فترجيح جانب الصوم على جانب الإفطار مع الفدية ومع قيام العذر ـ من شانه ألا يجعل للأعذار الواهية مدخلا للترخص فى هذه العبادة ، والتحلل منها لأقل مشقة وأقل جهد.
الآية : (185) [سورة البقرة (2) : آية 185]
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 202
التفسير : اقتضت حكمة اللّه تعالى ، إذ فرض على المسلمين الصوم أن؟؟؟
له خير وقت بالنسبة لهم ، وهو شهر رمضان ، ذلك الشهر الذي بدأ فيه نور القرآن ، وافتتحت فيه طريق الرسالة الإسلامية بين السماء والأرض ، تتنزل أنوار الهداية والرحمة ، فكان اتصال المسلمين باللّه فى هذا الشهر ، والتقرب بالصوم فيه ، أنسب وقت وأعدله ، لإفاضة المشاعر الكريمة ، وإيقاظ الأحاسيس السامية فى الإنسان ، ليخلص وجهه للّه ، وليصفّى روحه من دخان المادة وغباره؟؟؟
و فى قوله تعالى : « فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ » إشارة إلى معنيين أولهما مشاهدة الشهر ورؤيته ، واقعا أو حكما ، وثانيهما الحضور ، من غير مرة؟؟؟
أو سفر ..

(1/192)




و قوله تعالى : « وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ » معطوف على مقدر محذوف بعد قوله تعالى : « يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي أن اللّه يسّر لكم هذه الفريضة ، وقرنها بما يدافع المشقة والحرج عنكم لتؤدوها ولتكملوا عدتها ، ولتكبروا اللّه وتشكروه على أن هداكم ووفق لأداء هذه الفريضة ، وتعرضكم لما أعدّ اللّه من ثواب عليها.
الآية : (186) [سورة البقرة (2) : آية 186]
وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
التفسير : جاءت هذه الآية بين الآيات الشارحة للصوم وأحكامه لتلفت الصائمين إلى ما هم عليه فى تلك الحال من صفاء روحى يدنيهم من اللّه ويجعلهم أكثر استعدادا للاتصال به ..
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 203
فاللّه سبحانه وتعالى دائما أبدا أقرب إلى الإنسان من حبل الوريد ، ولكن الإنسان هو الذي تختلف أحواله ، مع اللّه ، فيدنو أو يبعد ، ويتصل أو ينقطع حسب إيمانه به ، وطاعته له ، ورجاءه فيه .. والإنسان فى شهر الصوم مهيأ للقرب من اللّه ، مستيقظ المشاعر والأحاسيس لمناجاته.
الآية : (187) [سورة البقرة (2) : آية 187]

(1/193)




أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
التفسير : نجد عند المفسرين أقوالا كثيرة فى هذه الآية ، وفى نسخها بآية ونسخها لآية ، وغير ذلك من الوجوه التي لم نرض عنها ، وقد أدلينا بما أرانا اللّه فيها ، واللّه هو الموفق والمعين.
الرفث : ضرب من اللهو والعبث ، والمراد به هنا مخالطة النساء والخلوة بهن. ولما كان الصوم فى صميمه حرمانا من شهوات النفس ولذاذاتها ، وانقطاعا بها عن كل ما من شأنه أن يشبع هوى النفس ويرخى لها الزمام فيما تحب ـ لما كان هذا هو شأن الصوم ، فقد أحس المسلمون عند ما فرض عليهم الصوم وبدؤا يؤدون هذه الفريضة ، أن اتصالهم بنسائهم ، وإطلاق أنفسهم
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 204
على طبيعتها معهنّ ، هو مما يجرح صيامهم ، ويلقى ظلالا من العبث على هذا ، الجدّ الجادّ الذي هم فيه ، الأمر الذي لا يتفق أوله مع آخره ، ولا يلتقى فيه ليله مع نهاره .. وقد امتدّ هذا الشعور إلى الطعام والشراب كذلك ، فتحرّج كثير منهم أن يستبيح لنفسه الطعام والشراب على امتداد الليل كله ، وإنما الذي له هو أن يفطر فيما بين المغرب والعشاء ، ثم يمسك بعد ذلك حتى مغرب اليوم التالي ، بل إن كثيرا منهم كان لا يفطر ، اليومين ، والثلاثة ، بل يواصل الصوم.

(1/194)




و على هذا فإن الموقف لم يكن واضحا أول عهد المسلمين بالصوم ، بين الإنسان ونفسه ، أو بين عزيمته وواقع أمره ، ومعطيات تجربته ، وخاصة فيما يتصل بالاتصال بالمرأة ، إذ كيف يكون اتصال ولا يكون شى ء من المداعبة والملاعبة؟ وكيف يكون فيها الجدّ وهى الغريزة الحيوانية التي لم يستطع الإنسان أن يستعلى عليها من غرائز الحيوان الكامن فيه؟ فإذا غلب الإنسان على أمره فى هذا الموقف ووقع منه ما لا بد أن يقع من عبث فى سكرة من سكرات نفسه ، عاد فانتزعها من هذا الذي هى فيه من عبث ، وحاول أن يردّها إلى الجدّ ، وهذا فى الواقع خيانة للنفس ، وسلب لحق من حقوقها الطبيعية ، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة فى قول الحق جلّ وعلا : « عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ ، فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ » .
ولهذا جاء قول اللّه تعالى : « أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ » حاسما لهذا الموقف ، رافعا عن الصائمين الحرج ، فيما يقع بينهم وبين نسائهم من رفث.
وانظر فى قوله تعالى : « أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ » وفى قوله بعد ذلك : « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » تجد كيف ألقى سبحانه وتعالى على هذا الرفث ستارا جميلا رفيقا ، يستر به ما يكون بين الزوجين
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 205
فى حال اتصالهما ، فلا يطلع أحد على ما يكون بينهما ، « هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ » أي ستر لكم كما يستر الثوب لابسه ، « وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ » تسترون ما يكون منهن من رفث! وفى قوله تعالى : « عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ » بيان لتلك الحال التي كان يعانيها الصائمون من صراع بين الطبيعة النفسية الغالبة ، وبين السموّ الروحي ، الذي يريد أن يبلغه الصائمون بصيامهم ، وأن يتجنّبوا الرفث الذي يقع بين الزوجين.

(1/195)




و فى قوله تعالى : « فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ » إظهار لرحمة اللّه بهم وفضله عليهم : إذ عاد عليهم برحمته ، حين أطلق نفوسهم من هذا الحرج الذي كانوا يعيشون معه ، فى همّ وقلق.
وفى قوله تعالى : « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ » إشارة إلى إباحة اتصال الصائمين بنسائهم على الوجه الذي يكون بينهم فى غير أيام الصوم.
وإنك لتجد فى قوله سبحانه : « فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ » ما يشير إلى إيذان بصورة جديدة للصوم ، على غير الوجه الذي كان قائما عليه ..
وفى قوله تعالى : « بَاشِرُوهُنَّ » معنى غير الذي يعطيه « ارفثوا معهن » إذ المباشرة هى الاتصال المطلق الذي تحدد صفته حسب تصرف الإنسان ، وحسب الحال الذي يكون عليه ، وليس كذلك الرفث الذي يحمل معه عند المباشرة شيئا من اللهو والعبث .. فالأمر بالمباشرة إذ يعنى رفع الحرج ، يعنى مع ذلك أن يلتزم الإنسان القصد والاعتدال ، وأن يتألف هذا الحيوان الذي يكمن فيه ، وأن يذكر فى تلك الحال أنه إنسان! وأما قوله سبحانه : « وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ » فيشير إلى ما ينبغى أن يكون مقصدا فى المباشرة بين الرجل والمرأة وهو طلب الولد ، والأخذ
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 206
بالأسباب المفضية إلى ما قدر اللّه للزوجين من ذرية .. فليست المباشرة.
قضاء الشهوة وإشباع الغريزة ، وإنما هى مطلب كريم ، ورسالة سامية ، ينظر إليها الإنسان من خلال المشاركة فى عمران الحياة ، ونماء الإنسان وحمل المسئولية فى تقديم الإنسان الصالح فى بناء المجتمع! وهذا ما؟؟؟
للمباشرة معنى يرتفع بها عن الرفث الحيواني ، والعبث الماجن.
وأما قوله تعالى : « وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ » صيانة لتلك الفترة التي نوى فيها المسلم الاعتكاف « 1 » فى بيت من بيوت؟؟؟
و الانقطاع للعبادة الخالصة للّه ، من أن يدخل عليها شى ء من لهو النفس؟؟؟

(1/196)




يذهب بثمرة هذه الرياضة ، التي أخذ الإنسان بها نفسه لفترة محدودة الزمن ، فهى أشبه بيوم من أيام الصوم ـ فرضا أو تطوعا ـ لا يحلّ؟؟؟
فيه أن يتحلل من صومه. فللعبادات حرمتها. فإذا أوجب الإنسان على؟؟؟
شيئا منها ، وجب أن يؤديه على الوجه الأكمل له ، وإلا أثم من حيث؟؟؟
الأجر والمثوبة.
وفى قوله تعالى : « تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها » تحذير من اختر الحدود التي أقامها اللّه سبحانه وتعالى لحرماته ، وجعلها حمى لتلك الحرما؟؟؟
و الهاء فى قوله « فَلا تَقْرَبُوها » ضمير يرجع إلى تلك الحدود ، بمعنى أن؟؟؟
الإنسان الإلمام بالحدود المطيفة بالحرمات ، أو يدنو منها ، مخافة أن تزلّ؟؟؟
فيقع فيما حرم اللّه ، وفى الحديث : « من حام حول الحمى يوشك يواقعه » !.
__________________________________________________
(1) اختلف الأئمة فى مدة الاعتكاف بين يوم وعشرة أيام .. فى أقل مدة! ولا حد لأكثره.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 207
هذا وحدود اللّه قد تضرب على أشياء فرض تحريمها ، أو تقام على أمور أباحها وأجاز الأخذ بها.
وسبحان من أحكم آياته ، وتفرد بكلماته ، فجاء بها معجزة قاهرة ، تعنو لجلالها وجوه العالمين ، وتخرس لبيانها ألسنة المخلوقين! ففى الحدود التي تحتوى فى داخلها المحرمات كما فى قوله تعالى :
«

(1/197)




وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ » جاء النهى هكذا : « تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها » أي بالتزام الوقوف خارج تلك الدائرة ، حيث أن ماوراءها من مقابل هذا المنهىّ عنه هو المطلق المباح ، والاقتراب من تلك الدائرة اقتراب من خطر! وفى الحدود التي تضمّ المباحات ، حيث يكون الناس معها فى داخل الدائرة ، يجى ء النهى هكذا : « تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ .. فَلا تَعْتَدُوها » أي ألزموا هذه الدائرة ولا تخرجوا عنها إلى ما يقابل هذه المباحات ، مما هو خارج تلك الحدود! فإن الخروج عن تلك الدائرة وقوع فى محظور! استمع إلى قوله تعالى : « الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ » : (229 : البقرة)!.
فالآية هنا تشريع لإباحة الطلاق ، ولكن هذه الإباحة ليست على إطلاقها ، بل هى داخل حدود مرسومة ، فمن تجاوز هذه الحدود ، وخرج عنها فهو معتد ظالم!.
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 208

(1/198)




و انظر قوله سبحانه : « يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ » (الطلاق : 1) تجد أنها على سمت الآية السابقة .. إنها تقيم حدود اللّه على أمر مباح ، ولكنه قائم على وصف خاص داخل هذه الحدود ، فمن تجاوز به هذا الحد ، وخرج به عن تلك الصفة فقد ظلم نفسه!.
الآية : (188) [سورة البقرة (2) : آية 188]
وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
التفسير : فى الآية السابقة على تلك الآية أقام اللّه سبحانه وتعالى حدّا على حرمة من حرماته ، وهى مباشرة المعتكف فى المسجد زوجه مدة اعتكافه ، ونهى سبحانه عن الاقتراب من هذا الحدّ.
وفى هذه الآية أدخل فى تلك الحدود حرمة أخرى ، هى حرمة المال ، ونهى عن العدوان على هذه الحرمة.
«وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ » وهذه صورة من صور العدوان على المال ، بما يجرى بين الناس من تسلط ، أو نهب ، أو سرقة ، أو غش ، أو احتيال ، إلى غير ذلك مما لا بد للحاكم فيه.
وهناك صورة أخرى للعدوان ، وهى أن يستعان بالحاكم على هذا العدوان بأن يستمال إلى أحد الخصمين بالرشوة ، وفى هذا يقول اللّه تعالى : « وَ تُدْلُوا بِها
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 209

(1/199)




إِلَى الْحُكَّامِ » أي تلقوا بها إلى الحكام « لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ » والحكام هنا هم من يكون إليهم أمر الفصل فيما يقع بين الناس من خصومات ، وبيدهم ردّ المظالم ، ودفع العدوان.
الآية : (189) [سورة البقرة (2) : آية 189]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
التفسير : الذين لا يأخذون الأمور مأخذ الجدّ ، يصرفون أكثر جهدهم فى اللغو ، ويقطعون أكثر حياتهم فى المماحكة والجدل والعبث.
والمنافقون هم دائما أبدا على تلك الصفة .. ينظرون إلى الأمور نظرة لاهية ، ليقعوا منها على وجه من وجوه الخداع ، يلبسونه فى تلك الحال ، ثم يلقونه ليلبسوا غيره فى حالة أخرى .. وهكذا وفى موكب الدعوة الإسلامية كان المنافقون يعترضون سير هذا الموكب ، ويقطعون عليه الطريق بتلك الأسئلة التي لا يراد بها كسب معرفة ، ولا تعرف على حق ، وإنما يقصد بها أولا وآخرا ، التشويش على الدعوة ، وشغلها بالجدل ، والالتحام معها فى معركة من اللغو ، الذي لا محصّل له إلا صداع وضلال.
وقد حمى اللّه الدعوة الإسلامية من أن تنزلق إلى هذا المنزلق ، فكانت إجابة القرآن الكريم على تلك التساؤلات الخبيثة والمماراة المضللة ـ كانت إجابة مفحمة مفحمة رادعة فاضحة.
«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ » ما بالها تظهر ثم تختفى؟ وما شأنها تتجدد
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 210
كل عدد معلوم من الأيام؟ ثم لم تلبس كل يوم صورة جديدة؟ وتولد كل يوم ميلادا جديدا؟.

(1/200)




و لو شاء القرآن أن يجيب على تلك الأسئلة الجواب المناسب لها ، لأعطى الكلمة الحاسمة الفاصلة ، ولكن هذا يفتح المجال للمناظرة والأخذ والرد ، والقبول والرفض .. ثم أنّى للعقول ـ فى كل عصر وفى كل مجتمع ـ أن تستوعب الحقيقة العلمية ، وتقنع بها؟ إن غير هذا أولى بالقرآن ، وأنفع للناس فى مجال دعوته إلى الحق والخير!.
«قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ » ذلك هو الجواب الذي كان ينبغى أن يكون سؤال السائلين متجها إليه ، باحثا عنه .. : « هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ » فهذا هو بعض معطيات الأهلة للناس ، يضبط بها رءوس الشهور ، ويوقف منها على أشهر الحج التي يقول اللّه عنها : « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ » .
وفى قوله تعالى : « وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها » تعقيب يستخلص الحكمة والعبرة من ثنايا الحدث والواقعة ، وذلك من تمام الهدى الذي جاء القرآن الكريم به ، وقامت الرسالة الإسلامية عليه.
فليس من التزكية للنفس ، والهداية للعقل ، والاطمئنان للقلب ، أن يلقى الإنسان الأمور من ظهورها ، وأن ينظر إليها من ورائها ، فذلك لا يطلعه منها إلا على ظلال وأشباح ، أما إذا أراد أن يتعرف إليها ، ويعرف وجه الحق منها ، فليلقها مواجهة ، ولينظر إليها نظرا قاصدا ، فذلك هو الذي يدنيه من الحق ، إن كان طالبا له ، عن نية خالصة وقلب سليم .. وليس كذلك شأن المنافقين الذين لا يأتون الأمور إلا مواربة ، ولا ينظرون إليها إلا بأبصار زائغة منحرفة!
التفسير القرآني للقرآن ، ج 1 ، ص : 211
الآيات : (190 ـ 191 ـ 192 ـ 193) [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 193]
(1/201)


بقية المقال على الرابط

الجزء الاول 2\2..التفسير القرآني للقرآن الدكتور عبد الكريم الخطيب


http://abu-dhar-al-ghifari3.blogspot.fr/2015/12/22.html?spref=fb

Aucun commentaire: