موسوعة جدل الأفكار (1)
جدل الأفكار
قراءة في أفكار حِزب التحرير
حول أفكار :
الألوهيةِ وَالقَضَاءِ وَالقَدَرِ
وَالأجلَ والرَِّزق والهٌدَى
والضَّلال والنّصَّر وَالجَّزَاء
أمين نَايف ذَياب
· تم
إعداد بيانات الفهرسة الأولية من قبل دائرة المكتبة الوطنية
تمهيد
تنتمي هذه القراءة للقراءة النقدية
المقارنة من زاوية محددة ، هي زاوية أهل التوحيد والعدل- اختيرت أفكار حزب
التحرير ، لهذه القراءة النقدية ـ للأسباب التالية :
الأول : حزب التحرير ـ دون كل
الحركات الإسلامية ـ هو الذي له منظومة معرفية : إيمانية ، وحركية ، وفكرية ،
وسياسية ، وفقهية . أما الحركات الأخرى فلا تقوم إلا على عمومات إسلامية .
الثاني : بحكم أنني كنت عضواً في
حزب التحرير ، ومن الواعين على أفكار الحزب ، والوعي على أفكار الحزب ، وآرائه ،
وأحكامه ، مهم وضروري لجدل الأفكار .
الثالث : سجل المرحوم الشيخ تقي
الدين النبهاني في أكثر من كتاب ـ من كتب الحرب الفكرية ـ نقداً لآراء المعتزلة
، معتمداً على مدونات الأشاعرة وأهل الحديث ، ولم يدونها بسبب القراءة لآراء
المعتزلة قراءة نقدية ، بل تحامل على المعتزلة بلا تسويغ ، وقراءة فصل المرحوم
تقي الدين النبهاني والمعتزلة من هذا الكتاب ، كشفت لك ذلك بالدليل !.
الرابع : ما صار إليه الحزب بجملته
من ضعف في التفكير والفهم ، فكان الكتاب محاولة جادة لإصلاح الحزب ، بعد أنْ
وصلت المحاولة من داخل الحزب ، أو مناقشة الواجهة من شباب الحزب ، إلى الطريق
المسدود ، فكان نشر الكتاب في طبعته الأولى ، محاولة لاقتحام عقل الحزب والأمة
معا ، وهذا هو الكتاب في طبعته الثانية وهي طبعة منقحة ، مع الحفاظ التام على ما
جاء في الطبعة الأولى .
بسم الله الرحمن الرحيم
الإهداء
إلى روح والدي البدوي الأمي إذ
تعلمت منه الكثير.
تعلمت منه التفكير، فهو الذي زرع
فّي حب التفكير .
ومنه تعلمت أن العطاء هو عطاءٌ من
لا يرتجي الثمن.
وإليه الفضل إذ علمني أن الإنسانية،
هي الحب والفداء وإخلاص النصح، وفي مدرسته تعلمت الثبات أمام العواصف والجهر
بالحق، والاعتزاز بالفضائل والصبر على المكاره.
تَمثَّلْتُ من والدي وصية ذي الإصبع
العدواني لابنه عملياً، قبل أن أقرأها بياناً، مع أن والدي لم يكن شيخَ قبيلة،
وإنما رجلُ من قبيلة.
إلى روح والدي الذي عاش متفائلاً،
ومات متفائلاً، بالغد الآتي رغم القسوة، قسوة ضيق ذات اليد، وقسوة سفر الخروج.
إلى روح والدي الذي كان يرنو إلى
الشمس المضيئة هازئاً بالسحب والأمطار والأنواء.
*********
وإلى روح العالم الجليل والمفكر
الكبير والسياسي القدير:
الشيخ تقي الدين النبهاني الذي مات،
ولم يكتب له أحدُ سطر رثاء .
العالم الذي حاول أن يعلم الأمة
التفكير فلم تتعلم.
وحاول أن يفتح العيون على الوعي،
فارتضت العمى على الهدى.
وأرادها أن تكون خير أمة أخرجت
للناس، فنكصت على عقبيها.
إلى الرجل الأمة، الصادق اللهجة
الواضح البيان.
إلى من رفع تفكيري عن الحلم
والأماني.
إلى الحس المرهف، والتفكير
المستنير، والعمل الدؤوب، والأهداف الواضحة.
إلى من عاش ومات يطلب رفعة الأمة،
ومجدها، وعزتها.
إلى من اخترمته المنية، دون أن
يتحقق ما ابتغاه.
إلى من تَعَثَّرتِ الجيادٌ بعده
وانكشف المستور!([1]).
إليكما معاً الوالد والعالم أول
نتاج لي بعد أن وَهَنَ العظمٌ، واشتعل الرأس شيباً، وفاءً، واعترافاً، وذكرى.
أمين نايف ذياب
بسم الله الرحمن الرحيم
تقدمة
يرتكز الإيمان الإسلامي على قواعد
ثلاث هي: 1- الألوهية 2- الحياة الدنيا. 3- الحياة الآخرة.
وهذه القواعد الثلاث، هي قواعدٌ
منظومةٌ نظماً واحداً، لا يمكن الفصل بينهما، واهتزاز أو ضعف واحدة منهما، هو
ضعف واهتزاز للأخريَيْن، فالقواعد الثلاث هذه هي الإيمان، وهي القاعدة الفكرية،
وهي القيادة الفكرية، وهي أساس يحل معضلة المعرفة الإنسانية ومن شأنها رفض
العبثية في التفكير، أو الفعل، أو الغاية.
وحزب التحرير، أو على الحقيقة
المرحوم الشيخ تقي الدين النبهاني، عبّر عن هذه الحقائق، بأوضح بيان، وأجلى
معنى، حين قال:" ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الحياة والكون والإنسان
وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها. فكان لا بدّ من تغيير فكر
الإنسان الحاضر، تغييراً أساسياً شاملاً وإيجاد فكر آخر له
حتى ينهض".
وبالرغم من أن حزب التحرير قام على
أساس هذه العبارة، إلا أنه لم يستطع إيجاد النهضة، مع ما بذل الحزب من جهود-
سواء على صعيد الأفكار- أو في الواقع العملي النضالي، أو في تعدد الأساليب، خلال
مسيرته الحزبية منذ أن أنشأ المرحوم النبهاني الحزب عام 51م إلى أن توفاه الله
عام 77م .
لقد جاء نعي القيادة الجديدة للقائد
المتوفى، المرحوم النبهاني بالصيغة التالية:
بسم الله الرحمن الرحيم
(( الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ
مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ))(البقرة:156)
بمزيد من الحزن والأسى ننعى إليكم
أميَرنا وقائدَنا، فقد التحق بالرفيق الأعلى، في أول يوم من شهر محرم، سائلين
الله عزّ وجل أن يتغمده بالرحمة والرضوان، وأن ينزله (( مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ
وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً ))(النساء: من الآية69)
كما نسأله أن يٌلْهِمَنا الصبرَ
والسداد، وأن يكون عوناً لنا، لنستمرَّ على الطريق، سائرين بعزم المؤمنين، وصدق
المتقين، وإخلاص من وقفوا أنفسهم لإعلاء كلمة الله، وعزاؤُنا بالتحاق الرسول
الأعظم بالرفيق الأعلى، وبَأَنَّ الطريقَ واضحٌ لنا، ولنا القدوة الصالحة
بالصحابة الكرام، عندما فقدوا رسول الله صلي الله عليه وسلم، فقد حملوا المشعل،
ورفعوا الراية، وفتح الله علي أيديهم آفاق الأرض، ولم تضْعُفْ عزائمُهم، ولا
ثَبَطَتْ هممُهم، بل استمروا لله مخلصين، ولرسالته حاملين، ولرايته رافعين،
ولحكمه مطبقين، وأملنا في شبابنا، وهم المؤمنون أن يسيروا على نفس الدرب، فلا
تَضْعُفَ عزائمُهم، ولا تهنُ هممُهم، وأن يسيروا بعزمات المؤمنين، دون أن تلينَ
لهم قناة، حتى نصلَ إلى الغاية التي وُجدنا، من أجلها، فنقيمَ الخلافة، ونرفعَ
الراية، ونعيد حكم الله إلى الأرض، فإن الله يُؤتي نصرَه لمن يشاء، وبذلك نكون
قد حققنا حلم القائد والأمير، ووصلنا إلى الغاية التي أوقف حياتَه لأجلها،
فتقرَّ بذلك عينُه وتطيبَ بها نفسه، ونكونَ بذلك قد أوفيناه حقه، وأديناه أمانته
، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ولا حول ولا قوة إلاّ بالله
الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ .
محرم 1398 هـ 12 كانون أول 1977 م
منذُ وفاة تقي الدين النبهاني وحتى
هذا التاريخ دارت الأرض حول الشمس سبعَ عشرة مرة، وفي هذه السنوات العجاف عقدت
مصر وإسرائيل صلحاً سنة 1979م، واجتاح اليهود لبنان سنة 1982م، وحصلت الحرب
العراقية الإيرانية سنة 1980- 1988م، وسُخّر المسلمون في أفغانستان لصالح الغرب،
أفظع تسخير، وتنادى العالم العربي للصلح مع إسرائيل!.
وبدأت أحداث الانتفاضة في الضفة
الغربية والقطاع سنة 1987م، وكان زلزال الخليج سنة 1990- 1991م، وشهد عام 1991م
وإلى الآن مسارات الصلح والتطبيع مع إسرائيل، وجرت محادثات واشنطن، أوسلو،
القاهرة، وبداية وجود منطقة الحكم الذاتي، غزة أريحا، ووقعت الأردن وإسرائيل
اتفاقية سلام عام 1994م. ونحن لا زلنا نعاني الأزمة، فما ظهر من دعوى الارتفاع
الروحي، إنما هو غاية الهبوط الروحي، إذ تَمثَّل في إسلام الوعاظ وليس إسلام
النهضة أما التخلف المادي، والتأخر الفكري،والانحطاط السياسي، وفقدان الهوية،
وارتفاع الإقليمية، والقطرية، فالحديث عن ذلك يحزن القلب، ويدمي الفؤاد، ويثيرُ
سحباً من الشك، واليأس، والقنوط.
إنَّ مثل هذه الحالة التي عليها
الأمة من ناحية الواقع الفعلي، على جميع مستوياته، سواء في منطق الإحساس( الحس
المعنوي)، أو التفكير على جميع صعده المتعددة، والأفعال على اختلافها، أو
الأهداف القريبة والبعيدة والثابتة، فإن المُقرّر العقلي يقتضي ضرورة إعادة
النظر، في كل الأفكار، وفي كل الحركات، وفي كل الأعمال، التي تدعي أنها تعمل
للنهضة، فتوالي الفشل، والرجوع القهقرى، يعني وجود أخطاء جسيمة، وقاتلة، في
الفكر كفكر وفي الحركات كأحزاب وتكتلات وفي الأعمال من حيثُ أثرهُا وجدواها.
وهنا يحق سؤالُ أفضلِ التكتلاتِ
فكراً، وأعمقها أثراً، وأدقها تنظيماً، وأكثرها قرباً إلى مفاهيم الأعماق عند
الأمة، ومشاعرها وهو حزب التحرير، هل سار فعلاً كما وعد ؟ من خلال أفكار نعي
قائده المرحوم تقي الدين النبهاني، من حيثُ أنهم ساروا على نفس الدرب، دون أن
تَضْعُفَ عزائمُهم، ودونَ أن تهنَ هِمَمُهُم، فساروا بعزمات المؤمنين، فلم تلن
لهم قناة، فإن قالوا : نحن كْذلك، حقَّ أن نسألَهم سؤالاً ثانياً ، هل وصلوا أو
اقتربوا أدنى اقتراب من الغاية التي وُجدوا لأجلها ؟ وهي إقامة الخلافة، ورفع
الراية، وإعادة حكم الله إلى الأرض، فإن أجابوا نعم، قيل لهم: أي دليل معكم
يُقنع!؟ والناس رأت وسمعت وأحست، وعلمت ما جرى، وما يجري، على ساحة العالم
الإسلامي، الممتدة من المحيط إلى المحيط، من أحوال غير معقولة، وأمور غير
مفهومة، أمةٌ تقدمُ لعدوها، أرضاً، ومالاً، ورجالاً، وتدميراً مهلكاً، وجوعاً
قاتلاً، وأمراض فتاكة، لبعض منها، ليس على ساحة العراق فحسب، وأن كانت العراق
أهم الساحات، بل على ساحات عديدة شهرتُها تغني عن ذكرها!
لَرُبَّ سائلٍ يسأل لماذا القراءة
في فكر حزب التحرير؟وما هي مرامي هذه القراءة أهي لبيان العيوب الفكرية؟ومتي
كانت العيوب الفكرية تعيق النهضة؟ ألم تُؤسس الرأسمالية الغريبة بليبراليتها
ودمقراطيتها على العيوب الظاهرة للعيان؟والماثلة في مآسي العالم الثالث! وهي
المرُّ مذاقُها، والعلقمُ طعمُها، ومع هذا حققت النهوض، والارتقاء، والمجد،
والسيطرة لمعتنقيها. وأفاضت على أتباعها( العالم الثالث) كثيراً من وسائل التنعم
والراحة، وها هو العالم الثالث ينعم بمنجزاتها، من مناديل رقيقة لمخاطه، إلى
طائرة نفاثة تُيسرُ تنقلاته إلى الحاسوب والمذياع، والتلفاكس، والتلكس، بعد
الكهرباء والآلة البخارية والتلفون.
تلك أسئلة مشروعة، لكن القضية لا
تساق هكذا وإنما بسؤال مناقض تماماً لتلك الأسئلة، وهذا هو السؤال! إذا كان حال
الأمة لم يتغير؟ رغم تواصل الجهود، خلال عقود زادت عن الأربع، ومع هذا فإن التبعية،
والتجزئة، والاغتراب، عن الهوية الإسلامية، هي السائدة، وهي المعطي السياسي
المطبق، ويسار به إلى الأمام، فالصلح مع إسرائيل، الذي كان من أشد أنواع
الخيانات! أصبح عند الجماهير موقفاً وطنياً رائعاً، يستحق المديح… الخ مثل هذه
المتغيرات في الأفكار والمواقف .
فالأمة تغيرت، ولكن بدل من أن تتغير
نحو النهضة، تغيرت نحو القعود . وفي كتيب منهج حزب التحرير في التغيير وهو خطاب
ألقاه مندوب الحزب في مؤتمر رابطة الطلبة المسلمين- المنعقد في ولاية ميتسوري في
أمريكا، في 24 جمادى الأولى عام 1410 هـ، الموافق 22 كانون الأول 1989م، أي قبل
حوالي خمس سنوات من الآن، جاء في ص 9 منه ما يلي:" والمجتمع في البلاد
الإسلامية يسيطر عليه خليط من الأفكار والمشاعر والأنظمة، بالرغم من أن أفراده
مسلمون في غالبيتهم. لذلك ليس غريباً أن تجدَ التناقضات الواضحةَ في الأفكار،
والمشاعر، بين المسلمين، ففي الوقت الذي يتطلعون فيه إلى الإسلام، نجدهم يقبلون
أن يكون حاكمُهم كافراً، كما تجدُهم يسكتون على أنظمة الكفر تطبق عليهم. وفي
الوقت الذي تراهم فيه يتوقون إلى عودة الإسلام، تراهم يتمسكون بالناحية القومية،
والناحية الإقليمية، والناحية المذهبية الطائفية. وفي الوقت الذي يعتبرون فيه
أمريكا، وبريطانيا، وروسيا عدوةً، تراهم يستعينون بهذه الدول، ويوالونها،
ويتطلعون إلى أن تحلَّ لهم قضاياهم ومشاكلهم. وفي الوقت الذي يؤمنون فيه أن
المؤمنين إخوةٌ تراهم يتعصبون لعنصرياتهم، ولأقطارهم، فيتعصب العربي لعُروبته،
والتركي لطورانيته، والفارسي لفارسيته، بل والعراقي لعراقه، والشامي لشامه،
والمصري لمصره، وهكذا دواليك، مع تناقض كل ذلك مع أحكام الإسلام. وفي الوقت الذي
يؤمنون فيه بالإسلام، تراهم ينادون بالديمقراطية، وبالحريات، وبسيادة الشعب،
وبالاشتراكية، وبغيرها من أفكار الكفر التي تتناقض مع أحكام الإسلام مناقضةً
كلية" انتهى الاقتباس.
ويمكن للباحث والناظر، في حالة
المجتمعات القائمة في العالم الإسلامي، معرفة أنّ أفكار ومشاعر شعوب العالم
الإسلامي، لا تزال أسيرة منظومةِ الأماني والأحلام وانتظار الغيبيات، رغم عراقة
التكتلات العاملة للنهضة على أساس الإسلام، ورغم كثرة المساجد، والجماعات
الإسلامية، والجمعيات الخيرية، وازدياد عدد الحاصلين على شهادات عليا في علوم
الشريعة، وتعدد المعاهد الإسلامية، وعقد مئات المؤتمرات، من قبَل من يُقال عنهم
صفوة المفكرين الإسلاميين، ومع انتشار وكثرة الأبحاث الإسلامية المعاصرة. والكتب
التراثية، والتحولات نحو إسلام العبادات، والهيئات وانتشار دور البحث، كل هذا
القدر الهائل لم يكن إلا ضغثاً على إبالة. فكلُّ الأحداث السياسية المؤلمة، لا
يمكنُ توافقُها مع ما يرى، ويسمع، من دعوى الصحوة، تلك الصحوة التي ثبتَ تزويرُها
جلياً واضحاً، فإذا هي توهه (( كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً
)) فكل ما جرى كان بتخطيط مدروس يقصد منه احتواء الإسلام، وتذويبه، وتحجيمه، وها
هو الاحتواء، والتذويب، والتحجيم بدا واضحاً ولا ينكره إلا من عَمِيَتْ باصرتُه
وبصيرتُه!.
ويمكنُ للباحث أن يقرأ في نشرة
إعادة النظر الصادرةِ في 19 جمادى الأولى 1405هـ، الموافق 10 شباط 1985م.
ويلاحظُ الفَرْقَ بين خطابِ مندوبِ الحزبِ في الولايات المتحدة ، بعد خمس سنوات
، فبينما حال المجتمع عام 1985م، يَظهرُ فيها الخيرُ كله في الأمة والحزب،
إذ هي كما مرَّ الاقتباس المنقول من منهج حزب التحرير في التغيير، وإليكم
اقتباسات من نشرة إعادة النظر لإدراك الفرق.
ص 7 فقرة11 :" ومع كل ذلك
فالمِنَّةُ والشكر لله، فالحزب قد ترسخ وجودُه، وعَظُمَ كيانُه، وضَخُمَ ساقُه،
وتَعمَّقَتْ جذورهُ، وتفرَّعَتْ أغصانُه، وعم وجود شبابه القارات الخمس، حتى عز
على من يرومه!
ص11" ولو نظرنا إلى واقع
الأحداث، التي مرت بنا طيلة هذه الفترة، التي كان الحزب جاداً فيها، بالعمل
لاستلام الحكم، لوجدنا أنَّ كثيراً من العقبات قد أُزيل، فعبد الناصر قد زال،
والعمل الفدائي قد انكشف أمره، وتعرّى قادتُه. والبعثيون، والقوميون،
والاشتراكيون، والناصريون، قد تلاشى سوقُهُمْ ونُزعتْ ثقةُ الناس منهم، والأفكار
القومية والناصرية والشيوعية والاشتراكية والرأسمالية، ظهر فسادُها وبان
عوارُها، وجميع الحكام في المنطقة، أصبحت الأمة تعاديهم، وتريد أن تتخلص منهم،
والنفط قد أصبح مملوكاً لأهل البلاد، والإسلام قد أصبح هو الأمل المرتجى عند
المسلمين للخلاص ، والمصدر والمحرك لهم.
يقرُّ الحزب أن الأمة عام 1985م،
تحولت إلى الإسلام، وبعد ذلك بخمس سنوات عام 1989م، يكشف ما عليه المجتمع، من
تناقضات واضحة ( إقرأ الفقرة المنقولة من كتبب منهج حزب التحرير في التغيير )
وهل يقول عام 1991م ؟ ( الاعتداء القذر على العراق )! : إنَّ النفط قد أصبح
مملوكاً لأهل البلاد!
وفي نشرة البوسنة والهرسك، الصادرة
في 26 ربيع الأول عام 1413هـ 23/9/ 1992م، أي بعد ثلاث سنوات من نشرة( منهج حزب
التحرير في التغيير) تراه يقول:" أيها المسلمون إنكم أصبحتم أضيع من
الأيتام على مأدبة اللئام"!.
وهنا يحقق للعامة، للجماهير، للأمة،
للمستضعفين، أن يقيموا سؤالهم، من المسؤول عن حالة التردي والسقوط ؟ إلى حد
الاندثار، فإن قيل: أنه الكافر المستعمر أو أنهم الحكامُ التابعون لهم، أو أنهم
الحركيون غيرُ الإسلامين، المضبوعون بالثقافة الغربية، أو قيل: أنهم الحركيون
الإسلاميون، العاملون للنهضة، بالإسلام المفتوح، والطريقة المرتجلة الملتوية،
والأشخاص غير الواعين، أو قيل أنهم ظلاميو الأمة، الذين تَعرفُ قلوبهم الحق ولا
تعمل له، أو قيل: أنها الجماهير المفتقدة للوعي، أو قيل: كل هذا إضافة إلى
الواقع الموضوعي، الذي عليه الموقف الدولي، والمحلي، قيل إذاً وما الذي
فعلتموه ؟ أيها الواعون! المخلصون! المفكرون السياسيون، والسياسيون المفكرون،
المتفاخرون دائماً بأنكم أهل الوعي وأهل البصيرة.
حقائقُ مذهلة، تلك التي كشفها زلزال
الخليج، وتلك الحقائق المذهلة ليس هي كونُ الدول تتآمر مع الغرب على العراق،
وليس هي تبعية الشعوب لمقالات الحكام، وإنما الحقائقُ المذهلةُ هي كون الأحزاب،
وكياناتِها وأفكارها، والمراحل التي قطعتها، والصحوة الإسلامية التي ادعاها الإسلاميون
والتي لا زال مدعوها يتنازعون فضل وجودها حتى اليوم، وحقائق مذهلة كونُ الأحزاب
غير الإسلامية الأحزاب اليسارية، والقومية، لا تزال تعرفُ ألحانها ألحان جنازة
أمتنا المندثرة الميتة، تتسابق القوى الوطنية التقدمية، والقوى الإسلامية
لِتعيدَ كرة أخرى عزف لحن الموت!.
هذه الدراسة التي تشكَّلتْ في رحم
فكر حزب التحرير، والتي أعادت إنشاء خطاب إسلامي نهضوي، يحدد الإشكاليات ويحلها،
ويعيد إنتاج خطاب إسلامي، مُغايرٍ للخطابات الإسلامية المتواجدة على الساحة، عند
أمرين على الأقل: أولهما مُستندُهُ التراثي فقد استند هذه الخطاب إلى الفكر
الاعتزالي في حُجج الله على خلقه، وفي أصول الدين الخمسة، وفي طريقة المعتزلة في
تفسير القرآن الكريم المبنية على اللغة والعقل، وفي طريقة المعتزلة في منهج
التثبت من نصوص الأحاديث، بعرضها على العقل والقرآن، وردِّ كلِّ حديثٍ لا يمكن
تأويلُه لمخالفته البتة للعقل أو القرآن، وثاني هذين الأمرين: هو محاولة الكشف،
وإعادة الاكتشاف للسيرورة التاريخية للفكر الإسلامي، في شقيه النظري، والممارس،
وإعادة بناء هذا التاريخ بناءً يُغايرُ البناء التاريخي الذي أعتدناه، مع بيان
الأبعادِ الاجتماعية والإنسانية والحضارية في الحركة التاريخية، في الماضي
والحاضر، كل ذلك في سبيل صنع مستقبلٍ لأمتنا المجيدة، والإنسان في العالم، يبلغ
من الرقي الإنساني أعلاه.
فهذه القراءة ليست قراءةً أكاديمية،
وإنما هي قراءةٌ لإعادة البناء، بناءِ الإنسان والمجتمع والدولة، لانتزاع
القوامة على الإنسانية من الديناصور الأمريكي! ووضع الأمة الإسلامية في مكانها
الطبيعي، الهادف للعدل، والحق والهداية، والخير، وفي سبيل إعادة البناء لا بد من
هدم. ومن هنا فإن هذه الأبحاث هي هدم لما تركز في عقول المسلمين، من أفكار
زائفة، سار عليها المسلمون قرونهم السالفة، وهي وإن كانت تعالج أفكاراً لحزب
التحرير، إلا أنَّ أفكار الحزب هذه، هي أفكار ما سُمِيّ في التاريخ بأفكار
"أهل السنة والجماعة"، وهي أفكار التشبيه والجبر واهتزاز الوعيد،
ومنها وفيها كانت الكارثة!.
مقدمة أولى
ترجع بداية الشروع في هذا الكتاب
إلى عام 1989م، أو قبل ذلك، وأول موضوع كُتب، هو موضوع القضاء والقدر، ومنذ ذلك
الزمن، وأفكار هذا الكتاب، تعرض على بعض من هو مهتمٌ فيها، وقد حدث جدال فيه
وحوله تمحورت المجادلات حولَ التالي:
1-
لماذا القراءة في فكر حزب التحرير؟ ويتساءلون ألا تُعد هذه القراءة خدمةً
للواقفين في وجه أفكار حزب التحرير! من جلاوزة السلاطين وحشد الظلامين والجماعات
المضبوعة بالثقافة الغربية، هكذا كانت تدور الأسئلة.
2-
لماذا هذا الاهتمام بأفكار فرعية؟ ليس لها من جدوى في أحداث النهضة وهي أفكار
نظرية، لا تؤثر على النهضة بحال من الأحوال.
3-
وقليل منهم رأى في تدوين هذه الأفكار أخطاءَ أو نواقص، أو أنها أبحاثُ خاطئة
وتحمل مغالطات واضحة…. الخ مثل هذه الأقوال.
4-
والبعض رأى ضرورة نشر هذا الكتاب بنفس العنوان لأن ذلك يحرك الفكر وهي قضايا
مهمةً جداً لإحداث النهضة.
5-
لماذا لا يحمل البحث عنواناً لا يتعلق بحزب التحرير ولا غيره؟ وإنما يحمل عنوان
قراءة في الأفكار الإسلامية مثلاً ـ أي عرض الأفكار دون الإشارة لعرض حزب
التحرير أو غيره لمثل هذه الأفكار ـ .
تلك هي المحاور الخمسة التي دار
حولَها النقاش، والذين حاوروا هذه الحوارات، هم إما أعضاء في حزب التحرير، أو
سبق أن كانوا أعضاء في حزب التحرير، أو أنهم من حملة أفكار التوحيد والعدل، ولا
بد من إجابةٍ واضحة حول هذه المحاور.
1-
المحور الأول:
جاء في نشرة أصدرها حزب التحرير في
7 جمادى أولى 1388هـ الموافق 2/ 8/ 1968م، بعنوان مرحلة التفاعل:" إن هذه
المرحلة، وهي المرحلة الثانية من مراحل الحزب، هي مرحلة إفهام الأمة مبدأ الحزب،
لغاية محددة معينة، هي ليكون مبدأها، وليس لمجرد العلم والتعليم وهنا يحصل مع
عملية الإفهام، الاحتكاك بالأمة فتعطي رأيها، بالأفكار التي تعرض عليها، إما
بالتأييد أو المعارضة، وفي كلتا الحالتين يحصل التفاعل" انتهى.
أنَّ التفاعل يقتضي الفهم الواعي
للآراء والأفكار والأحكام التي يَعرِضُها الحزب، فالتفاعل يتطلّبُ فهماً واعياً
ينتج عنه تأييد أو معارضة، وفي كلتا الحالتين التأييد والمعارضة، لا بد أن يتما
على أساس الفهم الواعي، لا على أساس إثارة المشاعر.
إنَّ حزب التحرير لم يمرّ في
التفاعل أبداً بسبب بسيط ، وهو أن التأييد الذي لاقاه، في دوره الثقافي، كان
تأييداً مشاعرياً وأنَّ الرفض الذي لاقاه، أثناء محاولة المخاطبة لم يكن ناتجاً
عن فهم، وإنما لتعلق المشاعر، بالمنقذ جمال عبد الناصر، ومن هنا يمكن الجزم، أن
حزب التحرير لم يتمكن من السير في دور التفاعل سيراً طبيعياً، مما جعله يقفز عن
هذا الدور قفزات واضحة، أوجدت ثغراتٍ عدة، ليس في سيره فحسب، بل في جسم الحزب،
فقد فشل في محاولة المخاطبة، وفشل في بدء طرق باب المجتمع، وفي مباشرة ضرب
العلاقات، وخاصة المحلية، وافتقد القوة والثبات وترتب على ذلك أنه فشلاً واضحاً
في أخذ قيادة الناس.
إنَّ هذه القراءة لأفكار متبناة من
حزب التحرير، هي أولى محاولات فهمه فهماً واعياً، من شأن هذه الفهم أن يتيحَ
للحزب إعادة النظر، في فهمه لهذه المواضيع، تركيزاً أو إعادة بناء لها من جديد،
فعلام التخوف! من التفاعل الحق!؟.
لقد ظهرت حقيقةُ أجهزة الحزب من
أنها تفتقد الحد الأدنى للوعي، فهم مفتقدون لما يلي :
أ-
المعلومات الكافية عن الأفكار المتبناة ولذلك يرتعبون وترتعد فرائصهم، من مجرد
فتح النقاش، فكل ما لديهم من معلومات، هي مدائح ساذجة للإسلام والحزب، وتفاخر
ببعض قيادات الحزب.
ب-
لم تتكون لديهم خبرة بأعمال الدعوة، والأعمال الحزبية وطبيعة سير الدعوة في
المجتمع، الأمر الذي جعلهم يحكمون على المجتمع أحكاماً متناقضة، في وقت واحد،
فتراهم يتمدّحون في المجتمع، وأنه في سبيله لاستئناف الحياة الإسلامية، إذ
المجتمع مجموعة من أناس لا يستأهلون أي شيء!.
ج- افتقادهم الثقة في
النفس، مما جعلهم يدورون حول أنفسهم، أو حول القلة من مؤيديهم، وهم أي المؤيدون
يفتقدون مثلهم الحد الأدنى من الوعي، ولذلك تتحول الدعوة إلى صورة هزيلة متكررة،
هي التمني للخلافة، وتفسير أي حدث سياسي أينما حدث وكيفما حدث على أنه صراع
إنجليزي أمريكي، حتى لو اشترك الأميركيان والإنجليز يعمل واحد متوحد، آخرها
وصفهم حرب الخليج الضروس بأنها صراع أمريكي بريطاني.
إنَّ هذه القراءة محسومة، إنها
لصالح الوعي على هذه الأفكار، وإنها نقاش حقيقي لأفكار متبناة من الحزب، بل
وعليها وفيها يكمنُ ضعفُ مستوى المسلمين في التفكير لأنها أفكار جبرية، أو
مقولات خُرافية.
2- أما عن المحور الثاني:
وهو عدم جدوى هذه الأفكار في إحداث
النهضة فإن من الضروري نقل فقرة من الدوسية ص 38 جاء فيها ما يلي:
" هذه هي أهم الأفكار المتعلقة
بالعقيدة الإسلامية، وما يتصل بها، ولا شك أن أخذ هذه الأفكار صافيةً يحدث في
النفس تأثيراً بالغ الأهمية، فيقلبها رأساً على عقب، ويرفعها من الحضيض إلى أعلى
الدرجات، ويوسّعُ أمامها الآفاق، بشكل يجعلها تشرف على الكون، وتجتلي أدق
التفاصيل في الحياة، وغايتها وقيمتها ومدى أهميتها، فإن العقيدة الإسلامية عقيدة
التوحيد بما فيها هذه الأفكار التي تتعلق بالعقائد وما يتصل بها، هي التي أنشأت
العرب نشأةً جديدة، وبثت فيهم روحاً أحالتهم خلقاً جديداً، حين اقتحمت على
نفوسهم مناطق عقائدها، واتصلت بوجدانهم في صميمه، فإن بذرة التوحيد إذا أُلقيت
في نفوس أي شعب صافيةَ الجوهر، نقيةً من كل شائبة، بسيطةً كل البساطة دفعت إلى
نفوس ذلك الشعب قوةً روحيةً هائلة، لا قدرة لأحدٍ على تقدير مداها، فإن هذه
القوة تجعل صاحبَها يستهين في الحياة في سبيل هذه العقيدة، فكيف لا يستهين
بالصعاب مهما بلغت؟، وهي دون الاستهانة بالحياة، لذلك لم يكن عجباً أن قَدِرَ
العرب بعد إسلامهم على الفرس والروم، لأن بذرة التوحيد إحالتهم خلقاً جديداً،
وليس بعجيب أن يقدر المسلمون اليوم، على الأمريكان والإنجليز والفرنيسين والروس،
إذا ما أُحْيَيَتْ في نفوسهم بدرةُ التوحيد، وما جاء في القرآن من أفكارها من
مثل القدر، ومثل الرزق، ومن مثل الموت، فإن ذلك مع التوكل على الله، يحيل
المسلمين خلقاً جديداً وينشئهُم نشأةً جديدةً، فيندفعون في الأرض كما اندفع
أجدادُهم من قبلُ، يحملون رسالة الإسلام، ينشرون بها الهدى بين الناس، فالمسألة
إذن في أمر المسلمين اليوم، هي القاء بذرة التوحيد في نفوسهم صافية الجوهر،
نقيةً من كل شائبة، بسيطةً كل البساطة، لأنها وأن كانت موجودةً في نفوسهم
صافيةً، ولكن ما يتعلق بها من أفكار تُؤثّرُ على اندفاع المسلم قد علاها كومة من
الأتربة والغبار، لا بدّ من أزالتها حتى تعودُ كلُّها نقيةً من كل شائبة، وتعودَ
بسيطةً كل البساطة، بعيدة عن تعقيد المتكلمين، وجدل الفلاسفة، وذلك بإرجاعها إلى
الدليل القطعي وحده، ورفض ما عداه، بإرجاعها إلى القرآن القطعي الدلالة، وإلى
المتواتر من أحاديث الرسول صلي الله عليه وسلم، ولهذا كانت الحاجة ماسة إلى
حملة الدعوة أولاً أن يُقوُّوا في نفوسهم بذرة التوحيد، بالتصديق الجازم بالقدر،
والرزق، والموت، والتوكل على الله، فإن هذا إذا تمكن من نفوسهم يجعلهم لا يعرفون
الهزيمة، ولا يرضونها، فإذا ما أصيبوا بأنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وإذا ما
مُنُوا في الإخفاق تلو الإخفاق، فإن ذلك لا يُوهنُ من عزمهم، بل يحفزهم لمضاعفة
الجهد، والاستهانة من كل صعب، بل الاستهانة بالحياة، في سبيل الظفر بالغاية التي
نذروا أنفسهم من أجلها، ووقفوا حياتهم عليها، ألا وهي إعادة الأمة الإسلامية
دولةً كبرى، تنقذ العالم مما يتردى فيه من كفر وضلال، وتعاسة وشقاء، فإذا ما حصل
ذلك التأثير لديهم، وصفتْ بذرةُ التوحيد في نفوسهم، ألقّوها للناس كما هي لديهم،
صافية الجوهر، نقيةً من كل شائبة، بسيطة كل البساطة، حتى تعودَ الأمة الإسلامية
خلقاً جديداً، وتنشأ نشأةً جديدة، وحينئذ تحققُ الغاية، وتعود كلمة الله هي
العليا.
هذه آثار إزالة الأتربة والغبار عن
الجذور الضامرة في شجرة الإسلام، وهي آثار في منتهي العظمة، وهي تساوي ما يجب أن
يبذل من جهد في تفهم هذه الأفكار الستة، وحفظ أدلتها من الآيات والأحاديث حفظاً
تاماً عن ظهر قلب، لتؤثر في النفس، وليتمكن الشاب من التأثير في الأفراد
والجماهير، ليحيلهم معه حلقاً جديداً، حتى يسيروا أمة واحدة، مندفعين في الأرض لنشر
الهدى ومحو الضلال" انتهي الاقتباس.
1-
يركز الاقتباس على أهمية الأفكار الستة في النهضة، والأفكار الستة هي: مسألة
القدر، مسألة القضاء والقدر، مسألة الرزق، مسألة الموت، مسألة التوكل مسألة
الهداية والضلال، وهذه المسائل هي مسائل عن علاقة الله بأفعال وتصرفات
مخلوقاته،أي من أبحاث العدل كما يقول العدليون الخُلَّص" المعتزلة
والزيدية" وهذه المسائل الست؟ هي مسائل عقلية وهي كلها مسألة واحدة فالدليل
عليها إنما هو العقل، وليس النص وافتراض وجود قضايا لم يهتد العقل لأسبابها هو
افتراض لا حقيقة عقلية له،وهذه المسائل مهمة وضرورية وفهمها شرط موضوعي لأحداث
النهضة.
2-
ما يلاحظه الناسُ كلُّهم من أنَّ المسلمين كلهم باستثناء الزيدية والمعتزلة
يقولون ويرددون أقوال حزب التحرير نفسها حتى الكسبيين فهم يقولون كلاماً يتقارب
بل يكادُ يتطابقُ مع أقوال الحزب، ومع ذلك ولأن نتيجة هذا الكلام هو الجبر التام
نشأ تركيز للجبرية في الأمة والحزب على السواء.
3-
لقد ظن النبهاني حينّ أسند نتائج الأفعال، والحصول على الرزق وحصول الموت، وخلق
الهدى والضلال، وإعطاء التوكل معنى عدم الأخذ بالأسباب، أنه وقد جعل الأمور كلها
الله، باستثناء دائرة صغيرة جداً، هي قيامه بأفعاله في الدائرة الاختيارية، إنما
يبني إيماناً راسخاً، يهدم الجبال، ويتحدى الصعاب، ويصبر على المشقّات، ويزيل
العوائق، ولكن مسيرة الحزب الطويلة كانت عكس ذلك تماماً، بل لم يستمرَّ في
التحدي أحدٌ على الإطلاق حتى الذين استمروا كان استمرارُهم لقوة التدين، لا لقوة
المبدأ في نفوسهم أو لأنهم رأوا أن السير مع الحزب، إنما هو حالة اجتماعية مميزة
أو لأسباب أخرى.
4-
لقد ركّزَ النبهاني على إلقاء بذرة التوحيد صافيةَ الجوهر، نقية من كل شائبة،
فلقد كرر النبهاني هذه العبارة مراتٍ ومرات، ولكن أين هو صفاء بذرة التوحيد، وقد
اعتمد النبهاني آياتٍ مقطوعة من سياقها للتدليل على هذه المواضيع، فضلاً عن أن
كل الآيات التي أوردها في هذه المواضيع، إنما هي من المتشابه، إذ تشابه فهمها
على علماء المسلمين، حقيقة وواقعاً، فهل الذين فهموا خلاف فهم المرحوم الشيخ وهم
المعتزلة أهل علم اللسان العربي، والزيدية علماء بيت آل النبي صلوات الله عليه
هم مجموعة من الضالين؟!.
5-
النبهاني يستشهد بالأحاديث انظر أحاديث أبي هريرة وغيره وهي كلها أحاديث آحاد في
موضع القدر ص12،13،14 من الدوسية.
6-
يؤكد الشيخ على ضرورة بساطة فكرة التوحيد، أمّا ما هي فكرة التوحيد التي يريد
تبسيطها؟ فلا تُعلم إلاّ أنها الخالقية، مع أن التوحيد أشمل من الخالقية،
فالتوحيد هو إيمان بذات قادرة عالمة حية واجبة الوجود، صفاتها عين ذاتها، فليست
الذات إلا الكمالات، وليست الكمالات إلاّ الذات فالكمالات ليست زيادة معنى على
الذات، وفهمها هذا الفهم من الوضوح بساطته والذين عقدّوا هذه البساطة، هم
السائلون عن كيفية أن الذات هي عين الصفات، ولا بد من تذكير النبهاني أنه القائل
ص 34 من كتاب نقض الماركسية الذي أصدره باسم غانم عبده:" وأما كون البرهان
على وجود الخالق في منتهى التعقيد فذلك : إن هناك أناساً من البشر يأبون البساطة
ويُعقدون على أنفسهم الأمور، يبحثون في هذا الأمر البسيط، بشكل معقد فيصلون إلى
أشياء جديدة تُعَقّد عليهم الأمور ولذلك صار لا بد لهم من براهين على الأمور
الجديدة التي وصلوا إليها" انتهي كلام الشيخ.
نعم إن إجابات المعتزلة في موضوع
التوحيد والعدل، هي إجابات تحتاج إلى مجاهدة ومواصلة بحث، وإعادة القراءة المرة
تلو المرة لفهمها، ولكنها كلها إجاباتٌ لسؤالات أقامها بعض المعقّدين من (أهل
السنة والجماعة) الذين رفضوا آيات محكمات ثلاث هي : (( وَلَمْ يَكُنْ لَهُ
كُفُواً أَحَدٌ )) (الاخلاص:4) (( فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ
لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً
يَذْرَأُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ))
(الشورى:11) (( لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ
اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ )) (الأنعام:103) وأخذوا ينازعون هذه الآيات المحكمة
بالمتشابه من الآيات أو الأحاديث المكذوبة، كحديث الجارية فالألباني يقول في أحد
الأشرطة هؤلاء الطالبون الدولة الإسلامية لا يعرفون عقيدة الجارية!!.
ألا يُعلم عظم الكارثة عندما تُربط
أمورُ النهضة في حديث آحاد يُعتبر عند كل الناس من مشكل الأحاديث على مستوى
المتن بل والسند. فمالك يُخرجه في كتاب العتق والولاء " باب ما يجوز من
العتق في الرقاب الواجبة" عن عُمر بن الحكم ويحكم عليه بقية أصحاب الحديث
أن هذا وهم من مالك وإنما هو عن معاوية بن الحكم هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن
مالك يخرج حديثاً بعده مباشرة عن عبد الله بن عبد الله بن عتيبة بن مسعود:"
أن رَجُلاً من الأنصار وفيه أن سألها عن الشهادة ولم يسألها بأين التي لا تجوز
عقلاً بحق ذات الله"! .
إنَّ قضية عقيدة التوحيد الآن، لا
يتأتى حلها بالتبسيط أو التعقيد، بل لا بد من إعادة بنائها، بالبرهان المُقنع،
والدليل البين، سواء بالتبسيط أو التعقيد فالقضية الآن، إعادة بناء العقيدة ودون
ذلك هو الدوران في الحلقة المفرعة دون علم البداية والنهاية.
3- أما عن المحور الثالث
فإن من المستحيل قيام نص فكري محكم
من بشر، كائناً ما كان هذا البشر، بل أن النص المحكم القرآن الكريم حينما يقرأه
البشر يشتبه عليهم الأمر، حتى المحكم منه يشتبه عليهم، وسببها عدم إحاطة البشر،
إنَّ الطريق للإدراك الموحد، يكمن في محاولة الفهم من خلال قراءة النص، والتجادل
فيه، فهذه النصوص هي دعوة للجدل، وفي الجدل تُسد الثغرات الحقيقية، وغير
الحقيقية.
4- وفي المحور الرابع:
دعوة تَشُدُّ العزيمة وتشحذ الهمة
لإصدار هذه المواضيع في كتاب، وها هو الكتاب وكل نقص فيه يتحمله مؤلف الكتاب
والتمام والكمال ليست صفة لخلق الله، بل الله وحده.
5- والجواب على المحور الخامس:
أن في البحث خصوصية هي الأكثر
وضوحاً، وعمومية هي الأقل ظهوراً، على أن الأمر ينتمي إلى الفكر المقارن ولهذا
أُخْتيرَ فكر حزب التحرير للمقارنة وهذا الاختيار ليس ضد أحد ولن ينفع إلا بناء
الوعي الضروري لنهضة الأمة.
ويعدُ خالصُ شكري لمن نقد، ولمن
نصح، ولمن أشار، والسلام على أتباع هدى محمد صلوات الله عليه.
مقدمة ثانية
في 20 ذي القعدة 1414 هـ الموافق 1
آبار 1994م
في صورة بسيطة فإن الإسلام من ناحية
المرجعية المعرفية هو نصّ بلغة العرب قطعي الثبوت أنه من الله تعالى، هو القرآن
الكريم، وبيان للرسول صلوات الله لِما يحتاج إلى بيان من القرآن الكريم، فالقرآن
هو النص، والسنة هي البيان، وهذا البيان، هو أقوال الرسول صلوات الله عليه وسلم،
أو أفعاله، أو إقراره لأفعال حدثت في زمنه، تصلح كلها دليلاً لكيفية عمل ما طلبه
الله تعالى في قرآنه، وهي أي السنة واجبة الاتباع، والطاعة على الصورة التي
أظهرها البيان، وهذا يعني ما يلي:
1-
ليست من وظيفة السنة الإخبار فكل خبر يدعي أهل الحديث أن الرسول صلى الله عليه
وسلم قاله، إنما هو كذب على الرسول، لأن البيان تابع للمبين، وما يحتاج للبيان،
هو ما يحتاج إلى كيف وصفة ووضع، وهذا لا يتأتى إلا بالمطالب العملية، المجملةُ
منها، تحتاج إلى سُنة تكشف عن كيفيتها، والعام منها، يحتاج إلى تخصيص،والمطلق
يحتاج إلى تقييد، هذا إذا كانت تحتاج إلى البيان والتخصيص أو التقييد، أمّا ما
لا يحتاج لذلك فيبقي على أصله، وهناك عمومات دليل، تحتاج إلى معرفة مفرداتها، من
خلال استقراء للواقع كل هذا على مستوى حكم الاقتضاء.
هل الحكم هو حكم الاقتضاء إيجاباً
أو سلباً؟ أم هناك أحكام أخرى؟ مثل حكم التخيير، وحكم الوضع وهناك حكم الأشياء،
وهي أشياء لهاجكم أي وصف متعلق بذاتها، أما العلاقات المتعلقة بها فهي إما
اقتضاءً وإما تخييراً وإما وضعاً.
وما يُراد قوله في هذه المقدمة
الموجزة، أن الإسلام وإن كان نصاً إلا أنه يحتاج لتأصيل أصول، يُتمكن بها فهم
هذا النص، هذا التأصيل هو فعل البشر، أي فعل مفكري وعلماء ومجتهدي الإسلام، نتاج
هؤلاء، وإن كان الأصل مستنده النص، أي مرجعيته النص، إلا أن هذا التأصيل هو
التراث وهو ليس نصاً، وليس مقدساً، وإنما هو التراث، وهو الأفق المعرفي، وهو
المعرفة التراكمية، وهو الأداة المعرفية، بدونها لا يتأتى التعامل مع النص، وبها
بعد إدراكها إدراكاً صحيحاً، يمكن التعامل مع النص.
هذا التراث متنوع في أصوله وفروعه،
بحيثُ يمكن أن يقال: إنه مدارس فكرية، ومذهبية، ومناهج معرفية متعددة، وطرائق
للتفكير، وحركة في المجتمع لإيجاد الوعي، والفعل، فهو قبل حزب التحرير التعامل
مع هذا التراث بعد إدراكه لصورة التراث هذه؟ أم أنه تجمّد وتحجّر على تمجيدات
وتسابيح وتهاليل وزغاريد لما أنتجته قيادته الأولى، فالثانية، دون إدراك له أثناء
إنتاجه من القيادة الأولى، أو الثانية. وهنا كانت الكارثة، فالسلفية مثلاً حفظت
عن ظهر قلب، مقولات علماء السلف ماضياً وحاضراً، ابتداء من الشعبي، إلى
السفيانيين ، إلى ابن المبارك، إلى يحيى بن معين، وأحمد بن حنبل ، إلى البخاري
ومسلم ، إلى أصحاب السنن الأربعة ، إلى عقيدة الرازيين والطحاوي فالواسطية ، إلى
ابن القيم الجوزية ، وابن كثير فالذهبي، فابن حجر العسقلاني، إلى السيوطي فابن
عبد الوهاب، فالألوسي ومحمد أحمد شاكر، وأخيراً التويجري وابن باز والألباني،
يرددون محفوظاتهم، ولكن حزب التحرير لم يدرك مدلولات أفكار النبهاني، ويضع
الإصبع على مدلولها، ولم يحفظ عن ظهر قلب أفكار النبهاني، فوقف عند حد التمجيد
لأفكار النبهاني، لذلك فهو مع العامة ومن العامة فكراً ومذهباً، ولهذا لم يؤثر
في المجتمع، أدنى تأثير، بينما صار السلفيون أصحاب تأثير وإن كان تأثير العوج
والاعوجاج!.
يمكن وضع الإصبع هنا على الأسباب
الحقيقية، التي أفقدت حزب التحرير قدرته التأثيرية، فلا هو قادر على التأثير
بقوة الفكر، أو شموليته، أو حيويته، أو حركته، ولا هو قادر على نقاش الأفكار
الأخرى، فهو مهزوم داخلياً وخارجياً.
2-
علم منهج التثبت من النص الثاني السنة: علم بُني على مصطلح الحديث السني فقط عند
حزب التحرير، والنبهاني رحمه الله لم ينتج أية إضافة في علم مصطلح الحديث، بل
أسره علم مصطلح الحديث السني، والقارئ لما دونه النبهاني حول السنة، في الشخصية
الجزء الأول في القسم الأول ص 153-165، وفي القسم الثاني من الشخصية الجزء الأول
ص 276-298، وفي الشخصية الجزء الثالث من ص 67-114 يعلم أن حزب التحرير لم يقدم
جديداً في أمر السنة.
ولأنَّ حزب التحرير لم يحدد موقفه
من النص الثاني، على مستوى التثبت وَرَفَضَ الاستدلال بالحديث الظني في العقائد،
بعد أن أكد صحة علم مصطلح الحديث، فإن هذا الرفض صار موضع التندر من السلفيين
والإخوان المسلمين والتبليغيين والأشاعرة المتسلفين، مما أربك الحزب فعاد مرة
أخرى على يد القائد الجديد، يستشهد بالأحاديث الخبرية والعقدية، وهنا حدثت قطعية
بين فكره المدون، وواقعه العملي فزادت حدة التعقيد، فلا هو مقبول في صفوف
السلفية المعاصرة، ولا هو قادر على إدارة صراع فكري معهم، ولا هو أعاد النظر في
موضوع الأحاديث وبقي يراوح مكانه حتى هذه اللحظة، بل أنه تراجع وتحول من أشعري
الأصول، إلى سلفي الأصول إذ لا فرق بين عضو حزب التحرير، والألباني من ناحية
أصولية.
يخطئ من يظن أن سنة الرسول، لم تصلْ
إلينا إلا عبر قناة أهل الحديث، المبنية على ضبط وعدالة الراوي، واتصال السند،
وخلوه من الشذوذ والعلة، سنداً ومتناً، مع ملاحظة أن خلوة من الشذوذ والعلة،
إنصب على السند، ولم ينصب على المتن، أن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم قد وصلت
إلينا عبر قنوات أربع هي:
1-قناة نقل الجيل نقلاُ عملياً-
وليس روايةً عن الجيل الذي قبله عن الجيل قبله إلى أنْ يصل الجيل عبر خمسةٍ
وثلاثين جيلاً، إلى جيل الصحابة، الذين شاهدوا عملياً صلاة الرسول صلى الله عليه
وسلم، وصيامه وحجة، وكيفية دفنه للميت، وكيفية الزواج والطلاق، ومقدار أنصبة الصدقة
المفروضة، وكيفية تعامله مع الأرض، وآبار المياه، والولائم والهدية والهبة،
وكيفية توزيع أموال الصدقات والفيء،وكيفية عقده المعاهدات، وكيفية العمرة،وكيفية
خطبة الجمعة والأذان، والإقامة، وكيفية تأمير الأمراء وعقد ألوية الجيش، وأحكام
التعامل التفصيلي مع أسرى الحرب، وكيفية الرهن، وأحكام عقود البيع، والإجارة
والحوالة، وأحكام توزيع الإرث التفصيلي، فكل ما نقله الجيل عن الجيل، فلا بد من
فعله على الصورة التي نُقل عليها كماً وكيفا، فمن صلى صلاة الصبح المفروضة ثلاث
ركعات أو أربع، فهي غير مقبولة، ومن صلى الظهر ست ركعات فهي صلاة غير مقبولة،
ومن حج بلا إحرام من الميقات، أو بلا وقوف على عرفه، أو بلا طواف حول الكعبة، أو
بلا أشواط بين الصفا والمروة، أو وقف بغير يوم التاسع من ذي الحجة على عرفه، فلا
حجَّ له أنها أحكام كثيرة، مصدرها النقل الحسي المباشر، نقلاُ حياً مستنده الحس،
فهذا الطريق أهم طريق لمعرفة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا الطريق واجب
الاتباع والطاعة ومخالفتُه بلا عذر كفرٌ عملي.
2-لقد ابتدأ الفقه، أثر وفاة الرسول
صلوات الله عليه مباشرة، وقيل عن فقهاء من الصحابة، وتبعهم فقهاء التابعين، ثم
فقهاء تابعي التابعين، وابتدأت منذ نهاية القرن الأول الهجري وبداية القرن
الثاني الهجري، مدونات الفقهاء اعتمدت مدونات الفقهاء القرآن الكريم أصلاً،
والواقع مناطاً، والسنة النبوية بياناً لمجمل القرآن الكريم، فالفقه وبسبب
الحاجة الماسة إليه، سبق علوم القرآن، وعلوم اللغة، وعلم مصطلح الحديث، ورواية
السنة، في الصدر الأول كانت غايتها الفقه، فعلماء الفقه استندوا في استنباط
الحكم الشرعي إلى السنة، وغالباً ما كان مستندهم المراسيل، مراسيل التابعين، أو
تابعي التابعين ومقياسهم في صحتها، ليس السند بل مجرد التحمل، وأنها تستند إلى
القرآن ذكراً أو معنى، وأنها تعالج قضايا عملية بياناً أو تخصيصا أو تقييداً،
فهذه السنن التي ذكرها الفقهاء في مدوناتهم الفقهية، هي المصدر الثاني للسنة
فأبو حنيفة أو ربيعة الرأي أو الإمام جابر بن زيد والحسن البصري وأمثال هؤلاء
الفقهاء، تحملوا أثناء فقههُم سنناً سنها الرسول صلوات الله عليه، بياناً لما
أجمله القرآن، فهذه القناة الثانية، أهم في موضوعها وأسبق من مدونات المحدثين،
زماناً وأصحابها متحملون في الذمة، بينما مدونات الحديث تعفي أصحابها من التحمل،
حين ذكر الإسناد، ولهذا يطمأن القلب، ويستقر العقلُ، لهذه القناة الثانية، لمصدر
السنة خاصة مدونات الفقهاء الخارجين عن هيمنة السلاطين.
3-عندما ابتدأ الصراع بين فقهاء
الرأي وفقهاء النص، وبين أهل العقل وأهل النقل، بحثت كل جماعة عن مستند لطريقها،
في تأصيل الأصول سواء في أصول الدين، وفي أصول الفقه.
والقرآن الكريم كافٍ واف في تأصيل الأصول
ولكن بعض القواعد الأصولية مثل قاعدة الأصل في الأشياء الإباحة، والأصل براءة
الذمة، ودرء المفسدة أولى من جلب المصلحة، والضرورة تقدّر بقدرها، والأصل في
النص عدم التعارض، والسكوت في معرض الحاجة بيان، والأصل في العمل التوقف ومعرفة
الحكم الشرعي،والأمر للطلب والقرينةُ تُعيّن نوع الطلب، وإذ حدث الاختلاف في هذه
القواعد وحولها، منها أصول وقواعد عقلية، ومنها أصول وقواعد مأخوذة من فقه
اللغة، ومنها أصول وقواعد أخذت من القرآن الكريم، ومنها أصول وقواعد أخذت من
نصوص من السنة، فقد دونها الأصوليون في مناقشاتهم ومستنداتهم، وهذا هو المصدر
الثالث للسنة، ولأن هذا المصدر يشكل أصولاً وقواعد عامة، ولا يمكن معارضته بأن
هناك مصلحة لمن قال به، أو يشكل تأييد موقف ما في الجزء من الزمن، ولأنه يُبنى
عليه فروع، فإن هذه السنن التي تحوي قواعد أصولية وهي قليلة جداً، فإن عليه الظن
أي الراجح رجحاناً قوياً، أن الرسول قال هذا القول فإنها هي المصدر الثالث في
معرفة سنن الرسول صلوات الله عليه.
4-المصدر الرابع جرّ البلاء على
الأمة، ولا زال، وهو ما يسمى برواية الثقات، وثقات أهل السنة والجماعة الحشوية،
غير ثقات الشيعة الأمامية، ونقل الثقات نقل يتعارض ويتناقض، بل يتعارض ويتناقض
نقل الواحد العدل الضابط، ويتناقض مع القرآن، بل ويتناقض مع عالم الشهادة واختلط
حابله بنابله ، فكثير من الأحاديث الصحيحة عند أهل السنة والجماعة هي أحاديث
تفيد التجسيم مثل حديث الصورة إلى حديث النزول إلى أحاديث الرؤية. وأحاديث تهز
بل تهدم نظرية الالتزام بالإسلام وهي مجموعة نظام البدائل أو قل هي صكوك
الغفران)! بفعل الحج. أو إحياء ليلة القدر أو هذا القدر من التسابيح والتهاليل
ومثل حديث الرجل القاتل لمئة من الأنفس، وحديث أمتي ليس عليها عذاب، وأحاديث
الشفاعة لأهل الكبائر بعد الموت، وأحاديث عدم الخلود بالنار للعصاة الذين فعلوا
أفعالاً يهون الكفر إلى جانبها وأحاديث فداء أهل الذنوب من أمة محمد بيهودي أو
نصراني، وتأتي أحاديث أخرى لتهز صورة الرسول صلوات الله عليه، وصورة حمزة بل
وصورة الفاضلين من الصحابة مثل حديث الحوض الذي يُذاد عنه أصحاب الرسول، وحديث
رضاعة المرأة للكبير أي لمن كان أكبر من 15 سنة مثل حديث سهلة بنت سهل وحديث
ستصالحون الروم صلحاً آمنا فتغزون أنتم وأياهم وتغنمون، وهو حديث استند إليه مفت
أعمى العين والبصيرة ليجيز التبعيه للكفار وإباحة الأرض لجيوشهم والرجال
المسلمين ليكونوا تكئةً ومتاريس وأكياس رمل لصالح الأمريكان والغرب في حرب
العراق وأحاديث الرؤيا الصالحة التي جعلتنا ننتظر انتصار العراق دون دخول
المعركة.
ما سبق غيض من فيض من صورة القناة
الرابعة وأفاعليها وهي مع أنها مجرد قناة وحالة ادعاء خالطه الهوى إلا أنها صورة
بلغت من التقديس أنها قاضية على القرآن.
ففي سبيل إعادة بناء العقل الإسلامي
بناء صحيحاً متيناً لا بد من قبول تحدي الأفكار الزائفة مهما حاول المفسدون في
الأرض من إعطاء قدسية لها ولعلمائها منذ القرن الثاني الهجري وحتى اليوم!.
وبعد سلاماً سلاماً لمن لا يفهم!
ودعوة حارة للفهم والمحاورة والجدال والحجاج والنقاش لمن يريد لأمته الخير،
وويلٌ ويلٌ لمن أخذ يرتزق أو يشتهر على حساب تمتين مسلك الضياع والتوهة.
(( قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو
إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ
وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ )) (يوسف:108) .
لبيك يا رسول الله!
يا من خاطبك الله بالآية السابقة
وهي خطاب لأتباعك إلى يوم الدين فإنّا على البصيرة سائرون وسلام على عباده الذين
اصطفى وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
مقدمة ثالثة
الأربعاء تاريخ 3 شعبان 1415 هـ
الموافق 4 كانون ثاني 1995م
لماذا هذه المقدمة الثالثة؟
اتسم الجدل حول الأفكار، التي
يحويها هذا الكتاب بالتشنج، والعنف، والاتهام في الكفر، وعدم الفهم إلخ قائمة من
الاتهامات، التي أُلصقت بمن يحمل هذه الأفكار، أو يقول بها، لأن الرأي استقر منذ
ألف سنة حول هذه الأفكار، بصورة مخالفة تماماً لأفكار هذا الكتاب.
لقد سأل أحد السائلين السؤال
التالي:
أما وأن القول عندكم، هو أن الإنسان
يرزق نفسه، فهل من الممكن الدلالة على طريق توصل للحصول على مائة دينار
يومياً؟!.
كشف السؤال عن النظرة العامة، التي
ينظر منها الناس للمواضيع الفكرية والعلمية، وأنهم يتعاملون معها على صورة ساذجة
وسطحية ولا يدركون أن القضايا الفكرية والعلمية، منها ما هو بسيط، ومنها ما هو
مركب تركيباً بسيطاً، ومنها ما هو مركب تركيباً معقداً، ولا يجوز بأية حال أن
يقال أن إدراك وجود نافذة في البيت مثل إدراك أن الماء هـو H 2 O أو أن الضحك وهو فعل حركي، مثل القيام بتمرين رياضي مركب،
وأن مباشرة النوم في الفراش، مثل الرغبة في الزواج، فالثاني عملية مركبة، والأول
عملية بسيطة ودون وضع القضايا الفكرية والأعمال في سلم تراتيبها، ومعرفة شروطها،
فإن التفكير السطحي، سيبقي هو المسيطر على الساحة الفكرية والعلمية لهذه الأمة،
وهو آفة هذه الأمة.
إنَّ التفكير في الحصول على الرزق
من قبل فرد واحد لنفسه هو عملية مركبة، أمَّا التفكير في إحسان توزيع الرزق
والمال على المجتمع فهو عملية مركبة ومعقدة.
إنَّ عدم إدراك ( أن التفكير
والعمل، والحصول على النتائج)، منها ما هو فردي، ومنها ما هو جماعي، ومنها ما له
أوضاع، وأحوال، وظروف محلية، ومنها ما له ظروف إقليمية، ومنها ما له ظروف
عالمية، ومنها ما له سبب واحد كاف، ومنها ما له عدة أسباب، تتكامل لتصبح كافية،
ومنها ما له شروط، ومنها ما يحتاج إلى اسباب ضرورية، غير السبب الكافي، فالتدفئة
بنار الحطب، تحتاج لجملة أسباب ضرورية، هي: حطب جاف مجموع إلى بعضه، ودرجة حرارة
اشتعال في نقطة من تَجمُّع الخشب لوحده، مجموعاً أو غير مجموع، ودرجة حرارة
اشتعال ليست موجودة في نقطة من تجمُّع الخشب، ووجود أكسجين لكنه ليس حول الخشب،
الذي يراد احتراقه، يمنع وجود أكسجين لكنه ليس حول الخشب، الذي يراد احتراقه،
يمنع وجود هذه النار، فلا تحدث التدفئة فمع وجود هذه الشروط لا بد من التفاعل
الذي يفعل ذلك ويعد ذلك يجلس في مكان ملائم للاصطلاء للحصول على دفئ النار.
عملية بسيطة هي طلب دفىء النار،
وُجد أنها تحدث بفعل الفاعل ضمن شروطها وظروفها وأسبابها الضرورية، ولكنها لا
تحصل إلا بإحداث السبب الكافي، الذي هو عمل الإنسان، تلك هي المقدمة الثالثة
التي لا بد من إدراكها لإدراك مفاهيم هذا الكتاب.
وسلام على عباده الذين اصطفى وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الإيمان الإسلامي
( مطالعة قصيرة)
بين يدي البحث الأول " الإيمان
بين إثبات الخالقية والألوهية".
يهدف البحث الأول في هذا الكتاب،
إلى معالجة أهم قضايا الفكر الإسلامي،( التوحيد) وهي القضية التي فجّرت معركة
الاتهامات، وأدخلت للفكر الإسلامي مفردات، منها( المعطلة والمشبهة والمجسمة
والمفوضة والمتوقفة) وتسمى عند السلفيين ( بمسألة الأسماء والصفات)، ولا زالت هذه
المسألة تشغل الفكر الإسلامي وتؤجج الصراع .
لقد بحثها المفكرون الإسلاميون
كثيراً وكتب فيها العديد من الكتب وتنوعت أبحاثها بحيثُ شملت قضايا الإيمان
الإسلامي كلها، والأفكار المتعلقة بالإيمان.
أما الأشاعرة والماتريدية ويُسمون
أنفسهم( أهل السنة والجماعة) فإنهم يثبتون لله تعالى صفاتاً، لا هي الذات ولا هي
غيره- وهذه غير معقولة- ويرون أن طريقها هو النص والعقل، فوقعوا في متاهات
وتناقضات .
وأهل الحديث والحنابلة والسلفيون،
يدّعون أنهم أحق من الأشاعرة والماتريدية باسم ( أهل السنة والجماعة)، ويثبتون
إيماناً فطرياً في الخالق عز وجل، أما الصفات فإلى النص- دون عدول عن ظاهره،
فوقعوا فب التجسيم الصريح.
الفرق التي تدعي أنها (أهل السنة
والجماعة) ورؤية ابن حزم، كلها تدّعي رؤية الله يوم القيامة، تعالى الله عن ذلك،
والأحاديث التي تقول بالرؤية لا بد من تأويلها أو ردها.
والسؤال الذي يثيره البحث، هو هل
يستطيع العقل أن يثبت خالقاً للكون ويتوقف بعد ذلك؟
أم أن العقل قادر على معرفة الله
بصفاته الذاتية، من خلال الاستدلال العقلي- هذه هي الإشكالية التي يعالجها
البحث.
طريق الإيمان بين إثبات الخالقية
والألوهية
( أشهد أن لا إله إلا الله)
هي أول جملة من الإيمان الإسلامي
يسجل المرحوم الشيخ تقي الدين
النبهاني في أول فقرة من " طريق الإيمان" من كتابه نظام الإسلام- وهو
الكتاب الذي يبدأ الدارس في حزب التحرير الدراسة فيه في خلقه لا يزيد الدارسون
فيها عن خمسة أشخاص ولها مشرف – أي أنّ ثقافة الحزب تبدأ فيها- تقول الفقرة:
" ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الحياة والكون والإنسان، وعن علاقتها
جميعها بما قبل الحياة الدنيا، وما بعدها، فكان لا بدّ من تغيير فكر الإنسان
الحاضر، تغييراً أساسياً شاملاً، وإيجاد فكرٍ آخر له حتى ينهض، لأن الفكر هو الذي
يوجد المفاهيم عن الأشياء ويركّز هذه المفاهيم" ([2])..
العبارة تُصرّح بالقول : إنه
لا بدّ من تغيير فكر الإنسان الحاضر، تغييراً أساسياً شاملاً، وإيجاد فكر آخر له
حتى ينهض، ويُفهم من العبارة، ومن واقع الحال، أن المراد تغيير فكر
الإنسان الموجود في مجال الحزب- بصفة أساسية- والإنسان الموجود في مجال الحزب،
من ناحية عامة يشهد بشهادة الإسلام، ولكنها شهادةٌ تنقصها الفاعلية، فهي لم تؤخذ
عن طريق العقل وإنما أُخذت بطريق التسليم، وهذا القول هو قول "حق"
فالعقيدة الإسلامية فقدت فاعليتها.
ما يريده الحزب إذن: هو
عودة الفاعلية للعقيدة الإسلامية بإعادة بنائها على العقل، بحيثُ يكون
البناءُ " موافقاً للفطرة، ومقنعاً للعقل، ويملأُ القلب طمأنينة، ومثل هذا
الحل لا يكون إلاّ بالفكر المستنير" ([3]).
لكن القارئ لطريق الإيمان كما ورد
في "نظام الإسلام" يخرج من هذه القراءة" بأن الكون والحياة
والإنسان محدودة، فهي مخلوقة قطعاً، فالمحدود ليس أزلياً، والمحدود أنشأه
اللامحدود أي الخالق([4]) .
إن الوصول إلى محدودية " الكون
والإنسان والحياة" من المظاهر الفردية المشاهدة في الأفراد أمرٌ لا يعقل،
لأن مجموع المحدودات لا يكون محدوداً، إلاّ إذا كان عدد المحدودات معلوماً، أمّا
إذا كان العدد مجهولاً ومفتوحاً زماناً ومكاناً، فإن القول بأنه محدود هو نوع من
التجاوزات والمجازفات العاجزة عن تكوين القناعات، فكيف الإيمان ؟
إنّ الزمان والمكان في فكر
النبهاني، زمانٌ ومكان مطلقان لا حدّ لهما – نظرية إسحق نيوتن في الزمان
والمكان- ولإثبات ذلك، يكفي لفت النظر إلى استعماله كلمة الأزل لذات الله، أو
لعلمه وكلمة اللامحدود لذات الله، كصفة وجودية، والكلمتان" الأزل
واللامحدود" لا يدرك العقل مفهوماً لهما إلاّ بالصيرورة إلى الزمان والمكان
المطلقتين.
هكذا يخرج القارئ لطريق الإيمان،
بدون أدنى تغيير في أفكاره وإنما يخرج بجمل وتراكيب يكررها، دون أن يدرك لها أي
واقع، ويحدث لها أي أثرٍ في عقله ونفسيته، وتبقى الألوهية عنده فكرة، والجزاء
فكرة، والخير فكرة، والشر فكرة، ولهذا ما أن تصطدم توجهاته الحزبية الهادفة
لإقامة الدولة الإسلامية، بمصالحه الخاصة، حتى ينكص على عقبيه، فيترك الحزب،
وينسحب من ساحة النضال، مع بقاء الولاء الاسمي ، للإله الفكرة والجزاء الفكرة،
والحزب بصفته فكرة خير.
إنَّ تركّز بالخالقية ، عند حزب
التحرير، هو سبب إشكاليته، وهي إشكالية الإيمان الإسلامي منذ قرون، لأن الإيمان
أو التسليم بالخالقية ليس له أدنى تأثير في النهضة، سواء أكان الإيمان هذا
ناتجاً عن الفطرة، أو ناتجاً عن بحث عقلي، إذ لا قيمة لإثبات الخالقية في النهضة،
أو عدمها، ولهذا يقول القرآن الكريم ما يلي:
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ
اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )) (العنكبوت:61) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا
لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ
)) (العنكبوت:63) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ )) (لقمان:25) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ
كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ
رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ))
(الزمر:38) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ
الْعَلِيمُ )) (الزخرف:9) .
(( وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ
خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ )) (الزخرف:87) .
هذه الآيات الست، تثبت إقرار الكفار
بالخالقية، وتكشف أن الوقوف عند الخالقية، دون بحث في الصفات التي يستحقها
الخالق لذاته، أفقدت البحث مجراه الطبيعي، فجعلته لا يعرف إلهه، وإن كان يعرف
خالقه، وهذا ما عابه القرآن عليهم .
لقد وقع حزب التحرير أسيراً، والناس
عموماً، حين بحثوا عن الخالقية، لا غير، وجعل ما عدا ذلك أمراً لا يهم الإنسان
معرفته، وعليه بقي الله فكرَّه، يُسندُ إليها الخلق، في ذهن أعضاء حزب التحرير،
فهم في هذه العقيدة مثل الأمة، سواء بسواء، مما حدا بالشيخ النبهاني، لأن يضع في
كتاب" الفكر الإسلامي" بحثاً بعنوان " الله حقيقة ملموس وجودها،
وليس فكرةً متخيلةً في الأذهان"([5]). علّهُ من خلال العنوان، والبحث أنْ يحول الخالق
إلى حقيقة، ولكن أنّى له ذلك ! فالحقيقة تأخذ حقيقتها من ذاتها،
لا من ذات غيرها، فالإيمان أو الاستدلال على أن الكون والإنسان والحياة مخلوقة،
لا يؤدي إلى إيمان بخالق، له صفات يستحقها لذاته، وإنما هو إيمان بمجرد خالق لا
غير، ولن يكون هناك أدنى فرق بين الإيمان الفطري الوجداني، بخالق مدبر والإيمان
العقلي بهذا الخالق.
لقد حاول الشيخ تقي الاستدلال، من
خلال دليل النقيض، أنْ يثبت أن الله غير محدود، من برهان أنْ الكون والإنسان
والحياة محدودة، مستنتجاً أن الخالق غيرُ محدود، وكان يمكن أن يسار في البحث في
الصفات التي يستحقها لذاته، من خلال النظر في الخلق، ولكنه أوقف النظر بقوله:
" ورغم وجوب استعمال العقل في الوصول إلى الإيمان بالله تعالى، فإنه لا
يمكن إدراك ما فوق حسه، وفوق عقله، وذلك لأن العقل الإنسان محدود، ومحدودة قوته،
مهما نمت وسمت، بحدود لا تتعداها، ولذلك كان محدودّ الإدراك ولهذا كان لا بد أن
يقصر العقل، دون إدراك ذات الله، وأن يعجز عن إدراك حقيقته، لأن الله وراء الكون
والإنسان والحياة، والعقل في الإنسان لا يدرك حقيقة ما وراء الإنسان، ولذلك كان
عاجزاً عن إدراك ذات الله([6]) .
والسؤال المشروع حول هذا القول، ما
معنى هذه " الورائية" أهي مكانية ؟وكيف أدرك النبهاني هذه الورائية ؟
ألم يدرك ذلك بالنظر والاستدلال !؟ وإذ قد أباح لنفسه أن يدرك وجوداً للخالق من
وجود آثاره، وأنه غير محدود لكون مخلوقاته محدودة، وأن الذات الألاهية، وراء
الوجود كله، لأنه لا يعرف مشاهدةً أي بالحواس المباشرة، أفلا يجوز أن نعرف أنه
قادرٌ وعالمٌ وحيٌ وليس جسماً ولا يجوز عليه صفات الأجسام، وأنه غنيٌ وأنه عادلٌ
وأنه لا يفعل القبيح، ولا يُظهر المعجز على يد الكذابين، وأنه لا يحويه المكان،
ولا يجوز عليه الزمان، واحد أحد فرد صمد، تنزه عن الظلم، من خلال النظر أم أن
هذه الصفات لا تعرف إلا النص ؟
إن البحث في الصفات، ليس بحثا في
الذات، لأن هذه الصفات، من مستلزمات الوجود والكمال، وهو بحث في استحقاق الذات،
التنزيه عن النقص والجهالات، وبدون هذه الصفات الذاتية، لا يمكن أن نعرف الله
حقيقة، وبدونها لا يمكن الاستدلال بالقرآن الكريم على ما يدل عليه، لأننا لا
نعلم صحته ولا جهة دلالته.
دعوى أن ما وراء الوجود الحسي، لا
تعقل صفاته اللازمة لمعنى وجوده أمرٌ في محل النزاع، فالملائكة والجن لا يقع
الحس عليها، ولكن من المعلوم أنها مخلوقة نصا، ومعلومة أنها محدودة، وكلمة
محدودة من لوازم أنها مخلوقة، وحسب منهج النبهاني، لا يمكن إثبات أنها محدودة
بالاستدلال، لأن العقل لا يقع عليها،إذ لا تقع تحت الحس.
النبهاني مشدود إلى الأشعري تارة،
وإلى فقهاء النص دون فقهاء الرأي ثانية، وهو مفكر نهضوي مبدع، تارة ثالثة، فظهر
التناقض واضحاً جلياً في عمارته الفكرية، بين الإبداع والتقليد والتكرار!.
يحاول النبهاني جعل تعريفه للعقل
خادماً لفكر "النصوصيين" القائلين بالتوقف في الصفات فقد قال في بحث
"صفات الله"، كما هي في الشخصية الجزء الأول: والآن وقد وضح عندنا في
هذا العصر معنى العقل، فأنا ندرك أنه ما لم تتوفر الأشياء التي لا بد منها ليبحث
العقل، لا يمكن أن نُسميّه بحثاً عقلياً، ولا يجوز لنا أن نسمح لأنفسنا ببحثها.
فإننا نعرف أن العقل هو: "نقل الواقع بواسطة الحواس للدماغ ومعلومات سابقة
تفسر هذا الواقع". فلا بدّ في كل بحث عقلي ، من توفر أربعة أشياء، أولا
دماغ، وثانيا حواس، وثالثا واقع، ورابعا معلومات سابقة تتصل بهذا الواقع، فإن
فقد واحد من هذه الأمور الأربعة، لا يمكن أن يكون هناك بحث عقلي مطلقا، وإن كان
يمكن أن يكون هناك بحث منطقي، ويمكن أن يكون هناك تخيل وتوهم، وهذا كله لا قيمة
له أنه لم يقع تحت إدراك العقل له، وإدراك العقل لمصدره فعدم إدراك المتكلمين
جميعاً لمعنى العقل، جعلهم يطلقون لأنفسهم العنان في كثير من الأبحاث، التي لا
تقع تحت الحس أو ليس لديهم معلومات سابقة تتصل بها"([7]) .
يكشف الاقتباس السابق أن الشيخ
النبهاني، يقرر بقول حاسم، أن العقل لا يتم إلا حين توافر الأشياء الأربعة
الضرورية للعملية العقلية، هي الواقع والحس به، والدماغ السليم، ومعلومات سابقة
عن الواقع، ويرى نتيجة لذلك، أنّ أبحاث المعتزلة، بل كل طوائف المتكلمين، ليست
أبحاثا عقلية، ويرى النبهاني أن المتكلمين وقعوا لهذه الأخطاء، لأمرين "
الأول انهم لم يكونوا يدركون تعريف العقل، والثاني أنهم لم يميزوا بين طريقة
القرآن في إدراك الحقائق، وبين طريقة الفلاسفة غي إدراك الحقائق"([8]).
لكن النبهاني لا يكشف بشكل لا لُبس
فيه، ولا غموض أن الكلاميين فعلاً لم يكونوا يدركون معنى العقل، وأنهم يخالفون
طريقة القرآن في عرض الحقائق، وليثبت النبهاني عدم معرفة أهل الكلام للعقل، قام
بنقل عدة تعريفات للعقل، تخدم مقالته، وترك تعريفات للعقل لا تخدم مقالته،
والظاهر أنه نقل هذه التعريفات، ومن كتب الأشاعرة، أو كتب التصوف، أو كتب
المتأخرين، ولم يقم بنقد التعريفات، ومن التعريقات التي لم يشر إليها تعريف
للجرجاني في كتاب التعريفات إذ قال" إن العقل ما يعقل به حقائق الأشياء"([9]) . ومنها تعريف القاضي عبد الجبار المعتزلي، إذ عرفه
"بأنه جملة من العلوم مخصوصة، متى حصلت في المكلف صح منه النظر والاستدلال،
والقيام بما كُلّف به، ولا يفصل القاضي بين الواقع والعقل، بل يؤكد أن الواقع
المعقول يعني، والعقل يدرك المعنى، فالواقع والعقل يؤلفان متصلاً متجانساً، يؤسس
المعرفة الممكنة الواحدة، أي المعرفة المطابقة للواقع ولا يكتفي القاضي
بالمطابقة، بل يجعله معنى تسكن إليه النفس([10]) .
تتركز أبحاثُ النبهاني في العقائد،
على فكرة عقلية واحدة، لا غير هي إثبات أن للكون والإنسان والحياة خالقا جميعاً،
وبعد ذلك يسكت سكوتاً تاما، عن حقيقة الخالق، بل يطلب حقيقة الخالق من النص، أي
يرى " أنّ صفات الله توفيقية، فلا يجوز أن تزيد صفة لم ترد، ولا أن نشرح
صفة بغير ما ورد عنها بالنص القطعي"([11]).
وهنا يرد سؤال هل كان النبهاني
منضبطاً في أبحاثه فيما يقول؟أو أنه يخرج عنها! النبهاني يقول: إنّ الخالق أزليٌ
واجب الوجود، ويقول: إنه وراء الكون والإنسان والحياة، ويقول: إنه وراء العقل،
ويقول: إنه غير محدود، وكل هذه المقولات لم ترد بالنص، وهي شرح لصفات الله بغير
ما ورد به النص القطعي، وهي مجرد صفات أثبتها العقل.
يصر النبهاني على أن أبحاث
المتكلمين الإسلاميين، هي أبحاث متأثرة بالفلسفة اليونانية، دون أن يقدم دليلاً
واحداً يؤكد مقالته، والمغالطة واضحة في القول: من أن علم الكلام متأثر بالفلسفة
اليونانية، إذ الفلسفة اليونانية مدارس شتى مختلفة، في أسسها المعرفية والنتائج
التي توصلت إليها، وكلها لم تبحث صفات الله، ولم تبحث المنزلة بين المنزلتين،
ولم تبحث موضوع كلام الله، أو رؤيته يوم القيامة، ولم تبحث صدق الوعد والوعيد،
وخلود عصاة أمة محمد المصرين على الكبائر وماتوا دون توبة في النار، ولم تبحث
موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم تبحث الرزق والأجل والهدى والضلال
والنصر واللُّطف، كلُّ ما بحثته الفلسفة اليونانية هي مشكلة الوجود ومشكلة
الحرية.
خرافة تأثير الفلسفة اليونانية في
فكر الاعتزال، أو علم الكلام قبلها النبهاني، دون إعادة نظر ودون بحث وتمحيص،
ولهذا لم يجد ما يستطيع أن يزيده، إلاّ ترداد الدعوى في أكثر من كتاب من كتبه،
ولم يُكلف نفسه عناء البحث، ولو كلف نفسه لوجد في طبقات المعتزلة ما يلي:"
ذكر جعفر بن يحيى البرمكي أرسطاطاليس فقال النّظام:قد نقضت عليه كتابه فقال
جعفر: كيف وأنت لا تحسنُ أن تقرأه؟ فقال: أيما أحب إليك أن أقرأه من أوله إلى
آخره ، أم من آخره إلى أوله؟ ثم اندفع يذكر شيئاً فشيئاً وينقض عليه فتعجب منه
جعفر"([12]) ولقرأ أيضاً في مقدمة الدكتور عبد الكريم عثمان،
لكتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار، إذ قال:" حمل القاضي عبد
الجبار على الفلسفة اليونانية عموماً، وبين أن كتبهم التي وصلت إلينا فيها الشيء
الكثير من النقص والتحوير، والتعديل أجراه أصحاب الأغراض والاتجاهات العقائدية
المختلفة، لتأييد عقائدهم وآرائهم، وأفراد أرسطو بحمله عنيفة، وخاصة في "
الآثار العلوية" وانتقد نظريته في الكون والكواكب، وما يراه فيها من أنها
غير قابلة للقسمة أو الزيادات أو النقصان، وأنها حية عالمة سمعية بصيرة تخلق
وترزق وتحيي وتميت"([13]).
يكفي الاقتباسان السابقان، للتدليل
على أن النبهاني نقل مقولات لمؤرخي الأشاعرة والحنابلة، أصحاب المقاصد والأغراض،
في الهجوم على المعتزلة، دون أن يعيد النظر في مدى صحة مقولاتهم.
إن عذر الشيخ النبهاني أن زمنه لم
يكن زمن بعث التراث الاعتزالي، والآن وقد بُعث التراث الاعتزالي فلا عذر لمعتذر
والله يقول : (( فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ
))(النحل: من الآية43) . فالضرورة تحتم إعادة إنتاج خطاب حزب التحرير، بالإفادة
من المعطيات المستجدة على الساحة الثقافية، والمتمثلة بإحياء تراث المعتزلة،
وغيرهم كالزيدية، والإباضية، والأمامية، والاطلاع على الأفكار الجديدة التي
أنتجها مفكرون إسلاميون وما تتيحه الآن الآفاق العلمية والاكتشافات العلمية
الحديثة في النفس والآفاق، وتقدم أدوات المعرفة في المناهج والتوثيق والفهارس
والدراسات المقارنة، فهذا الانفجار المعرفي وذلك التقدم الهائل في وسائل
الاتصالات، والأعلام كل ذلك بشكل دعوة لإنتاج الخطاب الفكري لحزبٌ التحرير على
صورة أكثر وضوحاً في العقيدة الإسلامية.
ملاحظة للدخول في بحث القضاء والقدر
القرآن الكريم عربي المفردات
والتراكيب معجز في نظمه، تنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلّمه الصحابة،
وفهموا أنَّ خطاب القرآن هو خطاب التوحيد والعدل.
والله الواحد العدل، يكلف الناس بما
هم قادرون على فعله أو تركه، وإلاّ بطل الثواب والعقاب والمدح والذم.
والجيل الأول عَلِمَ ذلك وظهر علمه
وفهمه في أقوالهم وأفعالهم.
وجاءت الفتنة 35- 40 هـ بحروبها
الأربعة وثارت عاصفةً من الجدال بين الحبر والاختيار، وهي المشكلة التي سُميت
بالقضاء والقدر.
وإذ احتدم الجدال توزع المسلمون
فرقاً ، وانحازت الدولة الأموية ومن بعدها العباسية وأكثرية المسلمين لصورة من
صور الجبر .
ومنذُ أواخر القرن الرابع الهجري،
تركز عند جمهور المسلمين مفهوم الكسب، أي خلق الله للفعل حين إرادة الإنسان
الكسب ، ومهما قيل فهو عين الجبر .
أما الفرقة الإمامية الجعفرية(
الشيعة الإثنا عشرية) فتقول: " لا جبر ولا تفويض ولكنه أمر بين
الأمريين" ويكتنف هذه المقولة الغموض.
وجاء المرحوم الشيخ تقي الدين
النبهاني بمفهوم الدائرتين، دائرة تسيطر على الإنسان، والأخرى يسيطر عليها، ولكن
أتباعه بل الحزب كله بما فيهم القائد المؤسس وقعوا جميعا في الجبر، عند مفهوم
المفعولية والمتولد.
بحث القضاء والقدر، هو بحث في
العدل، أي بحث في الحرية والمسؤولية والنتيجة، وجاء هذا البحث، علّه يضع الأمور
في نصابها.
القضاء والقدر
القضاء الإرادة الكونية، والقدر
خواص الأشياء
تهدف هذه القراءة التعرف على رأي
المفكر " المرحوم الشيخ تقي الدين النبهاني" في موضوع ذي أهمية، ليس
في الفكر الإسلامي فحسب، بل بالفكر الإنساني كله، إذ هو بحث في السببية
والمسؤولية والنتيجة، وهذه أمور متلازمة تؤدي إلى البحث في موضوع عقدي شائك، هي
علاقة الله بأفعال مخلوقاته، وهي هنا تقود إلى أحكام من آخرين على آخرين بالكفر
أو الضلال، إذا وجد الآخر، أنّ هذا القول أو ذاك مخالف لموروثه، أو لما هو
فَرِحٌ به.
بحث حزب التحرير موضوع القضاء
والقدر، في أكثر من كتاب، إذ كتب عن القضاء والقدر، في كتب "نظام
الإسلام" ، "ومفاهيم حرب التحرير"،" وكتاب الشخصية
الإسلامية الجزء الأول"،" والدوسية"،" ونداء حار"،
"والفكر الإسلامي الصادر باسم محمد محمد إسماعيل عبده" وجواب سؤال
أكثر من مرة، فالقضاء والقدر مبحوث من أكثر من زاوية، وفي أكثر من كتاب.
يقول النبهاني رحمه الله :
"إنه لا يكاد يجد مسألة من مسائل علم الكلام، إلاّ كانت ناشئةٌ عن مسألة
سبق للفلاسفة اليونان أنْ بحثوها، ومسألة القضاء والقدر بهذا الاسم وبالمسمى، في
بحث المتكلمة المسلمين، قد بحثها الفلاسفة اليونان واختلفوا فيها" ([14]) .
وهنا يقع النبهاني بكل سهولةٍ
أسيراً لفكر أهل الحديث، ولم يستطع أن يقيمَ الدليل على دعواه هذه إلا بقوله-
بعد أن عدّد مسميات القضاء والقدر- :" وهذا المعنى لم يخطر ببال المسلمين،
قبل ترجمة الفلسفة اليونانية، أن يبحثوه، وإنما بحثه الفلاسفة اليونان واختلفوا
فيه" ([15]). ويؤكد مقولته هذه إذ يقول
بالدوسية:" وأما مسألة القضاء والقدر فإنها لم تأت بالكتاب، ولا في السنة،
بهذين اللفظين مقرونين مع بعضهما، ولا نطق بها الصحابة، ولا التابعون، ولا كانت
معرفة في أيامهم، وإنما هي مسألة حدثت بعد نقل الفلسفة اليونانية إلى العربية،
وبعد دراسة علماء المسلمين لها"([16]).
مع هذا نرى النبهاني يقول:"
وأما مسألة الإيمان بالقضاء والقدر، بهذا الاسم وبمسماها الذي جرى الخلاف في
مفهومه، فلم يرد بها نص قطعي، إلا أنّ الإيمان بمسماها من العقيدة فهي مما يجب
الإيمان به" ([17])..
وهنا يقع النبهاني في التناقض مع
نفسه، إذ يرى يونانية القضاء والقدر، ثم هو من العقيدة التي يجب الإيمان
بها، على أنّ دعوى يونانية الاسم والمسمى، وأنها لم تظهر إلا بعد قراءة
الفلسفة اليونانية، فهي مجرد دعوى يُعْوِزُها البرهان.
يجعل النبهاني عنوانا باسم القدر،
منفرداً في الدوسية مقرراً " أنَّ مسألة القدر قد جعل لها البخاري باباً
خاصاً بها في الجزء الثامن- من صحيحة – باب القدر"([18]) وذكرَ النبهاني طائفةً من الأحاديث، ثم
قال:" إن القرآن الكريم ذكرَ آيات كثيرة في القدر، وهو موضوع من أهم مواضيع
العقائد، ولذلك عَنِيَ به القرآن وعَنيت به السنة"([19]).
وبعدَ أن يوردَ الآيات التي جاء
ذكرُ القدر، موضحاً تعدد معاني كلمة القدر مُتْبعاً الآياتِ بالحديث، يقول في
تعقيبة:" فهذه الأحاديث، وتلك الآيات، تدل دلالة واضحة على معنى القدر،
وأنه تقدير الله للأشياء والأعمال ولما هو كائن تقديراً حاصلاً في الأزل، وقد
جاءت الآيات والأحاديث متضافرة في الدلالة على أنّ هذا هو معنى القدر"([20]).
ويخرج النبهاني بعد
أن يؤكد أن القدر هو علم الله، بنتيجة غريبة فيقول:" وإذا كان هذا هو
القدر، فإنه لا مجال للقول بأن الإنسان مجبرٌ على القيام بأعماله" ([21]).
وهو هنا لا يجيب عن السؤال الذي
طرحه المسلمون، وهو إذا كان الدليل القطعي قد دلَّ على أن ما قدره الله وعلمه
وكتبه في اللوح المحفوظ كائن ولا بدَّ، فكيف يمكن للإنسان أن يفعل غيره؟ ويقفز
النبهاني فوق السؤال دون أن يقدم جواباً شافيا، إذ إجاباته هي إجابات الأشاعرة
المتكلمين، مع أنه يشن حملة ضاربة على المتكلمين ومناهجهم ([22]).
ولتفنيد دعوى النبهاني القائلة بأن
بحث موضوع القضاء والقدر، إنما هو بسبْب من ترجمة الفلسفة اليونانية، ونتيجة
التأثير بها، لا بد من عودة للحياة العلمية والفكرية للصحابة، فلقد أنكر الصحابة
الجبر إنكاراً مؤكداً، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يقول في خطبته بعد
البيعة:" أيها الناس قد وليت عليكم، ولست بخيركم فإن أحسنت فأعيننوني، وإن
أخطأت فقوموني"([23]). فكيف يطلب أبو بكر من المسلمين تقويم الخطأ ؟ إن
لم يكن قد آمن" رضي الله عنه " بالاختيار أي بمسمى القضاء والقدر وهذا
ابن الخطاب " رضي الله عنه " يقضي يقطع يد السارق وجلده أسواطاً
قائلاً: القطع للسرقة، والجلد لما ادعاه أنه سرق بقضاء الله([24]).
والمشهور عن كبار الصحابة قولهم،
حين تعترضهم مسألة اجتهادية: " أقول في المسألة برأيي فإن كان صواباً فمن
الله- أي بإلطافه وتوفيقه لا بإيجاده وفعله، لأنهم يعلمون أن وجود العمل منوط
بهم،- فهُم موجدوه بعد أن لم يكن- وإن كان خطاً فمني ومن الشيطان، أي منهم عملاً
ومن الشيطان تزييناً ووسوسة خفية.
أما علي بن أبي طالب" عليه
السلام" فيرد على شيخ من جنوده في صفين بقوله:" لعلك تظنه قضاءً
واجباً، وقدراً حتماً، ولو كان كذلك لسقط الثواب والعقاب، وسقط الوعد والوعيد"([25]) فعلي بن أبي طالب " رضي الله عنه" يستعمل
كلمتي " القضاء والقدر" استعمالاً صريحاً واضحاً حين جوابه للشيخ
السائل، عن مسيرة للشام أكان بقضاء الله وقدره، منكراً عليه أشد الإنكار حين فهم
القضاء والقدر بمعنى الجبر.
ومن المؤكد من خلال استقراء تاريخية
الفكر الإسلامي، أن مسألة الاختيار والجبر في الأعمال، هي أولى المسائل التي
ظهرت، إذ كثر السؤال فيها منذ تولي معاوية الخلافة، فأخذ ينادي بفكرة الجبر
ليأتي له تبرير قتاله لعلي بن أبي طالب( رضى الله عنه) وليبرر قتله للمعارضة
السياسية غيلة وغدراً، كما فعل مع حجر بن عدي ورفقاه، ( رضي الله عنهم) ولتبرير
تصرفاته بأعطيات بيت المال للناس حسب مصلحته.
تُبيّن هذه القراءةُ السريعةُ
والموجزة للحياة العملية والفكرية، حتى 60هـ تاريخ موت معاوية، مدى الخطأ الذي
انساق إليه النبهاني، حين أخذ دعاوى أهل الحديث، حول قضايا علم الكلام كمسلمة لا
يتطرق إليها الشك، فالقضاء والقدر سواء دُعي بالجبر والاختيار، أو بحرية الإدارة
وسلبها، أو الآثار للصحابة والتابعين، كما يظهر من نفس أقوال النبهاني، وكما
يؤكد جملة من الآيات القرآنية، والعديد من المواقف الفكرية العملية، المنقولة عن
القرن الأول ( أي الجيل).
ظاهرة وجود الفرق الإسلامية
المتنازعة، حول اختيار الإمام والطاعة، جرّ إلى بحث القضاء والقدر، والاختلاف
الفكري من قائل بالجبر، إلى قائل بالاختيار، هو حدث سابق للترجمة، بل سابق للجدل
الفكرى بين المسلمين والنصارى والمجوس وغيرهم، المتسلحين بالفكر الفلسفي
اليوناني، فالانقسام جاء نتيجةً طبيعةً للأحداث التي واجهت العرب المسلمين، وخاض
الكل غمارها، وهي " فتنة الدار بمقدماتها وحرب صفين وحرب الجمل وفتنة(
النهروان) ثم مقتل الإمام علي بن أبي طالب على تلك الصورة، وتنازل الحسن بن علي،
وارتقاء معاوية الخلافة، الذي لم يتورع قبل وبعد الخلافة، عن ارتكاب أبشع صور
المخاتلة والمخادعة والاغتيال!.
تلك هي العوامل التي أدت إلى ظهور
الفرق الإسلامية مبكراً، من محكمة" خوارج" ومتشيعة ترى أحقية علي
بالطاعة، وتلقى اللوم على الناكثين والمارقين والقاسطين، بل وعلى معتزلة القتال،
واتباع لمعاوية من الشام واليمن، وأخذت كل فرقة تجادل عن نفسها، ولم يكن لمعاوية
وأتباعه من إمكانية للجدال إلاّ بالقول بفكرة الجبر.
والحقيقة التي لا مجال لنفيها، أن
القضاء والقدر كمشكلة إسلامية بحتة، تحتاج إلى إجابة بالدليل العقلي أو السمعي،
فهي لم تحدث عند المسلمين نتيجة لقراءة الفلسفة اليونانية، بل هي مشكلة إسلامية
خالصة، حدث التساؤلُ عنها حين انكفأ المسلمون يقاتلون بعضهم بعضاً، والواقع يدل
على أن بحث القضاء والقدر، هو بحث عقلي محض.
ورغم أن مشكلة( القضاء والقدر)
استولت على مساحة كبيرة من المقولات، إلا أنها لا تزال موضع جدل ونقاش، بصورة أو
أخرى، ولم تحسم بعدُ، والمتحمسون لرأي النبهاني، يتفاخرون بأن رأيه حسم الأمر
نهائياً، وهم حين يدَّعون ذلك يقصدون موضوع القضاء والقدر في نظام الإسلام، وورد
ملخص له بالمفاهيم بما يلي:" والنظرة العميقة المستنيرة للإنسان تُري أنه
يعيش في دائرتين، إحداهما تسيطر عليه، والأخرى يسيطر عليها، أما التي تسيطر
عليه، فهي الدائرة التي تنطبق فيها عليه أنظمة الوجود، فهو يسير والكون والحياة
طبق نظام مخصوص لا يتخلف، ولذلك تقع الأعمال عليه في هذه الدائرة على غير إرادة
منه، وهو فيها مُسير، وليس بمخير، فقد أتى إلى الدنيا على غير إرادة منه، وسيذهب
منها على غير إرادته، وهو لا يملك أن يخرج على نظام الكون، ولذلك لا يُسأل عن
الأعمال التي تحصل منه أو عليه في هذه الدائرة" ([26]). وفي نظام الإسلام يضيف أفعالاً أخرى للدائرة التي
تسيطر عليه، حين يقول:" وأما الأفعال التي ليست في مقدوره، والتي لا قبل له
بدفعها، ولا يقتضيها نظام الوجود، فهي الأفعال التي تحصل من الإنسان أو عليه،
جبراً عنه، ولا يملك دفعها مطلقاً ([27])
هذه العبارة تحمل إشكالية، وتنقض
الدائرة الاختيارية، وتعيدنا مرة أخرى إلى مشكلة القضاء والقدر، الأمر الذي
دعاني لأن أُرسل للشيخ النبهاني سؤالاً متعلقاً لهذه العبارة ، هو السؤال
الثاني: تقع أفعالٌ من أفراد من بني الإنسان على آخرين، كالسجن الواقع على أفراد
من قبل السلطان، وكالزنا الواقع على فتاة بالاغتصاب، وكالأذى من ضرب وتعذيب وجلد
وحرق من قبل أناس، على أناس آخرين، فهل هذه الأعمال بالنسبة للآخرين أي الواقعة
عليهم الأفعال هي قضاء الله فيهم؟!.([28]).
وكانت الإجابة على السؤال كما
يلي:" العمل الذي يقع على الإنسان جبراً عنه، هو من قبيل القضاء سواء وقع
من آخرين، أو وقع من غير آخرين"([29]).
ولا أظن أن هذه الإجابة هي إجابة
للمرحوم النبهاني، بل هي كما يظهر من معتمد الأردن، فالإجابة أقل من السؤال، ومع
اعتبار هذه الإجابة هي إجابة الحزب، تكون الإجابة نافية للسبب الفعلي، فالاغتصاب
للفتاة قضاءٌ قضاه الله، ودور المغتصب تحقيق قضاء الله فيها، وإظهاره ومسؤوليته
ليست في الاغتصاب، بل بكونه يقوم بفعل الاغتصاب، ( الدائرة التي يسيطر عليها)
ومثل هذا الجواب، هو وجه آخر للجبرية الأشعرية( الكسب). والنبهاني يقول فعل
الآخرين الاختياري، يحقق قضاء الله، ( في الواقع عليهم الفعل) إنها نفس مقولة
الأشعرى!.
يرفض النبهاني الأساس الذي بَنى
عليه المتكلمةُ المسلمون بحث القضاء والقدر، حيثُ يقول في نظام الإسلام:"
والمدقق في مسألة القضاء والقدر، يجد أن دقة البحث فيها، توجب معرفة الأساس الذي
يُبني عليه البحث، وهذا الأساس ليس فعل العبد، من كونه هو الذي يخلقه، أم الله
تعالى، وليس هو علم الله تعالى، من أن إرادته تعلقت بفعل العبد، فهو لا يد موجود
بهذه الإرادة، وليس هو كون هذا الفعل للعبد مكتوبا في اللوح المحفوظ، فلا أن
يقوم به وفق ما هو مكتوب" ([30]) .
ويبقينا النبهاني في حيرتنا، حيث لم
يصرح بهذا الأساس الذي يريده، فهو يرفضها " لأنه لا علاقة لها الموضوع من
حيث الثواب والعقاب"([31]). والعبارة موهمة، بأنه يؤسس الجبر والاختيار (
القضاء والقدر) على الثواب والعقاب، ونرى في هذا التأسيس بعض
المشروعية، وهي مشروعية مقلوبة، تجعل اللاحق أساساً للسابق، ومع هذا فهو يقيم
القطعية، بين هذا الأساس وبين فهمه لأكثر من موضوع.
وعودة للجواب الضعيف المهلهل، الذي
يرى أن الناس في موقع المفعولية لفاعل من بني الإنسان، لنرى أن كل ما يتولد من
أفعال بسبب من فعل الفاعلين هو قضاء الله فيهم، فالقضاء إلالاهي هو الذي أوقع
السجن على المسجون، والقضاء هو الذي أوقع الاغتصاب على الفتاة التي لها مغتصب،
وكسر الأيدي الحاصل على شباب من الضفة الغربية من قبل جيش اليهود، هو قضاء الله
فيهم، فلا مسؤولية لهؤلاء الفاعلين عن نتائج أفعالهم، بل المسؤولية هي عن قيامهم
بالفعل، أي على الأمر بالسجن، وليس على سجن المسجون، وعلى القيام بفعل الاغتصاب،
وليس على الاغتصاب الواقع على الفتاة، ومسؤولية أفراد الجيش اليهود- على القيام
بفعل كسر الأيدي، وليس على كسر الأيدي، الحاصل لمن كسرت أيديهم، وهكذا فُكَّ
الارتباط بين الفعل، والنتائج المتولدة أو الحاصلة من فعل الفاعلين، إذ النتائج
يفعلها القضاء، جرت العادة أن تحصل حين وجود الفاعلين، وهذه النتائج هي من فعل
القضاء، ليس من فعل الفاعلين، فأفعالهم هي مجرد حال.
وبالرغم من تهافت هذا القول، من
حيثُ إنه قول جبري واضح، يرتكز للقول بأن النتائج هذه لا يمكن دفعها بعد حصولها،
ومن المعلوم أن كل ما قد تَحصّل لا يمكن فإيمان المؤمنين وكفر الجاحدين وطاعات
المتقين وعصيان الفاسقين وإصلاح المصلحين وإفساد المفسدين، كل هذه بعد حصولها
يستحيل دفعها، فهذه كلها في نظر أعضاء حزب التحرير هي من أفعال القضاء,.
إن الناظر في الأفكار المدونة في
موضوع القضاء والقدر لا يجدُ أن هناك قولاً صريحاً للنبهاني يقول: بأن أفعال
الفاعلين تحقق قضاء الله في الآخرين، وإنما هو مجرد فهم لأعضاء حزب
التحرير في الأردن خاصة، تسرب إليهم من فهم منحرف "للأفعال التي لا يقتضيها
نظام الوجود وقعت من الإنسان أو عليه، على غير إرادة منه، ولا يملك دفعها
مطلقاً" ولم يلاحظ تحريريو الأردن، قول النبهاني إنها وقعت من الإنسان أو
عليه، أي أوقعها نظام الوجود، وليس إنساناً آخر دون أن يقتضيها نظام الوجود،
ولولا تنطع معتمد الأردن عام 73 للتصدي للسؤال الذي أرسلته، رغم أن ما يظهر من
حاله أنه لا يفهم التراكيب العربية، ولو ترك السؤال يذهب للشيخ فإن من المؤكد
أنه لن يجيب بهذه الإجابة النافية للسبب الفعلي.
أن هذا الفهم هو وجه آخر لمقولة
الأشعري، النافية للسبب الكافي والتي تجعل للسبب الضروري( الأوضاع الوجودية)
وحده الوزن ومثل هذا القول هو عين الجبر، وهي امتداد لمقولات معاوية بن أبي
سفيان حين يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إنما أنا قاسم والله
معطي"([32]).
أنه الخطاب السفياني الأشعري
الجبري، يعيد انتاج نفسه بقوالب كلامية جديدة.
أفعال الإنسان وأفعال القضاء والقدر
" إن أفعال العباد غير مخلوقة
فيهم وأنهم المحدثون لها"( أي الخالقون لأفعالهم).
" إن كل فعل متولد عن أفعال
العباد فهو قد أحدثه محدث الفعل بالتبعية"
وإذا توصلنا إلى أن خطاب المرحوم
تقي الدين النبهاني، في موضوع ( القضاء والقدر) هو الخطاب الجبري الأشعري،
بعبارات جديدة، فقد آن الأوان لفهم هذا الموضوع، فهما يحل الإشكالية حلاً
جذرياً، يعيد للإنسان توازنه، من خلال تحقيق نظرية الإرادة أي( الاختيار)،
ونظرية الممارسة أي خلق الفعل أو إنشاؤه والنتيجة المترتبة على هذا الفعل أي
المسؤولية، من حيثُ القيام بالفعل، ومن حيث آثاره في الواقع.
أوصل البحث في خطاب حزب التحرير،
إلى رفض دعوى يونانية القضاء والقدر، بل تبين إسلامية هذه المعرفة، وظهورها
مبكراً في الفكر الإسلامي، ويكفي ذكر النقاش الذي دار بين" عمر بن
الخطاب" وأبي عبيدة بن الجراح بشأن طاعون عمواس، للاستدلال على أنه بحث
إسلامي، ابتدأ ولا يزال.
من الممكن أن يكون قد حدث الانتفاع،
بمعطيات الفكر الحرّاني والكلداني، والفلسفة اليونانية، بعد اتصال الفكر
الإسلامي بهما، ولكن يجب أن يُنظرَ إلى ذلك من زاوية الانتفاع، فيما لديهم من
مناهج جدل، ومجموعة مصطلحات، وبناء مقولات، دون أن يتأثر البحث في عين المقولات،
فالأساس مختلفٌ كل الاختلاف بين الإسلام وغيره، من ثقافة السريان والكلدان
واليونان وغيرهم.
إن البحث في القضاء والقدر، هو بحث
عقلي، إذ هو بحث في أمر له واقع، يقع تحت حس الإنسان مباشرة، وهو بحث في الفعل
الإنساني من حيث الوجود، أو عدمه، وليس بحثا في ظروفه وأوضاعه وأحواله وممكناته،
بل ولا بحث في علاقة صفات الله به، وليس بحثا في الوعد والوعيد المترتب على هذا
الفعل، أو الثواب والعقاب كما يطيب لبعض المدارس الفكرية أن تطلقه، وإنما هو بحث
يَنَصَبُّ على وجود الأفعال بعد أن لم تكن، إذ هو بحث في الإنسان وأفعاله، حين
يكون فاعلاً على الحقيقة لأفعاله، أي بحث في فاعل الصدق والكذب، والعدل والظلم،
والصلاح والفساد، والتقوى والفسق، والزواج والطلاق، والمشاركة وفسخها، وبحث في
الحرب والسلم، والوفاء بالعهد ونقضه، والهدنة، وبحث في الصلاة والصيام والحج
والصدقة والزكاة، والأمانة والخيانة، والقتل والقهر والغضب والضرب، والحرق
والأذى والسجن، والذم والقدح، والسب والشتم، وهتك العرض، أي بحث في فاعل هذه
الأفعال، أهو الإنسان؟
أم القضاء والقدر أهو خلق الله لفعل
الإنسان الاختياري؟
أم هو خلق الإنسان لفعله وأحداثه؟
حسب دواعيه والامتناع عنه حسب
صوارفه.
ويؤدي بحث هذه الأفعال، ضرورة إلى
بحث المتولدات الناتجة عن هذه الأفعال، على وجه التلازم، كموت المقتول، وسلب
المال، واغتصاب الحقوق، وحرق الأشجار، وذبح الحيوان، والاعتداء على حرية إنسان
يتقيده أو سجنه، والأذى الذي يلحق به في معنوياته، مثل جرح الكرامة، أو انتهاك
العرض،أو الألم الحاصل من الضرب، أو الضرر الحاصل من الغش، والخداع والمخاتلة،
وحلاوة الماء بتذويب السكر فيه، وحموضة الماء من عصر الليمون فيه، وتحول العنب
إلى عصير، أو خمر، وتلوين القماش، وتشكيل الصور وغيرها.
إن كل هذه المتولدات، إنما هي فعل
الإنسان الفاعل، ونتجت عن الفعل الإنساني على وجه التلازم، وكل ما هو في محل
المفعولية للإنسان الفاعل، إنما هو موجود بعد أن لم يكن، تبعاص لفاعله، فالقضاء
ليس فاعلاً لهذه المتولدات مطلقاً، والشرع الإسلامي رتّبَ مسؤوليةً تامةً على
نتيجة الفعل، في الدنيا او الآخرة، أو فيهما معاً.
يخلط باحثو " القضاء
والقدر" في أمر المفعولية للفعل، بين مفعولية فعل الإنسان، وبين مفعولية
السنن الكونية، وبين فاعلية الإنسان، وفاعلية النظم الكونية، على شكل لا تتحدد
فيه المور ولا تتبيّنُ معالمث الفهم.
إن وقوع فعل الإنسان على مفعوله
تابع له، وناتج عنه، وإن وقوع فعل السنن الكونية والنظم الكونية على مفعولها
تابع لها، وناتج عنها، فالموت الحاصل من قتل القاتل، ليس هو الموت الحاصل عن
الإصابة بمرض السرطان، ليس هو إتلاف المال الحاصل عن عاصفة هوجاء أو سبيل عَرم،
والإصابة الحادثة، من أهوج يسوق سيارته بسرعة جنونية، ليست هي الإصابة الحادثة
من خلل طارىء في السيارة، لم يكن يعرفه السائق، وهكذا تُدرسَ نتائجُ الأفعال.
يقرر الشرع الإسلامي بوضوح، مسؤولية
الإنسان عن فعله، سواء ظهر فيه القصد والتنفيذ( الفعل المعتمد)، أو ظهر فيه
التنفيذ دون القصد، بسبب من الخطأ أو النسيان أو الاستكراه، ولهذا فالمسؤولية
الجرمية واقعة على الفعل المعتمد، والدية والتعويض واقعان على النتيجة في الحالة
الثانية، والمسامحة هي رفع الإثم( الجرم) فقط، ولا يُظَنُّ بعدَ ذلك أنّ الله
يلزمه المسؤولية التامة أو الناقصة، ويُدّعي بعد ذلك أن القضاء هو الفاعل، والله
جل وتعالى القائل: (( وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ))(فاطر: من
الآية18)
لا يكتفي الإسلام بمسؤولية الإنسان
عن نتائج فعله المباشرة، بل هو مسؤول عن التسبيب، فلو أحدُ الناس حفرة ولم يحطها
بعامل السلامة ووقع إنسان فيها أو نتج عنها ضرر في ممتلكات الآخرين، فهو مسؤول
عن ذلك وجبورٌ بحكم الإلزام الإسلامي، بالتعويض عن الضرر الحاصل، ولهذا فإن
التسبيب فعلٌ إنساني محض وليس فعلاً للقضاء والقدر.
إنَّ القضاء والقدر يعني الوجود
الكوني وخاصيته، وهو قيومية الله تعالى على خلقه، سنناً وخاصيات وقابليات، أي هي
أفعال الربوبية والتدبير التي عليها الأشياء والنظم والمخلوقات، وهي أمور موجودة
على الدوام، إلى حين الفناء، وسواء نتج عنها أفعالٌ كالمطر والعواصف وتلبد
الغيوم واشتداد وسرعة الريح، وتآكل المعادن وفساد الأطعمة وتحلل الأنسجة الحية
والمركبات العضوية، أو لم ينتج فالكون محكوم بالقضاء " الخلق والنظام"
والقدر " الخاصيات والقابليات كامنة أو ظاهرة".
إنَّ الكون وهو محكوم بالقضاء، فلا
إمكان للسيطرة عليه من قبل الإنسان، وإذ الكون مخلوق على قابليات وخاصيات، فإن
في إمكان الإنسان تسخيرها من خلال نظرية الفعل والحد والكم، ولهذا يمكنه اتقاء
المرض، وإكثار الرزق، على خصائص الأشياء، مثل منع حصول الفساد في الأرزاق، من
خلال استعمال الأسباب الحافظة، بل ويمكنه تصبير الحياة في الخلايا الحية.
هذا هو مفهوم استخلاف الإنسان في
الأرض، لِيَعمُرها، وكل ما في السموات والبحار والأرض مسخرٌ له إذ هو الكائن
الأرضي الوحيد كما نعلم، القادر على التفكير، فالتفكير أهم خصائصه، بحيث إذا
حُدَّ الإنسان بأنه كائن مفكر، كان هذا الحد جامعاً مانعاً.
وإذْ يتنامي التفكير، وتتراكم
المعرفة، فإن في مقدور الجيل الحاضر أن يفعل ما عجزت عنه الأجيال السابقة، وإن
مقدور الأجيال القادمة أن تحقق ما لم تحققه نحن، على مستوى التفكير والتسخير،
ولكن حذار من إطلاق ذلك، فنظرية الكم والحد تبقي الإنسان في محل الشعور بالعجز،
أي أنه مخلوق لخالق، معروف بالكمالات وسيبقي الإنسان أسيراً للكم والحد، مهما
نما فكره، وتراكمت معرفته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتتبدل السموات غير
السموات، والأرض غير الأرض، وعندمها يعرف كل فرد إنساني مصيرّه فمن تحقق له
الوعد فليحمد الله ومن لحقه الوعيد فلا يلومن إلا نفسه.
توطئة لفهم موضوع الآجال
الحياة والموت كلمتان متناقضتان،
والإنسان يحب الحياة ويخاف الموت فما هو سبب الموت؟.
الأشاعرة ومن على منهجهم يجيبون
بأنه الأجل، والواقع ينقض ذلك فهذه الأنعام التي يذبحها الجزارون بالمئات
يومياً، فهل خروج الحياة منها وتحولها إلى ذبيحة تم بسبب الأجل؟ أم وفق دواعي
الذابح ؟ .
كل حيٍّ بحياة مودعة فيه، مصيره
الموت، هذه حقيقة لا تقبل النقاش، فهل خروج هذه الحياة يعود إلى مودعها، وهو
الله تعالى؟ أم لغيره أن يخرج هذه الحياة، أي في محل القدرة للاعتداء على الحياة
؟ .
الحياة كما يدل الواقع ويدرك ذلك
العقل تذهب على أشكال، فالحياة في النبات تذهب من خلال فاعلين مختلفين وبأشكال
متعددة.
والحياة ذات مظهرين حياة النمو
والاغتذاء، وهي حياة النبات والحيوانات ذات الخلايا، وفي أنسجة أعضاء الحيوان،
والحياة الأخرى، حياة ذوات الجهاز العصبي، والمظهر الحركة، والإدراك الإلهامي،
أو الغريزي أو العقلي.
وذات الروح من البعوضة إلى الفيل
إلى الإنسان تخرج منها روحها، من خلال أوضاع هي: الذبح- القتل- الدهس- الارتطام-
التردي من شاهق – الحرق – المرض- الهدم- الغرق- وغيرها.
فهل هذه الأوضاع أحوالٌ يحدث منها
الموت وقد لا يحدث؟ أم هي أسباب للموت يلزم من وجودها الموت؟
يحاول البحث الإجابة عن هذه الأسئلة
وغيرها من الأسئلة.
الأجل في فكر حزب التحرير
" الأجل وقت مخصوص لحدث معين
وأجل الموت هو عين وقت الموت وليس سببه".
أعاد حزب التحرير طرح أفكار متعلقة
بالعقيدة الإسلامية في العديد من كتبه ونشراته، إذ رأي فيها من الأفكار المؤثرة
في أعمال النهضة سلباً أو إيجاباً، ومن أفكار التي أعاد طرحها فكر الأجل، وهو
فكر مهم يكمل البنية الفكرية الساعية لحل إشكالية الحرية أو الجبر في الأفعال،
فالموت الحاصل من القاتل، هل هو فعل له. أي إن قتل القاتل للمقتول هو سبب لموته؟
وبالتالي يكون القائل مسؤولاً عن فعله. وهل النتيجة الموت مرتبطة ارتباط حتم
بالقاتل أم بغيره؟
النبهاني حاول الإجابة على هذه
الأسئلة، في ثلاثة كتب هي: الدوسية والشخصية الإسلامية الجزء الأول والفكر
الإسلامي، وهو في هذه الكتب الثلاثة يردد نفس الأفكار بل نفس الجمل، وهي كلها
تقول: "إن للموت سبباً واحداً، وما يظنه الناس من أسباب للموت، إنما هي
حالات جرت العادة أن يحدث فيها الموت، وقد يحدث وقد لا يحدث، وكونها تتأخر في
الحالات التي يظن أنها سبب للموت، ولو لمرة واحدة من الآلاف فهي ليست
سبباً" (1).
تلك هي خلاصة ما توصل إليه النبهاني
من العلم بآلاف الحوادث، من إصابات بالرصاص في موضع قتل، وأمراض قاتلة مثل
الطاعون والسرطان ـ والإيدز حديثاً ـ وحوادث الطائرات والسيارات وأحوال الحروب ـ
مثل قتل من هم بملجأ العامرية! فكل هؤلاء الناس ماتوا بسبب القضاء، ولا دخل
لمحدثي الأسباب بموتهم وإنما أعمالهم مجرد حالة.
ولأن سبب الموت لا يعلم مشاهدة أو
حتى استدلالاً على رأي النبهاني، لهذا راجعَ آيات القرآن الكريم، عله يكتشفه من
خلالها، فيقول النبهاني: "وهذا السبب الحقيقي لم يستطع العقل أن يهتدي
إليه، لأنه لا يقع تحت الحس، فلا بد أن يخبرنا الله به، وأن يثبت بدليل قطعي
الدلالة والثبوت. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في آيات متعددة بأنه الأجل، وأن
الله هو الذي يميت، فالموت يحصل بالأجل، والذي يميت هو الله سبحانه وتعالى وقد
ورد ذلك في آيات متعددة وبأنه الأجل، قال تعالى : (( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً ))(آل عمران: من الآية145)
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا ))(الزمر: من الآية42) ((
رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ))(البقرة: من الآية258) (( وَاللَّهُ
يُحْيِي وَيُمِيتُ ))(آل عمران: من الآية156) (( أَيْنَمَا تَكُونُوا
يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ))(النساء: من
الآية78) (( قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ
))(السجدة: من الآية11) (( قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ
فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ))(الجمعة: من الآية8) (( نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ
الْمَوْتَ ))(الواقعة: من الآية60) (( إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا
يُؤَخَّرُ ))(نوح: من الآية4) (( إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ
سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ))(يونس: من الآية49)" (1)
وبعد أن يورد النبهاني حشداً من
الآيات يقول: "فهذه الآيات وغيرها قطعية الثبوت بأنها من الله، قطعية
الدلالة بأن الله هو الذي يميت، وإن سبب الموت هو انتهاء الأجل، وليس الحالة
التي حصل فيها الموت (2) .
يشدد النبهاني على أن الحالة ليست
بذات أهمية في الموت، ولا في غيره فالفعل الحاصل إنما هو حالة، والسبب هو الأجل،
فالمقتول من قتل قاتل لم يمته القاتل، وإنما أماته الأجل، وهكذا في كل ما يراه
الناس أسباباً يجعله مجرد حالات، قد يحصل منها، وقد لا يحصل.
يعتمد النبهاني على بيان أنها
حالات، بإقامة دعوى مفادها "أن السبب ينتج المسبب حتماً" (3).
ويقول: "إن الفرق بين السبب والحالة ظاهر كالشمس" (4).
ويلفت النظر إلى تتبع الأشياء التي يحصل منها الموت، منها ضربةً قاتلة ويجمع
الأطباء على أنها قاتلة، ثم لا يموت فيها المضروب، بل يشفى ويعاني منها، وقد
يحصل الموت دون سبب ظاهر، يحصل فيها وقوف القلب، لجميع الأطباء بعد الفحص
الدقيق" (5).
يخرج النبهاني من هذه المقولة
المنية على ( قد )، التي تفيد التقليل والحدوث النادر لمثل هذه الظواهر، ويقيم
افتراضات، بل يشفي ويعافي ويجمع الأطباء، أو لجميع الأطباء، ليسقط كل الأسباب
الظاهرة، ويحولها إلى مجرد حالة، ويقيم سبباً لا يقع تحت الحس المباشر، فضلاً عن
أن الآيات التي استشهد بها والتي جعلها قطعية الدلالة، لا يفهم منها أن الأجل
سبب الموت، بل لم تتعرض الآيات إلى كلمة سبب إطلاقاً، ولا يفهم من تركيبها أنها
دالة على السببية، بل تدل على مجرد الأجل أي الوقت.
إنَّ دعوى النبهاني قطعية دلالة
الآيات أمر خطير في أفكر الإسلامي، لا زال يتكرر على صورة أو أخرى، بحيث أدى إلى
وصف كل واحد والآخر المخالف له بالاجتهاد، على أنه من أهل البدع والضلال، إن لم
يصفه بالكفر والعياذ بالله، فالآيات ليست قطعية في سبب الموت، وإن كانت قطعية
بوجود موت من حيث هو موت، ولا يكون الموت إلا للأشياء الحية، وطبيعي أن يكون
للموت الفردي وقت أي أجل.
إنَّ المعنى الذي تؤدي إليه الآيات،
هو أن الموت يحصل وفق الأجل، ولم تقل الآيات أن الأجل سبب الموت، والآيات تقول
أن الموت يحصل بإذن الله، أي بعلمه، وتقول إن الموت لا بد أن يأتي، وهذه المعاني
كلها لا تدل على السببية، فكيف جعلها النبهاني قطعية الدلالة على السببية؟.
يجعل النبهاني الآيات التي تصف الله
بأنه المميت، والآيات التي تستند فعل الموت إلى الله تعالى، هي الأدلة على
دعواه، "بأن الأجل هو المسبب الوحيد للموت" ويرى " أن هذا
الإسناد حقيقي لأن الحقيقة هي الأصل في الإسناد، ولا ينصرف إلى المجاز إلا
بقرينه، ولا يوجد هنا أية قرينة تصرف الإسناد عن الحقيقة" (1) وهو
هنا ينسى مقولته القائلة: "بأن القرينة لا يلزم أن تكون بالنص ـ فقد تكون
بنص آخر، وقد تكون في الموضوع نفسه" (2) على
أن إسناد الموت لله تعالى، هو إسناد صفة عليها الأحياء، وليس إسناد فعل الموت،
من حيث هو موت للأفراد، أي هي خاصية الموت.
إنَّ الموت هو النهاية الحتمية لكل
حي، وهذا أمر مشاهد ومحسوس، والموت أعم من خروج الروح، فالموت على الحقيقة هو
خروج الروح من ذوات الأرواح، ونهاية الحياة في ذوات الحياة، وتستعمل كلمة الموت
على المجاز وفعل مات وهو فعل لازم يتحول متعدياً بالهمزة أو بالتضعيف أمات ـ
موَّت.
القرآن الكريم أسند فعل الموت إليه
تعالى، كما أسند لنفس الموت، وأسنده إلى الناس، فالله الذي يقول : (( رَبِّيَ
الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ ))(البقرة: من الآية258) هو الذي يقول : (( أَمْ
كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ ))(البقرة: من
الآية133)
ثم تراه يقول في أكثر من آية : (( إِنَّ
الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ )(البقرة: من الآية161) فقضية
الإسناد ليست هي القضية التي يعول عليها لمعرفة سبب الموت، كما أنه لا يجوز
الركون لعجز المعرفة الإنسانية، عن بيان أو إدراك سبب عدم حصول الموت، لأشخاص
غلب على من جدث لهم مثل ذلك السبب الموت، أو حصول الموت لأشخاص مع أن المعلوم من
ظاهرهم عدم بيان سبب للموت، أن الأمر بحاجة لإعادة النظر، من خلال المشاهدات
إمعان التفكير والتدبر، للقول أن الأجل سبب الموت، أو للموت أسباب مختلفة.
المشاهدة الأولى:
أشتال نباتات في المستنبت هي كائنات
حية، يمكن التحكم بموتها تماماً بمباشرة أي سبب من أسباب موتها المعلوم، الخلع
من التراب، والحرق، أو عدم الأوراء، أو منع الهواء عنها أو تحطيمها أو أكل
الدواب لها أو …… أو.
المشاهدة الثانية:
حبات قمح ذات جنين ( الحياة
الكامنة) نقسمها إلى قسمين ـ نزرع قسماً منها ونعتني به ونسلق (1) القسم
الثاني ونزرعه ونعتني به الأولى أنبتت والثانية لم ينبت منها شيء لأننا تحكمنا
بإماتة الحياة فيها بواسطة السلق.
المشاهدة الثالثة:
مجموعة من الكتاكيت (2) "
من ذوات الأرواح" نقطع رؤوسها فيتحقق الموت فيها كلها، بلا استثناء أي حدث
الموت وفق فعلنا ووفق دواعينا.
ومن المشاهدات في الحقل والحظيرة،
إلى المشاهدات في غرف الإنعاش والعناية المركزة.
المشاهدة الأولى:
إنَّ الموت يقع حتماً وسريعاً، لمن
ترفع عنه أجهزة الإنعاش، وكان وضعه أنه محتاج لها على الضرورة.
المشاهدة الثانية:
حوادث عادية نزيف وريدي أو شرياني،
لم يتمكن أهله من إسعافه أو إيصاله إلى الإسعاف بالسرعة، وكل أهل الطب يقولون إن
الموت حصل لعدم الإسعاف.
المشاهدة الثالثة:
جميع المصابين بالسرطان يموتون لأن
السرطان مرض قاتل، ومع هذا فالطب يؤخر حدوث الوفاة عدداً من السنين، وقد يتلافاه
في العلاج المبكر.
ومن هذه المشاهدات إلى استقراء
للأحكام الشرعية، بشأن أحداث الموت.
الحكم الأول:
الانتحار حرام، والمنتحر من أهل
النار، فإذا كان قد مات بأجله على رأي حزب التحرير ، فعلى أي شيء يعذب ؟.
الحكم الثاني:
الدية على من تسبب بموت واحد على
سبيل الخطأ، فعلام احتمل الدية إذا كان موته بسبب الأجل؟… أما قتل العمد فعليه
القود أي قتل نفسٍ بنفس.
الحكم الثالث:
اللص الذي يسرق شاة ويذبحها
ويأكلها، يحكم عليه بجريمة السرقة حسب واقعها، ويغرم ثمنها فإذا كانت الشاة ماتت
بالأجل، فلماذا يغرم ثمنها؟.
وهنا يحق لنا أن نتساءل أيضاً عن
استقراء النبهاني للنصوص، من حيث الاستيفاء أو النقص، والنصوص المهمة لاستكمال
الفهم هي نصوص القتل، لأن القتل يؤدي إلى سلب روح المقتول، ثم تبدأ الخلايا
الحية بالأنسجة بالتحلل أي موت الأنسجة.
ونصوص القتل كثيرة فنتخير النصوص،
التي يظهر فيها شدة مسائلة القاتل أو القتلة، وهي أيضاً كثيرة، وهذه بعض منها
يوفي بالغرض (( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ ))(الأنعام: من
الآية140) (( قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ
كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ))(البقرة: من الآية91) (( وَإِذَا الْمَوْؤُودَةُ
سُئِلَتْ * بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ )) (التكوير:8-9) (( مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ
نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً
))(المائدة: من الآية32) (( نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ
كَانَ خِطْئاً كَبِيراً ))(الاسراء: من الآية31) مع الاكتفاء بهذه الآيات مع
وجود آيات كثيرة غيرها .
فإذا كان هؤلاء المقتولون قد ماتوا
بأجلهم، والأجل بيد الله وفعل الموت له. فكيف نفسر شدة المسألة الظاهرة في هذه
الآيات الكريمة؟ النبهاني لا يذكر هذه الآيات، وبالتالي لا يقيم مثل هذا
التساؤل، وكل ما يقوله هو بحث في الأسباب والحالات دون أن يتبع الحوادث والآيات،
بل يورد الآيات بما يجعلها تخدم فكرته.
يقول النبهاني ـ قافزاً عن كل
المعطيات السابقة في موضوع القتل ـ : "وأما ما يحصل من حوادث القتل وغيرها
، من أوضاع ينتج عنها الموت ، فإنها حالات يحصل فيها الموت ، وليست أسباباً
فليست هي سبب الموت ، بل سبب الموت هو انتهاء الأجل ، والفرق بين السبب والحالة
: أنَّ السبب ينتج المسبب حتما، والمسبب لا يمكن أن ينتج إلا عن سببه ، بخلاف
الحالة فإنها وضع أو ظرف يحصل فيه الشيء، ولكن حصوله فيه ليس حتماً ، فقد لا
يحصل وقد يحصل من غير الحالة " (1 ).
النبهاني وهو مشدود بمقولات
الأشاعرة عن الجبر والاختيار، وما تفرع عن ذلك يحاول أن يعطي تبريراً معاصراً
لتلك المقولات، ومع ملاحظة سكوت النبهاني عن السؤال المثار قديماً وهو "
إذا مات النقتول بأجله فما ذنب القاتل؟ " لكن الأشعري أمام إلحاح المعتزلة بالسؤال،
يجيب قائلاً: " إن ذنب القاتل هو في تعديه في قتله، وهو غير موته وبه يتعلق
القصاص والغرامة دون أن يتعلق بما ليس بمقدورٍ له على كل حال " (2 )
لكن القرآن الكريم يرفض رفضاً
جازماً بدلالة المنطوق التي هي أقوى الدلالات على الإطلاق، تفسير الأشعري وتبرير
النبهاني، إذ القرآن أسند القتل إلى القاتل إسناداً واضحاً جلياً، في آيات عديدة
والإسناد الوحيد الذي أسند به القتل إلى الله تعالى هو قوله : (( فَلَمْ
تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) (الأنفال:17) والقراءة المتأنية لهذه الآية
تبين أنها في أمور التدبير، سواء المراد المعركة وما ظهر فيها من ألطاف الله تعالى،
أعانت الرسول والصحابة على قتل الكفار، أو المراد تقدير القتل فيهم أي القابلية
للقتل بفعل القاتل، فالآية من المتشابه ويصار إلى فهمها بردها إلى المحكم وإلى
ما تعلقه العقول من أن المقتول يموت بقتل القاتل له.
إنَّ وجود فعل القتل لا يتأتى بدون
قاتل، يمارس فعل القتل، فالموت الناتج عن القتل هو فعل القاتل، وليس فعلاً لله
تعالى، ولو تركه القاتل لعاش حتى يستوفي أرماقه، فهو قد مات قبل أجله، أي خرم
القاتل أجله، والقتل وعدم القتل يدور عليه التكليف، والإنسان مخير فيه، على أن
أجل الموت هو مجرد حصول الموت، وليس سببه، فللموت أسباب ظاهرة مثل الشمس "
فالحي يموت للأجل لا بالأجل ".
([1]) كٌتِبَ هذا الإهداء قبل صدور الكتاب بعدة سنين وما أن أطلَّ
يوم 22/ 10 / 1997 م حتى أعلن عن وجود قيادة إصلاحية مؤقتة وإصدار فصل لقيادة
الحزب الذي تولته بعد وفاة المرحوم تقي الدين النبهاني واتـهمت القيادة
الإصلاحية القيادة القديمة بالفساد المالي والتحيز الإداري والانحطاط
الفكري .
ملاحظة 1) لقد كان موقف أعضاء حزب
التحرير من الكتاب مخزيا للغاية فبديلاً عن التفاعل مع أفكار الكتاب بقراءته
قراءة تدبر والرد عليه أو قبوله أو قبول بعضه قاموا بإطلاق الاتـهامات التي لا
سند لـها .
2) أدعى أحد أعضاء الحزب بأن الكتاب
يقلل من قيمة الشيخ النبهاني كمفكر لورود أسمه في بعض صفحت الكتاب هكذا
(النبهاني) مع أن الأسم ورد بصيغ متعددة فيها التقدير والاحترام وليس أدل على ذلك
من الإهداء أعلاه .
([2] ) نظام الإسلام- لتقي الدين النبهاني- من منشورات حزب
التحرير- الطبعة الخامسة ص3.
([3] ) انظر المصدر نفسه ص4 .
([4] ) انظر المصدر نفسه ص4.
([5] ) الفكر الإسلامي- محمد محمد إسماعيل عبده- ص6.
([6] ) نظام الإسلام ص7.
([7] ) الشخصية الجزء الأول لتقي الدين النبهاني من منشورات حزب
التحرير ص 109.
([8] ) نفس المصدر قبله ص 108.
([9] ) التعريفات لعلي بن محمد الشريف الجرحاني طبعة 1985 مكتبة
لبنان مادة عقل ص 157 .
([10] ) انظر العقل عند المعتزلة في فكر القاضي عبد الجبار رسالة
ماجستير مطبوعة لحسني زينة.
([11] ) الشخصية الإسلامية الجزء الأول ص 111.
([12] ) طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن المرتضى تحقيق سوستة
ديفلد فلزر ص 50.
([13] ) تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار تحقيق عبد الكريم
عثمان ص9 طبعة دار العربية بيروت.
([14] ) الشخصية الإسلامية الجزء الأول ص 49.
([15] ) نفس المصدر السابق ص 49.
([16]) الدوسية ص 18.
([17]) الشخصية الإسلامية الجزء الأول ص 32.
([18]) الدوسية ص 10.
([19]) الدوسية ص 13.
([20]) الدوسية ص 16.
([21]) انظر الشخصية الجزء الأول ص 41- 62 والدوسية 10- 26.
([22]) الشخصية والدوسية الصفحات السابقة.
([23]) جمهرة خطب العرب جزء 1 ص 18.
([24]) طبقات المعتزلة ص 11.
([25]) انظر طبقات المعتزلة لأحمد بن يحيى بن المرتضى تحقيق سوسنة
ديفلد- فلزر ص 9و10.
([26]) انظر مفاهيم حز ب التحرير ص 19.
([27]) انظر نظام الإسلام الطبعة الخامسة ص 14.
([28]) انظر نشرة جواب السؤال الخامس مؤرخة 17/8/73 ملف النشرات
الفكرية.
([29]) انظر نشرة جواب سؤال من الأسئلة الفكرية مؤرخة 17/ 8/ 73
ص 115.
([30]) انظر نظام الإسلام ص 13.
([31]) نظام الإسلام ص13.
([32]) انظر مسند أحمد جزء 4 ص 92، 93 الصحيح والله معطٍ لكنها في
مسند أحمد : ( والله معطي) فتبقى على حالها.
(1) الفكر الإسلامي ص 23 / 24
وانظر الشخصية والدوسية.
(2) الفكر الإسلامي ص 24.
(3) الفكر الإسلامي والشخصية
الأول والدوسية موضوع الأجل.
(4) الفكر الإسلامي ص 23 / 24.
(5) الدوسية ص 31.
(1) انظر الدوسية ص 31.
(1 )سلق جاء في لسان
العرب: سلق الشيء بالماء الحار يسلقه سلقاً ضربه. وسلق البيض والبقل وغيره
بالنار: أغلاه، وقيل أغلاه إغلاءةً خفيفة.
(2) جاء في لسان العرب باب
كتت: ورجل كت قليل اللحم واستعمالها الآن بمعنى إفراخ الطيور والدجاج إنما هو توسع
حديث.
(1)انظر الدوسية ص 31.
(2 )مجرد مقالات الأشعري
ص 136 من إملاء ابن فورك طبعة دار المشرق.
الطبعة الثانية
طبعة منقحة
1423هـ – 2003 م
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى
1416 هـ – 1995 م
رقم الإيداع لدى دائرة المكتبة الوطنية
(735/7/ 1995)
رقم التصنيف: 812, 218
المؤلف ومن هو في حكمه: أمين نايف حسين ذياب
عنوان المصنف: جدل الأفكار : قراءة في أفكار حزب التحرير
رؤوس الموضوعات: 1- الأحزاب السياسية
2- حزب التحرير
رقم الإيداع: ( 735/ 7/ 1995)
|
lundi 18 novembre 2019
موسوعة جدل الأفكار (1) جدل الأفكار قراءة في أفكار حِزب التحرير حول أفكار : الألوهيةِ وَالقَضَاءِ وَالقَدَرِ وَالأجلَ والرَِّزق والهٌدَى والضَّلال والنّصَّر وَالجَّزَاء
Inscription à :
Publier les commentaires (Atom)
-
Le loup et l’agneau La raison du plus fort est toujours la meilleure : Un Agneau se désaltérait Dans le courant d’une o...
-
أبي العلاء المعري (و. 973- ت. 1058). هذا جناه أبى علىَّ وما جنيت على أحد ثلاثةُ أيام هى الدهرُ كلهُ وما هنَّ غير الأمس واليوم والغد و...
-
في اللاذقية ضجة ما بين أحمد والــــمسيحُ هذا بناقوس يدق وذا بمئذنة يــــــــــــصيحُ كلٌ يعظِّم دنيه يا ليت شعري ما الصحيحُ ؟ ” ابوالعلاء ال...
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire