samedi 4 juin 2016

المنصف المرزوقي:ھكذا حزمت حقائبي لبلاد جارت علي وھي ّ دوما عزيزة، وقوم ضنوا علي وھم دوما كرام.




حياتهم خلافا لما نتوھم بأيسر مما نعرف الدكتور المنصف المرزوقي

 

 

 


وسائلة أي المذاهب مذهبي وهل كان فرعا في الديانات أم أصلا..


حياتهم خلافا لما نتوھم بأيسر مما نعرف
.

وھكذا تضافرت المعرفة ا­نسانية من الداخل النهل بإعجاب وامتنان من الثراء الثقافي الفاحش للغرب لتمسح كل الافكار الصبيانية التي وصلت بها شابا ، دون أن يعني ھذا أنني انجرفت في تيار عبادة الغرب مثلما ما رأيت حولي دوما . وربما كان السبب في ھذا متانة وعمق الانتماء الذي رباني عليه أھلي والمدرسة الصادقية فطيلة ھذه السنوات لم أتخلّ يوما عن القراءة بالعربية و متابعة أخبار الامة والوطن وحتى الكتابة بالعربية حالما بتدبيج كتب طبية بلغة الضاد وربما كانت معرفتي الدقيقة بأمراض ھذه الحضارة من استشراء إدمان الكحول تشتت العائلة ومادية مفرطة ، ھي التي كانت وراء موقف متوازن.
 كانت النظرة التي كونتها للغرب لا تخلو من إعجاب ومن نقد ، و كانت معقدة بحجم تعقيد الغرب نفسه وكم استغرب إلى اليوم النظرة السطحية والاحكام القطعية والصور الكاريكاتورية التي تسكن العقل العربي بخصوص الخصم - الشريك الحضاري .
وسنة 1979 أخذت قراري النهائي بالعودة للوطن رغم إلحاح زوجتي وعائلتها بالبقاء في بلد يوفر كل ما يمكن أن يطمح له المرء. ولم يكن الخيار سهلا لانني كنت أعلم ما الذي ينتظرني في تونس . لكني عشت طوال ھذه السنوات بقناعة أنني لا أتعلم لحسابي الخاص . فثمة آمال الوالد العريضة وثمة حلي الوالدة التي بيعت لكي لا يتوقف بي الركب وثمة ذكرى موجعة لخت في الثانية والعشرين من العمر لفظت آخر أنفاسها على متن شاحنة نقل ريفية بين دوز وقابس لنه ليس في دوز مستشفى لائق يحفظ حياة امرأة جاءها نزيف حاد إبان ولادة صعبة . ھكذا حزمت حقائبي لبلاد جارت علي وھي ّ دوما عزيزة، وقوم ضنوا علي وھم دوما كرام.
وبين 1979 و 1981 عملت كأستاذ مساعد في قسم الاعصاب بتونس لأفهم آنذاك فقط و بعمق سر تفوق الغربيين علينا. فالقيم السائدة في المستشفيات التي غادرتها ھي الجدية وا­تقان والتفاني وحب العمل واكرم الناس فيها أكثرھم عطاءا . وھي كل القيم التي افتقدتها حال ارتطامي بالمستشفيات التونسية فكانت الصدمة الكبرى التي أرجعتني شيئا فشيئا إلى ما جاھد والدي لنهيي عنه وما حاولت جاھدا تفاديه : السياسة.
لقد بدا لي واضحا أن رداءة العمل ، غير مرتبطة بخلل وراثي وإلا لما نجحت في عملي في سترازبورغ مثل كثيرين من العرب الذين ابلوا البلاء الحسن في بلدان الهجرة ، وإنما يتعلق المرض بالمعطى الثقافي الناتج بدوره عن تنظيم سياسي متخلف، يضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب ويكافئ الموالي وليس الكفء ويحارب العقل المجدد فيجدب الخصب ويشل الطاقات ويكبل الفكر ويشيع الا­حباط والغضب ثم اللامبالاة والتسيب.
والغريب في الأمر أنني لم افهم قيمة الديمقراطية ولم ''أعتنقها' إلا عند رجوعي إلى تونس.
ففي فرنسا كانت الصبغة العروبية الاشتراكية ھي الغالبة على تفكيري ولم أكن أرى في النظام السياسي الذي كنت أعيش في كنفه سوى الفضائح والاشهاار الرخيص والصراعات السياسوية الخ ..
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر . كانت الليلة الظلماء ، فقدي لبدر الحرية واكتشافي لما نسيت وتناسيت من موبقات وغباء نظام الشخصانية والحزب الواحد وا­علام السفيه واإلانتخابات المزيفة وقمع المخالف في الرأي واستشراء المحسوبية والانتهازية والرداءة في كل مواقع القرار، لأن القاعدة في ھذا النظام الولاء قبل الكفاءة . وفي قسم الأعصاب عهد إلي رئيس القسم بالعيادات الخارجية وھناك اكتشفت عمق الفقر والجهل لشرائح واسعة من شعبنا خاصة تلك التي كانت تأتي من القصرين وتالة وجندوبة ومدنين وأحيانا تبيت أمام المستشفى ليتلقاھا طبيب عابس متجهم يحكم في دقائق معدودات على حالة ميئوس منها.
لا شك أنني رأيت أمي الفقيرة في كل نساء الشعب ورأيت أختي التي ماتت على شاحنة نقل ريفية في كل المرضى وفي كل طفل معاق ابنة أخت أخرى تقول الشعر وتهديني لواعجها عبر قصائد بسيطة تدمع لها العينان ويدمى لها القلب . وھكذا استعصت العلاقة ''الطبيعية '' بين الطبيب والمريض من تباعد ومهنية باردة إذ أصبحت كل حالة مسالة شخصية فانقلبت حياتي جحيما لا يطاق إذ من أين لي حلّ مشاكل بمثل ھذا العدد وھذا التعقيد وھذه الخطورة.
وفي ھذا الظرف بالضبط وصلت تقاطع طريق مصيري رابع كان اختيار اتجاه فيه ھو الذي أدى إلى بقية التطورات. كان شغلي الشاغل آنذاك كثرة الأطفال المعاقين في العيادة وھو الأمر الذي لم أره في المستشفيات الفرنسية وفاتحت رئيس القسم بضرورة التعامل مع موضوع لم يكن يشغل بال أحد في طاقم الأطباء . فهز الرجل كتفيه وقال لي ليس لنا ما نفعله وكان لا يهتم إلا بمرض وھن العضلات الذي كان يسعى لأن يسمى باسمه. فشعرت باستياء بالغ لأن إيماني كان ولا يزال أن على الطب أن يكون في خدمة الناس لا في خدمة الطبيب وقررت أن أشبع الموضوع بحثا وتمحيصا لعلني أستطيع فعل شيء ما.
يتصادف أن المستشفى أدخل لول مرة جهاز ''السكانار'' وكنت تمرنت عليه في تشخيص أمراض الدماغ بل ونشرت سنة 1978لمقالين في أول كتاب جماعي بالفرنسية عن استخدامه. وھكذا أمكنني أن أفحص به العشرات من الأطفال وأن أعيد الفحص السريري المدقق ، وأن أحدد جلّ الأسباب والظروف التي حدثت فيها الا­عاقة . ولما نشرت البحث في 1981 بعد سنتين من العمل المضني ، تحصلت على جائزة المؤتمر الطبي المغاربي التي كان يطلق عليها اسم جائزة بورقيبة في الطب. وكانت أول مرة أرى فيها عن قرب الرجل الذي شرد عائلتي وھو يوشح صدري بوشاح الجمهورية. ويومها ملآ الدكتاتور الكبر مقاھي مراكش ضجيجا عن '' ثأر '' الحياة له بعد عقدين من النفي وكيف أن المجاھد الكبر '' ّ اضطر اضطرارا '' وبالرغم من انفه لتوسيم ابنه الذي الخ . واعتقد أن تغيير نظرته لبورقيبة –أو بالحرى تليينھا - بدأت من تلك الفترة خاصة وأنني أكدت له أن الرجل استقبلني بلطف وأنه داعبني بخصوص المرازيق أھل الشعر والأدب الذي اصبح لهم اليوم أيضا نصيب حتّى في الطب.
إلا أن المهم يومها لم يكن ھذا التشريف بقدر ما كان ما يضعه على عاتقي من مسؤولية فنتيجة البحث كانت بالغة البساطة وھو أن لنا في تونس آلة جهنمية تقذف كل سنة قرابة الاربعة آلاف طفل معاق لسباب رئيسية ھي انعدام التلقيح ضد الحصبة وظروف الولادة وزواج الأقارب. فكاتبت وزير الصحة لطلب منه وضع ثلاث برامج للتلقيح الشامل ضد الحصبة ومراقبة الولادات وحملة تثقيفية بخصوص زواج الأقارب . ويتصادف أن الوزير كان يومها السيد رشيد صفر الذي استدعاني للوزارة وقال لي بالحرف الواحد : تفضل أنت المكلف بالأمر والوزارة تحت ذمتك . وكان ھذا الموقف غير عادي في مثل ھذه النظمة، ومن ثمة امتناني للرجل واحترامي له إلى اليوم رغم أنه كان من رجالات عهد أضر بتونس أيما ضرر . وھكذا انطلق العمل لتكوين لجان تواصلت فيما بعد وإلا أفخر بشيء اليوم قدر فخري بان نسبة التلقيح ضد الحصبة التي كانت عند بداية البحث 20 في المئة ارتفعت بسرعة إلى 80 في المائة وان مراقبة الحمل أصبحت سريعا برنامجا وطنيا وأن زواج الأقارب أصبح لفترة موضوع الساعة .
ومن طبيعة تفكيري أنني إذا تناولت موضوعا فمن كل جوانبه وقضية الا­عاقة لم تكن تتطلب فقط سياسة وقائية بعيدة المدى والنتائج وإنما العمل العاجل لإ­عانة أطفال وعائلات في قلب المأساة .
 ھكذا انخرطت في جمعية الدفاع عن المعاقين الحركيين ثم ترأست فرعها في سوسة. وفي سنة 1984 عدت لزيارة بورقيبة في إطار وفد لمطالبته بقانون يحمي المعاقين لأشتغل فترة طويلة في لجان الشؤون اإلاجتماعية المكلفة بإعداد ھذا القانون .
 وإبان ذلك اللقاء الثاني لاحظت التردي الهائل للجسم والعقل عند رجل كان مصيرنا جميعا بين يديه وخرجت من اللقاء بالغ الغم والقلق وكنت بعيدا كل البعد عن تصور ما سيكلفنا الرجل بخياراته المشئومة أو نهايته المحزنة. كما كنت بعيدا كل البعد عن تصور لقائي الأخير معه في يوم من أيام ربيع 2000 وھو مسجى في العلم على أرض بيته المتواضع في المنستير. ويومها استقبلني البورقيبيون بحفاوة كبيرة سببها شدة كرھهم لبن علي ووزرائه الحاضرين، ومن ثمة تعاطفهم مع إنسان يحاربه بلا ھوادة . وعلى جثمان رجل حقدت عليه طفلا لانه كان عدو الأب، وشابا لأنه كان عدو العروبة ، وكهلا لانه كان عدو الديمقراطية ، قرأت الفاتحة بتأثر لأن من القيم التي ربتني عليها والدتي انه بحضور الموت تنتهي الضغائن والأحقاد.
وفي نفس السنة أسّست، مع عدد من المثقفين الأفارقة التي جمعتني بهم مؤتمرات تعنى بمشاكل الطفل، الشبكة الافريقية لحقوق الطفل ومركزھا إلى اليوم نايروبي وفيها ممثلين عن عشرين بلدا أفريقيا أغلبهم من البلدان الناطقة بالانجليزية مثل كينيا وزامبيا وجنوب افريقيا. وكانت فرصة ذھبية لأتعرف عن كثب عن مشاكل الطفولة في افريقيا وسنة 1988 كان لي شرف المشاركة في أديس أبابا في القراءة الفريقية للمعاھدة العالمية لحقوق الطفل التي كانت بصدد الإعداد والتي ستصدر سنة 1990 .
وكنت لا أعلم وأنا في بداية انخراطي في العمل ليلا نهارا على معالجة مشاكل الطفل وخاصة المعاق ، أنني تحت المراقبة لعميدة كلية طب سوسة التي كانت تبحث عن مسئول تونسي لتجربة الطب الجماعي في كليتها وھي تجربة بدأھا الكنديون سنة 1977 وتواصلت تحت إشرافهم إذ لم يرض أي تونسي بالانخراط فيها.
 فالطب الجماعي يعني العمل في الأرياف وفي المستوصفات والتركيز على الوقاية وكلها أمور ليس لها ''ھيبة '' في نظر من لا يرون الطب إلا عملا في المستشفى و تكنولوجيا و…..مال .
لم أتردد لحظة واحدة ولم تثنني دھشة واستغراب من حولي: أنت بشهاداتك ومستواك وجائزة بورقيبة ترضى الخ .
وربما لعب دور الاسم الذي تحمله الكلية دورا خفيا فابن الجزار الذي عرف بأنه طبيب الفقراء من الأطباء القلائل في تاريخنا الذين كنت أعجب بهم. وكنت أشعر بنوع من الفخر أن أضع قدمي في خطاه وأن أواصل على الطريق الذي فتحه ھو وأجداد نتشدق بأمجادھم ولا نتابعهم بالترجمة والتعريب والبحث وخدمة الناس والأمة والحضارة كما كانوا يفعلون .
غادرت مركز الأعصاب غير مأسوف عليه لأشرف على تجربة الطب الجماعي بكلية سوسة في ميدان التكوين والبحث وإعمال البرامج الوقائية في الضواحي الفقيرة وخاصة في مدينة القلعة الكبرى.
 كانت القلعة '' المختبر '' التي جربت فيها مفهوم سياسة الخدمات الطبية المندمجة أي تلك التي توفر الوقاية والعلاج لرفضي التفريق بين الأمرين. ولا يوجد في تونس (وربما حتى في العالم) مدينة أشبعت بحثا من الناحية الصحية مثل القلعة الكبرى فقد كتبت فيها على امتداد 15 سنة عشرات رسائل الدكتوراه لتلامذتي.
وكم أثلج صدري أن يتحصل العمل سنة 1989 على جائزة المؤتمر الطبي العربي التي سلمني إياھا الرئيس الجزائري السابق.
تسلم جائزة المؤتمر الطبي العربي سنة 1989 من يدي الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد
وفي نفس السنة تلقيت في باريز جائزة المعهد الفرنسي للصحة التي تمنح لكبار الأطباء الأجانب. وبصفة موازية للبحث والتدريس كان ھمي الأول إشاعة التثقيف الصحي داخل المجتمع فنشرت قرابة العشرين كتيبا بلغة بسيطة للعموم وألفت دليلا للمربين الصحيين وعددا كبيرا من الأبحاث لي ولمساعدي أو نشرت في المجلات الطبية التونسية والعالمية. وفيها تكونت أول لجان المواطنين للصحة وأولى اللجان المدرسية للوقاية ونفذت أولى البرامج لمحاربة الأمراض الجديدة مثل ارتفاع الضغط والسكري واولى عمليات تقصي سرطان الرحم. وقد نتج لي عن ھذه التجربة ، زاد ھائل من المعلومات جمعتها في كتاب بثمانمائة صفحة وعنوانه ''المدخل إلى الطب المندمج'' أصررت على كتابته بالعربية لتنفيذ العهد القديم بان أكون وفيا للغة الضاد.
 وكان من بين برنامج العمل الذي استطعت أن اقنع به تلامذتي تكوين مكتبة طبية بلغة الضاد (سميناھا المكتبة الرازية في الطب) ووزعت العمل على أن ننتهي منه في ظرف عشر سنوات. ولو لم تدمر الدكتاتورية التجربة لكان للمكتبة الطبية العربية والتونسية اليوم، موسوعة كاملة في ميدان الطب الجماعي.
ذلك لأن الدكتاتورية نسفت من أسسه مشروعا جاھدت ­بقائه خارج السياسة لتفريقي بين المهني والسياسي لكن الدكتاتورية ّ لا تفرق بين السياسي والمهني والشخصي فسددت ضرباتها لي في كل المستويات .
والحق أنني قبلت دوما تعرضي للاضطھاد ، أما ضرب مؤسسة تعليمية وبحثية لمجرد أنني كنت المسؤول عنها فإن الأمر كان ولا يزال يثير في شعورا عميقا باستهجان للمسؤولين وعلى راسهم وزير الصحة للدكتاتورية واسمه الهادي مهني الذي شاءت سخرية الأقدار أن يكون زميلا سابقا ومن نفس الاختصاص.
وفي سنة 1992 ّحلت السلطة القسم وطردتني من القلعة، وفي سنة 1993 اختفت الألف نسخة من المدخل إلى الطب وفي سنة 1995 منعت من كل بحث علمي وفضل وزير الصحة أن تضيع مئات الآلاف من الدنانير على تونس (التي تحصلت عليها بمجهوداتي الخاصة من المفوضية الأوروبية ) على أن تمول أبحاث القسم حول انتشار مرض ارتفاع الضغط وعواقبه. وسنة 1996 رفضت لي الوزارة فتح برنامج اختصاص ثم حاربت الأطباء الذين غامروا في
التسجيل فيه ومع ھذا فقد استطعت فتح التخصص وتدريب قرابة الستين طبيبا الذين توزعوا في ارياف الوطن يحاولون تطبيق تقنيات ومنظومة فكرية يلعب فيها الالتزام الأخلاقي دور المحرك. وامام نجاح البرنامج وتكثف دوري في النظال الحقوقي لم تجد السلطة حلا غير طردي من الكلية نهائيا في صائفة 2000.
ومن نافل القول أ ّن ھذه الحرب الشرسة في المستوى المهني التي اشهرھا ضدي النظام كانت جزءا من حرب أوسع تمثلت في ضربي على كل المستويات الممكنة وذلك نتيجة انخراطي في العمل السياسي الذي حذرني من عواقبه الوخيمة عبثا الدكتاتور الأكبر – ومن ھنا فصاعدا سنسميه الحاج محمد- لأنه قبل أخيرا مبدأ ''نضج '' العائلة لإصلاحات ديمقراطية لا مفر منها عبر تمشي ثابت ومدروس وبأقلّ سرعة ممكنة .
وربما لاحظ القارئ ما أتكلف من جهد لإ­قناعه بأنني كنت دوما رجل علم وفكر تحاشى العمل السياسي ما استطاع لإعداده لتقبل فكرة انه وقع جرّي إليها جرا ليزداد إعجابه بتجردي من كل طموح ''مشبوه '' والحق أن ھذا ما حاولت إقناع نفسي به، ناھيك عن الحاج محمد.
 وحتى لا أستخف بذكاء القارئ أقول أنني كنت كالنمر بالمرصاد انتظر اللحظة السانحة للوثوب داخل الساحة السياسية ومن أين لي غير ذاك وقد ولدت في وسط تتحكم في مصيره السياسة وتربيت في حجرھا –الحديدي- ولاحقتني بمشاكلها طفلا ومراھقا وشابا، وهي اليوم حجر عثرة في كل ما أريد تحقيقه من العيش بكرامة وممارسة مهنتي بفعالية. وحتى لا أحرم نفسي من محاكمة عادلة أقول أنني كنت مخلصا في محاولة الابتعاد عنها.
لا شيء أكثر انتشارا عند الآدمي من التناقض فنحن نريد الشيء ونقيضه. وكانت ھناك جملة من الأسباب تدعوني للتمسك بالميدان العلمي منها نجاحي الواضح فيه وكل ما كنت أجنيه معنويا من نضال ممتع شريف وبدون خطر. إلا أنه كانت بداخلي قوى نفسانية هائلة تدعوني للنزول إلى الساحة السياسية منها إرادة الثأر لوالدي، لصالح بن يوسف الذي أمر بورقيبة باغتياله، لقيم يسخر منها النظام البورقيبي ثم جاء بن علي ليزيفها، ومنها أحلام واسعة عريضة للشعب والأمّة ومنها تمرد على ما كنت ما أرى من حولي من فوضى وظلم ورداءة ومنها طموح شخصي للشهرة والزعامة والريادة.
ولا أغرب من ضرورة الدفاع عن النفس عندما يتعلق الأمر بممارسة النشاط السياسي لأنك متهم بالطموح الشخصي ويصل الأمر إلى درجة منقطعة النظير من الغباء والنفاق عندما يتهمك بالأمر الماسك بالسلطة والمتشبث بها بأظافره وأسنانه أو ذلك الذي يسيل لعابه طمعا فيها وھو يفتعل البراءة من ھذه الخطيئة الكبرى . وخلاصة تجربتي اليوم بعد أن شبعت من ھذا الخطاب الغبي أن الشك شرعي وواجب اعتبارا للسوابق الخطيرة لكن السياسة كالزواج عمل شريف محركها مثله دافع شخصي ھو الشهوة وضرورة أھم تحرك ھذه الشهوة بل تستغلها لبناء العائلة والمجتمع وتواصل الحياة ّ وتجددھا .
الا­شكالية في الفعل السياسي الشريف أن توضع قوة الطموح الشخصي في خدمة المصلحة العامة وإلا كانت كالشهوة الجنسية التي ستغلّ للاغتصاب لا للإنجاب.
ولا بد أن تصم أذنيك عن ادعاء ھذا أنه يخدم الصالح العام والآخر ھو الذي يريد اغتصاب الشعب فأنت إلا تعرف من يضع طموحه الخاص في خدمة الطموح العام من ذلك الذي يركب الطموح العام لتحقيق طموحه الخاص إلا إبان حضور ساعة الخطر أو ساعة تقاسم الغنائم .
كم رأيت إبان ھذه العشرية من ناس باعوا الديمقراطية وحقوق ا­نسان بمنصب وزير ونائب في البرلمان وسفير وحتى معتمد في خدمة نظام دكتاتوري فاسد، وكم وضعوا ھذه القيم في الثلاجة عندما تهددت الأخطار أمنهم الشخصي. وبالمقابل ثمة من أثبتوا بصفة إلا تقبل الجدل برفضھم الخوف والطمع، أن لالتزامهم معنى وقيمة ، وأنهم يخدمون الوطن في الأول وأشخاصهم في المرتبة البعيدة وراء ذلك .
 المهم أنني كنت في حالة تردد أمام دخول العمل السياسي تتساوى داخلي قوى من نفس القوة وفي اتجاه معاكس.
ويكون الحكم في مثل ھذه الظروف، للقدر الذي يضع على كفة الميزان الريشة التي ترجح الكفة.
وفي نهاية 1979 رمي النرد وانعطف المسار للمرة الخامسة عندما جاءتني الممرضة لتقول لي ھناك شخص يلح على طلبك ويقول أنه من جريدة الرأي. وآنذاك تذكرت أنني كتبت مقالة طويلة عنوانها "لماذا نحن متخلفون" ضمنتها كل غضبي من مظاھر التخلف التي كنت أتخبط فيها داخل وخارج المستشفى.
وكان على الخط رجل من ألطف ما عاشرت ، ونسي الناس فضله ھو احمد الكرفاعي ، وكان آنذاك رئيس تحرير الجريدة الديمقراطية الوحيدة في تونس. طلب مني الكرفاعي أن أزوره في مكتب الجريدة وهو ما تم سريعا . قال لي الرجل مداعبا : لم أكن اعلم أن بإمكان الطباء الكتابة بمثل ھذا الخ ..
وقلت له على نفس الموجة، أن أطفال الأغنياء يولدون وفي فمهم ملعقة من ذھب، أما أطفال المرازيق فيولدون وفي فمهم عجز أو صدر بيت شعر. وھم إلا يزعقون إلا على وزن من أوزان الخليل.
قال لي الكرفاعي : من اليوم اعتبر ''الرأي'' جريدتك فوعدته بأن أحاول الكتابة كلما وجدت متسعا من الوقت. وصدرت المقالة لتثير جدلا تواصل أشهرا وكل يدلي بدلوه في خصوص الرد على السؤال وكانت تجربة ممتعة أن أرى جدلا فكريا راقيا في بلادي اثلج صدري وشجعني على مواصلة الكتابة .
شيئا فشيئا وجدت نفسي ابتداء من 1980 عضوا في مجموعة من الديمقراطيين الليبراليين التي تدير جريدة الرأي.
وكان على رأسھا حسيب بن عمار الذي فتح لي باب الجريدة ولم'' يصنصر'' ّ أي من مقالاتي على شدة لهجة لم تكن معهودة لا في الجريدة وإلا في بلاد تتلمس خطاھا بعناء واضح نحو ديمقراطية جنينية.
والحق أنني كنت سعيدا بعائلتي ھذه رغم علمي أنھا تتكون في أغلبها من أعضاء قدامى في الحزب المكروه وأن مواقف الجماعة من العروبة واإلاشتراكية كانت جد غامضة .ولم يكن يجمعني معهم إلا الخيار الديمقراطي . وعلى كل ، فقد كانت ھذه العائلة التي تبنتني الخيار الوحيد الممكن طيلة الثمانيات .فكل ما كان موجودا على الساحة ، أي التيار القومي والتيار اليساري والتيار ا­سلامي ، كان رافضا لي أو كنت رافضا له
 فقد لفظني القوميون وكانوا أول من غسلت منهم يدي. ففي سنة 1984 جاءني البعض منهم بعد صدور أول كتاب لي في تونس ''لماذا ستطأ القدام العربية ارض المريخ '' يطلبون مني بناء حزب قومي. فقلت لم لا؟ وھا هي منطلقات الحزب كما أتصورھا : العروبة حضارة وقيم والدولة المنشودة فدرالية على الطريقة الوروبية وليست الدولة المركزية ، والديمقراطية في كل قطر ھي المدخل ا­جباري لها ، وحقوق ا­نسان الركيزة ، ّ وللأقليات الحق في المساواة المطلقة وتنمية ثقافتها و الانفصال السياسي إذا شاءت .
وليس من السهل أن تكون متقدما بأفكارك عشرين سنة إذ لم اسمع من يومها بالجماعة.
وفي نفس السنة انعقد المؤتمر الثاني للرابطة ويومها قامت حملة عنصرية بغيضة ّضد أحد المرشحين للهيئة المديرة لأنه يهودي ( ھو سارج عدة الذي أصبح فيما بعد واحدا من أبرز رجالات الدكتاتورية ) ّ وشعرت بأن علي أن أوقف ھؤلاء الناس الذين كنت أحسب عليهم ويحسبون علي. فصعدت للمنصة وقلت أن فخري بالانتماء للعروبة ناجم بالساس على أنها الأمة التي قدمت لبنائها كمثال على الشجاعة اسودا ھو عنترة، وكمثال للكرم مسيحيا ھو حاتم الطائي ، وأنها جعلت من يهودي اسمه السمؤل رمزھا للوفاء .
وصفق الحاضرون طويلا للجملة العفوية وطالبوني بإعادتھا وارتفعت أسهمي في المؤتمر في حين سقطت قيمتها في الحضيض عند القوميين وقد إتضح لهم أنني قومي تحريفي وربما حتى قومي صهيوني.
وسنة 1987 رفضت الانخراط في حزب قومجي أسسته السلطة لمراقبة القوميين وكان يضم خليطا من المخدوعين والانتهازيين وأناس ارتبطوا بأنظمة مشرقية عبر قنوات مخابراتية .
وسنة 1990 كان الطلاق بالثلاث. فقد رفضت ضم الكويت بالقوة لوعي أن الأمر سيكون كارثة على الأمة ولمعارضتي الشديدة لكل النظمة الدكتاتورية التي أجملها الجزء الأكبر من مسؤولية وضعيتها المزرية . لا شك ان دكتاتورية صدام حسين ھي أشرس دكتاتتورية عربية وھي أكبر كارثة أصيب بها الشعب العراقي العظيم منذ إحراق المغول لبغداد .
 ولاشك أن وصمة حلبجة لعبت دورا كبيرا في بغضي الشخصي للدكتاتور الدموي فهي وصمة عار في جبين كل عربي لأن متنا لم تعرف يوما التصفية الجماعية وبمثل الأسلحة الهمجية التي استعملت في حلبجة أي الكيماوية ضد مدنيين عزل لشعب أبي له كل الحقوق التي نريدھا لنفسنا ، ناھيك على أنه أعطانا صلاح الدين ولا بد أن يأتي يوم يذھب فيه وفد عربي لحلبجة ليضع باقة الزھور على نصب للضحايا وان يقدم اعتذارات وتعازي الأمة ­لإخوتنا الأكراد .
كنت أخشى خاصة، أن يؤدي ھذا العمل الخرق إلى تصدع نهائي لما بقي من شبه نظام عربي وتدمير العراق نفسه وھو ما حصل بالضبط. وفي خضم الهستيريا الموالية لصدام نشرت مقالة في مجلة ''حقائق'' بعد كارثة الحرب أدين فيها الدكتاتور العراقي. فقامت الدنيا ولم تقعد وتخصصت في شتمي جريدة اسمها ''الشروق'' وكادت الرابطة التي كنت آنذاك على رأسها أن تنفجر. وبصق مجهول علي في الشارع . وكتب شخص أصبح فيما بعد عميدا للمحامين في جريدة ما ''أنه لن تقوم للعرب قائمة ما دام فيهم شخص اسمه منصف المرزوقي'' ولما جاءني أحد الصدقاء بجريدة عنونت بالخط الحمر الغليظ على الصفحة الولى : المرازيق يصدرون عريضة يتبرؤون فيها من منصف المرزوقي، بكيت كل ما في جسمي من دموع . وھل من وضعية أفظع وأمر على رجل مثلي أن يتهم في عروبته وفي شرفه وأن يعلن أھله وذويه على صفحات الجرائد تبرؤھم منه . لحسن الحظ لم تلبث ھذه الضجة أن ھدأت فعاد القوم لرشدھم وبادر المرازيق بعريضة مضادة أوسع من التي ھاجمتني يرفضون فيها تخويني ، إذ لم يكن ھناك عاقل واحد يصدق أنني صهيوني متستر وأقبض الشيكات الضخمة من أمراء الكويت. والمضحك في الأمر أن مجلة ''العربي'' صدرت سنة 1992 بمقال لمحمد الرميحي رئيس تحريرھا آنذاك يقدمني كمثال ساطع على المثقف العربي الذي ارتمى في أحضان صدام و نادى بتدمير الكويت . ورفض الصحافي النابه نشر التكذيب وھذا حال التخلف العربي أيا كان المستوى والبلد.
ولم يكن حظي مع اليساريين أحسن. وربما كانوا يعتبروني برجوازيا صغيرا لرفضي الماركسية والحال أنني كنت أقرب منهم ألف مرة للشعب في عملي اليومي بالقلعة وأفقر مدن وقرى الساحل ، و قلّ منهم من كان يعلم أنني زرت الصين في بداية السبعينيات لأدرس نظام الكومونات وطريقة تقديم الخدمات الصحية وأنني طبقت في القلعة بعض الأفكار التي استلهمتها من قلعة الاشتراكية آنذاك؟
إلا أن الخصام الأكبر وحتى العداء كان من دون شك مع الا­سلاميين، النجم الصاعد في الساحة السياسية طوال الثمانيات وأذكر ان بعض الصدقاء حثني على حضور درس إ­مام معروف يدر س على ما أتذكر ، في مسجد صاحب الطابع ، لأخذ فكرة عن خطاب ا­سلاميين. وخرجت من ''الدرس'' مصدوما من خطاب فج عنيف عنصري لا يختلف ھيكليا عن خطاب أقصى اليمين الفرنسي لكن بتغليف ديني. ومن حسن الحظ ان الخطاب ا­سلامي التونسي اليوم قيادة وقواعدا تغير بصفة جذرية .
وفي بداية الثمانيات كنت أجوب البلاد مغتنما الحرية النسبية التي كنا نتمتع بها آنذاك ، أحاضر في التربية الصحية وفي حقوق ا­نسان . وأذكر أنني دافعت في إحدى ھذه المحاضرات ، في باجة على ما أذكر ، عن ضرورة فصل الدولة عن الدين لأن كل التجربة التاريخية لكل الشعوب تظھر بان المزج بينهما وقع دوما لصالح الدولة التي تستعمل الدين كغطاء للاستبداد فالدولة بطبيعتها سياسة والسياسة صراع مصالح والدين داخل ھذه المنظومة ليس اكثر من ورقة بين يدي فرق سياسية. كما قلت أن ّ الدولة تستمد قوتها من السلطة pouvoir في حين أن الدين يستمد قوته من السلطة المعنوية autorité. ويومها ثارت ثائرة مراھقين ملتحين اشبعوني شتما .فانزعجت كثيرا لما عاينته من تعصب وجهل وغرور بدا لي منذرا بكل الأخطار مستقبلا، ولما اتهموني بالكفر والالحاد أضحكتني التهمة الغبية.
ومن أين لي أن أفسر لهم أنني تلميذ الرازي وابن الجزار في الطب وتلميذ ابن عربي والحلاج في العقيدة وھل كانوا يفهمون طبيعة إيماني لو أنشدتهم مقولة معلمي الأول :
لقد صار قلبي قابلا كل صورة........... فمرعى لغزلان ودير لرھبان
وبيت لوثان وكعبة طائف              ولوحة توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أين توجهت.................ركابي فالحب ديني وإيماني
كان مصدر معارضتي الشديدة آنذاك للإسلاميين سياسيا وليس عقائديا. فالعروبي في ، كان يتذكر أن ا­لإخوان أطلقوا النار على الرئيس في ا­سكندرية سنة 1954 ، وأن أمريكا كانت وراء الحلف ا­سلامي برئاسة الملك فيصل لضرب الحركة الوحدوية ، ثم من أين لي قبول حركة ستقسم الأمة إلى مسلمين و''ذمة ''.
 أما الاشتراكي فكان يتذكر أن السلطة كانت في السبعينيات وراء الجماعات ا­سلامية في الجامعة لضرب اليسار.
وعلى كل حال فإنه لم يكن بإمكان ديمقراطي لا يخشى شيئا قدر خشية عودة الاستبداد في شكل العن وأشّد ھو الاستبداد باسم الدين ، قبول تيار يشكك في حقوق المرأة ويريد استنباط قوانين العصر من قوانين القرن الأول للهجرة. كان ھذا و لا يزال أمر يرفضه عقلي بمنتهى القوة. فأنا أفصل بين الوفاء للتراث والتشبث به . إنني ّ وفي للرازي، معجب به، ممنون له، ولكنني لا اشعر أنه يطالبني بإثبات الوفاء بتطبيق علاجه للسل الذي كان يداويه بالخمر وإنما بمواصلة كفاحه من أجل الصحة بلغة عصري وتقنياته . وھكذا اعتبرت من واجبي التصدي لهذا التيار وكانت ھناك أكثر من فرصة لأعلن رفضي لمقولاته منها مقالة نارية نشرتها في الصباح سنة 1988 عنوانھا ''من أجل مريم ونادية '' أؤكد فيها أن التعدي على حقوق المرأة خط ّ أؤكد فيھا احمر إلا يجب على ا­سلاميين تجاوزه. لكن المعركة السياسية الحقيقية وقعت سنة 1986 عند نقاش ميثاق الرابطة واندلاع قضية البنود الربعة ''المنافية '' للدين (ا­عدام، التبني، المساواة بين الجنسين، الحدود). وكان داخل الهيئة المديرة من يريدون تمييع ھذه الفصول لأنهم كانوا يخطبون ود الإ­سلاميين لأسباب تكتيكية وكنت من أشد الرافضين لأي تنازل في الموضوع وأذكر أن علاقاتي بممثل ا­سلاميين المرحوم سحنون الجوھري (الذي مات في ظروف فطيعة في سجن الدكتاتورية في منتصف التسعينيات ) كانت صعبة للغاية وھو ما آسف له اليوم فقد أخطأت فهم الرجل مثلما اعتقد انه أساء فهمي. ولا ألعن ولا أمر من سوء الفهم المتواصل بين البشر و كأنه قدرنا.
 وتشاء سخرية الأقدار أن تجعل مني أشد المدافعين عمن كنت أعتبرھم ألد أعدائي وأنا فجأة على رأس رابطة حقوق ا­نسان وفي مرحلة من أخطر مراحل تاريخ تونس الحديث.
***
كان دخولي للرابطة سنة 1980 بمجرد الصدفة أو ھكذا خيل لي .فقد جاءني صديق يطلب مني الانخراط فسألته عن ھذه الجمعية التي كنت أعجب ببلاغاتها التي تصدر في'' الرأي '' فشرح لي نشأتها وأھدافها فلم أتردد في دفع معلوم الاشتراك ونسيت الموضوع لكثرة وتنوع مشاغلي.
وسنة 1984 اتصلت بي بعض قيادات الرابطة لدخول الهيئة المديرة في قائمة وفاق . وكنت قد اكتسبت آنذاك عبر مقالاتي في ''الرأي'' والاحتكاك بالطبقة السياسية والنشاط الطبي والاجتماعي، مكانة مشرفة في المجتمع. ولم أتردد في قبول العرض دون ان يخطر ببالي لحظة واحدة أن الرابطة التي كان الكل يقسم فيها بأغلظ الأيمان أنها ليست مؤسسة سياسية ستكون الباب الكبير الذي سأدخل منه سياسة رفضت دخولها عبر الأبواب الصغيرة للأحزاب الصغيرة. والحق يقال أنني بقيت مدة طويلة عضوا ''لتزيين المحفل'' فقد كانت الهيئة المديرة بين يدي الجازي والشرفي والشماري أساسا . ولم يكن الأمر يضيرني كثيرا بما أن المواقف كانت جيدة و لم يكن لي متسع من الوقت لأبحث عن موقع قدم وأنا غارق إلى الأذنين في تجربة الطب الجماعي ومشاكل جمعية المعاقين والكتابة الفكرية في مشاكل الديمقراطية وحقوق ا­نسان بجانب الأبحاث العلمية وا­شراف على عدد متزايد من أطروحات الدكتوراه. ولم أكن أتدخل بقوة إلا في حاإلات نادرة منھا نقاش ميثاق الرابطة.
وإبان ھذه الفترة بدأ مسلسلي مع ''القضاء'' وأحلت على المحاكمة أكثر من مرة بسبب مقالاتي في ''الرأي" وخاصة من اجل كتاب ''دع وطني يستيقظ'' التي صادرته السلطة.
وجاء انقلاب بن علي لأتلقاه بترحاب ، لكل الأسباب السياسية المعروفة ، ولسببين خاصين أولھما توقف التتبعات ضدي وإطلاق سراح كتابي ، وثانيهما رجوع الحاج محمد الذي اقسم انه لن يطأ ارض تونس ميتا أو حيا تحت حكم بورقيبة *
وكانت المبادرات الأولى التي أخذھا بن علي تجعلني أتساءل ھل من الممكن أن تصدق نظرية ''ھيجل'' حول ما في التاريخ من سخرية أي ھل بإمكان جنرال البوليس ھذا أن يرسخ النظام الديمقراطي.
والحق أنني لم أكن مناھضا للرجل وإنما كنت حذرا دون إفراط. وإلا شك أنه لو جاءني أحد اليوم ببعض مقالاتي في تلك الفترة لأنكرت نسبتها إلي ، خاصة تلك التي نشرتها في جريدة الصباح سنة 1988 على ما أذكر، والتي عنونتها (تصوروا)، ''الجنوب يا بن علي'' وكنت أقصد بالجنوب كل المناطق الفقيرة المنسية من البلاد. نعم سأرفض نسبتها إلي ّ ، حتى تحت التعذيب، مدعيا أنها مؤامرة خبيثة لتشويه سمعتي سنة 2000.
وليس لي في الواقع أن أخجل من حسن نيتي وحتى سذاجتي ، بقدر ما يجب على بن علي أن يخجل بما فعله بكل الأماني التي علقها عليه رجال نزھاء والتي لو أطھر جدارته بها، لدخل التاريخ من أوسع أبوابه بدل أن يطرد منه من البواب الخلفية .
ّثم تزايد ابتعادي عن النظام وتصاعدت حدة نقدي له يوما بعد يوم أمام ما كنت أراه من عودة تدريجية ألركان النظام البورقيبي إلا أن القطيعة الحقيقية لم تحصل إلا بمناسبة انتخابات 89 وكان لتزييها وقع الصاعقة على نفسي ، رغم أنني كنت آخر من يود أن يفوز بها الإ­سلاميون.
كان الخط الأحمر ولا يزال مبدأ سيادة الشعب وقد رفضت ولا أزال بكل قوة ترھات ''النضج'' و'' التمشي'' والقطرة قطرة فمنهم ھؤلاء الناس الذين يحق لهم تقييم '' النضج'' وتحديد سرعة المسار الديمقراطي إنهم جزء ضئيل من الشعب نصبوا أنفسهم أولياء وأوصياء عليه وليست لهم أدنى شرعية أو حق في تنصيب أمفسهم وليس في النظم السياسية المعاصرة غير شرعية تاريخية في النظمة الملكية وشرعية الصندوق في النظمة الجماھيرية . وكل ما ينتج عن تزييف إرادة الشعب ھو بالنسبة لي الخيانة العظمى ولا خيانة عظمى غيرھا لأنه مصادرة حق مقدس وإذلال الناس والسخرية منهم.
ومنذ ذلك التاريخ أصبحت خصما صلبا للنظام أنظر باستياء متعاظم إلى دخول قيادات الرابطة إلى الوزارة وتصاعد ضرب المؤسسات الهشة التي استطاع شعبنا تكوينها ضد بورقيبة في بداية الثمانيات، واستتباب النظام الدكتاتوري بأركانه المعروفة من شخصانية وتزييف الانتخابات وتقييد الصحافة ثم تدميرھا وبداية انتشار الفساد والاستيلاء على المؤسسات أولها اتحاد الشغل .
ويمكنني الآن فهم العيب الهيكلي الذي إنبنى عليه نظامنا السياسي منذ ''الاستقلال ''فبورقيبة، ومن بعده خلفه بقي عاجزا إلى آخر لحظة عن الارتقاء بمنصبه إلى دور ممثل الشعب بكل اختلافاته وتعدديته المتعاظمة .
لقد بقي دوما رئيس حزب منتصر أي رئيس جزء من التونسيين وبقي الجزء الآخر في وضع الذمي السياسي الذي يقبل بوجوده طالما لم يتطاول على أسياده وإلا أتهم بان في قلبه مرض وانه شرذمة ضالّة بل وحتى خائنا بما أن الشعب اختزل في الحزب والوطنية في الولاء لرئيسه.
والا­شكالية في مثل ھذا النظام أن الجزء غير الممثل، لا يختفي لسواد عيني السلطة، وإنما يبقى يتململ منتظرا ساعته. وھذا يتطلب من السلطة جهازا بالغ التكاليف المادية والأخلاقية لمنع الجزء المقموع من الظھور إلى السطح بجعجعة طواحين الإعلام الرسمي والقمع المتواصل والتعذيب والانتخاب المزيف ّ وما ينجر عن ذلك من رد فعل يؤدي إلى مزيد من إحكام القبضة فمزيد من المشاكل. وھكذا يدخل المجتمع في صراع صامت يتخلله انفجار براكين الغضب.
ولا خروج من ھذا النظام إلا عند ما نقبل تعدديتنا الموضوعية ونسمح لها بالتعبير السياسي.
ولا حل أمامنا غير نظام سياسي يجعل رئيس الجمهورية خارج الأحزاب و فوقها وممثلا لكل التونسيين من ا­سلاميين إلى الشيوعيين مرورا بكل الطيف القومي والديمقراطي والدستوري والليبرالي و له السلطات الكافية ليمثل كل الشعب ويسهر على تمتع الجميع بالحقوق والحريات ويكون حكما في الصراعات السياسية ، فيمثل حالة وسطية بين الرئيس المطلق الصلاحيات كما ھو الأمر في الدكتاتوريات المتخلفة والرئيس المنعدم الصلاحية كما ھو الأمر في الأنظمة البرلمانية.
وكان أمرا مؤثرا أن أرى أخيرا 'أين في الناس'' يغرس مرفقه في رمل دوز كما كان يحلم لعقود. وقد توفي في مراكش بضعة أشهر بعد زيارته الأولى والأخيرة، وكأنه قضى وطره من الدنيا. وكادت أن تنشب حرب أھلية على جثمانه إذ كان الفرع التونسي يرغب في دفنه في تونس والفرع المغربي يصر على دفنه في المغرب .وحسمت النقاش قائلا أن كل ارض ھي دار العروبة وا­سلام والوالد كان له صديق مراكشي حميم، فلا بأس أن يرقد بجانبه ليواصلا إلى الأبد نقاشهما وضحكهما حول الوطن والنساء والطفال.
ويستكمل جهاز السلطة التنفيذية المتوازنة برئيس حكومة يكون رئيس الحزب الأغلبي وله السلطات الكافية لإ­دارة شؤون البلاد تحت رقابة برلمان ممثل للتعددية الحقيقية والمصالح المتناقضة لفئات المجتمع.
كان دخول الشرفي الوزارة بعد انتهاء المؤتمر الثالث للرابطة في ربيع 89، والحال أن الدكتاتورية كانت قد خطت خطوات كبيرة في التمركز، أمرا بالغ الخطورة على سمعة الرابطة، خاصة أنه كان الرئيس الثاني الذي يدخل الوزارة، ناھيك عن كاتبين عامين سابقين. وأذكر أن  الرجل أكد لي انه لا نصيب من الصحة لشائعات توزيره أسبوعين قبل دخوله الوزارة .ولو قيل لي أنه سيبقى في الوزارة طيلة سنوات خمس عرفت موت قرابة الثلاثين تونسيا تحت التعذيب وإعدام ما لا يقل عن عشرة وحلّ (وھو رئيسها الشرفي) وعسكرة جامعة ھو وزيرھا، لما صدقت.
وھذا الرجل من نوع السياسيين الذين يؤمنون أو يفتعلون الا­يمان بأن الغاية تبرر الوسيلة والحال أنني أؤمن إيمانا راسخا انه يستحيل تحقيق غايات نبيلة بالوسائل القذرة او بالسكوت عن مثل ھذه الوسائل. ّ وإلا شك أن انتخابي في أبريل 89 كان نتيجة حسابات معقدة منها أنني كنت المستقل الوحيد آنذاك الذي كانت تتوفر فيه شروط متضاربة منها البعد عن النظام ، وھو ما كان من شأنه وقف مسلسل التوزير، ومنها العداوة المتينة مع ا­سلاميين الأمر الذي كان من شأنه طمأنة اللائكيين، ومنها توھم البعض أنني مثقف ساذج سيسهل قيادته.
وربما كان ھؤلاء أول من خيبت ظنهم في عندما اتضح أنني سأكون رباّن السفينة وليس راكب الدرجة الأولى الكسول الذي يترك المور بين يدي أھل الحل والعقد. ولم البث أن خيبت ظن اللائكيين أيضا لموقفي ''الشاذ'' من ا­سلاميين. والوحيد الذي لم أخيب ظن ھو بن علي الذي انطلق حقده حال التصريح الأول لمجلة "حقائق " بأنني لن أكون وزيرا ، وان الرابطة كانت وستبقى مستقلة ّ ، وأنها ستقوم بدورھا في مراقبة تدھور الحريات والتصدي لكل انتھاكات حقوق ا­نسان .
والحق يقال، إن آخر ما كان يخطر على بالي، أن العاصفة ستهاجم الباخرة حال استلامي الرئاسة وكأن الأقدار تترصد بي أو تريد امتحاني .
وكانت الزوبعة الأولى حرب الخليج ولم أخرج منها مثخنا بالجراح إلا لاواجه الحرب التي اشهرها النظام ضد الا­سلاميين وكانت حربا ضروسا، شرسة، قذرة، وضعت الرابطة ووضعتني كرئيسها أمام خيار مصيري . ولقد كانت سنوات 91 - 94 حقا رھيبة في تاريخ تونس وإلا أظن أن تاريخنا المعاصر عرف لها مثيلا من حيث مستوى عنف الدولة وإرھابها للمجتمع وضرب كل مؤسساته بتلك الحجة المعروفة لكل الدكتاتوريات: إلا صوت يعلو فوق صوت المعركة .
وفي بداية الحملة أسرّ البعض في أذني:" ّفخار يكسر بعضه ''، لنترك السلطة تخلصنا من الاسلاميين وسنتخلص نحن يوما منها. وقال لي آخرون لتكن إدانة الرابطة في الحدود الدنيا حتى لا تستهدف هي الخرى .
ولم اقبل بالطبع بأي من ھذه النصائح، وجاء موقف الرابطة في إدانة المداھمات والتعذيب والمحاكمات الجائرة قويا واضحا متواصلا لا لبس فيه ، فأدھش السلطة واربكها ثم أثار حفيظتها ثم حقدها ثم قرارها بتدمير المؤسسة والمسئول الأول فيها وإنه لمن التجني على التاريخ القول بأنني كنت الوحيد للدفاع عن ھذا الموقف فقد كان الغالب داخل الهيئة المديرة سنة 1991 لكن من ا­نصاف القول أن من ثبتوا عليه إلى سنة 1994 كانوا يعدون على أصابع اليد الواحدة. ومن نافل القول أن ما سمته السلطة بالتحالف مع ا­سلاميين لم يغير في شيء موقفي الدائم من ضرورة الفصل الصارم بين الدولة والدين وتحقيق المساواة التامة بين المرأة والرجل واستنباط قوانين المجتمع والدولة من التشريع العالمي والا­علان العالمي لحقوق ا­نسان .
وإن لم أتردد لحظة، أو أندم، في اتّخاذ موقف كلفني الغالي والنفيس فيما بعد، فلأن أھم القيم بالنسبة لي وفاء الا­نسان لمبادئه ومنطلقاته وثباته عليها وعدم التناقض مع النفس وھذا أمر بالغ الأهمية بالنسبة لرجل علم تربى ذھنه على الانصياع لكل ترتبات المنطلقات الأولى سواء فرضتها مبادئ الهندسة أو قوانين الفيزياء، أو المنظومة الفكرية لحقوق الا­نسان.
 من أين لي التردد والا­علان العالمي يقول بواضح العبارة أنه لكل شخص الحق في كذا وكذا، أي أنه للإسلاميين، ككل التونسيين لا أكثر ولا أقلّ، الحق في الحرمة الجسدية والحق في المحاكمة العادلة والحق في الرأي والحق في التنظم السلمي والحق في المشاركة في الشأن العام والحق في الانتخاب بل وفي الحكم إذا أراد ذلك شعب سيد مصيره.
ومن بين الدوافع إيماني أيضا بأن السياسة كالرياضة أخلاق أو لا تكون. وثمة من كان يأتيني بالنصح : لا تنس دوما إدانة أفكار الا­سلاميين والتباين معهم. وكنت أردّ بأن ھذا ما سأفعله بالضبط عندما يكونوا في وضع يسمح لهم بالرد ّ عليّ، لأنني لا أحارب جريحا ملقى على الأرض.
ومن نافل القول أن السياسة '' رياضة '' أقرب إلى Rugby بفضاضتها وقسوتها وخشونتها، منها إلى الشطرنج. ولكني أؤمن بأن حتى ھذه الرياضة القاسية بحاجة إلى قواعد و إلا استحال اللعب وأصبح عراك سكارى. وثمة من يمارسون السياسة على أنها لا -أخلاق أو لا تكون. وھكذا يصبح تصريف الشأن العام مثلما ھو الحال داخل كل فرد منا، صراعا بين أخلاقية جماعية ولا - أخلاقية جماعية.
وعلى كل سياسي أن يختار الصف الذي يمارس منه ھذا الشأن العام مع العلم أن تاريخه وحده مع الخوف والطمع ھو الذي يكشف الصف الذي اختار. وقد اخترت بكل وعي أن أمارس السياسة كأخلاق أو لا تكون، معتقدا إلى اليوم أن ھذا الخيار ''الساذج'' يضمن المصلحة العامة ويضمن على الأمد الطويل وفي العمق حتى المصلحة الخاصة. ولا شك أن حساسية الطبيب أمام العذاب الا­نساني لعبت دورا في تعاطف متزايد مع الا­سلاميين وھم في أوج محنتهم. ولم يكن من الممكن أن أسكت عن كل تلك الصرخات التي كانت تدوي من كل التقارير والرسائل والشهادات التي تصلنا بتدفق غزير.
مما سهل كثيرا الموقف، وأظهر فيما بعد صواب الخيار، أن الا­سلاميين رغم ما تعرضوا له من مظالم يندى لها الجبين وشراسة الاستفزاز المسلط قصدا وعمدا لجرھم لرد الفعل، لم يركنوا يوما إلى العنف. وكان ھذا من حسن حظ تونس مقارنة مع استراتجية قطاع واسع من الحركة الا­سلامية في الجزائر. ھكذا بقيت الآلة البوليسية الضخمة التي أسسها الدكتاتور تدور في الفراغ. وكان لا بد لها من عمل لتبرير وجودها فتوجهت للديمقراطيين كما كنت أتوقع من البداية لتنتهي يوما بالتهام الدكتاتور ونفسها كما هي القاعدة عبر التاريخ. فمصيرها ذلك الذي وصفه إيليا أبو ماضي
وانظر إلى النار إن الفتك عادتها.....لكن عادتها الشنعاء ترديها
تفني القرى والمغاني وهي ضاحكة.....لجهلها أن ما تفنيـه يفنيها
اكتشف اليوم بمرور الزمن أن ھناك سبب آخر كان يحركني من الأعماق للوقوف بجانب الاسلاميين. ولم أع به إلا عندما فرضت عليّ الظرو ف أن أعيش في وسط من لون واحد ھو الوسط الائيكي المتشدد.
وكم كنت أشعر بالغربة داخله. وإنها لمعضلة بالنسبة لرجل اجتماعي مثلي أن يعيش دوما غريبا بين كل من عشت بينهم من قوميين ولائيكيين وإسلاميين واشتراكيين وثمة دوما شيء ھام يفصلني عنهم في الوقت الذي ثمة شيء هام آخر يجعلني أقرب إليهم مما أتصور ومما يتصورون. مما كان يجرحني ويحرجني بالأساس موقف أناس سميتهم الأصوليين الائيكيين وكنت اسمعهم يتكلمون عن الا­سلاميين وكأنهم زبانية جهنم. إلا أن الا­حراج كان ينقلب بسرعة إلى استنكار شديد وأنا اسمعهم يطعنون في ثوابت الأمة ومقدساتها وكأنهم جزء من أقصى اليسار الفرنسي أو حتى أقصى اليمين وليسوا توانسة. كانوا ولا يزالون يثيرون استغرابي لسطحية تغر بهم وسطحية تعربهم خاصة وهم يحقّرون كل ما ھو عربي مسلم بتلك اللغة الهجينة التي أشاعها في شعبنا كمرض لغوي معدي، من رفضوا أن يكونوا عربا واستحال عليهم أن يكونوا غربيين.
وما من شك أن الباكلوريا الفرنسية والثقافة الفرنسية والصداقة الحقيقية التي أكنها للشعب الفرنسي ، كانت بمثابة نوافذ وشرفات إضافية وبعض من نفيس الأثاث لبيت ھندست شكله ورفعت جدرانه ''الصادقية ''، وتحمله دعامات بالغة المتانة والصلابة تضرب في أعماق خمسة عشر قرنا من حضارة الآباء والأجداد.
وهذه الحضارة ليست لغة ومعتقدات وأطروحات فحسب وإنما هي ايضا تلك العادات والتقاليد التي بكونها لا تكون للشعوب وللأفراد ھوية . فممّا طبع شخصيتي بطابع لا يمحى، ذكريات طفل تربى في حجر جدّ يعود من ''الغوط'' في آخر النهار ليجلس على الحصير الرث في بهو الحوش الفقير مرتلا القرآن إلى صلاة المغرب ويأخذني معه لصلاة العشاء التي كان لا يصليها إلا على في ضريح الولي ''المحجوب '' واحيانا في مسجد ''الغوث'' الجدّ الآخر للمرازيق. وفي فناء المسجد الصغير كنت ألعب مع أترابي إلى أن تنتهي صلاة الشيوخ فأعود مع جدي عبر كثبان الرمل والليل قد أرخى سدوله على القرية الساكنة والنجوم تتلألأ في سماء سحرية الجمال لا تتطاول على أبهتها أضواء المصابيح الكهربائية المجهولة آنذاك .
لا أذكر أن الوالدة كانت تحتفي بيوم قدر احتفائها بالمولد النبوي الشريف. وكانت فرحتها واضحة وهي تعد العصيدة البسيطة بالزيت والسكر بشغاف القلب لا باليدين ( أما عصيدة الأكابر التي يسمونها عصيدة الزقزقو فلم تعرف طريقها لبيتي إلا مؤخرا، تنتظر أياما من يأكلها ، فالحب ليس فقط للحبيب الأول وإنما أيضا للعصيدة الأولى) وھناك '' اللمّة '' يوم عيد الأضحى بعد صلاة العيد في ''المحجوب''جامع الآباء والأجداد، عندما تجتمع عائلة (أو قل قبيلة )البدوي وفيها أكثر من خمسين نفرا يفترشون الأرض حول قصاع الكسكسي. وثمة ألف ذكرى وعادة ليست ذات بال إذا أخذت منفردة، ولكنها تتجمع كالخيوط لتنسج ''زربية'' الشخصية . وليس للمرء غير ھذا النسيج ليصنع منه ذاته فإذا لم يثق فيه أو احتقره ارتكب خطأ بناء ذات ھشة غير واثقة من نفسها وارتكب خطيئة احتقار القاعدة والبوصلة التي تسمح باستكشاف الذات والعالم والآخر. وھكذا كان الكلام الذي اسمعه حولي يثير في شعور من يرى أحدا يبصق على وجه جده ويمسح قدميه في برنسه .
إن كان خصام العروبيين والا­سلاميين قاسيا أحيانا، فإنه خصام من داخل نفس المنظومة الحضارية إلا من خارجها. ھو خصام حول الطريقة المثلى لتحقيق نفس الهدف أي تجدد الأمة وتواصلها. فنحن غصنان نبتا من نفس الجذع ، كلّ في اتجاه. والفارق أنهم يريدون التواصل كاملا ويناورون في حجم التجديد، ونحن نريد التجديد كاملا ونناور في حجم التواصل ، والزمان وحده يقرر غير آبه بإرادة ھذا أو ذاك، حدود كل تواصل وعمق كل تجدّد.
 ***
ولم تكن قضّية الا­سلاميين، خاصة في موضوع التعذيب المجرم، الخصومة الوحيدة بين الرابطة وبين السلطة وإنما كانت أبرزھا. وليس ھذا موضع كتابة تاريخ العشرية المظلمة (ويمكن للقارئ أن يعود لكتاباتي السياسية الموجودة على الموقع).
ومن أھم ملفات الصراع المرير حرية الصحافة .ففي 25 جويلية 1991عرضت على الهيئة المديرة مشروع بلاغ حول التردي الرهيب للصحافة في بلادنا وكان إدانة شديدة اللهجة لعملية اغتيال مع سابق ا­ضمار للصحافة ومن خلالها للفكر والثقافة واعتداء على الذكاء والخلق والابداع. والحق أن خنق حرية الصحافة كانت ولا تزال حجر الزاوية في نظام حكم على شعبنا أن يبقى '' مضرّجا بالصمت ''، من فرط خوفه من تداول الناس للموضوع الجوھري وبيت القصيد في ھذه الدكتاتورية ( وھو اليوم حديثهم المفضّل رغم كل محاولات التسلط لقتل الا­علام) الفساد أي الجريمة الاقتصادية التي استفحلت في تونس بشكل لم يسبق له مثيل واتخذت أشكالا من الخطورة والتعقيد ما لا يكاد يصدق.
وكان ھذا البلاغ نقطة النهاية في محاولة استدراجي لمواقف اقل ''تصلبا '' وقررت السلطة على اثره استعمال العصا الغليظة وھكذا فتح مسلسل الاضطهاد الذي لم ينتهي إلى حد تاريخ كتابة ھذه السطور.
ففي صائفة 1991 وجدت على مقدمة السيارة عصفورا اسودا مذبوحا وطلبت من أعضاء الهيئة المديرة معاينة ''الرسالة ''. ثم أوقفني البوليس لاستجواب أول كان يراد منه إرهابي في فبراير 1991، وفي جوان 1992 قررت السلطة حل الرابطة بعد أن رفضت قانون الجمعيات. وكنت أفشلت كل المخططات التي كان يدعو لها البعض داخل الهيئة المديرة للتعامل ''المرن '' مع القانون، مرددا لزملائي :تموت الحرة ولا تأكل بثدييها . وإبان سنة حل الرابطة، أحلت مع 17 مثقفا على القضاء، بتهمة تكوين جمعية لم تعمر سميناها ''لجنة الدفاع عن المساجين السياسيين'' وواصلت العمل الرابطي عبر لجنة سرية تكونت من سهام بن سدرين ومصطفى بن جعفر والطاھر شقروش وعبد الكريم العلاقي الذي هرب منها عندما تكثف القمع.
وكان عمل ھذه اللجنة واستثمارها لقرب انعقاد مؤتمر الأمم المتحدة لحقوق الا­نسان في فيينا، سنة 1993 سبب تراجع السلطة في قرار حلّ الرابطة. وفي جوان من نفس السنة تحولت برفقة مصطفى بن جعفر وسهام بن سدرين لفيينا لنشرح الوضع في بلادنا، تلاحقنا جحافل جرارة من المخبرين.
 وعشية الرجوع إلى تونس، تلقينا مكالمة من مجهول تعلمنا بأنه سيتم إلقاء القبض علينا حال وصول المطار وربما كان أمل خابرات أن نبق في النمسا وان نطلب اللجوء السياسي وقررنا الرجوع ولم نجد في المطار إلا الصدقاء الذين بلغتهم الا­شاعة وھبوا قلقين لاستقبالنا. وسنة 1993 بدأ مسلسل اعتقال أخي محمد علي وتلفيق التهم ضده في محاولة بائسة لضربي. وفي نهاية مارس 1994 دخلت السجن بعد الانقلاب الذي دبرته السلطة داخل الرابطة وردي عليه بالترشح لرئاسة الجمهورية انتقاما لضرب الرابطة وأيضا لكسر هالة القداسة المفتعلة حول ھذا المنصب وللتذكير بأن النظام الجمهوري يعطي لكل مواطن الحق في الترشح له (وكم ضحكت سنة 1999 لمحاولات السلطة تنظيم انتخابات ''تعددية'' بعد أن جعل ترشحي البقاء على الوضع القديم مستحيلا). ثم أطلق سراحي في شهر جويلية نظرا للحملة الدولية وخاصة لتدخل مانديلا الذي كنت عرفته في اجتماع للجنة نوبل للسلام دعيت إليه في أوسلو سنة 1991 .
ھكذا خرجت من السجن بعد أربعة اشهر من الزنزانة الانفرادية، لأجد حولي خرابا بلقعا. فقد قررت زوجتي مغادرة تونس نهائيا خوفا على سلامة البنتين. وسقطت وجوه بارزة من المعارضة وحركة حقوق الا­نسان في خدمة الدكتاتورية عادت اليوم تعلن التوبة وتطلب العفو.
 وبدأت أصعب مرحلة من حياة كانت دوما بالغة الصعوبة. فقد منعت من السفر ومن الهاتف وطردت من المستشفى الجامعي ومن مصحات الضمان الاجتماعي في الوقت الذي كانت فيه كل كتبي ممنوعة. وضرب حولي طوق رهيب من العزلة. وكنت أعلم إذا دق الجرس أن الزائر شرطي أو الهاشمي جغام صديق المحن أو شقيقي مخلص (ومن الصح أن أقول عنه أيضا صديقي مخلص)
وكنت أتمثل دوما بقول أبي العتاھية
ما الناس إلا مع الدنيا وصاحبها.....فكيفما انقلبت يومها انقلبــوا
يعظمــون أخ الدنيا وإن وثبت......يوما عليه بما لا يشتهي وثبوا.
والحق أن ھذه العزلة الرھيبة التي دامت من 94 إلى 97 كانت أغزر السنوات كتابة وتفكيرا. فقد أغلقت الكلية أمامي كل أبواب البحث العلمي ورفضت لي خلق شهادة التخصص في الطب الجماعي فلم يبق أمامي سوى الكتابة السياسية. وخلال ھذه العزلة كتبت ''الاستقلال الثاني '' الذي طبع ببيروت ولاحقته السلطة حتى في لبنان ثم ''الا­نسان الحرام '' الذي نشره أصدقاء في المغرب بتمويل من الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي .
 لم ألبث أن استهلكت كل ما في وطابي من الأفكار السياسية والحقوقية وأنا رجل أكره أن أردد نفس الكلام. وھنا جاءتني فكرة تجربة نوع جديد علي من الكتابة أي الأدب. واستهوتني فكرة كتاب على شكل الأيام لطه حسين - وكان مع ''مذكرات نائب في الأرياف ''لتوفيق الحكيم من نوع الكتب القليلة التي أعيد قراءتها على الأقل مرة كل سنتين وأكاد اليوم أحفظ كل جملة فيها.
والحق أنني كنت أشعر بالحاجة الماسة لمثل ھذه الكتابة التي يسمح فيها للذات بالتعبير عما تمر به من محنة وما تقاسيه من آلام وكنت دوما أنصح مرضاي عندما تضيق بهم السبل بكتابة ما يشعرون به لمن يعرف الكتابة وبالتنفيس عن الكرب بالحديث مع الأصدقاء والجميع ووضع مشاكلهم بين قوسين والتوجه لنشاط لا علاقة له بما يواجهون من صعوبات.
 كان الحصار البوليسي طيلة ھذه السنوات فرصتي الذھبية للقيام بوقفة تأمل كنت أعرف أنها لن تطول وربما لن تتوفر لي فرصة ''ثمينة ''أخرى مثلها لو عادت الحركية المجنونة التي طبعت دوما حياتي.
 لكن الفكرة الأولى تحولت من كتابة نسخة باهتة من ''الأيام '' إلى تفكير حول إشكاليات أساسية حول طبيعة ھذا العالم الذي نعبره إبان رحلة الحياة ؟ ما ھذه الذات التي تتبلور فيه وتبلوره ؟ ما ھذا الآخر الذي بدونه لا تكون الذات ولا يكون العالم ؟ ما معنى وجود ھذه الا­نسانية التي نرتحل في لغتها وقصصها وهذيانها بنفس الصفة التي نرتحل فيها في الفضاء الحسي للعالم ؟ ولم تكن الذكريات إلا الخيط الرفيع للقيام بعملية تنظيم واسعة النطاق كتلك التي تشعر بها أحيانا عندما تتجاوز فوضى الأوراق والكتب فوق المكتب حدا لا يطاق.
كان بداخلي فوضى فكرية كبيرة لكثرة ما تزاحم داخلي من صور وأفكار ورؤى متناقضة، بحكم نهمي المرضي للقراءة وموقعي كرجل يعيش داخل أكثر من ثقافة وعلى حدود أكثر من علم.
وهكذا جاءت الكتابة كمحاولة لتنظيم كل الصور المتضاربة والرؤى لأقوام وعصور ومنهجيات متباعدة متناقضة علني أخرج برؤيا يرتاح لها العقل وترضى عنها العاطفة.
ويتمخض عن كل ھذا مشروع لازال متواصلا بلغ إلى حد ّ الآن خمسة أجزاء وسميته ''الرحلة'' وهي روايتي لرحلة الحياة كما تجربها ذات هي في آن واحد ذاتها وكل ذات.
وثمة من أصدقائي من نصحني بعدم نشر ''الرحلة '' أو بنشرها باسم مستعار حتى لا تختلط الصور.
فنحن في عصر التخصص ولا يمكن لأطباء أن يحملوك على محمل الجد وأنت تكتب الأدب والفلسفة. ولا يمكن لرجال سياسة أن يحملوك على محمل الجد وأنت تفكر في مواضيع فلسفية وتبحث في الطب.
وكان خوف أصدقائي أن يحملني الجميع على أنني إنسان مذبذب غير مستقر على حال لا يعرف ما يريد ويخبط خبط عشواء في كل ميدان . والحق أنني حاسبت نفسي كثيرا من ھذا المنطلق لأكتشف أن مساري المعقد لم يكن يوما نتيجة تناقضات داخلية وإنما نتيجة تفكير منطقي صارم . فعند رجوعي لتونس لم يكن ھناك مجال للتألق في البحث العلمي التقني كما كنت ربما مارسته لو بقيت في الغرب لغياب الأجهزة والطاقم والتشجيع في عصر أصبح فيه البحث العلمي الفاعل قضية إمكانيات رھيبة ليست في متناول البلدان الفقيرة .و كانت المشاكل الملحة للأطفال المعاقينّ تفرض توجها آخر للبحث العلمي . وھذا البحث ھو الذي فتح باب الالتزام الطبي والاجتماعي الذي فتح باب الرابطة الذي فتح باب الالتزام السياسي الذي فتح باب الاضطهاد والعزلة الذي فتح باب الكتابة الأدبية كتنفيس عن الضيم والكرب ووقفة تأمل لإستعادة القدرة على المواصلة.
ثمة خيط رفيع يعطي لمساري الفكري وحدة صماء وھو أنني لم اكتب يوما حرفا حتى في الطب إلا وكان تفاعلا مع إشكاليات ملحة و بحثا لها عن حلول. وكانت المشاكل بحكم مهنتي وظروفي من مستويات مختلفة ولم يكن بإمكان تفكير منطقي يرى الترابط في مختلف المستويات أن يكتفي بالتفكير او التعامل مع الظواھر المعزولة أو مع جزء من معادلة.
لا شك أنني كنت نقيض التقني المتخص ونقيض مثقف البرج العاجي. فقد أدرت الظھر باكرا للنموذجين السائدين محاولا بلورة نموذج آخر لمثقف مختص في ميدان وملتزم بقضايا محيطه ومتفتح على كل ميادين الثقافة من فكر وأدب وموسيقى لا كترف وإنما كجزء لا يتجزأ من تفعيل مهارته كمختص و كملتزم.
 وكم يكلف ھذا النموذج من كفاح مرير وأنا اليوم كسباح يجاھد حتى إلا يغرق في خضم بحر متلاطم الأمواج من الا­شكاليات والمنهجيات ومعارف تتطور كخلايا السرطان.
وإبان ھذه الفترة تواصل بعض النشاط السياسي ، في إطار مجموعة صغيرة جدا كانت تضم بالأساس مصطفى بن جعفر وسهام بن سدرين وعمر المستيري وراضية النصراوي وحمة الهمامي ومختار الطريفي وانور القوصري ثم نجيب الحسني حال خروجه من السجن . وكان موضوع الحسني شغلي الشاغل تلك الفترة ننتقل بصفة منتظمة للكاف لزيارة عائلته ونعرف العالم أجمع بمأساته – المتجددة والمتواصلة حين كتابة ھذه السطور – ولما خرج نجيب بدأنا الدعوة إلى أول عريضة وطنية للعفو التشريعي العام استطعنا نشرھا سنة 1996 وفي سنة 1997 باءت بالفشل أول محاولة مضنية لبناء جبهة ديمقراطية. فقد استطعت ان اجمع في حلقة واحدة نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر وحمة الهمامي وعمر المستيري وصدري الخياري ودام إعداد الرضية اكثر من سنة وكان من المزمع ان نعلن عن الجبهة يوم 9 افريل 1997. وسقط كل شيء في الماء بعد ان انسحب نجيب الشابي في آخر لحظة ، من المشروع وھو ما أدى إلى استقالة سهام بن سدرين من حزبه .
وبعد ھذا الفشل قررت ترك حلم بناء ھذه الجبهة السياسية والاھتمام بما كان في متناولي أي تجديد الحركة الحقوقية بما ھي جزء ھام من العمل السياسي . وفي جويلية 1997 ّوزعت على اصلب مناضلي حقوق ا­نسان وثيقة عنوانها'' من أجل تفعيل حركة حقوق ا­نسان في تونس'' أدعو فيها إلى تكوين ھيكل ثاني بالنظر إلى قصور الرابطة الواضح. وفي  26 سبتميبر 1997 اجتمع ببيتي في سوسة كل من مصطفى بن جعفر وسهام بن سدرين وحمة الهمامي وراضية النصراوي واحمد الكيلاني وعلي بن سالم وعمر المستيري وصدري الخياري ونجيب الحسني وأنور القوصري. وتم الاتفاق على بعث المجلس الوطني للحريات. وبدأت من يومها اجتماعات مكثفة لصياغة النصوص واختيار الهيئة الأولى و اتفق الجميع على أن أكون الناطق باسم المجلس. وكان واضحا بالنسبة لي أن السلطة لن تعترف أبدا به لكن الأصدقاء أصروا على أن نسجل الطلب ليصبح قانونيا بعد ثلاثة أشهر إذا لم ترفض السلطة كتابيا حسب القانون. وتم الاتفاق على أن نواصل حتى في صورة توصلنا برفض كتابي من وزارة الداخلية.
ويوم 10 ديسمبر ذھبت مع علي بن سالم لولاية مدينة تونس لتسجيل المجلس وفي القلب حسرة من انسحاب اليسار من العملية لأسباب تتعلق بتكوين ھيئة الاتصال. ولم أستغرب رفض السلطة ولكنني استغربت تراجع البعض في قرار العمل كمؤسسة حتى في حالة رفض الاعتراف وتحدي السلطة. وكانت فكرتهم ان نبقى مجموعة تحت التأسيس وأن نعيد الطلب كل ثلاثة اشهر تحت اسم آخر. وبالطبع رفضت الفكرة جملة وتفصيلا وقدمت استقالتي من المجموعة وانسحبت لمدة شهرين إلى أن وقع التراجع في التراجع وصدرت أولى بيانات المجلس كبيانات تحمل اسم المجلس وأمكنني امضاؤھا باسمه.
وكان أول تحدي للسلطة وأول مثال في البلاد على الجهر بالعصيان المدني السلمي لقوانين منافية للدستور. وانطلق نشاط المجلس ليدخل ثورة في الساحة السياسية الراكدة وخاصة عندما نشر لأول مرة قائمة طويلة في الجلادين. وكان عمل الهيئة المكونة من عمر المستيري ونجيب الحسني وعلي بن سالم وصدري الخياري وتوفيق بن بريك وجمال الدين بيدة بحق عمل ريادي.
ومن يومها تكث الضغط بصفة رھيبة.
 فإلى جانب تواصل المنع من الهاتف ومن السفر ومن النشر دخل محمد علي السجن مرتين ستة اشهر في 97 و98 بعد قضائه لسنتين سجن من 93 إلى 95 . وكان إدخاله السجن دوما متزامنا مع ا­عداد للمجلس والا­علان عنه. وكانت مأساته حملا ثقيلا على الضمير. ومن حسن الحظ أنه كان بالغ الشجاعة والصبر بل كان ھو الذي كان يخفف من عقدة الذنب التي كنت أشعر بها تجاهه وأنا أعلم الناس انه كان يؤخذ بالسجن بدلي. وكانت ھناك نية واضحة من السلطة للتنكيل بي وبه. كان لا يبقى شهرا في سجن أزوره فيه إلا ونقلوه إلى سجن بعيد وھكذا قمت بسياحة سجنية عبر البلاد ، أراقب عن كثب ما يعانيه الناس البسطاء وھم ينتظرون الزيارة أمام سجون قابس والقيروان وبرج الرومي والكاف وسليانة. كانت بحق أصعب فترة في حياتي وقد تضافرت علي كل الهموم وكنت أسلي النفس بترديد مقولة الكاتب الفرنسي ''اندري جيد : '' إن قيمة كل حياة في ما تتكلفه من ثمن.
يوم 4 جوان 1999 وقع اختطافي في قلب العاصمة من قبل مجهولين وكنت واثقا أنه سيتم اغتيالي. ولم أتنفس الصعداء إلا عندما قادني مختطفي إلى وزارة الداخلية وأحلت أمام حاكم التحقيق بحالة ايقاف وبعد يومين وفوجئت باطلاق سراحي. و على امتداد سنتين علقت بي ثلاث قضايا في أوقات متلاحقة آخرھا تلك التي صدر فيھا حكم السجن سنة يوم 30 ديسمبر 2000.
إبان ھذه المحاكمة الصورية طلبت من المحامين عدم الترافع إإلا في فساد القضاء ورفضت استئناف الحكم لاقتناعي بأن القضاء في تونس جزء من الدكتاتورية مهمته إضفاء صبغة الشرعية على تجاوزات الاستبداد. وكنت أردد حولي دوما أن كل صراعنا يتعلق باستبدال الغين بالقاف لنجعل يوما من القضاء المستغل قضاءا مستقلا. وبقدر ما كان النظام يستشرس في التنكيل بي، في محاولة يائسة وبائسة ­لإرھابي وإذلالي ، بقدر ما كانت تتزايد مظاھر التقدير
الآتية من العالم أجمع. ففي سنة 1987 تحصلت على جائزة ''سكانو'' الايطالية الشهيرة وجائزة ''ھيومن رايت واتش'' الأمريكية سنة 1994 التي تسلمتها باسمي ابنتي الكبرى مريم في نيوروك وسنة 1996 ذھبت ابنتي الصغرى نادية إلى ''دوبلن ''عاصمة ايرلندا لاستلام جائزة ''كامب '' العالمية لحقوق الطفل . وفي نفس السنة استطعت لأول مرة استلام جائزة تمنحها الأكاديمية الأمريكية للعلوم لرجال العلم الذين تميزوا بنضالهم من أجل حقوق ا­نسان .
و منحت تلك السنة الجائزة لفيزيائي من كوبا وطبيب عربي اكتشفت أنه توأمي السوري وأنا توأمه التونسي ھو الدكتور ھيثم مناع . فهو طبيب وكاتب غزير العطاء ومناضل صلب من اجل الحريات في سوريا والوطن العربي شبع اضطھادا ونفيا ومن يومها جمعتنا أوثق علاقة ممكنة بين محاربين في نفس الخندق. وعلى ضفاف نهر البوتوماك وضعنا أسس اللجنة العربية لحقوق ا­نسان التي كنت أول رئيس لھا من سنة 1997 إلى سنة 2000 ولعبت ولا تزال برئاسة الدكتورة فيوليت داغر دورا ھاما في العطاء الفكري والنضال السياسي من اجل عروبة ديمقراطية متحررة وإنسانية. ولا أدري لماذا أشيع السر بأن اللجنة ولدت على ضفاف ''البوتوماك'' مغذيا بارانويا بعض القومجيين ومؤكدا شكوكهم أن حقوق ا­نسان مؤامرة أمريكية.  لذلك فسأدعي أن اللجنة العربية ولدت على ضفاف دجلة أو بردى أو النيل بعد أن تعرفت على الدكتور ھيثم مناع في حفل تكريم أقامته الكاديمية العربية للعلوم على شرفنا. وبالطبع كان يركض وراءنا في شوارع بغداد ودمشق والقاھرة رجال الصحافة لا رجال مخابرات. أما الحكومات العربية فقد رحبت بولادة اللجنة لعلمها بأنه ليس في وسعها التعرض لها وأنها شر إلا بد منه وربما لأنها أدركت أن لها فيها مصلحة لأھمية الجمعيات المدنية في التنبيه والنصح ونزع فتيل العنف.
وبعد إفاقتنا من ھذا الحلم نعود إلى سياق الحديث، حيث سحب مني جواز السفر لقرابة الخمس سنوات حال رجوعي من واشنطن. وفي سنة 2000 شرفتني الشبكة الإ­فريقية لحقوق الطفل بتسميتي رئيسا للجمعية في مؤتمر دربان بجنوب إفريقيا. وبعد أشهر قليلة وأنا من جديد ممنوع من السفر، ذھبت نادية لتتلقى جواز سفر الحرية الذي منحني إياه البرلمان الأوروبي. وفي 2001 تلقيت جائزة ''ھامت – ھلمان'' التي تمنح في أمريكا للكتاب المضطهدين. وكانت مفاجأة لي أن اعلم أن ''ھامت'' و''ھلمان'' ھما كاتبان أمريكيان، تعرضا للاضطھاد الشديد في سنوات الماكرثية في الخمسينيات وكنت أعتقد أن اضطھاد حرية الفكر من اختصاص المتخلفين وحدھم وخاصة العرب .
وفي البداية كانت مظاھر التكريم ھذه تغذي نرجسية لا تشبع ، شعارھا مثل جهنم ھل من مزيد.
وبمرور الزمن والتقدم في تجربة الحياة، يفهم المرء أخيرا أن عقدة التفوق ليست إلا عقدة نقص لم تتم تسويتها في الوقت المناسب، لأن عقدة النقص وعقدة التفوق وجهان لنفس قطعة النقد.
وببطء شديد تتسلل إلى الوعي فكرة أخرى أن الفضائل التي يفاخر بها الناس إذا دققت فيها، ليست بهذا الصفاء الذي يوھمونك به وتوھمهم به، وأن لأقذر الرذائل أسبابا وحتى مبررات. وقد يكون تشبعي بهذه الفكرة ناجم عن عقدين من العمل الطبي. وإبان سماعك لألاف القصص تكتشف عمق حاجة الناس للمحبة والاعتراف وما يعانونه من آلام وھم يبحثون عنهما بحث البدوي عن الماء والكلأ في الصحراء. 
رويدا رويدا تتسل لذھنك فكرة غريبة إن أكبر الفضائل وأحقر الرذائل إذا نظرت إليها من موقع مرتفع، تسطحت مثلما تتساوى جبال الهملايا وأعماق المحيط الهادي إن نظرت إلى الأرض من الفضاء. وھذا الموقع المرتفع ھو فهمك أخيرا أن للمساواة مستوى ھام ، يجادل فيه البعض، ھو مساواتهم في الكرامة والحقوق ومستوى أھم، لا يجادل فيه أحد، ھو مساواتهم أمام صعوبة العيش وصعوبة الموت.
ھكذا أصبح ما أبديه من صلابة ورفض وإدانة واستهجان لنظام سياسي موجه لقواعد مغشوشة، للعبة لا أخلاقية، تسحب الاعتبار من كل التونسيين، وأولهم من يخدمون ھذا النظام، وليس لأشخاص أيا كان موقعهم منه.
ثم يصبح المرء أبا وأستاذا ، لا يعي في البداية بأن لآرائه ومواقفه انعكاسات عميقة على الذوات التي يتعامل معها. وفي البداية تكتشف ھذا التأثير من الوجهة السلبية أمام ما تحدثه مظاھر التكبر والعنجهية وعدم الاعتراف بالآخر من دمار نفساني. ولأن احتقار الحقير بلا قيمة  فإن الدمار الذي يمكن أن تحدثه ھو بأھمية القيمة التي يوليها لك الناس. ثم تكتشف الوجه الوضاء لهذه القوة التي لم تعرفها فيك وأنت ترى ما يحدثه احترامك وتقديرك من برد وسلام على النفوس المعذبة وكيف يؤدي ترفقك وتشجيعك إلى إنقاذ وضعيات وصلت الطريق المسدود. ويتضح لك أنه كلما تزايدت قيمتك بين الناس كلما كان لاحترامك وتقديرك وتشجيعك تأثيرا أكبر في بناء الذات الأخرى أو شفائها مما ألحقه با احتقار الآخر أو جلد الذات من أضرار جسيمة.
وھكذا تغيرت علاقتي بالتكريم الذي احصل عليه وقد فهمت أنه إذا استعمل لتغذية نرجسيتي فهو كالماء الآسن حبيس قعر البئر ، وإن استعمل لرد الحرية والاعتبار للناس ، كان الماء الزلال لجدول رقراق يغذّي ويحيي ويطفئ لهيب العطش. وھكذا انتهيت إلى قناعة أنه ليس لي من دور أھم من استعمال ما لي من مصداقية ومن شأن بين الناس لأحملهم على رد الاعتبار لأنفسهم ورده لبعضهم البعض ، مرددا إلى آخر نفس في حياتي: نعم ستطأ الأقدام العربية أرض المريخ ، وحتى يحصل ھذا مارسوا حقوقكم وإلا تطالبوا بها ، لا تجلدوا ذاتكم ، لا تقسوا على أنفسكم وعلى وطنكم ، ارفعوا رؤوسكم فأنتم أصحاب عقل و شعور وكرامة لم يهبها لكم أحد وليس لحد قدرة على سحبها منكم وكم يستبد بي الحلم بأمة ّرد على امتداد أرضها الاعتبار للناس ، للمؤسسات، للذكاء للثقافة ،للقانون، للعلم والعمل.
 وكم أحلم بوطن لم يعد فيه اسم والي ومعتمد وعمدة وكاتب عام لجنة تنسيق ونشرة أخبار الثامنة وجريدة ''إلابراس'' ويوم ابتزاز وطني، ولافتات ''بيتزرايا العهد الجديد تعبر عن ولائها الأزلي لصانع التغيير '' وحزب دولة ودولة حزب ورئيس دولة ھو رئيس حزب ، ومقهي بجانب مركز شرطة ، بجانب مقهى، بجانب '' المنطقة ''، بجانب ثكنة التدخل السريع ، بجانب مقهى ، بجانب بيتزريا العهد الجديد الآنفة الذكر. وليس في وطني ھذا رعايا وإنما مواطنين لا يتحكم في رقابهم زعيم يستقبل ويبعث برقيات تهاني ويتلقى برقيات إعجاب من العالم بأسره ويوصي ويبدي بالغ اھتمامه ويشمل بعنايته ويرعى ويعطي تعليماته بخصوص الصيد البحري و الموسم الفلاحي و ثقب الأوزون والجفاف والجوع في العالم وتربية الجيل الجديد على قيم العهد الجديد من تسامح وإنكار للذات وديمقراطية وتعددية وحسن التصرف في الأموال العمومية.
وكم يبدو ھذا الحلم بعيدا عن التحقيق ّ ، خاصة في ھذه الأيام التي تستعد فيها الدكتاتورية لجر الشعب إلى استفتاء يكرس استعباده و يحاصرني فيها البوليس وأنا ممنوع من العمل، من السفر، من الهاتف ، من النشر ، ومن كل نشاط سياسي انتظر كل ليلة أن يأتوا لإ­لقاء القبض علي لتمضية سنة السجن التي حكموا علي با ويترددون في تنفيذھا. ومع ذلك فإن معنوياتي لم تكن يوما مرتفعة كما ھي اليوم لأنني اعرف أن تونس ھذه موجودة في الواقع وليست مجرد أضغاث أحلام.
وكما أن العاصمة موجودة على بعد 140 كلم من سوسة، بحساب امتداد الفضاء، فإن تونس الديمقراطية موجودة على بعد عشر سنوات أو عشرين سنة على أبعد تقدير في ما سيأتي من الزمن.
ھنا تمر فوق معنوياتي غمامة سحابة كآبة عابرة . كم ھي قريبة واحة الكرامة والحرية بمقياس زمن الشعوب وكم ھي بعيدة بمقياس زمن إنسان أنهكه مشي عشرين سنة وھو بين سندان الرمضاء ومطرقة الشمس. وفي كل الأحوال ومع الاعتذار لأبي فراس ، أقول حتى ولو مت ظمآنا فلينزل القطر على وطني.
أعلم أن ھذه الواحة التي تتجه إليها أفئدتنا وخطانا ليست جنة عدن وإنما ھي وطن بمشاكل جديدة ضخمة منها تصفية تركة الاستبداد وترويض الديمقراطية وتنظيم الاعتراف المتبادل والتنافس السلمي. ولكن شتان بين مشاكل الملاحة في البحر بين العواصف ومشاكل التأرجح الكسول فوق مستنقع.
وإن لم اصل إلى واحة، كم أنا متشوق لمشاكلها، لأن الطريق طال ، لأن الحياة القاسية لم تسعفني بالوقت الكافي لاسترجع في ظلالها أنفاسي ، فالثموا باسمي قدمي تونس وقدموا لها التهاني بشفائها من مرض الدكتاتورية وأملي أن تتواصل أطول وقت ممكن من عمر الشعوب تنعم بالصحة والعافية.
قولوا لها وفيت بديني لك وأنت أم باعت حليها لأدرس، ووفيت بديني لك وأنت أب صعب المراس رقيق القلب لا يرضى بغير القمم مؤطئ قدم ، ووفيت بديني لك وأنت مدرسة علمتيني الحروف الأولى، ووفيت بديني لك وأنت كل مريض عالجته وكل تلميذ علمته وكل مظلوم وقفت وراءه صامتا ساعات طويلة وھو بين يدي قضاة نسوا ان الولاء يكون لشرف الذات وشرف المهنة وشرف العدالة وشرف الوطن لا لاستبداد ليس له ذرة شرف.
 وإنني لخالص الذمة معك يا تونس. لم أحب سواك وقد تمثلت فيك أرض كل العرب وكل أرض الله الواسعة ولم احب اكثر منك شيئا او أحدا، لأنك السماء والبحر والرمل ، لأنك الزيتون والكرم والنخل ، لأنك المرأة والصديق والطفل، لأنك عناد الحياة وإصرارھا، على تجاوز كل نقص وبلوغ كل كمال، على محو كل قبح وبلورة كل جمال ، على تعويض كل الآلام وتحقيق كل الآمال .
 مرفوعي الرأس ، تعيشوا تعيشوا ، ويحيا الوطن.
مع نلسن منديلا في مؤتمر ضد الكراھية - مؤسسة نوبل في أوسلو سنة 1990
ملحق 1
في جويلية 2001 تم طردي من الكلية وبعد ستة أشهر حكم علي القضاء المستغلّ بسنة سجن مع وقف التنفيذ (وذلك غيابيا لأنني رفضت الوقوف أمام الموظف البائس الذي كان يلعب دور القاضي). وضيق علي النظام بكيفية لا مثيل لها حيث أصبحت لا أتخرك بدون سيارة شرطة إلا داخل بيتي . وأخيرا اضطررت للخروج إلى المنفى في ديسمبر 2001 بعد أن عرضت علي جامعة باريس تدريس الطب حيث أوجد لليوم.
وكما للاضطهاد بقية فللنضال أيضا بقية إلى أن تشرق شمس الحرية ويبدد نورها الظلام الذي تحتمي به الخفافيش
 باريس في 29-12-2003
 --------------------------------------------------
ملحق 2
باريس 20 أكتوبر 2006
 رسالة لأصدقائي وقرائي تحية أخوية ونضالية وكل سنة وأنتم بخير
لا أسمع كلمة ثقافة إلا وأشهرت " : Goebbels تحفظ ذاكرة المثقفين الصرخة الشهيرة لوزير دعاية النظام النازي ﻣسدسي". ) لا غرابة في الأﻣر والثقافةّ ﻣنذ الأزل القلعة الحصينة التي يلتجئ إليها الفكر الحر في أوقات العسر.. والتي ينطلق ﻣنها لإعادة تشكيل المجتمع الحر في أوقات اليسر.
فاستبداد  يحقق ﻣراﻣيه إلا بالأﻣن الثقافي الذي يضمن.  لهذا شكل ضربها ،أو ترويضها ، ھدفا استراتيجيا لكل دكتاتورية ولمثل ھذه السياسة ثمن، ھو له التحكم في الأفكار والقلوب، بموازاة ﻣع الأﻣن البوليسي الذي يضمن له استكانة الأجساد ﻣضمونا، التصحر الفكري والفني ، وأسلوبا تفشي القبح والبذاءة والرداءة. يكفي أن يقرأ المرء الجرائد التي يتحكم فيها نظام العصابات المسلط على تونس، أو ﻣا يسمح ببثه في الوسائل السمعية البصرية، ليقيس ﻣدى انحطاط الحضاري الذي أوصلتنا إليه الدكتاتورية في أقل ﻣن عشرين سنة ...والظاھرة للأسف عربية وليس فقط تونسية . وﻣن ثمة استبطنت ﻣنذ بداية التسعينات، أن الحرب ضد ھذه الآفة والعاھة لا يمر فقط بالدعوة لقيم العروبة والإسلام والمشرع العالمي، أو بالعمل المتواصل على بناء الجمهورية والنظام الديمقراطي وإنما لمساھمة في الإنتاج الثقافي بما ھو جزء لا يتجزأ ﻣن المقاوﻣة.  ﻣن ھذا المنظار، اعتبرت دوﻣا كتبي الفكرية والأدبية البعيدة عن المجال السياسي ﻣثل "الرحلة" ﻣن قلب النضال السياسي خاصة وأن لهذا الكتاب قصة طويلة ﻣرتبطة أوثق الارتباط بهذا النضال.
فقد أصبحت بعد خروجي ﻣن السجن سنة 1994 ﻣعزولا في بيتي تحت المراقبة اللصيقة للشرطة ، وﻣعزولا عن العمل الطبي بعد حل قسمي، وﻣحاصرا في الكلية ( التي عزلوني ﻣنها نهائيا سنة 2000 ) ، وﻣمنوعا ﻣن السفر وﻣن الهاتف.
ھكذا أﻣكنني، ﻣن باب ﻣكره أخاك لا بطل، التفرغ للتفكير داخل ﻣا كنت أسميه السجن على نفقة السجين. لم تكن لدي أدنى رغبة في ﻣواصلة الكتابة عن الديمقراطية وحقوق الانسان. أﻣا برناﻣج ﻣتابعة الكتابة الطبية بالعربية فقد توقف بحكم ﻣنعي ﻣن العمل الميداني الذي كنت أجرب فيه أفكاري واستقي ﻣنه نظرياتي. أضف إلى ھذا الاحباط الشديد الذي أصابني بعد أن أعدم الدكتاتور سنة 1991 الألف نسخة التي طبعتها ﻣؤسسة البحث العلمي ﻣن " المدخل إلى الطب المندﻣج ". وھذا كتاب في ألف صفحة استغرق عشر سنوات ﻣن العمل المضني وتحصل على جائزة المؤتمر الطبي العربي سنة 1989 تسلمتها ﻣن الرئيس الجزائري آنذاك الشاذلي بن جديد. ربما كان ھذا الحادث بداية تأجج رفض عميق لنظام ورجل ينتقم لنفسه بتدﻣير كتاب علمي كان بداية ﻣشروع إنشاء سلسلة ﻣن الكتب الطبية بلغة الضاد ، وكنت وزعت ﻣواضيعها على ﻣساعدي وبدأ العمل فيها في بداية التسعينات. لكن إرادة الدكتاتور الذي يتحكم لليوم في رقابنا شاءت العكس وأجھضت المشروع الضخم.
قلت لم أجرب الكتابة الأدبية ،التي لم أغاﻣر يوﻣا بدخولها، لمجرد الترويح عن النفس والتفريج عن الكرب الشديد الذي كنت أعاني ﻣنه نتيجة وضع الوطن ووضعي الشخصي. أذكر اكتشافي ﻣتعة الكتابة الأدبية لأنها تعفي ﻣن ضوابط الكتابة العلمية الصارﻣة وﻣن عصبية الكتابة النضالية. أذكر دھشتي وأنا أكتشف ﻣخزونا ھائY ﻣن المشاعر والأفكار والصور تراكم على ﻣدى نصف قرن و كانت الذاكرة تفيض به وبأﻣس الحاجة لشيء ﻣن تنظيمه ، كما ھو الحال تماﻣا عندﻣا تتراكم شكل الكتب والمجلات في ﻣكتبك وتأتيك يوﻣا رغبة تنظيمها على الرفوف. والحق يقال أن تدبيج " الرحلة" ﻣغاﻣرة فكرية ، بالمعنى الاصلي للكلمة ،:لأنه كان توغلا دون رؤية واضحة في ﻣناطق ﻣجهولة داخل ذاتي وبلا أدنى علم أو تقدير حقيقي للصعوبات التي تنتظرني. كان الطموح عند انطلاق العمل صيف 1995 كتابة سيرة ذاتية ، والنموذج " الايام" لطه حسين الذي قرأته عددا لا أحصيه ﻣن المرات.
 لكن العمل تحول تدريجيا ﻣن الاشكالية الخاصة إلى الاشكالية العاﻣة، أي ﻣن تفحص تجربتي الشخصية، بما ھي تجربة شخصية، إلى تفحصها كما يفعل عالم الاعضاء عندﻣا يدرس بدقة جسما بشريا واحدا لاكتشاف النموذج العام الذي بنيت عليه كل الاجساد. ربما كان سبب ھذا التحول تشبعي بالمنهجية العلمية التي كنت أدرسها في الكلية وعمق تأثيرھا في تناولي للاشياء  حيث لا قيمة للشيء إلا في كونه الدليل على ظاھرة عاﻣة تتجاوزه والمؤشر على عمل قوانين سرﻣدية تحركه واكتشافها ھو الاھم . ھكذا تبلور شيئا فشيئا ھذا النص الذي لن يكون ﻣن السهل تصنيفه. ھو كتاب قد يقبل به الأدب أو الفلسفة أو حتى العلوم الإنسانية... وقد يطرد ﻣن كل ھذه الميادين باعتباره جنسا ھجينا لا ينتمي لأي حقل معرفي ﻣحترم وﻣعترف به
إلا أن الكتابة لم تتطور في برج عاجي، ولو كان ﻣحروسا ﻣن طرف سيارات الشرطة الرابضة ليلا نهارا أﻣام بيتي. فالنضال السياسي لم يتوقف ﻣن خروجي ﻣنذ السجن صيف 1994 إلى خروجي ﻣن تونس شتاء 2001 . ھكذا تعددت في، والمؤتمر ﻣن أجل الجمهورية 1998 ھذه الفترة الإيقافات والمحاكمات، خاصة بعد تأسيس المجلس الوطني للحريات سنة 2001.أضف إلى ھذا التهديد المتواصل بالقتل ،ﻣثل المرة التي وضع فيها ﻣجهولون غرابا ﻣذبوحا على ﻣقدﻣة سيارتي،أو تنفيذهم للتهديد عندﻣا خربوا سنة 1999 ﻣحرك سيارتي لتشتعل فيه النار وأنا على الطريق إلى قريتي دوز. ھذا ﻣا أعطى للكتابة صبغة استعجالية كأنها لا تتحمل لحظة واحدة ﻣن التأخير لقرب نفاذ الزﻣن
و"الخراب والتأسيس" ليؤﻣن توأﻣي ھيثم ﻣناع "كنت أغتنم كل الفرص لتهريب نصوص شبه جاھزة ﻣثل "الاستقلال الثاني في باريس ظهورها للنور. وفي ﻣثل ھذا الجو المشحون بالأخطار والمصاعب ھربت الصيغة الأولى للرحلة عشية أزﻣة خانقة بين المجلس الوطني للحريات والنظام سنة 1999 انتهت باختطافي ﻣن الشارع ﻣن قبل البوليس السياسي وإ
طلاق سراحي بعد يوﻣين ﻣن الاحتجاز في حفرة نتنة في أقبية وزارة القمع والتعذيب. وقد غاﻣرت دار الاھلي في دﻣشق ﻣشكورة بنشر ھذه الصيغة المختصرة في جزء واحد ھو الذي كتبته بين 1995و1997 لكنني لم ألبث، وقد فك الطوق حولي نسبيا، ﻣن العودة إلى الكتابة وقد أصبحت ﻣفتونا بضخاﻣة العمل وآفاقه الشاسعة وتحدياته المخيفة ،وكانت الكتابة تتواصل أحيانا إلى الفجر... ولا ﻣعين سوى القهوة وﻣوسيقى باخ وشوبرت . ھكذا توسعت المخطوطة الاولى بين 1997 و2001 إلى خمسة كتب ( الإحرام العالم ، الذات ، الآدﻣيون ، الآدﻣية ) تمّ تهريبها لهيثم عشية الحكم علي صيف 2001 بسنة سجن ﻣع وقف التنفيذ، و نشرتها الأھالي كاﻣلة في 2003.
وفي أواخر سنة 2001، اضطر الدكتاتور تحت ضغط الرأي العام الوطني والدولي للسماح لي بالخروج إلى المنفى. آنذاك أعدت قراءة المخطوطات المنشورة، فلم ترضني في شيء، إذ تضافرت الكتابة السريعة ﻣع انعدام ﻣراجعة جدية للأخطاء لتصدر النصوص بكيفية بدت لي ﻣراجعتها ضرورية. أضف إلى ھذا أنني رجل ﻣن طبعه ملاحقة ﻣخطوطاته بالتنقيح حتى والمطبعة على وشك الانتهاء ﻣن العمل. ثم ھناك النضج والتغيّر الذي يتواصل ﻣن يوم لآخر فما بالك ﻣن سنة لأخرى .
لذلك قررت وأنا أعيش لأول ﻣرة ﻣنذ سنوات في جو ﻣن الأﻣان النسبي إعادة ﻣراجعة النص بصفة جذرية وكتابة الجزء السادس( االغريب) والشروع في الجزء السابع( الرؤيا) ﻣعتقدا بنوع ﻣن السذاجة أنني في ﻣأﻣن ﻣن بوليس الدكتاتور واضطهاده المتواصل ﻣنذ قرابة العشرين سنة.
وكأنني ﻣصاحب بلعنة ﻣتواصلة حيث ھا أنا ﻣجددا في نفس الوضع الذي عشته دوﻣا ، أي ھا أنا ﻣضطر لوضع الكتاب على الموقع قبل اكمال الجزء السابع والأخير. فقد أعلنت عن عودتي لأرض الوطن يوم 21 أكتوبر لكي لا تبقى دعوتي للمقاوﻣة شعارا أجوفا يطلقه ﻣن المنفى شخص جالس على الربوة . وﻣا أن علمت السلطة بقراري حتى بادرت ببعث استدعاء للمثول أﻣام قاضي التحقيق بتھمة التحريض على .... العنف وإحالتي حسب قانون ﻣحاربة الإرھاب والتهمة تكلف ﻣن عشرة إلى عشرين سنة سجن. وبالطبع قررت التمسك بقراري ورفض ﻣرة أخرى التهديد والترويع والإخافة( وھي ﻣن التقنيات المحببة بل الوحيدة التي يستعملها الدكتاتور في حل المشاكل السياسية لمجتمع ﻣتحضر) والقبول بكل التضحيات ﻣن أجل كراﻣة التونسيين وحرياتهم
ﻣا ﻣن شك لدي أنه سيأتي يوم تنهار فيه ھذه الدكتاتورية الحقيرة وأنها ستبقى ﻣضغة ﻣقززة في الأفواه وأن كتبي ستعود إلى المكتبات العموﻣية التي انتزعت ﻣنها في ﻣنتصف التسعينات، وأنها ستعرض بكل حرية على رفوف المكاتب التجارية دون المشكلة الحقيقية أن أم زياد تنبأت لي بعد قراءة . أن يخشى أصاحبها ھجوم البوليس السياسي اوالتصحيح الجبائيالمخطوطة أن ﻣثل ھذا الكتاب، حتى ولو نشر ووضع على الرفوف، ﻣؤھل لفشل ﻣؤدب، وان قراءه سيحسبون على الأصابع . لأسف أعتقد أنها على حق. فنحن نعيش اليوم في تونس والوطن العربي عصر الصدﻣة بالصورة، والتجهيل بالصورة و الركون إلى الجاھز والمعلب وسريع الاستهلاك في كل الميادين . حكى لي الأخ حسين العودات الناشر والمناضل السوري أن الإنسان العربي، حسب إحصائيات الناشرين، يقرأ أقل ﻣن القارئ الإفريقي ، أنه يخصص عشرين دقيقة سنويا للقراءة، أننا ننتج ونحن 300 ﻣليون نسمة ﻣن الكتب أقل ﻣا تنتج اليونان ، أن أحسن كتاب فكري يطبع ﻣنه .نسخة ولا تباع كلها 3000
إنها حقا أرقام ﻣرعبة تبعث على الفزع . ﻣن أين لنا إنكار أننا أﻣة أﻣية لا تقرأ ولا تكتب رغم أن أول أﻣر صدر لها ھو اقرأ وأن اسم كتابها المقدس ھو القرآن. لكن قناعتي أنها ﻣرحلة عابرة، فلا الأﻣية، ولا التجهيل ،ولا الصدﻣة بالصورة، ولا التصحر الثقافي الذي يسهر على دوامه ﻣن يكرھون الكتاب والكّتاب. قدر الأﻣة إلى الأبد وعلى كل حال ثمة جنس غير القراء المهووسون بالكتاب أيا كان العصر والنظام وكثافة المسلسلات في التلفزيون : قابل للإنقراض.
وفي الانتظار لا خيار لكل الكتّاب التونسيين و العرب غير ﻣواصلة الكتابة حتى ولو بدا الأﻣر عملا عبثيا. فلو توقفنا جميعا ﻣن فرط الإحباط واليأس لازداد الوضع سوءا و لأصبحنا أﻣة عاقرة بكل ﻣعاني الكلمة . لا خيار لنا إذن غير بذر البذور ولو في الصحراء، والترويح عن الكرب بالتشبث بفكرة أننا نكتب للأجيال المقبلة التي نأﻣل ألا تكون على حال الأجيال التي شكلها استبداد ﻣجرم قتل في ھذه الأﻣة كل ﻣا ھو حي وجميل وﻣبدع وخلاق.
وبانتظار تحقيق أﻣل قد يتحقق ،وقد يذھب ھو الآخر أدراج الرياح ، لا خيار لي لكسر حاجز الرقابة وإيصال النص إلى أكبر عدد ﻣمكن ﻣن بقايا ھذا الجنس غير القابل للإنقراض، سوى وضعه في الفضاء الإفتراضي عشية رجوع ﻣحفوف بكل الرحلة" ّقراء يكتشفون فيها سعيهم في " الأخطار، بنفسية ﻣن يرمي إلى البحر برسالة داخل زجاجة. السؤال ھل ستصادف الدنيا ولو باختلافات جزئية مع القصة التي تروي ؟
ھل ستحدث ﻣعجزة التلاقي بين ذاتين تؤرقهما نفس المشاكل وتتبادلان ﻣن وراء ستار الغيب إشارات الطمأنة. إنها بعض ﻣن سيل ا:سئلة التي تلاحق كل كاتب غاﻣر بالكتابة . لكن ﻣحكوم عليها أن تبقى ﻣثل كثير ﻣن أسئلتنا دون جواب. وفي حالة ضياع الزجاجة في البحر، فلا ندم على الجهد الذي تكلفته ،لأن جهد المهام التي نطرحها على أنفسنا أھم أحيانا ﻣن لذة وإن وصلت قارئا واحدا ابتلي ﻣثلي بنعمة القراءة، ووجد نفسه في عمل طمح ليكون في التفاصيل سيرة ...كل تحقيق لها  ذات وفي الجوھر وسيرة كل ذات ، فإن ﻣتعة تحقيق الهدف ستضاف لمتعة الجهد الذي بذل فيه
الأھم ﻣن كل ھذا أنني سأشعر بأنني دفعت بعض النزر ﻣن الفيض الذي أدين به لكل الأحياء والأﻣوات الذين فتحوا بالحرف والكلمة أﻣاﻣي آفاق الفكر والحياة . فإليهم ، ھم ادلتي في كل ﻣراحل الطريق ، أھدي ھذا العمل عربون احترام شديد واﻣتنان عميق وإليكم أنتم أصدقائي وقرائي أھدي ھذا العمل على أﻣل أن تجدوا فيه ولو فكرة واحدة تعينكم على صعوباته
***
تحديث 30 مارس 2008 أكثر ﻣن سنة ﻣرت على النص الذي تقرأ حصلت فيها أشياء كثيرة ﻣنها الرجوع للوطن في اكتوبر 2006 واعتماد السلطة ضدي اساليب بالغة الحقارة بدل إلقاء القبض علي حال نزولي ﻣن الطائرة كما كان ﻣتوقعا و تمثلت التقنية الجديدة في ﻣحاصرتي في بيتي بالبوليس وإطلاق الأوباش علي في الطريق، لا أخرج ﻣن بيتي حتى تتبعني الجماھير الغاضبة تلقائيا " بالسب والبصاق . وفي ﻣدينة الكاف اعتدت علي ھذه "الجماھير الغاضبة تلقائيا" أﻣام السجن الذي كان يضم سجينا سياسيا كنت أنوي التعبير له عن تضاﻣني بالوقوقف فقط أﻣام باب السجن وانتظار زوجته التي رافقتها يوم الزيارة
لم أصل إلا بشق الأنفس فقد حاول البوليس ﻣنعي ﻣرارا ﻣن الوصول للمدينة بإيقاف السيارة أكثر ﻣن عشرة ﻣرات للتأكد ﻣن ھويتي وھوية ﻣرافقي . اخيرا قررت ترك السيارة والمشي على القدﻣين ﻣسافة الخمسين كيلوﻣتر الباقية على المدينة . وإﻣام إصراري تركوا السيارة المحجوزة في نقطة تفتيش تأخذني وھناك أﻣام السجن أطلقوا عاينا عشرات المنحرفين والمنحرفات وكادت السيارة أن تنقلب ﻣنا عندﻣا التجانا إليها ھربا ﻣن العصي . كانت لحظة عويصة رأيت فها الموت بأم عيني
المعارضات" "وﻣما زاد في صعوبة الأﻣر أن نجاتي ﻣن الحادث تزاﻣنت مع سكوت الرأي العام وسكوت إن لم أقل شماتة ﻣما جعلني أقرر العودة للمنفى بعد أن اتضح لي أنني استعجلت ﻣفاعلة ستأخذ كثيرا ﻣن الوقت . وفعلا سمحت لي السلطة بمغادرة البلد لأنه كان ھدفها وﻣن حسن حظها وحظي أنه كان ھدفي . فقد كان علي أن أسترجع حرية التحرك لمواصلة الحملة الاعلاﻣية والتحريض وﻣواصلة الكتابة
وھذا فعلا ﻣا جرى وﻣا زال يجري : ﻣعركة الاستقلال الثاني ﻣتواصلة وكذلك الحياة والكتابة وھؤلاء الذين انتصروا علي حسب تصورھم ھم الذين سيتضح يوﻣا أنهم كانوا يربحون الوقت ويجدفون ضد التيار - على كل حال ھذا ﻣا أظن وﻣا آﻣل - وﻣا أنا بحاجة )عتقاده للحفاظ على ﻣعنوياتي
وﻣنذ رجوعي والرحلة دوﻣا الشغل الشاغل : إصلاحات لا تنتهي وإضافات ﻣتواصلة واخيرا كتابة الجزء السابع الذي خاصية ھائلة لفضاء الانترنت ھو أنه يمكني ﻣن . قررت ان يحمل عنوان الرؤيا بدل الدليل الذي كنت قد اخترته ﻣن قبل تغيير النص طول الوقت ، ﻣما يعني أن النسخ التي سحبت في سنة ﻣا ليست بالضرورة آخر نسخة . لخبطة أعتذر عنها ، لكل ﻣن يريد أن يقرأ الرحلة فمن الأحسن أن يقراھا دوﻣا على الفضاء الإفتراضي ، لسبب بسيط أن كتابتها ﻣشروع لن يتوقف إلا عندﻣا يجعل المرض الأﻣر صعبا والموت الأﻣر ﻣستحيلا
 ﻣع المودة
الرحلة -" مذكرات آدمي الكتاب الأول :الإحرام الكتاب الثاني: العالم الكتاب الثالث : الاستكشاف، الكتاب الرابع: " .المغاﻣرون ، الكتاب الخاﻣس: الملحمة، الكتاب السادس: الغريب ،الكتاب السابع الرؤيا
ملاحظة ھامة نص "الرحلة " غير نهائي للسبب البديهي أن الرحلة ما زالت متواصلة وأن التجربة تتطور والأفكار تكف عن التدافع في نسق مع زخم أحداث . تتوقف لحظة. ھكذا تراني أعود للنص أراجع وأضيف واحذف وأغيّر ،أحيانا مرات في الأسبوع ... طبعا ليس على النسخ الورقية القليلة الموزعة ھنا وھناك وإنما مباشرة على النص الموضوع على الموقع. قد يطرح ھذا إشكاليات في يوم ما إذا قدر "النجاح" للكتاب ، أي وجود " نصوص "عديدة منها الطبعات المتوفرة ومنها التي حملها زوار الموقع في تواريخ مختلفة . لخبطة أعتذر عنها أصبحت ممكنة نظرا لمرونة الانترنت . ترى أي كتاب أو قل أي كتب كما نحصل عليها لو توفرت نفس الإمكانية لطه حسين وھو يكتب الأيام . المهم أنه طالما  بقي فّي نفس فسأواصل معالجة النص والصيغة الأخيرة له ھي التي ستتوقف تغييراتها وقد توقف المغيّر نفسه عن  التدخل في ما يعنيه

Aucun commentaire: