لقد ورد القوم في التنزيل الحكيم
كمفهوم أعلى من مفهوم الأمة، وجاء بعدها زمانياً، فقد ذكر التنزيل القول بالمفاهيم
التالية:
1 – جمع امرئ، كما أن النساء جمع امرأة. وجاء بهذا المعنى في قوله
تعالى: {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قومٌ من قومٍ عسى
أن يكونوا خيراً منهم ولا نساءٌ من نساءٍ عسى أن يكنِّ خيراً منهن …}
الحجرات 11.
كما جاء بهذا المعنى في قوله تعالى: {وجاءه قومه يهرعون إليه ومن قبل كانوا يعملون السيئات، قال يا
قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجلٌ رشيد}
هود 78، وتجدر الإشارة هنا إلى أن (قومه) و(قوم) كما وردت في الآية الشاهد تعني
حصراً جمع الذكور، إذ ختم الآية بقوله: {أليس منكم رجل
رشيد}، من جهة ثانية، فموضوع الآية يدور عن اللواط، واللواط للذكور، كما
جمع في قوله تعالى: {قال إنكم قومٌ منكرون} الحجر
62.
2 – مجموعة من الناس العاقلين، ذكوراً
وإناثاً، في بيئة اجتماعية معينة، وقد ورد هذا الخطاب ابتداء من نوح بقوله تعالى: {إنا أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم
عذاب أليم} نوح 1، وفي قوله تعالى: {قال يا قوم
إني لكم نذيرٌ مبين} نوح 2.
بدأ استعمال مصطلح “القوم” مقترناً
بفعل “قال” ابتداءً من نوح، وقد قلنا أن البلاغة في القول، فعندما تتحول الكلمات
المنطوقة إلى معنى في الذهن تصبح قولاً، مما يدل على وجود لغة مشتركة بين المتكلم
والسامع (لغة مجردة بأبسط أشكالها).
ومن هنا أسبغ التنزيل الحكيم مصطلح
القوم على المجموعة العاقلة، لوجود لغة تفاهم، وهذا يقودنا إلى المعنى الثالث.
3 – مجموعة من الناس العاقلين لهم لغة
مشتركة (وحدة اللغة). وبما أن الناس قبل نوح كانوا أمة واحدة ولم تظهر القوميات
بعد، إذ تحدد ظهورها في التنزيل بظهور لغة تفاهم مجردة بين متكلم ومخاطب، فقد ظهرت
القوميات مع اكتمال مجتمع بأبسط صورة التي ذكرناها في بحث الأمة (مجتمع نوح) ولما
كان نوح أول نبي رسول من البشر، وأراد الله تعالى أن يبين وجود ألسنٍ بين المتكلم
والمخاطب، وليس لساناً واحداً، فقد قال: {وما أرسلنا من
رسولٍ إلا بلسان قومه ليبين لهم …} إبراهيم 4.
هنا نلاحظ كيف حدد القوم باللسان،
وكيف عرف البيان بأن وظيفة اللسان.
هذه هي المعاني الثلاثة للقوم، كما
رأيناها جاءت في التنزيل الحكيم. ولو دخلنا في تفصيل المعنى الثاني والثالث، أي أن
القوم مجموعة من الناس العاقلين لهم لغة (أداة تفكير وتعقيل الحكيم يستعمل دائماً
(قال) مع مصطلح (قومه) وليس مع مصطلح (أمته)، مما يدلنا على أن القول بين المتكلم
والمخاطب يقصد به البيان، فهو يحتاج إلى لسان، واللسان صفة خاصة بالقوم(1).
كما يدلنا على أن الدعوة تبدأ دائماً بفعل الأمر، بدءاً من نوح:
– {إنا
أرسلنا نوحاً إلى قومه أن أنذر قومك ..} نوح 1، لاحظ فعل “أنذر”.
– {قال يا
قوم اعبدوا الله …} (1) لاحظ فعل “اعبدوا”.
فصيغة الأمر صيغة بين متكلم ومخاطب،
لا وجود فيها للشخص الثالث الغائب.
وهذا يقودنا إلى أن الناس كانوا أمة
واحدة، فأصبحوا أمماً في الثقافات (معارف وتشريعات) المختلفة، وبما أن الثقافة
تحتاج إلى لغة، فقد أصبحوا قوميات في الألسن، وبما أن الألسن، كصيغة للتفكير
والتعقل والبيان، من صفات العاقل الذي يملك لغة مجردة، فقد استعملها التنزيل هذا
الاستعمال الواسع.
لقد حفل التنزيل الحكيم بالصفات التي
أطلقها على مجموعة من الناس هم القوم، بغض النظر عن مسألة اللسان الواحد والألسن
المختلفة، في مجال التفكير {لقوم يتفكرون} والعقل
{لقوم يعقلون} والإيمان {لقوم
يؤمنون} والتذكر {لقوم يذكرون} والتقوى {لقوم يتقون} والعدل {لقوم
يعدلون} وغيرها كثير. ونلاحظ أن هذه الصفات تنطبق على كل مجموعة عاقلة، بغض
النظر عن نوع اللغة، وأن هذه المجموعة تملك بالضرورة لغة تفكر وتدبر وتعقل، وأن
هذه الصفات من صفات العاقل.
لقد بينا صفة البيان في اللسان، كما
في قوله تعالى بالآية 4 من سورة إبراهيم، وتبين لنا أن مفهوم الأمة مفهوم تحتي
لمفهوم القومية، ضمن المرحلة التي ما زال الناس فيها أمة واحدة كبشر، وأمماً
كإنسان. وانتقلنا إلى أن الأمة سلوك بهيمي غريزي (طبائع البهائم) ثم سلوك عاقل واع
(ثقافة الناس). كان الناس أمة واحدة عندما كانوا في المملكة الحيوانية، ثم بدأوا
بالابتعاد عنها، ثم تنوعت الثقافات فأصبحوا أمماً، وتنوعت الألسن فأصبحوا قوميات.
والواقع أن الأمة والقومية الآن
مفهومان متداخلان، فقد توجد أمة واحدة ذات ثقافة مشتركة وسلوك مشترك، تتألف من عدة
قوميات (ألسن مختلفة)، وقد توجد قومية واحدة (لسان واحد) فيه عدة ثقافات (أمم).
لذا جاءت صيغة الخطاب في التنزيل للقوم، وصيغة الحساب للأمة (لاحظ الدقة في
استعمال مصطلح الأمة والقومية) وعلى هذا الأساس يمكن أن نقرر ما يلي:
بنو هاشم – – – – > أهل محمد (ص).
قريش – – – – > قوم محمد (ص)
مسلمين وغير مسلمين لأن القرآن عربي والأحكام عربية والخطاب عربي.
المسلمون – – – – > أمة محمد (ص)
وهم من قوميات مختلفة.
والسؤال الآن كيف ظهرت القوميات؟
للإجابة على هذا السؤال، لا بد من أن نرجع إلى نشأة الكلام الإنساني، لأن مصطلح
القوم استعمل للعاقل حصراً بصيغة التفكير أو البيان، وهذا يقتضي وجود لغة مجردة في
الفترة الواقعة بين آدم ونوح، حيث كان عند نوح كما أسلفنا لسان مجرد بصيغ بدائية،
ومجتمع بوحدته الأساسية، الأسرة الأولية (الوالدان – الأولاد) وهيكله الأساسي
الملأ – الكهنة – الأراذل.
يخبرنا القرآن بأن نشأة القوميات
واختلاف الألسن ظهرت، بعد قفزة التجريد الأولى، من اختلاف الشروط الطبيعية، وأن
تأثير هذه الشروط على الإنسان هو الذي أدى إلى التأثير على تنوع اللغات فكانت
بداية اللغات هي:
1 – الكلمة الجملة، التي نسميها اسم
الفعل، وهي ذات مقطعين صوتين مثل (آمين) أي يا رب استجب، الموجودة في معظم لغات
أهل الأرض، مع أنها غير موجودة في التنزيل الحكيم، أو ذات مقطع صوتي واحد، مثل
(آه، مه، صه، عو، نو، فع) أو ذات مقطع صوتي واحد مكرر، مثل: (هاها) التي تطورت إلى
هيهات، كما في قوله تعالى: {هيهات هيهات لما توعدون}
المؤمنون 36، ثم انتقلت الكلمة الجملة بعد التجريد (أي بعد انتقال العلاقة
الطبيعية بين الصوت والمدلول إلى علاقة اصطلاحية) إلى كلمة جملة بوجود الضمائر
المتصلة والضمائر الغائبة مثل (قالتا) و(أكلت).
2 – بعد بداية التجريد كان هناك تأثير
متبادل بين الطبيعة والإنسان في عملية التجريد، وقد وضع القرآن في آية واحدة
اختلاف الألوان والألسن وخلق السموات والأرض بقوله تعالى: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم، إن في ذلك لآيات
للعالمين} الروم 22، أي أن اختلاف الألسن والألوان للناس خضع لقوانين
طبيعية رحمانية كخلق السموات والأرض، وأن القوانين التي أثرت على اختلاف الألوان
بين الناس هي نفس القوانين التي أثرت على اختلاف الألسن أي قوانين التكيف
(الزوجية)، فتأثير الطبيعة، مثلاً في المستوى اللغوي ممثلاً بمفردات اللغة
العربية، عن الثلج والحيوانات القطبية ومواصفاتها، أقل بكثير من المفردات الموجودة
في لغة سكان ألاسكا الأصليين عن الثلج والحيوانات القطبية.
ومفردات الصحراء وحيوانات الصحراء
كالجمل، أكثر بكثير في اللغة العربية منها في لغة الأسكيمو، والأصوات الشائعة في
لغات أهل الغابات أكثر من الأصوات نفسها في لغات أهل الصحراء.
نعود إلى تعريف القوم، بأنه مجموعة من
الناس العاقلين يحملون أداة تفكير وأداة اتصال وبيان مشترك، ومن هنا جاءت القومية.
وباختلاف ألسن الناس، ظهرت القوميات المختلفة، مقتصرة بالضرورة على العاقل الذي
يملك أداة التفكير وأداة الاتصال.
فالقومية صفة ذاتية ملازمة لتجمع من
الناس العاقلين، لأن هذا التجمع لا يوجد بدون أداة اتصال وأداة تفكير هي اللغة.
فلا يوجد عرب بدون قومية عربية، ولا توجد قومية عربية بدون لسان عربي. أما العروبة
فهي شعور واعٍ بالانتماء إلى القومية العربية والتعصب الإيجابي لها. فالقومية
العربية من هذا المنظور، وجود حقيقي غير وهمي، شأنها في ذلك شأن القوميات الأخرى،
التركية والكردية والإنكليزية. فلا أفضلية في الوجود لأية قومية على قومية أخرى،
لكن الأفضلية تأتي من مميزات أخرى تكتسبها قومية ما عن جدارة واستحقاق، وبجهد
أفرادها وسعيهم، لا بمجرد أنهم عرب أو أتراك.
فإذا قلنا بأن الوجود القومي لمجموعة
من الناس مهدد، فهذا يعني أن هذه المجموعة أكرهت على تغيير لسانها، أما بغزو ثقافي
من ثقافة أخرى قومية، كما حصل عندما غزا العرب الأندلس، وكانت الثقافة العربية
قوية إلى حد غزت معه اللغات المحلية، وأما بغزو تقليدي باحتلال البلاد من قبل
آخرين فرضوا لغتهم وثقافتهم، وهو ما حاولت فرنسا فعله في الجزائر، وما حاولت
الدولة العثمانية فعله عند العرب، وإما بطرد مجموعة من الناس، تحمل لغة معينة، من
قبل محتل أجنبي أخذ أراضيهم وأقام مجتمعه الخاص ولغته الخاصة، وهذا ما حصل في
الحروب الصليبية، وفي الغزو الصهيوني لفلسطين.
في هذه الحالات يمكن أن نقول أن
الوجود القومي مهدد بالنسبة لمجموعة من الناس تعيش على بقعة ما من الأرض، وفي هذه
الحالة تصبح المعركة التي يخوضها الإنسان معركة قومية وليست أممية من أجل عقيدة
(ثقافة) أو من أجل مكاسب اقتصادية. وربما يكون الغزو بسبب مكاسب اقتصادية، أما
الدفاع من قبل السكان في هذه الحالة فهو ليس اقتصادياً وإنما قومي وسياسي.
ولنُزيل بعض المفاهيم الخاطئة عن
القومية العربية، وعن أصل العرب، نقول إن العرب كما نرى، هم مجموعة من الناس عاشت
ضمن مجال حيوي معين، ولنقل أنه أرض شبه جزيرة العرب، وتكلمّت اللسان العربي. وهذا
المفهوم لا يحمل أي صفة عرقية خاصة، فالعرب ليسوا كلهم من سلالة إسماعيل.
ثمة عائلات عربية من سلالة إسماعيل،
ومن هذه العائلات كان النبي (ص)، لكن إذا كان النبي من سلالة إسماعيل وإبراهيم
وآدم، فهذا لا يعني أبداً أن العرب كلهم من سلالة إسماعيل وإبراهيم وآدم، لأن الله
اصطفى آدم، وخص من ذريته سلالات من بين كل البشر، هذه السلالات هي نوح وآل إبراهيم
وآل عمران، والنبي (ص) كان من آل إبراهيم.
فعروبة عنترة بن شداد وامرئ القيس، لا
تقل أبداً عن عروبة النبي (ص)، لأن كليهما ينتمي إلى قوم واحد له نفس اللسان،
إضافة إلى أن النبي (ص) ينتمي إلى إبراهيم عليه السلام، أما الباقون لهم بالضرورة
هذا الانتماء. وهذا يؤكد أن العروبة، وهي الانتماء الواعي إلى القومية العربية
والتعصب الإيجابي لهذا الانتماء، ليست نظرة عرقية، وإنما هي نظرة إنسانية صرفة،
والتعصب الإيجابي لها يتطلب من العرب الجد والسعي والمشاركة الفعالة في صنع
الحضارة الإنسانية مع بقية القوميات.
لنطرح السؤال التالي: هل للقومية
العربية خصائص خاصة بها غير اللغة؟ وأقول: كلا يوجد. لأن الأخلاق صفة شمولية،
فالصدق وعدم الحنث باليمين، وعدم شهادة الزور، والالتزام بالوفاء بالكيل والميزان،
وبر الوالدين، هذه كلها من الأخلاق، ولكنها ليست عربية وإنما هي إنسانية صرفة. فلا
يوجد شيء اسمه الصدق العربي، وشيء اسمه الصدق الإنكليزي، وشهادة زور عربية وأخرى
فارسية، كما لا يوجد شيء اسمه الأخلاق العربية والأخلاق التركية. وتلتبس هذه الأمور
على الإنسان عندما يخلط بين الأخلاق والعادات، فالأخلاق من الصراط المستقيم، أما
العادات فهي من الأعراف، وقد أقر الإسلام كليهما، ولكن شتان ما بينهما.
أما الأعراف (العادات والتقاليد)،
فهناك عادات وأعراف عربية وأخرى تركية، وهذا صحيح. وتتأثر الأعراف بمؤثرين أساسيين
هما البيئة (صحراوية، حارة، باردة، جبلية، غابات) والإنتاج (المستوى الاقتصادي
وطرق المعاش). وفي هذا تختلف العادات العربية نفسها بين منطقة وأخرى عند العرب
أنفسهم (بدو، حضر، سكان ساحل، سكان مناطق داخلية …)، كما تختلف العادات العربية عن
عادات القوميات الأخرى.
فمفاهيم الشهامة والنخوة والكرم،
مثلاً، وهي كلها من العادات والأعراف وليست من الأخلاق، تختلف بين البدو والحضر،
وبين المزارعين والصناعيين. وعلينا أن نقبل هذا على أنه من قوانين رب العالمين في
خلقه. وعلينا أن نعيد النظر بمصطلح الأخلاق العربية لأنه مصطلح وهمي، ونستعمل
بدلاً منه مصطلح العادات والأعراف العربية المتغيرة من مكان لآخر ومن زمان لآخر.
أما خصائص اللسان العربي التي تميزه
عن كثير من الألسن فهي: الأصالة، وهي الايغال في القدم (الجذور)، وهو العنصر الأول
للأصالة، والثمار، أي أنه ما زال مثمراً حتى يومنا هذا، وهو العنصر الثاني
للأصالة. ويتجلى العنصر الأول في الصفات التالية:
أ – الكلمة الجملة، وهي مرحلة أولية
من مراحل نشأة الألسن، وتتجلى بوجود الضمير المتصل والضمير الغائب، كقولنا (قالتا)
وبأسماء الأفعال، فكثير من الأفعال العربية ما زال يحاكي الطبيعة حتى يومنا هذا
(عواء، مواء، فحيح، نقيق، صهيل، خرير).
ب – التطابق بين الحركة الصوتية للفظ
الحرف، وبين مدلول الحرف مثل (ف)، فعند لفظها يفتح الفم (الشفتان) فترى الأفعال
التي تبدأ بها: (فتح، فرق، فخت، فك، فض، فقر) تدل على فتح. والميم بلفظها عبارة عن
ضم الشفتين، فنرى أن كل التحام بين اثنين يبدأ بالميم (مبارزة، مقاتلة، منافسة)،
ومكان تجميع الأشياء تبدأ بالميم: (مكتب، ملحمة، متجر، مدرسة)، فإذا جمعنا الفاء
والميم، نتجت لدينا كلمة (فم) وهو عضو الفتح والضم، كفم الإنسان وفم المعدة، أما
عضو الفتح بدون ضم فهو (فوهة) فوهة البندقية وفوهة البركان، ولا نقول فم البندقية
أو فم البركان(2).
جـ – كثرة الصفات (النعوت) للاسم
الواحد. فللسيف اسم واحد ونعوت كثيرة، فالمهند هو السيف المصنوع في الهند (بلد
المنشأ) وهذه تعكس مرحلة من مراحل تطور الألسن حين لم يكتمل التجريد.
بهذا نرى أن اللسان العربي يعكس كل
مراحل تطور نشأة الكلام الإنساني في منطقة الشرق الأوسط. وعليه نستطيع القول أن
جميع الألسن، التي كانت في هذه المنطقة واندثرت، ما هي إلا مراحل لتطور هذا
اللسان، الذي وصل إلى مرحلة اللسان العربي المبين عند نزول الوحي، وأن سكان هذه
المنطقة هم عرب بالمفهوم التاريخي لا بالمفهوم القومي. إذ لا يوجد شيء اسمه
القومية السامية، لأن القومية يحددها اللسان. فما هو اللسان السامي؟ والقول
بالسامية وهم من وجهة نظر القرآن. والذي يدعي أن اليهود ينتسبون إليها (سام بن
نوح) وأهم أيضاً، لقوله تعالى عن بني إسرائيل أنهم {ذرية
من حملنا مع نوح ..} الإسراء 3.
لقد خضع اللسان العربي لقوانين التطور
(الجدل الداخلي والخارجي). أما الجدل الداخلي فهو التناقضات التي كانت تفرزها
الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، انعكست كتناقضات في اللغة الواحدة (هل
تفيد هذه اللفظة المعنى المطلوب أم لا تفيده، وهذا القانون هو أم قوانين التطور
اللغوي الداخلي). وقد انعكس في قوانين الصرف في اللغة الواحدة، وفي تنوع لهجاتها
(اللهجات المختلفة في اللغة الواحدة) وفي تنوع اللغات وتشعبها.
أما الجدل الخارجي فهو التأثير
والتأثر المتبادل (قانون الزوجية / التكيف) فقد انعكس في مستويات، لأن قانون
الزوجية يعمل في مستويات مختلفة، لا في مستو واحد. الأول منها داخلي، وذلك في ظهور
الإسناد (مسند ومسند إليه) بعلم النحو. والثاني، تأثير الطبيعة على المفردات
اللغوية. فأهل الصحراء عندهم مفردات كثيرة عن أحوال الصحراء وحيواناتها، بينما لا
يملك أهل أوروبا هذه المفردات، والعكس صحيح. والثالث، التأثير والتأثر المتبادل
بين لسانين مختلفين تماماً، أو بين لهجتين للسان واحد، وهو تلاحم ثقافي بين ثقافات
مختلفة.
فمثلاً هناك مفردات في اللسان العربي
أصلها فارسي (استبرق، سندس) استعملها القرآن ليبين لنا أن قانون الاستعارة بين
لغتين مختلفتين، قانون طبيعي لا عيب فيه، وأن الألفاظ في الاستعارة من لغة إلى لغة
أخرى، تدخل ضمن قوانين النحو والصرف للغة، أي ضمن بنيتها الخاصة. ومن هنا نرى أنه
لا عيب في أن يطلق الأوروبيون لفظة (COTTON) على القطن وهي
لفظة عربية، وأن يستعمل العرب لفظة (إليكترون، وتلفزيون، وتلفون) وهي مفردات
غربية. لأن ذلك جرى ضمن قوانين التكيف (الزوجية) ولم يفرض بالقوة، وهذا حق طبيعي
للذي اكتشف الإليكترون أن يسميه كما يريد، وأن يستعيره الآخرون منه كما هو.
وهذا يوضح التبادل الثقافي الطبيعي
بين اللغات. لذا، فمهما استعارت اللغة العربية من مفردات أجنبية لأشياء اكتشفها
الأجانب، فهذا لا يؤثر في بنيتها، وتبقى عربية. لكن العيب الوحيد هو في العرب
أنفسهم لا في اللسان العربي، لأنهم تخلفوا في مضمار العلم، وبالتالي في مضمار
المصطلحات العلمية العربية. ومنتج المعرفة هو صاحب الحق في وضع مصطلحاتها، وليس
مستهلك المعرفة. أما المستوى الرابع والأخير، فهو تكيف اللهجات المحلية بلسان
واحد، وذلك من خلال التأثير المتبادل بين المناطق التي تتكلم نفس اللسان، فنرى أن
مصر الآن هي المنتج الأول للأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية وللمسرح،
ونرى أن اللهجة المصرية هي لهجة مألوفة عند كل العرب أكثر من اللهجة اليمنية
مثلاً، ولا عيب في ذلك، لكن هذه كلها لهجات للسان واحد، ولا يمكن أن نقول أن
اللهجة المصرية هي اللهجة النموذجية الصحيحة.
ولا بد من الإشارة إلى مقياس اللفظ
اللغوي السليم، ففي كل لغة من لغات الأرض لهجات لفظية مختلفة ضمن نفس اللغة للكلمة
الواحدة (القراءة)، لهذا نرى في اللغات العالمية لفظاً قياسياً للغة المنطوقة،
يقاس اللفظ السليم إليه (STANDARD) هو الذي نقول
عنه اللغة الفصحى. فاللغة الفصحى لا تعني سلامة النحو والصرف فقط، وإنما تعني
قياسية اللفظ اللغوي، وخلوه من اللهجات والعيوب النطقية مثل الثأثأة والفأفأة
واللثغة.
هناك مثلاً لغة إيطالية، ولكن اللغة
الإيطالية الفصحى التي نسميها من راديو روما، من مذيع الأخبار بالإيطالية، هي لهجة
أهل فلورنسا، التي تعتبر المقياس الذي تقاس به سلامة النطق اللغوي. والقياس الفصيح
في الإنكليزية هو لغة الملك (KING LANGUAGE)، وفي الفرنسية
لغة أهل باريس. فما هي اللغة القياسية الفصحى عند العرب؟ وهل وصلتنا هذه اللغة
القياسية (من حيث اللفظ)؟
لقد وصلنا اللسان العربي المبين، من
حيث المبنى، في التنزيل الموحى إلى محمد (ص) أما المعنى فهو نسبي إنساني، يشارك
السامعُ المتكلم في صنعه. هذا اللفظ الفصيح وصلنا من النبي (ص) في قوله إن صح (أنا
أفصح العرب بيد أني من قريش)(3) والفصاحة في اللسان (اللفظ). فهو يبين
هنا، أن قريشاً ليست فصيحة، وأن النموذج الفصيح للتنزيل الموحى، هو نطقه (ص)، وبما
أن النبي (ص) كان أمياً بالخط، وجاءه التنزيل منطوقاً لا مخطوطاً، فنطقه (ص) هو
اللسان العربي الفصيح، علماً بأن نطقه للتنزيل كما نطقه هو (ص) ليس له علاقة بنطق
قريش للسان العربي، وهذا النطق وصلنا إلى اليوم عن طريق تواتر الحفظة لنطق التنزيل
كما سمعوه من النبي (ص).
نستنتج مما سبق، أن القومية صفتين
أساسيتين، أولاهما الصفة الذاتية، وهي أنه لا بدّ للسان، حتى يصير لساناً، من وجود
مجموعة من الناس تستعمله كأداة للتفكير وأداة للاتصال، والصياغة الثقافية لهذه
المجموعة تتم بواسطة هذا اللسان. وثانيتهما الصفة الموضوعية، أي عندما نضع صيغة
المضاف إلى القومية كأن نقول: القومية العربية، فهذا وجود موضوعي حقيقي لمجموعة من
الناس تتكلم العربية، وأنتجت ثقافتها بهذه اللغة، وهو وجود موضوعي بالنسبة لقوميات
أخرى، فالقومية العربية وجود موضوعي بالنسبة للقومية التركية، واللسان العربي وجود
ذاتي بالنسبة للعرب، وإلا لما سمينا هذا التجمع الإنساني باسم العرب.
فإذا أردنا أن نفرق بين الذاتي
والموضوعي إن الذاتي هو الذي يستمد وجوده من إدراكنا له، أما الموضوعي فهو الذي
نستمد إدراكنا من وجوده، أي أن العلم يتبع المعلوم في الوجود الموضوعي، لا في
الوجود الذاتي. فالكون وجود موضوعي خارج الذات الإنسانية، والأخلاق لها وجود ذاتي
غير منفصل عن الإنسان. فمعلوماتنا عن الكون تستمد وجودها من الكون نفسه، لأن الكون
منفصل عن الإنسان، أما الأخلاق والصلاة والعبادات فتستمد وجودها من عينا لها، وهنا
نلاحظ مرة أخرى الفرق الجوهري بين النبوة والرسالة(4).
من وجهة النظر الموضوعية، إن للقومية
العربية وجوداً يرتبط بمجموعة من الناس لها وجود موضوعي بخصائص ذاتية (اللسان
كأداة تفكير واتصال) هذا الوجود لا يتميز عن أية قومية أخرى صغرت أم كبرت، وفي هذا
المجال لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالخصائص الذاتية (الأخلاق، العلم، التشريع
“التقوى”) لذا فالعربي ليس بالأب والأم، وإنما الذي اتخذ اللسان العربي وسيلة
للتفكير ووسيلة للاتصال والتعبير عن الثقافة (معارف وتشريعات) ولا فرق في هذا
المجال بين عروبة محمد (ص) وعروبة عنترة وعروبة المتنبي.
أما من ناحية النسب (الدم) فمحمد (ص)
ينتسب إلى إبراهيم، بينما عنترة لا ينتسب إلى إبراهيم. وفي هذا المجال أيضاً، يمكن
أن نعرف العرب بأنهم مجموعة من الناس عاشت في مجال حيوي معين (شبه جزيرة العرب –
منطقة الشرق الأوسط) فكان منها اللسان العربي، في مختلف مراحل تطوره التاريخي حتى
وصوله إلى درجة اللسان المبين حين نزول القرآن.
أما فيما يتعلق بالعروبة، فالعروبة
شعور بالانتماء (العصبية) إلى القومية العربية. وهي صفة ذاتية صرفة، قد تأخذ شكل
التعصب المتطرف أو التعصب المعتدل. فقد كان تعصب النبي (ص) إلى العروبة تعصباً
معتدلاً باعتبار العرب قومه، والتنزيل جاء باللسان العربي المبين، وكان تعصبه
شديداً حين تلزم الشدة فقط، وظهر في حرصه الشديد على قومه، كما جاء بقوله تعالى: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم
بالمؤمنين رؤوف رحيم} التوبة 128.
لهذا، كحان التعصب القومي الذي يظهر
في الحرص الشديد من الإنسان على قومه تعصباً، ظهر أول ما ظهر عند محمد (ص) على
العرب وغيرهم. ثم وضح في سلوك الصحابة بعد النبي (ص) حين فرض عمر بن الخطاب ضرائب
مزدوجة على بني تغلب، العرب المسيحيين(5)، ليدخلهم في الإسلام بدافع من
حرصه الشديد عليهم كعرب، ليأخذوا دوراً رائداً في بنية الدولة الإسلامية.
ولهذا، فنحن نعتبر القومية العربية
خامة الإسلام الأولى، والتعصب لها تعصب مشروع من باب الحرص عليها، ونعتقد أنه لا
تناقض بين العروبة والإسلام، إذ جاءت آية سورة التوبة لتصهرهما في آخرها صهراً
مباشراً في قوله تعالى: {… بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
من هنا كان للقومية وجود مادي موضوعي، اعتبرها الإسلام الخامة الأساسية، لكون
الإسلام مبادئ إنسانية (نظرة إلى الحياة والكون والإنسان) جاءت للعرب ولغير العرب،
إلا أنّ تطبيقه الأول (العملي والتاريخي) كان على العرب. ومن هنا جاء هذا الصهر
المباشر بينهما، فالإسلام دين أممي تم تطبيقه على خامة قومية هي (القومية
العربية).
وفي ضوء ذلك يمكن أن نفهم الالتباس،
مثلاً، فيما يسمى بالحجاب الشرعي، من حيث هو تعصب للعروبة في القرن السابع لا
للإسلام. أي أنه تعصب لزي المرأة العربية في القرن السابع، يعبر عن عصبية (عروبة)
لا عن سلوك إسلامي (أممي)، صالح لكل قوميات أهل الأرض في كل زمان ومكان.
وهنا لا بد لي من التذكير بأن للعروبة
أيضاً مفهوماً معاصراً، فهل يجب علينا كلما ذكرنا القومية العربية والعروبة، أن
ننظر إلى الوراء دائماً؟ أي: هل من الواجب ضرورة، عندما نضع العروبة على خشبة
المسرح، أن يكون الممثلون امرؤ القيس وعنترة وزهير وعمر والصحابة من قريش
والأنصار؟ بمعنى آخر، ما هو التعصب الواعي للقومية العربية (العروبة) في القرن
العشرين؟ بما أن السنة النبوية أظهرت الإسلام على أرض الواقع في شبه جزيرة العرب
في القرن السابع الميلادي (أي قومية عربية + إسلام) وكانت الثمرة الأولى هذه
الانطلاقة الجبارة، ألا يمكن أن تكون ثمة قومية عربية (عروبة + إسلام) في القرن
العشرين، وتكون هناك ثمرة أخرى ناضجة وفعالة؟
إنه لمن الممكن، بقراءة معاصرة، أن
نفهم الكتاب والقرآن في القرن العشرين (النبوة والرسالة)، أفلا يمكن أن نصوغ
مفاهيم حديثة فيها التقطع والاستمرار، التقطع في المفاهيم والطروحات القومية
والتعصب والاستمرار في التاريخية؟ أعتقد أن ذلك ممكن، وأرى أن نعبر عن العروبة في
القرن العشرين بالتعصب للقومية العربية تعصباً معاصراً، بتعريب الثقافات ونقلها
إلى العربية، ليتاح للعرب قراءة كافة الثقافات الأخرى، وترجمة النتاج العربي خاصة
الأدبي إلى لغات حية أخرى، وتعريب الحاسوب الإلكتروني كلية، وتحديث الشعر والقصة
والمسرح وطرق التعبير، وتشجيع ثقافات ولغات الأقليات القومية في الوطن العربي،
وتشجيع ترجمتها إلى العربية، وتشجيع هذه الأقليات على الكتابة والتكلم بلغتها،
ليصبح التلاقح بينها وبين اللسان والأدب العربي فعالاً مثمراً، وإعادة النظر
جذرياً في طرق تدريس اللسان العربي، ووضع قواعد نحو وصرف جديدة، وعدم التحرج من
الاستعانة بمفردات غير عربية، كالتلفزيون والتلفون، وإدخالها إلى اللغة العربية،
بعد أن علَّمنا الله في التنزيل الحكيم أن استعارة مفردات لغة من لغة أخرى هو من
باب التأثير والتأثر المتبادل. وهذه من سنة الله في ألسن أهل الأرض.
وبهذا المجال لا بد من الاهتمام
بتطوير قواعد اللغة العربية، باعتبار أن التطور هو العمود الفقري للعقيدة
الإسلامية، وهو العمود الفقري للرسالات كلها، وقد بيّن سبحانه في آية النسخ كيف
تتطور الرسالات .. فهل يمكن تطبيق هذا القانون على قواعد اللغة العربية؟
لقد وهم الكثيرون، حين ظنوا أن التنزيل
الحكيم ثبتَ اللغة العربية ضمن إطار دائم أبدي، فنتج من وهمهم هذا، أن قانون تطور
الخلق شمل جميع لغات أهل الأرض، وتوقف في اللغة العربية، علماً أن قانون التطور
عام شامل.
وقد يقول قائل، بأن تطبيق قانون
التطور على اللغة العربية، يفصل بين اللغة وأهلها من جهة، وبين التنزيل الموحى
بلسان عربي مبين من جهة ثانية. ومن هذه النقطة بالذات، حصل الفصل بين النحو
والدلالة، ليصبح النحو عبئاً على العرب، غدا معه العرب أنفسهم يدرسونه كمن يدرس
الطب أو الفيزياء النووي، كما لو أنه ليس له أية علاقة بنمط تفكيرهم.
وقد قاد هذا الوهم، إلى وهم آخر عند
البعض، حين سعوا لتطوير اللغة العربية باتجاه اللغة العامية المحكية. ففي هذه
الحالة سيأتي يوم على العرب، لا يستطيعون فيه، بمعظمهم على الأقل، قراءة آي الذكر
الحكيم. فكيف نحل هذه المشكلة؟ بمعنى آخر، كيف نطور اللغة العربية، دون أن نخرج عن
اللسان العربي المبين، ودون أن يأتي يوم يسحبنا فيه مدّ التطور إلى حيث لا نعود
نفهم معه التنزيل الحكيم؟
هذا لا يمكن .. إلا إذا فهمنا أولاً،
أن التنزيل الحكيم نفسه قد طوّر اللغة العربية، بمعنى أنه نزل بلغة ليست هي لغة
الجاهلية وما قبل الإسلام، وضمن دلالتها ومدلولاتها حصراً. فلغة التنزيل ليست نفس
لغة الأدب الجاهلي، أي أن فهمنا للأدب الجاهلي كله شعراً وخطابة لا يعني أننا
فهمنا التنزيل الحكيم. إلا أننا نلاحظ أن التنزيل نفسه، أعطانا الاتجاهات التي
يمكن للسان العربي أن يتطور في هديها، ومنها الاتجاه من الأصعب إلى الأسهل.
من هذه الزاوية، فنحن نرى أن سيبويه
لم يضع قواعد اللغة العربية، كما يتوهم البعض، بل قام بمجرد توصيف العربية، كما
كانت في زمانه، وقبل زمانه. أي أنه قام بعملية جرد إحصائي لمخزون اللغة العربية
المتراكم حتى عصره، ثم قام بتبويب وضم وتجميع المواضيع المتشابهة بعضها مع بعض،
فخلص بعد ذلك كله إلى قواعد يندرج تحتها (معظم) الكلام العربي، وترك الأخذ بما لم
يندرج، معتبراً أنه من الشواذ، أو من الغريب.
ولما كان التنزيل الحكيم، على رأس
كلام العرب، الذي تم وضع القواعد في هديه، فقد ظهر معظمه تحت هذا التقعيد، وظل
بعضه خارجه، وبقيت هناك حالات شاذة، كتب فيها أهل التعقيد الكثير من المجلدات
لتبريرها، لكنها بقيت عندهم في المحصلة شاذة، أي شاذة عن قواعد سيبويه!!
وانظر في قوله تعالى:
– {هذان
خصمان اختصموا في ربهم فالذين كفروا قطعت لهم ثياب من نارٍ يُصب من فوق رؤوسهم
الحميم} الحج 19.
– {وهل أتاك
نبؤ الخصم إذ تسوروا المحراب * إذ دخلوا على داوود ففزع منهم قالوا لا تخف خصمان
بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط واهدنا إلى سواء الصراط * إن هذا
أخي له تسع وتسعون نعجةً ولي نعجةٌ واحدةٌ فقال اكفلنيها وعزني في الخطاب}
ص21، 22، 23.
– {ولقد
أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحاً أن اعبدوا الله فإذا هم فريقان يختصمون}
النمل 45.
نجد أن الضمائر بصيغة المثنى (خصمان –
خصمان – فريقان) والأفعال بصيغة الجمع (اختصموا – ربهم – الذين – كفروا – لهم –
رؤوسهم – تسوروا – دخلوا – منهم – قالوا – بيننا – واهدنا) وفي هذا كله خلاف
لتعقيد سيبويه.
لكن آيات التنزيل، كما هو واضح
أمامنا، تدلنا على أننا نستطيع:
1 – حذف صيغة المثنى في الأفعال،
وتبقى صيغة المفرد والجمع.
2 – لإبقاء على صيغة المثنى في
الأسماء، وأسماء الإشارة، وجواز الإبقاء عليها في الأسماء الموصولة.
3 – الغاء صيغة المثنى من الضمائر،
كما في قوله: {ربهم} عوضاً من ربهما.
واسمع معي قوله تعالى:
– {لكن
الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك
والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر، أولئك سنؤتيهم
أجراً عظيماً} النساء 162.
– {يا أيها
النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئاً .. }
الممتحنة 12.
ونحن في آية النساء أمام واو عطف تعطف
المنصوب(6)، {المقيمين الصلاة} على
المرفوع {الراسخون}. ونحن في آية الممتحنة أمام
فعل ماض {جاءك} عائده مفرد مذكر غائب، وأمام فاعل
للفعل {المؤمنات} جمع مؤنث سالم. وهذا كله مرة
أخرى مخالف لتعقيد سيبويه، ولو جاء به أحد طلاب الثانوية في امتحان اللغة العربية،
لنال عليه صفراً ثلاثياً من الدرجة الأولى.
ونلاحظ أخيراً أن صيغة المثنى في
اللغة العربية، موجودة في المخاطب والغائب، (أنتما، هما)، لكنها غير موجودة في
المتكلم، فإلى أي مدى نستطيع أن نجعل من هذه الملاحظات أساساً لتطوير يسهّل
العربية على العرب، وتقعيد العربية عليهم، ضمن إطار التنزيل الحكيم، وأن نعبرها
إشارات خضراء، أقامتها لنا الله سبحانه في تنزيله، دليلاً وهداية ورشداً، نحو
تطوير النحو العربي ..
إننا إذ نأمل من أهل الذكر، وهم هنا
علماء اللغة واللسانيات، أن يتدبروا قولنا هذا، بعيداً عن قدسية المأثور من الأطر
القواعدية، وبعيداً عن العبادة الآبائية، وعن التعصب الذميم لما وجدنا عليه
آباءنا، نرجو ألا يكون ردهم في المحصلة، إقفال الطريق على من يود أن يتجاوز
سيبويه، دون أن يتجاوز التنزيل الحكيم، وألا يقولوا أن الأصل هو قواعد سيبويه، وما
نراه في التنزيل مجرد حالات شاذة، علماً بأن عدد هذه الحالات الشاذة في التنزيل
الحكيم غير قليل!! وبهذا نكون قد وضعنا أيدينا على أحد معاني {ما فرطنا في الكتاب من شيء} وعلى أن الله أعطانا خط
تطور اللغة العربية مع مصداقية قوله تعالى: {إنا نحن
نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وعلى مصداقية أن قانون التطور يسري على كل
شيء بما فيه اللسان العربي المبين الذي صيغ به التنزيل الحكيم. وأن التنزيل الحكيم
حوى مراحل تطور اللسان العربي السابقة وأعطى خطوطاً لمراحل تطوره اللاحقة والله
الموفق.
(1) انظر سورة الأعراف الآيات
(59، 60، 61، 65، 66، 72، 75، 79، 80، 85).
(2) لمزيد من الإفاضة، راجع
“الخصائص” لابن جني. و “العبقرية العربية في لسانها” لزكي الأرسوزي / المجموعة
الكاملة المجلد الأول، ص71 – 82، مطابع الإدارة السياسية 1972.
(3) ذكره القاضي عياض في
“الشفاء” وروى نحوه الطبراني مرفوعاً.
(4) راجع كتابنا “الكتاب
والقرآن قراءة معاصرة”، ص103 – 111.
(5) انظر “العرب النصارى”،
حسين العودات، دار الأهالي.
(6) أوجد الإمام السيوطي في
الدر المنثور “تخريجه” لها، فقال: هي منصوبة على المدح .. ونحن نقول: لا محل لهذه
التخريجة فالمؤمنون في الآية أجدر من مقيمي الصلاة بالمدح.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire