جدل الانسان
– ماهو جدل الانسان ؟
لقد كان كتاب ” أسس الاشتراكية العربية ”
كله مخصصاً لطرح ” جدل الانسان ” كمنهج واختبار صحته في عديد من القضايا : الحرية
الديموقرطية ، حركة التاريخ ، الاشتراكية ، الأمة ، القومية ، الوحدة ، التنظيم ،
الأخلاق … الخ . وكان من بين وسائل اختباره الاحتكام اليه ثم الى ” المادية
الجدلية ” في فهم بعض تلك القضايا لنعرف ايهما أصدق مع حصيلة الممارسة . ولسنا
نستطيع أن نعيد هنا ما هو مطروح هناك . إنما نقدم منهج ” جدل الانسان ” لنعرف كيف
نستخدمه حتى نستخدمه بعد أن نعرف في صياغة ” نظرية ” تغيير الواقع العربي . وفيما
يلي نقدمه على الوجه الذي يسهل الرجوع اليه فيما بعد
.
” جدل الانسان ” منهج لتغيير الواقع . فلا هو مقولة فلسفية فيما وراء الواقع ولا هو ” نظرية ” تحدد منطلق تغيير الواقع وغايته واسلوبه . إنما هو مجموعة من القواعد والقوانين الموجودة في الواقع الموضوعي . إذ نعرفها فنلتزمها نستطيع أن نغيّر الواقع . وليس ” جدل الانسان ” ابداعاً غير مسبوق بل هو المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة . ولكن ليس تكراراً لما سبقه لأنه يختلف عنه فيما صححه . وعلى هذا فإن منهج ” جدل الانسان ” يتضمن
(1) أصلاً مسبوقاً
(2) وإضافة من عنده
(3) تصحح قانون الجدل
(4) وتحل مشكلة المنهج
(5) وتنتهي الى صيغة جديدة للمنهج الجدلي .
” جدل الانسان ” منهج لتغيير الواقع . فلا هو مقولة فلسفية فيما وراء الواقع ولا هو ” نظرية ” تحدد منطلق تغيير الواقع وغايته واسلوبه . إنما هو مجموعة من القواعد والقوانين الموجودة في الواقع الموضوعي . إذ نعرفها فنلتزمها نستطيع أن نغيّر الواقع . وليس ” جدل الانسان ” ابداعاً غير مسبوق بل هو المنهج الجدلي بعد ان صححته التجربة . ولكن ليس تكراراً لما سبقه لأنه يختلف عنه فيما صححه . وعلى هذا فإن منهج ” جدل الانسان ” يتضمن
(1) أصلاً مسبوقاً
(2) وإضافة من عنده
(3) تصحح قانون الجدل
(4) وتحل مشكلة المنهج
(5) وتنتهي الى صيغة جديدة للمنهج الجدلي .
أولاً – الأصل
:
1- يقوم ” جدل الانسان ” على
ذات القاعدة التي قامت عليها مناهج كثيرة في التطور ، ونعني بها : إن كل الاشياء
والظواهر منضبطة حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين حتمية معروفة أو تمكن
معرفتها . ويذهب ” جدل الانسان ” ، مع بعض تلك المناهج وخلافاً لبعضها الآخر ، إلى
ان الانسان نفسه لا تفلت حركته من هذا الانضباط الشامل لحركة كل الاشياء والظواهر .
ومنه نتعلم :
إنه مادام ” انضباط الاشياء والظواهر في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً لإمكان تغيير الواقع ” ( فقرة 2 ) فإن تغيير واقعنا مهما تكن صعوبته هو أمر ممكن . وبهذا تسقط مبررات اليأس والسلبية ولا يبقى إلا ان نعرف كيف نحقق هذا ” الممكن ” . ويرشدنا ” جدل الانسان ” إلى الخطوة الأولى : معرفة الواقع الذي نريد أن نغيّره ، كما هو ، معرفة صحيحة عن طريق البحث العلمي فيه لاكتشاف القوانين التي تضبط حركته ، وشروط فعاليتها ، وكيفية التحكم في تلك الشروط لنعرف كيف نحقق الممكن الذي نريد . بهذا يفرض علينا ” جدل الانسان ” أن نتحرر من المثالية التي تخضع حركتنا لتصورات فكرية مجردة غير قابلة للتحقيق ثم أن نبحث وندرس ونتعلم حتى نعرف واقعنا وكيف نغيّره . وينذرنا ” جدل الانسان ” منذ البداية بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع لتحقيق أحلام غير قابلة للتحقق لأنها لا تتفق مع حتمية القوانين التي تضبط حركة الواقع الذي تريد أن تغيّره . أو أية حركة تستهدف من تغيير الواقع ما هو ممكن ولكنها تفتقر إلى ” العلم ” بما تريد أن تغيره . تلك مثالية والمثالية فاشلة .
2- ويتضمن ” جدل الانسان ” ويأخذ عما سبقه ما عرفناه عند الحديث عن الجدلية ( فقرة 9 ) من ان كل الأشياء والظواهر
(1) يؤثر بعضها في بعض
(2) خلال حركتها التي لا تتوقف
(3) فتلحقها تغيرات مستمرة .
ويتفق مع بعض المناهج السابقة في أن تلك القوانين الكلية الثلاثة تضبط حركة كل الاشياء والظواهر بما فيها الانسان نفسه .
ومنه نتعلم :
أن ندرس ونتابع ونستوعب ونستفيد من الشروح الجديدة التي قدمها ، ويقدمها ، الفكر الانساني لهذه القوانين الثلاثة فنعرف – أولاً – اننا عندما نحاول اكتشاف واقعنا لنغيّره لا يكفي ان نعرفه كما هو وحده ومعزولاً عن غيره . بل لابد لنا أن نكتشف معه ما يتأثر به وما يؤثر فيه من خارجه . ثم عندما نحاول تغييره أن ندخل في حسابات التخطيط لتغييره ، وفي تقدير القوى اللازمة لهذا التغيير ، وفي وسائل التغيير ذاتها ، ذلك التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره فنعد مقدماً ونستعد لما تولده حركة التغيير – حتماً – من أفعال تؤثر في غير واقعنا ومن ردود أفعال تؤثر في واقعنا . ونحن لا نستطيع ان نقدر هذا التأثير المتبادل تقديراً صحيحاً إذا اكتفينا بما نعرفه في زمان معين ولو كان صحيحاً . ذلك لأننا يجب ان نعرف – ثانياً – إن واقعنا وغيره في حركة دائمة فلا نقيم خطط تغيير واقعنا كما لو كان ثابتاً . إن الانتباه إلى حتمية قانون الحركة يحتاج منا إلى تدريب شاق . لأننا أنفسنا نتحرك مع الواقع فيصعب على كثير منا أن يدرك الحركة ذاتها فيتصور أن الواقع حاضر . إنه حاضر معنا وبالنسبة الينا لأننا نصاحبه في حركته . ولكنه ونحن معه في حركة دائمة من الماضي الى المستقبل . إننا نتغلب على هذه الصعوبة إذا اعتدنا ان نضيف إلى قائمة الاسئلة التي نطرحها لنعرف من اجابتها ما هو الواقع وكيف نغيّره ، السؤال : متى ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في الزمان . ثم السؤال : أين ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في المكان . وندرب أنفسنا على ألا نفهم شيئاً أو أحداً ، أو نقيّمه ، أو نريده ، أو نريد له ، إلا في حديه من المكان والزمان معاً وخلال حركته المستمرة بين هذين الحدين . فنفهمه في حالة صيرورة مابين أعمق ماض نذكره إلى اقصى مستقبل نتصوره . عندئذ نفهمه فهماً صحيحاً ونكتسب ملكة الفهم الصحيح للواقع في حركته التي لا تتوقف . وسيسهل علينا أن نستفيد من قانون الحركة الحتمي إذا عرفنا – ثالثاً – أن التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره خلال الحركة المستمرة يصيب كل منهما بتغييرات مستمرة . قد تكون تلك التغيّرات طفيفة أو خفية فلا ندركها ، وقد تكون عنيفة أو مفاجئة فندركها ، لا يهم . المهم ان ننتبه إلى أن الواقع قد تغيّر – حتماً – في ماضيه ويتغير – حتماً – في مستقبله ، خلال حركته المستمرة من الماضي إلى المستقبل وبحكم قانون التأثير المتبادل الحتمي . فلا نقيم خطط تغيير الواقع إلا بعد أن نعرف من حركته في الماضي ( تاريخه ) كيف تغيّر حتى أصبح كما نعرفه . ونعد مقدماً للتغيرات التي ستلحقه حتماً في مستقبله ونحن نخطط لتطويره إلى المستقبل الذي نريد . وعندما ندرك ان هذه التغيرات تتم خلال الحركة المستمرة ونربط بين فعالية القوانين ( الحركة والتغير ) وتأثيرهما المتبادل ، نتعلم كيف أن التاريخ ليس ركاماً من الأحداث نعرفها لنرضي فضولنا بل خبرة متراكمة نتعلمها لنبني مستقبلنا ، وان خططنا الشاملة المكان ليست مجرد تحديد لمواقع نضالنا بل مواجهة لمعطيات عينية لا تمكن مواجهتها بنجاح بعيداً عن مكانها ، وإن خططنا الممتدة في الزمان ليست مجرد تقسيم لجهودنا على مراحل او توزيعاً للجهود على الاجيال المتعاقبة بل اختياراً واعياً وواقعياً وعلمياً معاً للاهداف والقوى والاساليب المرحلية المتغايرة تبعاً لتغيّر الواقع الذي تواجهه في زمانه . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع جاهلة الرابطة الشاملة لواقعنا وغيره والتي تحتم أن يكون واقعنا مؤثراً في غيره متأثر به ، أو متجاهلة حركة الواقع التي لا تتوقف فتفضل تاريخ الواقع عن مصيره ، أو متجمدة عند ذات الأهداف والقوى والاساليب التي كانت مناسبة لمرحلة فتجاوزها الواقع المتغيّر أبداً فلم تعد مناسبة .
3- في نطاق هذه القوانين الكلية الثلاثة ( التأثير المتبادل والحركة والتغير ) تخضع حركة كل شيء لقوانينه النوعية الخاصة .
ومنه نتعلم :
أن معرفتنا ، فالتزامنا ، النظر إلى الواقع وفهمه في إطار العلاقة الشاملة التي تجمع بينه وبين غيره وتحتم أن يكون مؤثراً متأثراً متحركاً متغيراً أبداً ليست إلا خطوة أولى . أو أنها خطوة أولى لازمة ولكن غير كافية لنعرف كيف نغير واقعنا وننجح في تغييره . فهذا الواقع الذي نتحدث عنه كما لو كان وجوداً بسيطاً هو وجود مركب من ذرات مختلفة التركيب تتجمع في عناصر متميزة الخصائص تقسم الى انواع متعددة ز فمنه الجماد والنبات والحيوان والانسان . ومنه الطاقة ومنه المادة . وإلى كل عنصر ، وكل نوع وكل جنس ينتمي ما لاحصر له من الجزئيات . ولكل ذرة ، أو عنصر أو نوع … الخ ” علم ” متخصص في اكتشاف ماهيته وقوانين حركته ولا يفيدنا – هنا – ان نعدد تلك العلوم المتخصصة . إنما يفيدنا ان نعلم – من جدل الانسان – أن ” العلم ” بمعناه الفني المتخصص ، أي معرفة مفردات الواقع من أول الذرات الى آخر البشر ، واكتشاف خصائصها وقوانين حركتها وعلاقاتها المتبادلة شرط جوهري لامكان تغيير الواقع لا تغني عنه معرفة انها جميعاً يؤثر بعضها في بعض خلال حركتها التي لا تتوقف فتصيبها تغيرات مستمرة . بل إن هذه المعرفة العلمية بالانواع وقوانينها الخاصة هي التي تمكننا من الاستفادة بالقوانين الكلية الثلاثة التي عرفناها . إذ ان القانون النوعي الذي يضبط حركة كل شيء على حدة هو الذي يحدد لنا ” شرط ” فعالية القانون الكلي فيه . فنعرف منه كيف يحدث التأثير المتبادل بينه وبين غيره وكيف تتم حركته واتجاهها وكيف يتغير ومضمون ذلك التغير . وبهذه المعرفة نستطيع أن نتحكم في الأثر ومداه وفي الحركة واتجاهها وفي التغير ومضمونه . أي نستطيع أن نستخدم فعالية القوانين الكلية في إحداث التغييرات التي نريدها في الواقع العيني المركب من أنواع مختلفة بقدر ما يكون علمنا بها صحيحاً . بدون هذا ” العلم ” المتخصص في الأنواع ، بدون التسلح بالمعرفة الصحيحة والوافية في الفيزياء والكيمياء والاحياء ، بدون علم الجيولوجيا والجغرافيا والهندسة والطب ، بدون هذه العلوم التي يسمونها ” تكنولوجيا ” بدون علم الاجتماع ، بدون علم الاقتصاد ، بدون علم القانون ، … الخ لا نعرف كيف نغيّر واقعنا فلا ننجح في تغييره حتى لو كنا قد عرفنا أن تغييره ممكن . وكما أن المعرفة الجزئية المتخصصة بمفردات الواقع وقوانينها النوعية لا تكفي لمعرفة كيف يتغيّر الواقع الشامل فيعجز العلماء المقصورة معرفتهم على مجالات تخصصهم في تغييره ، كذلك لا يستطيع أكثر الناس ثورية تغيير واقعهم إلى ما يريدون بدون علماء متخصصين . ولا يستطيع أحد أن يغيّر من الواقع شيئاً إلا بقدر ما يعلم وفي مجال علمه لا أكثر ولا أبعد . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تتوقع تغيير الواقع الى ما تريد اتكالاً على جهود العلماء المتخصصين في مجالاتهم وتستغني بالتقدم الجزئي عن التقدم الشامل ، أو ، اتكالاً على إرادتها التغيير بدون ” علم ” فتستغني بالهدم عن البناء وبالساسة عن العلماء .
وبعد ،
فتلك نذر ثلاثة وعاها غيرنا من قبل فأصابوا ما كانوا يستهدفون بقدر ما وعوها . ينذرنا بها ” جدل الانسان ” مجدداً ، تأكيداً لاتصال المعرفة الانسانية وتحذيراً من أن نهدر – جهلاً أو تعصباً – خبرة السابقين فلا نزيد عن ان نكررالاخطاء التي علمتهم لمجرد الرغبة الطفولية أن تكون لنا ” نظرية ” خاصة .
غير ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا نذراً مضافة .
ومنه نتعلم :
إنه مادام ” انضباط الاشياء والظواهر في حركتها من الماضي الى المستقبل بقوانين أو نواميس حتمية شرطاً أولياً لإمكان تغيير الواقع ” ( فقرة 2 ) فإن تغيير واقعنا مهما تكن صعوبته هو أمر ممكن . وبهذا تسقط مبررات اليأس والسلبية ولا يبقى إلا ان نعرف كيف نحقق هذا ” الممكن ” . ويرشدنا ” جدل الانسان ” إلى الخطوة الأولى : معرفة الواقع الذي نريد أن نغيّره ، كما هو ، معرفة صحيحة عن طريق البحث العلمي فيه لاكتشاف القوانين التي تضبط حركته ، وشروط فعاليتها ، وكيفية التحكم في تلك الشروط لنعرف كيف نحقق الممكن الذي نريد . بهذا يفرض علينا ” جدل الانسان ” أن نتحرر من المثالية التي تخضع حركتنا لتصورات فكرية مجردة غير قابلة للتحقيق ثم أن نبحث وندرس ونتعلم حتى نعرف واقعنا وكيف نغيّره . وينذرنا ” جدل الانسان ” منذ البداية بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع لتحقيق أحلام غير قابلة للتحقق لأنها لا تتفق مع حتمية القوانين التي تضبط حركة الواقع الذي تريد أن تغيّره . أو أية حركة تستهدف من تغيير الواقع ما هو ممكن ولكنها تفتقر إلى ” العلم ” بما تريد أن تغيره . تلك مثالية والمثالية فاشلة .
2- ويتضمن ” جدل الانسان ” ويأخذ عما سبقه ما عرفناه عند الحديث عن الجدلية ( فقرة 9 ) من ان كل الأشياء والظواهر
(1) يؤثر بعضها في بعض
(2) خلال حركتها التي لا تتوقف
(3) فتلحقها تغيرات مستمرة .
ويتفق مع بعض المناهج السابقة في أن تلك القوانين الكلية الثلاثة تضبط حركة كل الاشياء والظواهر بما فيها الانسان نفسه .
ومنه نتعلم :
أن ندرس ونتابع ونستوعب ونستفيد من الشروح الجديدة التي قدمها ، ويقدمها ، الفكر الانساني لهذه القوانين الثلاثة فنعرف – أولاً – اننا عندما نحاول اكتشاف واقعنا لنغيّره لا يكفي ان نعرفه كما هو وحده ومعزولاً عن غيره . بل لابد لنا أن نكتشف معه ما يتأثر به وما يؤثر فيه من خارجه . ثم عندما نحاول تغييره أن ندخل في حسابات التخطيط لتغييره ، وفي تقدير القوى اللازمة لهذا التغيير ، وفي وسائل التغيير ذاتها ، ذلك التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره فنعد مقدماً ونستعد لما تولده حركة التغيير – حتماً – من أفعال تؤثر في غير واقعنا ومن ردود أفعال تؤثر في واقعنا . ونحن لا نستطيع ان نقدر هذا التأثير المتبادل تقديراً صحيحاً إذا اكتفينا بما نعرفه في زمان معين ولو كان صحيحاً . ذلك لأننا يجب ان نعرف – ثانياً – إن واقعنا وغيره في حركة دائمة فلا نقيم خطط تغيير واقعنا كما لو كان ثابتاً . إن الانتباه إلى حتمية قانون الحركة يحتاج منا إلى تدريب شاق . لأننا أنفسنا نتحرك مع الواقع فيصعب على كثير منا أن يدرك الحركة ذاتها فيتصور أن الواقع حاضر . إنه حاضر معنا وبالنسبة الينا لأننا نصاحبه في حركته . ولكنه ونحن معه في حركة دائمة من الماضي الى المستقبل . إننا نتغلب على هذه الصعوبة إذا اعتدنا ان نضيف إلى قائمة الاسئلة التي نطرحها لنعرف من اجابتها ما هو الواقع وكيف نغيّره ، السؤال : متى ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في الزمان . ثم السؤال : أين ؟ … فنحدد الواقع وخطة تغييره في المكان . وندرب أنفسنا على ألا نفهم شيئاً أو أحداً ، أو نقيّمه ، أو نريده ، أو نريد له ، إلا في حديه من المكان والزمان معاً وخلال حركته المستمرة بين هذين الحدين . فنفهمه في حالة صيرورة مابين أعمق ماض نذكره إلى اقصى مستقبل نتصوره . عندئذ نفهمه فهماً صحيحاً ونكتسب ملكة الفهم الصحيح للواقع في حركته التي لا تتوقف . وسيسهل علينا أن نستفيد من قانون الحركة الحتمي إذا عرفنا – ثالثاً – أن التأثير المتبادل بين واقعنا وغيره خلال الحركة المستمرة يصيب كل منهما بتغييرات مستمرة . قد تكون تلك التغيّرات طفيفة أو خفية فلا ندركها ، وقد تكون عنيفة أو مفاجئة فندركها ، لا يهم . المهم ان ننتبه إلى أن الواقع قد تغيّر – حتماً – في ماضيه ويتغير – حتماً – في مستقبله ، خلال حركته المستمرة من الماضي إلى المستقبل وبحكم قانون التأثير المتبادل الحتمي . فلا نقيم خطط تغيير الواقع إلا بعد أن نعرف من حركته في الماضي ( تاريخه ) كيف تغيّر حتى أصبح كما نعرفه . ونعد مقدماً للتغيرات التي ستلحقه حتماً في مستقبله ونحن نخطط لتطويره إلى المستقبل الذي نريد . وعندما ندرك ان هذه التغيرات تتم خلال الحركة المستمرة ونربط بين فعالية القوانين ( الحركة والتغير ) وتأثيرهما المتبادل ، نتعلم كيف أن التاريخ ليس ركاماً من الأحداث نعرفها لنرضي فضولنا بل خبرة متراكمة نتعلمها لنبني مستقبلنا ، وان خططنا الشاملة المكان ليست مجرد تحديد لمواقع نضالنا بل مواجهة لمعطيات عينية لا تمكن مواجهتها بنجاح بعيداً عن مكانها ، وإن خططنا الممتدة في الزمان ليست مجرد تقسيم لجهودنا على مراحل او توزيعاً للجهود على الاجيال المتعاقبة بل اختياراً واعياً وواقعياً وعلمياً معاً للاهداف والقوى والاساليب المرحلية المتغايرة تبعاً لتغيّر الواقع الذي تواجهه في زمانه . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تستهدف تغيير الواقع جاهلة الرابطة الشاملة لواقعنا وغيره والتي تحتم أن يكون واقعنا مؤثراً في غيره متأثر به ، أو متجاهلة حركة الواقع التي لا تتوقف فتفضل تاريخ الواقع عن مصيره ، أو متجمدة عند ذات الأهداف والقوى والاساليب التي كانت مناسبة لمرحلة فتجاوزها الواقع المتغيّر أبداً فلم تعد مناسبة .
3- في نطاق هذه القوانين الكلية الثلاثة ( التأثير المتبادل والحركة والتغير ) تخضع حركة كل شيء لقوانينه النوعية الخاصة .
ومنه نتعلم :
أن معرفتنا ، فالتزامنا ، النظر إلى الواقع وفهمه في إطار العلاقة الشاملة التي تجمع بينه وبين غيره وتحتم أن يكون مؤثراً متأثراً متحركاً متغيراً أبداً ليست إلا خطوة أولى . أو أنها خطوة أولى لازمة ولكن غير كافية لنعرف كيف نغير واقعنا وننجح في تغييره . فهذا الواقع الذي نتحدث عنه كما لو كان وجوداً بسيطاً هو وجود مركب من ذرات مختلفة التركيب تتجمع في عناصر متميزة الخصائص تقسم الى انواع متعددة ز فمنه الجماد والنبات والحيوان والانسان . ومنه الطاقة ومنه المادة . وإلى كل عنصر ، وكل نوع وكل جنس ينتمي ما لاحصر له من الجزئيات . ولكل ذرة ، أو عنصر أو نوع … الخ ” علم ” متخصص في اكتشاف ماهيته وقوانين حركته ولا يفيدنا – هنا – ان نعدد تلك العلوم المتخصصة . إنما يفيدنا ان نعلم – من جدل الانسان – أن ” العلم ” بمعناه الفني المتخصص ، أي معرفة مفردات الواقع من أول الذرات الى آخر البشر ، واكتشاف خصائصها وقوانين حركتها وعلاقاتها المتبادلة شرط جوهري لامكان تغيير الواقع لا تغني عنه معرفة انها جميعاً يؤثر بعضها في بعض خلال حركتها التي لا تتوقف فتصيبها تغيرات مستمرة . بل إن هذه المعرفة العلمية بالانواع وقوانينها الخاصة هي التي تمكننا من الاستفادة بالقوانين الكلية الثلاثة التي عرفناها . إذ ان القانون النوعي الذي يضبط حركة كل شيء على حدة هو الذي يحدد لنا ” شرط ” فعالية القانون الكلي فيه . فنعرف منه كيف يحدث التأثير المتبادل بينه وبين غيره وكيف تتم حركته واتجاهها وكيف يتغير ومضمون ذلك التغير . وبهذه المعرفة نستطيع أن نتحكم في الأثر ومداه وفي الحركة واتجاهها وفي التغير ومضمونه . أي نستطيع أن نستخدم فعالية القوانين الكلية في إحداث التغييرات التي نريدها في الواقع العيني المركب من أنواع مختلفة بقدر ما يكون علمنا بها صحيحاً . بدون هذا ” العلم ” المتخصص في الأنواع ، بدون التسلح بالمعرفة الصحيحة والوافية في الفيزياء والكيمياء والاحياء ، بدون علم الجيولوجيا والجغرافيا والهندسة والطب ، بدون هذه العلوم التي يسمونها ” تكنولوجيا ” بدون علم الاجتماع ، بدون علم الاقتصاد ، بدون علم القانون ، … الخ لا نعرف كيف نغيّر واقعنا فلا ننجح في تغييره حتى لو كنا قد عرفنا أن تغييره ممكن . وكما أن المعرفة الجزئية المتخصصة بمفردات الواقع وقوانينها النوعية لا تكفي لمعرفة كيف يتغيّر الواقع الشامل فيعجز العلماء المقصورة معرفتهم على مجالات تخصصهم في تغييره ، كذلك لا يستطيع أكثر الناس ثورية تغيير واقعهم إلى ما يريدون بدون علماء متخصصين . ولا يستطيع أحد أن يغيّر من الواقع شيئاً إلا بقدر ما يعلم وفي مجال علمه لا أكثر ولا أبعد . وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تتوقع تغيير الواقع الى ما تريد اتكالاً على جهود العلماء المتخصصين في مجالاتهم وتستغني بالتقدم الجزئي عن التقدم الشامل ، أو ، اتكالاً على إرادتها التغيير بدون ” علم ” فتستغني بالهدم عن البناء وبالساسة عن العلماء .
وبعد ،
فتلك نذر ثلاثة وعاها غيرنا من قبل فأصابوا ما كانوا يستهدفون بقدر ما وعوها . ينذرنا بها ” جدل الانسان ” مجدداً ، تأكيداً لاتصال المعرفة الانسانية وتحذيراً من أن نهدر – جهلاً أو تعصباً – خبرة السابقين فلا نزيد عن ان نكررالاخطاء التي علمتهم لمجرد الرغبة الطفولية أن تكون لنا ” نظرية ” خاصة .
غير ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا نذراً مضافة .
ثانياً – الاضافة
:
4- كان المنهج الجدلي كما
عرفناه ( فقرة 9 ) يتضمن : ” (4) ان هذه التغيرات المستمرة هي تطور نام يتم خلال
الصراع بين المتناقضات الكامنة في الشيء ذاته . ” وكان ذلك عند أصحابه قانوناً
كلياً ” يضبط حركة الاشياء والظواهر . في هذا يختلف ” جدل الانسان ” فيفترق عن
المناهج التي تجمعه بها اصول واحدة ليقرر أنه : في نطاق القوانين الكلية الثلاثة
الأولى ” يتحول ” كل شيء طبقاً لقانونه النوعي وينفرد الانسان بالجدل قانوناً
نوعياً ” لتطويره ” .
ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا مفردات ذات دلالات مقصودة ، فلا ننسبن اليها دلالات أخر ولا نسلبنها دلالتها ” التغيرات ” التي تصيب الاشياء والظواهر تتضمن نوعين : أولهما ” التحول ” وهو ما يصيب كل الاشياء والظواهر من تغيرات تلقائية بفعل التأثير المتبادل فيما بينها خلال حركتها التي لا تتوقف . وثانيهما ” التطور ” وهو إضافة الاشياء والظواهر ما كان لها ان تتحقق تلقائياً بفعل التاثير المتبادل بين الاشياء والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف إلا بتدخل ” واع ” بفعالية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ” قادر ” على استخدامها لتغيير الاشياء والظواهر الى ما ” يريد ” .
” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها وأنواعها من أول الذرات إلى آخر المجرات . إذ تخضع حركتها لقوانين ميكانيكية أو كوانطية معروفة او تمكن معرفتها ويحكمها قانون المادة الحديدي ( المادة لاتفنى ولا تتجدد ) . فكما يتحول الماء الى بخار يتحول البخار الى ماء بدون اضافة او رقي . وكما تتحول المادة الى طاقة تتحول الطاقة الى مادة بدون اضافة او رقي . وهي لا تتحول إذ تتحول إلا بمؤثر من خارجها . لأن المادة خالية من التناقض الداخلي والصراع . فهي لا تتطور جدلياً إلى ما هو ارقى بل تتاثر خلال حركتها فتتحول طبقاً لقوانينها النوعية من حالة الى حالة وتعود سيرتها الاولى بدون ان ترقى .
أما ” التطور ” فلا يصيب إلا الظواهر الانسانية حيث تخضع حركة الانسان وحده لقانون ” الجدل ” الذي سنعرفه فيما بعد ، بالاضافة الى خضوعه للقوانين الكلية الثلاثة الأولى فيولد وينمو ويموت بدون اضافة شأنه شأن اية مادة أخرى . ولكنه حيث يكون انساناً واعياً يضبط حركته قانون الجدل حتماً . طبقاً له يؤثر ويتاثر ولا يستطيع ان يؤثر ويتاثر إلا طبقاً له وهكذا يكون قانون الجدل قانوناً نوعياً خاصاً بحركة الانسان وحده ” كوحدة نوعية من الذكاء والمادة ” به يطور واقعه فيضيف اليه ما لم يكن ليتحقق في الواقع إلا لأنه أراده وعمل على تحقيقه .
فلا نقعن في الخلط الذي ورثناه من نظرية داروين عن ” التطور ” في عالم الاحياء . لقد كان المؤشر لانتباه داروين ملاحظته الفلاحين يقومون بتهجين حيواناتهم ليستولدوها سلالات جديدة أفضل . جديدة بمعنى انها ما كانت لتولد بدون تهجين . وأفضل بمعنى أنها أكثر مناسبة لما يريد الفلاحون . كان أولئك الناس يطورون الواقع طبقاً لقانونهم ( الجدل ) بالتحكم في قوانين الحيوان ( الوراثة ) . فلما لاحظ داروين خلال رحلاته اختلاف الانواع في عالم الحيوان عمم ملحوظته الأولى فظن ان ثمة انتخاباً بين الانواع تختاره الطبيعة . والواقع انه لم يلاحظ إلا كيف تؤثر الأنواع في الطبيعة وتتأثر بها فتتغير خصائصها بدون انتخاب أو اختيار . انها تتلاءم مع بيئتها ” سلبياً ” فتتغير ولا تغيّر بيئتها ” ايجابياً ” لتلائمهما كما يفعل الانسان . أما ما ظنه صلة بين الانواع ولم يعرف كيف تحدث فذلك ما عرفه مندل الذي كان معاصراً لداروين وإن لم يكن – حينئذ – معروفاً . ولم يعرف إلا عندما اعترف العالم والعلم – بعد ذلك بوقت غير قصير – بما كان قد اكتشفه من قوانين الوراثة . ولم تعد الدارونية – او الدارونية الحديثة كما يسمونها – إلا محصلة دراسة فعالية قوانين الوراثة في الأنواع وفيما بينها في نطاق قوانين التأثر المتبادل والحركة والتغير التي تحكم العلاقة بين الانواع وبيئتها . وقوانين الوراثة – كما يعرف الاخصائيون – ذات دلالة مذهلة على اتساق قوانين الطبيعة وخلوها من التناقض . وهكذانعرف ان الطبيعة ، حتى في عالم الأحياء ، تتحول ولا تتطور . ما تزال ” الاميبا ” والدودة معاصرتين في الطبيعة للقرد والانسان . ولا يمكن القول – إلا مجازاً – بأن القرد ” أرقى ” من الدودة مادام كل منهما ما يزال على ذات البعد من الانسان الذي ينفرد بالمقدرة على ” الفعل الارادي ” فيخلق ما لم يكن موجوداً على ما يريد . ذلك لأن ” الرقي ” كما نستعمله في ” جدل الانسان ” تعبير عن ثمرة هذا الخلق الارادي .
ومنه نتعلم :
أعظم دروس الجدل على الاطلاق : أولوية الانسان .
أولوية الانسان ، لا بأي مفهوم ميتافيزيقي أو مثالي أو اخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي : يتوقف التطور الاجتماعي من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح أو الفشل على العنصر البشري في أي مجتمع . كل ما عداه من قوى الطبيعة وموادها امكانيات متاحة ولكن البشر وحدهم هم القادرون على استخدام تلك القوى والمواد في صنع التطور الاجتماعي وعلى البشر وحدهم يتوقف ما يكون من أمر تلك القوى والمواد . فحتم على الناس ألا يتغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ، أو ، كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي . نستطيع أن نترجمه إلى مباديء استراتيجية فنقول : لا تحرر بدون أحرار ، لا وحدة بدون وحدويين ، لا اشتراكية بدون اشتراكيين . ونستطيع ان نترجمه الى تخطيط فنقول أن وجود ” الكوادر” الثورية يجب ان يسبق قيام ” التنظيم الثوري ” وإن قيام “التنظيم الثوري” يجب أن يسبق الثورة . ونستطيع أن نترجمه الى برامج تنفيذية فنقول : إن تدريب العاملين على صناعة معينة يجب ان يسبق بدء تشغيل مصانع انتاجها ، وأن حل مشكلات العاملين يجب ان يسبق حل مشكلات العمل . ونستطيع أن نترجمه إلى مواقف فنقول : ان السلبية موقف عقيم ، وان الاستهانة بالناس خطأ ، وان فرض الوصاية عليهم خطأ فاحش ، أما الاستبداد فيهم فتخريب لحركة التطور الاجتماعي . ونستطيع ان نترجمه الى تقييم فنقول : إن الجبناء والمنافقين والمترددين حتى في حياتهم الخاصة لا يمكن ان يصلوا الى التطور الثوري . وإن المستبدين حتى في منازلهم لا يمكن ان يكونوا ديموقراطيين . وان المختلسين والمرتشين حتى لو كانوا عباقرة الاقتصاد لا يصلحون لادارة مشروع اشتراكي … الخ . وكم نستطيع أن نترجم من هذا الدرس العظيم : الانسان أولاً .
وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تحاول ان تفهم الواقع بدون ان تبدأ بالانسان ، او تعد لتغييره بدون ان تبدأ بالانسان ، أو تحاول تغييره بدون ان تبدأ بالانسان او تستهدف من التغيير مستقبلاً لا يكون فيه الانسان أولاً ، جاهلة أو متجاهلة إن الانسان ، وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وان الناس ، وحدهم ، هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي .
فكيف يخلق الناس ما يريدون .
ان ” جدل الانسان ” يقدم الينا مفردات ذات دلالات مقصودة ، فلا ننسبن اليها دلالات أخر ولا نسلبنها دلالتها ” التغيرات ” التي تصيب الاشياء والظواهر تتضمن نوعين : أولهما ” التحول ” وهو ما يصيب كل الاشياء والظواهر من تغيرات تلقائية بفعل التأثير المتبادل فيما بينها خلال حركتها التي لا تتوقف . وثانيهما ” التطور ” وهو إضافة الاشياء والظواهر ما كان لها ان تتحقق تلقائياً بفعل التاثير المتبادل بين الاشياء والظواهر خلال حركتها التي لا تتوقف إلا بتدخل ” واع ” بفعالية القوانين التي تضبط حركة الاشياء والظواهر ” قادر ” على استخدامها لتغيير الاشياء والظواهر الى ما ” يريد ” .
” التحول ” يصيب المادة في كل جزئياتها وأنواعها من أول الذرات إلى آخر المجرات . إذ تخضع حركتها لقوانين ميكانيكية أو كوانطية معروفة او تمكن معرفتها ويحكمها قانون المادة الحديدي ( المادة لاتفنى ولا تتجدد ) . فكما يتحول الماء الى بخار يتحول البخار الى ماء بدون اضافة او رقي . وكما تتحول المادة الى طاقة تتحول الطاقة الى مادة بدون اضافة او رقي . وهي لا تتحول إذ تتحول إلا بمؤثر من خارجها . لأن المادة خالية من التناقض الداخلي والصراع . فهي لا تتطور جدلياً إلى ما هو ارقى بل تتاثر خلال حركتها فتتحول طبقاً لقوانينها النوعية من حالة الى حالة وتعود سيرتها الاولى بدون ان ترقى .
أما ” التطور ” فلا يصيب إلا الظواهر الانسانية حيث تخضع حركة الانسان وحده لقانون ” الجدل ” الذي سنعرفه فيما بعد ، بالاضافة الى خضوعه للقوانين الكلية الثلاثة الأولى فيولد وينمو ويموت بدون اضافة شأنه شأن اية مادة أخرى . ولكنه حيث يكون انساناً واعياً يضبط حركته قانون الجدل حتماً . طبقاً له يؤثر ويتاثر ولا يستطيع ان يؤثر ويتاثر إلا طبقاً له وهكذا يكون قانون الجدل قانوناً نوعياً خاصاً بحركة الانسان وحده ” كوحدة نوعية من الذكاء والمادة ” به يطور واقعه فيضيف اليه ما لم يكن ليتحقق في الواقع إلا لأنه أراده وعمل على تحقيقه .
فلا نقعن في الخلط الذي ورثناه من نظرية داروين عن ” التطور ” في عالم الاحياء . لقد كان المؤشر لانتباه داروين ملاحظته الفلاحين يقومون بتهجين حيواناتهم ليستولدوها سلالات جديدة أفضل . جديدة بمعنى انها ما كانت لتولد بدون تهجين . وأفضل بمعنى أنها أكثر مناسبة لما يريد الفلاحون . كان أولئك الناس يطورون الواقع طبقاً لقانونهم ( الجدل ) بالتحكم في قوانين الحيوان ( الوراثة ) . فلما لاحظ داروين خلال رحلاته اختلاف الانواع في عالم الحيوان عمم ملحوظته الأولى فظن ان ثمة انتخاباً بين الانواع تختاره الطبيعة . والواقع انه لم يلاحظ إلا كيف تؤثر الأنواع في الطبيعة وتتأثر بها فتتغير خصائصها بدون انتخاب أو اختيار . انها تتلاءم مع بيئتها ” سلبياً ” فتتغير ولا تغيّر بيئتها ” ايجابياً ” لتلائمهما كما يفعل الانسان . أما ما ظنه صلة بين الانواع ولم يعرف كيف تحدث فذلك ما عرفه مندل الذي كان معاصراً لداروين وإن لم يكن – حينئذ – معروفاً . ولم يعرف إلا عندما اعترف العالم والعلم – بعد ذلك بوقت غير قصير – بما كان قد اكتشفه من قوانين الوراثة . ولم تعد الدارونية – او الدارونية الحديثة كما يسمونها – إلا محصلة دراسة فعالية قوانين الوراثة في الأنواع وفيما بينها في نطاق قوانين التأثر المتبادل والحركة والتغير التي تحكم العلاقة بين الانواع وبيئتها . وقوانين الوراثة – كما يعرف الاخصائيون – ذات دلالة مذهلة على اتساق قوانين الطبيعة وخلوها من التناقض . وهكذانعرف ان الطبيعة ، حتى في عالم الأحياء ، تتحول ولا تتطور . ما تزال ” الاميبا ” والدودة معاصرتين في الطبيعة للقرد والانسان . ولا يمكن القول – إلا مجازاً – بأن القرد ” أرقى ” من الدودة مادام كل منهما ما يزال على ذات البعد من الانسان الذي ينفرد بالمقدرة على ” الفعل الارادي ” فيخلق ما لم يكن موجوداً على ما يريد . ذلك لأن ” الرقي ” كما نستعمله في ” جدل الانسان ” تعبير عن ثمرة هذا الخلق الارادي .
ومنه نتعلم :
أعظم دروس الجدل على الاطلاق : أولوية الانسان .
أولوية الانسان ، لا بأي مفهوم ميتافيزيقي أو مثالي أو اخلاقي ، ولكن في حركة التطور الاجتماعي : يتوقف التطور الاجتماعي من حيث مضمونه ، واتجاهه ، ومعدل سرعته ، ونصيبه من النجاح أو الفشل على العنصر البشري في أي مجتمع . كل ما عداه من قوى الطبيعة وموادها امكانيات متاحة ولكن البشر وحدهم هم القادرون على استخدام تلك القوى والمواد في صنع التطور الاجتماعي وعلى البشر وحدهم يتوقف ما يكون من أمر تلك القوى والمواد . فحتم على الناس ألا يتغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم ، أو ، كما يكون الناس يكون تطورهم الاجتماعي . نستطيع أن نترجمه إلى مباديء استراتيجية فنقول : لا تحرر بدون أحرار ، لا وحدة بدون وحدويين ، لا اشتراكية بدون اشتراكيين . ونستطيع ان نترجمه الى تخطيط فنقول أن وجود ” الكوادر” الثورية يجب ان يسبق قيام ” التنظيم الثوري ” وإن قيام “التنظيم الثوري” يجب أن يسبق الثورة . ونستطيع أن نترجمه الى برامج تنفيذية فنقول : إن تدريب العاملين على صناعة معينة يجب ان يسبق بدء تشغيل مصانع انتاجها ، وأن حل مشكلات العاملين يجب ان يسبق حل مشكلات العمل . ونستطيع أن نترجمه إلى مواقف فنقول : ان السلبية موقف عقيم ، وان الاستهانة بالناس خطأ ، وان فرض الوصاية عليهم خطأ فاحش ، أما الاستبداد فيهم فتخريب لحركة التطور الاجتماعي . ونستطيع ان نترجمه الى تقييم فنقول : إن الجبناء والمنافقين والمترددين حتى في حياتهم الخاصة لا يمكن ان يصلوا الى التطور الثوري . وإن المستبدين حتى في منازلهم لا يمكن ان يكونوا ديموقراطيين . وان المختلسين والمرتشين حتى لو كانوا عباقرة الاقتصاد لا يصلحون لادارة مشروع اشتراكي … الخ . وكم نستطيع أن نترجم من هذا الدرس العظيم : الانسان أولاً .
وهكذا ينذرنا ” جدل الانسان ” بالفشل الذي تستحقه أية حركة تحاول ان تفهم الواقع بدون ان تبدأ بالانسان ، او تعد لتغييره بدون ان تبدأ بالانسان ، أو تحاول تغييره بدون ان تبدأ بالانسان او تستهدف من التغيير مستقبلاً لا يكون فيه الانسان أولاً ، جاهلة أو متجاهلة إن الانسان ، وحده ، هو أداة تغيير واقعه ، وان الناس ، وحدهم ، هم أداة الخلق في التطور الاجتماعي .
فكيف يخلق الناس ما يريدون .
ثالثاً – القانون
:
5- ” في الانسان نفسه يتناقض
الماضي والمستقبل ويتولى الانسان نفسه حل التناقض بالعمل إضافة فيها من الماضي
والمستقبل ولكن تتجاوزهما الى خلق جديد ” . وفيما يلي بيان قصير عن هذا القانون
ننقله من ” أسس الاشتراكية العربية ” ( ص 118 وما بعدها ) .
يقول :
” … النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به قط ومع هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً الى وجه في ذاته . ( يسترجع الماضي بالذاكرة ويستقدم المستقبل بالمخيلة وكلاهما من خصائص الانسان وحده ) .
” والماضي – بالنسبة الى الانسان – مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء ، ولكن الانسان ، إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع ، يدرك امتداده التلقائي في المستقبل . والمستقبل – بالنسبة الى الانسان – تطور لا يحدّه قيد من المكان أو الزمان . واقصى مستقبل لأي انسان ان تتحقق جميع احتياجاته . وفي الانسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل وبين المستقبل الذي يريده الانسان . وبين الماضي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الانسان وبين ما يريده الانسان ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة – التي تعبر عن الصراع – هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي والمستقبل الذي يريده الانسان . ويعبر عنه سلبياً بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لابد حلها . ويظل الصراع قائماً : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل . ويتم الصراع بين الماضي والمستقبل حيث يلتقيان ، ولا نقول الحاضر إذ لا وجود لما يسمى الحاضر بين الماضي والمستقبل إلا إذا ألغينا الزمان . عند نقطة الالتقاء تلك – وفي الانسان – يكون الصراع ويكون الحل الذي يتحقق بالعمل متضمناً إضافة جديدة .
” أما كيف يحل التناقض فقد قلنا أن صراع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد ان تحل ، ثم يستعمل الانسان ادراكه ( إحدى خصائص الانسان وحده ) ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض بين الظروف وحاجته . ( الظوف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده الانسان ) . ويستفيد الانسان من مقدرته على معرفة الماضي في المستقبل وهو ما اسميناه الامتداد التلقائي للظروف . كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً . أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً . هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ، ويلغي من المستقبل الذي اراده الانسان ما لم يتفق مع امكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية . فيخلق في كل لحظة وفي كل مكان – مستقبلاً متفقاً مع حاجة الانسان وظروفه ، أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما أداة الخلق فهو العمل ( إحدى خصائص الانسان وحده ) الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية .
” كيف تتسق الحركة الجدلية بعد هذا ؟
” بفعل الماضي والمستقبل ذاتهما . إذ أن الحل الذي يتحقق بالعمل إضافة ينتهي بها تناقض وينشا بها تناقض جديد . لأن ما يتحقق فعلاً يلحق فور تحققه بالماضي فالزمان لا يتوقف . وبذلك تنشأ نقطة التقاء جديدة بين الماضي والمستقبل ، أي صراع جديد ومشكلة جديدة . ويسهم الحل الذي كان مستقبلاً ثم اصبح ماضياً بتحققه في أثناء الماضي الذي يسترجعه الانسان وهو يواجه مستقبله الجديد ، فيزيد مدى تصوره المستقبل ، ويكشف له مدى جديداً في حاجاته ، وينشأ بذلك صراع جديد ثم يحل ، وهكذا وكل ما يتحقق في الواقع يعتبر خطوة الى الامام ( تقدم ) لأنه اضافة . وهكذا تتابع المشكلات وتتابع الحلول ويتقدم الانسان وحاجته معلقة دائماً على بعد أمامه في سباقه مع ظروفه . يندفع الى المستقبل وكلما حقق جزءاً من مضمونه امتد امامه وظل مستقبلاً ذا مضمون جديد . وفي تاريخ الانسان سار هذاالجدل من البسيط الى المركب ومن المحدود الى الأكثر شمولاً ( بفعاليته التي تنمي وتضيف أبداً ) ، وكلما زادت تجارب الانسان اغتنت ذاكرته فاتسعت تصوراته وزادت حاجاته فزادت مشكلاته فأبدع لها مزيداً من الحلول . ولهذا لم يستو تقدم الانسان على نسبة واحدة واصبح يحل في شهور ما كان يحله في قرون مع ان مشكلاته قد تضاعفت اضعافاً .
” وإذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الانسان لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة وهو جزء منها يؤثر ويتأثر في حركة دائمة وتغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الذكاء والمادة . فهو لا يستطيع مهما كان ذكياً أن ينفصل عن الظروف التي تحيط به أو لا يتأثر بها أو يتوقف عن التأثير فيها . ولا يستطيع مهما كانت ارادته أن يثبت نفسه فلا يتغير عضوياً وفكرياً . كما لا يستطيع مهما بلغ تصوره أن يخلق طبيعة غير الطبيعة الموجودة فعلاً والتي تشمله . لهذا فغن جدل الانسان كقانون يعطل ( لاتحل المشكلة ) اذا لم يكن الجدل مستنداً الى المعرفة الصحيحة بالطبيعة وقوانينها واستعمال تلك القوانين استعمالاً صحيحاً … الخ ” .
يكفي هذا بياناً .
هذا هو قانون جدل الانسان .
وهو قانون حتمي .
(1) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه هو محاولة من جانبه لحل مشكلة يتناقض فيها واقعه مع ارادته ، ولا يستطيع أي انسان أن يكف عن محاولة حل مشكلاته إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يكون جهازاً لا يتوقف لحل المشكلات .
(2) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي انسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائماً حريته .
و(3) حتمي بمعنى أن تحرر الانسان من حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في موضوع جديد . ولا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة .
و (4) حتمي بمعنى ان الانسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن ينتزع حريته من قيود واقعه .
ولا بأس في ان نضيف أنه :
(5) حتمي بمعنى أن الانسان يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، بقدر ما يتفق مع طبيعة هذا الواقع في زمانه . ولا يستطيع أي انسان أن يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، أكثر مما يتفق مع طبيعة واقعه في زمانه إذ حتم على الانسان ، بحكم ان الجدل قانون ” نوعي ” خاص به وحده ، أن تتاثر فعاليته بحتمية القوانين الموضوعية التي تحكم واقعه .
هذا هو القانون وهذي هي حتميته .
فكيف يتم التطور الاجتماعي ؟
نرد المفرد ( الانسان ) الى مجتمعه لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه وما يتأثر بها . ونحن لا نستطيع أن نرى هذا بوضوح إلا إذا تحررنا نهائياً من تأثير تيار فكري علمنا ويعلمنا أن المجتمع ” كائن ” مستقل عن الناس فيه . وقد استدرج هذا التيار بعضنا ، وما يزال يستدرجهم ، إلى محاولة اكتشاف قوانين خاصة بحركة ذلك الكائن الموهوم مختلفة نوعياً عن القوانين التي تضبط حركة البشر . عندما نتحرر من هذا الوهم نواجه المجتمع على حقيقته . جماعة من الناس في واقع معين واحد . واقع معين زائد ناساً متعددين يساوي واقعاً مشتركاً . وذلك هو المجتمع : جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم . قد تكون الجماعة أسرة ، أو عشيرة ، او قبيلة ، او شعباً … لايهم . أنهم أفراد متعددين ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان . كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لاشباع حاجته وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته … الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان ” شيئاً ” جامداً ولا يحوّل الناس الى قطيع من الحيوان. وإنما الذي يتغير هو الواقع ذاته . إذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي إنسان فيه ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه . ويكون على “جدل الانسان ” أن يشق طريقه الحتمي الى الحرية في هذا الواقع الاجتماعي . وهو يشقه بنجاح مطرد إذا تعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو على حقيقته الموضوعية .
وأولى الحقائق الموضوعية هي أن الواقع الاجتماعي محصلة تطور تاريخي . تطور في الماضي . ” والماضي – بالنسبة الى الانسان – مادي جامد غير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء” . ومؤدى هذا انه عندما يولد الانسان فيجد أنه انسان من مجتمع معين يصبح إلغاء هذا المجتمع مستحيلاً إنه مجتمعه أراد هذا أم لم يرده . أعجبه أم لم يعجبه . وما عليه إلا ان يتعامل معه كما هو أو أن يهرب الى حيث يعيش مشرداً بدون مجتمع أو إلى حيث يجد مجتمعاً يشركه في واقعه وعندئذ سيواجه الحقيقة التي هرب منها : قبول التعامل مع مجتمعه ( الجديد ) كما هو .
والحقيقة الثانية هي ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في إثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع ( حصيلة الماضي ) الذي يناقض ما يريده الانسان هو – هنا – واقع اجتماعي . ومؤدى هذا أنه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصة . إن كل المشكلات التي يواجهها أي إنسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي أسهم في اثارتها أو إلا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه .
الحقيقة الثالثة ، أجدر الحقائق بالانتباه ، لأنها عقدة العقد في مشكلات التطور الاجتماعي ، هي أنه مادام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً . ونحن نعي هذا تماماً إذا تذكرنا أن التناقض الجدلي يقوم بين الواقع ، وهو هنا واقع اجتماعي محدد موضوعياً وغير قابل للالغاء ، وبين المستقبل كما يريده الانسان و ” المستقبل – بالنسبة الى الانسان – تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ” . لا قيد ولا حد لما يتمناه الانسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه إنه يصوغه كما يريد من تجاربه أو تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف من واقع الناس في المجتمعات الاخرى . لا قيد ولا حد للطموح الانساني ولكن مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن حلها الصحيح ، في مجتمع معين في وقت معين ، محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع أن يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هو محدد موضوعياً . مؤدى هذا أن كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطيء ، قاصر او متجاوز أو مناقضاً ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا ان يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد .
الحقيقة الرابعة ، والخاتمة ، أن ” الانسان ” يشق طريقه الحتمي الى الحرية بنجاح بقدر ما يكتشف ذلك الحل الصحيح وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية بقدر ما يجهل ذلك الحل الصحيح فلا ينفذه . ويصدق هذا بالنسبة الى أي إنسان في المجتمع فيشبع حاجاته بيسر ويطرد تقدمه نحو الحرية كلما استطاع أن يعرف الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاته وأن يلتزمه في الممارسة ( العمل ) . قد يغريه النجاح المؤقت في اشباع حاجاته عن طريق الحلول الخاطئة ولكنه لن يلبث أن يتبين أنه كان حلاً خاطئاً ، فيسترد منه المجتمع ما اختلسه ليعود فيواجه ذات المشكلات التي ظن انه قد حلها الحل الصحيح . ويصدق بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم ” الاجتماعي ” بيسر ويطرد التطور الاجتماعي اذا ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة ( العمل ) ويفشلون في تطوير واقعهم ولا يتطور المجتمع إذاً ، وكلما ، جهلوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم أو لم يلتزموه في الممارسة ( العمل ) .
فكيف يهتدي الناس في مجتمع معين إلى هذا الحل الصحيح ؟
بالجدل المشترك . أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” ، المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي فتتحقق به إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة فتحل … الخ مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له . ولا يمكن أن تحل أية مشكلة حلاً علمياً عن غير طريق الصدفة إلا بالتزام هذا الايقاع الذي نسميه حركة الجدل . إذن فالمجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها إلا بعد . أن ” الجدل الاجتماعي ” هو ” جدل الانسان ” في الحركة الاجتماعية ” ، أو هو الصيغة الاجتماعية ” لجدل الانسان ” . فهو حتمي . فحيثما واينما يتسق النشاط الاجتماعي معه تنشط حركة التطور . وحيثما واينما لا تتسق تبقى المشكلات الاجتماعية يعانيها الناس وتتعثر حركة التطور .
قد يكون هذا واضحاً . ولكن لماذا هذه “المشاركة ” في الجدل الاجتماعي ؟
مادام الواقع الاجتماعي الذي يثير المشكلات الاجتماعية محدداً موضوعياً وما دامت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً ، فلماذا لا يصح أن التطور الاجتماعي يتم ويطرد او يمكن ان يتم ويطرد ولو تولى واحد او جماعة من العلماء أو العباقرة او الملهمين … الخ ، تحديد المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة ، ويكون على الناس بعد ذلك أن ينفذوا بقوة عملهم تلك الحلول العلمية أو العبقرية أو الملهمة … الخ ؟ لماذا لا يصح هذا خاصة إذا لاحظنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية والحلول الصحيحة لها قد تحتاج إلى كفاءة ثقافية لا تتوافر لكل أو أغلب الناس في المجتمع ؟
لو صح هذا لما كان الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي للتطور الاجتماعي .
هذا واضح ايضاً . ولكنه غير صحيح .
لا نريد أن نحتج بما هو دارج في الكتابات عن التطور الاجتماعي من أن مشاركة ” الجماهير ” في حركة التطور الاجتماعي لازمة لأن أي إنسان بمفرده أو اية جماعة محدودة من الناس لا تستطيع ان تحيط بكل المشكلات الاجتماعية او بحلولها الصحيحة أو أن تقوم بكل العمل اللازم لانجاز متطلبات التطور الاجتماعي . لا نريد ان نحتج به ، لا إنكاراً لعجز أي إنسان أو اية جماعة محدودة من الناس الاحاطة بكل المشكلات الاجتماعية أو بحلولها الصحيحة والعمل المناسب للتطور الاجتماعي بما يعنيه هذا من انهم يعوقون التطور الاجتماعي الممكن بقدر عجزهم ولا انكاراً للمقدرة المضاعفة على التطور الاجتماعي التي تؤدي اليها مشاركة الناس في معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة والعمل على تنفيذها في الواقع . لا ننكر هذا لأنه صحيح ولكننا لانحتج به لأن الاحتجاج به على حتمية قانون التطور الاجتماعي خطأ . إذ أن الحتمية في القانون موضوعية بصرف النظر عن مقدرة الناس او عجزهم عن استعماله استعمالاً صحيحاً . ثم لنحذر من الفهم الخاطيء بأن مبرر مشاركة الناس في تطوير واقعهم الاجتماعي هو عجز المتصدين لتطويره عن الوفاء بكل مسؤولياته ، وكأن الناس مجرد قوة ” احتياطية ” تحت تصرف القيادة ،
يقول :
” … النقيضان في جدل الانسان هما الماضي والمستقبل اللذان يتبع أحدهما الآخر ، ويلغيه ، ولا يلتقي به قط ومع هذا يجمعهما الانسان ويضعهما وجهاً الى وجه في ذاته . ( يسترجع الماضي بالذاكرة ويستقدم المستقبل بالمخيلة وكلاهما من خصائص الانسان وحده ) .
” والماضي – بالنسبة الى الانسان – مادي جامد غير متوقف عليه وغير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء ، ولكن الانسان ، إذ يعرف عن طريق استرجاعه كيف وقع ، يدرك امتداده التلقائي في المستقبل . والمستقبل – بالنسبة الى الانسان – تطور لا يحدّه قيد من المكان أو الزمان . واقصى مستقبل لأي انسان ان تتحقق جميع احتياجاته . وفي الانسان يجتمع النقيضان وتثور المشكلة بالصراع بين الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل وبين المستقبل الذي يريده الانسان . وبين الماضي يريد ان يمتد فيلغي ما يريده الانسان وبين ما يريده الانسان ان يتحقق فيلغي امتداد الماضي وتكون المشكلة – التي تعبر عن الصراع – هي ذلك الفرق بين الواقع المسترجع من الماضي والمستقبل الذي يريده الانسان . ويعبر عنه سلبياً بالحاجة ، أي شعور الذات بعدم الاكتفاء ( من تجربة الماضي ) ونزوعها الى الاكتفاء ( في المستقبل ) ومقاومة الظروف ( الماضي ممتداً تلقائياً في المستقبل ) لاشباع تلك الحاجة . وبقدر ما يكون الفرق كبيراً يكون التناقض عميقاً فيكون الصراع قوياً فتكون المشكلة حادة . وبقدر ما يسترجع الانسان من ماضيه يتصور من مستقبله ويتحدد شمول المشكلة التي لابد حلها . ويظل الصراع قائماً : ظروف الماضي تفرض نفسها على المستقبل . ويتم الصراع بين الماضي والمستقبل حيث يلتقيان ، ولا نقول الحاضر إذ لا وجود لما يسمى الحاضر بين الماضي والمستقبل إلا إذا ألغينا الزمان . عند نقطة الالتقاء تلك – وفي الانسان – يكون الصراع ويكون الحل الذي يتحقق بالعمل متضمناً إضافة جديدة .
” أما كيف يحل التناقض فقد قلنا أن صراع النقيضين يطرح المشكلة التي لا بد ان تحل ، ثم يستعمل الانسان ادراكه ( إحدى خصائص الانسان وحده ) ليعرف كيف نشأت المشكلة ، أي ما هو وجه التناقض بين الظروف وحاجته . ( الظوف تعبير عن امتداد الماضي والحاجة تعبير عن المستقبل الذي يريده الانسان ) . ويستفيد الانسان من مقدرته على معرفة الماضي في المستقبل وهو ما اسميناه الامتداد التلقائي للظروف . كما يستفيد من معرفته العلمية للظروف لتعديل المستقبل الذي يتصوره الى المستقبل الممكن علمياً . أي يجد حلاً يتضمن ما يريده الانسان وتسمح به قوانين الظروف معاً . هذا الحل يتحقق بالعمل المادي أو الذهني تبعاً لطبيعة المشكلة . هذا الحل يلغي من الظروف كما يحددها الماضي ما لا يتفق مع المستقبل كما يريده الانسان ، ويلغي من المستقبل الذي اراده الانسان ما لم يتفق مع امكانيات الظروف وقوانين تغييرها النوعية . فيخلق في كل لحظة وفي كل مكان – مستقبلاً متفقاً مع حاجة الانسان وظروفه ، أي خالياً من جمود الماضي وخيال المستقبل . أما أداة الخلق فهو العمل ( إحدى خصائص الانسان وحده ) الذي يحل التناقض وتتم به الحركة الجدلية .
” كيف تتسق الحركة الجدلية بعد هذا ؟
” بفعل الماضي والمستقبل ذاتهما . إذ أن الحل الذي يتحقق بالعمل إضافة ينتهي بها تناقض وينشا بها تناقض جديد . لأن ما يتحقق فعلاً يلحق فور تحققه بالماضي فالزمان لا يتوقف . وبذلك تنشأ نقطة التقاء جديدة بين الماضي والمستقبل ، أي صراع جديد ومشكلة جديدة . ويسهم الحل الذي كان مستقبلاً ثم اصبح ماضياً بتحققه في أثناء الماضي الذي يسترجعه الانسان وهو يواجه مستقبله الجديد ، فيزيد مدى تصوره المستقبل ، ويكشف له مدى جديداً في حاجاته ، وينشأ بذلك صراع جديد ثم يحل ، وهكذا وكل ما يتحقق في الواقع يعتبر خطوة الى الامام ( تقدم ) لأنه اضافة . وهكذا تتابع المشكلات وتتابع الحلول ويتقدم الانسان وحاجته معلقة دائماً على بعد أمامه في سباقه مع ظروفه . يندفع الى المستقبل وكلما حقق جزءاً من مضمونه امتد امامه وظل مستقبلاً ذا مضمون جديد . وفي تاريخ الانسان سار هذاالجدل من البسيط الى المركب ومن المحدود الى الأكثر شمولاً ( بفعاليته التي تنمي وتضيف أبداً ) ، وكلما زادت تجارب الانسان اغتنت ذاكرته فاتسعت تصوراته وزادت حاجاته فزادت مشكلاته فأبدع لها مزيداً من الحلول . ولهذا لم يستو تقدم الانسان على نسبة واحدة واصبح يحل في شهور ما كان يحله في قرون مع ان مشكلاته قد تضاعفت اضعافاً .
” وإذا كان الجدل قانوناً خاصاً بنوع الانسان فإن الانسان لا يفلت من القوانين الكلية التي تحكم الطبيعة وهو جزء منها يؤثر ويتأثر في حركة دائمة وتغير مستمر ، وتحكمه تلك القوانين كوحدة من الذكاء والمادة . فهو لا يستطيع مهما كان ذكياً أن ينفصل عن الظروف التي تحيط به أو لا يتأثر بها أو يتوقف عن التأثير فيها . ولا يستطيع مهما كانت ارادته أن يثبت نفسه فلا يتغير عضوياً وفكرياً . كما لا يستطيع مهما بلغ تصوره أن يخلق طبيعة غير الطبيعة الموجودة فعلاً والتي تشمله . لهذا فغن جدل الانسان كقانون يعطل ( لاتحل المشكلة ) اذا لم يكن الجدل مستنداً الى المعرفة الصحيحة بالطبيعة وقوانينها واستعمال تلك القوانين استعمالاً صحيحاً … الخ ” .
يكفي هذا بياناً .
هذا هو قانون جدل الانسان .
وهو قانون حتمي .
(1) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي ، سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه هو محاولة من جانبه لحل مشكلة يتناقض فيها واقعه مع ارادته ، ولا يستطيع أي انسان أن يكف عن محاولة حل مشكلاته إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يكون جهازاً لا يتوقف لحل المشكلات .
(2) حتمي بمعنى أن أي نشاط يقوم به الانسان ، ذهني أو مادي سلبي أو ايجابي ، ومهما يكن مضمونه له غاية ثابتة هي تحرره من حاجته كما يعرفها من ذاته . ولا يستطيع أي انسان أن يستهدف من نشاطه غير التحرر من حاجته كما يعرفها من ذاته . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يستهدف دائماً حريته .
و(3) حتمي بمعنى أن تحرر الانسان من حاجته في موضوع معين يؤدي مباشرة الى حاجته في موضوع جديد . ولا يستطيع أي انسان أن يكف نفسه عن الحاجة أو أن يشبع حاجاته المتجددة أبداً . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن يظل أبداً مفتقداً حرية جديدة باحثاً عن حريات متجددة .
و (4) حتمي بمعنى ان الانسان يتحرر من حاجته بتغيير واقعه وليس بتغيير ذاته كإنسان ولا يستطيع أي إنسان أن يتحرر من حاجته إلا بتغيير واقعه . إذ حتم على الانسان ، بحكم قانونه النوعي ، أن ينتزع حريته من قيود واقعه .
ولا بأس في ان نضيف أنه :
(5) حتمي بمعنى أن الانسان يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، بقدر ما يتفق مع طبيعة هذا الواقع في زمانه . ولا يستطيع أي انسان أن يحقق من حريته ، في واقع معين في وقت معين ، أكثر مما يتفق مع طبيعة واقعه في زمانه إذ حتم على الانسان ، بحكم ان الجدل قانون ” نوعي ” خاص به وحده ، أن تتاثر فعاليته بحتمية القوانين الموضوعية التي تحكم واقعه .
هذا هو القانون وهذي هي حتميته .
فكيف يتم التطور الاجتماعي ؟
نرد المفرد ( الانسان ) الى مجتمعه لنرى ما يؤثر في فعالية قانونه وما يتأثر بها . ونحن لا نستطيع أن نرى هذا بوضوح إلا إذا تحررنا نهائياً من تأثير تيار فكري علمنا ويعلمنا أن المجتمع ” كائن ” مستقل عن الناس فيه . وقد استدرج هذا التيار بعضنا ، وما يزال يستدرجهم ، إلى محاولة اكتشاف قوانين خاصة بحركة ذلك الكائن الموهوم مختلفة نوعياً عن القوانين التي تضبط حركة البشر . عندما نتحرر من هذا الوهم نواجه المجتمع على حقيقته . جماعة من الناس في واقع معين واحد . واقع معين زائد ناساً متعددين يساوي واقعاً مشتركاً . وذلك هو المجتمع : جماعة من الناس يعيشون معاً في واقع معين مشترك فيما بينهم . قد تكون الجماعة أسرة ، أو عشيرة ، او قبيلة ، او شعباً … لايهم . أنهم أفراد متعددين ينشط كل منهم في الواقع المشترك طبقاً لقانونه النوعي : جدل الانسان . كل منهم يسعى ولا يستطيع إلا أن يسعى لاشباع حاجته وكل منهم يستهدف ولا يستطيع إلا ان يستهدف حريته … الخ . هذا لا يتغير في المجتمع . فالمجتمع لا يحيل الانسان ” شيئاً ” جامداً ولا يحوّل الناس الى قطيع من الحيوان. وإنما الذي يتغير هو الواقع ذاته . إذ عندما يتعدد الناس في واقع معين واحد يصبح هذا التعدد بما يتضمنه من مشاركة جزءاً من الواقع . جزءاً من الواقع الذي يواجه كل انسان . يصبح واقعاً اجتماعياً واقعاً اجتماعياً لا بمعزل عن أي إنسان فيه ولكن بالنسبة الى كل انسان فيه . ويكون على “جدل الانسان ” أن يشق طريقه الحتمي الى الحرية في هذا الواقع الاجتماعي . وهو يشقه بنجاح مطرد إذا تعامل مع الواقع الاجتماعي كما هو على حقيقته الموضوعية .
وأولى الحقائق الموضوعية هي أن الواقع الاجتماعي محصلة تطور تاريخي . تطور في الماضي . ” والماضي – بالنسبة الى الانسان – مادي جامد غير قابل للتغيير وبمجرد وقوعه يفلت من امكانية الالغاء” . ومؤدى هذا انه عندما يولد الانسان فيجد أنه انسان من مجتمع معين يصبح إلغاء هذا المجتمع مستحيلاً إنه مجتمعه أراد هذا أم لم يرده . أعجبه أم لم يعجبه . وما عليه إلا ان يتعامل معه كما هو أو أن يهرب الى حيث يعيش مشرداً بدون مجتمع أو إلى حيث يجد مجتمعاً يشركه في واقعه وعندئذ سيواجه الحقيقة التي هرب منها : قبول التعامل مع مجتمعه ( الجديد ) كما هو .
والحقيقة الثانية هي ان الواقع الاجتماعي هو الذي يسهم في إثارة المشكلات في المجتمع . لأن الواقع ( حصيلة الماضي ) الذي يناقض ما يريده الانسان هو – هنا – واقع اجتماعي . ومؤدى هذا أنه لا وجود في المجتمع لما يسمى المشكلات الخاصة . إن كل المشكلات التي يواجهها أي إنسان في حياته هي مشكلات اجتماعية في حقيقتها الموضوعية . بحيث لا يمكن فهمها فهماً صحيحاً إلا على ضوء الواقع الاجتماعي الذي أسهم في اثارتها أو إلا من حيث هي تعبير عن تناقض قائم بين الواقع الاجتماعي كما هو وبين ما يريده الانسان فيه .
الحقيقة الثالثة ، أجدر الحقائق بالانتباه ، لأنها عقدة العقد في مشكلات التطور الاجتماعي ، هي أنه مادام الواقع الاجتماعي محدداً موضوعياً فإن الحل الصحيح لأية مشكلة اجتماعية محدد موضوعياً . ونحن نعي هذا تماماً إذا تذكرنا أن التناقض الجدلي يقوم بين الواقع ، وهو هنا واقع اجتماعي محدد موضوعياً وغير قابل للالغاء ، وبين المستقبل كما يريده الانسان و ” المستقبل – بالنسبة الى الانسان – تصور لا يحده قيد من الزمان أو المكان ” . لا قيد ولا حد لما يتمناه الانسان لنفسه فيشعر بالحاجة اليه إنه يصوغه كما يريد من تجاربه أو تجارب غيره في واقعه الاجتماعي أو مما يعرف من واقع الناس في المجتمعات الاخرى . لا قيد ولا حد للطموح الانساني ولكن مهما تعددت وتفاوتت واختلفت وتناقضت حاجات الناس فإن حلها الصحيح ، في مجتمع معين في وقت معين ، محدد موضوعياً بالواقع الاجتماعي ذاته . فلو استطعنا أن نحصر كل ما يحتاجه الناس في مجتمع معين ونعرف في ذات الوقت كل ما يستطيع الواقع أن يقدمه لعرفنا ما هي المشكلات الحقيقية التي يطرحها الواقع الاجتماعي وكيف تحل . أي لعرفنا الحل الصحيح للمشكلات الاجتماعية كما هو محدد موضوعياً . مؤدى هذا أن كل مشكلة اجتماعية لها حقيقة واحدة مهما اختلف فهم الناس لها وبصرف النظر عن مدى ادراك صاحبها لحقيقتها . وان اية مشكلة اجتماعية ليس لها إلا حل صحيح واحد في واقع اجتماعي معين في وقت معين . قد يكون لها اكثر من حل خاطيء ، قاصر او متجاوز أو مناقضاً ، يحاوله صاحبه فيفشل في حلها ، ولكن حلها الصحيح لا يمكن إلا ان يكون واحداً بحكم أن الواقع الاجتماعي واحد .
الحقيقة الرابعة ، والخاتمة ، أن ” الانسان ” يشق طريقه الحتمي الى الحرية بنجاح بقدر ما يكتشف ذلك الحل الصحيح وينفذه ، ويفشل في تحقيق الحرية بقدر ما يجهل ذلك الحل الصحيح فلا ينفذه . ويصدق هذا بالنسبة الى أي إنسان في المجتمع فيشبع حاجاته بيسر ويطرد تقدمه نحو الحرية كلما استطاع أن يعرف الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاته وأن يلتزمه في الممارسة ( العمل ) . قد يغريه النجاح المؤقت في اشباع حاجاته عن طريق الحلول الخاطئة ولكنه لن يلبث أن يتبين أنه كان حلاً خاطئاً ، فيسترد منه المجتمع ما اختلسه ليعود فيواجه ذات المشكلات التي ظن انه قد حلها الحل الصحيح . ويصدق بالنسبة الى كل الناس في المجتمع فيطورون واقعهم ” الاجتماعي ” بيسر ويطرد التطور الاجتماعي اذا ، وكلما ، استطاعوا ان يعرفوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم وان يلتزموه في الممارسة ( العمل ) ويفشلون في تطوير واقعهم ولا يتطور المجتمع إذاً ، وكلما ، جهلوا الحل ” الاجتماعي ” الصحيح لمشكلاتهم أو لم يلتزموه في الممارسة ( العمل ) .
فكيف يهتدي الناس في مجتمع معين إلى هذا الحل الصحيح ؟
بالجدل المشترك . أو ما نسميه ” الجدل الاجتماعي ” ، المعرفة المشتركة بالمشكلات الاجتماعية والرأي المشترك في حلها والعمل المشترك تنفيذاً للحل في الواقع الاجتماعي فتتحقق به إضافة تحل بها المشكلات الاجتماعية وتثور بها مشكلات اجتماعية جديدة فتحل … الخ مع ملاحظة ان حركات الجدل هذه تمثل ايقاعاً ثابتاً للقانون . معرفة المشكلة قبل معرفة الحل وشرط لها . ومعرفة الحل قبل التنفيذ بالعمل وشرط له . ولا يمكن أن تحل أية مشكلة حلاً علمياً عن غير طريق الصدفة إلا بالتزام هذا الايقاع الذي نسميه حركة الجدل . إذن فالمجتمعات تتطور من خلال حل مشكلات الناس فيها . وبقدر ما تحل مشكلات الناس فيها تتطور لا اكثر . ولا يتم التطور إلا في المجالات الاجتماعية التي تحل مشكلات الناس فيها إلا بعد . أن ” الجدل الاجتماعي ” هو ” جدل الانسان ” في الحركة الاجتماعية ” ، أو هو الصيغة الاجتماعية ” لجدل الانسان ” . فهو حتمي . فحيثما واينما يتسق النشاط الاجتماعي معه تنشط حركة التطور . وحيثما واينما لا تتسق تبقى المشكلات الاجتماعية يعانيها الناس وتتعثر حركة التطور .
قد يكون هذا واضحاً . ولكن لماذا هذه “المشاركة ” في الجدل الاجتماعي ؟
مادام الواقع الاجتماعي الذي يثير المشكلات الاجتماعية محدداً موضوعياً وما دامت الحلول الصحيحة للمشكلات الاجتماعية محددة موضوعياً ، فلماذا لا يصح أن التطور الاجتماعي يتم ويطرد او يمكن ان يتم ويطرد ولو تولى واحد او جماعة من العلماء أو العباقرة او الملهمين … الخ ، تحديد المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة ، ويكون على الناس بعد ذلك أن ينفذوا بقوة عملهم تلك الحلول العلمية أو العبقرية أو الملهمة … الخ ؟ لماذا لا يصح هذا خاصة إذا لاحظنا أن معرفة المشكلات الاجتماعية والحلول الصحيحة لها قد تحتاج إلى كفاءة ثقافية لا تتوافر لكل أو أغلب الناس في المجتمع ؟
لو صح هذا لما كان الجدل الاجتماعي هو القانون الحتمي للتطور الاجتماعي .
هذا واضح ايضاً . ولكنه غير صحيح .
لا نريد أن نحتج بما هو دارج في الكتابات عن التطور الاجتماعي من أن مشاركة ” الجماهير ” في حركة التطور الاجتماعي لازمة لأن أي إنسان بمفرده أو اية جماعة محدودة من الناس لا تستطيع ان تحيط بكل المشكلات الاجتماعية او بحلولها الصحيحة أو أن تقوم بكل العمل اللازم لانجاز متطلبات التطور الاجتماعي . لا نريد ان نحتج به ، لا إنكاراً لعجز أي إنسان أو اية جماعة محدودة من الناس الاحاطة بكل المشكلات الاجتماعية أو بحلولها الصحيحة والعمل المناسب للتطور الاجتماعي بما يعنيه هذا من انهم يعوقون التطور الاجتماعي الممكن بقدر عجزهم ولا انكاراً للمقدرة المضاعفة على التطور الاجتماعي التي تؤدي اليها مشاركة الناس في معرفة المشكلات الاجتماعية واكتشاف حلولها الصحيحة والعمل على تنفيذها في الواقع . لا ننكر هذا لأنه صحيح ولكننا لانحتج به لأن الاحتجاج به على حتمية قانون التطور الاجتماعي خطأ . إذ أن الحتمية في القانون موضوعية بصرف النظر عن مقدرة الناس او عجزهم عن استعماله استعمالاً صحيحاً . ثم لنحذر من الفهم الخاطيء بأن مبرر مشاركة الناس في تطوير واقعهم الاجتماعي هو عجز المتصدين لتطويره عن الوفاء بكل مسؤولياته ، وكأن الناس مجرد قوة ” احتياطية ” تحت تصرف القيادة ،
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire