قالت تعالى: {كان
الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم
بين الناس فيما اختلفوا فيه، وما اختلف فيه إلا الذين أتوه من بعد ما جاءتهم
البينات بغياً بينهم، فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، والله
يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} البقرة 213.
ونرى في هذه الآية أن مفهوم الآية أن
مفهوم الأمة وجد قبل أن يبعث الله أي نبي ونراها تؤكد، بما لا يقبل الرد، على أن
آدم ليس أبا البشر، وليس نبياً. فأول نبي رسول ذُكر في التنزيل الحكيم هو نوح عليه
السلام. وفي عهده وصل الإنسان إلى أبسط لغة مجردة، وشكل بالتالي مجتمعاً واعياً.
وقد أطلق التنزيل الحكيم مفهوم الأمة، من ناحية، على التجمعات الإنسانية الأكثر
بدائية قبل نوح، كما أطلقه، من ناحية أخرى، على البهائم في قوله: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم،
ما فرطنا في الكتاب من شيء، ثم إلى ربهم يُحشرون} الأنعام 38.
كما استعمله من ناحية أخرى على
التجمعات الإنسانية الحديثة في قوله تعالى: {ولتكن منكم
أمةٌ يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون}
آل عمران 104 وأخيراً استعمله للفرد في قوله تعالى: {إن
إبراهيم كان أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين} النحل 120.
فلماذا استعمل مفهوم الأمة هذا الاستعمال الأساسي، وبدأ بها أمر الناس؟
جاء مصطلح الأمة من (أم) ولهذا الأصل
في اللسان العربي معانٍ عدة:
1 – فمنه جاء (الإمام) وهو الذي يقود
الناس فيتبعونه في سلوكه وفي مقالته، كما في قوله تعالى: {..
واجعلنا للمتقين إماما} الفرقان 74 وقوله تعالى: {يوم
ندعو كل أناس بإمامهم ..} الإسراء 71 وقوله تعالى: {فقاتلوا أئمة الكفر ..} التوبة 12 وقوله تعالى: {وجعلناهم أئمةً يهدون بأمرنا ..} الأنبياء 73.
2 – ومنه (الأمي)، وهو ما أطلقه
اليهود على مجموعة الناس التي تجهل تعاليم الدين اليهودي، ثم عمموه على كل الناس
من غير اليهود، فقالوا عنهم أميين. وانظر معي كيف استعمل العرب لفظة الأمي، كما
وردت في التنزيل الحكيم تماماً، في آل عمران 20 و75، وفي سورة الجمعة الآية 2(1).
فعندما هزم الفرس الروم ودخلوا بيت
المقدس، قبل الهجرة، وكانت عواطف المسلمين مع الروم، وعواطف المشركين من قريش مع
الفرس، قالوا المشركون للمسلمين: أنتم والنصارى أهل كتاب، ونحن والفرس أميون(2).
3 – ومنه (الأمة) وهي الفترة من الزمن
كما في قوله تعالى: {وقال الذي نجا منهما واذكر بعد أمةٍ
أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} يوسف 45.
4 – ومنه (الأمة) بمعنى السبيل
والطريق والأثر كما في قوله تعالى: {بل قالوا إنا وجدنا
آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون} الزخرف 22.
فاستعمال التنزيل الحكيم مصطلح الأمة
على هذا النحو الواسع، يدل على أنه استعمال أساسي، وأن له معنى هو القاسم المشترك
لكل هذه الاستعمالات. فإذا عدنا إلى (الإمام)، الذي أتم الناس في سلوكه، وبيده
توجيه السلوك المشترك عند الناس، فإذا قام قاموا، وإذا قعد قعدوا، نفهم لماذا
استعمل مصطلح (الأمم) للناس والبهائم معاً. فهناك سلوك مشترك عند النمل والنحل
والقرود، وهو ما يدرسه علم سلوك الحيوان، ومن هنا قال تعالى (أمم أمثالكم)، أي من
زاوية السلوك.
لقد كان الناس ضمن المملكة الحيوانية،
ثم تأنسنوا، وبدأوا بالابتعاد عن هذه المملكة، لكن بقي عندهم سلوك مشترك قريب من
المملكة الحيوانية، لم يتطور في تلك الفترة التي سميناها فترة ما قبل التاريخ،
ليشكل اختلافاً في السلوك الواعي بين أمة وأخرى، ولهذا قال تعالى: {كان الناس أمة واحدة}.
إن فترة ما قبل التاريخ هذه، فترة ما
قبل نوح وما قبل الأنبياء: هي الفترة الانتقالية بين آية {وما
من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم} وبين آية {كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين}. إذ بدأت
المجتمعات الإنسانية، بعد هذه الفترة، بالتشكل، وظهرت المعارف بالنبوات والتشريع
بالرسالات، وبدأت مرحلة اختلاف الثقافات والسلوك، وهي مرحلة {ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزاولون مختلفين}
هود 118، هذه المرحلة التي استمرت إلى يومنا هذا، وسيستمر فيها اختلاف الثقافات
وتباينها إلى نهاية التاريخ.
الأمة مجموعة مخلوقات عاقلة من الإنس
لها سلوك موحد، كما في قوله تعالى: {كان الناس أمةً
واحدة ..} البقرة 123، أو من الإنس والجن كما في قوله تعالى: {قال ادخلوا في أممٍ قد خلت من قبلكم من الجن والإنس ..}
الأعراف 38 أو مخلوقات غير عاقلة كما في قوله تعالى: {وما
من دابةٍ في الأرض ولا طائرٍ يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ..} الأنعام 38.
ومع التطور التاريخي، تغيرت السلوكيات بين الناس والتجمعات الإنسانية، بتطور
المعارف والشرائع والعادات، فأصبح الناس أمماً، وهذا من نواميس رب العالمين {وما كان الناس إلا أمةً واحدةً فاختلفوا ولو كلمة سبقت من ربك
لقضي بينهم فيما يختلفون} يونس 19.
والأمة هي ما نطلق عليه بالمصطلح
الحديث (الثقافة)، وهي حلقة في سلسلة متوالية على امتداد عصور التاريخ القديم منها
والمتوسط والحديث، وهي ما أشار إليه تعالى في قوله: {كذلك
أرسلناك في أمةٍ قد خلتْ من قبلها أممٌ …} الرعد 30. وانظر في تعريف
الثقافة ما ورد عند الدكتور معن زيادة واقتطفنا منه بعض الفقرات في نهاية هذا
البحث(3).
فإذا أخذنا الآيات التي ورد فيها
مصطلح الأمة في التنزيل الحكيم، نراها لا تخرج عن هذا المعنى إلا في الآيات التي
يأخذ فيها المصطلح معنى الفترة الانتقالية أو معنى السبيل والطريق (يوسف 45
والزخرف و23}(4). فالحساب يوم القيامة يقوم على أساس السلوك والعمل،
لهذا فقد دمج سبحانه مجموعة الناس ذات السلوك المشترك، بغض النظر عن اللغة، في
مصطلح الأمة، بقوله عن مشاهد يوم القيامة {ويوم نبعثُ في
كل أمةٍ شهيداً عليهم من أنفسهم، وجئنا بك شهيداً على هؤلاء ..} النحل 89.
وبقوله تعالى: {ويوم نبعث من كل أمةٍ شهيداً لا يؤذنُ
للذين كفروا ولا هم يُستعتبون} النحل 84، وبقوله تعالى: {ونزعنا من كل أمةٍ شهيداً فقلنا هاتوا برهانكم فعلموا أن الحق
لله ..} القصص 75، وبقوله تعالى: {وترى كل أمةٍ
جاثيةً، كلٌّ أمةٍ تدعى إلى كتابها اليوم تجزون ما كنتم تعملون} الجاثية
28، وبقوله تعالى: {قال ادخلوا في أممٍ قد خلتْ من قبلكم
من الجنِّ والإنسِ في النار، كلما دخلت امةٌ لعنت أختها …} الأعراف 38.
وبما أن الاختلاف في الشرائع والمعارف
والعادات والسلوك بدأ منذ أن بعث الله النبيين، أي منذ نوح، فقد قال تعالى {قيلَ يا نوحُ اهبط بسلامٍ منا وبركاتٍ عليك وعلى أممٍ ممن
معك، وأممٌ سنمتعهم ثم يمسُّهم منا عذابٌ أليم} هود 48.
وحين بُعث محمد (ص) كانت ثمة أمم
سبقت، واختلافات في الشرائع حصلت، فقال تعالى {ولقد
أرسلنا إلى اممٍ من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون} الأنعام
42، وقال تعالى: {… لكلٍ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً، ولو
شاء الله لجعلكم أمةً واحدةً …} المائدة 48 ونلاحظ هنا الربط المباشر بين
الشرع والمنهاج والأمة.
وليبين وحدة الألوهية واختلاف
السلوكية بين الناس في تعظيم هذه الألوهية، قال تعالى: {ولكلِّ
أمةٍ جعلنا منسكاً هم ناسكوه، فلا ينازعُنك في الأمر، وادعُ إلى ربك، إنك لعلى هدى
مستقيم} الحج 67 ونلاحظ هنا الربط بين المنسك والأمة.
وعندما يلوم سبحانه الناس في اتباعهم
للسلف على أساس السلوك والعقيدة والنظرة إلى الكون، فهو يلومهم كأمم، كما في قوله:
{… إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون}
الزخرف 23 ونلاحظ أن الأمة هنا هي الطريقة في النظر إلى الكون والحياة والسلوك.
ولبيان أن الحرية الإنسانية والاختلاف
بين الأمم من نواميس رب العالمين وقوانينه فقد قال تعالى: {ولولا أن يكون الناس أمةً واحدةً لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقُفاً
من فضةٍ ومعارج عليها يظهرون} الزخرف 33 ونفهم أن الله لو أراد للناس أن
يكونوا أمة واحدة ذات سلوك واحد ونظرة واحدة إلى الكون، لما استطاع المخالف أن
يخالف نواميس رب العالمين، واستعمل سبحانه في الآية مصطلح (الرحمن) ليؤكد على أن
هذا القانون مادي عام.
وعندما يطلب الله سبحانه وتعالى من
الناس القيام بعمل مشترك، والأخذ بقناعة مشتركة، يطلب ذلك على أساس الأمة، كما في
قوله تعالى: {ولتكن منكم أمةٌ يدعون إلى الخير …}
آل عمران 104 وفي قوله تعالى: {كنتم خير أمةٍ أخرجتْ
للناس تأمرون بالمعروفِ وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ..} آل عمران 110.
وعندما يذكر الله سبحانه التطور
التاريخي، يذكره في قالب تطور العبادات والسلوكيات والشرائع، والاختلاف بينها،
واندثار أمم وظهور غيرها، واندثار ثقافات وظهور ثقافات أخرى جديدة، كما في قوله
تعالى: {تلك امةٌ قد خلتْ، لها ما كسبتْ ولكم ما كسبتم،
ولا تُسألون عما كانوا يعملون} البقرة 134 و141، وفي قوله تعالى: {ولكلِّ أمةٍ أجلٌ، فإذا جاءَ أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا
يستقدمون} الأعراف 34.
وعندما يميز سبحانه قوم موسى، يميزهم
على أساس الأمة، كما في قوله تعالى: {وقطعناهم اثنتي
عشرة أسباطاً أمماً …} الأعراف 160، ونلاحظ هنا كيف حدد أن قوم موسى واحد،
ولكن عدة أمم. وفي قوله تعالى: {ومن قومِ موسى أمةٌ
يهدون بالحق وبه يعدلون} الأعراف 159، ونلاحظ هنا كيف سمّى مجموعة من قوم
موسى أمة، أعطاها صفة مشتركة في الهداية بالحق والعدل به.
وعندما يطلب سبحانه من الناس الالتزام
بالعبودية له، والالتزام بتقواه، يطلب ذلك منهم على أساس الأمة، كما في قوله
تعالى: {إن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاعبدون}
الأنبياء 92، وفي قوله تعالى: {وإن هذه أمتكم أمةً
واحدةً وأنا ربكم فاتقون} المؤمنون 52، مبيناً أن العبودية والتقوى
مطلوبتان من كل الناس، والناس متساوون فيهما أمام الله تعالى.
وعندما استعمل سبحانه مصطلح الأمة
للفرد، استعمله مع إبراهيم، إذ شذّ عن قومه، وشكل قناعات وسلوكيات كان فيها رائداً
مفرداً (التوحيد والحنيفية) فقال تعالى {إن إبراهيم كان
أمةً قانتاً لله حنيفاً ولم يكُ من المشركين} النحل 120.
وعندما هرب موسى من فرعون، اتجه شرقاً
نحو مدين، فوجد مجموعة من الناس تقوم بعمل مشترك هو السقاية، فقال فيه تعالى {ولما وردَ ماءَ مدينَ وجدَ عليه أمةً من الناسِ يسقون ..}
القصص 23، ونلاحظ كيف سمى مجموعة الناس أمة بدلالة العمل المشترك الذي يجمعهم على
السقاية، ولو وجد مجموعة من الغزلان تشرب لقال: أمة من الغزلان يشربون.
نخل إلى أن مفهوم الأمة مفهوم عام
شامل، كان مع الحيوان في وحدة السلوك الغريزي، ثم انتقل إلى الإنسان كبشر، ثم أخذ
مفهوم السلوك الواعي في مرحلته الانتقالية من المملكة الحيوانية إلى التجمعات
الإنسانية، مع نشوء الأسرة ونشوء المجال الحيوي. ثم اختلفت السلوكيات الواعية من
ثقافات وشرائع وعادات وتقاليد، فكانت بداية وجود مجتمع إنساني (منذ نوح)، ثم تطورت
هذه الاختلافات مع مجيء باقي الأنبياء الآية: كان الناس أمة واحدة .. ويتمها
بقوله: فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. ثم اختلف الناس فقال تعالى: وأنزل معهم
الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه.
ثم أوضح أن هذا الاختلاف هو محاولات
من بعض المجموعات للسيطرة على المجموعات الأخرى فقال: وما اختلف فيه إلا الذين
أتوه من بعد ما جاءتهم البينات. ونلاحظ هنا أن قوله البينات يعني النبوات، في ضوء
قوله تعالى: فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق.
وقد انعكس هذا التسلسل في النبوات
والرسالات بما تحمله من بينات وتشريعات على أهل الأرض جميعاً، وعلى معارفهم وقيمهم
الأخلاقية، فأصبحوا أمماً، أما اختلاف الثقافات وتطورها بين الأمم، فنرى له سببين:
1 – العلاقة الجدلية بين حرية الفكر
وانطلاقة العقل، وبين الأطر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة ضمن مجتمع
ما. وهي علاقة داخلية ضمن الأمة الواحدة.
2 – علاقة التأثير المتبادل بين
الثقافات المتعاقبة والمتزامنة. وهي علاقة داخلية في الثقافة الواحدة بحالة
التعاقب الزمني والتاريخي، وخارجية في التلاقح بين الثقافات المتزامنة التي يعاصر
بعضها بعضاً.
لقد قلنا أن تعريف الأمة
هو في السلوك الغريزي للحيوان، ثم في السلوك الواعي للإنسان وهي ما يدعى بالثقافة.
نورد بعض التعاريف للثقافة كما وردت في كتاب: (معالم على طريق تحديث الفكر العربي
/ د. معن زيادة / سلسلة عالم المعرفة العدد 115 تموز 1987).
ص30- عندما طرح سؤال “ما هي الثقافة؟”
في النصف الثاني من القرن الماضي “كانت أشهر الإجابات وأكثرها تكاملاً إجابة أدوار
ب. تايلور في كتابه “الثقافة البدائية” عام 1871، جاء فيه: الثقافة هي ذلك المركب
الكلي الذي يشتمل على المعرفة والمعتقد والفن والأدب والأخلاق والقانون والعرف
والقدرات والعادات الأخرى التي يكتسبها الإنسان بوصفه عضواً في المجتمع.
ص31- أما ك. رايت فيعرفها بأنها
“النمو التراكمي للتقنيات والعادات والمعتقدات لشعب من الشعوب يعيش في حالة
الاتصال المستمر بين أفراده، وينتقل هذا النمو التراكمي إلى الجيل الناشئ عن طريق
الآباء، وعبر العمليات التربوية.
إلا أن هذا التعريف لم يتمكن من
التخلص كلية من الطابع الوصفي الذي أخذ على تعريف تايلور. ولا يتضمن الدور الذي
يمكن أن تلعبه الثقافة في توجيه سلوك الإنسان، وفي صنع حاضره ومستقبله. ومن هذا
القبيل تعريف مالينوفسكي الذي يؤكد أن الثقافة:
“جهاز فعّال ينتقل بالإنسان إلى وضع
أفضل، يواكب مشاكل الطموح الخاصة التي تواجه الإنسان في هذا المجتمع أو ذاك في
بيئته وفي سياق تلبيته لحاجاته الأساسية”.
ص32- وقد اهتمت الدراسات
الأنتروبولوجية بشكل خاص بمحاولة فهم العنصر أو العناصر التي تشتمل عليها الثقافة،
وتجعلها حيّة متحركة، إلا أنها تحت تأثير الدراسات النفسية والنفس-اجتماعية اتجهت
إلى اعتبار الثقافة ضرباً من السلوك دون أن تكون سلوكاً .. إنها البناء أو التركيب
أو التجريد الذي ينتقل من الآباء إلى الأبناء عبر الروابط الاجتماعية لا عبر
الروابط البيولوجية كما هو الحال عند الحيوان. ومن هذه التعريفات تعريف ادوارد
هيريو القائل “إن الثقافة هي ما يبقى في ذاكرتنا عندما ننسى كل شيء”.
ص33- إلاّ أن ثمة مآخذ متعددة يمكن أن
تؤخذ على هذا التعريف. إذ لا معنى للبناء المنطقي أو الأفكار المجردة أو تجريد
السلوك إلا عندما يعبر عنها الإنسان سلوكياً بالكلمات أو بالأفعال … والواقع أن ما
هو بيولوجي يدعم ما هو ثقافي وبالعكس، كما يؤكد ب. ف. سكينر: “ينهار التوازن بين
التطور البيولوجي والثقافي عند نقطة النقل” أي عند نقطة انتقال الممارسات المكتسبة
من جيل إلى جيل.
ص34- … نستطيع أن نقول إن الثقافة هي
ما يختص به الإنسان، ليس لأن الثقافة ليست سلوكاً بل لأن سلوك الحيوان لا يرقى إلى
أن يشكل ثقافة. أضف إلى ذلك أننا نستطيع أن نميز السلوك عن الثقافة فنجعله موضوعاً
لعلم النفس دون أن نخرج السلوك من عداد الثقافة … فالثقافة كانت وما زالت وستبقى
ظاهرة إنسانية صرفة. وما يجعلها كذلك قدرة الإنسان على الترميز، أي التعبير عن
أفكار ومعان وعلاقات وغيرها عبر الرموز.
(1) {فإن حاجوك فقل أسلمت
وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد
اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد} آل عمران 20. {ومن أهل
الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينارٍ لا يؤده إليك إلا
ما دمت عليه قائماً ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأممين سبيل ويقولون على الله
الكذب وهم يعلمون} آل عمران 75. {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلوا عليهم
آياته ويزكيهم ويعلمون الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين} الجمعة 2.
(2) انظر “العقل العربي
السياسي” للدكتور محمد عابد الجابري.
(3) “معالم على طريق تحديث
الفكر العربي” مجلة عالم المعرفة، العدد 115.
(4) {وقال الذي نجا منهما
واذكر بعد أمةٍ أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون} يوسف 45. {بل قالوا إنا وجدنا آباءنا
على أمةٍ وإنا على آثارهم مهتدون} الزخرف 22. {وكذلك ما أرسلنا من قبلك من قريةٍ
من نذيرٍ إلا قال مترفوها إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ وإنا على آثارهم مقتدون}
الزخرف 23.