وكشفنا رءوسنا .. ودعونا عليهم!!
آحمد صبحي منصور
في
الأحد 19 ابريل 2015
أولا :
· لا ينبغي أن يعاني المصريون من الاثنين
معا ، تفاهة المسلسلات وضريبة المبيعات !! وبعض المسلسلات تحمل أفكارا
جيدة ولكن يأتي التنفيذ أحيانا بأخطاء تاريخية أو فنية تطيح بجهد المؤلف .
والمسلسلات التاريخية في أغلبها تبعث على التخلف العقلي وتصيب الباحثين في
مجال التاريخ برغبة عميقة في الانتحار أو الهجرة .. إلى موزنبيق !!
وحتى الجيد من هذه المسلسلات التاريخية لا يخلو من بعض العفن
الفكري ، وقد شاهدت حلقة من مسلسل " مملوك في الحارة " وهو يجمع بين السيرة
الشعبية وبعض الهوامش التاريخية ، ولكنه في النهاية يعبر عن العصر
المملوكي حضارته وحياته الاجتماعية ..
ولم أتحمل رؤية المسلسل أكثر من دقيقتين وركبتني بعدها
الكوابيس ، فقد أفزعني أن أرى هذا الإصرار على أن تؤدي بعض الشخصيات دورها
وهي عارية الرأس .. ولم أعرف حتى الآن سر هذا الإصرار على تعرية رءوس
الممثلين الذين يقومون بأدوار تاريخية تنتمي للعصر المملوكي أو غيره .
كان " أحمد بدير " يهز شاربه المستعار وصلعته تلمع تحت
الأضواء تثير حنقي وغضبي – لا لأنه أحمد بدير الممثل الذي يضحكني – ولكن
لأنه يؤدي دور شخصية في العصر المملوكي الذي لم يكن فيه أحد من الناس يكشف
رأسه إلا عندما تقع عليه مصيبة تخرجه عن عقله واحترامه لنفسه ورغبته في
الحياة !! ولنقرأ معا بعض أحداث تاريخنا لنتعلم منه متى كشفنا رأسنا ...
· حين مات ابن السلطان المملوكي المنصور
قلاوون ليلة الجمعة 4 شعبان 679هـ حزن عليه السلطان حزنا شديدا ، وكان من
مظاهر ذلك الحزن الهائل أن كشف السلطان رأسه !! رمي كلوتته -أي عمامته
المملوكية – من على رأسه وأظهر للناس رأسه مكشوفة تعبر عن حزنه الفظيع لموت
ابنه ( على بن قلاوون) ..
واسمحوا لي أن نقرأ معا ما قاله المقريزي – " أظهر السلطان
لموته جزعا مفرطا وصرخ بأعلى صوته : واولداه ورمى كلوتته من رأسه للأرض ،
وبقي مكشوف الرأس إلا أن دخل الأمراء إليه وهو مكشوف الرأس يصرخ : واولداه
!! فعند ما عاينوه كذلك ألقوا كلوتاتهم عن رءوسهم وبكوا ساعة ، ثم أخذ
الأمير طرنطاي النائب شاش السلطان من الأرض وناول الشاش للسلطان فدفعه وقال
: ايش أعمل بالملك بعد ولدي ، وامتنع عن لبسه ، فقبل الأمراء الأرض
يسألون السلطان في لبس شاشه ويخضعون له في السؤال ساعة حتى أجابهم وغطى
رأسه ..!!
· ونتخيل أن بعضهم كاد يضيع في شربة ماء
ثم جاءه الفرج من حيث لا يتوقع ، عندئذ يعبر عن فرحه الشديد الجنوني بأن
يخلع عمامته ويكشف رأسه ويدعو لمن جاءه بالفرج.. حدث هذا يوم الثلاثاء 18
رجب 876هـ حين أصابت السلطان قايتباي نوبة عدل فأخذ يعاقب أتباعه من الظلمة
ويضربهم بين يديه في مجلسه السلطاني وظهرت براءة أحدهم فنجا ، ولما لم يكن
مسموحا له أن يرقص أو يغني ليعبر عن فرحه- لذا فعل ماهو أخطر ، كشف رأسه
ودعا للسلطان !!
· ولنتخيل أن بعضهم انكشف رأسه أمام السلطان– بدون قصد طبعا– ماذا كان سيحدث ؟
كان التاريخ يروي ذلك على أنها كارثة تماثل قيام الحرب
العالمية الرابعة .. ولسنا نبالغ ، فقد وقعت هذه(الحادثة الهائلة) يوم
السبت 25 شعبان 830هجرية وذكرها المقريزي بما يوضح فظاعتها ، يقول " ( وفيه
– أي في هذا اليوم – اتفق حادث فظيع وهو أن بعض المماليك السلطانية
الجراكسة انكشف رأسه بين السلطان ..) يا خبر وقع الهرم .!! أو انكشف رأس
الرجاء الصالح..!!.ما علينا ، نعود لشيخنا المقريزي وهو يقول : ( وفيه اتفق
حادث فظيع وهو أن بعض المماليك السلطانية الجراكسة انكشف رأسه بين يدي
السلطان فإذا هو أقرع ..)" وهنا تأتي المفاجأة الدرامية .. كيف سيتخلص
المملوك الأقرع من هذا المأزق؟
أخبرنا يا شيخنا المقريزي .." (.. انكشف رأسه بين يدي السلطان
فإذا هو أقرع فسخر منه من هنالك من الجراكسة ، فسأل السلطان أن يجعله كبير
القرعان ويوليه عليهم فأجابه إلى ذلك .. ).!!. وصار ذلك الأمير كبير
القرعان في القاهرة . وفرض على كل أقرع أو أصلع ضريبة . وصار يكشف رءوس
الناس فضجوا وثاروا ، يقول شيخنا المقريزي وقد كان يعيش ذلك العهد: ( فكان
هذا من شنائع القبائح وقبائح الشنائع . فلما فحُش أمره نودي في القاهرة
:معاشر القرعان لكم الأمان " )!! أي كان كشف الرأس من شنائع القبائح
وقبائح الشنائع !!
وكان التشهير أو التجريس من العقوبات المعروفة في العصر المملوكي
، ضمن عقوبات أخري مثل الضرب والتسمير والصلب .وكانوا يترفقون بالذي
يجرسونه فلا يكشفون رأسه . حتى لا تزداد عقوبته إذلالا . وظل ذلك حتي جاء
المحتسب يشبك الجمالي وصار يعاقب الناس بالضرب والتشهير مع كشف الرأس ،
والمؤرخ ابن الصيرفي الذي عاش هذا العهد يقول عن ذلك المحتسب وأفعاله : (
بل تحضر أعوانه له بمن لا يعطونهم المعلوم المعهود عندهم ( أى الرشوة )
فيضربه ثلاث علقات ... ويشهرونه بلا طرطور بل يكشفون رأسه . وهو الذي أحدث
كشف الرأس . مع أن جماعة كثيرين ممن فعل بهم ذلك عميوا وطرشوا ، فإن الواحد
يكون ضعيف البصر أو به نزلة ، فيكشفون رأسه ، ويدورون به القاهرة ، فلا
يرجع إلا بضر أو أمثال ذلك . )". جعل المحتسب يشبك كشف الرأس عقوبة يذل بها
خصومه وذلك 873هـ وكان الناس يعتقدون أن الذي تنكشف رأسه ويطاف به في
القاهرة يصاب بالعمى والطرش .. وهذا ما ردده المؤرخ القاضي ابن الصيرفي ..
ماذا لو خرج ابن الصيرفي من قبره ورأي رءوسنا الصلعاء وهي
تعكس أشعة الشمس لتنير الطريق وتهدي الحيارى ؟.. ربما اعتقد أن المحتسب
يشبك قد صار سلطانا على مصر المحروسة ...!!
· أيها السادة . إن أجدادنا ظلوا متمسكين
بتغطية الرأس بالطربوش أو بالعمامة أو حتى بالطاقية الشبيكة !! وظللنا
بعدهم لا نكشف رءوسنا حتى قامت الثورة المباركة وقيل لنا : اكشف رأسك يا
أخي فقد مضي عهد الاستعباط !!
· وكشفنا رءوسنا .. ودعونا عليهم ولا نزال !!
· منك لله يا برعي ..!
أخيرا :
وكشفنا رءوسنا .. ودعونا عليهم!! ولا نزال ..
نشرت هذا المقال الساخر فى جريدة الأحرار يوم 22/7/ 1991 ، فى
سلسلة ( قال الراوي ). ونعيد نشره اليوم لأن الأحوال إنتقلت من الحضيض الى
أسفل سافلين ، والعادة أن ينعكس هذا الأسفل سافلين على كل شىء ، ومنه
الكتابة الدرامية التاريخية. لا نستبعد أن يكتب أحدهم دراما تاريخية يظهر
فيها عمرو بن العاص يدخن سيجارا ، أو نرى عبدالله بن الزبير يتكلم فى
الموبايل ، أو نشاهد الافّاق الصعلوك أبا هريرة يضارب فى البورصة ، وقد
يفسر أحدهم مقتل عمر بن الخطاب فى حادث سيارة ..
لا تتعجب ، فإن عصر أسفل سافلين لا يخلو من العجائب . يكفى أننا
نسعد بنجوم هذا العصر ؛ المفكر الاسلامى أبى اسحق الحوينى والمفتى الصامت
الذى لا يعرف أحد إسمه ، والمفتى السابق الذى لا يعرف أحد ملته ، والقاضى
المهذب الوقور مرتضى منصور و الفيلسوف الحكيم توفيق عكاشة ..وأم المؤمنين
فيفى عبده ..!!
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire