نعم، انها تلك الفترة التى يموت فيها الضمير الانسانى، وتغيب معانى الحق والعدل ويموج العوام فى عواصف من التضليل والجهل ، ويُصبح الحق مفسدة والباطل منفعة، حينها فقط يُصبح التفكير لعنة والمُفكر خطر، حينها فقط يخرج علينا أُناس ابتعثهم الله فى اوقات موت الجسد، فها هو (قطب ) فى عالمنا السُنىّ يخرج من غياهب الظلام ليُنير عوالم الفكر والتحرر، ولكن هل اقتصر النضال عليه؟!
يُجيب علينا (شريعتي ) فى تلك المنطقة (ايران ) فى عهد الشاه ويُعانى قومها من الاستعمار والجهل، تُعانى أرواحهم من الضلال ونُفوسهم من التلوث الغربى، وعقولهم من سيطرة الدولة وقمعها وظلمها، يخرج علينا رجل من أسرة متدينة شيعية، يقلب موازين العالم الشيعى بالكامل، ويصنع حالة من التمرد الفكرى الثورى التى انتجت الثورة الايرانية, باعتراف قائدها الخُمينى، ان من اهم عوامل نجاحها تعاليم الاستاذ شريعتي، على الرغم من موته قبل قيام الثورة بالاصل .
تلك رحلة بسيطة فى فكر الاستاذ، نُحاول بها القاء قبسات مُضيئة على فكره وكلماته، وكم احوجنا لتلك العقول التى تُنير للامم طريقها وتُحررها من قيودها وتبعث فيها (الامل) من جديد، تلك الكلمة التى اصبح ذكرها مؤلم الان، ولكن بادىء ذى بدء نتساءل:
* من هو شريعتي ؟
مُفكر شيعى، تبحر فى العلوم الدينية وتخصص فى علوم الحضارات الغربية، ودرس علوم الاجتماع الانسانى ثم عاد الى قومه ليصطدم بواقع امة مُغيبة طمست هويتها بأيديها، فرفع سيف المواجهة الفكرية بمحاضراته وكتبه وكلماته الخالدة، اتهمه علماء الدين فى ايران انه (مرتد) وهو لا يقل خطورة عن مسيلمة الكذاب، حينما مدح (عُمر بن الخطاب ) فى احد كُتبه ووصفه بالقائد العادل العظيم، انتج جيلا من الشباب الايرانى حمل ايران لاكبر ثورة فى العصر الحديث وانتصر على سجون الطغيان والظلام، ولكنه اُغتيل على يد السافاك (جهاز مخابرات الشاه ) قبل ان يُبصر نتاجه الفكرى على الواقع
.
* شريعتي والانسان
هل فكرت يوما فيما ميزك الله عن باقى المخلوقات ؟
ان الله سبحانه وتعالى حينما خلق الانسان وكرمه اعطاه صفة لم يمنحها لمخلوق قط غيره صفة ( ارادة الاختيار ) او كما يُسميها شريعتي (التمرد ) [1]، ينضج الانسان وتُحاول كل الانظمة التربوية والسياسية وعُلماء السلطان  ان يسلبوه صفة التمرد وتحديد اختياراته وجعله انسانا هادئا مُطيعا مطية للظلم، ومُتقبل لاسوأ الحلول فى كرامته وحريته، حينها يُسلب الانسان من ذاته وينحسر دوره فى اغتراب فى العمل او فى دائرة المادة حتى يموت .
الانسان عند شريعتي هو كائن ميزه الله ب (الابداع ) حيث يُمكنه انتاج ما لا يُمكن تخمينه او التنبؤ به، (واعٍ ) حيث أنعم الله عليه بعقل قادر به على ادراك نفسه وعالمه وذاته، (التمرد ) وتلك الصفة غرزها المولى فى نفس الانسان ليُحافظ بها على ابداعه ووعيه ضد حملات تشويه الفطرة الانسانية وتحقيق مفهوم التوحيد فى الارض،فكما يقول الامام محمد عبده (الانسان عبدٌ لله، سيدٌ لكل شىء بعده ) .
وحينما كان يرد شريعتي على كل من صنف الانسان وحصره فى قوالب جامدة تنزع منه ارداته الانسانية وروحه العقائدية كان يقول ("نعم فأنا (سني المذهب) (صوفي المشرب) (بوذي ذو نزعة وجودية) (شيوعي ذو نزعة دينية) ( ومغترب ذو نزعة رجعية) (وواقعي ذو نزعة خيالية)) (( شيعي ذو نزعة وهابية)) وغيز ذلك ( اللهم زد وبارك))
* الدين عند شريعتي :
يقول شريعتي : ليس من قبيل الصدفة، أن الانبياء حينما يُبعثون، يجتمع حولهم المحرومون والعبيد، ويواجهون مقاومة الأشراف، وتجار الرقيق، والكهنة، والتجار، وأهل القوة والجبروت الذي يصفهم القرآن "ملأ مترفين".
إنهم حين يظهرون، لا يبدأون دعوتهم متوسلين بالسلطان القائم، والقوة الحاكمة، بل إنهم يبدأون معلنين حرباً لا هوادة فيها على هؤلاء  [2].
"إن الدين الذي يبرّر الفقر ويحرص على بقائه كان يبرر العبودية أيضا وكان يخدّر الناس ويخدعهم لصالح الملأ والمترفين.الدين القائل "إن الله لا يهتم بكظّة ظالم وسغب مظلوم" يجعل من الشعور الديني مادة تخدير تعزل الناس عن المجتمع وتزهّدهم في الأمور المادية لصالح أولئك الملأ الذين يستأترون بها دون غيرهم.إن الدّين الذي أنكر دائما مسؤولية الناس في حقهم في تقرير مصيرهم وبرّر الوضع الظالم عبر التاريخ مستغلا بذلك معنوية الناس وشعورهم الديني القوي.هو الذي كان يوحي للناس بأن الجوع والحرمان والمرض هو علامة على رضا الله ودليل على وجود الأهليّة اللاّزمة للتكامل والكمال وهو الذي يفتح لكل شخص حسابا خاصّا بالنسبة للإعتقاد بالنسبة بما وراء الطبيعة ليبدّل الجمع إلى أفراد والحضور إلى انزواء. وهو الذي يسلب من الناس حق الحياة والتمتّع والتملك والتّحكم ويقوم بكل هذا من أجل الطبقة الحاكمة مستخدما بذلك الوعد والوعيد والتبرير"[3]
"إن الدين هو شعور ينبثق عن وعي الإنسان ومعرفته بنفسه ويدعو الإنسان إلى الكمال عن طريق تقديس القيم السامية من قبيل: الجمال والخير والبصيرة واللطف والإرادة والحرية والمعرفة والكمال والهداية والعزة والعدالة والحق ومناهضة الظلم والجهل والضعف والذل...وتجتمع كل هذه القيم في إطار التوحيد الذي يعدّ أكثر الأطر الدينية شمولاً،في معبود واحد وهو الله تعالى عز وجل.
أما إذا استغل الدين من قبل السلطات الحاكمة لحفظ مصالحها فستحصل أسوأ فاجعة يسحق فيها الإنسان في الأنظمة المعادية للإنسانية ويصبح الدين شهيداً في سجلات التاريخ.
الدين هو أداة لتحرير الشعوب، والعودة الى ذاتك، الدين هو مقتضى الفطرة الانسانية، الدين هو الرؤية التى عجز الانسان عن ادراكها وحينما حاول استيعابها وحصرها شوهها وشوه فطرته وشوه العالم من حوله، هكذا كان شريعتي يتأمل فى مفاهيم الاسلام ويبث فى كتاباته فى كل حرف فيها، فى كل جرة قلم معانى التحرر، تحرر الوعى والجسد .
* مابين النباهة والاستحمار
النباهة هى تلك الصفة التى تُميز الشعوب ادراكها لذاتها ولتاريخها ولتراثها، تلك الصفة التى تتسم بها النفوس الواعية، عقيدة الانتباه هى عقيدة كل مؤمن حريص على الا يتم (استحماره ) او التلاعب بعقله ودينه، النباهة والاستحمار هما مصطلحان تمركزت حولهما افكار عديدة للاستاذ فتطرق للحديث عن استحمار رجال الدين للانسان باسم الدين، استحمار المادة للانسان باسم الحضارة، استحمار الاستعمار للانسان باسم التغريب، استحمار الدولة للشعوب باسم الوطنية .
ثم تحدث عن اخطر انواع الاستحمار على الاطلاق ( استحمار النفس والشهوة للانسان ) حيث تُصبح النفس هى الفارس والانسان هو الجواد تُحركه كيفما تشاء وتتحكم فى اوصاله، ولكننا لازلنا لم نلمس خطورة تلك المصطلحات !
لو رأيت هذا العالم الشهير الذى أفنى حياته فى المعمل ليُنتج للبشرية اعظم الاختراعات على الاطلاق، او لاعب الكرة الشهير او المغنى المحبوب الذى افنى عمره فى تخصصه ثم بسهولة شديدة تجد هذا العالم من الممكن ان يكون اختراعه هادما للبشرية، ولاعب الكرة او المغنى نتاجهم الابداعى بلا قيمة ! كيف ؟
حينما عزل الانسان نفسه عن ادراك (ذاته ) ثم ادراك (مجتمعه ) ثم ادراك ( دينه ومشاكل أمته ) سُلبت منه النباهة النفسية و النباهة الاجتماعية، فأصبحت قوى القمع والتضليل تتحكم  فى العالِم والمغنى والرياضى، وحينما لم يهتم صاحبنا بالفكر وصناعة ذاته سقط فى فخ التخصصية الوهمى وغابت عنه مقاصد فعله، فلما انتج ؟ لمن اُبدع ؟ لماذا اُغنى؟  , واصبح كل ما انتج هباءا منثورا حيث تم استحماره واستغلال ما انتجه فى خدمة ما يُريده الطاغية او الاستعمار او استحمرته الشهرة والمجد حتى مات لاهثا ورائها ! غابت القيمة والمقصد، غاب مفهوم الاستخلاف، غاب مفهوم العبودية في كل سكناتك ونواياك للتحرك فأصبح الانتاج البشرى حينها مشوها لا قيمة مرجوة له الا الاشادة والمدح الدنيوى !
إن المعرفة النفسية أو الدراية أو النباهة الموجودة عند الفرد بالنسبة إلى نفسه، هي فوق معرفة الفلسفة والعلم والصنعة، لأن الأخيرة معرفة، وليست (معرفة نفسية) أي ليست الشيء الذي يريني نفسي، فيستخرجني فيعرفني ذاتي، الشيء الذي يلفت انتباهي إلى قدري وقيمتي. فقيمة كل إنسان بقدر إيمانه بنفسه ..
وأي دعوة أو دعاية وكلام وتقدم وحضارة وثقافة وقدرة تكون خارجة عن إطار هاتين الدرايتين....(الدراية النفسية، الدراية الاجتماعية )، فهي ليست إلا تخديرًا للأفكار، وللانصراف عن الإنسانية والاستقلال والحرية. إنه تسخير للإنسان كما يُسخّر الحمار. ومن هنا أطلق عليه اسم (استحمار) … إذًا فمعنى الاستحمار ؛ تزييف ذهن الإنسان ونباهته وشعوره، وحرف مسار النباهة الإنسانية والاجتماعية  [4]  .
لم تكن تلك الكلمات الا بداية، بداية لننهل من ذلك الرجل، نعم انا مُسلم سُنى ولا أكذب عليك لست ممن أسعى لتلفيق المذاهب وتوفيقها ، او تمييع المذهب السنى لحسابات أخرى، نعم لدى ملاحظات تصل احيانا لحد الهجوم على المذهب الشيعى، ولكنى توقفت امام حالة ليست مذهبية بل انسانية بحتة، حالة ابداع من نوع خاص، حالة تضحية فريدة قدمها الاستاذ ليمنح من بعده أجيال حق الحياة والحرية، ننادى ليل نهار بالتمرد على المنظومة والتحرر من التبعية الا ان قليل حفر مسارات للخروج، واقل القليل من ضحى بنفسه لتبقى تلك المسارات مُضيئة لمن بعده، ولا أرى ختاما للفصل الاول من حكايتنا عن شريعتي الا كلماته (عندما يشب حريق في بيت، ويدعوك أحدهم للصلاة والتضرع إلى الله، ينبغي عليك أن تعلم أنها دعوة خائن. فكيف لو كانت دعوته إلى عمل آخر أقل شأنًا ؟ فالاهتمام بغير إطفاء الحريق، والانصراف عنه إلى عمل آخر، ماهو إلا استحمار، وإن كان عملًا  مقدسًا ) .


[1] كتاب الانسان والاسلام – المحاضرة الاولى
[2] كتاب سيماء محمد – على شريعتي
[3] كتاب دين ضد الدين – على شريعتي
[4] كتاب النباهة والاستحمار – على شريعتي 




مقالات:علي شريعتي: الباحِثُ عن ذاتك

  • 18 أغسطس 2015
عمر سعيد
مؤسس أكاديمية رواد الحضارة للعلوم السياسية والفكرية