jeudi 15 juillet 2021

القومية والاسلام الدكتور عصمت سيف الدولة


 

القومية والاسلام :


 

الاسلام دين مشترك بين كثير من الأمم والشعوب والجماعات الانسانية . وهكذا يقع تحديد العلاقة بين القومية والاسلام في نطاق علاقة الأمة بالمجتمعات الانسانية خارجها . وكثيراً ما طرحت الرابطة الاسلامية كبديل عن القومية . وهو خطأ جسيم راجع إلى قصور مضاعف في المعرفة الصحيحة بالاسلام وبالقومية كليهما.

فالاسلام دين ولكنه متفرد بمميزات خاصة مثله في هذا كمثل أي دين آخر . وقد عرفنا أن كل أمة معينة تنفرد بمميزات خاصة مثلها كمثل أية أمة أخرى . فالبحث في ” الرابطة الاسلامية ” وعلاقتها بالقومية على ضوء نظرية مجردة في الدين إطلاقاً أو في الأمم إطلاقاً أول خطأ يقع فيه الباحثون ، لأنه يتجاهل خصائص كل دين وخصائص كل أمة . وقد أدى هذا إلى خطأ أكثر جسامة ذلك هو تجاهل العلاقة التاريخية ” الخاصة ” بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة لا مثيل لها – فيما نعرف من تاريخ الأديان والأمم – بين أي دين وأية أمة .

في الأصل كان ” الدين ” عنصراً من عناصر التكوينات الاجتماعية المختلفة التي كانت وحدة   ” الأصل ” محور تكوينها ” الأسر والعشائر والقبائل ” . وانقلب الأجداد الذين ماتوا إلى آلهة يعبدهم نسلهم من الأحياء ، ويتميزون بهم عن ذوي ” الأجداد – الآلهة ” الأخرى . ثم استقر “الإله” رمزاً مميزاً لكل قبيلة . فكان لكل قبيلة ” الهها ” الخاص ، تختاره طبقاً لظروفها الخاصة وتعبده طبقاً لتقاليدها الخاصة ، وتلتمس منه العون في تحقيق مصيرها الخاص . وإن تعددت مشكلاتها لم يكن ثمة ما يمنع أن تكون لكل قبيلة أو مجتمع صغير مجموعة كبيرة من الآلهة يختص كل منها باسداء العون لعباده في واحدة من تلك المشكلات : الحب ، الحرب ، الزرع ، الملاحة .. الخ .

ولكنها حتى وهي مجموعة ” خاصة ” كانت تقوم بالوظيفة المشتركة للآلهة في المجتمعات القبلية وما دونها : رمز يجسد الوجود الاجتماعي المستقل لكل جماعة ويميزها عن غيرها . وكل هذا لايزال قائماً في المجتمعات البدائية والقبلية المعاصرة … ثم جاء الاسلام متميزاً قبل كل شيء بالتوحيد  .( لا إله إلا الله  لاشريك له  .  لم يلد ولم يولد . ) وكان هذا رفضاً اسلامياً قاطعاً لقيام الدين مميزاً للمجتمعات الانسانية بعضها عن بعض لأنه رفض قاطع لاختصاص كل جماعة من الناس بدين خاص يميزهم عن غيرهم . ولم يكن ” التوحيد ” ليكتمل إلا إذا قدّم الاسلام ذاته إلى كل الجماعات الانسانية كبديل مشترك ، ووحيد عن اديانها المتعددة . إن الدين عند الله الاسلام . وهكذا جاء الاسلام – كما هو – خطاباً للناس كافة . لكل البشر في كل زمان وفي كل مكان . نقول الاسلام ” كما هو ” احتكاماً للاسلام ذاته . وحكمه في هذا ملزم للمسلمين الذين يقفون من القومية موقفاً مضاداً باسم الاسلام . ومضمون الحكم أن الاسلام في جوهره دين ” وحدة انسانية ” ومما يتنافى مع جوهره هذا أن يكون ديناً “خاصاً ” بجماعة أو جماعات انسانية دون البشر أجمعين .

وليس للمسلم أن يكون له إله كإله بني إسرائيل . ومن هنا ندرك كم هو جسيم ذلك الخطأ الذي يقع فيه بعض المسلمين عندما يدعون إلى ” مجتمع إسلامي ” مقصور على المسلمين ومحدد لعلاقتهم بغيرهم من المجتمعات . وينسون أن مثل هذه الرابطة ان كانت قد تجمع بين المجتمعات المسلمة فإنها – في الوقت ذاته – تعزل الاسلام عن باقي البشر وتحيله الى دين “خاص ” ببعض الناس وهو للناس كافة . ان هذا ” الاستئثار ” بالاسلام مميزاً لبعض المجتمعات الانسانية ليس من الاسلام في شيء بل هو يتنافى – قطعاً – مع طبيعة الاسلام كدين لكل بني الانسان بدون تمييز والذين يقدّمون الاسلام بديلاً عن ” القومية ” ينزلون بالاسلام من مكانه فوق الأمم جميعاً ليحصروه في أمة أو في بعض الأمم ، وهو رابطة انسانية ولا يمكن أن يكون أقل من رابطة إنسانية ، وبالتالي لا يقع على مستوى واحد من القومية فيكون بديلاً عنها أو تكون بديلة عنه ، بل هو يجاوزها إلى المجتمع الانساني كله الذي يشمل كل الأمم والشعوب والجماعات .

غير أن الاسلام لم يكن ديناً فحسب ، بل كان ثورة اجتماعية ذات مضامين حضارية . وتلك هي إحدى خصائصه المميزة . وهي هي التي أنشأت بينه وبين الأمة العربية علاقة تاريخية متميزة. ذلك ان الاسلام كثورة اجتماعية قد لعب دوراً أساسياً في تكوين الأمة العربية .

ففي خلال أحقاب طويلة من الهجرة والصراع سابقة على ثورة الاسلام كانت قد استقرت مجتمعات قبلية متجاورة في رقعة من الأرض التي يحصرها من الشمال البحر الأبيض المتوسط وجبال طوروس ، ومن الشرق إيران والخليج العربي ، ومن الجنوب المحيط الهندي فهضبة الحبشة فالصحراء الأفريقية الكبرى ، ومن الغرب المحيط الأطلسي . وكانت تلك المجتمعات القبلية متميزة بعضها بما ورثته عن العهد القبلي أي بالأصل الخاص واللغة الخاصة وبتراث خاص من الثقافة والعقائد والتقاليد والطور الحضاري . وعندما استقرت كل منها في مكانها اصبحت شعوباً ودخلت كل منها منفردة – مرحلة التكوين القومي . ولو طال بها الاستقرار لتطورت أمماً متميزة . غير أن الاستقرار لم يطل بأية جماعة منها حتى تكوّن أمة . ولم يطل بها جميعاً حتى تتكون أمماً متجاورة . فقد اجتاحتها موجات متعاقبة كاسحة من الغزو الخارجي إما من وسط آسيا أو من وسط أفريقيا أو من أوروبا . كما أن موجات الهجرة الداخلية – السلمية والمقاتلة – لم تنقطع عابرة بها ومستقرة فيها وكانت فترات الغزو تعطل نموّها وتعوق تكونها القومي بما تسببه من انقطاع في اختصاص كل شعب بأرض معينة ، وما ان ينحسر الغزاة ، أو يستقروا ، لينشط التكوين القومي حتى تدهمها كلها أو بعضها – موجة غازية أخرى . واستمر هذا الوضع : فترات من الاستقرار فالاضطراب فالغزو بالاحتلال ، تحبس نمو تلك الشعوب والجماعات عن اكتمال الوجود القومي حتى ظهر الاسلام ثورة : فكرية واجتماعية معاً .

وعندما ظهر الاسلام لم تكن أية جماعة من تلك الجماعات قد تكونت أمة ، وإن كان أغلبها في طور التكوين . فقد كانت السيطرة الفارسية والاغريقية والرومانية قد عطلت نمو كل الجماعات التي تقيم في النصف الشمالي من تلك المنطقة الجغرافية ، التي لم تكن ، تحت السيطرة ، أكثر من مجتمعات من العبيد لا يختصون بأرضهم دون سادتهم ولا يتفاعلون معها أو فيما بينهم تفاعلاً حراً . وكانت الجماعات الأخرى في قلب الجزيرة العربية أو مشارف صحراء أفريقيا ما تزال في مرحلة قبلية متخلفة . وقد بدأ المسلمون بناء تاريخهم من أكثر البقاع تحرراً من السيطرة الأجنبية أي أكثرها قابلية للتطور والنمو . وقد وفر الاسلام للمجتمعات القبلية المستقرة في وسط الجزيرة العربية ، رابطة اجتماعية مشتركة تجاوزت بها التمييز القبلي ودخلت بها طور التكوين القومي . وجمعت مشكلة نشر الدعوة الاسلامية تلك القبائل في نواة قومية اندفعت غازية ما جاورها من قبائل وأقاليم وأمم . وعندما توقف المد الاسلامي كان قد ضم إليه مجتمعات مختلفة في درجة تكوينها الاجتماعي . كانت منها أمم أدركها الاسلام وهي مكتملة التكوين مثل فارس . وكانت من بينها جماعات ومجتمعات وشعوب ماتزال في طور التكوين لم تستو أمماً . وقد كان أثر الاسلام بالنسبة الى كل من تلك المجتمعات مختلفاً .

فالأمم التي أدركها الاسلام وقد اكتمل وجودها القومي كان الاسلام بالنسبة إليها إضافة إلى حضارتها القومية ولكنه لم يلغ وجودها القومي فظلت أمماً مسلمة . أما المجتمعات التي أدركها الإسلام وهي في الطور القبلي أو وهي شعوب في طور التكوين القومي لم تصبح أمماً بعد ، فقد أكمل الاسلام تكوينها أمة واحدة . أزال الحواجز فيما بينها ووفر لها الأمن الكافي لتتفاعل وتلتحم فتصبح شعباً واحداً ، وقدم لها اللغة الواحدة فتجاوزت العزلة التي تسبق وحدة اللغة ، وحصرها في نظام اجتماعي واحد فوّحد في اسلوب حياتها ، ثم رفع عنها العبودية فالتقت على أرضها المشتركة تتفاعل معها تفاعلاً حراً . وهكذا صنعت في ظله تاريخها الواحد .. فأصبحت بهذا كله أمة عربية واحدة .

بهذا تميزت الأمة العربية عن الأمم الأخرى المسلمة . تميزت باللغة العربية ( لغة القرآن ) عن الأمة الفارسية والأمة التركية والأمة الأفغانية .. الخ حتى عندما كانت دولة الاسلام تشملها جميعاً . وتميزت بوحدة الأرض التي امتدت إلى حدود فارس وحدود تركيا وحدود اسبانيا وحصرتها الصحراء والبحار من الجهات الأخرى حتى عندما كانت تلك الأرض ومعها فارس وتركيا واسبانيا والصحراء ذاتها أجزاء من دولة المسلمين . وصنعت من أرضها ، وبلغتها ، أنماطاً من الفكر والمذاهب ، والتقاليد والحضارة كانت ” تراثاً ” عربياً خالصاً حتى عندما كان الاسلام يطبع حضارتها وحضارات أمم أخرى بطابع اسلامي متميز . ولن نلبث أن نرى أثر هذا عندما تتفكك الدولة الاسلامية فيسفر العالم الاسلامي عن تلك الأمم التي دخلها الاسلام وهي أمم مكتملة التكوين فإذا بها هي هي كما كانت أمماً متميزة بلغتها الخاصة وحضارتها القومية الخاصة وإن كان الاسلام قد أضاف إليها ( الحروف العربية في لغة فارس وتركيا مثلاً ) . ولكنه يسفر عن تلك الجماعات والمجتمعات والشعوب العربية ، التي كان لكل منها لغة خاصة وثقافة خاصة عندما دخلها الاسلام لأول مرة ، فإذا بها شعب واحد يعيش على أرض خاصة ومشتركة ولغة واحدة وثقافة واحدة ، إذا بها قد اكتملت في خلال القرون التي قضتها معاً في ظل الاسلام أمة عربية واحدة .

تلك هي العلاقة التاريخية ” الخاصة ” بين الاسلام والأمة العربية . وهي علاقة جدلية ، انتهت إلى خلق جديد . فكانت الأمة العربية ثمرة تفاعل الاسلام مع تلك الشعوب والمجتمعات والجماعات ، وتفاعلها فيما بينها في ظل الاسلام وحمايته ، تفاعلاً انتهى إلى أن تكون شعباً عربياً واحداً بدلاً من شعوب متفرقة ، ووطناً عربياً واحداً بدلاً من أقاليم متعددة . واستمدت اسمها من تلك النواة التي بدأ بها التكوين القومي في الجزيرة العربية ، وحملت راية الاسلام إلى باقي الوطن العربي ، وقادت حركة التفاعل الخلاق الذي انتهى إلى أن نكون كما نحن أمة عربية . وما كان هذا ليحدث لولا إلتقاء أمرين في مرحلة تاريخية واحدة : الاسلام كثورة حضارية قادرة على التطوير والخلق ، والشعوب التي لم تكتمل أمماً فهي قابلة لأن تتطور وتخلق من جديد . ولم يكن أي الأمرين بمفرده بقادر على ان يخلق ” الأمة العربية ” وهكذا أسهم الاسلام في تكوين الأمة العربية . ولكن عندما تكونت كانت وجوداً ذا خصائص متميزة عن العناصر التي التحمت معها فكونتها . فهي ” أمة عربية ” وليست جماعة مسلمة من ناحية . وهي أمة عربية وليست امتداداً نامياً لأي شعب من الشعوب التي كانت من قبل ولا حتى لتلك النواة التي بدأت بها مرحلة التكوين القومي منذ ثلاثة عشر قرناً في قلب الجزيرة العربية .

يتضح من هذا أنه لايمكن الاحتجاج بالاسلام لانكار الوجود القومي العربي ، أو الاستناد إليه في موقف مضاد للقومية العربية إلا إذا انكرنا على الاسلام مضمونه الثوري الحضاري الذي اسهم في تكوين الأمة العربية . ومن ناحية أخرى لايمكن اسناد الوجود القومي العربي إلى الاسلام وحده لأن الأمة العربية كانت ثمرة تفاعل حضاري اسهمت فيه كل الشعوب والجماعات السابقة على دخول الاسلام ، وفي ظله، بكل من فيها من مسلمين وغير مسلمين .

 

Aucun commentaire: