تأليف/ يحيى محمد المؤيد
مراجعة وتصحيح
عبد الرحمن محمد المروني
تقريظ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله.
فقد اطلعت على الكتاب المسمى (طالب يبحث عن عقيدة صحيحة) فوجدته يصلح للأستاذ من ناحية الأسلوب وللطالب من باب الاستفادة، لذا نشكر المؤلف ونأمل منه المزيد من هذا العمل.
كما أني أرى تدريسه ضمن المنهج الدراسي للمراكز الصيفية.
والله الموفق.
5 رمضان / 1420ه
المفتقر إلى الله /
أحمد بن صلاح الهادي وفقه الله.
مقدمة
عندما تسري العقائد الفاسدة وتتسلل إلى عقول الأجيال الصغيرة التي لا تزال خالية من أي تحصينات سابقة فإن أصحاب هذه العقائد الفاسدة يتمكنون من تغيير مسارات الأمم ونسف كل المبادئ.
ففي هذه المرحلة المبكرة يكون الفتى قابلاً لكل ما يلقى عليه (فقلب الحدث كالأرض الخالية ما ألقى فيها قبلته) .... كما يقول أمير المؤمنين.
وعلى حين غرة من أرباب العلم والمعرفة غُزيت الديار اليمنيه بعقائد زائفة لُقِّنت لصغار السن والبسطاء من الناس فاغتروا بها وتوافقت مع سطحية عقولهم وبساطة تفكيرهم.
وزاد الأمر سوءاً أن تلك العقائد الزائفة أتت وهي تلبس ثوباً ناصع البياض له بريق يوهم الناظر إليه أنه هو الحق.
ولذلك وجب على كل صاحب قلم قادر على العطاء أن يبادر إلى تبديد تلك الشبة الزائفة في أسلوب مبسط يستطيع أن يفهمه الجميع.
ما بين يديك عزيزي القارئ هو قصة قصيرة تحمل حلاً لكثير من تلك الشبه في إسلوب شيق ومبسط.
أسأل الله أن يجعلها خالصة لوجهه..
(1)
كانت ساعات الليل تمر .. وضجيج تلك المدينة يخفت شيئاً .. فشيئاً، فالباعة وأصحاب المعارض قد ذهب كلٌ إلى داره بعد يوم صاخب من البيع والشراء والعمل الكد..
وعاد أبو محمد إلى داره مرهقاً يسرع في الخطى مشتاقاً إلى الجلوس في أوساط أهل بيته .. وبعد لحظات من السمر والحديث جعل الأب يتلفت يميناً وشمالاً فلم ير ولده محمد يجلس بينهم كعادته..
أبو محمد: عجباً !! .. أين محمد هذه الليلة؟!
أم محمد: هو جالس في غرفته .. يقرأ في بعض الكتب .. لاشك أنه يبحث عن شيء مهم..!
أبو محمد: ألم يُنْهِ الامتحانات منذ أسبوع.!!
أم محمد: نعم .. ولكنه عاد اليوم بعد صلاة العشاء محتاراً شارد الذهن، وكأن شيئاً يشغل باله، فاتجه إلى المكتبة مباشرة، وأخذ بعض الكتب، وأتجه إلى غرفته ورجاني أن لايزعجه أحد.
قام الأب من مجلسه واتجة بخطى خفيفة نحو غرفة محمد.
فتح الباب في هدوء وجعل يتأمل دون أن يحدث صوتاً .. يتأمل ذلك الفتى الذي كان قد انكب على الكتب فيها بعناية شديدة.
* **
كان محمد هو الولد الأكبر لوالده، وكان قد أنهى دارسته بالصف التاسع الأساسي قبل أسبوع..
تقدم أبو محمد من ولده .. ووضع يده على رأسه ثم نظر في وجهه الذي كان العرق يتصبب على جبينه..
الأب: لا أدري أي شيء عاد بك إلى الكتب وأنت قبل أيام تقول إنك لن تضع بين يديك كتاباً طوال العطلة.. فقد مللت الكتب وكرهت حتى رؤيتها..!!.
محمد: معاذ الله يا أبي .. بل أحيا وأموت بينها، فوالله لقد سمعت اليوم كلاماً، إقشعر له جسمي، واستنكره كل عضو في جسدي، فجلست هنا لعلِّي أجد في هذه الكتب ما يذهب حيرتي.
أبو محمد: ماذا تقصد يا ولدي؟ .. لم أفهم؟!.
محمد: سأقص عليك يا أبي ما حدث .. تفضل بالجلوس..
وجعل محمد يصلح مكاناً لأبيه..
أبو محمد: ها أنا جلست تفضل يا ولدي قص علىَّ ماحدث..
محمد: بينما كنت أمر بالأمس في أحد الشوارع .. رأيت إعلاناً عن محاضرة في أحد الجوامع .. كان الإعلان عن محاضرة عن الإيمان بالله ومعرفته .. ستقام ما بين المغرب والعشاء .. ففكرت أن أحضر هذه المحاضرة .. فما نأخذه في المدرسة لم يكن ليكفيني أن ألم بهذا الموضوع.
أبو محمد -مقاطعاً: ثم ماذا؟
محمد: دخلت ذلك المسجد بعد أداء صلاة المغرب .. وبدأ المحاضر في تقديم محاضرته .. لقد بدأ يتحدث في صفات الله .. شرح في أول محاضرته معنى: (إن الله خلق آدم على صورته) وأسند هذا القول إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم قال: بأن لله قدمٌ .. ثم أثبت لله العين واليدين .. وأخبرنا: أن الله يجلس على العرش .. وأن عرش الله في السماء .. وأنه تعالى ينزل ويصعد .. وأطال الحديث حتى ظننت أن لله جسم كأجسامنا نحن البشر..!!.
ومع هذا ياأبي كان يستدل على كل فقره بآية من كتاب الله أو حديث من سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وبعد أن أكمل محاضرته وصلينا العشاء خرجت من المسجد مذهولاً ..
لا أدري من أصدق أأصدق قول ذلك المحاضر؟ .. أم أصدق خطيب الجمعة الذي سمعته أكثر من مرة يخطب في هذا الموضوع ويقرأ علينا قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِير}.
كان محمد يتحدث في إنفعال وبلهجة باكية..
ثم ارتمى محمد بين يدي أبيه .. وهو في أشد الإنفعال .. وهو يقول:
- لقد صرت لا أعرف الله .. لقد صرت لا أعرف ربي .. أحقاً يا أبي أن الله كما يقولون..؟!!.
ضم أبو محمد ولده إلى صدره، وسالت دمعتان من عينيه عبرَّ فيها عن المرارة التي كان يتجرعها أثناء حديث ولده .. وجعل يقول لولده:
- خفف من روعك يا ولدي .. تعالى الله عما يقول الجاهلون.. {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ}.. ثم قال:
- أجلس يا ولدي .. فلعلي بمعرفتي القاصرة .. أدلك على ما يوافق فطرتك السليمة .. ويوضح لك بعض هذه الشُّبَه الضالة..
***
وجلس محمد وهو ينظر إلى والده في ثقة أنه سيدله على طريق الرشد..
أبو محمد: يابني .. إن مثل هذه الأفكار دخيلة على الإسلام، وليست من الإسلام في شيء، وهي دخيلة على بلادنا اليمنية .. فهي بلد طيبة شهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأهلها بالإيمان والحكمة فقال: ((الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية)) ولم يكن أهلها يعرفون هذه العقائد الفاسدة إلا منذ زمن قريب.
ولكن يا بني .. ما سألت عنه ليس من الممكن أن تفهمه في يوم وليلة .. فلا بد من الإطلاع والبحث والدراسة على يد مدرس يعرف هذه الشبه وكيف يجيب عنها.
محمد: دلني يا أبي على هذه المدرس، فو الله لو كان في أقصى الأرض .. لبحثت عنه .. وذهبت إليه.
أبو محمد: نعم يابني .. لقد بلغني أن هناك مراكز تفتح أبوابها في بداية كل عطلة صيفية ولا شك أن هناك فيها من المدرسين من يدلك على طريق الحق، ويجيب عن كل ما يدور بخاطرك من أسئلة واستفسارات.
محمد: إذا .. فمتى أذهب إلى هذه المراكز يا أبي؟ .. إني لن أشعر بالراحة حتى أعرف الله حق معرفته.
أبو محمد: نَمْ هذه الليلة وغداً إن شاء الله أسافر معك .. لتلتحق بالمركز الصيفي .. إن شاء الله.
(2)
أكمل محمد التسجيل وتوجه إلى فصله، وهو لايكاد يملك نفسه من الفرحه .. لقد التقى بالكثير من الأساتذة والزملاء .. ورأى الكثير من الوجوه .. التي لمس فيها الخير والحنو..
ولكنه كان يبحث عن ضالته المنشودة .. لقد كان يبحث عن مدرس العقيدة .. فعشرات الأسئلة كانت تدور في رأسه.
وأشرق النور وتحقق المراد .. فمع الدقيقة الأولى من الحصة .. كان أحد المدرسين يدخل الفصل الذي يجلس فيه محمد..
المدرس: أهلاً بكم يا أبنائي الطلاب في مركزكم الصيفي للعلوم الإسلامية .. سرني أن أكون مدرساً لكم في العقيدة الإسلامية .. وقبل أن ندخل في دروس العقيدة .. أود أن أحدثكم عن أهمية هذه المادة..
كان محمد يركز ذهنه مع المدرس .. ويرهف سمعه مخافة أن يفوته شيءَّ من كلامه..
المدرس: يا أبنائي إن هذه المادة تقودنا إلى معرفة الله حق معرفته .. فأول مايجب على الإنسان في هذه الحياة هو أن يعرف الله سبحانه ..
ولذلك نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعرض عن ذلك الأعرابي الذي جاء إليه يسأله أن يدله على أفضل العمل .. فقال له -ثلاث مرات-
((العلم بالله)).
ولذلك نرى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اعرض عن ذلك الأعرابي الذي جاء إليه يسأله أن يدله على أفضل العمل .. فقال له -ثلاث مرات-
((العلم بالله)).
فيقول الرجل مستنكراً: أسألك عن أفضل العمل، فتجيبني بالعلم ..
فيقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
((ويحك .. إنه مع العلم ينفعك قليل العمل وكثيره، وإنه مع الجهل لاينفعك قليل العمل ولا كثيره)).
((ويحك .. إنه مع العلم ينفعك قليل العمل وكثيره، وإنه مع الجهل لاينفعك قليل العمل ولا كثيره)).
من هذا نعرف يا أبنائي أن الذي يكثر من الصلاة والصيام والأعمال الصالحة وهو لايعرف الله، فإن أعماله تلك قد تكون غير مقبولة، لأن قبول الأعمال مترتب على صحة الاعتقاد.
محمد: ولكن كيف يجب أن نعرف الله؟
المدرس: يا أبنائي لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف يجب أن نعرف الله؟:
فقد أتاه رجل .. فقال: يا رسول الله، علمني من غرائب العلم.
فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((وماذا صنعت في رأس عن العلم حتى تسألني عن غرائبه؟)).
فقال الرجل: وما رأس العلم يارسول الله..؟
قال له الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
((أن تعرف الله حق معرفته)).
((أن تعرف الله حق معرفته)).
قال: ومامعرفة الله حق معرفته؟.
قال:
((أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه، وأن تعرفه إلهاً واحداً، أولاً آخراً، ظاهراً باطناً، لاكفؤ له ولا مثيل )).
((أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه، وأن تعرفه إلهاً واحداً، أولاً آخراً، ظاهراً باطناً، لاكفؤ له ولا مثيل )).
ثم تابع المعلم حديثه قائلاً: والله تعالى يقول: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: 11].
محمد: معذرة يا أستاذي.. هل تسمح لي في سؤال آخر.
المدرس: تفضل..
محمد: ولكن ماهي طريقنا إلى معرفة الله، ومعرفة صفاته؟
المدرس: أحسنت يا محمد هذا هو موضوع درسنا في الحصة القادمة إن شاء الله.
(3)
أشرقت شمس اليوم الثاني من الدورة الصيفية، وخرج الطلاب إلى ساحة الطابور وقد أدوا فريضة صلاة الفجر، وتناولوا وجبة الإفطار وأمتزجوا بروح الإنس والحب، وحفتهم ملائكة الرحمة.
ودخل مدرس العقيدة إلى طلابه والإبتسامة تملأ ثغره، فألقى التحية وتبادل معهم بعض الأسئلة عن درس الأمس.
المدرس: هل فيكم من فكر يا أبنائي في إجابة سؤال محمد في آخر حصة الأمس .. ماهي طريقنا إلى معرفة الله؟
رفع عليّ يده، فإشار إليه المدرس أن يجيب.
علي: نعم يا أستاذي .. فقد فكرت كثيراً في إجابة السؤال .. فلم أجد طريقاً إلى معرفة الله يمكن لكل الناس استخدامها - العالم والمتعلم والعامي- إلا التفكر.
المدرس: وماذا تعني بالتفكر يا علي.
علي: أعني يا أستاذ أن يستخدم الإنسان عقله في التفكر في المخلوقات في الأرض، والسماء، ومافيهن، فإذا عرف أن وجود مثل هذه المخلوقات يحتاج إلى فاعل بوجود الله سبحانه وتعالى.
المدرس: أحسنت .. أحسنت يا علي.
وإن مما يدل على أن الله يريد منا أن نستخدم عقولنا في معرفته أننا، نجده يقول في كتابه العزيز ..
{أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}.
{أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إلى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}.
محمد: ولكنه يقول: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ}، ولم يقل: أفلا يتفكرون.
المدرس: أشكرك يا محمد على هذه الملاحظة.
ثم التفت المدرس إلى الطلاب قائلاً: يا أبنائي .. هل كانت العرب ترى الإبل (الجِمال) وينظرون إليها بأعينهم.
زيد: نعم يا أستاذي .. فكيف لا ينظرون إليها .. وهي رفيق أسفارهم، ورواحل تجارتهم، ومحط عنايتهم.
المدرس: فمن هذا نعرف أن الله لايمكن أن يدعوهم إلى فعل شيء هم يمارسونه على الدوام، وأن المقصود بالنظر هنا هو التفكر .. كأنه يقول: أفلا تتفكرون.
وهناك يا أبنائي الكثير من الآيات يطلق فيها لفظ النظر .. والمقصود به التفكر.
مثل قوله تعالى: { فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ} أي فليتفكر من أي شيءٍ كان بداية خلقه.
(4)
بينما كان الطلاب واقفين في الطابور الصباحي، سبقهم مدرس العقيدة إلى الفصل .. وصنع بعض الرسمات الجميلة على السبورة.
فلما دخل الطلاب إلى الفصل .. جعل عدد منهم يتأمل تلك الرسوم في إعجاب شديد.
محمد- وهو ينظر إلى علي: من رسم هذه الرسوم الجميلة ياعلي؟
علي: لست أدري من رسمها.. ولكن لعله أحد الزملاء.
وجعل الطلاب يسأل بعضهم بعضاً لكن أحداً من الطلاب لم يقل بأنه مَنْ أعد تلك الرسوم.
محمد: لا بد أن فاعلاً فعل هذا !!.
علي: نعم يا محمد .. فالعدم لايصنع شيئاً.
زيد: يبدو أن صاحب هذه الرسوم لديه القدرة على هذه الرسوم.
عمار: بل إن هذه الدقة في التركيب وتنسيق الألون تدل على أنه عالم في الرسم.
كان المدرس يستمع إلى هذا الحوار من مكان قريب لم يشعر الطلاب بوجوده .. فلما أكتمل الحوار دخل عليهم.
المدرس: أحسنتم يا أبنائي فيما توصلتم إليه من آراء حول من رسم هذه اللوحة .. ولا بد أيضاً أن يكون موجوداً .. لأن الفعل لا يكون إلا من فاعل والفاعل لا يكون إلا قادراً .. فهل لي أن أسأل .. هل يمكن أن يكون الفاعل القادر ميتاً أو جماداً؟
محمد: ولا بد أن يكون حياً.
المدرس: وهل يمكن أن يكون صانع هذه اللوحة جاهلاً بفن الرسم؟
عبد الله: إنما فيها من دقة وإحكام يدل على أنه عالم بفن الرسم.
المدرس: فتعالوا معي في رحلة قصيرة ننظر فيها إلى بعض مخلوقات الله .. لتدلنا على صفات الله..
***
وعلى قمة جبل مرتفع، وقف مدرس العقيدة مع طلابه ليستمتعوا بالنظر إلى تلك المناظر الطبيعية الجميلة.
المدرس: أترون يا أبنائي هذه الشمس الساطعة الأنور .. وهذه السهول الخضراء .. وهذا النسيم الرائع .. إن كل شيء في هذا الكون ينطق بأن الله قادر .. عالم .. حي .. موجود .. وكل شيء في هذا الكون يشهد بوحدانيته.
فهذا التناسق في الخلق والإبداع في الصنع يدل على أن صانعه واحد، فلو كان هناك أكثر من إله لفسدت السموات والأرض، يقول تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا}[الأنبياء:22]، وقال جل وعلا: {مَا اتَّخَذَ الله مِنْ وَلَدٍ
وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [المؤمنون: 91].
محمد: إني أشعر وأنا أتفكر في مخلوقات الله أن كل شيء في هذا الوجود يحدثي عن عظمة الله، فكل ماأراه أمامي صار يذكرني بوجود الله ووحدانيته وقدرته وعلمه.
المدرس: بعد هذا الدرس يا أبنائي عليكم أن تكثروا من التأمل والتفكر في مخلوقات الله ليزداد إيمانكم بالله سبحانه وتعالى فقد ورد في الأثر: (تفكر ساعة خير من عبادة سنة).
(5)
كان الأُنس والراحة والإطمئنان يملئان قلب محمد، فقد وجد في المركز إخواناً ملكوا عليه قبله، وآباءً غمروه بفيض حنانهم .. فهو لم يشعر بالغربة والبعد عن الأهل منذ وصوله إلى المركز.
لكن شبح ذلك المحاضر .. كان يشغل ذهنه ويزوره في أحلامه .. كانت كلماته وهو يصف الله لازالت أصداؤها تضج في أعماقه .. فتزيده حباً في الإطلاع والبحث .. كان قد قرر أن يطرح أسئلته على مدرس العقيدة بكل شوق.
المدرس: السلام عليكم ورحمة الله بركاته.
التلاميذ: وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
وبعد أن كتب المدرس عنوان الدرس {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلتفت إلى طلابه وقال:
- اسمعوني يا أبنائي .. لقد تحدثنا بالأمس عن بعض صفات بارئ هذا الكون - الله رب العالمين- قلنا بأنه موجود .. وأنه عالم .. وأنه قادر .. وأنه حيّ .. وقد يفكر البعض فيقول وكذا كل إنسان فينا .. موجود .. عالم .. قادر .. حي.
وأريد أن أحدثكم في هذا اليوم عن الفرق بين إطلاق هذه الصفات علينا وإطلاقها على الله .. فليس هناك أدنى مشابهة بيننا وبين الله .. فمن منكم قد فكر في الفرق بين صفة الوجود عندما تطلق على الله وعلينا.
حسن: عندما أقول بأني موجود .. يعني أني كنت معدوما ثم وجدت .. أي أن هناك فترة من الزمان مرت ولم أكن فيها موجوداً .. وأنه يمكن أن تأتي فترة من الزمن ثم أعدم.
المدرس: أحسنت .. أما عندما نطلق هذه الصفة على الله فمعنى ذلك أنه الله موجودٌ في الأزل، أي أنه لم يأتِ عليه زمان لم يكن فيه موجوداً ولا يأتي زمان فيكون غير موجود {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ}.
حسين: أما صفة العلم .. فمعناها في حق الإنسان أنه كان جاهلاً ثم تعلم .. فاستحق هذه الصفة وأنه يمكن أن يسلب منه هذا العلم فيصير جهالاً.
المدرس: أما علم الله يا أبنائي فهو علم لايدخل معه جهلٌ في وقت من الأوقات .. فهو عالم بما كان في الماضي وبما سيكون في المستقبل وبما يكون في الحاضر{عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ}.
محمد: ياسبحان الله .. ما أقل وأحقر علمنا عند علم الله، فما أصدقه من قائل {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً}..
فما الفرق يا أستاذي بين صفة القدرة عندنا وعند الله؟.
المدرس: إن قدرتنا يا محمد قدرة محدودة .. فمن كان بالأمس قادراً يمكن أن يصبح عاجزاً .. كما هو حال الإنسان {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} قدرتنا أوجدت فينا .. ويمكن أن تسلب عنا في أي وقت..
أما قدرة الله فهي تلك القدرة التي لا تعجز عن إيجاد شيء {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.. هو الذي يقول للشيء كن فيكون .. قدرة توجد الإشياء من العدم بعد إذ لم تكن .. فسبحان الله ما أعظمه.
المؤيد: قرأت في بعض الكتب أن الله يوصف بأنه قديم، ونحن نصف الأشياء بأنها قديمة .. فماذا تعني هذه الصفة في حق الله تعالى؟.
المدرس: يعني يا أبنائي أنه الذي لا أول لوجود .. أما إذا أطلقنا هذه الصفة على بعض الأشياء فهي تعني .. أنه قد مضى عليها فتره زمنيه.
وفي هذه اللحظة كان المسئول الفني بالمركز قد أعلن عن انتهاء الحصة .. فجمع مدرس العقيدة أدواته وودع طلابه وأراد الخروج.
ولكن محمداً استوقفه وقال: يا إستاذي .. ولكن هناك بعض الآيات والأحاديث يفهم منها المشابهة بيننا وبين الله.
الأستاذ: معذرة يا محمد الوقت قد انتهى .. ولكن أعدكم أن يكون حديثنا في الحصة القادمة عن هذا الموضوع إن شاء الله .. أستودعكم الله..
(6)
لم تكن أم محمد قد إعتادت أن تفارق ولدها منذ كان طفلاً صغيراً .. ولذلك إشتد شوقها إليه وقلقها عليه..
وبعد أن عاد أبو محمد إلى الدار .. أقبلت أم محمد عليه..
أم محمد: يا أبا محمد .. إني لم أعد أستطيع أن أكتم شوقي إلى محمد .. فقد صرت لا أكف عن التفكير فيه .. لقد اشتد شوقي إليه.
أبو محمد: صبراً أم محمد .. فغداً أذهب إلى المركز وأصطحبه معي إليك لتريه وتطمئني عليه.
وبالفعل لم تكد تشرق شمس اليوم التالي حتى كان أبو محمد في طريقه إلى المركز.
وبعد إنتهاء الحصة الخامسة من يوم الخميس .. كان والد محمد ينتظر ولده على باب المركز بعد أن إستأذن له.
وفي المساء .. كان محمد يصل إلى والدته ليدخل عليها السرور برؤيته والجلوس إليه.
***
وفي صباح الجمعة .. خرج محمد لشراء بعض حاجاته.
وبينما هو ماضٍ في طريقه سمع صوتاً يناديه .. يا محمد .. يا محمد .. التفت محمد إلى صاحب الصوت وأقبل نحوه ..
محمد: أهلا بك يا أخي .. لكن لم يسبق لنا أن تعارفنا .. فهل لي أن أعرف من أنت؟!.
الشاب: أنا أخوك في الله عبد الرحمن .. جاركم الجديد في هذه الحارة.
محمد: أهلاً بك يا أخي .. ولكن ماذا تريد؟
الشاب: لقد رأيتك يا محمد في المسجد ليلة المحاضرة .. ولقد لحظت عليك أنك خرجت بوجه غير الوجه الذي دخلت به.
محمد: ماذا تقصد يا أخي؟!..
الشاب: أقصد .. كأن المحاضرة لم تعجبك.
محمد: وهل أعجبتك يا أخي .. وفيها من تشبيه الله بخلقه ما تنكره الفطرة السليمة .. ويتعارض مع القرآن والسنة ..
الشاب: ولكن يا محمد يجب أن نسلِّم بما ورد في القرآن والسنة .. بدون بحث ولا نقاش .. فلا اعتراض على الله فيما وصف به نفسه.
محمد- بعد أن فكر قليلاً فيما قال عبد الرحمن:
يا عبد الرحمن .. لو أن كل من قرأ القرآن أصبح عالماً بمعانيه لما جعل الله للعلماء تلك المرتبة الرفيعة .. ولا يستوي الناس في درجة العلم .. فمعظم من في مدينتنا يقرأون القرآن غير أنهم ليسوا جميعاً علماء.
عبد الرحمن: إذاً فتفضل معي لنبحث سوياً ونتناقش في الموضوع.
محمد -معتذراً: أعذرني يا أخي فلدي عمل مهم ولكن أعدك أن ألتقي بك في وقت آخر.
وتوادعا .. ومضى كلٌ إلى حال سبيله..
ولكن هذا اللقاء كان دافعاً لمحمد ومجدداً لعزمه ونشاطه .. فقد أدرك أن تلك الأفكار صارت تؤثر على كثير من الناس الذين لا يستخدمون عقولهم للتفكير والوصول إلى الحقيقة الضائعة.
كان محمد يقول في نفسه: إن تلك المحاضرة قد فتحت عيني على أمور كثيرة لم يكن يخطر ببالي أن أخوض فيها..
ورجع محمد إلى البيت وقضى يومه بين والديه وإخوته وهو في شوق للعودة إلى المركز..
(7)
لم يستطيع محمد أن يبقى في البيت إلى اليوم التالي فقد اشتاق إلى أساتذته وزملائه في المركز الصيفي .. فجعل الليل وقتاً للسفر ..
وفي صباح السبت كان من أول الداخلين إلى الفصل .. فسلم على زملائه وكأنه قد غاب عنهم شهراً كاملاً .. فقد أشتد شوقه إليهم .. وأشتد شوقهم إليه.
محمد - وهو يوجه الخطاب إلى زملائه:
لم أر مدرس العقيدة في الطابور .. هل سيحضر اليوم؟
زيد: لقد علمت أنه كان بالأمس متعباً .. نسأل الله أن يشفيه .. ولكن لنقرأ الآن الفاتحه بنية الشفاء لأستاذنا العزيز.. ثم نذهب لزيارته بعد أن ننتهي من الدراسة..
ولكن دخول مدرس العقيدة قطع عليهم الحديث .. فشكرهم على مشاعرهم الطيبة نحوه.
محمد: أستاذي .. ألم تكن وعدتنا في آخر حصة أن تشرح لنا الآيات التي يتوهم القارئ منها المشابهة بيننا وبين الله عزّ وجلّ؟
المدرس: كم أنت مهتم بدروس العقيدة يا محمد؟! .. ثم التفت المدرس إلى جميع الطلاب قائلاً:
يا أبنائي .. إننا قبل أن ندخل في شرح هذه الآيات لا بد أن نضع بين أيدينا قواعد مهمة .. تكون هي طريقنا لفهم معاني تلك الآيات.
علي: وماهي هذه القواعد؟
المدرس: أول قاعدة هي: أن الطريق الصحيح للوصول إلى الحقيقة هو الفهم الصحيح لكتاب الله ومعرفة معانيه.
القاعدة الثانية: هي أن الله جعل قاعدة التوحيد في مدار قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} .. فإذا أتى شيء من الآيات و الأحاديث مايفهم منه خلاف هذه الآية .. علمنا أن له معنى آخر يتناسب مع مدلول هذه الآية .. وإلا فسيكون القرآن متناقضاً.. وهذا ما لا يجوز أن يوصف به القرآن.
القاعدة الثالثة يا أبنائي .. أن القرآن الذي نتلوه عربي، يقول تعالى: {قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}، لذلك فإننا إذا سمعنا في القرآن ما يشتبه علينا معناه .. بحثنا عن معناه في اللغة العربية التي نزل بها القرآن .. فعندما نسمع قول الله تعالى: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} فلا يأتي أحد فيقول أن هذه الآية دليل على أن الإنسان في الماضي كان له جناح مثل الطيور، وأن الله أمره أن يخفضه لوالديه.
علي: إذاً فما معنى هذه الآية يا أستاذي؟
المدرس: إنه أمْرٌ من الله يا أبنائي للإنسان بالتواضع لوالديه، فشبَّه الإنسان في خضوعه لهما بالطائر حين يهبط فيمد أجنحته في ذل واستسلام.
وسأضع لكم مثالاً آخر: ألم تسمعوا يا أبنائي عن قصة يوسف عليه السلام .. فعندما عاد أخوته إلى أبيهم وقد أخذ يوسف أخاه الثاني منهم، خافوا أن لا يصدقهم أبوهم بعدما فرّطوا في يوسف في الماضي، ثم أخذ منهم أخوهم الثاني -حينها قالوا لأبيهم: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا}[يوسف:82] .. فهل كانت القرية والعير -التي هي الجمال- تتكلم وتسأل وتجيب يأبنائي.؟ .. لا شك أن هذا محال.
إذاً يا أبنائي .. إنما قصد أخوة يوسف أن يسأل أبوهم أهل القرية وأصحاب القافلة وهم التجار الذين كانوا بصحبتهم .. فأفهموا يا أبنائي هذه القاعدة .. هل فهمتم؟
الطلاب: نعم يا أستاذ.
(8)
بينما كان محمد يتلو كتاب الله تعالى بعد أن صلى المغرب، ويرتل آياته ويتأمل في معانيه وقد انشرح صدره .. توقف عند قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}[الأعراف:54].
ففكر طويلاً في معنى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} .. ثم قام من مكانه وتوجه إلى زميله علي.
محمد: عفواً يا أخي أود أن أسألك عن معنى هذه الآية.
علي -وهو ينظر إلى محمد: سبحان الله لقد كنت أريد أن آتيك في هذه اللحظة لأسألك .. فهل تعرف يا محمد مامعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}؟.
فهل لله كرسي .. !! وهل يحتاج الله إلى مكان.!.
محمد: والله إنما جعلنى أقبل عليك هو نفس هذا السؤال .. فما معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}؟!.
ساد الصمت ولم ينطق أحدٌ منهما بما يكون فيه حلاً لإشكال أخيه.
محمد: غداً إن شاء الله .. نجد من أستاذ العقيدة مايحل لنا هذه المشكلة.
***
وأتى الصباح ليحمل معه النور وما يذهب الغموض .. ولم يكد مدرس مادة العقيدة يستقر في الفصل حتى كان محمد يطرح عليه السؤال عن تفسير قوله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.
المدرس: يا أبنائي لقد ذكرنا في درس الأمس أن الله ليس كمثله شيء وإذا كان الأمر كذلك فإن الله لا يحويه مكان.
فإنه إذا كان لله سبحانه مكان .. فقد شابَهَنا في احتياجه إلى المكان .. وأنتم تعلمون يا أبنائي أن من يحتاج إلى المكان لا يكون إلا جسماً ..
والله لايحتاج إلى المكان لأنه ليس بجسم.. سبحان الله عما يصفون.
محمد: ولكن يا أستاذي مامعنى أن له كرسي، وأن يستوى على العرش؟!.
المدرس -وهو يرفع كراس أحد التلاميذ في يده: ما إسم هذا يا أبنائي.
فصاح جميع التلاميذ قائلين: أنه كرّاس.
هل تعرفون يأبنائي لماذا سمي كراساً؟ .. لأنه يجمع فيه العلم.
فمعنى {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} .. وسع علمه مافي السموات والأرض .. فهو بمعنى العلم.
أما معنى {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ}.. فإن معنى الإستواء: هو الإستيلاء .. وهو إجراء أمر الله ونهيه في السموات الأرض، فالله لما خلق السموات والأرض أجرى فيهما أمره ونهيه .. فهذا هو معنى الإستواء.
ومعنى العرش هو ملك الله سبحانه كما ورد في القرآن الكريم منسوباً إلى الله.
فيكون معنى الآية .. أن الله أجرى أمره ونهيه في ملكه.
محمد: كتب الله أجرك يا أستاذي .. وأستغفر الله من كل ماكان قد وسوس لي به الشيطان.
المدرس: يا أبنائي .. إن الله لايحتاج إلى المكان .. فهو خالق المكان وإنما الذي يحتاج إلى المكان هي الأجسام .. والله ليس بجسم .. فسبحان من كان قبل المكان، وسبحان من هو كائن ولا يحويه مكان ..
ثم ودع مدرس العقيدة طلابه ونظراتهم تتبعه في حب وإعجاب ..
(9)
(إن الإنسان كلما ازداد معرفة بالله سبحانه وتعالى ازداد حباً له وشوقاً إلى عبادته) ..
كان هذا هو حال محمد فإنه لما أكمل مذاكرته بعد العشاء .. وتوجه جميع من في المركز إلى فراشهم للنوم .. جلس محمد في فراشه يفكر في نعم الله عليه..
كان يقول في نفسه: الحمد لله الذي دلني على هذا المركز، وعلى معرفة هؤلاء الإخوان.. والله إن الله لذو نعم عظيمة علىَّ.
وقام من فراشه وقد قرر أن يصلي ركعتين شكراً لله على هذه النعم..
وفي ساحة المركز .. في مكان خالٍ وقف محمد يصلي لله في خشوع..
فلما أكمل محمد صلاته .. رفع يديه إلى السماء يثني على الله ويدعو لنفسه وإخوانه..
فلم يشعر إلا بمدرس العقيدة وهو يجلس إلى جواره..
المدرس: هل أشركتني في دعائك يا محمد؟
محمد: وكيف أنساك يا أستاذي .. وأنت في كل يوم تهدي إلى علماً يُعرفني بحق ربي ..
ولكن يا أستاذي .. لماذا نرفع أيدينا إلى السماء عند الدعاء؟!..
المدرس: لأن السماء يا محمد قبلة للدعاء .. كما هي الكعبة بيت الله الحرام قِبلة الصلاة.
محمد: وما معنى قوله الله سبحانه: {أَأَمِنتُمْ مَنْ في السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ}؟!
المدرس: يا محمد .. إن الله لما كان يرسل ملائكته بعذابه من السماء .. خاطبنا بهذه الآية .. ومعناها ءأمنتم مَنْ أمرُه ونهيُه وعذابُه في السماء، كما قال الله تعالى في شأن بني إسرائيل {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاء} .. وقال في قوم عاد {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} وريح العذاب تأتي من جهة السماء.
محمد: أستاذي .. بما أن الله ليس بجسم فإنه لايجوز عليه التنقل والمجيء والذهاب .. أليس كذلك؟
المدرس: نعم يا محمد.
محمد: إذاً فما معنى قوله تعالى في سورة الفجر: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا}؟
المدرس: معناه: جاء أمر ربك.. وفي بعض الآيات التي يذكر فيها مجيئه يكون بمعنى جاء عذابه، مثل قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ الله في ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلاَئِكَةُ}.
ثم نظر الإستاذ إلى محمد في إشفاق وحنو، وقال:
- ألا ترى أن الوقت قد حان لكي تعود إلى فراشك .. فإنك بحاجة إلى الراحة لكي تنشط لليقام لأداء صلاة الفجر.
وشكر محمد أستاذه وعاد إلى فراشة في حركة خفيفة كي لايؤذي أحداً من زملائة الذين كانوا غارقين في نومٍ عميق بعد يوم من التحصيل والدراسة.
(10)
بيمنا كان طلاب المستوى الثاني التأهيلي ينتظرون وصول مدرس العقيدة .. إذا بمدير المركز يدخل مع مجموعة من الآباء الذين يتعاونون مع المركز الصيفي ويقدمون له دعمهم.
وفي تلك اللحظات كان مدرس العقيدة يقف على باب الفصل .. فألقى التحية ودخل.
فجعل مدير المركز يقول للتلاميذ: يا أبنائي إن لهؤلاء الآباء أياد سخية على مركزنا هذا .. فهم يبذلون أموالهم لإعانتنا .. وقد أتوا لزيارتكم والإطلاع على أحوالكم.
كان من بين الزائرين مدير المدرسة التي يقام فيها المركز فتقدم إلى مدير المركز وتوجه بالكلام إليه قائلاً:
- اسمع يا أخي .. كل مافي المدرسة بيدك وتحت تصرفك، ونحن نضع إيدينا على أيديكم. فإن ما تقومون به من عمل في تربية هؤلاء الطلاب وتعليمهم لشيء عظيم.
شكر مدير المركز الآباء وودعوا للطلاب بالتوفيق .. وانصرفوا.
***
مدرس العقيدة: أتذكرون يا أبنائي عندما قلت لكم في حصة سابقة: أنه إذا رأينا في القرآن ما يشتبه علينا معناه فإننا نفسره على مقتضى معناه في اللغة العربية.
الطلاب: نعم يا أستاذ .. وقد فهمنا تلك القواعد التي أعطيتنا إياها فهماً جيداً.
المدرس: أسمعتم يا أبنائي مدير المركز وهو يتحدث بأن لهؤلاء الآباء أيادٍ سخية على هذا المركز، فهل فهمتم ماذا يعني؟..
علي: يعني أن لهم فضلاً ونعمة على هذا المركز بما ينفقون عليه.
المدرس: إذاَ ما معنى قول الله عزّ وجلّ: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .. بعد أن {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ الله مَغْلُولَةٌ}.
محمد: لقد قصد اليهود لعنهم الله بقولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أنه بخيل .. فأجابهم الله بقوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} أي أن نعمه مبسوطة لعباده ..
المدرس: أحسنت يا محمد .. ونفهم من ذلك أن الله ليس له عضوٌ يسمى اليد وإنما معنى الأيدي في هذه الآية النعمة.. هل فهمتهم؟
زيد: نعم يا أستاذ .. ولكن ما معنى قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ}؟
المدرس: أحسنت يا زيد .. فهذا ما كنت أود توضيحه .. أما سمعتهم يا أبنائي مدير المدرسة عندما أعطى مدير المركز المفاتيح .. لقد قال كل مافي المدرسة بيدك، فهل قصد أن كل مافي المدرسة مجموعٌ في كف مدير المركز؟.
محمد: إن هذا محال .. بل قصد أن كل مافي المدرسة تحت تصرفه .. يأمر فيه بما يشاء وينهي عمَّا يشاء.
المدرس: إذاً فقول الله تعالى في كتابه الكريم: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} لا يعني أن لله عضواً يسمى اليد وإنما معناه أن كل مافي هذا الكون تحت تصرفه يأمر فيه بما يشاء وينهى عمَّا يشاء.
وواصل الأستاذ الحديث قائلاً:
وهناك يا أبنائي معنى آخر في اللغة من معاني اليد أما سمعتم ماذا قال مدير المدرسة عندما أراد أن يعبر عن مناصرته ودعمه لهذا المركز..
أحمد: نعم .. لقد قال: ونحن نضع أيدينا على أيديكم.
المدرس: وهل كانت أيدينا مبسوطة تحت أيديهم، وأيديهم مطروحة فوق أيديهم؟.
ضحك التلاميذ .. ووقف محمد فقال:
- يا أستاذي .. إنه إنما أراد أن يخبر أنهم ينصرونكم ويمدونكم بالمعونة وأنهم معكم..
المدرس: وهذا يا أبنائي هو ما أراد الله أن يقول لرسوله وللمؤمنين حين قال: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} وليس معنى ذلك أن لله عضوٌ يسمى اليد فالله سبحانه ليس بجسم .. والأعضاء خاصة بالأجسام.
ومن هذا الدرس نفهم أن اليد إذا أضيفت إلى الله سبحانه وتعالى فإن لها معانٍ في اللغة غير هذه الأيدي، فهل فهمتم ذلك يا أنبائي؟
حسن: نعم .. نعم يا أستاذي .. فمن يتوقف عند هذه الآيات فلن يجد لها معنى يتناسبُ مع قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، إلا أن تكون بمعنى النعمة .. أو بمعنى القوة والقدرة .. أو العون والتأييد.
المدرس: احسنت وبارك الله فيك.
علي: سبحان الله!! كأن هؤلاء الزوار لم يأتوا إلا ليشرحوا لنا درس هذا اليوم.
المدرس: يا علي أنتم تركتم ماتحبون من اللعب والمرح وأتيتم لطلب العلم .. وإن العبد إذا أخلص عمله لله .. هيأ الله له من الخير فوق ما يتصور .. والآن أترككم في أمان الله..
(11)
كان امتحان نصف الدورة يوشك أن يُعلَن عنه فقد مضى نصف الدورة الأول.
وبينما الطلاب في الفصل قبل دخول المدرس .. التفت محمد إلى زملائه.
- أتصدقون يا أخوتي أنه قد مضى من الدورة نصفها .. والله لكأنها مجرد ساعة منذ بدأت هذه الدورة.
زيد: إني لم أعش منذ عرفت نفسي راحة كهذه الأيام .. ولكن ماهذه الآية المكتوبة على دفترك يا محمد..
محمد: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}.
زيد: سبحان الله ما أقل علم الإنسان .. حتى الروح التي هي سر حياته لا يستطيع ان يعرف ماهي؟ .. ولا أن يراها أو يبصرها..
كان مدرس العقيدة قد دخل الفصل وسمع كلام زيد .. فقال:
والعجيب يا زيد أن تسمع من بعض الناس من يدعي بأنه سيرى الله سبحانه وهو لا يستطيع أن يرى أجزاء يتركب منها.
محمد: وهل يمكن أن يقول بهذا القول عاقل يا أستاذ؟ .. وهو يعلم أن أحدنا لايرى بعينة إلا ما كان جسماً .. والله ليس بجسم!.
المدرس: بلى يا محمد.. مع أن الله نفى عن نفسه الرؤية وأخبر أنه لاتدركه الأبصار.. فقال عزّ وجلّ: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.. ومع ذلك هناك من يدعي هذه الدعوى!!
عمار: يا أستاذي .. سمعنا بعضهم يقول إن هذه الآية تنفي الرؤية عن الله في الدنيا .. أما في الآخرة فقد قال الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}
المدرس: إسمعني يا عمار .. إن الله سبحانه ذكر في الآيات التي تسبق قول: {لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} مادحاً نفسه ومعظماً لذاته بثلاث صفات هي: نفي الولد عنه، ونفي والزوجة، وأنه لاتدركه الأبصار فإن الله تعالى قال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لاَ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
فلو قلنا إنما أراد نفي الرؤية عنه في الدنيا دون الآخرة لجاز على الله أن يكون له ولد في الآخرة وصاحبة -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً..
ثم أن كل ما أدركته العين فهو جسم، ولو قلنا أن رؤية الله ممكنة للزم أن يكون الله تعالى جمساً - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
محمد: ولكن كيف يكون تفسير قول الله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ، إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ}؟
المدرس: نعم يا أبنائي .. إن هذه الآية لاتدل على أن أحداً يرى الله .. فمعنى {ناضرة} الأولى تعني أن وجوه المؤمنين يوم القيامة تكون في غاية الحسن والجمال لما يظهر عليها من البشر والراحة والسرور.
و{ناظرة} الثانية بمعنى منتظره، فيكون معنى الآية أن وجوه المؤمنين جميلة مستبشرة تنتظر حلول رحمة الله بأمره بإدخالهم إلى الجنة.
عبد الله: وهل يطلق النظر بمعنى الإنتظار؟!.
المدرس: نعم يا عبد الله..
أما سمعتم ماقال الله في سورة النمل على لسان الملكة بلقيس بعد أن أرسلت رسلها بالهدايا إلى سليمان لقد قالت : {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ}، فقالت (ناظرة) وهي تقصد الإنتظار.
فهل أدركتم يا أبنائي أنه لا يجوز لنا أن نعتقد أن الله يرى في الدنيا أو في الآخرة .. وإلا للزم أن يكون كسائر المُحدثات -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً-.
(12)
ومع قرب موعد الامتحان دخل مدرس العقيدة وفي يديه كشف كان قد أعده وقدّر فيه الدرجات التي سيحصل عليها كل طالب بعد أن يختبروا مادة العقيدة .. وبعد أن دخل الفصل وألقى التحية على طلابه .. جعل يذكر إسم كل واحدٍ منهم ويذكر درجته.
محمد: كيف وضعت لنا هذه الدرجات ونحن لم نمتحن بعد؟!.
المدرس: يا أبنائي لقد عشت معكم هذه الفترة فعرفت كل واحد منكم .. ومدى فهمه وقدرته على الإستيعاب .. فوضعت هذه الدرجات على حسب تقديري على قدر معرفتي له بمستوى كل واحد منكم .. وسأرى بعد الإمتحان ما إذا كانت الدرجات التي ستحصلون عيها مطابقة لما توقعته أم لا؟
***
وفي يوم الإمتحان إنشغل كل طالب بالإجابة على أسئلة الامتحان فلما انتهى الزمن المحدد للإجابة سلموا أوراقهم للمراقب الواحد تلو الآخر.
وبعد أن أنهى الطلاب إمتحاناتهم وعادوا إلى فصولهم لإكمال النصف الثاني من دورتهم .. دخل عليهم مدرس العقيدة وهو يحمل كشفين الكشف الذي توقعه قبل الإمتحان .. والكشف الذي وضعت فيه درجات الامتحان على ضوء إجابات الطلاب.
المدرس: أرجو من كل طالب أن يأخذ قلمه ويسجل درجته التي كنت قد توقعت أن يحصل عليها في الإمتحان.. ودرجته التي حصل عيلها فعلاً.
وما إن أكمل المدرس قراءة الدرجات حتى صاح الطلاب:
- يا سبحان الله!! .. لقد تحقق ما توقعته لنا يا أستاذ من الدرجات..
المدرس: يا أبنائي .. هل أنا بعلمي بمستوياتكم قد أجبرت أحداً منكم على النجاح والآخر على الرسوب..؟
علي: إن علمك يا أستاذ لا يمكن أن يكون هو الذي قاد أحدنا إلى النجاح والآخر إلى الرسوب .. بل هي جهودنا ومذاكرتنا.
المدرس: أحسنت ياعلي .. إذاً يا أبنائي فقد لاحظتم أن علمي المسبق بنتائجكم لم يكن ليجبر أحداً منكم على الرسوب أو النجاح.
وهكذا يا أبنائي هو علم الله سبحانه وتعالى بإيمان فلان أو كفر فلان فإنه لم يكن ليجبر أحداً على الكفر أو الإيمان .. وإنما العباد مخيرون بين الكفر و الإيمان .. ولله المثل الأعلى .. وتعالى الله عما يقول الكافرون.
أما سمعتم أيها الأحباب قول الله سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}.
فقد أخبرنا الله في هذه الآية أن الله قد أرشد الإنسان إلى طريق الخير وحذره من طريق الشر .. فمن شاء زكى نفسه بالعمل الصالح وسلك بها طريق الخير الذي نهايته إلى الجنة .. ومن شاء أهلك نفسه بالفجور والمعاصي وسلك بها طريق الشر الذي نهايته إلى النار.
لكن ما يجب أن تعرفوه يا أبنائي هو أن هنالك فرق بين علم الله وتوقع الإنسان فتوقع الإنسان يصيب ويخطئ، وأما علم الله فإنه واقع لا محالة .. ألا تلاحظون أن الله تعالى قد أخبر عن أبي لهب أنه وزوجته من أهل النار، ثم رأينا كيف أنهما ماتا مشركين في حين أنه لم يكن هناك ما يمنعهما من الإيمان
محمد: عجباً يا أستاذ .. !! وهل هناك من يقول إن الإنسان غير مختار؟!
المدرس: نعم يا محمد .. هناك من يقول إن الله يجبر الناس على الإيمان والكفر.
محمد: وهل يمكن أن يرغم الله أحداً على الكفر وقد نهاه عنه ثم يعذبه .. ؟!.. إن هذا محال يا أستاذي .. إنه الظلم بعينه والله يقول: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ} فالله عدلٌ لايمكن أن يظلم أحداً.
المدرس -وهو ينظر إلى محمد في إعجاب:
زادك الله يا محمد علماً وعملاً .. وإني لأرجو أن تكون عالماً من علماء هذه الأمة.
محمد: إن شاء الله .. فكم أرجو أن أكون أنا وجميع زملائي دعاة إلى الخير بالحكمة والموعظه الحسنة.
(13)
لم يُنْهِ محمد يومه الدراسي حتى أخبره المسؤول الفني أن أباه قد أتصل به وطلب منه أن يسافر إلى البيت لأمر مهم..
كان محمد قد أنس بالبقاء مع زملائه ومدرسيه في المركز ولكنه كان قد أقلقه إتصال أبيه..
فاستأذن للرحيل..
فلما بلغ أعلى الشارع الذي ينتهي إلى منزلهم رأى أناساً مجتمعين أمام منزلهم .. فأسرع إليهم .. وقد اشتد قلقه.
محمد: ما الأمر؟ .. أين أبي؟ .. هل حدث لأحد مكروه؟.
أحد الجيران: هدئ من روعك يا ولدي .. فأبوك بخير..
محمد: وأين أخوتي وأمي؟
الجار: كل أهلك بخير ليس هناك سوى أخيك يحيى به جروحٌ خفيفة بعد أن صدمته سيارة.
محمد: ولكن أين أبي .. لماذا لا أراه؟ .. أين ذهب؟.
ودخل إلى البيت فاستقبلته الأم وقالت له: أدخل يا ولدي وضع أدواتك وأنا أقص عليك القصة.
جلس محمد وجعل يستمع إلى أمه..
أم محمد: أنت تعرف يا محمد ذلك الرجل الذي يسكن نهاية هذا الشارع.. لقد كان بالأمس يقود سيارته ويمشي بها بسرعة مذهله .. مع رجوع أخيك ووالدك من السوق فصدم أخاك يحيى بسيارته.
فصاح أبوك في وجه الرجل وقال له:
هل أنت مجنون حتى تسرع هذه السرعه في هذه الشوارع الضيقة .. ؟!!
فأقبل ذلك الرجل في كبر وتعالي وضرب أباك على رأسه وهو يقول: أمثلك يقول لي مجنون.
محمد: وأين أبي الآن يا أمي؟
أم محمد: سيعود يا ولدي بعد قليل .. إنما ذهب مع بعض أعمامك ليدلي بأقواله في قسم الشرطه..
وفي تلك اللحظة سمع محمد طرقاً على الباب .. فقام من مكانه .. وتوجه لفتح الباب.
محمد: أهلاً بك يا عبد الرحمن تفضل .. تفضل.
عبد الرحمن: متى عدت يا محمد؟
محمد: لم أصل إلا قبل لحظات.
عبد الرحمن: كيف أخوك وأبوك يا محمد؟
محمد: الحمد لله على كل حال .. تفضل أجلس..
وجلس عبد الرحمن وهو يقول: هكذا هو القدر .. إذا قدر الله شيئاً فلا بد أن يقع.
محمد: ماذا تعني يا عبد الرحمن .. ؟ أتعني أن الله كان قدر على أخي أن يُصدم .. وعلى أبي أن يُضرب على رأسه.
عبد الرحمن: نعم يا محمد .. فيجب أن نؤمن بالقدر خيره وشره.
محمد: على كلامك هذا فذلك الرجل الذي صدم أخي وضرب أبي لا يجب أن يعاقب .. فإنما هو منفذ لما قضاه الله وقدَّره على أبي وأخي.
ولم يكمل محمد كلامه حتى سمع الباب يطرق للمرة الثانية .. فأسرع لفتح الباب..
وغمرت نفس محمد الفرحه حين رأى مالم يكن في الحسبان.. لقد كان الذي خلف الباب هو مدير المركز .. ومعه مدرس العقيدة وبعض زملائه .. فأقبل يعانقهم بحرارة.
محمد: أهلاً بكم وسهلاً هيا تفضلوا بالدخول.
- شكراً .. شكراً يا محمد .. كيف حال أبيك وأخيك؟.
محمد: ومن أخبركم بما حدث؟!.
مدرس العقيدة: لقد علمنا بماحدث بعد ذهابك .. فقررنا أن نلحق بك لنكون إلى جوارك في محنتك.
محمد: أشكركم .. وكتب الله أجركم..ثم التفت إلى زميله - عبد الرحمن - قائلاً:
أعرفكم على جارنا الجديد عبد الرحمن..
وبعد التعارف، حكى محمد لمدرس العقيدة الحوار الذي كان بينه وبين عبدالرحمن..
مدرس العقيدة: يا عبد الرحمن .. أنا معك أنه يجب أن نؤمن بالقدر خيره وشره، فقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الإيمان أن نؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وأن نؤمن باليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ..
ولكن يا بني .. إنما المقصود بالخير هو ما تأتينا من الأرزاق والأمطار الهنية والصحة والصور والألوان .. وكل ما يحدث في هذا الكون من النعم .. وليس لناتأثيرٌ فيها .. وأما الشر المقصود به في الحديث فهو الزلازل والعواصف والفقر والأمراض، وكل مايقع بالإنسان من البلوى التي نرى أنها شر بدون فعل الإنسان أو تدخل منه .. ففي مثل هذه الأمور ليس لنا إلا الإيمان والتسليم.
عبد الرحمن: فأ فعالنا هذه التي نقوم بها .. هل هي منا أم من الله؟.
مدرس العقيدة: ماذا تشعر الآن يا عبد الرحمن به .. هل تشعر أنك قادر على الجلوس معنا؟ .. أم تشعر أن هناك قوة تجبرك على هذا الفعل؟.
عبد الرحمن: بل أشعر أني قادر ولي إرادة على فعل ما أشاء.
مدرس العقيدة: إذاً فاعلم أيها الأخ العزيز أن أفعال الناس منهم .. إن شاءوا فعلوا وإن شاءوا تركوا ..
وأنت تعلم أن الله قد نسب أفعال العباد إليهم فقال: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} فلو أن الله هو الفاعل لأفعال العباد .. لكان هو فاعل الإيمان في المؤمنين .. وفاعل الكفر والزنى وشرب الخمر في العاصين وليسوا هم الفاعلين .. وهل ترى أن الله يفعلها فيهم .. ثم يعذبهم؟؟.
عبد الرحمن: أستغفر الله .. أستغفر الله، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ}.
(14)
كان محمد يتمشى مع بعض زملائه في ممرات المركز ويتأملون بعض اللوحات التي علقها القسم الثقافي.
محمد: يا علي .. يا علي أقرأت هذا الموضوع ؟
علي -وهو ينظر إلى العنوان .. ((القدرية مجوس هذه الأمة)): تعال فلنقرأ الموضوع سوياً يا محمد..
زيد: هيا بنا إن الحصة تكاد تبدأ .. سينتظرنا مدرس العقيدة.
ودخل جميع الطلاب إلى القصل .. وتبعهم مدرس العقيدة.
كان عنوان ذالك الموضوع يسيطر على تفكير محمد .. فلم يكد المدرس يستقر في الفصل حتى استأذن محمد في الكلام.
محمد: يا أستاذي قبل إنتهاء الرحة بدقائق كنا نطالع بعض المجلات الحائطية .. فرأينا مقالاً تحت عنوان
((القدرية مجوس هذه الأمة))
.. فماذا يعني ذلك؟
((القدرية مجوس هذه الأمة))
.. فماذا يعني ذلك؟
المدرس: يا أبنائي .. إن هذه العبارة مقتبسة من حديث نبوي يقول فيه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم:
((القدرية مجوس هذه الأمة))،
فقالوا:
يارسول الله .. من هم القدرية؟ .. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((القدرية هم من يفعلون المعاصي .. ويقولون هي من عند الله)).
((القدرية مجوس هذه الأمة))،
فقالوا:
يارسول الله .. من هم القدرية؟ .. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((القدرية هم من يفعلون المعاصي .. ويقولون هي من عند الله)).
محمد: فلماذا شبههم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بالمجوس؟
المدرس: لأن المجوس كانوا يفعلون المعاصي ثم ينسبونها إلى الله.
محمد: عجباً أن يوجد في أمة محمد صلى الله هعليه وآله وسلم من يقول بمثل هذا.
المدرس: والأعجب مما عجبت منه .. أن يعلم أصحاب هذا القول أن أول من قال بمثل مقالتهم هو إبليس ثم يتبعونه.
أحمد: ومن أين لهم أن يعلموا أن إبليس هو أول من قال بمثل هذه المقالة.
المدرس: أما قرأت يا أحمد قصة إبليس ورفضه للسجود لآدم..
إن إبليس لما تكبر وغوى وحملته نفسه الخبيثة على عصيان الله، {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لاََقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ}...فنسب الغواية إلى الله وكأن الله هو الذي أغواه وحمله على العصيان .. تعالى الله عما يقول الجاهلون.
ولقد نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن مجالستهم وزيارتهم؟ لأنهم يهوِّنون على العاصي معصيته .. فتراهم يبرأونه من الفاحشة والمنكر الذي وقع فيه وينسبونه إلى الله، ويجرِّؤُن المطيع على العصيان .. ويكثرون التلفظ بالقضاء والقدر.
عمار: وهل صحيح يا أستاذ أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)).
المدرس: إن مثل هذا القول لا يمكن أن يكون صادراً من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) .. فالرسول أتى ليأمر بالمعروف وينهي عن المنكر .. وهذا القول فيه دعوة إلى فعل المنكرات والدخول في المعاصي.
فهل ترون يا أبنائي .. أن الله يقول في كتابه {إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ} .. ثم يأمر رسوله أن ينادي في الناس أنه يشفع لمن خالف أمر الله .. فزنى وسرق وشرب الخمر وقتل النفس المحرمة.
زيد: إن هذا محال على الله وعلى رسوله .. نستغفر الله مما يقول الجاهلون.
المدرس: فافهموا يا أبنائي أن الله عدل حكيم .. لا يمكن أن يجبر أحداً على فعل معصية .. ولا يمكن أن يمنعه من فعل طاعة ولا العكس من ذلك.
(15)
انتهت الحصة الثالثة وبدأ طلاب المستوى الأول التأهيل في الإنتشار خارج فصلهم ..
ولكن صوت مدرس العقيدة طرق مسامع الجميع يدعوهم للعودة إلى فصلهم.
فلما أستقر كل طالب في مكانه..
دخل الأستاذ ومعه طالب من طلاب الثالث التأهيلي.
مدرس العقيدة: يا أبنائي إني قد أغيب عنكم هذين اليومين .. هذا أخي إبراهيم سيخلفني فيكم ليدرس مادة العقيدة .. فأرجو أن تكونوا له مطيعين .. فقد أخترته من بين جميع طلاب المستوى الثالث لما أعرف فيه من الخير ولأنني على يقين أنكم ستستفيدون مما لديه من معارف ومعلومات.
محمد: أعانك الله على ما أنت فيه يا أستاذ .. نعدك أن نكون له سامعين مطيعين كما كنا معك.
ومضت بقية أيام الأسبوع وقد عاش الطلاب مع الأستاذ إبراهيم لحظات رائعة راجعوا فيها كل مادرسوه خلال الفترة الماضية من الدورة.
وفي صبيحة اليوم الأول من الأسبوع التالي كان أستاذ العقيدة يدخل عليهم من باب الفصل .. ففرح الجميع وأقبلوا عليه يصافحونه مستبشرين بقدومه.
الأستاذ: كيف كنتم مع الأستاذ إبراهيم؟
زيد: كنا له خير طلاب .. وكان لنا خير مدرس .. فلو أمرتنا أن نبقى طوال فترة غيابك صامتين .. لفعلنا فإن لك علينا حق عظيم.
المدرس: أشكركم يا أبنائي على طاعتكم وحسن تعاملكم.
محمد: لقد فهمنا منك يا أستاذ أنك تريد أن تقيمه مقامك في مدة غيابك عنا، وإلا لما دعوتنا أثناء الراحة .. وجعلت للأمر تلك الأهمية.
المدرس: ما أشبه فهمكم هذا بفهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. فإن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لما انتهى من تعليم الناس مناسك حجهم .. وبدأ الناس في التوجه إلى بلدانهم .. أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بدعوة الناس إلى العودة والاجتماع .. فلما اجتمع الناس في مكان يُسمى (غدير خم) صعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ربوةٍ..
ونادى على الناس .. ((ألست أولى بكم من أنفسكم)) .. قالوا: بلى يا رسول الله.
فأخذ بيد علي عليه السلام .. ورفعها حتى بان بياض إبطه.. وقال: ((من كنت مولاه فعلي مولاه .. اللهم وال من والاه وعاد من عاداه وأنصر من نصره .. وأخذل من خذله)).
فلو كنتم هناك يا أبنائي تسمعون خطاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. ماذا كنتم ستفهمون من قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وفعله ذلك؟ وما الذي تتصورون أنه يريد أن يقوله للناس؟.
أحمد: لقد فهمنا منك قبل أيام لما جمعتنا .. أنك تريد أن تقيم الأستاذ إبراهيم مقامك .. وأن يكون له من الحقوق مثل ما لك فنسمع له ونطيع كما نسمع لك ونطيع ..
ولو كنَّا هناك لما فهمنا من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا أنه يريد أن يكون الإمام علي هو ولي الأمر بعده.
المدرس: وهذا ما فهمه صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .. فقد أقبل عمر بن الخطاب على الإمام علي عليه السلام وهو يقول: ((بخ بخ يا أبن أبي طالب .. أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة)).
محمد: وأعتقد يا أستاذي أن هناك دليل آخر .. وهو قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي: ((أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لانبي بعدي)).
المدرس: نعم يا أبنائي .. هناك الكثير من الأدلة .. ولكن نكتفي بهذين الدليلين ..
زيد: إذا كانت الخلافة لعلي بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن يكون الخليفة بعده ..
المدرس: لقد أجاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذا السؤال بقوله:
((الحسن والحسين إمامان قاما أوقعدا))
..
((الحسن والحسين إمامان قاما أوقعدا))
..
فإذا لم تصح لهم الإمامة في أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولا في أيام أبيهم .. فلا شك أن المقصود بذلك بعد أبيهم .. تكون في الحسن .. ثم بعده الحسين ..
(16)
جعل محمد يتصفح بعض الكتب التي كانت في مكتبة المركز الصيفي كان الجميع يستعدون للنوم ومحمد غارق في تصفح ذلك الكتاب.. لم يشعر بالوقت وهو يمر ..
وخليت المكتبة من جميع الطلاب ..
وجعل المسئول الداخلي يمر على الغرف ليطمئن على وجود الطلاب في أماكن نومهم.. ولكنه لم يجد محمداً ..
فبدأ في التنقل في ممرات المركز باحثاً عنه ..
مدرس العقيدة -وهو يخاطب المسؤول الداخلي: أخي .. مالذي يشغلك؟ .. هل هناك مشكلة؟ ..
المسئول الداخلي: إن محمداً ليس في فراشه ..
مدرس العقيدة: لقد رأيته قبل ساعة في المكتبة .. وهاهي المكتبة لا زالت مضاءة .. لعله لا زال يجلس فيها ..
المسئول الداخلي: إنه طالب ذكي ومهذب.. لعله انشغل بالمطالعة ..
و دخل المدرسان إلى المكتبة ..
مدرس العقيدة: الله أعلم أي شيء أنساك موعد النوم يامحمد؟
محمد - وهو يلتفت إلى المتكلم:
-إنها جرائم الحجاج بن يوسف الثقفي .. فهي كفيلة بأن ينسى الإنسان نفسه.. فأي نار أعدها الله لمثل هذا الجبار العنيد ..
المسئول الداخلي: إذا فأنت مشغول بالمطالعة عن جرائم الحجاج ..
محمد: نعم يا أستاذي .. فقد قتل آلافاً من المؤمنين .. واستباح حرمة بيت الله فهدمه.. ثم ختم حياته بقتل سعيد بن جبير..
مدرس العقيدة: وهل تصدق يا محمد أن هناك من يعتقد بأن الحجاج سيكون من أهل الجنة لينعم فيها بالطيبات ؟
محمد: هذا محال .. هذا محال فالله يقول: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}
فاالله يخلِّد في النار من قتل نفساً واحدة .. أما الحجاج فقد قتل ألوفاً من الأنفس البريئة!!
مدرس العقيدة: هون عليك يا محمد .. إن من يقول بخروج أهل المعاصي من الزناة والقتلة وأصحاب الجرائم .. إنما صنعوا مثل هذا القول ليرضوا الأمراء والسلاطين ممن كانوا يفعلون مثل هذه المنكرات .. أمثال الحجاج ومعاويه ويزيد.
محمد: هل يقصدون أنهم يبقون فترة في النار ثم يدخلون الجنة بعد ذلك
المسؤول الداخلي: إنهم يعتقدون أن من يفعل الجرائم من أمة الأسلام .. يفعلها ولا زال في قلبه ذرة من إيمان .. فيعتقدون أن إيمانه هذا هو الذي سيخرجه من النار ويدخله الجنة.
مدرس العقيدة: ولكن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد كذّب إدعائهم هذا ..
بقوله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام:
((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ..
فإذا فعل ذلك أنتزع الإيمان من قلبه ..
فإن تاب تاب الله عليه))
..
بقوله عليه وعلى آله أفضل الصلاة والسلام:
((لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن .. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ..
فإذا فعل ذلك أنتزع الإيمان من قلبه ..
فإن تاب تاب الله عليه))
..
المسؤول الداخلي: والله يا محمد إني كلما سمعت مثل هذا القول ذكرت قول أهل الكتاب من اليهود والنصارى سابقاً .. فما أشبه هذا القول بقولهم ..
محمد: وماذا يقول أهل الكتاب؟
مدرس العقيدة: أوما سمعت يا محمد قول الله تعالى في سورة البقرة .. حاكياً عن أهل الكتاب..
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَاتَّخَذْتُمْ عِنْدَ الله عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ الله عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ، بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} .. فأخبرهم أن من دخل النار فهو خالدٌ فيها ..
المسئول الداخلي: والآن يا محمد حان موعد النوم .. ألا تدري قد تأخرت كثيراً ..
شكر محمد مدرسيه وذهب إلى غرفته.
(17)
كان عبد الرحمن قد أحب مدرس العقيدة منذ تعرف عليه في بيت صديقة محمد .. ولذلك أسرع في زيارة المركز الصيفي فاستقبله محمد وقدمه إلى مدرسيه وزملائه.
ثم جلس محمد مع صديقة عبد الرحمن لشرب بعض الشاي ..
محمد: ليتك يا عبد الرحمن كنت عندي ليلة الأمس .. لقد طالعت في بعض الكتب عن شخصية الحجاج .. إنه رجل ظالم وجبار .. أتصدق يا عبد الرحمن .. أنه مات وفي سجونه آلاف من المساجنين الأبرياء ..
وأنه كان يتلذذ بقتل الأبرياء .. لاشك أن الله سينزل به أشد العذاب .. ألا لعنة الله على الظالمين..
عبد الرحمن: لا تلعنه يا محمد .. فإنه كان يشهد أن لا إله إلا لالله .. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
((شفاعتي لأهل الكبائر من امتي)) ..
((شفاعتي لأهل الكبائر من امتي)) ..
محمد: أتظن يا أخي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يأتي ليأمر بالمعروف وينهى عن المنكر .. ويحرم على الناس الزنى والسرقة وشرب الخمر .. ويتوعد القرآن فاعلي هذه المنكرات .. ويأمر بأن تقام عليهم الحدود ثم يأتي بعد هذا كله .. فيقول لهم لاتخافوا فإني أشفع لكم ..
عبد الرحمن: هذا حديث .. ويجب أن تصدقه من غير نقاش.
محمد: ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه سيكذب عليه .. فلماذا لا يكون هذا الحديث مما كذب عليه..
وفي تلك اللحظة كان مدرس العقيدة يقبل ببعض الكيك ليقدمها لعبد الرحمن..
مدرس العقيدة: أهلاً بك يا عبد الرحمن فكم يسرني لقاؤك في المركز .. عسى أن لا أكون قد قطعت حديثكما..
محمد: بل أتيت في وقتك ثم بدأ يقص عليه ما دار بينه وبين عبد الرحمن من الحديث ..
مدرس العقيدة: اسمعا ما أقول .. فلعلكما تجدان فيه الحل ..
يا أبنائي إن الله يقول في كتابه العزيز المنزه عن التحريف {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} .. ثم أخبرنا الله من هو الظالم الذي ليس له يوم القيامة حميم أي محب ولا شفيع .. فقال تعالى: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
وقد أخبرنا الله تعالى أن من يفعل المعاصي ويكسب السيئات لايكمن أن يستنقذهم من عذاب الله أحد .. بقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ الله مِنْ عَاصِمٍ }، ومن هذه الآية يا أبنائي نفهم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لا يشفع لمن يفعل المعاصي، لأنه متعد لحدود الله، وهو من الظالمين، وقد تضمنت الآية على أنه لاشفيع لهم .. فكيف يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيقول أنه سيشفع لهم؟.
عبد الرحمن: يا أستاذي .. إن هناك الكثير من الأحاديث تثبت شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .. فلمن تكون شفاعته .. إذا لم يشفع للعاصين؟.
المدرس: نعم .. يا عبد الرحمن .. إن لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شفاعه .. ولكن ليست لإخراج أهل النار من النار .. فالله ينزه ملائكته أن يشفعوا لأهل المعاصي ممن لا يرضى الله أفعالهم يقول الله تعالى: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ}.
وإنما تكون شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن أخبر عنهم فقد قال صلى الله عليه وآله وسلم: ((دخرت شفاعتي لثلاثه من أمتي .. رجل أحب أهل بيتي بقلبه ولسانه .. ورجل قضى لهم حوائجهم لما احتاجوا إليه .. ورجل ضارب بين أيديهم بسيفه)) ..
ويقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إن أقربكم مني غداً وأوجبكم عليَّ شفاعة .. أصدقكم لساناً .. وأحسنكم خلقاً .. وأداكم للأمانة .. وأقربكم من الناس)).
فهل فهمت يا عبد الرحمن لمن تكون شفاعة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟!
(18)
كان عبد الرحمن قد أحب المركز ومدرسيه وطلابه .. فقد سمع من مدرس العقيدة الكثير الذي جعله يعتقد بصحة ما يقوله..
ولكن .. هل حقاً أن هؤلاء الناس .. رغم قلتهم وضعفهم هم أهل الحق .. لقد أَرَّقَ هذا الأمر عبد الرحمن وجعله يتقلب في فراشه لا يكاد النوم أن يلامس أجفانه لكثرة ما داخله من الأسئلة والإستسفارات .. من هم أهل الحق.؟ .. ومن هي الفرقه الناجيه التي أخبر عنهم الرسول صلى الله عليه وآله وسلم؟ .. وهل هؤلاء مع قلتهم وضعفهم هم أهل الحق؟
ولذلك قرر أن يذهب إلى المركز في الغد ويدخل الفصل كمستمع .. ويسأل المدرس عن الدليل على أن الزيدية هم أهل الحق، وأنهم مع قلتهم هم الفرقة الناجية..
ومع بدايه اليوم الدراسي .. كان عبد الرحمن يجلس إلى جوار صديقه محمد .. عند دخول مدرس العقيدة.
محمد: يا أستاذي .. إنه يروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستفترق إلى نيف وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة .. فما الدليل على أن مانحن عليه هو طريق الفرقة الناجية؟
مدرس العقيدة: نعم يا محمد لقد أخبرنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن أمته ستفترق وأن هناك فرقة ناجية ولكنه لم يودِّع هذه الأمة حتى دلهم على هذه الفرقة.
عبد الرحمن: أين وكيف يا أستاذ؟
مدرس العقيدة: في كتاب الله وسنة رسوله ..
يا أبنائي إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن أخبر أصحابه بافتراق أمته .. ضاق المسلمون ذرعاً بذلك وضجوا بالبكاء .. وأقبلوا عليه .. فقالوا .. وكيف لنا بمعرفة الفرقة الناجية حتى نعتمد عليها؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ((إني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي ابداً .. كتاب الله وعترتي أهل بيتي .. إن اللطيف الخبير نبأني أنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض)).
فبمثل هذا الحديث عرفنا يا عبد الرحمن أن أهل البيت هم الفرقة الناجية .. فتبعناهم.
عبد الرحمن: وهل هناك أحاديث أخرى يا أستاذ جزاك الله خيراً.
مدرس العقيدة: نعم فقد روي عن ابن مسعود أنه قال: ((إن لهذه الأمة فرقة وجماعة فجامعوهم إذا اجتمعوا .. فإن افترقت فارقبوا أهل بيت نبيكم .. فإن سالموا فسالموا وإن حاربوا فحاربوا .. فإنهم مع الحق .. و الحق معهم لايفارقهم ولايفارقونه)).
ثم أخبروني يا أبنائي هل هناك دليل واحد يدعو إلى إتباع أحد ممن نرى الناس قد اتخذوهم أئمة وساروا على مذاهبم.
إنه لايوجد أحد يمتلك دليلاً على أن إمامه هو الاولى بالإتباع .. أما نحن فلنا والحمد لله الكثير من الأدلة التي توجب إتباع أهل البيت (عليهم السلام) ويكفينا قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
((أهل بيتي أمان لأهل الأرض .. كما أن النجوم أمان لأهل السماء .. فويل لمن خذلهم وعاندهم)) وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:
((أهل بيتي فيكم كسفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق وهوى)) ..
(19)
جلس من في المركز بعد صلاة العشاء في سكون وصمت شامل، فلا يكاد يسمع فيه إلا همساً أو صوت تقليب صفحات الكتب، أو حوار بين الزملاء في صوت هادئ، فالطلاب منكبين على المذكراة والمدرسون يُحضِّرون لدروس الغد ..
ولكن صوت الميكرفون مزق ذلك الصمت بإعلان مفاجئ:
(يرجى من جميع الطلاب التوجه إلى صالة المحاضرات).
وعلى الفور توجه الجميع إلى صالة المحاضرات، وجلس الجميع يرقبون ماوراء هذه الدعوة المفاجئة.
وبرز على المنصة مدير المركز:
المدير: السلام عليكم .. أرجو أن لانكون قد أزعجناكم ولكن هناك ما يجب أن يعلمه الجميع حتى يعدوا أنفسهم له ..
يا أبنائي .. إن الظروف التي يمر بها المركز في جانبه المادي صعبة جداً ولذلك لا بد أن ننهي الدورة في أقرب وقت.. فعلى المدرسين المسارعة في إكمال موادهم وعلى الطلاب محاولة أن ينشطوا مع مدرسيهم حتى نحقق أفضل النتائج.
سرت هذه الكلمات في نفوس الطلاب وجعلت كلاً منهم يحمل جبلاً من الحزن والآلام..
وصمت الجميع.. وجعل كلٌ منهم ينظر إلى زملائه ومدرسيه وكأن كل فرد منه يقول: وكيف نصبر على فراقكم؟!!.
وأخذ الجميع ينسحبون من المكان في هدوء وصمت ..
وبينما محمد يمضي إلى غرفته رأى محمدٌ شبح إنسان يجلس في جانب مظلم من ساحة المركز فأقبل نحوه ..
محمد: عبد الرحمن .. ما الذي جعلك تجلس لوحدك في هذا المكان المظلم؟
عبد الرحمن: إني أفكر في أمري .. كيف أصنع .. وأنا سأعود إلى أسرة لا تسير على نهج أهل البيت (عليه السلام).. بل يعتقدون في الله بعقائد فاسدة.
محمد: يا عبد الرحمن .. الله معك وسيجعل لك مع كل عسر يسراً فكما أرشدك إلى طريق الخير سيرشد أسرتك.
إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان وحيداً فأعانه الله .. ألم تسمعه يقول لنبيه.
{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى، وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى، وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}
عبد الرحمن: إني أرى يا أخي أن أعود إلى البيت، فلا أكلم أحداً فمن شاء أن يعرف الحق عرفه، ومن شاء أن يبقى على ضلاله فليبقى.
محمد: يا أخي إن الإنسان يجب أن يفعل مايرضي الله .. واعلم أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: ((من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك إضعف الإيمان)).
ولا أدري أن هناك منكراً، أعظم من فساد الاعتقاد في الله عزّ وجلّ ..
عبد الرحمن: سمعاً وطاعة لله ورسوله .. أبذل جهدي إن شاء الله أدعو إلى سبيله ما استطعت.
محمد: وهو يأخذ بيد عبد الرحمن ليخرجه من تلك الزاوية المظلمة إلى ساحة ساطعة الأنوار، فسيجة الآفاق يستقبله إخوانه في المركز بوجوه مشرقة وثغور باسمة ..
يهدون إليه باقات من الحب والود والصافي...
أشعة النور
ودنت لحظات الرحيل ..
وأعد كل طالب حقيبة سفره ليعود بالنور والمعرفة إلى أهله وأبناء بلده ..
ولكن أيهم يستطيع أن يرحل من رحاب هذا المركز .. إن القلب صار مِلكاً لكل هؤلاء..
للمدرس .. والعامل .. والطالب ..
فما رأيكم يا أبنائي أن نحمل هذا الحب والود .. إلى بلداننا لنعلمه للناس كما نعلمهم العلم والمعرفة؟.
فما من شك أن أمتنا المتناحرة بحاجة ماسة إلى دروس تتعلم فيها الحب والتآخي..
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire