منقول من كتاب عن الناصريين واليهم للدكتور عصمت سيف الدولة
“
… وكنت قد تلقيت قبيل وفاة عبد الناصر دعوة من قيادة الثورة في ليبيا إلى زيارتها وإلقاء سلسلة من المحاضرات بمناسبة البدء في تنظيم الجماهير على غرار الاتحاد الاشتراكي العربي في مصر ، فلما غاب عبد الناصر اعتذرت عن عدم الوفاء بالزيارة لأسباب خلاصتها أن ما كان يمكن أن يقال في حياة عبد الناصر لم يعد قوله مجدياً بعد وفاته إذ أن الأمة العربية مقدمة على مرحلة مغايرة نوعياً لما كانت عليه . فجاءني رسول يحمل إلىّ تأكيداً للدعوة بحجة أن الزيارة قد أصبحت أكثر لزوماً من ذي قبل ، فزرت ليبيا لأول مرة في 20 اكتوبر 1970 ..
في أول لقاء مع اعضاء مجلس قيادة الثورة طرح عليّ سؤال لم أكن اتوقعه : كيف يمكن إنشاء التنظيم القومي الذي ما فتئت تدعو اليه مع التسليم بانه أصبح لازماً حيوياً بعد وفاة عبد الناصر ، فأجبت . والناصريون يسألون وأجيب ويسألون واجيب إلى أن انتهى الحوار إلى اقتراح من جانبي بنقطة البداية : اعداد ” مشروع ” وثيقة فكرية تطرح على كل القوميين من الدارسين والمثقفين في الوطن العربي . ليبدوا آراءهم فيها مكتوبة خلال مدة معينة ، يقوم جهاز خاص بتلقي الردود وإعادة صياغة المشروع الأول على ضوء ملحوظات القوميين . ثم توجه اليهم دعوة لعقد مؤتمر تأسيسي تتم خلاله دراسة وبلورة وصياغة الوثيقة الفكرية لتعبر عن المباديء التي يلتقي عليها القوميين ويتميزون بها عن غيرهم من القوى ، ثم يضع المؤتمر لوائحه الداخلية التي تكفل أن يكون التنظيم فوق قيادته في كل الظروف ، وينتخب القيادة . ثم تبدأ المسيرة .. الخ . وأضفت أنه من اجل اجتناب سلبيات الخلط ” العربي ” بين الذات والموضوع أقترح ألا تحمل ” الوثيقة – المشروع ” اسم أو أسماء واضعيها بالرغم مما في ذلك من حرمان من شرف إعلان مساهمتهم فيها . سئلت ، وكان السائل ، إذا لم تخني الذاكرة ، عبد السلام جلود : ومن يضع مشروع الوثيقة هذه ؟ .. قلت : لا ادري ومع ذلك فما دمت انا الذي اقترحت أن يحرم واضعوها من شرف إعلان مساهمتهم فيها فإني مستعد ان اضعها . وان أساهم في وضعها .. وافترقنا على عهد بأن أبدأ هذا المشروع . ثم .. جرت أحداث لا محل لها هنا . في يناير 1971 قابلت السيد شعراوي جمعة ، وزير الداخلية حينئذ ، بناء على طلبه . وبعد حديث طويل عن أفكار ومواقف وأشخاص يدور حول ” الحركة العربية الواحدة ” ( الاسم الذي أطلقه الرئيس عبد الناصر على التنظيم القومي ) . واسباب فشل مشروع إنشائها عن طريق جهاز المخابرات . ورفضي منذ البداية المساهمة في مشروع فاشل بحكم بدايته .. الخ . سأل السيد شعراوي : إذن كيف يمكن تأسيس الحركة العربية الواحدة مع تلافي أسباب الفشل التي ذكرتها ؟ فأعدت عليه حرفياً الجواب التفصيلي الطويل الذي سمعه الناصريون في ليبيا والذي كانت بدايته ” مشروع وثيقة فكرية ” . وافترقنا متفقين على ان أضع مشروع الوثيقة من اربع نسخ أرسل واحدة منها الى طرابلس واحتفظ لنفسي بواحدة ، واقدم إليه اثنين ، واحدة له ، وواحدة لقيادة تنظيم ” طليعة الاشتراكيين ” ، ولماذا طليعة الاشتراكيين ؟ .. قال لأنه قد انتهى الأمر في قيادته إلى البدء في بناء الحركة العربية الواحدة حتى تملأ الجماهير العربية المنظمة الفراغ الذي تركه الغياب المفاجيء لقائدها .
كانت أغلب ” المادة ” اللازمة لصياغة تلك الوثيقة متوافرة لديّ في شكل دراسات متفرقة ، ولم يكن ينقصها إلا أن تصاغ . وكان هذا جوهرياً – بعد ان تستوفى شكلاً ومضموناً ماتصح به نسبتها إلى الناصريين كمشروع يناقشه ناصريون كبداية لتأسيس ” حركة قومية ” ..
واعتزلت الناس وعملي سبعة أشهر بكل أيامها ولياليها وساعاتها ودقائقها إلى أن أكملت ” صياغة ” ما نشر بعد ذلك ( 1972 ) تحت عنوان ” نظرية الثورة العربية ” . كان ذلك في يوليو 1971 . ولكن في يوليو 1971 كان قد مضى شهران على انقلاب 15 مايو 1971 الذي أطاح فيه السادات بكل رموز الناصريين في مصر . وكان شعراوي جمعة ، الطرف الثالث في التوافق الذي تم ، مسجوناً فلم أقدم اليه نسخة ( الواقع انني أرسلتها اليه خفية مع أحد حراس السجن الذي زعم انه سلمها اليه يداً بيد . وقد نفى السيد شعراوي جمعة – فيما بعد رواية الحادث . وهو اصدق قطعاً ) . لم يكن انقلاب السادات مفاجأة لي. ولكن المفاجأة الحقيقية كانت تصديق قيادة الثورة في ليبيا لمزاعم السادات الوحدوية وانحيازهم اليه في صراع مايو 1971 . لم أر من مبررات ذلك الانحياز إلا أنه تفضيل ” دولة ” التعامل مع الرئيس الشرعي ” لدولة ” . ولما كان هذا التفضيل يتناقض جملة وتفصيلاً ، مضموناً وصياغة . مع كل معنى وكلمة جاء في ” نظرية الثورة العربية ” فإنني لم اجد مبرراً لإرسال النسخة الموعودة الى طرابلس .
وحملت كتابي كما هو إلى الرقابة في القاهرة أطلب التصريح بنشره . رفض طلبي بعد محاورات ومناورات لم أعرف دلالتها إلا فيما بعد . فأرسلته الى بيروت موصياً بتسليمه الى دار الطليعة ، فذهب الصديق يحمله في يوم كان رب الدار فيه غائباً . فلم ينتظر الى الغد ، وعهد بنشره الى الدار التي تصادف ان كانت في ذات الطابق من البناية ذاتها ..
على أي حال ، قبل ان ينشر الكتاب ، قبض عليّ ( 16 فبراير 1972 ) وحملت عنوة الى سجن القلعة لأسباب مصطنعة كثيرة . ولكن حينما بدأت المحاكمة وأراد الذي ظلم نفسه وظلم غيره أن يخرج من الهاوية التي تردى فيها ، أقر أمام المحكمة بأنه كان مسخراً من أجهزة الأمن لمراقبتي منذ سنين . وانه سخر للإيقاع بي على وعد بألا يقع هو ، و .. و .. أن السبب الحقيقي وراء الاتهام والمحاكمة هي قصة ” إنشاء ونشر كتاب نظرية الثورة العربية ” وعلاقتها بإنشاء التنظيم القومي اتفاقاً مع الناصريين ..
أقول هذا في بداية الحديث ” عن الناصريين .. واليهم ” لأن هذا ذاته سيكون نهايته . أريد ان أقول ، بأكبر قدر من الوضوح ، انني كنت ولم أزل على يقين يتحدى أي شك بأن ” الناصرية ” هي ” نظرية الثورة العربية ” . وان الناصري هو من يقبلها ويلتزمها وينميها بخبرة ما انقضى من سنين الردة ولكن طبقاً لمنهجها . ومن منطلقاتها ، إلى غاياتها ، باسلوبها . وان من يناقضها منهجاً أو منطلقاً أو غاية أو اسلوباً لا يستحق عندي على أي وجه أن ينسب الى الناصرية ولن تثبت نسبته اليها ولو كانت بيده شهادة موقعة من عبد الناصر شخصياً . كل ما في الأمر أنه لا يملك احد حق انكار الهوية الناصرية على من ينسب نفسه اليها . ولا يملك أحد حق منحها لمن لا ينتسب اليها . ولا أحد يملك الختم الرسمي للناصرية ليبصم به على رؤوس الآخرين من خارج الجماجم أو في داخلها . ولكن ليس معنى هذا أن الناصرية هواية شخصية وليست هوية فكرية . أو أن الأمر منها ما قاله احد كبار هواتها حينما سئل عنها فقال يوجد ناصريون ولكن لا توجد ناصرية . لقد آن الأوان لهذه الفوضى في التفكير أن تنتظم حتى تستطيع القوى الناصرية ان تلتحم . ولما كان التحام الناصريين ضرورة قومية فإنا نقدم هذا الحديث عنهم وإليهم وفاء منا بمسئوليتنا القومية عله يسهم ولو بقدر في ان يفرز الناصريين عن أدعيائهم. كشرط اولي لالتحام الناصريين في تنظيم .
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire