الحمد لله على سوابغ النعم، وتوام العطايا والقسم، وصلى
الله على سيدنا محمد سيد الأمم، وأشرف مبعوث إلى العرب والعجم، وعلى عترته مصابيح
الظلم، وينابيع العلم والحكم، وسلم ورحم وشرف وكرم وعظم.
أما بعد؛
فإني كنت صنفت كتاب الدامغ للباطل، ونقضت به ما أورده بعض
مشائخ الحنبلية في نصرة([1]) مذهبه واعترض على أهل العدل
به، وكان مشتملاً على بيان صحة مذاهب العدل وتنزيه الله سبحانه عن الجور والظلم،
وإيضاح خطأ من أضاف أفعال العباد إليه، وكشف الغطاء عما التبس على ذلك المتكلم حتى
ذهب عن الحق الذي لعله قصد إليه، ووقع في الباطل الذي لعله هرب منه.
وكان الكتاب قد احتوى على بسط الكلام وإشباع فصوله حسبما
دعت الحاجة إليه، وجرت القضية فيه على الرسم المعتاد بين أهل العلم من المضايقة
والمؤاخذة واطراح المسامحة؛ لأن المقام هنالك مقام الاجتهاد الأعظم، فاتسع مجاله
لأجل ذلك حتى ربما بَعُدَ تناول الفائدة على مرتادها إلا بعد عناية وتأمل.
فسألني بعض الإخوان المتمسكين بعروة الإيمان، الراغبين في
الهدى والبيان، أن أشرح خلاصة تلك الفوائد وأحذف ما عداها من الزوائد؛ فأجبته إلى
ما سأل وحققت أمله الذي أمِل، وجعلت هذا الكتاب محتوياً على أبواب ستة:
الأول منها: في ذكر القدرية وما
جاء فيهم.
الثاني منها: في القول في خلق
الأفعال.
الثالث: القول في الإرادة.
الرابع: القول في القضاء
والقدر.
الخامس: القول في الضلال
والهدى.
السادس: القول في التكليف
وشرائطه وتوابعه.
وبذلك يتم مقصود الكتاب.
وقصدت بما أوردته تمكين الناظر في الأدلة من التفكر فيها
ليصل بذلك إلى العلم اليقين، ويخرج عن دائرة المقلدين، فإن التقليد مهلكة لمن وثق
به، ومهواة ضلال لمن وقع فيه.
والتقليد: هو الاعتقاد المستند
إلى قول الغير من غير اعتماد على حجة ولا بصيرة، فكأن المقلد يجعل اعتقاده قلادة
في عنق من تبعه وقلده، ولا شك أن التقليد في مسائل الأصول التي يتمكن المكلف من
المصير فيها إلى العلم قبيح، لا يجوز الاقتصار عليه؛ لأن المقلد لا يأمن خطأ من
قلده، والإقدام على ما لا يأمن كونه خطأً يقبح كما يقبح الإقدام على ما يعلم أنه
خطأ، ولو جاز لأحد أن يقلد في ذلك من وثق به من مشائخ مذهبه وأعيان بلده، لجاز
مثله في كل فرقة حتى يؤدي ذلك إلى جواز تقليد الملحد كما يجوز تقليد الموحد؛ لأن
المقلد لا يفصل بينهما، وكلٌّ واثق بمن يحبه ويألفه من شيخ أو والد أو صديق، وفي
ذلك وقوع المساواة بين المحق والمبطل، وهذا باطل.
وقد تطابق الكتاب والسنة على ما قضى به العقل من قبح
التقليد وذم أهله، فقال الله سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى
مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيهِ
آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ}[المائدة:104]، ونحو ذلك
من آيات القرآن الكريم.
وقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((من
أخذ دينَهُ عن التفكِّرِ في آلاءِ اللهِ، وعن التدبُّرِ لكتابِهِ، والتفهمِ
لسنَّتي، زالت الرواسي ولم يَزُلْ، ومن أخذ دينَهُ عن أفواهِ الرجالِ، وقلَّدهم
فيهِ ذهبَ بهِ الرِّجالُ من يمينٍ إلى شمالٍ، وكانَ من دينِ اللهِ على أعظمِ
زوالٍ))، وكفى بذلك زاجراً للمقلدين، وبعثاً على النظر في أصول الدين.
وأوردت أيضاً ما يعتمد عليه المخالف من الشبهات والآيات
المتشابهات، وأوضحت الجواب عنها على وجه يسهل فهمه ويقرب تناوله، وكان فيما أورده
المخالف أشياء لا يصح التعلق بها لبعدها عن مطلوبه، فأعرضت عن إيرادها لقلة
الفائدة في ذكرها.
ومن الله سبحانه ألتمس المعونة على الرشاد، والتوفيق في
الإصدار والإيراد بمنّه ولطفه.
اعلم أن الأمة أجمعت على ذم القدرية والتبري
منهم، عملاً بما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم أنه قال: ((القدريَّةُ
مجوسُ هذه الأمَّةِ، إن مرضوا فلا تَعودوهم، وإن ماتوا فلا تَشهدوهم)).
وروي عنه صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم أنه قال: ((لا
تُجالسوا أهلَ القَدَرِ ولا تُفاتحوهم)).
ثم اختلفوا بعد ذلك في القدرية مَنْ هم؟
فالذي عليه الأئمة من أهل البيت عَلَيْهم السَّلام، وجماعة
أهل العدل من علماء الإسلام: أن القدرية هم الذين يضيفون إلى الله سبحانه كل ما
يجري في العالم من الخبائث والمخازي، على معنى أنه قضى بها وقدرها على خلقه، أو
خلقها وأوجدها فيهم، أو أرادها وشاءها منهم.
وقالت المجبرة المضيفون ذلك إلى الله سبحانه: بل القدرية هم
الذين نفوا ذلك عنه تعالى.
والذي يدل على صحة ما ذهب إليه العترة الطاهرة ومن طابقهم، وجوه:
أحدها: الأخبار الواردة في
ذلك فمنها ما روي عن حذيفة وأنس عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم أنه
قال: ((صِنفانِ مِنْ أمتي لا تَنالهُما شَفاعتي، لَعنهما الله على لسانِ سبعين
نبياً: القدريَّةُ والمرجئَةُ))، قيل: يا رسول الله، من القدرية؟ قال: ((الذين
يعملون المعاصيَ ويقولون هيَ من قِبَل الله))، قيل: فمن المرجئة؟ قال: ((الذينَ
يقولون الإيمانُ قولٌ بلا عملٍ))، وهذا نص صريح في موضع الخلاف.
وروي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عَلَيْه السَّلام
أنه قال للشيخ الشامي الذي سأله عن مسيره إلى الشام أهو بقضاء من الله وقدر؟:
(لعلك ظننت قضاءً لازماً، وقدراً حتماً، لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب،
وسقط الوعد والوعيد، والأمر والنهي، ولما كانت تأتي من الله محمدة لمحسن، ولا مذمة
لمسيء، ولما كان المحسن بثواب الإحسان أولى من المسيء، ولا المسيء بعقوبة الذنب
أولى من المحسن، تلك مقالة عبدة الأوثان، وجنود الشيطان، وخصماء الرحمن، وشهود
الزور، وأهل العمى عن الصواب في الأمور، هم قدرية هذه الأمة ومجوسها).
فصرح عَلَيْه السَّلام بأن الذين ينسبون أفعال العباد إلى
قضاء الله تعالى وقدره الذي لا محيص لأحد عنه، هم قدرية هذه الأمة ومجوسها، وهذا
الخبر يأتي متمماً فيما بعد إن شاء الله.
وروي عن عبدالله بن عمر أنه قال: القدرية مجوس الأمة إن
مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تصلوا عليهم، وإن لقيتموهم فلا تسلموا عليهم،
قيل: من هم يا أبا عبدالرحمن؟ قال: الذين يعملون بالمعاصي ثم يزعمون أنها من الله
كتبها عليهم؛ وهذا تصريح كما ترى عنه بأسمائهم وأوصافهم.
وفي الخبر الطويل الذي نورده فيما بعد عن الحسن البصري أنه
قال في صفة الذين يضيفون المعاصي إلى الله تعالى: والله ما هم إلا الذين قال رسول
الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((مجوسُ أمتي القدريَّةُ، إن مَرضوا
فلا تَعودوهم، وإن ماتوا فلا تَشهدوا جَنائِزهم، فإنهم شرُّ البريَّةِ، حقٌّ على
اللهِ تَعالى أن يَحشرهم مع الدجَّالِ...))، إلى غير ذلك مما يكثر.
وثاني هذه الوجوه: أن النبي
صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم قال([2]): ((القدرية مجوس هذه
الأمة)) بما تقدم ذكره وبما روي: أنه جاءه رجل من أرض فارس، فقال له النبي
صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((أخبرنا بأعجب شيء رأيته؟)) فقال: رأيت
قوماً ينكحون أمهاتهم وبناتهم -أو قال وأخواتهم- ويقولون: هذا قضاء الله فينا أو
علينا، فقال عَلَيْه السَّلام: ((أما إنَّه سيكون في آخر هذه الأمَّةِ قومٌ
يقولون مثل مقالتهم، أولئك مجوسُ أمتي)).
وهذا تصريح منه عَلَيْه السَّلام بأن المضيفين هذه الخبائث
إلى الله سبحانه هم مجوس الأمة؛ لأنهم يقولون في كل من نكح أمه أو بنته أو أخته:
إن الذي فعله من ذلك كان بقضاء من الله وقدر.
ونحن لا نجوِّز إطلاق ذلك بل نقول: قضى الله تعالى أن لا
تُنكح الأم والأخت ولا واحدة من المحارم.
هذا وجه مما صار مذهب المضيفين إلى الله سبحانه هذه الخبائث
مشابهاً منه مذهب المجوس، وإن كان أيضاً قد أشبهه من وجوه أخر.
منها: أنهم يقولون: إن من
يقدر على الخير كالمؤمن فإنه لا يقدر على الشر، ومن يقدر على الشر كالكافر فإنه لا
يقدر على الخير، وهذا مذهب المجوس.
ومذهبنا بخلافه، فإن عندنا أن الكافر قادر على الخير الذي
هو الإيمان، ولو لم يكن قادراً عليه لم يكلفه الله تعالى إياه؛ لأنه لا يكلف أحداً
ما لا يطيقه، وكذلك فلو لم يكن المؤمن قادراً على الكفر لما جاز نهيه عن فعله؛ لأن
نهي الواحد عما لا يستطيعه قبيح، ولذلك يقبح نهي الأعمى عن نظر العورات.
ومنها: أنهم يجوزون أن يثاب
الواحد ويعاقب، ويمدح ويذم بما لم يفعل؛ لأنهم يقولون: إن الطاعات والمعاصي ليست من
العباد وإنما هي خلق الله تعالى فيهم، وهذا نفس مذهب المجوس، فإنه يروى عنهم أنهم
يأخذون عنزاً ويدفعونها من شاهق حتى تسقط، ويضربون رأسها بالخشب، حتى إذا ماتت
أكلوا لحمها، وقالوا: قد عصت الله، وسموا لحمها (يزدان فست)، و(يزدان) عندهم اسم
الله تعالى، و(فست) اسم اللحم، فكأنهم يقولون: هو اللحم الذي هو لله أو من الله،
ويزعمون أن ذلك نزل بها عقوبة لها، مع علمهم أنها لم تفعل شيئاً تستوجب به ذلك.
وهذا ما يؤثر عن المجوس فقد وافقهم من أضاف المعاصي إلى
الله تعالى في القول بعقاب من لا ذنب له.
ونحن نقول بخلاف ذلك؛ لأن عندنا أن الله تعالى لا يعذب
أحداً إلا بذنبه كما قال تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ}[العنكبوت:40]، وقال: {فَالْيَوْمَ
لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}[يس:54].
ومنها: أن المضيفين لهذه
المعاصي إلى الله تعالى يقولون: إن المعصية من اثنين، أحدهما محمود عليها ومرضي
بما خلقه منها وهو الله تعالى، والآخر مذموم ومسخوط عليه بها وهو العبد، وهذا مذهب
المجوس، فإنهم يقولون: العالم من صانعين أحدهما محمود والآخر مذموم.
ونحن نقول بخلاف ذلك، فإن عندنا أن المعصية من العاصي وحده،
وأنه يُذم عليها، ويُعاقب على فعلها، وليس لله تعالى فيها شركة، إذ لو كان شريكاً
فيها بأن خلقها في العاصي لما نهاه عن فعلها ولا ذمه عليها، كما لم يصح شيء من ذلك
في الصور والألوان.
فهذه وجوه قد اقتصرنا عليها من جملة الأمور التي أشبهت
مذاهبُ المضيفين إلى الله تعالى هذه الخبائث مذاهبَ المجوس، فكانوا باسم القدرية
أحق وأولى.
والثالث: أنهم يثبتون القدر في
كل معصية، ويقولون: إن جميع المعاصي الواقعة من أهل الفساد بقضاء الله وقدره.
ونحن ننفي ذلك ونقول: معاذ الله أن يقضي الله تعالى إلا
بالحق كما أخبر بذلك في كتابه الكريم بقوله: {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ}[غافر:20]، ولا شك
أن في المعاصي باطل فلا تجوز نسبتها إلى قضائه تعالى.
فإذا ثبت أنهم يثبتون من ذلك ما ننفيه كانوا أولى بهذا
الاسم؛ لأن المثبت للشيء هو أولى بأن يشتق له اسم منه دون من نفاه، ألا ترى أن
الثنوي اسم لمن أثبت الثاني مع الله تعالى لا لمن نفاه، والمرجي اسم لمن أثبت
الإرجاء لا لمن نفاه، والمشبِّه اسم لمن أثبت التشبيه لا لمن نفاه، فصح أن الذين
يضيفون هذه المعاصي إلى القضاء والقدر هم القدرية، دون من ينفي ذلك.
والرابع: أنهم لهجوا بهذا القول
فنُسبوا إليه، أما لهجهم به فمعلوم أن من ارتكب معصية منهم لم يسل نفسه إلا بأن
يقول: هذا بقضاء من الله تعالى وقدر، ولا شك أن من لهج بشيء نسب إليه كما يقال:
فلان تمري، لبني، للذي يلهج بذلك ويكثر ذكره.
ونحن لا نلهج به ولا نكثر ذكره؛ بل نقول: هذه المعاصي
والمخازي من فسقة الخلق، والله بريء منها، ولا عذر لهم في الإقدام عليها، فكانوا
باسم القدرية أولى من غيرهم.
وما روي في الخبر من نهي النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله
وسَلَّم عن مجالستهم فلذلك وجوه ظاهرة:
أحدها: أنهم ممن يتخذ آيات
الله هزواً ولعباً؛ لأنهم لقولهم أن أفعال العباد كلها من الله سبحانه خلقها فيهم
وأوجدها، لا اختيار لهم في إيجادها، ولا قدرة لهم على تحصيلها قد صيرت الكتب
المنزلة هزواً؛ لأن هذه الأفعال متى كانت من الله سبحانه لم يكن للأمر بها ولا
للنهي عنها معنى، ولا للوعد والوعيد وجه؛ لأن من أمر غيره بما يفعله هو ويوجده دون
المأمور، أو نهاه عنه مع علمه بأن المأمور والمنهي لا صنع له في إيجاده ولا اختيار
في تحصيله، فقد أتى بنهاية الهزوء والهذر الذي لا فائدة فيه، ولا معنى تحته،
فاعتقاد المضيفين لهذه الأفعال إلى الله سبحانه في آيات الله أنها بهذه المثابة،
فنهي النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم عن مجالستهم نهي واقع في موقعه؛
لأنهم يكثرون الخوض في ذلك، وقد نهى الله سبحانه عن مجالسة من هذه حاله بقوله: {وَقَدْ
نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ ءَايَاتِ اللَّهِ
يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا
فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ
إِذًا مِثْلُهُمْ}[النساء:140].
وثانيها: أنهم بإضافة هذه
الأفعال إلى الله سبحانه جعلوا بعثة الأنبياء عَلَيْهم السَّلام نهاية العبث وغاية
السفه؛ لأن الله سبحانه إذا كان عندهم هو المتولي لخلق هذه الأفعال من الكفر
والإيمان والطاعة والعصيان فلا معنى إذاً لإرسال الرسل ولا لأمرهم بدعاء الخلق إلى
الطاعة، كما لا يجوز أن يدعوهم إلى الخروج من صورهم وألوانهم وهذا ظاهر، فإذا كان
اعتقادهم لذلك يؤدي إلى أن تكون البعثة للرسل عبثاً كانت مجالستهم التي يذكر عندها
ذلك محظورة محرمة.
ومتى قالوا: إن في بعثة الأنبياء
فائدة وهي إقامة الحجة على المكلفين.
قيل لهم: إن معنى إقامة الحجة
هو أن تعرِّفهم الأنبياءُ عَلَيْهم السَّلام الفرق بين الحلال والحرام، والتمييز
بين الطاعة والمعصية، ويحثوهم على فعل الخير ويرغبوهم فيه ويوعدوهم بالثواب
العظيم، ويصرفوهم عن فعل الشر ويتوعدوهم عليه بالعقاب العظيم؛ فإذا كانت أفعالهم
كلها خلقاً من الله تعالى لم يصح شيءٌ من ذلك؛ فلزم على قولهم أن يكون بعثُ
الأنبياء عبثاً من كل وجه، وهذا ما لا يخفى على منصف.
وثالثها: أنهم متى قالوا بأن
هذه الخبائث والمعاصي هي خلق الله تعالى في العصاة كان ذلك أعظم وجوه الإغراء بها
لكل من جالسهم وسمع كلامهم من الجهال الذين تتوق أنفسهم إلى هذه المعاصي الشهية؛
لأنهم إذا طلعوا([3]) من قولهم على أنهم متى
أطاعوا أنفسهم في طلب شهواتهم ونيل لذاتهم فذلك شيء ليس هو منهم، وإنما هو من الله
خلقه فيهم وأراده منهم، لم يلبث الجهال أن يسترسلوا في كل ما تشتهيه أنفسهم من
المخازي وجعلوا هذا المذهب وجه عذرهم.
ولا شك أن كل مذهب أو قول أغرى العباد بمعاصي الله، ورخَّص
لهم فإن اعتقاده حرام، والإصغاء إلى استماعه ربما يدعو إلى اعتقاده، فوقع النهي عن
مجالسة أهله.
ورابعها: أنهم متى قالوا: إن
هذه الطاعات ليست من فعل العباد وإنما هي من فعل الله تعالى خلقها فيهم، وسمع ذلك
من جالسهم من العامة، مع ما يعلمه من مشقة هذه الطاعة، وأنها كريهة على النفس،
ثقيلة على الطبع، فإنه لا يعزم على تحمل مشقتها، ولا يوطن نفسه على الصبر على
كلفها، بل يقول: إذا كانت هذه الأفعال من الله تعالى فمتى خلقها فيَّ وجدتْ شئتُ
أو أبيت([4])، ومتى لم يخلقها فيَّ لم
توجد؛ فلا معنى لعزمي عليها، ولا لمجاهدتي نفسي فيها، فتكون مجالستهم أعظم الصوارف
عن طاعة الله، كما أنها أعظم الدواعي إلى معصيته، فصارت لذلك مجالستهم أضر على
الإنسان من تناول السموم المهلكة.
وخامسها: أن من جالسهم من
العصاة الذين قد مردوا على المعاصي وسمع عن من يدعي العلم منهم، وينسب إلى الفقه
ويتزيا بالصلاح وتلتبس أحواله على عوام الخلق: أن هذه المعاصي من الله تعالى، وأن
العصاة لم يبتدعوها من ذات أنفسهم، بل خلقها الله تعالى فيهم وثبت ذلك في نفسه لم
تصح له توبة منها أصلاً؛ لأن أحد شرائط التوبة وأركانها الاعتراف بالذنب، كما قال
تعالى: {وَءَاخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ}[التوبة:102]، ولا
إشكال في أن الاعتراف أن يقول الجاني: جنيت وأسأت وأذنبت وأخطأت، فاعذرني واغفر
لي، وذلك لا يصح ممن يزعم أن جميع المعاصي خلق الله تعالى فيه وفي كل عاصي من
الخلق، فتكون مجالستهم سادَّةٌ لباب التوبة على عباد الله.
وسادسها: أن مجالستهم مجلبة
لسوء الظن بالله تعالى، ولا شك أن سوء الظن به مهواة من مهاوي الهلاك كما قال
تعالى: {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ
السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ
وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6].
وبيان ذلك: أنهم يقولون: إن الله تعالى خلق أكثر الخلق
وأوقعهم في الكفر من غير سبب سابق منهم، ولا جرم متقدم لهم، وأمر بقتلهم في الدنيا
عقاباً لهم على شيء خلقه فيهم، وأعد لهم في الآخرة عذاب النار، فصار بمثابة من
يشتري عبداً صغيراً ضعيفاً ثم يأمر بتقييده ابتداءً لغير جناية منه سابقة، ولا
خطيئة متقدمة، ثم أخذ يذمه على كونه مقيداً، أو أمر بقطع يده لأجل ذلك؛ فلما رأى
يده مقطوعة أغلظ عليه التعنيف واللوم بسبب كونه مقطوع اليد، ثم أمر بضرب عنقه
عقوبة على ذلك، وفي كل هذه الأحوال لم يجن العبد جناية ولم يقترف جرماً.
ولا شك أن واحداً إذا ظن في غيره هذه الظنون فلم يبق من سوء
الظن غاية وراءها، والمضيفون إلى الله سبحانه هذه المعاصي يظنون بالله تعالى هذه
الظنون؛ فمجالستهم تكسب الجليس ذلك فيشقى بهم جليسهم.
فبان بهذا أنهم هم القدرية المنهي عن مجالستهم.
ومما يحقق هذه الجملة أن النهي عن مجالستهم لا بد أن يكون
له معنى وفائدة، وهي أن يمتنع الناس عنها، ولا يختاروا إيجادها، فلو كانت أفعال
العباد خلقاً من الله سبحانه يوجدها([5]) فيهم؛ لكانت مجالستهم خلقاً
لله تعالى أوجدها فيهم، وكذلك الكلام القبيح الذي يسمعونه عند المجالسة، وكذلك
السلام عليهم وعيادة مرضاهم، وشهود جنائزهم؛ فإذا كانت هذه الأشياء كلها خلقاً لله
تعالى فيهم لم يكن للنهي فائدة أصلاً، وهذا بيِّن لمن أنصف.
ولا يصح قول من يقول: إن القدرية هم الذين يقولون: إن
العباد يتفردون بأفعالهم، ويقدرون عليها؛ فلما أثبتوا لنفوسهم القُدرة سُمُّوا
قدريَّة.
لأنا نقول لهم: إن النسبة إلى القُدْرَةِ قُدْرِيٌّ بضم
القاف وإسكان الدال؛ فأما القَدَري فمنسوب إلى القَدَر؛ فوجب أن يكون اسماً لمن
أثبت القدر ولهج بذكره على ما تقدم بيانه.
ولا يصح أيضاً قول من يقول: إنكم لما نفيتم القدر عن الله
تعالى في المعاصي أثبتموه لأنفسكم فيصح تسميتكم قدرية بذلك.
لأنا نقول: نحن ننفي عن الله تعالى أن تكون المعاصي بقضائه
وقدره على ما تزعمه المجبرة، ولسنا نثبت القضاء والقدر لأنفسنا، لأنا نقول([6]):
إنما فعلنا هذه المعاصي بقضاء منا وقدر حتى يصح ما قال الخصم؛ بل نقول: هذه
المعاصي فعلها العاصي وحده لم يشاركه الله تعالى ولا غيره في إيجادها، ولا نقول:
قضى العاصي على نفسه بالمعصية وقدرها عليه، فلم نكن مثبتين للقدر، وصح أن القدرية
هم الذين أثبتوا القدر لله تعالى في المعاصي على ما تقدم.
اعلم أن مذهب الأئمة من أهل البيت عَلَيْهم
السَّلام وكافة أهل العدل من علماء الإسلام: أن جميع أفعال العباد الحسن منها
والقبيح منهم، أوجدوها وأحدثوها، ولم يشاركهم فيها مشارك، ولم يخلقها الله سبحانه
فيهم، ولا جبرهم عليها، وإن كان تعالى هو الذي أقدرهم على فعلها، ومكَّنهم من
إحداثها، وعرَّفهم خيرها وشرها.
وقالت المجبرة: إن الله تعالى خلق
أفعال العباد وأوجدها فيهم حسنها وقبيحها، وفيهم من يقول: إن الله سبحانه خلقها
والعباد اكتسبوها، ولا يرجعون في الكسب إلى معنى يعقل.
والذي يدل على صحة مذهب أهل البيت عَلَيْهم السَّلام ومن
طابقهم أدلة عقلية وسمعية.
فمن العقلية أن هذه الأفعال لو كانت مخلوقة لله
تعالى فينا لم يجب وقوفها على أحوالنا، فتوجد بحسب قصودنا ودواعينا، وتنتفي بحسب
كراهتنا وصوارفنا، فمتى أردناها وجدت، ومتى كرهناها لم توجد، مع سلامة الأحوال،
كما لا يجب ذلك في ألواننا وصورنا وطولنا وقصرنا.
ألا ترى أن الألوان والصور والطول والقصر لما كانت من خلق
الله تعالى فينا لم توقف على أحوالنا، ولا جرت بحسب قصدنا، فلما خالفتها الأفعال
في هذه القضية عرفنا أنها منا غير مخلوقة منه تعالى.
الثاني: أن هذه الأفعال لو
كانت مخلوقة لله تعالى فينا لم يحسن الأمر بشيء منها ولا النهي، ولا المدح على شيء
منها ولا الذم، ولا الثواب على شيء منها ولا العقاب، كما لا يحسن شيء من ذلك في
الألوان والصور، ولما علمنا الفرق بين هذه الأفعال وبين الصور والألوان في جميع
هذه الأحكام علمنا أن هذه الأفعال ليست مخلوقة من قِبَله تعالى.
والثالث: أن الحكيم لا يجوز أن
يخلق سبَّ نفسه ولا سوء الثناء عليه، ولا تكذيب رسله الصادقين، ولا الاستخفاف
بأنبيائه المكرمين، وهذا عند كل عاقل أظهر من أن يحتاج إلى بيانه؛ فلم يجز لأحد أن
ينسب خلق شيء من ذلك إلى الله تعالى.
والرابع: أنه تعالى لو كان
خالقاً لذم نفسه الذي وجد من الكفار، والقول أنه ثالث ثلاثة، والقول أن عيسى ابنه
كما قالت النصارى، والقول بأن عزير ابنه، وأن يده مغلولة كما قالت اليهود، ثم مع
ذلك هو المادح لنفسه بالمدائح الموجودة في الكتاب والسنة، والمثني عليها بالثناء
الجميل والأسماء الحسنة، والمخبر بأنه واحد لا ثاني معه، وأنه لم يتخذ ولداً، وأن
يديه بالإنعام مبسوطتان.
وكانت هذه الأخبار كلها مع تنافيها وتناقضها أعني أخبار
المدح والذم، والتوحيد والتثليث موجودة منه تعالى لم يكن بعضها بالصحة والصدق أولى
من بعض، فيجب أن تتساوى فتصح كلها حتى يعتقد جميع من أضاف ذلك إلى الله سبحانه
جميع ما تضمنته من أنه تعالى ممدوح ومذموم، وأنه واحد وأنه ثالث ثلاثة، وأن له
ولداً ولا ولد له...، إلى غير ذلك من الجهالات والاعتقادات المتناقضة.
أو تتساوى كلها في البطلان من حيث أنها متساوية في أن كل
واحد منه تعالى أوجده ولا مَزِيَّة للبعض على البعض الآخر؛ فلما كان ذلك باطلاً
علمنا أن هذه الأخبار الكاذبة المتضمنة للاعتقادات الباطلة ليست منه تعالى بوجه من
الوجوه، وإنما هي من الكذبة عليه والكفرة.
وفي ذلك صحة ما قلنا من أن أفعال العباد غير مخلوقة منه
تعالى، وهذا بيِّن لمن تأمله.
الخامس: أنه تعالى لو كان هو
الخالق والفاعل لما يوجد في العالم من الظلم والكذب والجور لوجب أن يسمى ظالماً
وكاذباً وجائراً، كما أنه يسمى بفعل العدل والصدق والإنصاف وخلقه لذلك: عادلاً
وصادقاً ومنصفاً.
وإنما قلنا إن ذلك لازم لهم؛ لأن الظالم في اللغة اسم لمن
فعل الظلم ووجد الظلم من جهته، والكاذب اسم لمن فعل الكذب، والجائر اسم لمن فعل
الجور، والخالق للشيء هو الفاعل له، لا فرق بينهما في عرف أهل اللغة، فلزمهم على
قولهم بأنه تعالى خالق لهذه الأشياء أن يسمى بهذه الأسماء، ولا شك أن من التزم
جواز تسميته تعالى بهذه الأسماء القبيحة فقد كفر وألحد في أسمائه بلا خلاف بين
المسلمين، وكل مذهب يلزم عليه الكفر فلا إشكال في بطلانه.
فهذه أدلة من جهة العقل تقتضي نفي أفعال العباد عن الله
سبحانه، وأنها غير مخلوقة منه تعالى.
وأما الأدلة السمعية التي توضح
أن العباد هم الفاعلون لأفعالهم، والموجدون لها دون الله فهي أكثر من أن تحصى في
مثل هذا الموضع، غير أنا نذكر هاهنا ما فيه كفاية لمن أنصف.
فقد وردت النصوص الصريحة المقتضية أن العباد هم الذين
يفعلون أفعالهم بل صرح أنهم الذين يخلقونها في مواضع:
أحدها: قوله تعالى: {إِنَّمَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17]، فصرح
تعالى بأنهم يخلقون الإفك، ولا شك أن هذا خاص في أفعال العباد.
وقوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزمر:62]، وقوله: {كُلَّ
شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، وما جرى مجراهما
عام، ولا إشكال أن العمل بالخاص واجب فيما يتناوله، والعمل بالعام واجب فيما عدا
ذلك، وهذا ظاهر عند العلماء.
والثاني: قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}[المؤمنون:14]، فإن هذا يقتضي أن
العباد خالقون لأفعالهم، إذ لو لم يكن في الوجود من يخلق شيئاً من الأفعال سواه
لما صح لهذا الكلام معنى أصلاً، ألا ترى أن قائلاً لو قال: إن هارون كان أكرم إخوة
موسى، لكان هذا القول يقتضي أن لموسى أخوة سوى هارون، حتى لو قال هذا القائل: ولم
يكن لموسى أخ سوى هارون لعده العقلاء من أهل اللغة مناقضاً في قوله هذا.
وكذلك لو قال: عيسى عَلَيْه السَّلام أكرم أولاد مريم، وعلم
الناس أنه لم يكن لها ولد سواه، فإن كلامه هذا يكون لغواً فاسداً لا صحة له على
وجه من الوجوه.
فإذا ثبت ذلك وقد علمنا أن كلامه تعالى حق لا يأتيه الباطل
من بين يديه ولا من خلفه فإنه مصون من التناقض والفساد، علمنا أن قوله تعالى: {فَتَبَارَكَ
اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ}، يقتضي أن العباد خالقون لأفعالهم هذه، وإلا
لم يكن للآية معنى معقول.
ويجوز أن يقال: إنهم خالقوا أفعالهم من حيث أنهم أوجدوها
مقدَّرة؛ لأن حقيقة الخلق في عرف المحصلين من أهل العلم هو إيجاد الشيء مقدَّراً،
وقد أوجدوا كثيراً من أفعالهم مقدَّرة، فجاز وصفهم بأنهم خالقون لها بالتقييد، وإن
كانت هذه اللفظة أعني لفظة الخلق لا تطلق إلا لله عز وجل، ولكن متى أضيفت إلى
العباد وجب تقييدها بأفعالهم فيقال: خالقون لأفعالهم.
والثالث: قوله في عيسى عَلَيْه
السَّلام: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}[المائدة:110]، وقوله: {وَرَسُولًا
إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي
أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ}[آل عمران:49]، فسمى
فعله وتصويره خلقاً، فبان بهذا أن القرآن ناطق بنسبة خلق أفعال العباد إليهم، فثبت
أن الآيات التي تقتضي نسبة خلق الأشياء كلها إلى الله عمومات قد خصتها هذه الأدلة
فأخرجت أفعال العباد من جملتها.
فأما نسبة هذه الأعمال إليهم بلفظ الفعل فأكثر من أن تحصى،
ولا شك أن معنى الفعل هو ما وجد من جهة من كان قادراً عليه، فإذا كانت هذه الأشياء
أفعالاً للعباد وثبت أنها موجودة من جهتهم بطل قول من يقول: إنها مخلوقة من الله
تعالى فيهم.
فمن ذلك قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ}[القمر:52].
وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ
اللَّهُ}[البقرة:197].
وقوله: {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}[الانفطار:12].
وقوله: {كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ
فَعَلُوهُ}[المائدة:79].
وقال: {كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}[النحل:33].
وقوله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ
ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}[آل
عمران:135].
وقوله: {وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا
عَلَيْهَا ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ
بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ}[الأعراف:28].
وقوله: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا
مَنْ قَدْ ءَامَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}[هود:36].
وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَ تَقُولُونَ
مَا لَا تَفْعَلُونَ(2)كَبُرَ
مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ(3)}[الصف].
إلى غير ذلك مما يكثر عده.
وكذلك أخبر تعالى أنهم العاملون لهذه الأفعال، ولا شك أن
العمل هو الفعل، فمن ذلك:
قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا
وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}[يس:54].
وقوله: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأحقاف:14].
وقوله تعالى: {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ}[الصافات:39].
وقوله تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ
مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا
وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}[آل عمران:30].
وقوله: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا
يَرَهُ(7)
وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ(8)}[الزلزلة].
وقوله تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ
أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}[فصلت:46].
وقوله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}[النساء:123].
إلى غير ذلك مما يمتنع حصره في مثل هذا الموضع.
فإذا ثبت ذلك صح ترادف الأدلة العقلية والسمعية وتعاضدهما
على أن العباد هم المحدثون لأفعالهم، وأن الله تعالى ليس بخالق لها، وعلمنا بذلك
أن الآيات المتضمنة لذكر خلق الله تعالى لجميع الأشياء قد خرجت منها أفعال العباد
بما ذكرنا من الأدلة المخصصة عقلاً وسمعاً.
وقول من يقول منهم: إن أفعال العباد وإن كانت خلقاً لله
تعالى فإنها كسب للعباد، فلأجل اكتسابهم لها صح الأمر بها والنهي عنها، والمدح
عليها والذم، والثواب عليها والعقاب، وصح تسميتها أعمالاً وأفعالاً، ولم يصح شيء
من ذلك في ألوانهم وصورهم لما لم يكن كسباً، ولهذا افترقت الأفعال والصور
والألوان.
فإنه غير صحيح؛ لأنا نقول: إن أردت بالكسب ما هو المعقول
المعروف عند أهل اللغة، وهو إحداث الفعل الذي يجتلب به نفع أو يدفع به ضرر عن
الفاعل، فهذا صحيح.
ولكن قولك أنه مخلوق من الله تعالى خطأ؛ لأنه إذا كان
محدثاً من جهة الواحد منا فكيف يجوز أن يكون مخلوقاً لله تعالى.
وإن أردت بالكسب ما يقوله الأشعرية ويرومون الانفصال به عن
مقالة جَهْم، لما لزم عليها من شنيع الجهالات، فتلك عبارة فارغة، لا معنى تحتها
يعقل؛ لأنهم لا يمكنهم أن يفسروا الكسب بوجه معقول إلا بأن يصيروا إلى مقالة
جَهْم، ويضيفوا أفعال العباد إلى الله تعالى من كل وجه، أو يقولوا بقول أهل العدل
وينفوها عنه تعالى بكل وجه.
لأنا نقول لهم: خلق الله للمعصية هو نفسها أو غيرها؟
فإن قالوا: هو نفسها.
قلنا: فكسب العبد لها هو نفسها أو غيرها؟
فإن قالوا: هو نفسها؛ فقد جعلوا الكسب خلقاً والخلق كسباً
ورجعوا بهما إلى شيء واحد، وإنما عبروا عنه بعبارتين مختلفتين وفي ذلك لحوقهم
بجَهْم، ورجوعهم إلى مقالته، وتصريح منهم بأنه ليس هناك شيء سوى خلق الله تعالى،
وإنما علقوا ذلك بالعبد تعليقاً فارغاً عن المعاني، وهذا يؤدي إلى بطلان التكليف،
ونسبة العبث إلى الله تعالى في إيراد الأمر والنهي والوعد والوعيد، بل في إنزال
جميع الكتب وإرسال كافة الرسل؛ لأن جميع هذه الأشياء إذا كانت منه لم يكن لشيء مما
ذكرناه معنى معقول.
وإن قالوا: إن خلق الله تعالى لأفعال العباد هو غيرها، أو
كسب العباد لها هو غيرها، وميزوا بين خلق الله تعالى وكسب العبد تمييزاً معقولاً،
فجعلوا كل واحد منها غير الآخر، فقد وافقونا فيما نقول، ورجعوا إلى الحق، ولعمري
إن الرجوع إليه خير من التمادي في الباطل.
ولهذا يحسن حينئذ التكليف، ويصح إرسال الرسل، وإنزال الكتب،
وإيراد الأمر والنهي، والوعد والوعيد، لفائدة معقولة وهي الدعاء للخلق إلى الخروج
عما هم عليه من الكفر الذي هو منهم لا من الله، والدخول في الإسلام الذي هو فعلهم
لا فعل الله، فبان بهذا أنه لا يكون لمن أثبت الكسب مذهب معقول، إلا بأن يوافق
جهماً أو يرجع إلى مقالة أهل العدل، فأما إثبات مذهب بين المذهبين فهو مما لا
يعقل، وهذا ظاهر.
احتج المخالف بأشياء منها:
قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}[الزمر:62]، وما أشبه
ذلك.
والجواب: أن هذه عمومات مخصوصة بما ذكرنا من الأدلة التي
اقتضت خروج أفعال العباد عن أن تكون مخلوقة من الله سبحانه على ما تقدم.
ومنها: قوله تعالى حكاية عن
إبراهيم عَلَيْه السَّلام: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96].
قالوا: وهذا نص على أنه تعالى خالق لأعمال العباد.
والجواب: أنه عَلَيْه السَّلام إنما أراد: والله خلقكم
والحجارة التي تجعلونها أصناماً، بدليل قوله تعالى: {أَتَعْبُدُونَ مَا
تَنْحِتُونَ(95) وَاللَّهُ
خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)}[الصافات]، ولا شك
أنه يريد الأصنام، وهذا هو السابق إلى الأفهام عند سماع هذا الكلام.
يحقق هذا أن إبراهيم عَلَيْه السَّلام أورد هذا الكلام
محتجاً عليهم به، ومبطلاً لما هم عليه، ومبيناً سفه حلومهم، وخطأ آرائهم، وذلك لا
يصح إلا أن يريد بما ذكر الأصنام، فبين لهم أن الله تعالى هو الذي خلقهم وخلق
آلهتهم التي يعبدونها من دونه، وإذا كانت مخلوقة لم تستحق العبادة سيما وهي من
نحتهم وتصويرهم، لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، ونبههم بذلك على أن المعبود
يجب أن لا يكون مخلوقاً، ولا ضعيفاً عاجزاً عن نفع من عبده أو ضره، وفي هذا حجة
قاطعة.
ولو أراد بذلك أن الله تعالى خلق أعمالهم لكانت الحجة لهم
على إبراهيم عَلَيْه السَّلام، لا له عليهم؛ لأنه حينئذ يصير كأنه قال: أتعبدون ما
تنحتون وهي الأصنام، والله خلقكم وخلق عبادتكم لها.
فكان لهم أن يقولوا: إذا كان الله هو الذي خلق عبادتنا لها
فما جرمنا نحن، وما جنايتنا في ذلك، ولأي معنى جئت مبعوثاً إلينا، أتريد منا نحن
أن لا يخلق الله فينا شيئاً من عبادتها، فذلك ليس إلينا منه شيء، أم تريد أن تغير
خلق الله فينا فليس ذلك تحت مقدورنا.
فيكون كلام إبراهيم هذا على زعم المخالف أكبر عذرٍ لهم
عنده، بل أظهر حجة لهم عليه، تعالى الله وتنزهت رسله صلوات الله عليهم عن ذلك، بل
قد آتى الله إبراهيم عَلَيْه السَّلام الحجة البالغة على كل من حاجَّه في شيء من
الدين، وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءَاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى
قَوْمِهِ}[الأنعام:83]، ولا تكون
الحجة بالغة على الكفار ولازمة لهم إلا إذا كان الكلام على ما قدرنا أن المراد من
الخطاب هو الأصنام، وذلك واضح لمن تأمله.
ومنها: قوله تعالى: {هَلْ
مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ}[فاطر:3]، فالله سبحانه نفى أن
يكون معه خالق آخر، فيجب أن تنسب خلق أفعال العباد إليه.
والجواب: أنه تعالى إنما أراد
هل من خالق لهذه البدائع العجيبة من السماوات والأرض وما بينهما من النعم السابغة
التي تقتضي وجوب شكره وعبادته سواه تعالى، ولهذا قال: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ
غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ}، فأخبر أنه لا خالق
لهذه الأرزاق سواه، وذلك مما لا شك فيه، ولم يرد بذلك أنه لا خالق للكفر والنفاق
سوى الله سبحانه؛ لأنه لو أراد ذلك لكان في هذا أعظم حجة للكفار عليه تعالى، ولا
شك أنه أورد الآية مورد الاحتجاج عليهم، فكيف يعني بذلك ما تصير به حجته حجةً عليه
هو، وهذا ما لا يخفى فساده.
ومنها: قوله تعالى: {قُلْ
أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ(1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ(2)}[الفلق]، قالوا:
فأخبر تعالى أن الشر مخلوق، وأمر بالاستعاذة منه.
والجواب: أن هذه الآية حجة على
المخالف لا له؛ لأن الله تعالى ما أضاف الشر إلى نفسه، وإنما أضافه إلى مخلوقاته،
وتقدير الكلام: من شر الذي خلق، ونحن بذلك نقول؛ لأن هذه الشرور الذي أمرنا نتعوذ
منها هي صادرة عن المخلوقات لا عنه تعالى، وإنما كان يكون له به عُلْقَة لو كان
تعالى قال من الشر([7]) الذي خلق، فأما إذا أضاف
الشر إلى شيء وذلك الشيء الذي صدر علة الشر
مخلوق منه تعالى فلا يدل على أن الشر مخلوق منه تعالى، ولا شك أن شياطين الأنس
والجن هم من خلقه تعالى، والشر هو فعلهم، وهذا على نحو قوله تعالى فيما بعد: {وَمِنْ
شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ(4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ
إِذَا حَسَدَ(5)}[الفلق]، وقوله
تعالى في السورة الثانية: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ(1) مَلِكِ
النَّاسِ(2) إِلَهِ
النَّاسِ(3) مِنْ
شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ(4)...}[الناس] إلى آخرها،
فالآية بنفسها حجة لنا على المخالف.
ومنها: قوله تعالى: {وَإِنْ
تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ
سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[النساء:78]، قالوا:
وهذا تصريح بأن جميع هذه الأفعال من الله سبحانه.
والجواب: أن هذه الآية لا حجة
لهم فيها؛ لأن المراد بالحسنات نعم الدنيا، وبالسيئات محنها وشدائدها، وهي التي
كان الكفار يضيفونها إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم على وجه
التطير به، على ما ورد به الخبر: أنهم كانوا إذا نزل بهم خصب وصحة ونعمة قالوا:
هذه من الله، وإذا نزل بهم جدب ومرض وموت ومحنة قالوا: هذا شؤم محمد فرد الله
تعالى عليهم قولهم هذا بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}[النساء:78].
فأما المعاصي من الكفر والنفاق وما جرى مجرى ذلك فلم يكن
القوم ينسبون ذلك إلى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم فيكون رد الله
تعالى عليهم نازلاً فيه، وهذا أمر معلوم لا لبسة فيه، وكيف يجوز أن يقول الله
تعالى بالمعاصي أنها من عنده، وقد صرح في القرآن الكريم بنفيها عن أن تكون من عنده
وكذَّب اليهود لما قالوا ذلك بقوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ
أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسِبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ
الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل
عمران:78]،
فحكى سبحانه عن اليهود أنهم يكذبون على التوراة ويقولون: هذا من عند الله، وكذبهم
تعالى بقوله: {وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}، ولو لم يكن في القرآن
دلالة على نفي هذه المخازي عن الله سبحانه سوى هذه الآية لكفى بها.
فيما جاء في ذلك عن الصحابة والتابعين رضي الله
عنهم أجمعين.
اعلم أن الأقوال متظاهرة عن علماء الصحابة والتابعين بنفي
هذه المعاصي عن الله، وإضافة أفعال العباد قاطبة إليهم دونه تعالى، وذلك واضح عند
من له بحث عن الأخبار، ومعرفة بالسير والآثار، مطابقة منهم لما روي عن النبي
صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم أنه نفى هذه المعاصي عن الله تعالى بقوله: ((لبَّيك
وسَعدَيْكَ، الخيرُ بيدِكَ، والشَّر ليس إليك)) وغير ذلك مما ورد عنه عَلَيه
السَّلام.
فصرح بنفي الشر الذي يجب نفيه عن الله سبحانه، فأما الشر
الذي هو محن الدنيا وشدائدها كالموت والمرض والفقر، وما جرى هذا المجرى فإنه فعل
حسن في الحكمة، وجائز فعله من الله سبحانه، وفيه نزل قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ
ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ}[الأنبياء:35]، فلا يصح تعلق المخالف بذلك في إضافة
المعاصي إلى الله تعالى؛ لأن المراد به ما بينَّا من شدائد الدنيا.
فالمروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سئل عن
الكلالة فقال: أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمن الشيطان
ومني، والله ورسوله بريئان من ذلك.
وهذا مشهور عنه عند علماء الإسلام، فقد أضاف الصواب إلى
الله تعالى من حيث هدى إليه، وأضاف الخطأ إلى نفسه من حيث أنه فعله، وإلى الشيطان
من حيث أنه أوقعه فيه.
والمروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن كاتباً له كتب:
هذا ما أرى الله عمراً، فقال: امحه واكتب هذا ما رأى عمر، فإن كان صواباً فمن
الله، وإن كان خطأً فمن عمر.
فأضاف الصواب إلى الله تعالى من حيث هدى إليه، وأضاف الخطأ
إلى نفسه من حيث أنه فعله.
والمروي عن عثمان: أنه لما حُصِر([8]) في الدار كان القوم يرمونه
ويقولون: الله يرميك، فيقول: كذبتم لو رماني الله ما أخطأني، فصرح بنفي أفعال
العباد عن الله تعالى.
والمروي عن عبدالله بن عباس رحمة الله عليه أنه قال: من
أضاف إلى الله ما تبرأ منه وتنزه عنه، فقد افترى على الله إثماً عظيماً.
وروي عنه أنه قال: قاتل الله أقواماً يعملون بالمعاصي
ويزعمون أنها من الله.
وروي عنه أنه قال: ثنتان من الله، وثنتان من الشيطان، {الشَّيْطَانُ
يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُم بِالْفَحْشَاء وَاللّهُ يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً
مِّنْهُ وَفَضْلاً}[البقرة:268].
والمروي عن ابن مسعود رحمه الله: أنه سئل عن رجل تزوج امرأة
ولم يفرض لها مهراً، ولم يدخل بها، ثم مات عنها، ما الواجب لها؟ فأقام شهراً لا
يجيب عن هذه المسألة، ثم قال: أقول فيها برأيي فإن كان صواباً فمن الله، وإن كان
خطأً فمن ابن أم عبد: أرى لها مهر نسائها، ولا وكس ولا شطط، وعليها العدة، ولها
الميراث، وهذه قضية مشهورة عند الفقهاء.
وقد قدمنا ما روي عن عمر في ذلك، وقدمنا شيئاً فيما روي عن
أمير المؤمنين عَلَيْه السَّلام وهو يأتي متمماً في باب القضاء والقدر إن شاء
الله، فإنه بذلك الموضع أليق.
فأما التابعون فالروايات عنهم كثيرة:
فالمروي عن الحسن البصري رحمة الله عليه أنه كان يقول في
قوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، قال: والله
ما أراد بها إلا خلق السماوات والأرض وما بينهما من خلق، والله ما أراد بها
المعاصي.
وعنه أنه كان يقول: اللهم العن أنت وملائكتك ورسلك أقواماً
يعملون بالمعاصي ثم يزعمون أنها من الله.
وروي عنه أنه كان يقول: ما أصبح بجنبات أرضكم أحدٌ يؤخذ
بجرم جاره، فكيف تحملون ذنوبكم على ربكم، حسب امرئ هلكاً أن يفسق ويفجر ويأتي
الفواحش فيمهله الله، ويذره في طغيانه سليم الجوارح أن يكذب عليه، ثم قال: والله
ما هم إلا الذين قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((مجوسُ
أمَّتي القدريَّةُ، إن مرضوا فلا تَعودوهم، وإن ماتوا فلا تشهدوا جنائزَهم، فإنهم
شرُّ البريَّة، حقٌّ على الله تعالى أن يحشرهم مع الدجال))، إلى غير ذلك مما
هو مروي عن الحسن رحمه الله.
وروي أن الحجاج بن يوسف كتب إلى أربعة من العلماء وهم الحسن
بن أبي الحسن البصري، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، وعامر الشعبي يسألهم عن القضاء
والقدر، فأجابه أحدهم: لا أعرف فيه إلا ما قاله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عَلَيْه السَّلام فإنه قال: (أتظن الذي نهاك دهاك، إنما دهاك أسفلك وأعلاك، وربك
بريء من ذاك).
وأجابه الثاني: لا أعرف فيه إلا ما قاله علي عَلَيْه
السَّلام فإنه قال: (أتظن الذي فسح لك الطريق لزم عليك المضيق).
وأجابه الثالث: لا أعرف فيه إلا ما قاله علي عَلَيْه
السَّلام فإنه قال: (إذا كانت المعصية حتماً كانت العقوبة عليها ظلماً).
وأجابه الرابع: لا أعرف فيه إلا ما قاله علي بن أبي طالب
عَلَيْه السَّلام فإنه قال: (ما حمدت الله عليه فهو منه، وما استغفرت الله منه فهو
فعلك).
فلما بلغ ذلك الحجاج قال: قاتلهم الله لقد أخذوها من عين
صافية.
وروي عن مالك بن دينار أنه كان يقول: لا تنحلوا ربكم الذنوب
فيضاعف لكم العذاب، ولكن استغفروه وتوبوا إليه فإنه رحيم ودود.
وروي عن عبيدالله بن زياد لعنه الله قال لعلي بن الحسين
عَلَيْه السَّلام لما حُمِل إليه بعد قتل الحسين عَلَيْه السَّلام: ألم يقتل الله
علي بن الحسين؟
قال: قد كان أخي يسمى علياً وكان أكبر مني، وإنما قتله
الناس لا الله، قال: بل الله قتله، قال: فإن الله إذاً قتل عثمان بن عفان، فانقطع
اللعين عبيدالله بن زياد.
وإن كان ما قاله علي بن الحسين عليهما السلام هو مذهب
الأئمة الطاهرين والعلماء العاملين من أهل البيت عليهم السلام أجمعين.
ومن روى القول بالعدل وتنزيه الله من هذه الخبائث من سائر
أهل العلم أكثر من أن يحصى عددهم، بل الإجماع منعقد على ذلك من الصحابة، ألا ترى
أنه لما اشتهر ما روي أن أبا بكر قاله وظهر عنه وعن ابن مسعود ما قاله في ذلك لم
ينكر ذلك أحد، بل تلقاه الكل بالقبول، وإن كان الصحابة ومن بعدهم من علماء
المسلمين ما نفوا عن الله تعالى من ذلك إلا ما نفاه عن نفسه سبحانه بما قدمنا ذكره،
وبقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا
ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]، فأخبر
تعالى أنه لم يخلق السماء والأرض باطلاً، ولا خلق ما بينهما باطلاً، وذلك تصريح
بأنه لم يخلق الباطل الموجود بينهما.
اعلم أن مذهب الأئمة الطاهرين من أهل البيت
عَلَيْهم السَّلام ومن طابقهم من علماء المسلمين هو أن الله تعالى يريد الطاعات من
أفعال العباد الواجب منها والمندوب، ولا يريد شيئاً من المعاصي، بل يكره جميعها،
وذهبت المجبرة إلى أنه تعالى يريد المعاصي كما يريد الطاعات.
والذي يدل على صحة مذهب أهل البيت عَلَيْهم السَّلام هو أن
إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يأتي بالقبيح، لعلمه بقبحه وغناه عنه، وعلمه
بأنه غني عنه، ومن كان بهذه الأوصاف فإنه لا يفعل القبيح.
ألا ترى أن الواحد منا إذا قيل له: إن صدقت أعطيناك درهماً،
وإن كذبت أعطيناك درهماً، فإنه لا يختار الكذب على الصدق، وليس ذلك إلا لعلمه
بقبحه، وغناه بالصدق عنه.
وإنما قلنا: إرادة القبيح قبيحة، لما نعلمه من أن الواحد
منا إذا كان معروفاً بالصلاح والعفة وكنا نعرف منزلته لذلك، ثم أخبرنا عن نفسه
بأنه يريد كلما يجري في البلد من الظلم والفساد، فإن منزلته تسقط عندنا لأجل ذلك،
وليس ذلك إلا لأنه يأتي قبيحاً لما أراد هذه القبائح، فصح بهذا أن إرادة القبيح
قبيحة، فإذا كان الله تعالى أعلم العلماء بقبح القبيح وأغناهم عن فعله وأعلمهم
بغناه عنه، لم يجز منه تعالى أن يريد القبيح.
وقد قال سبحانه وتعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعِبَادِ}[غافر:31]، وقال: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا
لِلْعَالَمِينَ}[آل عمران:108].
وهذان نصان صريحان بأنه تعالى لا يريد المعاصي قاطبة؛ لأن
كل معصية فهي ظلم، إما لنفس العاصي أو لغيره، والله تعالى نفى بهاتين الإرادتين
إرادة كل ظلم عن نفسه؛ لأنه أدخل حرف النفي وهو (ما) على لفظ الظلم وهي
نكرة، وذلك يقتضي العموم والاستغراق لكل ظلم كقول القائل: ما في الدار رجل، فإنه
يقتضي نفي كل من يقع عليه اسم الرجل عن الدار، وهذا ظاهر.
وكذلك قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي
الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا
يُحِبُّ الْفَسَادَ}[البقرة:205]، فنفى عن نفسه محبة
الفساد والمحبة هي الإرادة، بدليل أنه لا يجوز إثبات أحد اللفظين مع نفي الآخر،
فلا يجوز أن يقول قائل: أريد أن تأكل طعامي وما أحب أن تأكله، ولا يقول: أحب أن
تأكل طعامي ولا أريد أن تأكله، ولو قال ذلك لعد مناقضاً، جارياً مجرى من يقول:
أريد أن تأكل طعامي وما أريد أن تأكله، فإن هذا يكون مناقضاً في كلامه، كذلك
المحبة والإرادة، وليس ذلك إلا لأن معنى المحبة والإرادة واحد، فصح بهذا أن الله
تعالى لا يريد شيئاً من الفساد.
وكذلك قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ
غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ}[الزمر:7]، فنفى عن
نفسه تعالى الرضى بالكفر، ولا شك أن الرضى هو الإرادة بدليل أنه لا يجوز إثبات
أحدهما مع نفي الآخر، فلا يجوز أن يقول قائل: أريد دخولك داري ولا أرضاه، ولا أن
يقول: أرضى دخولك داري ولا أريده، وهذا يدل على أن معنى اللفظين واحد على ما تقدم
بيانه، فدل ذلك على أن الله سبحانه لا يريد شيئاً من الكفر.
وكذلك قوله تعالى: {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا ءَابَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ
كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ
وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ}[الأنعام:148]، وهذه
الآية تدل على فساد مذهب المجبرة من خمسة أوجه:
أحدها: أن الله تعالى حكى
صريح مذهبهم عن المشركين ورد عليهم وكذبهم بقوله: {كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ}.
والثاني: قوله: {حَتَّى
ذَاقُوا بَأْسَنَا} والبأس العذاب، والعذاب لا يستحق إلا على فعل الباطل
والنطق به.
والثالث: قوله: {قُلْ هَلْ
عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} وهذا لا يقال إلا للمبطل؛ لأن
المبطل يقول ما لا يعلمه.
ورابعها: قوله: {إِنْ
تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} ولا شك أن هذا ذم لهم باتباعهم الظن الذي لا
يغني من الحق شيئاً.
وخامسها: قوله: {وَإِنْ
أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} أي تكذبون، يدل عليه قوله تعالى: {قُتِلَ
الْخَرَّاصُونَ}[الذاريات:10] معناه: لعن الكذابون.
فيدل ذلك على عظم خطأ من يقول بمثل مقالتهم، ولا شك أن
المجبرة يقولون بذلك، ولا يمتنع أحدهم من أن يقول: لو شاء الله ما أشرك مشرك ولا
كفر كافر، فتكون الآية رداً على كل من قال بذلك.
وصحت الدلالة على أن الله سبحانه قد سألهم الإيمان
والانتقال عن الشرك لكنه تعالى شاء أن يؤمنوا باختيار أنفسهم، ويؤثروا مرارة
الطاعة على حلاوة المعصية، كما يختار العليل العاقل الدواء النافع مع مرارته على
الطعام الضار مع لذاذته، فيستحقوا بذلك جزيل الثواب في الجنة التي حفت بالمكارة،
ويسلموا به من أليم العقاب في النار التي حفت بالشهوات، فلهذا مكنهم من الإيمان
وأقدرهم عليه، وبينه لهم، ورغبهم فيه، ولم يشأ تعالى أن يدخلهم في الإيمان جبراً،
ولا يحملهم عليه اضطراراً وقهراً، بأن يخلقه فيهم كما خلق فيهم ألوانهم، ولا بأن
يجبلهم عليه كما جبلهم على صورهم، ولو شاء تعالى ذلك على هذا الوجه لما امتنع منه
إنس ولا جان، ولكنه لو فعل تعالى ذلك لبطل التكليف، ولاستحال الأمر والنهي، ولسقط
المدح والذم، والثواب والعقاب؛ لأن شيئاً من ذلك لا يحسن وروده فيما تولى الله
خلقه فيهم واضطرهم إليه، ألا ترى أنه لا يحسن شيء منه في الألوان والصور.
فظهر بما ذكرناه أن المشيئة على ضربين: مشيئة تمكين
واختيار، ومشيئة جبر واضطرار، والله تعالى قد شاء من العباد كلهم الإيمان، وأراد
منهم العدل والإحسان، ولكن مشيئة الاختيار؛ لأنه تعالى مكنهم من ذلك كله، وشاء
منهم أن يختاروا تحمل الصبر على فعلهم كما قدمنا بيانه، ولم يشأ تعالى أن يجبرهم
على شيء مما أمرهم به، ولا أن يضطرهم إليه اضطراراً يزيلهم عن مقام الاختيار، إذ
لو فعل ذلك لهدَّ أركان التمكين، وهدم بنيان التكليف، كما سبق بيانه.
فإذا عرفنا هذا الأصل، ورأينا بعض آيات القرآن الكريم تدل
على أنه تعالى قد شاء من المكلفين الإيمان، وبعض آياته تقتضي أنه لم يشأ منهم أو
من بعضهم ذلك، وقد علمنا أنه كتاب عزيز {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ
يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42]، وأنه
مصون من التناقض، بل يؤيد بعضه بعضاً علمنا أن المشيئة التي أثبتها هي غير المشيئة
التي نفاها، إذ لو كان المرجع بهما إلى شيء واحد لتناقض الكلام.
فيجب حمل الآية التي تدل على أنه قد أراد من جميع المكلفين
الطاعات وشاء من كافتهم الخيرات على أن المراد بها مشيئة الاختيار، إذ لا يصح
حملها على مشيئة الجبر؛ لأنه لو شاء ذلك منهم جبراً لوقع لا محالة من جميعهم، وقد
علمنا أنه لم يقع من أكثرهم.
ويجب حمل الآيات المقتضية أنه تعالى لم يشأ ذلك أو لم يرده
على أن المراد بها مشيئة الاضطرار، إذ لو حمل ذلك على مشيئة الاختيار لتناقض
الكلام، ومتى حملت الآيات على هذا الوجه سلمت من التناقض.
فإذا تقرر هذا الأصل خرج الجواب عما تعلقت به المجبرة من
قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ
جَمِيعًا}[يونس:99]، وقوله
تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا}[السجدة:13]، وقوله: {وَلَوْ
شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ}[الأنعام:137] وأمثال ذلك؛ لأن
المراد بهذه الآيات كلها هو أنه لو شاء جبرهم وقهرهم بالاضطرار لكان ذلك تحت
مقدوره تعالى، ولكنه لم يفعل في دار التمكين والتكليف لما بينا.
وصح أنه سبحانه لا يريد شيئاً من المعاصي لما تقدم بيانه،
بل قد صرح سبحانه في القرآن الكريم بأنه كاره لها؛ لأنه لما ذكر أنواع المعاصي بقوله
في سورة بني إسرائيل: {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ
إِمْلَاقٍ}،{وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا}،{وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ
الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ}،{وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ
إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}،{وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ}،{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا}...الآيات بكمالها[الإسراء:31-37]، ثم قال
عقيبها: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئَةً عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا}[الإسراء:38]، وإذا كان
كارهاً لجميعها لم يجز أن يكون مريداً لشيء منها؛ لأنه يتنافى أن يكون مريداً
لشيءٍ كارهاً له.
وكذلك قد وردت السنة الطاهرة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه
وآله وسَلَّم بأن الله سبحانه كاره للمعاصي، فمن ذلك:
قوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((إنَّ الله
كرِهَ لكم العبثَ في الصَّلاةِ، والرَّفثَ في الصِّيامِ، والضَّحكَ بين المقابرِ)).
وقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((إنَّ الله
يحبُّ معاليَ الأمورِ، ويكرهُ سِفسافَها)).
وقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((إنَّ الله
يحبُّ أن تؤتى رُخَصهُ كما يَكرهُ أن تُؤتى معصيتهُ)).
وقوله صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم: ((وكَرِهَ لكم
قيلَ وقالَ، وكَثْرةَ السُّؤالِ، وإضاعةَ المالِ)).
فإذا كانت هذه القبائح مكروهة لله سبحانه لم يصح أن يكون
مريداً لها، لتنافي ذلك، وهذا ظاهر.
وقد تعلق المخالف بأشياءَ منها:
أنه لو جرى في مُلْكِ الله سبحانه ما لا يريده بل ما يكرهه،
وامتنع حصول ما يريده لكان ذلك دليلاً على عجزه تعالى.
والجواب: أن العجز لا يثبت لأحد
إذا امتنع فعل غيره إلا إذا أراد مغالبة فعل ذلك الغير فلم يقدر، وهذه القضية
مفقودة فيما بين الله سبحانه وبين عباده؛ لأنه تعالى لم يرد مغالبتهم، ولا وقوع
الطاعة منهم بطريق الجبر والاضطرار، بل أراد تعالى تمكينهم من الطاعات، والقيام
بالتكليف باختيارهم، وأمهل من عصاه منهم وأنظره إلى اليوم الموعود، فإقدامهم مع
ذلك على ما يكرهه وامتناعهم عما يريده منهم لا يدل على عجزه تعالى عن ذلك، ولا على
إرادته لما جرى منهم من ذلك.
كما أن السيد إذا قال لعبده: أعمر هذه الدار في هذا الشهر،
فإن اجتهدت في عمارتها أعتقتك بعد تمام الشهر، وإن لم تفعل شيئاً مما أمرتك عاقبتك
بعد تمام الشهر بأنواع العقوبات، وقد أنظرتك هذه المدة لأنظر كيف تصنع، فإنه إذا
توانى في أمر سيده وقصَّر، ولم يمتثل ما رسمه عليه لم يدل ذلك على عجز السيد عن
أخذه وانتقامه، ولا يدل أيضاً على إرادة السيد لتقصيره، بل يدل على حلمه وإمهاله
فكذلك ما نحن فيه.
وعلى هذا نبه الله تعالى بقوله: {وَرَبُّكَ الْغَفُورُ
ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ
بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا}[الكهف:58]، وبقوله
تعالى: {وَلَا تَحْسِبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ
إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ}[إبراهيم:42]، وهذا
بيِّن لمن تأمله.
ومما تعلق به المخالف قوله
تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}[الإنسان:30]، قالوا:
فالله سبحانه علق مشيئة الخلق بمشيئته، وأخبر أنهم لا يشاءون شيئاً إلا من بعد أن
يشاء تعالى، وفي ذلك كونه شائياً للمعاصي، ولجميع أفعال العباد.
والجواب: أنه ليس فيما ذكروه
دلالة على ما ذهبوا إليه من إرادته سبحانه للمعاصي أو مشيئته لها؛ لأن الله سبحانه
ما ذكر ذلك إلا في الطاعات دون المعاصي؛ لأنه ذكر ذلك من القرآن الكريم في موضعين،
أحدهما في سورة الإنسان فقال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ
اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا(29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(30)}[الإنسان]، والمراد ما
تشاءون اتخاذ السبيل إلى الله إلا أن يشاء الله، ولا إشكال في أن اتخاذ السبيل
إليه طاعة مرضية.
والموضع الثاني في سورة التكوير وهو قوله تعالى: {لِمَنْ
شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ(28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ
رَبُّ الْعَالَمِينَ(29)}[التكوير]، معناه:
ما تشاءون الاستقامة التي هي طاعة بلا شك إلا أن يشاء الله لكم ذلك.
ونحو هذا الكلام في معنى الآيتين مروي عن ابن عباس رضي الله
عنه، ولا شك في أن مشيئته تعالى للطاعات متعلقة على مشيئة المطيعين لها، بل أمره
بذلك وترغيبه فيه سابق مشيئتهم لها، ولسنا نختلف في أن أحداً لا يشاء الطاعات إلا
بعد مشيئة الله سبحانه، وإنما الخلاف في المعاصي، وليس في القرآن الكريم أن أحداً
لا يشاء شيئاً من المعاصي إلا أن يشاءه الله له، فسقط ما تعلقوا به.
وقد بينا فيما تقدم أنه تعالى لا يريد شيئاً من المعاصي،
ولا يشاؤها مما فيه مقنع لمن أنصف.
ومما تعلقوا به الآيات التي
يُذكر فيها المشيئة مطلقة، نحو قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا
فَعَلُوهُ}[الأنعام:112].
وقوله: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي
الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا}[يونس:99].
وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ
هُدَاهَا}[السجدة:13].
وقوله: {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ
اللَّهُ}[الأنعام:111]، وما أشبه
ذلك، وظنوا أن لهم فيه حجة على مذهبهم.
والجواب: ما تقدم بيانه أنه
تعالى إنما أراد بذلك مشيئة القهر والاضطرار، معناه لو شاء جبرهم على الخير ومنعهم
من الشر بطريقة القهر لقدر على ذلك، وهذا ما لا شبهة فيه، وذلك لا ينفي أن يكون
تعالى مريداً للطاعات منهم على وجه اختيارهم لها على ما تقدم تفصيله.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ
الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}[المائدة:41]، قالوا:
فالله سبحانه أخبر أنه يريد فتنة قوم، ولا يريد طهارة قلوبهم، وخبره صدق، وهذا يدل
على خلاف ما ذهبتهم إليه.
ولنا عن ذلك جوابان:
أحدهما: أنه لا يصح من أحد
ممن يضيف إلى الله سبحانه القبائح من أفعال العباد أن يستدل بشيء من كلامه تعالى
على صحة شيء ولا على فساده؛ لأنه إذا كان يعتقد أن كل كذب وجد في الدنيا من أولها
إلى آخرها فهو خلق الله سبحانه لا خالق له غيره، ولا موجد له سواه فمن أين نثق
بشيء من أخباره؟ وما الأمان من أن يكون هذا الذي استدلوا به كذباً من جملة ما يجري
منه؟
ألا ترى أن من عُرِف منه التساهل في الكذب من الناس لم يوثق
بكلامه، وإن كان يصدق كثيراً، حتى أن الناس يشكون في صدقه، ولهذا قيل:
كذبت ومن
يكذب فإن جزاءه
|
||
إذا ما أتى بالصدق
ألا يصدقا
|
||
وهذا ما لا سبيل لهم إلى دفعه إلا بالرجوع عن هذا المذهب،
ونفي كل كذب وقبيح من الأفعال عن الله تعالى، ونسبته إلى عصاة الخلق.
والثاني: أنه لو صح منه
الاستدلال بذلك فليس فيما ذكره دلالة على ما ادعاه؛ لأن الفتنة لفظة مشتركة بين
معان منها:
(1) التعذيب والتحريق
بالنار فقد سمى ذلك فتنة بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ
وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ
عَذَابُ الْحَرِيقِ}[البروج:10]، وبقوله: {يَوْمَ
هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ(13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ
بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ(14)}[الذاريات]، والمراد
بذلك حريق النار.
(2) ومنها التشديد في
الامتحان والتكليف يحكيه قوله تعالى: {أَلَم(1) أَحَسِبَ النَّاسُ
أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا ءَامَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(2) وَلَقَدْ
فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا
وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ(3)}[العنكبوت]، وما جرى
مجرى ذلك، والمراد: امتحنا وشددنا في التكليف.
وبهذا المعنى ورد قوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا
فِتْنَتُكَ}[الأعراف:155]، وقوله: {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا}[طه:40]، وقوله: {وَلَقَدْ
فَتَنَّا سُلَيْمَانَ}[ص:34]، وقوله: {وَلَقَدْ
فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ}[الدخان:17]، وما أشبه
ذلك معناه الامتحان.
(3) ومنها الإضلال عن
الدين، يحكيه قوله تعالى: {يَابَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ}[الأعراف:27]، معناه:
يضلكم.
فكانت لفظة الفتنة من الألفاظ المتشابهة، فيجب حمل كل شيء
منها على ما يليق به، وقد علمنا أنه لا يجوز من الله سبحانه أن يضل أحداً عن
الدين، ولا أن يستدعيه إلى الكفر، بل هدى إلى الصلاح وأمر بالعدل والإحسان.
فوجب حمل الفتنة المضافة إليه سبحانه على أحد المعنيين
الآخرين: إما أن يريد بذلك التعذيب بالنار، أو التشديد في الامتحان، ووجب حمل
كلامه مما ذُكِرت فيها الفتنة على ما يليق بها من هذه المعاني، وقوله تعالى: {وَمَنْ
يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا}[المائدة:41]، معناه:
من يرد الله إهلاكه بعذاب النار فلن تملك دفع ذلك عنه، ولا شك في ذلك.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ
اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ}[المائدة:41]، معناه
يشهد بطهارتها ويحكم بذلك، كما يقال: زكَّى فلانٌ فلاناً، إذا شهد بتزكيته وحكم
بذلك، قال الله سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا
مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ ءَايَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ}[الجمعة:2]، وإنما لم
يحكم لهم بالطهارة؛ لأنهم لم يفعلوا ما تطهر به قلوبهم من نجس الشرك وخبث المعاصي،
ولو فعلوا ذلك لحكم لهم به وطهر قلوبهم، وهذا واضح لمن تأمله.
اعلم أن مذهب الأئمة من أهل البيت الطاهرين
سلام الله عليهم أجمعين، ومن طابقهم من علماء المسلمين أنه لا يجوز إطلاق القول
بأن المعاصي بقضاء من الله سبحانه وقدر، وينكرون على من قال بذلك، وذهبت المجبرة
إلى جواز ذلك، بل لهم اشتغال بذلك عظيم، فكلما وقعت معصية اعتذروا فيها بالقضاء
والقدر.
والأصل في بيان ذلك أن القضاء منقسم إلى ثلاثة
معان:
أحدها: بمعنى الخلق والتمام،
يحكيه قوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ}[فصلت:12]، معناه:
أتمَّ خلقهن.
والثاني: بمعنى الأمر والإلزام،
يحكيه قول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23]، معناه:
أمر وألزم.
والثالث: بمعنى الإخبار
والإعلام، يحكيه قوله تعالى: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي
الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ}[الإسراء:4]، معناه:
أخبرنا وأعلمنا.
ولا خلاف بيننا وبين المجبرة أنه لا يجوز نسبة المعاصي إلى
قضاء الله بمعنى أنه أمر بها؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء، ولا خلاف بيننا وبينهم
أنه يجوز أن يقال: قضى بها على معنى أخبر ملائكته وأنبياءه عَلَيْهم السَّلام
بوقوعها من أهلها، وإنما الخلاف بيننا وبينهم في أنه قضى بها بمعنى خلقها أم لا.
فعندنا: لا يجوز ذلك، وعندهم:
يجوز ذلك.
وقد بينا فيما تقدم أن الله تعالى لم يخلقها، ولا خلق شيئاً
من أفعال العباد بما فيه غنى لكل منصف، فبطل بذلك ما قالوه، وإذا ثبت ذلك لم يجز
إطلاق القول بأنها من قضائه؛ لأنه يوهم أنه خلقها وأمر بها، وكلاهما فاسد.
وكذلك القدر منقسم ثلاثة أقسام:
أحدها: بمعنى الخلق على مقدار
معلوم، يحكيه قول الله تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2]، وقوله: {إِنَّا
كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، معناه: على مقدار
معلوم.
وثانيها: بمعنى الإخبار وبيان
الحال، يحكيه قوله تعالى: {إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ
الْغَابِرِينَ}[النمل:57]، معناه: بينا حالها.
وثالثها: بمعنى الكتابة، كما
قال العجاج:
واعلم بأن ذا الجلال
قد قدر
|
في الصحف الأولى
التي كان سطر
|
|||
أمرك هذا فاجتنب منه
البتر
|
||||
معناه: كتب في الصحف.
والخلاف واقع في أنه تعالى هل قدرها بمعنى خلقها في
العصاة أم لا؟
فعندنا لا يجوز ذلك، وقد
بينا فيما تقدم، وعندهم ذلك ثابت.
ونحن لا نجوِّز إطلاق هذه العبارة، فيقول الواحد: المعاصي
بقضاء وقدر؛ لأن ذلك يوهم أنه تعالى خلقها وأمر بها، وذلك باطل كما قدمنا.
وقد روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم في
النهي عن إطلاق هذه العبارة، ونسبة هذه الفواحش إلى قضاء الله سبحانه وقدره أخبار
كثيرة قد قدمنا منها ما فيه كفاية ومقنع.
وكذلك قد روي عن الصحابة والتابعين ما يغني الأقلُّ منه لمن
كان له قلب، فمن ذلك:
ما روي عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليه
أنه قال للشيخ الشامي وقد سأله عن مسيره إلى الشام، أكان بقضاء الله وقدره؟
فقال عَلَيْه السَّلام: (والذي فلقَ الحبَّة، وبرأَ
النِّسمةَ، ما قطعنا وادياً ولا علونا تِلعةً إلا بقضاءٍ وقَدَر).
فقال الشيخ: عند الله أحتسب عنائي، ما أرى لي من الأجر
شيئاً.
فقال عَلَيْه السَّلام: (بلى أيها الشيخ، قد عظَّم الله لكم
الأجرَ على مسيركم وأنتم سائرون، وعلى مُنصرَفِكم وأنتم مُنصرفون، ولم تكونوا في
شيء من حالاتكم مُكرهين، ولا إليها مُضطرين).
فقال الشيخ: وكيف ذلك والقضاء والقدر ساقانا، وعنهما كان
مسيرنا؟
فقال عَلَيْه السَّلام للشيخ: (لعلك ظننت قضاءً لازماً،
وقدراً حتماً، لو كان ذلك لبطلَ الثوابُ والعقابُ، وسقطَ الوعدُ والوعيدُ والأمرُ
من الله والنهيُ، ولما كانت تأتي من الله محمَدةٌ لمحسنٍ، ولا مذَمَّةٌ لمسيءٍ،
ولما كان المحسنُ بثوابِ الإحسانِ أولى من المسيءِ، ولا المسيءُ بعقوبة الذنبِ
أولى من المحسنِ، تلك مقالةُ عبدةِ الأوثانِ، وجنودِ الشيطانِ، وخصماءِ الرحمنِ،
وشهودِ الزورِ، وأهلِ العمى عن الصوابِ في الأمورِ، هم قَدريَّةُ هذه الأمةِ
ومجوسها، إن الله تعالى أمر تخييراً، ونهى تحذيراً، وكلَّف يسيراً، ولم يُعْصَ
مغلوباً، ولم يُطَعْ مكرِهاً، ولم يُرسل الرسلَ هزلاً، ولم يُنزل القرآن عبثاً،
ولم يخلق السماء والأرض وعجائب الآيات باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ
كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27]).
فقال الشيخ: ما القضاء والقدر اللذَينِ([9]) ما
وطئنا موطئاً إلا بهما؟
فقال عَلَيْه السَّلام: (الأمر من الله والحكم، ثم تلا قوله
تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ}[الإسراء:23]).
فنهض الشيخ مسروراً بما سمع وهو يقول:
أنت الإمام الذي
نرجوا شفاعته([10])
أوضحت من ديننا ما كان ملتبساً نفسي فداء لخير الناس كلهم نفى الشكوك مقالٌ منك متضح فليس معذرة في فعل فاحشة لا لا ولا قائل ناهيه أوقعه |
يوم النشور من
الرحمن رضوانا
جزاك ربك عنا فيه إحسانا بعد النبي علي الخير مولانا وزاد ذا العلم والإيمان إيمانا يوماً لراكبها بغياً وعدوانا فيها عَبَدتُ إذاً يا قوم شيطانا |
فأطلق عَلَيْه السَّلام في أول كلامه بأن مسيره الذي هو
طاعة لله تعالى وجهاد في سبيله كان بقضاء وقدر، وأراد بذلك أنه كان بأمر الله
وحكمه، وكان الشيخ يظن أنه أراد ما يذهب إليه المجبرة من أن ذلك كان بجبر منه
تعالى واضطرار.
فلما عرف عَلَيْه السَّلام أن الأمر قد التبس على الشيخ
بيَّنه له بأوضح بيان، وأقام عليه أوضح برهان، ونبَّه على أن القضاء منقسم إلى
معانٍ، وفي هذا مقنع لمن أنصف.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أُتي بسارق فقال: ما
حملك على ذلك؟ فقال: قضاء الله عليَّ وقدره يا أمير المؤمنين، فقطع يده، وضربه
عشرين درة أو ثلاثين، وقال: قطعت يدك على سرقتك، وضربتك بكذبك على الله، ثم قال
لأصحابه: لَكَذِبُه على الله شرٌّ من سرقته، وهذا يوضح عظم خطأ من أضاف هذه
المعاصي إلى قضاء الله تعالى وقدره.
وروي عن ابن عباس رحمه الله أنه مُرَّ بسارقٍ على حَلقته،
فقال بعض القوم: أعوذ بالله من قضاء السوء، فقال ابن عباس: لَقولُكم فيه أعظم من
سرقته، ثم ما زال يشنِّع قولهم حتى تابوا منه.
وروي عن الحسن بن أبي الحسن البصري رحمه الله أنه قرأ: {وَيَوْمَ
الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ}[الزمر:60]، فقال: هم
المجوس، والنصارى، وناس من هذه الأمة، زعموا أن الله تعالى قدَّر عليهم المعاصي،
وعذبهم عليها، وكذبوا وأثموا على الله، والله يسوِّد وجوههم بذلك.
وروي عنه أنه كان يقول: الآجال والأرزاق والبلاء والمصائب
والحسنات بقدر من الله، والسيئات من أنفسنا ومن الشيطان.
وروي عنه أنه كان يقول: قاتل الله قوماً يزعمون أن الله قدر
خطايا بعث محمداً صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم ينهى عنها.
وروي عنه أنه كان يقول: لا والله ما قضى الله منه سَخِط([11]).
وروي عن قتادة أنه قال: الأشياء كلها قدر ما خلا المعاصي.
وروي عن الشعبي أنه قال: أحبب آل محمد ولا تكن رافضياً،
وأثبت وعيد الله ولا تكن مرجياً، ولا تكفر الناس فتكون خارجياً، وألزم الحسنة ربك،
والسيئة نفسك ولا تكن قدرياً.
وروي عن عمر بن عبدالعزيز أنه قال له غيلان([12]):
يا أمير المؤمنين إن أهل الشام يقولون: المعاصي بقضاء الله، فقال: يا غيلان ألست
ترى أني أنكر مظالم بني أمية وأردها؟ أتراني أنكر قضاء الله وأرده؟
وأمثال ذلك مما يطول استقصاؤه.
فبان بهذا أن من أضاف المعاصي إلى قضاء الله سبحانه وقدره
مخالف لما كان عليه السلف الصالح من علماء الإسلام رحمة الله عليهم، وذلك هو
الخسران المبين.
اعلم أن الهدى منقسم إلى ثلاثة معان:
أحدها: بمعنى الدلالة
والبيان، يحكيه قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ
الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ}[البقرة:185]، معناه: دلالة وبيان
لكافة الناس.
وكذلك قوله: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ}[الشورى:52]، وقوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ}[الرعد:7]، وقوله: {اتَّبِعُونِ
أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ}[غافر:38].
وثانيها: بمعنى الزيادة في
الهدى بالتوفيق والتسديد وذلك لمن اهتدى بالهداية الأولى، يحكي ذلك قوله تعالى: {وَيَزِيدُ
اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}[مريم:76]، وقوله: {إِنَّهُمْ
فِتْيَةٌ ءَامَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى}[الكهف:13].
وثالثها: بمعنى ثواب الآخرة،
فقد سماه الله تعالى هدى بقوله: {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ(4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ(5)}[محمد]، فأخبر
أنه يهديهم بعد القتل، وذلك لا يكون إلا ثواباً.
فإذا صح ذلك ووجدنا بعض آيات القرآن الكريم تقتضي أنه تعالى
يهدي الكفار نحو قوله: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا
الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت:17]، وبعض آياته تقتضي
أنه لا يهدي الكفار، نحو قوله: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}[البقرة:264]، وأمثال
ذلك.
وقد علمنا أن القرآن لا يتناقض، وجب أن نعلم أن الهداية
التي أثبتها للكفار هي غير الهداية التي نفاها، فتكون الثابتة هي الهداية العامة
لهم التي هي بمعنى الدلالة والبيان، ولا شك في ذلك؛ لأنه تعالى قد بين لكل ما
يحتاج إليه: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ}[الأنفال:42].
وتكون المنفية عنهم إحدى الهدايتين الآخرتين، إما زيادة
التوفيق والتسديد؛ لأن ذلك إنما يكون لمن تقدم منه الاهتداء بالهداية الأولى، كما
قال تعالى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى}[مريم:76]، وإما
ثواب الجنة التي قد سماها([13]) هدى، ولا شك أن ذلك لا
يكون إلا للمؤمنين.
فإذا أوردت عليك آيات القرآن وحملتها على هذا الوجه عرفت
أنه كتاب عزيز {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ
خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[فصلت:42].
وكذلك لفظة الضلال فهي منقسمة إلى معان نذكر
منها هنا ما نحتاج إليه:
فقد يكون بمعنى الهلاك في الدنيا، يحكيه قوله تعالى: {وَقَالُوا
أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}[السجدة:10]، معناه:
هلكنا وذهبنا وتقطعنا.
وثانيها: بمعنى العقاب في
الآخرة، يحكيه قوله تعالى: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ(47) يَوْمَ
يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ(48)}[القمر]، فأخبر
تعالى أنهم في ضلال ذلك اليوم، وليس ذلك إلا العقاب؛ لأن الدار ليست دار تكليف
فيكون فيها كفر وإيمان.
وثالثها: بمعنى الإغواء
والاستدعاء إلى الكفر، يحكيه قوله تعالى: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا
هَدَى}[طه:79]، وقوله: {وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ}[طه:85]، معناه: الدعاء إلى الكفر والإغواء عن
الإيمان.
فإذا وردت علينا من آيات القرآن ما يقتضي أن الله سبحانه
يضل بعض العباد نحو قوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ}[غافر:74]، وقوله: {يُضِلُّ
مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[فاطر:8]، وأمثال
ذلك، وجب أن نحمله على أن المراد به ما يجوز أن يفعله الله سبحانه نحو إهلاكه
للعصاة في الدنيا أو عقابه لهم في الآخرة؛ فقد بينا أن ذلك كله يجوز أن يسمى
ضلالاً، ولهذا قال سبحانه: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا
وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ(26) الَّذِينَ
يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ
اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ...(27)}[البقرة]، فأخبر
أنه تعالى لا يضل به إلا من فسق ونقض العهد وقطع ما أمر بصلته، وذلك يوضح أن هذا
الإضلال عقاب لمن فعله تعالى به.
وكذلك في قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ
يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ
صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا}[الأنعام:125]، معنى الإضلال هاهنا
العقاب، فكأنه قال: ومن يرد أن يعاقبه يقدم له ضيق الصدر إما في حياته، أو عند
موته بما يبشر به من عذاب ربه.
ولا يجوز أن يحمل شيء من الإضلال المضاف إليه تعالى على أن
المراد به الإغواء عن الإيمان، أو الاستدعاء إلى الكفر؛ لأن ذلك كله قبيح، والله
سبحانه لا يأمر به، ولا يوقع فيه، وكيف يكون ذلك وقد نهى عنه النهي البليغ، وتوعد
عليه الوعد العظيم، وذم من فعله من شياطين الجن والإنس بقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ
جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ}[يس:62]، {وَأَضَلَّهُمُ
السَّامِرِيُّ}[طه:85]، وقوله: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ
وَمَا هَدَى}[طه:79]، وأمثال ذلك.
فمتى حملت آيات القرآن الكريم على هذا الوجه لم تتناقض، وصح
أن بعضها شاهد بصحة البعض ومؤيد له، وشهد التدبر لآياته أنه بريء من الاختلاف
الموقع في الحيرة كما قال تعالى: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ وَلَوْ
كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا}[النساء:82].
اعلم أن مذهب الأئمة الطاهرين من أهل البيت
سلام الله عليهم أجمعين، ومن طابقهم من علماء المسلمين أن الله سبحانه خلق جميع
عباده العقلاء في هذه الدنيا لعبادته، وأرادها من جميعهم، ومكنهم من فعلها، وما
كلف أحداً من ذلك ما لا يطيقه، ولا حال بين أحد وبين فعل الصلاح وطلب النجاة، فمن
أطاعه منهم، واحتمل باختياره مشقة الطاعة استحق بذلك عظيم الثواب، ومن عصاه منهم
فباختيار نفسه الأمارة بالسوء عصى، ومنها أتي لا من الله سبحانه، وهو يستحق بذلك
العقاب العظيم.
والمجبرة تخالف في هذه الجملة فعندهم أن الله سبحانه خلق
أكثر خلقه ليستعملهم بالكفر في الدنيا، ويسوقهم به إلى النار.
والذي يدل على صحة ما ذهبنا إليه وفساد قولهم هذا قوله
تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}[الذاريات:56]، فالله
تعالى أخبر أنه ما خلق أحداً منهم إلا للعبادة واسم الجن والإنس اسم جنس معرَّف
بالألف واللام فيستغرق جميع الجن والإنس، ويدخل تحته الكافة منهم إلا ما اقتضى
الدليل إخراجه من الأطفال الذين يموتون قبل بلوغ حال التكليف، ومن المجانين الذين
لا هداية لهم إلى القيام بالعبادة، فإنا نعلم بأدلة العقول خروجهم مما اقتضاه
العموم، لعلمنا بأن الله سبحانه حكيم لا يكلف العباد إلا ما يمكنهم القيام بها.
وذهبت المجبرة إلى أن الله تعالى لا يريد من أكثر الخلق وهم
الكفار شيئاً من الطاعات؛ بل أراد منهم الكفر والمعاصي.
وقد دللنا فيما تقدم على فساد ذلك، ويدل عليه قوله سبحانه: {يُرِيدُ
اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}[البقرة:185]، واليسر:
هو النفع الخالص وما يؤدي إليه، ولا شك أن الثواب أعظم المنافع، والذي يؤدي إليه
الطاعات، فوجب أن يكون مريداً لها.
والعسر: هو الضرر الخالص وما
يؤدي إليه، وأعظم المضار النار، والذي يؤدي إليها المعاصي، فوجب أن لا يكون مريداً
لها.
وذهبت المجبرة إلى أنه يجوز منه تعالى أن يكلف ما لا يطاق،
ومنهم من يقول: قد وقع منه ذلك.
والذي يدل على فساد ذلك قوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ
اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:286]، وقوله تعالى: {لَا
تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}[البقرة:233]، وأمثال ذلك مما
يكثر.
ولأن تكليف ما لا يطاق قبيح، ومعلوم قبحه عند من له تمييز
من العقلاء، ولهذا يقبح تكليف الأعمى بنقط المصاحف على جهة الاستقامة والصواب،
وتكليف من لا جناح له بالطيران، والله تعالى لا يفعل القبيح لعلمه بقبحه، وعلمه
بغناه عنه على ما تقدم بيانه.
وبهذا يعلم أنه تعالى لا يحول بين أحد من خلقه وبين شيء من
طاعاته، بخلاف ما يتوهمه من لا معرفة له، إذ لو حال بينهم وبين شيء من طاعاته التي
أمرهم بها، لكان قد كلفهم ما لا يطيقون، وذلك لا يجوز.
وقد تعلق المخالف بأشياء، منها:
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا
مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ...}الآية[الأعراف:179]، قالوا: فالله سبحانه
أخبر أنه خلق كثيراً من خلقه للنار، وهو خلاف ما تذهبون إليه.
والجواب: أنه تعالى أخبر بذلك
عن عاقبة أمرهم لا عن مقصوده بهم أنه خلقهم للنار، وهذه اللام تسمى في اللغة لام
العاقبة، نحو قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ ءَالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ
عَدُوًّا وَحَزَنًا}[القصص:8]، والمعلوم أن غرضهم
بالتقاطهم إياه أن يكون لهم ولداً وقرة عين، كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {وَقَالَتِ
امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ
يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ}[القصص:9]، فلهذا
التقطوه، لكنه لما كان المعلوم عند الله سبحانه أن عاقبة أمرهم أن يكون لهم عدواً
وحزناً جاز أن يخبر عن عاقبة أمرهم حتى كأنه مقصودهم به، وإن كانوا لم يقصدوا ذلك.
وهذا النوع من الكلام معروف في اللغة وبه وردت الأشعار، قال
بعضهم:
أموالنا لذوي
الميراث نجمعها
|
ودورنا لخراب الدهر
نبنيها
|
وقال آخر:
لِدوا للموت وابنوا
للخراب
|
فكلكم يصير إلى ذهاب
|
وذلك ظاهر، فكأنه تعالى قال: ولقد ذرأنا خلقاً كثيراً نعلم
أن عاقبتهم المصير إلى النار لسوء اختيارهم، وقبح أعمالهم، وإن كنا خلقناهم
للعبادة والتعريض للجنة.
كما أن تقدير الآية الأخرى كأنه قال: فالتقطه آل فرعون
والمعلوم من حاله أن يكون لهم عدواً وحزناً، وإن كانوا لم يلتقطوه إلا ليكون لهم
ولداً وقرة عين.
وكما أن تقدير كلام الشاعر كأنه قال: نجمع أموالاً المعلوم
من حالها أنها تصير للورثة، ونبني دوراً المعلوم من حالها أنها تصير إلى الخراب،
وإن كنا نعلم أنهم لم يجمعوا الأموال إلا لتكون لهم عدة عند النوائب، ولا بنوا
الدور إلا لتكون لهم مأوى يستقرون فيها، وهذا ظاهر.
وعلى هذا النحو يجري الكلام فيما يشبه هذه الآية من نحو
قوله تعالى: {وَلَا يَحْسِبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ
خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا}[آل
عمران:178]،
فإن اللام في قوله: {لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} هي لام العاقبة؛ فكأنه قال:
نملي لهم ونحن نعلم من حالهم أنهم يزدادون إثماً لسوء اختيارهم، فعلى هذا النحو
يجري الكلام فيما هو من هذا الجنس.
وإذا حملت هذه الآيات على هذا التأويل لم يخالف قوله تعالى:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وأمثالها من
الآيات التي قدمنا ذكرها، ولم تخالف أدلة العقول التي دلت على عدله تعالى وحكمته
وعظيم رحمته لخليقته، وأنه تعالى: {لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11]، كما تمدح بذلك في
كتابه المبين.
ومما تعلق به المخالف: الآيات
التي فيها ذكر الطبع والختم والغشاوة والأكنة والأسدة، وظنوا أن لهم في ذلك علقة،
وليس فيه ما ظنوه.
لأن المراد بالطبع والختم علامة يظهرها الله سبحانه على
قلوب الكفار ليعرف بها الملائكة عَلَيْهم السَّلام ما يبطنونه من الكفر، وليميزوا
بينهم وبين غيرهم، فيلحقون بهم ما يستحقون من الذم والبراءة واللعن، وذلك في الطبع
والختم معروف، يقال: طبع فلان الدرهم والدينار، معناه: جعل عليها علامة منقوشة
ليُمَيَّزَا من غيرهما، والطابع هو آلة العلامات.
ويقال: ختم الباب والكتاب، بمعنى جعل عليهما علامة يتعرف
بها أحوالهما في الصيانة وخلافها، وليس ذلك مانعاً من الإيمان، ولهذا قال تعالى: {بَلْ
طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا}[النساء:155]، فأخبر أن
قليلاً منهم يؤمنون، فلو كان ذلك مانعاً من الإيمان لما صح من القليل ولا الكثير،
ولا يصح أن يقال: إن الطبع هو خلق الكفر؛ لأن الله سبحانه قد أبطل ذلك بقوله: {بَلْ
طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فأخبر أن الطبع كان سببه([14])
الكفر، ولا يكون هو الكفر كما إذا قال: {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ}[الأنفال:52]، لم يكن
الأخذ هو الذنوب، وذلك ظاهر.
فأما ذكره الغشاوة والأكنة والأسدَّة، وذكره أنهم صم بكم
عمي، فإن المقصود بذلك هو تمثيلهم بمن هذه حاله؛ لا أنهم كانوا في الحقيقة كذلك،
فإنا قد علمنا أنهم كانوا يبصرون ويسمعون ويعقلون ما يتصرفون فيه، فلولا كونهم
كذلك لم يلزمهم حجة، ولكنهم لما لم ينتفعوا بأبصارهم وأسماعهم وعقولهم في أمور
الدنيا صارت كالمعدومة وكالمحجوبة بالأكنة والأسدة، وما جرى هذا المجرى كما وصفهم
تعالى بأنهم صم بكم عمي، وأراد بذلك أنهم في عدم الانتفاع بهذه الحواس والعقول في
أمر الدين صاروا بمنزلة من عدمها، وهذه طريقة للعرب معروفة، قال الأفوه الأودي([15]):
منا معاشر لم يبنوا
لقومهم
كيف الرشاد وقد صرنا إلى ملئٍ |
وإن بنى قومهم ما
أفسدوا عادوا
لهم عن الرشد أغلال وأقياد |
فأراد تمثيلهم بمن هذه حاله وإن لم يكونوا في الحقيقة كذلك.
ومما تعلق المخالف به: قصة إبليس
وخلق الله سبحانه له، قالوا: لماذا خلقه لولا أنه يريد إغواءه للناس سيما وقد قال
تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ
أَزًّا}[مريم:83]؟
والجواب: أن إبليس لعنه الله
واحد من الجن، والجن مخلوقون للعبادة، كما أخبر سبحانه بقوله: {وَمَا خَلَقْتُ
الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}، وإنما عصى وخالف مراد الله تعالى
فاستحق اللعنة بذلك، وأنظره الله سبحانه إلى فناء مدته، كما أنظر غيره من الكفرة
ولم يعاجلهم بالعقوبة، وقد توعده على إضلال الخلق ونهاه عنه، كما نهى غيره من
شياطين الإنس، وذلك كله يدل على أنه كاره لما يجري منه من الضلال والإضلال، كما هو
كاره لذلك من غيره على ما تقدم بيانه.
بل قد نهى الخلق عن اتباعه وطاعته فيما يدعو إليه، وتوعدهم
بالعقاب على ذلك فقال تعالى: {يَابَنِي ءَادَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ
الشَّيْطَانُ}[الأعراف:27]، وقال: {اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ
مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا}[الإسراء:63]، وغير
ذلك.
فأما قوله تعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ
عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا}، فالإرسال قد يستعمل في معنيين:
أحدهما: الأمر بالشيء والحث
عليه، كما أرسل الله سبحانه رسله عَلَيْهم السَّلام لهداية الناس وإرشادهم.
والثاني: التخلية التي معناها
أنه لم يمنع، كما يقال: أرسل فلان ناقته ودابته، بمعنى خلاهما ولم يمنعهما، فإرسال
الله الشياطين على الكافرين بهذا المعنى؛ لأن معناه أنه خلى بينهم وبينهم، ولم يصرفهم
عنهم بألطافه وزيادته في الهدى، من حيث أن الكفار لم يهتدوا بالهدى الأول، وقد
بينا أن الزيادة تختص بالمهتدين.
فلما لم يمنعهم عنهم بشيء من ذلك جاز أن يقول: إنا أرسلنا؛
لأن الله سبحانه لا يجوز أن يأمر الشياطين بإغواء الكفار لأن ذلك من الفواحش،
والله سبحانه لا يأمر بالفحشاء، وهذا ظاهر.
وكذلك قوله تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ}[فصلت:25]، وقوله: {نُقَيِّضْ
لَهُ شَيْطَانًا فَهْوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزخرف:36]، معناه:
التخلية كما سبق، وقد قيل: هم الشياطين الذين يقرنون بهم في النار.
والشيطان فليس بغالب لأحد من العباد على أمره، بل داع يدعو
إلى الشر، فمن أطاعه فقد ظلم نفسه، إذ هو قادر على مخالفته فاللوم على من أطاعه في
ذلك لا على الله سبحانه، ولهذا قال تعالى فيه: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ
عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(99) إِنَّمَا
سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ(100)}[النحل].
وحكى عنه ذلك بقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا
قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ
فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ
دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ...}الآية[إبراهيم:22].
ومما تعلقوا به الآيات التي يذكر
فيها تزيين الأعمال، ويظنون أن الله سبحانه وتعالى زين لأحد شيئاً من المعاصي،
ومعاذ الله أن يكون كذلك، بل لم يزين تعالى إلا فعل الصلاح كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ
إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ}[الحجرات:7]، وتزيين
الله سبحانه لذلك في القلوب هو بما عرفهم من حسن هذه الأفعال، ورغبهم فيها بالثواب
العظيم، ودعاهم إليها، وكذلك كرَّه المعاصي إليهم بما عرفهم من قبحها، وصرفهم عنها
بالنهي البليغ والوعيد الشديد، وجميع ما فعله الله سبحانه من ذلك مع المؤمنين فقد
فعله مع الكفار؛ لأن الكل مأمور بالإيمان منهي عن الكفر، مدعو إلى الطاعة، مصروف
عن المعصية، موعود بالثواب على الخير، متوعد بالعقاب على الشر، وذلك ظاهر.
فأما قوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ
عَمَلَهُمْ}[الأنعام:108]، وقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ
أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ}[النمل:4]، وما جرى هذا المجرى
فإن المراد به أنه تعالى زين لهم الأعمال الصالحة التي أمرهم بها على ما قدمنا
بيانه، وإنما سماها أعمالاً لهم وإن لم يكونوا عملوها لأجل أنه يجب عليهم فعلها،
كما يقول القائل: أقوم لعملي فأعمله، فيسمى ذلك عملاً له قبل وجوده، وكذلك يقال:
ضيع فلان صلاته إذا لم يفعلها، فنسبت إليه من حيث كان يجب عليه فعلها، وكذلك منع
زكاته، وذلك معلوم فيما بينا.
فلم يكن فيما تعلقوا به دلالة على أن الله سبحانه مزين
للمعاصي، وإنما المزين لذلك هو شياطين الجن والإنس كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم
بقوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ
لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ}[الأنفال:48]، وقال: {وَزَيَّنَ
لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ}[النمل:24]، وقال: {وَكَذَلِكَ
زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ
لِيُرْدُوهُمْ}[الأنعام:137]، ومعنى هذا التزيين هو: أنهم رغبوهم في
فعل هذه المعاصي، وأوهموهم خفة الأمر فيها، أو زوال العقاب عن فعلها.
فإذا عرفت هذا الأصل صرفت كل آية مما فيه ذكر التزيين إلى
ما يليق به من المعاني لتكون من أولي الألباب المبشرين بطوبى وحسن مآب، قال الله
سبحانه: {فَبَشِّرْ عِبَادِ(17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ
فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ
هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ(18)}[الزمر].
وهذا هو الواجب على كل عاقل، فإن تغرير الإنسان بنفسه في
قبول كل غث وسمين من أقاويل الآباء والمشائخ القدماء مما لا عذر له فيه ولا خلاص
له معه، وألزم الفروض له قبول النصيحة التي هي أفضل الهدايا، وأجزل المنح
والعطايا.
وقد روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْه وآله وسَلَّم أنه
قال: ((ما أهدى المسلمُ لأخيه المسلم هديَّةً أفضلَ من كلمةِ حكمةٍ يسمعها،
فانطوى عليها ثم علَّمه إياها، يزيده الله بها هدى، أو يردهُ عن ردى، وإنها
لتعدِلُ إحياءَ نفسٍ، ومن أحياها فكأنما أحيا الناسَ جميعاً)).
فنسأل الله سبحانه أن يجعلنا من القائلين بالنصائح،
الفائزين بالعمل الصالح، المتخذين التقوى عدة وزاداً، المتمسكين بالحق قولاً
وعملاً واعتقاداً، بمنه ولطفه.
تمت خلاصة
الفوائد بعون الله ومنه
والحمد لله وحده وصلواته وسلامه على سيدنا محمد
النبي وآله الأخيار الطاهرين، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
بلغ مقابلة على الأم بعناية مالكه الفقير إلى الله تعالى
إبراهيم بن عبدالله الحيي بحسب الطاقة والإمكان يوم الأحد سابع عشر شهر الحجة
الحرام سنة 1024هـ بلغه الله حفظ معانيه والعمل بما فيه إنه على ذلك قدير
وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire