صباط الضلام
أقراو المقال و شوفو البورقيبيين اللي خانو البلاد و باعوها لفرنسا
تابعتُ كما تابع العديد من المهتمين بالشأن السياسي على المستوى الوطني والقومي والعالمي ما جدّ من تجاذبات على منبر مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات حول الشهادة التي أدلى بها التليسي. فمن هو التليسي وما دوره وما هي أهم الإضافات التي قدمها التي أثارت جدلا في وسائل الإعلام وما هي تداعياتها
أولا ـ التليسي ودوره
إنه السيد أحمد بن إمبارك بن نصير التليسي من مواليد سنة 1934 بالتلالسة بالمهدية انخرط في الحركة الوطنية في بداية الخمسينات وسجن ثم التحق بالمقاومة المسلحة بجبل برقو وسلم سلاحه يوم 5 ديسمبر استجابة لنداء بورقيبة1954 ، وهو محل ثقته ، ومن أهم قيادات العصابات التي رجحت كفته في الصراع الذي دار بينه وبين صالح ابن يوسف..
ودوره في مقاومة الحركة اليوسفية لا يقل عن الشيخ حسن العيادي
والبشير زرق العيون
والمحجوب بن علي وغيرهم.
وهؤلاء مشهود لهم بالبراعة في تصفية المعارضة وفي ممارسة التعذيب، وكان على دراية بتفاصيل الصراع اليوسفي البورقيبي. شارك في تصفية اليوسفيين واعترف بتعذيبهم ،عيّن بعد الاستقلال باقتراح من بشير زرق العيون أول حارس شخصي للزعيم الحبيب بورقيبة.
تقلد مسؤوليات حزبية في مستويات مختلفة وتحصل على الصنفين الرابع والثالث من وسام الاستقلال وعلى وسام الشباب . قدم حلقتين ولكنه امتنع عن تقديم الحلقة الثالثة بعد أن أحدثت شهادته ضجة بين مراكز القوى في العهد البورقيبي وما زال في جعبته العديد من الأسرار التي لم يبح بها ويبدو أنه تعرض لضغوط قوية جعلته يتراجع حتى عن المعلومات التي قدمها. تحدث عن مجموعة من القضايا التي كانت محرمة في العهد السابق وسرا مجهولا في هذا العهد ومن أهمها:
1ـ صباط الظلام
منزل ضيق ومظلم في قلب المدينة القديمة استعملته الميليشيا البورقيبية لتعذيب المناوئين لها من أنصار صالح بن يوسف والزيتونيين . وتقول بعض الروايات انه يحتوي على بئر تُرمى بها جثث القتلى. وقد اعترف التليسي بممارسة التعذيب ولكنه نفى القتل ووجود البئر.
«ظل صباط الظلام لعقود طويلة حلقة مفقودة لا يعرف عنها المؤرخون الشيء الكثير « يسمعون عنه لكنهم لا يعرفون كثيرا عن أبطاله وضحاياه.
2 ـ موقف العاصمة من الصراع
روى أن العاصمة بمناضليها وهياكلها الحزبية تخلت عن بورقيبة وانحازت إلى صالح بن يوسف باستثناء شعبة الدويرات التي بدأت تخوض معارك مع اليوسفيين .
3ـ التعذيب وأبطاله وضحاياه
تحدث بإسهاب عن التعذيب واعترف أنه مارسه على العديد من المعارضين من الزيتونيين أو اليوسفيين. ومن أهم العناصر التي مارست التعذيب : الشيخ حسن العيار ، المحجوب بن علي ، ومن الضحايا ذكر المناضل عبد الستار الذي مازال على قيد الحياة وأكد عمليات التعذيب بل ذهب أكثر من ذلك عندما شهد أن عصابة حسن العيادي كانت تفتك أملاك الفلاحين لحسابها وليس للمقاومة.
4 ـ محاولة اغتيال الأمين العام للاتحاد أحمد بن صالح
كشف سرا لم يتحدث عنه حتى صاحبه ألا وهو تكليف بورقيبة لحسن العيادي باغتيال أحمد بن صالح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان في أوج عطائه، ولولا تحذيره لكان ابن صالح الأمين العام الشهيد رقم2 الذي يطالب النقابيون بفتح ملفه لكن دون جدوى. وقد تولى ابن صالح إعلام الباهي الأدغم بالأمر فأوقف العملية.
5ـ الشيخ حسن العيادي : الوطني ،الجلاد والضحية
حاول أن ينصف حسن العيادي فتحدث عن دوره المشرف في المقاومة الوطنية ثم وقع توظيفه في تصفية المقاومة اليوسفية، فقام بأخطر الأدوار، وكان يتلقى التعليمات مباشرة من بورقيبة، وأثار غيض كل من المنجي سليم والطيب المهيري بعد أن وشت به امرأة من المطوية تدعى أم السعد وأوحت لهما ب «أن حسن العيادي يخطط لقتلكما « فقررا التخلص منه ودبرا له مكيدة عندما كان بورقيبة محبطا بعد اكتشاف المحالة الانقلابية، وأوعزا له بأن حسن العيادي من بين المتآمرين في المحاولة الانقلابية، وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه رغم من براءته.
هـ ـ مشاركة الحزب الدستوري الأول (اللجنة التنفيذية) في المقاومة المسلحة
إن الدعاية الرسمية حصرت المقاومة المسلحة في الحزب الدستوري «الديوان السياسي « والواقع غير ذلكـ، فالحزب الدستوري (اللجنة التنفيذية) ساهم أيضا في معركة التحرير من خلال مجموعة جبل برقو، وعندما توقفت المقاومة، حاول حسن العيادي استدراجهم لقتلهم لكنهم انتبهوا للخطة فنجوا.
6 ـ البشير زرق العيون حلقة وصل بين الإقامة العامة الفرنسية وبورقيبة
كثيرا ما همس المؤرخون بوجود علاقة سرية بين المخابرات الفرنسية وعناصر من المقاومة (اليد السوداء) ، وكان من الصعب عليهم إثبات هذه العلاقة، غير أن شهادة أحمد التليسي أبرزت جانبا من هذه العلاقة حيث ذكر أن البشير زرق العيون كان حلقة وصل بين الإقامة العامة الفرنسية والزعيم بورقيبة، وظهر ذلك بوضوح عند عودته. ومن الأكيد أن هذا الاتصال لم يكن الأول، وأن التنسيق لم ينحصر في حرص الطرفين على تأمين العودة لبورقيبة. وقد سبق له أن نسق مع الخارجية الفرنسية للعودة إلى تونس سنة 1949 عندما أعلمه أنصاره أن ابن يوسف على وشك افتكاك الحزب منه وخاصة بعد مؤتمري ليلة القدر 1956ودار سليم 1948
7 ـ العصابات الحزبية: بين الائتلاف والاختلاف والتصادم
تبدو هذه العصابات في نظر الرأي العام مؤتلفة ويؤطرها الديوان السياسي وتنشط بتوجيه منه لكنها في الواقع مختلفة ومتناقضة، فهناك عصابة المحجوب بن علي وعصابة الطيب المهيري وعصابة حسن العيادي وعصابة حسن بن عبد العزيز وغيرها ... وكلها تدعي التواصل مع بورقيبة وتتلقى منه التعليمات ، لكنها في الواقع تتمتع بهامش كبير من حرية التصرف إلى درجة التناقض والتصادم بل والتآمر على بعضها.
8 ـ الساحل وتصفية الخونة
من أبرز المهام التي أوكلت لهذه العصابات هي تصفية المتعاونين مع السلطة الفرنسية وقد بدأت هذه العمليات في الساحل حيث تولى المقاومون هناك قتل العمد والقواد وكل المتعاونين فخلق لديهم حالة من الرعب عززت مكانة المقاومة لدى الشعب .
9ـ بورقيبة الزعيم وبورقيبة الرئيس
يقول التليسي في النهاية «لقد أحببت بورقيبة كثيرا .. أحببته زعيما وليس رجل حكم» .
وبالإضافة إلى هذه المعلومات التي كشف فيها عن بعض المستور الذي يعرفه المؤرخون ولكنهم لا يملكون عليه دليلا،فإن التليسي في حد ذاته كان شهادة حية من داخل بيت الطاعة تصدق عليه المقولة الشعبية « وشهد شاهد من أهلها «
ثانيا ـ تداعيات شهادة التليسي :
1 ـ إرباك مراكز القوى في النظام البورقيبي
يبدو أن مراكز القوى في النظام البورقيبي انزعجت من هذه الشهادة لأنها شككت في الدعم الجماهيري الذي استمد منها النظام البورقيبي شرعيته في الحكم، فقد انتزعها بالعنف والتعذيب والتصفيات الجسدية من ناحية والتعاون مع عدو الأمس من ناحية أخرى. وأصيبت بإرباك حول كيفية رد الفعل ولعلها اهتدت إلى أن الحل الوحيد هو الضغط على هذا الشاهد حتى يتراجع وبتراجعه تسقط شهادته مرة واحدة.
وهذا أمر غير مستغرب بالنسبة لهذه المراكز الضالعة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في الأخطاء التي ارتكبت في فترة مفصلية من تاريخ تونس الحديث، وفي هذا الإطار يمكن أن نتفهم مواقف بعض الوزراء أو الولاة أو القيادات الحزبية الذين كتبوا بعض المذكرات، فإن نقدهم للنظام لا يتجه مباشرة إلى بورقيبة وإلى سوء أدائه السياسي والآليات التي كان يدير بها سياسة الدولة، بل يتجه إلى أطراف نافذة في السلطة. فالمذكرات التي تتميز عادة بالصدق في الرواية وتنهض على الاعتراف بالأخطاء التي يقع فيها المسؤول السياسي، نجدها لدى رجال النظام البورقيبي تقوم غالبا على تضخيم دور صاحب المذكرات وتقزيم الآخرين وتحميلهم مسؤولية الفشل . لذا فإن قارئ المذكرات لا يستطيع أن يستخلص أي درس من نظام الحكم في تونس، فلا يعرف مثلا ما هي الأسباب الحقيقية للأزمات التي مرت بها تونس ولا كيفية معالجتها. فهذه المذكرات تنعدم فيها ـ إلا ما ندر ـ الإشارة إلى غياب الدولة كمؤسسات ومبادئ، وطغيان الحكم الفردي، والاستناد إلى العصابات لتحييد المعارضة أو تصفيتها ، وانعدام الديمقراطية كأسلوب للحكم، لذا فإنها ليست إلا تبريرا لدورهم وتبرئة لأنفسهم.
إن هذا أسلوب معروف لدى الشخصيات التي كانت نافذة في نظام بورقيبة ولا عتب عليهم في ذلك « فكل إناء بما فيه يرشح «. لكن الاعتراض هذه المرة أتي من خارج دائرة النافذين في العهد البورقيبي وهو أستاذ القانون محمد رضا الأجهوري في كلية الحقوق جامعة المنار الذي لم يكن ضالعا ـ حسب معرفتي ـ في المسؤولية مع النظام البورقيبي .وهذا ما شجعني على أن أقدم قراءة مغايرة لقراءته غير أنها بالتأكيد ستكون ملتزمة بقواعد الحوار الفكري بما فيه من احترام وموضوعية بعيدا عن التشنج والتعصب. ففيم تتمثل اعتراضات الأستاذ الأجهوري على هذه الشهادة؟
2 ـ اعتراض أنصار طمس الحقائق محافظة على الرموز
تركز الاعتراض على ثلاث نقاط :
ـ ممارسة التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون
ـ شهادة التليسي شهادة زور
ـ مؤسسة التميمي تروج للتزوير
فما هي المبررات التي استند إليها وإلى أي مدى يمكن أن تثبت أمام الحقيقية التاريخية والحجج المنطقية؟
أ ـ ممارسة التعذيب
بمجرد أن نشرت الصحف بعض الفقرات من الشهادة الأولى لأحمد التليسي واعترف فيها بممارسة التعذيب ضد اليوسفيين حتى بادر الأستاذ الأجهوري بنشر مقال اعتبر فيه ممارسة التعذيب جريمة «وان جريمة التعذيب لا تسقط بمرور الزمن في قانوننا الوضعي التونسي وفي اغلب قوانين دول العالم المدافعة عن الحرمات والحريات وحقوق الإنسان»(1)
كما ورد في جريدة الصباح 18 جويلية 2009 ما يلي «ودعوت إلى إلغاء الحلقتين المقررتين ليومي 11 و 18 جويلية احتجاجا عل استضافة التليسي... وختمت بدعوة المجتمع المدني إلى تحرك إيجابي للتشهير بسياسة التعذيب»
ولعل المتابع يتساءل عن التوقيت الذي ظهر فيه المقال فالحلقة الأولى قدمت يوم 4 جويلية والحلقة الثانية مقررة ليوم 11 وكان مقررا أن تقدم الحلقة الثالثة يوم 18 من نفس الشهر والمقال ظهر يوم 11 جويلية .فلماذا لم يعط الأستاذ فرصة للتليسي لإنهاء شهادته ثم يقدم الموقف القانوني؟ ما ذا وراء السرعة في الإعلان عن هذا الموقف ؟ هل كان ذلك مجرد رأي قانوني أم إنه يحمل خلفية سياسية هدفها إرهابه ودفعه للتوقف؟. وقد علمنا أن هناك من أشعر التليسي في بداية الحلقة الثانية بما ورد في المقال من خطر ينتظره . لكنه أصر على قول الحقيقة غير مبال بالمحاكمة .
وبقطع النظر عن خلفية القانون فما موقف المشرع التونسي من التعذيب؟ لقد كانت هذه المسألة محل جدل قانوني بين رجال القضاء، فالسيد شقيق الأخضر المحامي لدى محكمة التعقيب لم يساير الأستاذ الأجهوري لأنه يجب التمييز هنا بين جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي لا تسقط بمرور الزمن، وبين جريمة التعذيب التي تعتبر جنحة تسقط بمرور الزمن طبق أحكام الفصل 5 من مجلة الإجراءات الجزائية المشار إليه، ولا يمكن لاتفاقية الأمم المتحدة المذكورة أن تعكر حالة المتهم بجريمة التعذيب خاصة أن هذه الاتفاقية لا أثر رجعي لها ولا تنص بفصولها على عدم سقوط الدعوى بمرور الزمن» (2)
أما فيما يتعلق بالمجتمع المدني فإني أتساءل في أي اتجاه سيتحرك؟ هل سيتحرك في اتجاه كبت الحريات وقمع حرية التعبير وطمس الحقائق باعتبار أن هذه الشهادة تنال من رمز وإذا كان فعلا رمزا فهل تستطيع أن تنال منه الأكاذيب، أليس من الأفضل أن ننحت رموزنا من رخام الحقائق التاريخية ولا تؤثر فيها العواصف الهوجاء بدل أن نبنيها من كثمان رمال الأكاذيب التي تذروها الرياح . ثم ألا تعلم أن المجتمع المدني كان ضحية سياسة القمع منذ 1961 فمنعت الأحزاب وحُلت الجمعيات وأغلقت الصحف المتبقية؟
ب ـ هل تروج مؤسسة التميمي للتزوير ؟
ـ يؤاخذ الأستاذ الأجهوري مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات و صاحبها لأنه
«استضــــاف شاهد زور» وفي هــذه الاستضــافة « تمجيد لشهادة الزور وترويج لها « (3)
وأتوقف هنا دون تناول الملاسنة التي حدثت بين الأستاذين الأجهوري والتميمي وأعتبرها زلات لسان بشرية عارضة،لأعرض وجهة نظري من هذه المؤسسة. ولابد أن أشير في البداية إلى أنني لست من أنصار المدائح ولا من عشاق القريض، ولكني في نفس الوقت لست عدميا ولا تستهويني معاول الهدم ، ولعله من الإنصاف أن نثمّن الدور التاريخي الوطني الموضوعي الذي نهضت به هذه المؤسسة منذ أن كانت بزغوان في إنعاش الذاكرة الوطنية وإزالة ما تراكم عليها من غبار تزييف الحقائق. فقد كانت ولا تزال مفتوحة على كل مكونات المجتمع من أحزاب وجمعيات ومنظمات وشخصيات وطنية من أمثال أحمد بن صالح الذي حمل عبء التجربة النقابية في الخمسينات وعبء التجربة الاشتراكية في الستينات وعاش مرارة الملاحقة والتشرد في المنفى، وهي متفتحة على كل الاتجاهات ولم تستثن أي طيف سياسي باستثناء الإسلاميين حيث لم تنضج بعدُ ظروف الاستماع إليهم.
فقد حضرتُ أهم التجاذبات التي وقعت بين عناصر من الحزب الحاكم وفي مقدمتهم محمد الصياح ومجموعة آفاق اليسارية وفي مقدمتهم المأسوف عليه محمد بن خذر،كذلك استضافت قيادات الحركة النقابية بما في ذلك الأخ الطيب البكوش والسيد التيجاني عبيد الذي وظفه النظام لتدجين الحركة النقابية بعد أحداث 26 جانفي، وعقدت العديد من الندوات حول أبرز الشخصيات الوطنية وفي مقدمتهم بورقيبة وحشاد.كما سجلت شهادات مناضلي الحركة اليوسفية الذين كانوا الضحايا الأُول للقمع السياسي في دولة الاستقلال واذكر من بينهم المربي أحمد صوة والمناضل علي بن سالم ، ومن أهم الشهادات الموضوعية كانت شهادة حسين التريكي، وكنت من الذين يعتبرون شهادات اليوسفيين تحتوي على شيء من المبالغة، وبعد شهادة التليسي اتضح لي أنهم كانوا في منتهى الصدق،كما استضافت ما بقي على قيد الحياة من عناصر المحاولة الانقلابية وتحدثوا عن الأسباب التي حركتهم للإقدام على هذه المغامرة وعن الثمن الذي دفعوه، كل ذلك كان دوم تأفف أو ندم. وتتالت على منبرها كل أطياف اليسار وفصائل الحركة القومية من الناصرين والبعثيين، بل إنها سجلت لغير السياسيين من رجال الفكر والخبراء والفنيين ورجال الإعلام من الوطنيين الرواد الذين بنوا الدولة الوطنية الفتية،كما حينت قضية من أهم القضايا التي ما زالت تسكن أعماقنا النفسية والتاريخية وهي قضية طرد مسلمي إسبانيا والتي تسمى بالمورسكيين ودعت الكنيسة وإسبانيا بتقديم اعتذار لهؤلاء الذين أجلوا من ديارهم وحافظوا على عقيدتهم .
وبالجملة فقد وفرت للمؤرخين مادة حية يعسر توفرها على مختلف الأصعدة في ظروف لم تكن سهلة . ومع احترامي لكل مراكز البحث والتوثيق في بلادنا التي تبذل جهودا مشكورة في نشاطها فإنها لا ترتقي إلى مستوى العمل الحيوي والدؤوب التي تتمتع به هذه المؤسسة. وقد حاول أن ينسج على منوالها الكثير من المبادرين سواء على مستوى المغرب العربي أو الوطن العربي لكنهم لم يوفقوا لحد الآن.
تلك هي الأهداف التي يعرفها كل من يرتاد هذه المؤسسة. وإذا كانت هناك أهداف أخرى غير المعلنة وغير التي تمارسها، خفيت عن الباحثين والمؤرخين الذين يتابعونها ويستفيدون منها منذ أن نشأت، فليت الأستاذ الأجهوري يدلنا على البعض منها حتى لا نبقى مغفلين . ولا أعتقد ايها الأخ العزيز أن مؤسسة التميمي باستماعها لشهادة أحمد التليسي حول التعذيب « تمجد شهادة الزور» لأمر بسيط هو أن الذين يتابعون هذه الشهادات يتمتعون برصيد معرفي ولهم من الامكانيات العلمية ما يمكنهم من الفرز ما بين الخيط الأبيض والأسود في الليلة الظلماء.
ج ـ شهادة التليسي شهادة زور لماذا ؟
ـ اعتبر الاستاذ الأجهوري >>شهادة التليسي شهادة زور ...لأنه التليسي يوجه الاتهام إلى الأستاذ الحبيب بورقيبة الزعيم الرئيس بإصداره أوامر قتل، إنكارا من التليسي لجميل بورقيبة عليه وخيانة منه كذلك للأمانة التي لا يفهمها ولا يرتقي إلى مستوى الإيمان بها . ويضيف أن أروع مثال يؤكد زور الشهادة ...هو الشهادة زورا على بورقيبة الزعيم الرمز والرئيس السابق للجمهورية (4)
وهنا تطرح العديد من التساؤلات التاريخية منها: فهل يكفي أن نستمع لبورقيبة وهو يزهو بنفسه ويُخوّن خصومه ويقزم رفاقه ويحط من مكانتهم حتى نسلم بأن ما قاله عن تاريخ الحركة وعن دوره وعن دور معارضيه حقيقة لا مراء فيها؟ ثم إذا كان بورقيبة رمزا والرمز يختزل مجموعة من القيم والمبادئ ويتجاوز حدود المكان والزمان فهل نعلن صيحة فزع خشية عليه من شهادة زور ؟
حتى نجيب عن هذه التساؤلات لابد أن نطرح بعض الإشكالات الفكرية التي يتعامل معها المؤرخون كآليات بحث وهي:
ـ كيف نتوصل إلى معرفة الحقيقة؟
قديما قيل» بالحق يُعرف الرجال وليس بالرجال يعرف الحق « فأين الحق من الزيف في تاريخ الحركة الوطنية « فهل نعرف تاريخنا الحقيقي من الخطاب الرسمي وفي مقدمته خطاب بورقيبة الذي ظل يتردد طيلة ثلاثة عقود كخطاب وحيد دون منافس ؟ أم إن الشعوب هي التي تصنع تاريخها وأن دور البطل هو في تسريع حركة التاريخ أو في إبطاء سيرها؟
ـ من الذي يكتب التاريخ؟
من المعروف أن التاريخ يكتبه المنتصر والغازي والحاكم والقوي لكن إلى حين. إن النظرية التي كانت سائدة في أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي نظرية التفوق العرقي وهي التي برر بها الألمان رغبتهم في السيطرة على أوروبا وعلى العالم وهي التي سوغت للأوروبيين الأكثر تمدنا السيطرة على شعوب الثالث المتخلفة. وبعد الحرب العالمية الثانية فرض الحلفاء المنتصرون رؤيتهم وفلسفتهم على ألمانيا الشرقية والغربية. وعندما سقط المعسكر الاشتراكي تغيرت موازين القوى العالمي وظهرت العولمة كخيار إمبريالي. هذه الآلية لم تكن خافية على بورقيبة لذا ظل يملي رؤيته التاريخية على جيلين على الأقل. وكل من اهتم بالشأن التاريخي يعرف أن فلسفة الحكم في تونس قامت على مبدأ بسيط هو « تأكيد شرعية الماضي لضمان استمرارية المستقبل» انطلاقا من هذه القاعدة وقع عملقة البطل وتقزيم الشعب. فقد تحول الزعيم إلى شبه إلاه يعرف الحاضر ويتنبأ بالمستقبل. أما الشعب فهو مسكون بالشيطان البربري المتمرد منذ العهد النوميدي ولا يفقه مصالحه، وحتى النخب السياسية فإن ثقافتها سطحية وهي غير واعية « صبعين ولحق الطين « كما كان يردد، وهذا يقتضي تخوين كل من يعترض وتأديبه وإذا أمكن تصفيته. وهكذا مصير المعارضة في تونس بداية من الحركة اليوسفية.
ومن أجل هذا كانت تعقد المحاكمات في تونس بمعدل محاكمة في كل سنتين تقريبا. كل هذا لتبرير الحكم الفردي . وقد كانت تونس من أوائل الدول في العالم إن لم تكن الأولى التي شرعت « الرئاسة مدى الحياة»، وها هي الآن تتحول إلى سنة حميدة والتمرد للسير نحو الديمقراطية ولو بخطى بطيئة وثابتة بدل أن يحول الحكم إلى رئاسة مدى الحياة آلت به إلى التقاعد الوجوبي.
لماذا يكتب المنتصر التاريخ ؟
هل الهدف هو تمجيد أبطال الماضي أم تكريس انتصار الحاضر لصنع المستقبل والتحكم في سيرورته؟ إن بورقيبة عندما واصل استعراض بطولاته لمدة ثلاثة عقود لم يكن هدفه تمجيد دوره في تحقيق استقلال تونس فحسب بل أساسا يريد أن يكون ذلك مبررا لاستمرار رئاسته للبلاد . فالسياسيون لا يهتمون بالماضي إلا بقدر ما يساعدهم على صنع مستقبل.
وهذا يدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن أن نطمئن إلى ما فاه به بورقيبة وحبره المؤرخون في إدارة الحزب؟ أليس من حقنا بل من واجبنا أن ننفض ما تراكم من الغبار عن ذاكرتنا قبل أن يعلوها الصدأ فتتآكل وتفعل فيها عوامل النسيان والتنــاسي فتذهب الحقيقــة ويبقى الزيف ؟
الذاكرة المحجوزة
وإذا كان من مصلحة الغالب سواء أكان مستعمرا أو حاكما مستبدا أن يكتب التاريخ ويُكيّف ذاكرة الشعوب حسب مصلحته، أليس من مصلحة الشعوب الحرة أن تعيد صياغة ذاكرتها؟ وهل يتسنى لها ذلك دون إزالة ما تراكم عليها من زيف حتى تظهر الحقيقة ساطعة وجلية دون مساحيق . وهنا تتنزل إعادة قراءة التاريخ عبر العصور وعلى سبيل المثال، أليست الثورة الفرنسية ليوم الناس هذا، هي محل جدل ونقد ومراجعة من أنصــارها ومن خصومها ؟ فلماذا نرفض نحن مراجعة تاريخنا ؟ أليست ذاكرتنا في جزء كبير منها ما زالت محجوزة؟ وعلى سبيل التذكير ها أنا أستحضر ثلاثة وقائع تاريخية لم يحاول نظام بورقيبة فتح ملفاتها ورفع الغطاء عنها:
أ ـ ملف فلاقة الساحل بزرمدين
من المعروف أن هذه العصابة التي ظهرت إثر الحرب العالمية الثانية وأزعجت فرنسا لمدة أربع سنوات، لم تستطع أجهزة الأمن التغلب عليها إلا بالتعاون مع المسؤول الأول في الحزب الدستوري الثاني بقصر هلال الطاهر بطيخ الذي استغل مسؤوليته الحزبية وثقة الفلاقة به كمناضل وطني ليستدرجهم إلى منطقة القطار بجهة قفصة أين تمت تصفيتهم في 11 أفريل 1948ولم يقدم هذا المسؤول الحزبي على فعلته إلا بعد استشارة قيادته.
وقد طالب الوطنيون بزرمدين بفتح ملف هذه الجماعة لمعرفة ملابسات هذه القضية لكن دون جدوى.
ب ـ ملف اغتيال فرحات حشاد
لقد كان من المفروض منذ فجر الاستقلال أن يفتح ملف هذا القائد النقابي احتراما له وللمنظمة الشغيلة التي قدمت أنفس التضحيات من أجل الوطن، فهل يكفي أن نقول إن القضاء الفرنسي نظر في هذه القضية وأصدر حكمه وأطلعنا على تفاصيلها. إن النقابيين مازالوا إلى يوم الناس هذا، تخامرهم الشكوك حول الجاني وأهدافه وانتماءاته وهو الذي وجه الضربة القاتلة لحشاد بعد أن فشلت المحاولة الأولى. فما زال النقابيون يهمسون بأن الجناة من التونسيين غادروا تونس بعد الاستقلال ثم عادوا إليها دون أن يقع تتبعهم..
ج ـ ملف الطاهر بطيخ
هو المسؤول الحزبي الأول في الساحل تورط في صفقة مع المخابرات الفرنسية لتصفية الفلاقة الذين أشرت إليهم، وكل القرائن تؤكد أنه عقدها بعد استشارة رأسي الحزب في تونس وفي القاهرة، وتمت استجابة لرغبة المقيم العام الفرنسي مون مونس الذي اشترط التواصل مع الحزب الدستوري بتعاونه في التخلص من هذه المجموعة المسلحة. ونتيجة لموقعه النضالي أقنعهم بالتحول إلى فلسطين ريثما تنضج ظروف معركة التحرير في تونس. هذا الرجل الذي قام بهذا الدور لم يقع التخلص منه مع الخونة ولا مع الصراع اليوسفي البورقيبي، وإنما بعد أن رجحت الكفة لبورقيبة وبعد أن طالب المناضلون في زرمدين بفتح ملف الفلاقة. فاختفاؤه في ظروف تكاد تكون عادية هو محاولة لدفن الحقيقة معه.
هذه الملفات وغيرها هي جزء من الذاكرة الوطنية التي بقيت محجوزة فلمصلحة منْ ستبقى مجهولة ومصدرا للشكوك؟
في هذا الإطار تتنزل استضافة التليسي وغيره في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، وفي اعتقادي فإن شهادته ـ رغم التوقف ـ ألقت بعض الأضواء الكاشفة على أسلوب بورقيبة في التعامل مع المعارضة قبل الاستقلال ومع فجر الاستقلال والأخطر من ذلك مع اكتمال مؤسسات الدولة الوطنية. وحتى لا أكون متجنيا فلنذكر فقط بالنقاط التالية:
أ ـ اغتيال صالح بن يوسف في ألمانيا
إن التخطيط لاغتيال صالح بن يوسف في ألمانيا في صائفة 1961 وبالتحديد في 2 أوت تمّ بطريقة محكمة، فقد وقعت تصفيته لما كانت كل أنظار العالم مشدودة إلى تونس وهي تستعد لمعركة الجلاء أكتوبر وتتلقى الدعم والمساندة من كل دول العالم بما في ذلك مصر التي كانت علاقتها متوترة معها، بحيث لم تسلط الأضواء الإعلامية على الحدث إلا بشكل محدود .غير أن بورقيبة لم يترك خيوط عملية الاغتيال غامضة أو محل شك بل اعترف في معهد الصحافة بشكل علني وأمام وسائل الإعلام بأنه أرسل من خلصه من صالح بن يوسف، وهو بهذا الاعتراف العلني يؤكد قدرته على ضرب كل من تسول لها نفسه بالخروج عن الطاعة سواء داخل البلاد أو خارجها، وهو بذلك يتحدى الأعراف الدولية والمشاعر الإنسانية ويثير الأحقاد. فهل يليق برئيس دولة لها مؤسساتها وأجهزتها أن يبعث بعصابة إلى بلد أجنبي يمارس فيه الجريمة ثم يتبجح بأنه هو الذي فعلها ؟
ب ـ مطاردة التليلي في فرنسا
بعد أن رفض التعاضد ولاذ بالفرار ونشر رسالته التي فضح فيها أسلوب بورقيبة في الحكم ورفض الاستجابة لنداء العودة والكف عن فضح أساليب النظام، طاردته العصابات في باريس وها هو يروي لصديقه محمد إقبال قائلا :»علمت الشرطة الفرنسية أن الحكومة التونسية أرسلت إلى باريس فريق كوماندوس قصد اغتيالي لكن المندوب المكلف بحماية الزعماء أفهمني أن مصالح الأمن ليست راغبة في قضية ثانية من نوع قضية ابن بركة ورجائي أن أتغيب مدة من الزمن»(5) ولا أتحدث عن إشاعات أخرى حول موته هي محل شك.
ج ـ ملاحقة أحمد بن صالح في سويسر لإغتياله
إلى حدود نهاية سنة 1956 كانت المنظمة الشغيلة قوية ومتلاحمة لم تنهكها الصراعات الأفقية وعلى رأسها شاب طموح يتقد حيوية ونشاطا وهو ما يتعارض مع استراتيجية بورقيبة في التفرد بالسلطة، لذا قرر تصفيته وكلف بذلك حسن العيادي رئيس عصابة صباط الظلام. ومع فشل تجربة التعاضد ومحاكمة ابن صالح وهروبه من السجن لاحقه في المنفى في السبعينيات ويتحدث في شهادته عن هذه الملاحقات قائلا : «إثر محاولة الاغتيال في زوريخ التي تحدثت عنها الصحافة وقع إيقاف البشير زرق عيون في المطار ووقع تفتيشه وعثر لديه على السلاح واكتشف أن معه شخصين مختبئين في السفارة التونسية كانا قد ربطا الصلة بأخي . وعندما ألقي القبض على زرق العيون قال إني جئت لأصلح بين بورقيبة وابن صالح ...جاء بعد ذلك بورقيبة لسويسرا بدعوى معالجة أسنانه ودفع إمكانيات مالية للسويسريين وأرجع معه زرق العيون ( 6)
د ـ الضغط على الحبيب عاشور للتنازل عن دعوى قضائية ضد ميليشي
في أواخر 1977 احتد الصراع بين النظام والاتحاد العام التونسي للشغل ولم يترك الحزب أية وسيلة إلا واستعملها لاحتواء المنظمة الشغيلة بما في ذلك التهديد بالقتل فقد راج خبر مفاده أن عبد الله الورداني المتهم باغتيال ابن يوسف هدد الأمين العام بالقتل شاهرا مسدسه فبادر عاشور بتقديم قضية عدلية ، فما كان من بورقيبة إلا أن دعاه وقال له: «لقد علمت أنك قدمت قضية ضد الورداني الذي هددك إني أعرفه جيدا ، أريد أن أطمئنك أنه لن يفعل شيئا وأطلب منك أن تسحب شكواك.
لقد اندهشت وأنا أرى رئيس الدولة يتدخل في هذه القضية وفي هذا الاتجاه، وكان جوابي سأفكر في الأمر سيدي الرئيس»(7)
ألا يدل كل هذا على أن بورقيبة يتصرف وهو رئيس الدولة بعقلية رئيس عصابة، ألم يكن هذا الرجل البسيط المليشي ـ الذي تابع عن كثب سلوك بورقيبة وأساليبه ـ على حق في جزء من قناعته عندما قال :أحببت بورقيبة زعيما ولم أحبه رئيس دولة
إذا كان ما قاله أحمد التليسي شهادة زور وهو شخص مقدوح فيه لانعدام قيم النزاهة والأمانة والمصداقية بما يرتقي حتما بشهـادته إلى أن تكون شهادة زور على تاريخنا الوطني (8) فهل ما شهد به هؤلاء شهادة زور أيضا؟ هل تختلف شهادة أحمد التليسي عن شهادة هؤلاء وعما اعترف به بورقيبة نفسه؟
نعم إن بورقيبة ترك بصماته في تونس طيلة 30 سنة بما له وما عليه ، غير أن الدفاع عنه لا يجب أن يفضي إلى محو دور القوى الوطنية الفاعلة التي أدت أدوارا لا تقل عن دور بورقيبة إن لم تكن تفوقه لأنها ناضلت من أجل الوطن دون حسابات ودون ارتباطات ما زالت لحد الآن محل شبهة.
وعندما يحرص المؤرخون والباحثون على صقل الذاكرة الوطنية وتخليصها من البطولات الوهمية فليست الغاية الانتقام أوالتشفي ، إنهم لا يريدون ذلك ولا يمتلكون القدرة على فعله حتى ولو أرادوا، وإنما هدفهم الأول والأخير هو ألا تحرم الأجيال الصاعدة من معرفة التضحيات التي قدمتها الأجيال السابقة بعيدا عن الخوارق الخادعة والبطولات الزائفة التي تصطنعها الأنظمة للتشكيك في طاقات الجماهير وعزلها عن الفعل السياسي وتغييبها عن المشاركة في الحكم حتى يتسنى له احتكار النفوذ.
سالم الحداد
https://www.facebook.com/benyoussef.salah/photos/a.201980726491475.45983.201980289824852/241621059194108/?type=3&theater
أقراو المقال و شوفو البورقيبيين اللي خانو البلاد و باعوها لفرنسا
تابعتُ كما تابع العديد من المهتمين بالشأن السياسي على المستوى الوطني والقومي والعالمي ما جدّ من تجاذبات على منبر مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات حول الشهادة التي أدلى بها التليسي. فمن هو التليسي وما دوره وما هي أهم الإضافات التي قدمها التي أثارت جدلا في وسائل الإعلام وما هي تداعياتها
أولا ـ التليسي ودوره
إنه السيد أحمد بن إمبارك بن نصير التليسي من مواليد سنة 1934 بالتلالسة بالمهدية انخرط في الحركة الوطنية في بداية الخمسينات وسجن ثم التحق بالمقاومة المسلحة بجبل برقو وسلم سلاحه يوم 5 ديسمبر استجابة لنداء بورقيبة1954 ، وهو محل ثقته ، ومن أهم قيادات العصابات التي رجحت كفته في الصراع الذي دار بينه وبين صالح ابن يوسف..
ودوره في مقاومة الحركة اليوسفية لا يقل عن الشيخ حسن العيادي
والبشير زرق العيون
والمحجوب بن علي وغيرهم.
وهؤلاء مشهود لهم بالبراعة في تصفية المعارضة وفي ممارسة التعذيب، وكان على دراية بتفاصيل الصراع اليوسفي البورقيبي. شارك في تصفية اليوسفيين واعترف بتعذيبهم ،عيّن بعد الاستقلال باقتراح من بشير زرق العيون أول حارس شخصي للزعيم الحبيب بورقيبة.
تقلد مسؤوليات حزبية في مستويات مختلفة وتحصل على الصنفين الرابع والثالث من وسام الاستقلال وعلى وسام الشباب . قدم حلقتين ولكنه امتنع عن تقديم الحلقة الثالثة بعد أن أحدثت شهادته ضجة بين مراكز القوى في العهد البورقيبي وما زال في جعبته العديد من الأسرار التي لم يبح بها ويبدو أنه تعرض لضغوط قوية جعلته يتراجع حتى عن المعلومات التي قدمها. تحدث عن مجموعة من القضايا التي كانت محرمة في العهد السابق وسرا مجهولا في هذا العهد ومن أهمها:
1ـ صباط الظلام
منزل ضيق ومظلم في قلب المدينة القديمة استعملته الميليشيا البورقيبية لتعذيب المناوئين لها من أنصار صالح بن يوسف والزيتونيين . وتقول بعض الروايات انه يحتوي على بئر تُرمى بها جثث القتلى. وقد اعترف التليسي بممارسة التعذيب ولكنه نفى القتل ووجود البئر.
«ظل صباط الظلام لعقود طويلة حلقة مفقودة لا يعرف عنها المؤرخون الشيء الكثير « يسمعون عنه لكنهم لا يعرفون كثيرا عن أبطاله وضحاياه.
2 ـ موقف العاصمة من الصراع
روى أن العاصمة بمناضليها وهياكلها الحزبية تخلت عن بورقيبة وانحازت إلى صالح بن يوسف باستثناء شعبة الدويرات التي بدأت تخوض معارك مع اليوسفيين .
3ـ التعذيب وأبطاله وضحاياه
تحدث بإسهاب عن التعذيب واعترف أنه مارسه على العديد من المعارضين من الزيتونيين أو اليوسفيين. ومن أهم العناصر التي مارست التعذيب : الشيخ حسن العيار ، المحجوب بن علي ، ومن الضحايا ذكر المناضل عبد الستار الذي مازال على قيد الحياة وأكد عمليات التعذيب بل ذهب أكثر من ذلك عندما شهد أن عصابة حسن العيادي كانت تفتك أملاك الفلاحين لحسابها وليس للمقاومة.
4 ـ محاولة اغتيال الأمين العام للاتحاد أحمد بن صالح
كشف سرا لم يتحدث عنه حتى صاحبه ألا وهو تكليف بورقيبة لحسن العيادي باغتيال أحمد بن صالح الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان في أوج عطائه، ولولا تحذيره لكان ابن صالح الأمين العام الشهيد رقم2 الذي يطالب النقابيون بفتح ملفه لكن دون جدوى. وقد تولى ابن صالح إعلام الباهي الأدغم بالأمر فأوقف العملية.
5ـ الشيخ حسن العيادي : الوطني ،الجلاد والضحية
حاول أن ينصف حسن العيادي فتحدث عن دوره المشرف في المقاومة الوطنية ثم وقع توظيفه في تصفية المقاومة اليوسفية، فقام بأخطر الأدوار، وكان يتلقى التعليمات مباشرة من بورقيبة، وأثار غيض كل من المنجي سليم والطيب المهيري بعد أن وشت به امرأة من المطوية تدعى أم السعد وأوحت لهما ب «أن حسن العيادي يخطط لقتلكما « فقررا التخلص منه ودبرا له مكيدة عندما كان بورقيبة محبطا بعد اكتشاف المحالة الانقلابية، وأوعزا له بأن حسن العيادي من بين المتآمرين في المحاولة الانقلابية، وحكم عليه بالإعدام ونفذ فيه رغم من براءته.
هـ ـ مشاركة الحزب الدستوري الأول (اللجنة التنفيذية) في المقاومة المسلحة
إن الدعاية الرسمية حصرت المقاومة المسلحة في الحزب الدستوري «الديوان السياسي « والواقع غير ذلكـ، فالحزب الدستوري (اللجنة التنفيذية) ساهم أيضا في معركة التحرير من خلال مجموعة جبل برقو، وعندما توقفت المقاومة، حاول حسن العيادي استدراجهم لقتلهم لكنهم انتبهوا للخطة فنجوا.
6 ـ البشير زرق العيون حلقة وصل بين الإقامة العامة الفرنسية وبورقيبة
كثيرا ما همس المؤرخون بوجود علاقة سرية بين المخابرات الفرنسية وعناصر من المقاومة (اليد السوداء) ، وكان من الصعب عليهم إثبات هذه العلاقة، غير أن شهادة أحمد التليسي أبرزت جانبا من هذه العلاقة حيث ذكر أن البشير زرق العيون كان حلقة وصل بين الإقامة العامة الفرنسية والزعيم بورقيبة، وظهر ذلك بوضوح عند عودته. ومن الأكيد أن هذا الاتصال لم يكن الأول، وأن التنسيق لم ينحصر في حرص الطرفين على تأمين العودة لبورقيبة. وقد سبق له أن نسق مع الخارجية الفرنسية للعودة إلى تونس سنة 1949 عندما أعلمه أنصاره أن ابن يوسف على وشك افتكاك الحزب منه وخاصة بعد مؤتمري ليلة القدر 1956ودار سليم 1948
7 ـ العصابات الحزبية: بين الائتلاف والاختلاف والتصادم
تبدو هذه العصابات في نظر الرأي العام مؤتلفة ويؤطرها الديوان السياسي وتنشط بتوجيه منه لكنها في الواقع مختلفة ومتناقضة، فهناك عصابة المحجوب بن علي وعصابة الطيب المهيري وعصابة حسن العيادي وعصابة حسن بن عبد العزيز وغيرها ... وكلها تدعي التواصل مع بورقيبة وتتلقى منه التعليمات ، لكنها في الواقع تتمتع بهامش كبير من حرية التصرف إلى درجة التناقض والتصادم بل والتآمر على بعضها.
8 ـ الساحل وتصفية الخونة
من أبرز المهام التي أوكلت لهذه العصابات هي تصفية المتعاونين مع السلطة الفرنسية وقد بدأت هذه العمليات في الساحل حيث تولى المقاومون هناك قتل العمد والقواد وكل المتعاونين فخلق لديهم حالة من الرعب عززت مكانة المقاومة لدى الشعب .
9ـ بورقيبة الزعيم وبورقيبة الرئيس
يقول التليسي في النهاية «لقد أحببت بورقيبة كثيرا .. أحببته زعيما وليس رجل حكم» .
وبالإضافة إلى هذه المعلومات التي كشف فيها عن بعض المستور الذي يعرفه المؤرخون ولكنهم لا يملكون عليه دليلا،فإن التليسي في حد ذاته كان شهادة حية من داخل بيت الطاعة تصدق عليه المقولة الشعبية « وشهد شاهد من أهلها «
ثانيا ـ تداعيات شهادة التليسي :
1 ـ إرباك مراكز القوى في النظام البورقيبي
يبدو أن مراكز القوى في النظام البورقيبي انزعجت من هذه الشهادة لأنها شككت في الدعم الجماهيري الذي استمد منها النظام البورقيبي شرعيته في الحكم، فقد انتزعها بالعنف والتعذيب والتصفيات الجسدية من ناحية والتعاون مع عدو الأمس من ناحية أخرى. وأصيبت بإرباك حول كيفية رد الفعل ولعلها اهتدت إلى أن الحل الوحيد هو الضغط على هذا الشاهد حتى يتراجع وبتراجعه تسقط شهادته مرة واحدة.
وهذا أمر غير مستغرب بالنسبة لهذه المراكز الضالعة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في الأخطاء التي ارتكبت في فترة مفصلية من تاريخ تونس الحديث، وفي هذا الإطار يمكن أن نتفهم مواقف بعض الوزراء أو الولاة أو القيادات الحزبية الذين كتبوا بعض المذكرات، فإن نقدهم للنظام لا يتجه مباشرة إلى بورقيبة وإلى سوء أدائه السياسي والآليات التي كان يدير بها سياسة الدولة، بل يتجه إلى أطراف نافذة في السلطة. فالمذكرات التي تتميز عادة بالصدق في الرواية وتنهض على الاعتراف بالأخطاء التي يقع فيها المسؤول السياسي، نجدها لدى رجال النظام البورقيبي تقوم غالبا على تضخيم دور صاحب المذكرات وتقزيم الآخرين وتحميلهم مسؤولية الفشل . لذا فإن قارئ المذكرات لا يستطيع أن يستخلص أي درس من نظام الحكم في تونس، فلا يعرف مثلا ما هي الأسباب الحقيقية للأزمات التي مرت بها تونس ولا كيفية معالجتها. فهذه المذكرات تنعدم فيها ـ إلا ما ندر ـ الإشارة إلى غياب الدولة كمؤسسات ومبادئ، وطغيان الحكم الفردي، والاستناد إلى العصابات لتحييد المعارضة أو تصفيتها ، وانعدام الديمقراطية كأسلوب للحكم، لذا فإنها ليست إلا تبريرا لدورهم وتبرئة لأنفسهم.
إن هذا أسلوب معروف لدى الشخصيات التي كانت نافذة في نظام بورقيبة ولا عتب عليهم في ذلك « فكل إناء بما فيه يرشح «. لكن الاعتراض هذه المرة أتي من خارج دائرة النافذين في العهد البورقيبي وهو أستاذ القانون محمد رضا الأجهوري في كلية الحقوق جامعة المنار الذي لم يكن ضالعا ـ حسب معرفتي ـ في المسؤولية مع النظام البورقيبي .وهذا ما شجعني على أن أقدم قراءة مغايرة لقراءته غير أنها بالتأكيد ستكون ملتزمة بقواعد الحوار الفكري بما فيه من احترام وموضوعية بعيدا عن التشنج والتعصب. ففيم تتمثل اعتراضات الأستاذ الأجهوري على هذه الشهادة؟
2 ـ اعتراض أنصار طمس الحقائق محافظة على الرموز
تركز الاعتراض على ثلاث نقاط :
ـ ممارسة التعذيب جريمة يعاقب عليها القانون
ـ شهادة التليسي شهادة زور
ـ مؤسسة التميمي تروج للتزوير
فما هي المبررات التي استند إليها وإلى أي مدى يمكن أن تثبت أمام الحقيقية التاريخية والحجج المنطقية؟
أ ـ ممارسة التعذيب
بمجرد أن نشرت الصحف بعض الفقرات من الشهادة الأولى لأحمد التليسي واعترف فيها بممارسة التعذيب ضد اليوسفيين حتى بادر الأستاذ الأجهوري بنشر مقال اعتبر فيه ممارسة التعذيب جريمة «وان جريمة التعذيب لا تسقط بمرور الزمن في قانوننا الوضعي التونسي وفي اغلب قوانين دول العالم المدافعة عن الحرمات والحريات وحقوق الإنسان»(1)
كما ورد في جريدة الصباح 18 جويلية 2009 ما يلي «ودعوت إلى إلغاء الحلقتين المقررتين ليومي 11 و 18 جويلية احتجاجا عل استضافة التليسي... وختمت بدعوة المجتمع المدني إلى تحرك إيجابي للتشهير بسياسة التعذيب»
ولعل المتابع يتساءل عن التوقيت الذي ظهر فيه المقال فالحلقة الأولى قدمت يوم 4 جويلية والحلقة الثانية مقررة ليوم 11 وكان مقررا أن تقدم الحلقة الثالثة يوم 18 من نفس الشهر والمقال ظهر يوم 11 جويلية .فلماذا لم يعط الأستاذ فرصة للتليسي لإنهاء شهادته ثم يقدم الموقف القانوني؟ ما ذا وراء السرعة في الإعلان عن هذا الموقف ؟ هل كان ذلك مجرد رأي قانوني أم إنه يحمل خلفية سياسية هدفها إرهابه ودفعه للتوقف؟. وقد علمنا أن هناك من أشعر التليسي في بداية الحلقة الثانية بما ورد في المقال من خطر ينتظره . لكنه أصر على قول الحقيقة غير مبال بالمحاكمة .
وبقطع النظر عن خلفية القانون فما موقف المشرع التونسي من التعذيب؟ لقد كانت هذه المسألة محل جدل قانوني بين رجال القضاء، فالسيد شقيق الأخضر المحامي لدى محكمة التعقيب لم يساير الأستاذ الأجهوري لأنه يجب التمييز هنا بين جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي لا تسقط بمرور الزمن، وبين جريمة التعذيب التي تعتبر جنحة تسقط بمرور الزمن طبق أحكام الفصل 5 من مجلة الإجراءات الجزائية المشار إليه، ولا يمكن لاتفاقية الأمم المتحدة المذكورة أن تعكر حالة المتهم بجريمة التعذيب خاصة أن هذه الاتفاقية لا أثر رجعي لها ولا تنص بفصولها على عدم سقوط الدعوى بمرور الزمن» (2)
أما فيما يتعلق بالمجتمع المدني فإني أتساءل في أي اتجاه سيتحرك؟ هل سيتحرك في اتجاه كبت الحريات وقمع حرية التعبير وطمس الحقائق باعتبار أن هذه الشهادة تنال من رمز وإذا كان فعلا رمزا فهل تستطيع أن تنال منه الأكاذيب، أليس من الأفضل أن ننحت رموزنا من رخام الحقائق التاريخية ولا تؤثر فيها العواصف الهوجاء بدل أن نبنيها من كثمان رمال الأكاذيب التي تذروها الرياح . ثم ألا تعلم أن المجتمع المدني كان ضحية سياسة القمع منذ 1961 فمنعت الأحزاب وحُلت الجمعيات وأغلقت الصحف المتبقية؟
ب ـ هل تروج مؤسسة التميمي للتزوير ؟
ـ يؤاخذ الأستاذ الأجهوري مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات و صاحبها لأنه
«استضــــاف شاهد زور» وفي هــذه الاستضــافة « تمجيد لشهادة الزور وترويج لها « (3)
وأتوقف هنا دون تناول الملاسنة التي حدثت بين الأستاذين الأجهوري والتميمي وأعتبرها زلات لسان بشرية عارضة،لأعرض وجهة نظري من هذه المؤسسة. ولابد أن أشير في البداية إلى أنني لست من أنصار المدائح ولا من عشاق القريض، ولكني في نفس الوقت لست عدميا ولا تستهويني معاول الهدم ، ولعله من الإنصاف أن نثمّن الدور التاريخي الوطني الموضوعي الذي نهضت به هذه المؤسسة منذ أن كانت بزغوان في إنعاش الذاكرة الوطنية وإزالة ما تراكم عليها من غبار تزييف الحقائق. فقد كانت ولا تزال مفتوحة على كل مكونات المجتمع من أحزاب وجمعيات ومنظمات وشخصيات وطنية من أمثال أحمد بن صالح الذي حمل عبء التجربة النقابية في الخمسينات وعبء التجربة الاشتراكية في الستينات وعاش مرارة الملاحقة والتشرد في المنفى، وهي متفتحة على كل الاتجاهات ولم تستثن أي طيف سياسي باستثناء الإسلاميين حيث لم تنضج بعدُ ظروف الاستماع إليهم.
فقد حضرتُ أهم التجاذبات التي وقعت بين عناصر من الحزب الحاكم وفي مقدمتهم محمد الصياح ومجموعة آفاق اليسارية وفي مقدمتهم المأسوف عليه محمد بن خذر،كذلك استضافت قيادات الحركة النقابية بما في ذلك الأخ الطيب البكوش والسيد التيجاني عبيد الذي وظفه النظام لتدجين الحركة النقابية بعد أحداث 26 جانفي، وعقدت العديد من الندوات حول أبرز الشخصيات الوطنية وفي مقدمتهم بورقيبة وحشاد.كما سجلت شهادات مناضلي الحركة اليوسفية الذين كانوا الضحايا الأُول للقمع السياسي في دولة الاستقلال واذكر من بينهم المربي أحمد صوة والمناضل علي بن سالم ، ومن أهم الشهادات الموضوعية كانت شهادة حسين التريكي، وكنت من الذين يعتبرون شهادات اليوسفيين تحتوي على شيء من المبالغة، وبعد شهادة التليسي اتضح لي أنهم كانوا في منتهى الصدق،كما استضافت ما بقي على قيد الحياة من عناصر المحاولة الانقلابية وتحدثوا عن الأسباب التي حركتهم للإقدام على هذه المغامرة وعن الثمن الذي دفعوه، كل ذلك كان دوم تأفف أو ندم. وتتالت على منبرها كل أطياف اليسار وفصائل الحركة القومية من الناصرين والبعثيين، بل إنها سجلت لغير السياسيين من رجال الفكر والخبراء والفنيين ورجال الإعلام من الوطنيين الرواد الذين بنوا الدولة الوطنية الفتية،كما حينت قضية من أهم القضايا التي ما زالت تسكن أعماقنا النفسية والتاريخية وهي قضية طرد مسلمي إسبانيا والتي تسمى بالمورسكيين ودعت الكنيسة وإسبانيا بتقديم اعتذار لهؤلاء الذين أجلوا من ديارهم وحافظوا على عقيدتهم .
وبالجملة فقد وفرت للمؤرخين مادة حية يعسر توفرها على مختلف الأصعدة في ظروف لم تكن سهلة . ومع احترامي لكل مراكز البحث والتوثيق في بلادنا التي تبذل جهودا مشكورة في نشاطها فإنها لا ترتقي إلى مستوى العمل الحيوي والدؤوب التي تتمتع به هذه المؤسسة. وقد حاول أن ينسج على منوالها الكثير من المبادرين سواء على مستوى المغرب العربي أو الوطن العربي لكنهم لم يوفقوا لحد الآن.
تلك هي الأهداف التي يعرفها كل من يرتاد هذه المؤسسة. وإذا كانت هناك أهداف أخرى غير المعلنة وغير التي تمارسها، خفيت عن الباحثين والمؤرخين الذين يتابعونها ويستفيدون منها منذ أن نشأت، فليت الأستاذ الأجهوري يدلنا على البعض منها حتى لا نبقى مغفلين . ولا أعتقد ايها الأخ العزيز أن مؤسسة التميمي باستماعها لشهادة أحمد التليسي حول التعذيب « تمجد شهادة الزور» لأمر بسيط هو أن الذين يتابعون هذه الشهادات يتمتعون برصيد معرفي ولهم من الامكانيات العلمية ما يمكنهم من الفرز ما بين الخيط الأبيض والأسود في الليلة الظلماء.
ج ـ شهادة التليسي شهادة زور لماذا ؟
ـ اعتبر الاستاذ الأجهوري >>شهادة التليسي شهادة زور ...لأنه التليسي يوجه الاتهام إلى الأستاذ الحبيب بورقيبة الزعيم الرئيس بإصداره أوامر قتل، إنكارا من التليسي لجميل بورقيبة عليه وخيانة منه كذلك للأمانة التي لا يفهمها ولا يرتقي إلى مستوى الإيمان بها . ويضيف أن أروع مثال يؤكد زور الشهادة ...هو الشهادة زورا على بورقيبة الزعيم الرمز والرئيس السابق للجمهورية (4)
وهنا تطرح العديد من التساؤلات التاريخية منها: فهل يكفي أن نستمع لبورقيبة وهو يزهو بنفسه ويُخوّن خصومه ويقزم رفاقه ويحط من مكانتهم حتى نسلم بأن ما قاله عن تاريخ الحركة وعن دوره وعن دور معارضيه حقيقة لا مراء فيها؟ ثم إذا كان بورقيبة رمزا والرمز يختزل مجموعة من القيم والمبادئ ويتجاوز حدود المكان والزمان فهل نعلن صيحة فزع خشية عليه من شهادة زور ؟
حتى نجيب عن هذه التساؤلات لابد أن نطرح بعض الإشكالات الفكرية التي يتعامل معها المؤرخون كآليات بحث وهي:
ـ كيف نتوصل إلى معرفة الحقيقة؟
قديما قيل» بالحق يُعرف الرجال وليس بالرجال يعرف الحق « فأين الحق من الزيف في تاريخ الحركة الوطنية « فهل نعرف تاريخنا الحقيقي من الخطاب الرسمي وفي مقدمته خطاب بورقيبة الذي ظل يتردد طيلة ثلاثة عقود كخطاب وحيد دون منافس ؟ أم إن الشعوب هي التي تصنع تاريخها وأن دور البطل هو في تسريع حركة التاريخ أو في إبطاء سيرها؟
ـ من الذي يكتب التاريخ؟
من المعروف أن التاريخ يكتبه المنتصر والغازي والحاكم والقوي لكن إلى حين. إن النظرية التي كانت سائدة في أوروبا في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين هي نظرية التفوق العرقي وهي التي برر بها الألمان رغبتهم في السيطرة على أوروبا وعلى العالم وهي التي سوغت للأوروبيين الأكثر تمدنا السيطرة على شعوب الثالث المتخلفة. وبعد الحرب العالمية الثانية فرض الحلفاء المنتصرون رؤيتهم وفلسفتهم على ألمانيا الشرقية والغربية. وعندما سقط المعسكر الاشتراكي تغيرت موازين القوى العالمي وظهرت العولمة كخيار إمبريالي. هذه الآلية لم تكن خافية على بورقيبة لذا ظل يملي رؤيته التاريخية على جيلين على الأقل. وكل من اهتم بالشأن التاريخي يعرف أن فلسفة الحكم في تونس قامت على مبدأ بسيط هو « تأكيد شرعية الماضي لضمان استمرارية المستقبل» انطلاقا من هذه القاعدة وقع عملقة البطل وتقزيم الشعب. فقد تحول الزعيم إلى شبه إلاه يعرف الحاضر ويتنبأ بالمستقبل. أما الشعب فهو مسكون بالشيطان البربري المتمرد منذ العهد النوميدي ولا يفقه مصالحه، وحتى النخب السياسية فإن ثقافتها سطحية وهي غير واعية « صبعين ولحق الطين « كما كان يردد، وهذا يقتضي تخوين كل من يعترض وتأديبه وإذا أمكن تصفيته. وهكذا مصير المعارضة في تونس بداية من الحركة اليوسفية.
ومن أجل هذا كانت تعقد المحاكمات في تونس بمعدل محاكمة في كل سنتين تقريبا. كل هذا لتبرير الحكم الفردي . وقد كانت تونس من أوائل الدول في العالم إن لم تكن الأولى التي شرعت « الرئاسة مدى الحياة»، وها هي الآن تتحول إلى سنة حميدة والتمرد للسير نحو الديمقراطية ولو بخطى بطيئة وثابتة بدل أن يحول الحكم إلى رئاسة مدى الحياة آلت به إلى التقاعد الوجوبي.
لماذا يكتب المنتصر التاريخ ؟
هل الهدف هو تمجيد أبطال الماضي أم تكريس انتصار الحاضر لصنع المستقبل والتحكم في سيرورته؟ إن بورقيبة عندما واصل استعراض بطولاته لمدة ثلاثة عقود لم يكن هدفه تمجيد دوره في تحقيق استقلال تونس فحسب بل أساسا يريد أن يكون ذلك مبررا لاستمرار رئاسته للبلاد . فالسياسيون لا يهتمون بالماضي إلا بقدر ما يساعدهم على صنع مستقبل.
وهذا يدفعنا إلى التساؤل : هل يمكن أن نطمئن إلى ما فاه به بورقيبة وحبره المؤرخون في إدارة الحزب؟ أليس من حقنا بل من واجبنا أن ننفض ما تراكم من الغبار عن ذاكرتنا قبل أن يعلوها الصدأ فتتآكل وتفعل فيها عوامل النسيان والتنــاسي فتذهب الحقيقــة ويبقى الزيف ؟
الذاكرة المحجوزة
وإذا كان من مصلحة الغالب سواء أكان مستعمرا أو حاكما مستبدا أن يكتب التاريخ ويُكيّف ذاكرة الشعوب حسب مصلحته، أليس من مصلحة الشعوب الحرة أن تعيد صياغة ذاكرتها؟ وهل يتسنى لها ذلك دون إزالة ما تراكم عليها من زيف حتى تظهر الحقيقة ساطعة وجلية دون مساحيق . وهنا تتنزل إعادة قراءة التاريخ عبر العصور وعلى سبيل المثال، أليست الثورة الفرنسية ليوم الناس هذا، هي محل جدل ونقد ومراجعة من أنصــارها ومن خصومها ؟ فلماذا نرفض نحن مراجعة تاريخنا ؟ أليست ذاكرتنا في جزء كبير منها ما زالت محجوزة؟ وعلى سبيل التذكير ها أنا أستحضر ثلاثة وقائع تاريخية لم يحاول نظام بورقيبة فتح ملفاتها ورفع الغطاء عنها:
أ ـ ملف فلاقة الساحل بزرمدين
من المعروف أن هذه العصابة التي ظهرت إثر الحرب العالمية الثانية وأزعجت فرنسا لمدة أربع سنوات، لم تستطع أجهزة الأمن التغلب عليها إلا بالتعاون مع المسؤول الأول في الحزب الدستوري الثاني بقصر هلال الطاهر بطيخ الذي استغل مسؤوليته الحزبية وثقة الفلاقة به كمناضل وطني ليستدرجهم إلى منطقة القطار بجهة قفصة أين تمت تصفيتهم في 11 أفريل 1948ولم يقدم هذا المسؤول الحزبي على فعلته إلا بعد استشارة قيادته.
وقد طالب الوطنيون بزرمدين بفتح ملف هذه الجماعة لمعرفة ملابسات هذه القضية لكن دون جدوى.
ب ـ ملف اغتيال فرحات حشاد
لقد كان من المفروض منذ فجر الاستقلال أن يفتح ملف هذا القائد النقابي احتراما له وللمنظمة الشغيلة التي قدمت أنفس التضحيات من أجل الوطن، فهل يكفي أن نقول إن القضاء الفرنسي نظر في هذه القضية وأصدر حكمه وأطلعنا على تفاصيلها. إن النقابيين مازالوا إلى يوم الناس هذا، تخامرهم الشكوك حول الجاني وأهدافه وانتماءاته وهو الذي وجه الضربة القاتلة لحشاد بعد أن فشلت المحاولة الأولى. فما زال النقابيون يهمسون بأن الجناة من التونسيين غادروا تونس بعد الاستقلال ثم عادوا إليها دون أن يقع تتبعهم..
ج ـ ملف الطاهر بطيخ
هو المسؤول الحزبي الأول في الساحل تورط في صفقة مع المخابرات الفرنسية لتصفية الفلاقة الذين أشرت إليهم، وكل القرائن تؤكد أنه عقدها بعد استشارة رأسي الحزب في تونس وفي القاهرة، وتمت استجابة لرغبة المقيم العام الفرنسي مون مونس الذي اشترط التواصل مع الحزب الدستوري بتعاونه في التخلص من هذه المجموعة المسلحة. ونتيجة لموقعه النضالي أقنعهم بالتحول إلى فلسطين ريثما تنضج ظروف معركة التحرير في تونس. هذا الرجل الذي قام بهذا الدور لم يقع التخلص منه مع الخونة ولا مع الصراع اليوسفي البورقيبي، وإنما بعد أن رجحت الكفة لبورقيبة وبعد أن طالب المناضلون في زرمدين بفتح ملف الفلاقة. فاختفاؤه في ظروف تكاد تكون عادية هو محاولة لدفن الحقيقة معه.
هذه الملفات وغيرها هي جزء من الذاكرة الوطنية التي بقيت محجوزة فلمصلحة منْ ستبقى مجهولة ومصدرا للشكوك؟
في هذا الإطار تتنزل استضافة التليسي وغيره في مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات، وفي اعتقادي فإن شهادته ـ رغم التوقف ـ ألقت بعض الأضواء الكاشفة على أسلوب بورقيبة في التعامل مع المعارضة قبل الاستقلال ومع فجر الاستقلال والأخطر من ذلك مع اكتمال مؤسسات الدولة الوطنية. وحتى لا أكون متجنيا فلنذكر فقط بالنقاط التالية:
أ ـ اغتيال صالح بن يوسف في ألمانيا
إن التخطيط لاغتيال صالح بن يوسف في ألمانيا في صائفة 1961 وبالتحديد في 2 أوت تمّ بطريقة محكمة، فقد وقعت تصفيته لما كانت كل أنظار العالم مشدودة إلى تونس وهي تستعد لمعركة الجلاء أكتوبر وتتلقى الدعم والمساندة من كل دول العالم بما في ذلك مصر التي كانت علاقتها متوترة معها، بحيث لم تسلط الأضواء الإعلامية على الحدث إلا بشكل محدود .غير أن بورقيبة لم يترك خيوط عملية الاغتيال غامضة أو محل شك بل اعترف في معهد الصحافة بشكل علني وأمام وسائل الإعلام بأنه أرسل من خلصه من صالح بن يوسف، وهو بهذا الاعتراف العلني يؤكد قدرته على ضرب كل من تسول لها نفسه بالخروج عن الطاعة سواء داخل البلاد أو خارجها، وهو بذلك يتحدى الأعراف الدولية والمشاعر الإنسانية ويثير الأحقاد. فهل يليق برئيس دولة لها مؤسساتها وأجهزتها أن يبعث بعصابة إلى بلد أجنبي يمارس فيه الجريمة ثم يتبجح بأنه هو الذي فعلها ؟
ب ـ مطاردة التليلي في فرنسا
بعد أن رفض التعاضد ولاذ بالفرار ونشر رسالته التي فضح فيها أسلوب بورقيبة في الحكم ورفض الاستجابة لنداء العودة والكف عن فضح أساليب النظام، طاردته العصابات في باريس وها هو يروي لصديقه محمد إقبال قائلا :»علمت الشرطة الفرنسية أن الحكومة التونسية أرسلت إلى باريس فريق كوماندوس قصد اغتيالي لكن المندوب المكلف بحماية الزعماء أفهمني أن مصالح الأمن ليست راغبة في قضية ثانية من نوع قضية ابن بركة ورجائي أن أتغيب مدة من الزمن»(5) ولا أتحدث عن إشاعات أخرى حول موته هي محل شك.
ج ـ ملاحقة أحمد بن صالح في سويسر لإغتياله
إلى حدود نهاية سنة 1956 كانت المنظمة الشغيلة قوية ومتلاحمة لم تنهكها الصراعات الأفقية وعلى رأسها شاب طموح يتقد حيوية ونشاطا وهو ما يتعارض مع استراتيجية بورقيبة في التفرد بالسلطة، لذا قرر تصفيته وكلف بذلك حسن العيادي رئيس عصابة صباط الظلام. ومع فشل تجربة التعاضد ومحاكمة ابن صالح وهروبه من السجن لاحقه في المنفى في السبعينيات ويتحدث في شهادته عن هذه الملاحقات قائلا : «إثر محاولة الاغتيال في زوريخ التي تحدثت عنها الصحافة وقع إيقاف البشير زرق عيون في المطار ووقع تفتيشه وعثر لديه على السلاح واكتشف أن معه شخصين مختبئين في السفارة التونسية كانا قد ربطا الصلة بأخي . وعندما ألقي القبض على زرق العيون قال إني جئت لأصلح بين بورقيبة وابن صالح ...جاء بعد ذلك بورقيبة لسويسرا بدعوى معالجة أسنانه ودفع إمكانيات مالية للسويسريين وأرجع معه زرق العيون ( 6)
د ـ الضغط على الحبيب عاشور للتنازل عن دعوى قضائية ضد ميليشي
في أواخر 1977 احتد الصراع بين النظام والاتحاد العام التونسي للشغل ولم يترك الحزب أية وسيلة إلا واستعملها لاحتواء المنظمة الشغيلة بما في ذلك التهديد بالقتل فقد راج خبر مفاده أن عبد الله الورداني المتهم باغتيال ابن يوسف هدد الأمين العام بالقتل شاهرا مسدسه فبادر عاشور بتقديم قضية عدلية ، فما كان من بورقيبة إلا أن دعاه وقال له: «لقد علمت أنك قدمت قضية ضد الورداني الذي هددك إني أعرفه جيدا ، أريد أن أطمئنك أنه لن يفعل شيئا وأطلب منك أن تسحب شكواك.
لقد اندهشت وأنا أرى رئيس الدولة يتدخل في هذه القضية وفي هذا الاتجاه، وكان جوابي سأفكر في الأمر سيدي الرئيس»(7)
ألا يدل كل هذا على أن بورقيبة يتصرف وهو رئيس الدولة بعقلية رئيس عصابة، ألم يكن هذا الرجل البسيط المليشي ـ الذي تابع عن كثب سلوك بورقيبة وأساليبه ـ على حق في جزء من قناعته عندما قال :أحببت بورقيبة زعيما ولم أحبه رئيس دولة
إذا كان ما قاله أحمد التليسي شهادة زور وهو شخص مقدوح فيه لانعدام قيم النزاهة والأمانة والمصداقية بما يرتقي حتما بشهـادته إلى أن تكون شهادة زور على تاريخنا الوطني (8) فهل ما شهد به هؤلاء شهادة زور أيضا؟ هل تختلف شهادة أحمد التليسي عن شهادة هؤلاء وعما اعترف به بورقيبة نفسه؟
نعم إن بورقيبة ترك بصماته في تونس طيلة 30 سنة بما له وما عليه ، غير أن الدفاع عنه لا يجب أن يفضي إلى محو دور القوى الوطنية الفاعلة التي أدت أدوارا لا تقل عن دور بورقيبة إن لم تكن تفوقه لأنها ناضلت من أجل الوطن دون حسابات ودون ارتباطات ما زالت لحد الآن محل شبهة.
وعندما يحرص المؤرخون والباحثون على صقل الذاكرة الوطنية وتخليصها من البطولات الوهمية فليست الغاية الانتقام أوالتشفي ، إنهم لا يريدون ذلك ولا يمتلكون القدرة على فعله حتى ولو أرادوا، وإنما هدفهم الأول والأخير هو ألا تحرم الأجيال الصاعدة من معرفة التضحيات التي قدمتها الأجيال السابقة بعيدا عن الخوارق الخادعة والبطولات الزائفة التي تصطنعها الأنظمة للتشكيك في طاقات الجماهير وعزلها عن الفعل السياسي وتغييبها عن المشاركة في الحكم حتى يتسنى له احتكار النفوذ.
سالم الحداد
https://www.facebook.com/benyoussef.salah/photos/a.201980726491475.45983.201980289824852/241621059194108/?type=3&theater
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire