jeudi 9 septembre 2021

نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي - فقه المرأة (الوصية - الإرث - القوامة - التعددية - اللباس




نحو أصول جديدة للفقه الإسلامي - فقه المرأة (الوصية - الإرث - القوامة - التعددية - اللباس

 

لقد استعملنا مصطلح اللباس عوضا عن المصطلح الشائع (الحجاب) أو ما يسمى أحيانا بالحجاب الشرعي، لأن كلمة الحجاب وردت في التنزيل الحكيم ثماني مرات، ولم تمت في كل استعمالاتها إلى اللباس بأية صلة من قريب ولا من بعيد، فكانت الألفاظ التي تدل على اللباس هي الثياب والجلابيب والخُمر.

وإذا عدنا إلى معجم اللغة لوجدنا أن (حجب) معناها: ستر، والحجاب هو الستر، والحاجب هو البواب، وحجبه: منعه من الدخول، وحجابة الكعبة: سدانتها وتولي حفظها، وكل ما حال بين شيئين يسمى حجابا.

وفي قوله تعالى {ومن بيننا وبينك حجاب} معناه: من بيننا وبينك حاجز في النحلة والدين. والأخوة يحجبون الأم عن فريضتها، أي أن الأخوة يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس، والحاجبان هما العظمان فوق العينين وقيل الشعر.

·         وإذا نظرنا للتنزيل الحكيم وجدنا أن كلمة (حجاب) وردت في السور التالية:

حجاب

حجاباً

1 – الأعراف 7/46

6 – الإسراء 17/45

2 – الأحزاب 33/53

7 – مريم 19/17

3 – ص 38/32

8 – المطففين 83/15 لمحجوبون

4 – فصلت 41/5

5 – الشورى 42/51

1 – {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44)} وتليها الآية 45 في وصف الظالمين… إلى أن يستهل الآية 46 بقوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)} الأعراف.

ونفهم من السياق السابق أن الحجاب هو بين أهل الجنة وأهل النار. يقول الرازي: هم بين الجنة والنار أو بين الفريقين وهذا الحجاب هو المشهور المذكور في الحديد 13 {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} فإن قيل وأي حاجة إلى ضرب هذا السور بين الجنة والنار وقد ثبت أن الجنة فوق السماوات وأن الجحيم في أسفل سافلين؟ قلنا بُعد إحداهما عن الأخرى لا يمنع أن يحصل بينهما سور وحجاب. أهـ.

ونفهم ثانيا أن هذا الحجاب – السور ذا الباب لا يمنع الرؤية ولا السماع، وإلا فكيف يستقيم قوله تعالى في الآية 50 من نفس السورة {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} . يقول الرازي: قال ابن عباس (رض) لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار بفرج بعد اليأس فقالوا: يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فأمر الله الجنة فتزحزحت، ثم نظر أهل جهنم إلى قراباتهم في الجنة وما هي فيه من نعيم…الخ.

2 – {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاء حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِندَ اللَّهِ عَظِيماً} الأحزاب 53.

يقول الرازي: لما منع الله الناس من دخول بيت النبي وكان في ذلك تعذر الوصول على الماعون، بين أن ذلك غير ممنوع منه فليسأل وليطلب من وراء حجاب. أنا قوله {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} يعني أن العين روزنة القلب فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، إما إن رأت العين فقد اشتهى القلب وقد لا يشتهي، فالقلب عند عدم الرؤية اطهر، وعدم الفتنة حينئذ أظهر.

ثم يتابع تفسير آية {لا جناح عليهن} بعدها فيقول: لقد أوجب الله تعالى على الرجال السؤال من وراء حجاب، فلمَ لم يستثن الرجال من الجناح، ولم يقل لا جناح على آبائهن نقول: قوله تعالى {فاسألوهن من وراء حجاب} أمر بسدل الستر عليهن، وذلك لا يكون إلا بكونهن محجوبات وبأن الحجاب وجب عليهن. ثم أمر الرجال بتركهن، كذلك ونهوا عن هتك أستارهن فاستثنين عند الآباء والأبناء؟!

3 – {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)} سورة ص.

يقول الرازي: الضمير في قوله {حتى توارت} وفي قوله {ردوها} يحتمل أن يكون عائدا إلى الشمس لأنه جرى ذكر ما له تعلق بها وهو العشي. ويحتمل أن يكون عائدا على الصافنات. ويحتمل أن يكون في قوله الأول للشمس والثاني للصافنات، ويحتمل أن يكون الأول للصافنات والثاني للشمس.

والتواري بالحجاب في الآية عند الرازي هو غياب العين.

4 – {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} فصلت 5.

يقول الرازي: أكنه جمع كنان مفردها كنانة وهو الذي يجعل فيه السهام. والوقر هو الثقل الذي يمنع السمع. والحجاب هو الذي يمنع الرؤية. وقوله {ومن بيننا وبينك حجاب} أقوى منا لو قيل (وبيننا وبينك حجاب) لأن الحجاب في القول الأول يشمل كل المسافة الحاصلة بيننا وبينك فلا يبقى جزء منها فارغا عن هذا الحجاب.

5 – {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} الشورى 51.

6 – {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً} الإسراء 45.

علما بأن الذين لا يؤمنون بالآخرة كانوا يرون الرسول (ص) ويسمعونه.

يقول الرازي:.. كان يجب أن يقال حجابا ساترا. والجواب عندي من وجوه:

الأول: أن ذلك حجاب يخلقه الله في عيونهم يمنعهم من رؤية النبي، ذلك الحجاب لا يراه أحد فهو مستور.

الثاني: يجوز أن يقال مستور ومعناه ذو ستر كما يقال مرطوب ذو رطوبة، ومهول أي ذو هول.

الثالث: المستور اسم مفعول بمعنى الساتر اسم الفاعل وذلك مشهور للعرب.

….الحجاب هو الطبع الذي على قلوبهم، والطبع هو المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه، فالمراد من الحجاب المستور ذلك الطبع الذي خلقه الله في قلوبهم.

7 – {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِيّاً (16) فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَاباً فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً (17)} مريم.

يقول الرازي:…ثم يبين تعالى أنها اتخذت من دون أهلها حجابا مستورا، وظاهر ذلك أنها لم تقتصر على أن انفردت على موضع بل جعلت بينها وبينهم حائلا من حائط أو غيره ويحتمل أنها جعلت بين نفسها وبينهم سترا…

8 – {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} المطففين 15.

يقول الرازي:… احتج الأصحاب بهذه الآية على أن المؤمنين يرونه سبحانه، أما الفجار المكذبون فلا يرونه، ولولا ذلك لم يكن للتخصيص فائدة. وفيه تقرير آخر هو أنه تعالى ذكر الحجاب في معرض الوعيد والتهديد للكفار، وما يكون كذلك لا يجوز حصوله في حق المؤمن. قال المعتزلة إنهم عن رحمة ربهم يومئذ لمحجوبون، وليس عن الرؤية. قال القاضي عبد الجبار الحجاب ليس عدم الرؤية، فقد يقال حجب فلان عن الأمير وهو يراه من بعد.

ومن هنا نرى أن مصطلح اللباس هو مصطلح أدق من مصطلح الحجاب وتتناسب أكثر مع مصطلحات التنزيل الحكيم.

الحق أننا لم نستطع – رغم طول التأمل – أن نفهم سبباً لغضبة الغاضبين، حين تحدثنا عن مسألة الحجاب ولباس المرأة في كتابنا (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة / بحث لباس المرأة). كما أننا لم نستطع أن نفهم كيف يدفع الغضب بعض الغاضبين إلى تقويلنا ما لم نقل، وببعضهم إلى طمس قسم مما قلنا وتسليط الضوء على قسمه الآخر المبتور، وببعضهم إلى صب جام غضبهم تقليداً واتباعاً، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءة ما قلنا.

ولما كنا لا نشك أبداً في قدرة الغاضبين على الفهم، فقد انصب شكنا على مقدرتنا نحن في التعبير، رغم أن ثمة من يعذرنا، فيرى أن الهامش الضيق الذي أفردناه لهذا الموضوع الواسع في (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة)، اقتضانا بعض الإيجاز، فجاء إيجازاً مخلاً عجز معه القصد عن الظهور بوضوح. علماً أننا وضعنا بكل وضوح الأسس التي ننطلق منها في فهم مسألة لباس المرأة وحجابها وهي:

أولاً – أساس لغوي هو اللا ترادف في الألفاظ. فالثوب عندنا غير اللباس، والسوأة غير العورة، والبعل غير الزوج (1)، والخلود غير الدوام، والبقاء غير الإثنين. وهو أساس نلتزمه في قراءتنا لآيات التنزيل الحكيم. علماً بأنه في قراءاتنا السابقة لم نفرق بين البعل والزوج وذلك من تأثير التراث القائل بالترادف علينا دون أن نشعر، فوقع بعض الالتباس في الاستنتاجات.

ثانياً – الانتقاء، فكما أن ثمة عدداً من الألفاظ الصفات تشترك في وصف مسمى واحد، كالأبيض والحسام والمهنّد والتي هي صفات مختلفة للسيف. فهناك أيضاً كثير من الألفاظ يحمل كل منها عدداً من المعاني، لابد من انتقاء أحدها لفهم نصوص الآيات وأحكامها. يقول تعالى {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} الأعراف 26.

هنا يتحدث سبحانه عن لباس أنزله على بني آدم سماه لباس التقوى، القصد منه مواراة السوآت. فما هو لباس التقوى؟ إن قرأناه على الحقيقة ناظرين إلى اللباس فهو:

1.    أول لباس أنزله الله ولبسه بنو آدم لمواراة سوآتهم.

2.    الملبوسات المعدة لإقامة الصلوات.

3.    الدروع والجواشن وكل ما يقي في الحروب.

أما إن قرأناه على المجاز ناظرين إلى التقوى فهو:

1.    الإيمان.

2.    العمل الصالح.

3.    الحياء.

إضافة إلى معان أخرى كالعفاف والتوحيد والسمت الحسن والإخبات والسكينة.

والقول بأحد المعاني الثلاثة الأولى هو قول أهل الظاهر، فالإمام ابن حزم لا يجيز الأخذ بالمعاني المجازية إن أمكن فهم اللفظ على حقيقته. أما القول بأحد المعاني الثلاثة المجازية فهو قول الأئمة من غير أهل الظاهر، فلباس التقوى عند قتادة والسدي وابن جريج هو الإيمان، وعند ابن عباس هو العمل الصالح. وعند معبد هو الحياء. وواضح أن كلاً من الأئمة انتقى واختار معنى بعينه من قائمة المعاني هذه، رأى أنه هو المقصود.

وواضح أيضاً أن الانتقائية أمر لابد منه في تفسير وفهم آيات التنزيل الحكيم، وليست تهمة تحلو للبعض وهو يمارسها أن يلصقها بنا، والانتقائية عندنا غير عشوائية ولا ذاتية، فهي عندنا مؤسسة على اللغة والعقلانية والمصداقية، فإذا أخذنا لباس التقوى على أنه لباس مؤلف من قمصان وسراويل مثلاً فإن الآية تفقد مصداقيتها على ارض الواقع، وبالتالي عقلانيتها. أما الانتقائية على أساس ما قاله السلف فهي ليست عندنا بشيء.

ثالثاً – التفريق بين الحلال والحرام، والأمر والنهي، والحسن والقبح. فالتحليل والتحريم محصوران بيد الله سبحانه وحده لأن الحرام شمولي وأبدي، والحلال مطلق. والأمر والنهي مرهونان بالله وبأنبيائه ورسله وهما ظرفيان ويخضعان للضرورات، أي أن الضرورات تبيح المنهيات لا المحرمات. والسماح والمنع مقصوران على الله وأنبيائه ورسله وأولي الأمر من حكام وبرلمانات واستفتاءات (أهل الحل والعقد). أما الحسن والقبح فيحكمهما كل هؤلاء منفردين أو مجتمعين ويحكمهما الذوق الشخصي لكل من خلق ربي من بشر.

وهو أساس لا نغفل عنه في قراءاتنا لآيات الأحكام في كتاب الله تعالى. ومن هنا فنحن نرفض مثلاً قول من يقول بأن الرسل يحللون ويحرمون، لأننا نخشى من التباس قد يقع فيه السامع أو القارئ، حين لا ينتبه إلى أن الرسول والنبي يحللان ويحرمان ما أوحى الله سبحانه إليهما تحليله وتحريمه، وإن أي رسول حين يجتهد فاجتهاده من مقام النبوة وليس من مقام الرسالة واجتهاده ظرف يحمل صفة الأمر والنهي، لا صفة التحليل والتحريم. ولا يحرم أو يحلل أي شيء مستقلاً عن كتاب الله.

رابعاً – نزع صفة القدسية عن التراث، فكل ما هو من صنع الإنسان قابل للخطأ والصواب، وللسهو والنسيان، وقابل بالتالي للنقاش والمراجعة.

خامساً – نزع صفة العصمة والقدسية عن أهل التراث، فالقدسية لله القدوس ولكتابه المقدس. والعصمة لله وللرسل في حدود الرسالة حصراً، ولا يجوز – بل لا يمكن عقلاً – سحبها على أحد غير الله والرسل لأي سبب كان، وتحت أي عنوان كان.

مسألة لباس المرأة وحجابها قديمة، تعود إلى ما قبل التاريخ المكتوب.

ويلاحظ دارسها أنها ترتبط دائماً في التراث القديم بمسألة أخرى هي مسألة الخطيئة الأولى التي تواكب بدورها مسألة بدء الأنسنة، ونعني بها بداية الجنس الإنساني ذي الأصل البشري وذلك بنفخة الروح. حتى أن التنزيل الحكيم ذاته، أشار إلى هذه الرابطة – العلاقة، معتبراً أن ستر الجسد عند آدم وزوجه في الجنة، جاء نتيجة طبيعية حين بدت لهما سوآتهما بعد أن أكلا من الشجرة المحرمة وذلك طبقاً للتفاسير الموروثة.

يقول تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنْ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنْ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ..} الأعراف 20، 21، 22.

{فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ..} طه 120، 121.

فإذا نظرنا في الديانات القديمة، من واقع ما بين أيدينا من آثار وشواهد، نجد أنها تعكس عند شعوب بلاد الرافدين – من سومرية وبابلية وآشورية – بدرجات متفاوتة، ذات القصة القرآنية في آيات الأعراف. وترى أن الإنسان من ذكر وأنثى هو المسؤول عن الخطيئة الأولى. ثم تمضي القرون لنجد هذه الديانات القديمة ترمي بمسؤولية الخطيئة الأولى على كاهل الذكر وحده الذي خسر بعد الطوفان الحياة الخالدة لأنه أكل فاكهة شجرة محرمة¬ (2).

ومرة أخرى نجدها تتفق مع ما ألمحت إليه آيات الأعراف، حين اتجه الشيطان إلى آدم وحده بالخطاب. لكننا نلاحظ أن آراء هذه الديانات القديمة في مسألة الخطيئة الأولى، تمثل آراء مجتمعات أنثوية، فمجتمع الأمومة هو المجتمع السائد في بدء التاريخ السومري، قبل أن يتحول عند بابل وآشور إلى مجتمع ذكوري سلطة الأب فيه مطلقة، والحكم الأخلاقي والقانوني والاجتماعي والاقتصادي يختلف على الرجل منه على المرأة (3).

أما في الديانات الفارسية – الزرادشتية والمانوية والمزدكية – فرغم أنها لم تلق تهمة الخطيئة الأولى على المرأة، إلا أنها اعتبرتها كائناً غير مقدس، عليها أن تربط عصابة على فمها وأنفها، كيلا تدنس أنفاسها النار المقدسة. ثم تحولت عصابة الأنف والفم في المجتمعات الفارسية إلى جلباب تلبسه المرأة من رأسها إلى قدميها، لكنه كان خاصاً بالحرائر ونساء علية القوم، ولا يجوز للإماء ونساء العوام ارتداؤه(4). ولعل هذا هو الأساس الثقافي لمفهوم الشادور في إيران بشكل خاص وفي العراق. ومفهوم التفريق بين لباس الحرة ولباس الأمة الذي بقي حتى عهد ما بعد النبوة (الدولة العربية الإسلامية).

وأما الديانات الهندية – الفيدية والبراهمية والبوذية – فكان شأنها شأن الديانات الفارسية والرافدية، لم تعتبر المرأة مسؤولة عن الخطيئة الأولى، لكنها اعتقدت بأن المبدع الإلهي حين خلقها، صاغها من قصاصات وجذاذات المواد الصلبة التي زادت لديه بعد عملية خلق الرجل(5)، وأوجبت على الزوجة أن تخدم سيدها (زوجها) كما لو كان إلهاً، وحرمت المرأة من دراسة كتب الحكمة والفلسفة والدين، فقد جاء في الماها بهارتا: إذا درست المرأة كتب الفيدا كان هذا علامة الفساد في المملكة. وأخيراً فقد فرضت بعض الديانات الهندية الحجاب على المرأة، ومنعت الاختلاط بها، حتى أننا نجد بوذا يتردد كثيراً في قبولها لتكون من أتباع دينه. وجاء في حواره مع ابن عمه آنندا:

أنندا: كيف نعامل النساء أيها السيد؟

بوذا: لا تنظر إليهن.

آنندا: فإذا اضطررنا للنظر إليهن؟

بوذا: فلا تخاطبهن.

آنندا: فإذا خاطبننا؟

بوذا: فكن منهن على حذر!!

ولعل هذا يتطابق إلى حد كبير مع نظرة مشايخ الدين الإسلامي إلى المرأة.

أما الديانات الفرعونية فقد اختلف موقفها من المرأة عن كل ما ذكرنا من ديانات، بسبب تأثير عصر الأمومة الذي امتد حتى الإمبراطورية الوسطى. فكان النسب للأم، والمرأة وحدها هي التي تملك وترث، وكانت لها منزلة خاصة رفيعة في المجتمع، تختلف عن منزلتها في باقي المجتمعات القديمة الرافدية والفارسية والهندية، فهي التي تنزل إلى الأسواق لتمارس التجارة، تاركة الرجل في البيت لينسج، ولم يكن غريباً والحالة هذه أن نجد في النقوش التاريخية أسماء كثيرة لنساء مثل كليوباترا ونفرتيتي، وأن نجد رمسيس الثالث يتباهى بالمرأة في مملكته، فهي “تذهب حيث تشاء مكشوفة الأذنين فلا يتعرض لها أحد”(6).

كما لم يكن غريباً أن يعلق ماكس ميلر على ذلك قائلاً: ليس ثمة شعب قديم أو حديث رفع منزلة المرأة مثل ما رفعها سكان وادي النيل.

ونصل إلى المرأة في الملَّتين اليهودية والمسيحية، من حيث كونهما ديانة واحدة، إذ كانت المسيحية حتى القرن الثالث الميلادي تعتبر فرقة مجددة من فرق اليهودية.

كانت المرأة في مجتمع الأمومة الذي ساد في العهود الأولى لليهودية تتمتع بالامتيازات التي تتمتع بها في باقي الديانات القديمة، لكنها بعد سيادة المجتمع الأبوي الذكوري خسرت معظم هذه الامتيازات. فرغم أن ارتباط النسب بالأم ما زال سائداً في اليهودية حتى اليوم، إلا أن المرأة تحولت إلى قطعة متاع مملوكة للرجل، وشهادة رجل واحد تعادل شهادة مائة امرأة، وإذا ذهبت إلى الصلاة لا تدخل في النصاب الواجب اكتماله لأداء الشعائر (لاحظ هذا مع إعفاء الفقهاء للمرأة من حضور صلاة الجمعة).

إضافة إلى ما وصل إليها من الديانات الفارسية التي سبقتها من احتفاء بولادة الذكور واستياء من ولادة الإناث(7). تواكب ذلك كله وترسخ مع تدوين تعاليم الأحبار والكهنة من جهة، ومع إعادة صياغة التوراة على مدى قرون متعاقبة لتصبح ” عهداً قديماً” في الكتاب المقدس عند مسيحية اليوم.

ولعلنا نستطيع أن نجزم، بأن اليهودية هي أول من ألقى تبعة الخطيئة الأولى على المرأة، وتابعتها على ذلك المسيحية، وحمل من اعتنق الدعوة المحمدية منهم ذلك معه، وهذا يفسر تسلل القصة التوراتية لبدء الخلق وللخطيئة الأولى إلى أغلب التفاسير المعتبرة للتنزيل الحكيم، رغم عدم وجود ما يدعمها أو حتى يشير إليها فيه.

وردت القصة في سفر التكوين، الإصحاح الثالث، الآيات 1-19، تقول:

” وكانت الحية أحيل جميع حيوانات البرية التي عملها الرب الإله، فقالت للمرأة أحقاً قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة، فقالت المرأة للحية من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منها ولا تمساه لئلا تموتا، فقالت الحية للمرأة لن تموتا، بل الله عالم أنه يوم تأكلان منه تنفتح أعينكما وتكونان عارفين الخير والشر، فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل وأنها بهجة للعيون وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت وأعطت رجلها أيضاً معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر، وسمعا صوت الرب الإله ماشياً في الجنة عند هبوب ريح النهار، فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرب الإله في وسط شجر الجنة، فنادى الرب الإله آدم وقال له أين أنت، فقال سمعت صوتك في الجنة فخشيت لأني عريان فاختبأت، فقال من أعلمك أنك عريان، هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها، فقال آدم المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت، فقال الرب الإله للمرأة ما هذا الذي فعلت، فقالت المرأة الحية أغرتني فأكلت، فقال الرب الإله للحية لأنك فعلت هذا ملعونة أنت من جميع البهائم ومن جميع وحوش البرية، على بطنك تسعين وتراباً تأكلين كل أيام حياتك، وأضع عداوة بينك وبين المرأة وبين نسلك ونسلها، هو يسحق رأسك وأن تسحقين عقبه، وقال للمرأة تكثيراً أكثر آلام حبلك، بالوجع تلدين أولاداً، إلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك، وقال لآدم لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك لا تأكل منها ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكاً وحسكاً تنبت لك وتأكل عشب الحقل، بعرق وجهك تأكل خبزاً حتى تعود إلى الأرض التي أخذت منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود ” (انتهى الاقتباس).

صار على المرأة بموجب هذا الكلام ألا ترفع رأسها أو صوتها بالاحتجاج مهما حصل، بعد أن كانت السبب الأصلي في اللعنات التي صبها الرب الإله على الحية وعلى الأرض وعلى آدم، وبعد أن تقررت سيادة الرجل عليها. وكان من الطبيعي أن تصبح في نظر المجتمع ” أمرُّ من الموت، قلبها أشراك ويداها قيود، الصالح قدام الله ينجو منها، أما الخاطئ فيؤخذ بها “. وصار على المرأة اليهودية أن تخفي عارها هذا تحت الحجاب.

ورغم أن المسيحية في دعوتها الأولى كانت أكثر تساهلاً تجاه المرأة، من حيث أنها رسالة جاءت لجميع الناس وليس لبني إسرائيل، وللذكور والإناث على حد سواء، إلا أن رسائل الرسل وتعاليمهم وآراء المتأولين من القديسين حرمت المرأة من كل ما كان يمكن أن تحصل عليه. يقول بولس الرسول في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس: أريد أن تعلموا أن رأس المرأة الرجل ورأس الرجل المسيح ورأس المسيح الله.

ويقول القديس ترتوليان عن المرأة أنها ” مدخل الشيطان إلى نفس الإنسان، ناقضة لنواميس الله، مشوهة لصورة الرجل المخلوق على صورة الله”. وكان على المرأة بموجب تعاليم الرسل والكنيسة في المراحل المتأخرة أن تلزم البيت، وأن تصمت في الكنائس إذ لا يجوز لها الكلام هناك (قارن هذا مع الرأي الفقهي الذي يقول أن صوت المرأة عورة)، وأن تسأل رجلها في البيت إذا أرادت أن تتعلم، وأن تغطي رأسها، أما الرجل فلا ينبغي أن يغطي رأسه لأنه صورة الله.

نأتي أخيراً إلى المرأة ووضعها في المجتمع العربي قبل البعثة المحمدية، هذا المجتمع الذي كان يتألف من مزيج من اليهود والمسيحيين والوثنيين، ولا يخلو من أقليات حنيفية وفارسية وغيرها بحكم نشاطاته التجارية.

توزع مجتمع ما قبل البعثة المحمدية في الحجاز ونجد وباقي مناطق شبه الجزيرة العربية، وامتد جنوباً ليشمل اليمن، وشمالاً ليشمل بلاد الشام وقسماً من العراق. وكان القسم الأكبر من أبناء هذا المجتمع يعيش في البوادي والصحارى، ضمن تشكيلات أسرية وقبلية، والقسم الأصغر في حواضر ومدن تلعب دور الأسواق التجارية الثابتة.

وكان طبيعياً أن يختلف وضع المرأة في الحواضر عنه في البوادي والصحارى، كما كان طبيعياً أيضاً أن تحمل النظرة إلى المرأة في القسمين بعضاً من رواسب هذه الديانة أو تلك، لكن الواضح أمام الدارس أن وضع المرأة العربية الحرة في مجتمع ما قبل البعثة المحمدية كان على مستوى كبير من العلو والرفعة، رغم ما كان يحكمها من عادات وتقاليد وأعراف، في مجال الزواج والطلاق والإرث والحجاب ومخالطة الرجال وإنشاد الشعر والمشاركة في الحوارات السياسية والحكم.

فالمرأة العربية البدوية، بغض النظر عن ديانتها وديانة أهلها، كانت حرة في اختيار زوجها، وفي طلاقه إن كانت العصمة بيدها، إذ يكفي أن تحول المرأة باب خيمتها في غياب زوجها، ليفهم حين يعود أنها طلقته. وكانت ملكة كبلقيس وزنوبيا، وشاعرة كالخنساء، وكاهنة كزرقاء اليمامة، وحكيمة كجهينة. وكان العديد من القبائل والعشائر يحمل اسم أمه، كأمية وغزية ومزينة وغيرها كثير.

في الجانب الآخر، نجد أن عدداً من العادات والتقاليد أخذ طريقه إلى هذه المجتمعات، كعادة وأد البنات، وأشكال الزواج التي تركت فيما بعد، كزواج المقت وزواج الضيزن وزواج الشغار والطلاق بالظهار، وأسلوب توزيع الإرث، كتوريث الرجال المقاتلين دون النساء والصبيان، لكن هذا كله لم يكن عاماً في كل أنحاء المجتمع العربي من جهة، ولم يكن بالصورة البشعة المتفشية التي صورها عليها فقهاء الإسلام فيما بعد، إظهاراً لفضل الإسلام في زعمهم وتعظيماً لشأنه.

فالنفور من ولادة الأنثى في المجتمع العربي الذكوري كان موجوداً بلا شك، بدليل قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم} النحل 58. ووأد البنات كان أيضاً موجوداً بلا شك، بدليل قوله تعالى: {وإذا الموؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت} التكوير 8و9. لكن وأد البنات لا يمكن أن يكون شاملاً عاماً، وإلا لما وجدنا في المجتمعات الجاهلية سوى الذكور، ولا نقرض العرب، الأمر الذي يدحضه الواقع وتنكره الأخبار.

ويحط بنا المطاف في مسيرتنا التاريخية هذه، عند المرأة في الإسلام، وعند لباسها وحجابها كما ورد في التنزيل الحكيم وفي السنة النبوية من جانب، وكما رآه وفهمه الفقهاء وطبقوه بعد العصر النبوي من جانب آخر.

وردت قصة الخطيئة الأولى في التنزيل الحكيم في ثلاثة مواضع:

·         {وقلنا ياآدم..} البقرة 35، 36.

·         {ويا آدم اسكن أنت وزوجك..} الأعراف 19، 22.

·         {فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك..} طه 117، 121.

ونلاحظ مع التأمل عدداً من الأمور:

1.    عدم وجود أي إشارة تصريحية أو تلميحية تدل على أن ما ارتكبه آدم وزوجه في الجنة كان خطيئة جسدية جنسية، كما تزعم الرواية التوراتية.

2.    عدم وجود ما يدل على اسم زوجة آدم، ليس في هذه الآيات فحسب، بل في جميع آيات التنزيل الحكيم، ولا ندري من أين جاءت به الديانات الأخرى، وتسلل إلى التفاسير. ولعل دارساً باللسانيات يهتم بعدنا باكتشاف العلاقة بين اسم حواء، عند المفسرين العرب، واسم إيفا أو إيوا عند الفرنسيين والإنكليز.

3.    الخطيئة الأولى في التنزيل الحكيم معصية ارتكبها آدم وزوجه في آيات البقرة والأعراف، وانفرد بارتكابها آدم في آيات طه، وكانت في المواضع الثلاثة بوسوسة من الشيطان.

4.    عدم وجود أثر لأفعى أو حية أو غيرها في جميع آيات التنزيل، لها علاقة مباشرة أو غير مباشرة بموضوع المعصية الأولى.

5.    لا وجود في الجنة التي ذكرتها الآيات، سواء أكانت في السماء أم في الأرض، لأي ثوب أو لباس على وجه الحقيقة، فكل ما تذكره الآيات هو أن آدم وزوجه بدت لهما سوآتهما {وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} .

هذه الملاحظة الأخيرة بالذات تقودنا إلى آية أوردها تعالى في سورة الأعراف بعد الحديث عن آدم وزوجه والشجرة، يقول فيها:

{يا بني آدم قد أنزلنا عليكم..} الأعراف 52، 62، لأنها تربط بكل صراحة ووضوح بين المعصية الأولى وانكشاف السوآت والبحث عما يغطيها (بورق الجنة أولاً ثم باللباس) لتصل أخيراً إلى اللباس الذي أنزله الله على بني آدم ليواري سوآتهم. وكنا قد أشرنا في صفحات سابقة إلى أن على المتصدي الدارس لمسألة لباس المرأة وحجابها في الرسالة المحمدية أن يبدأ من اللباس المواري لسوآت بني آدم عموماً ليصل إلى الحجاب والجلباب والخمار عند المرأة خصوصاً، وهو ما سنفعله نحن في الصفحات التالية والله المستعان.

اللباس:

اللام والباء والسين أصل صحيح يدل على الستر والتغطية. وإن انصرف على الحقيقة دل على اللباس واللبوس، كما في قوله تعالى:

·         {ويلبسون ثياباً خضراً من سندس} الكهف 31.

·         {يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤاً ولباسهم فيها حرير} فاطر 33.

·         {وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم} .

إما إن انصرف على المجاز دل على اللبس والالتباس، كما في قوله تعالى:

·         {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} البقرة 42.

·         {وهو الذي جعل لكم الليل لباساً والنوم سباتاً} الفرقان 47.

·         {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} البقرة 187.

·         {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} النحل 112.

فهل نفهم اللباس الذي تشير إليه الآية على وجهه الحقيقي أم على وجهه المجازي؟ نحن نرى أن في الآية ما يوجهنا لترجيح الجانب المجازي في اللباس. فالله تعالى يقول إن آدم وزوجه طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة بعد أن بدت لهما سوآتهما (طه 121، الأعراف 22).

أي أنهما كانا عاريين، ثم خصفا عليهما ثوباً على وجه الحقيقة من ورق الجنة، لكنه تعالى يقول هنا إن الشيطان ينزع عن آدم وزوجه {لباسهما ليريهما سوآتهما} (الأعراف 27) أي أنهما ما كانا عاريين على وجه الحقيقة حين وسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما ووري عنهما، وهذا يناقض قوله الأول، وحاشا لله أن تتناقض أقواله وعباراته. ولا يرتفع التناقض إلا إذا اعتبرنا اللباس هنا بمعناه المجازي، وهو ما ذهب إليه ابن عباس وابن جريج وقتادة وغيرهم. الأمر الآخر هو أن اعتبار الجانب المجازي في اللباس يجعلنا نفهم لباس التقوى الذي ذكرته الآية، إذ لا يمكن أن يكون لباس التقوى ثوباً على الحقيقة.

ثمة إشارة تلميحية توجهنا إلى ترجيح الجانب المجازي في اللباس، هي قوله تعالى {وريشاً}. يقول ثعلب وابن الأعرابي: كل شيء يعيش به الإنسان من متاع ومال ومأكول هو ريش، والجمع رياش. وقد قرأها عثمان بن عفان بالجمع. وننتقل إلى السوأة المذكورة في الآيات.

السوأة:

السوأة كاللباس، لها وجه حقيقي ووجه مجازي. فأما على الحقيقة فتعني القبح، كما في الأثر ” سوآء ولود خير من حسناء عقيم “. وتعني البرص كما في قوله تعالى {واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء} طه 22. وهو قول الجاحظ عند الزمخشري. وأما على المجاز فتعني العورة وهي مالا يجوز أن ينكشف من الجسد. ومن هنا قيل إنها كناية عن فرج الرجل والمرأة، لأن في انكشافه ما يسيء. وتعني الفضيحة والجيفة، كما عند الرازي في تفسير قوله تعالى {فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه} المائدة 31.

ومرة أخرى تجدنا نميل إلى ترجيح الجانب المجازي للسوأة كما وردت في الآية. لأننا افترضنا في اللباس أن آدم وزوجه كانا عاريين في الجنة قبل وسوسة الشيطان وأكل الثمرة المنهي عن أكلها. فإذا فهمنا السوأة بمعنى الفرج عند الرجل والمرأة على الحقيقة، حق لمعترض أن يقول: لكن الفروج كانت موجودة ومكشوفة قبل المعصية ولم يكن في انكشافها ما يسيء، لأن الإحساس بالحرج لدى انكشاف العورة إحساس اجتماعي لا يمكن حصوله بوجود المرء وحيداً في البرية، ولا يمكن وقوعه بغياب آخرين يرون السوأة ويطلعون على العورة. والله تعالى يحدد أن ظهور السوآت في عين آدم وزوجه كان بعد المعصية وأكل الشجرة ولا يتفق هذا مع كونهما عاريين قبلها إلا إذا اعتمدنا الجانب المجازي للفظ.

فكما ذهب ابن عباس وقتادة إلى تعريف لباس التقوى بأنه العمل الصالح، نذهب نحن إلى تعريف السوأة بأنها العمل الطالح، الذي يسيء إلى المرء انكشافه، خصوصاً إذا كان من التوابين ذوي الضمائر الحية المؤمنة كآدم وزوجه. لذا فإننا نؤكد ما قلناه في كتابنا (الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة / بحث البشر والإنسان) بأن {فبدت لهما سوآتهما} هي العمل السيء وليس الفرج.

يبقى أمامنا سؤال لا نستطيع أن نتجاهله. هو أننا إذا اعتبرنا اللباس مجازاً، والسوأة مجازاً، فلماذا طفق آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة، وهذه صورة حقيقية لا مجاز فيها؟. نقول: نعود إلى آيتي الأعراف وطه، لنجده تعالى يقول: {بدت لهما سوآتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة} ونتذكر أنه سبحانه قال مخاطباً آدم قبل ذلك مباشرة: {إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ ولا تضحى} طه 118، 119. ونلاحظ أن الواو في قوله {وطفقا} استئنافية، ليس فيها ما يشعر بأية رابطة سببية أو شركية بين ظهور السوآت وخصف ورق الجنة.

لقد أسكن تعالى آدم وزوجه الجنة، حيث لا جوع (وجود الثمار البرية) ولا عري ولا ظمأ لوجود المياه ولا حاجة إلى ظل، فهو لا يطلب الشبع لأنه دائماً شبعان ولا يطلب الكسوة لأنه لا يجد حرجاً في عريه (ورحم الله من قال إن المؤمن لا يعرى ولو كان عارياً والكافر لا يخفى ولو كان كاسياً)، ولا يطلب الري لأنه لا يعطش لكثرة المياه، ولا يطلب الظل لأن الظل موجود والحر لا يؤذيه. كل هذا مرهون بأمر واحد، هو طاعة الله بعدم الاقتراب من الشجرة. لكن الله خلق الإنسان بالأصل نسَّاءً ضعيفاً، ومن هنا جاءت معصية آدم، بدليل قوله تعالى {ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما} طه 115.

أما حين عصى آدم ربه فغوى، فقد خرج إلى العراء هو ومن معه حيث الجوع والعطش إذا لم يعمل، ويجد الحاجة إلى الملابس التي تحميه من البرد وإلى الظل الذي يحميه من الحر ويحتاج إلى ظاهرة العمل (فتشقى) وهنا جاء مفهوم الشقاء للجنس في ظاهرة العمل لأنه في مجتمع الأمومة المرأة تعمل أكثر من الرجل. وفي رأينا سبب الاستتار بورق الجنة هو تصرف طفولي بدائي للشعور بالذنب، فعندما بدا له ذنبه (وعي الذنب وبداية ظهور مفهوم الضمير الإنساني) حاول الاختباء وذلك بخصف ورق الجنة كما لو أنه باختبائه يخفي ذنبه.

أما القول بأن خصف ورق الجنة كان لمواراة الفروج والعورات فليس عندنا بشيء. لأن ظهور العورات وإبداء السوآت على الحقيقة أمر مستهجن طبعاً ومستقبح عقلاً، إنما ضمن وسط اجتماعي يضم آخرين، وليس في جنة أرضية أو سماوية لا آخر فيها. وإذا كان آدم ضمن مجتمع يضم آخرين، أي ليس لوحده فهذا يعني أن البشر وجد على الأرض قبل آدم، وأن آدم هو أول مخلوق تأنسن (Homosabiens} (الاصطفاء) وكان ضمن مجموعة حيوانية هي البشر (Homoerctus)، وعندها لا يوجد شيء اسمه مستهجن أو عورة. ويعني فعلاً أنه كان عارياً، وأن خصف الورق هو سلوك طفولي بدائي للشعور بالذنب لذا قال عن آدم وزوجه (أبويكم) ولم يقل والديكم لأن آدم أبو الإنسان وليس والد البشر.

تعرض القرآن للحجاب والجلباب والخمار في آيات ثلاث فقط(8). الأولى وهي آية الحجاب تتعلق بنساء النبي حصراً، ولم يشر لا تلميحا ولا تصريحاً أنها تتعلق بنساء المؤمنين، والآية هي: {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي..} الأحزاب 53. وقد روى السيوطي في تفسير الجلالين أن أسباب نزول الآية هي أنه لما تزوج النبي زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون، فأخذ كأنه يتهيأ للقيام فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة ثم انطلقوا، فجئت (والحديث على لسان أنس بن مالك} (البخاري 4417) فأخبرت النبي أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله الآية.

وفي رواية عن عائشة زوجة الرسول حول أسباب نزول هذه الآية (أخرجها الطبراني) قالت: كنت آكل مع النبي في قعب فمر عمر، فدعاه فأكل فأصابت إصبعه إصبعي فقال: أوه لو أطاع فيكن ما رأتكن عين، فنزلت آية الحجاب. وفي رواية ثالثة عن ابن عباس حول نزول هذه الآية قال: دخل رجل على النبي فأطال الجلوس فخرج النبي ثلاث مرات ليخرج فلم يفعل، فدخل عمر فرأى الكراهية في وجهه، فقال للرجل: لعلك آذيت النبي فقال النبي لقد قمت ثلاثاً لكي يتبعني فلم يفعل، فقال له عمر: يا رسول الله لو اتخذت حجاباً فإن نساءك لسن كسائر النساء، وذلك أطهر لقلوبهن، فنزلت آية الحجاب.

أما منع زواج نساء الرسول من بعده فجاء في أسباب نزولها أنه بلغ النبي أن رجلاً وهو (غالباً) طلحة بن عبيد الله يقول: لو قد توفي النبي تزوجت فلانة من بعده، فنزلت الآية بمنع زواج زوجات الرسول بعد وفاته.

ونحن نرى ناحية مهمة جداً في هذه الآية عندما ذكر الحجاب ذكر بيوت النبي من مقام النبوة كتعليم، وعندما حرّم زواج زوجات النبي على المؤمنين ذكره من مقام الرسالة: {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده} .

والآية الثانية وهي آية الجلباب جاءت لنساء الرسول ولنساء المؤمنين وهي: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك} الأحزاب 59. وجاء في أسباب نزولها عن عائشة قالت: خرجت سودة بعدما ضرب الحجاب على نساء النبي لحاجتها (كانت النساء يقضين حاجتهن خارج المدينة ومساءً) وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر فقال: يا سودة أما والله ما تخفين علينا فانظري كيف تخرجين، فانكفأت راجعة ورسول الله في بيتي وإنه ليتعشى وفي يده عِرق (عظم عليه بعض اللحم) فقالت: يا رسول الله إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، فأوحى الله إليه ثم رفع عنه وإن العِرق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن (البخاري 4421).

وأخرج ابن سعد في الطبقات عن أبي مالك قال: كانت نساء النبي يخرجن بالليل لحاجتهن، وكان ناس من المنافقين يتعرضون لهن فيؤذين، فشكون ذلك، فقيل ذلك للمنافقين فقالوا إنما نفعله بالإماء، فنزلت الآية. وهنا أيضاً نلاحظ ناحية مهمة جداً وهي أن الآية خاطبت الرسول من مقام النبوة {يا أيها النبي} لأنها جاءت لشروط موضوعية سادت في عهد النبي (ص) لذا فهي آية تعليمية لا تشريعية وإسقاطها الآن هو الخروج حسب الأعراف لتفادي أذى المجتمع.

الآية الثالثة تتعلق بالخمار والزينة وهي موجهة لعموم المؤمنات: {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن.. الآية} النور 31. وجاء في أسباب نزولها عن مقاتل قال: بلغنا أن جابر بن عبد الله حدث أن أسماء بنت مرتد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير مؤتزرات فيبدو ما في أرجلهن يعني الخلاخيل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء ما أقبح هذا. فأنزل في ذلك الآية. وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت صرتين من فضة واتخذت جزعاً، فمرت على قوم فضربت برجلها فوقع الخلخال على الجزع فصوَّت، فأنزل {ولا يضربن بأرجلهن..} إلى آخر الآية. (انتهى الاقتباس).

لقد قلنا أن الرسالات السماوية كلها أنصفت المرأة حين نزلت، وأعادت لها كرامتها وموقعها إلى جانب الرجل، ورسمت لكل منهما دوره في الأسرة والمجتمع. وقلنا إن ما آل إليه وضع المرأة فيما بعد، وتغير نظرة المجتمع إليها، إنما كان بتأثير انتهاء عصر الأمومة وحلول العصر الأبوي، وبتأثير المنطلقات الذكورية التي حكمت تعاليم السدنة في الديانات الرافدية والفارسية والهندية، وحكمت تعاليم الأحبار في الديانة اليهودية، وتعاليم الكهنة والرسل في المسيحية.

ولم تكن الرسالة المحمدية، من هذه الزاوية بالذات، أحسن حظاً من سابقاتها، ولم يكن الفقهاء والمفسرون، في مسألة المرأة ولباسها وحجابها، أكثر اعتدالاً من سابقيهم من سدنة وأحبار وكهنة ورسل، يضاف إلى ذلك أمور:

1 – دخول العديد من أتباع الديانات السابقة في الدين الجديد، حاملين معهم الكثير من معتقداتهم الأولى. نذكر من مشاهيرهم ابن جريج المفسر الشهير، وتميم بن أوس بن حارثة الداري الصحابي المعروف، صاحب حديث الجساسة والدجال، كان راهب عصره وعابد أهل فلسطين، وهو أول من أسرج وأول من قص في المسجد.

ومنهم كعب بن ماتع الحميري المعروف بكعب الأحبار، أسلم في عهد عمر، واستصفاه معاوية لكثرة علمه وأسند إليه القصص في بلاد الشام، وهو الذي روى ابن عبد البر في الاستيعاب أنه قال: ما من شبر في الأرض، إلا وهو مكتوب في توراة موسى ما يكون عليه وما يخرج منه إلى يوم القيامة. وغير هؤلاء كثير.

2 – تأخر التدوين إلى ما بعد القرن الأول من جهة، ورواية الحديث بالمعنى من جهة ثانية، وتفشي الأحاديث الموضوعة بين الناس بدوافع سياسية ومذهبية من جهة ثالثة.

3 – التحرج من الوقوع في الإثم، الذي دفع التطرف فيه أئمة كباراً، كالطبري والسيوطي، لتضمين كتبهم كل ما وصل إليهم دون غربلة ونخل، تاركين مسؤولية ذلك على القارئ.

4 – نظرة القدسية والعصمة التي يسبغها البعض على التراث بأجمعه، وعلى أهل التراث بأجمعهم، إلى حد وجد ابن عبد البر نفسه معه في طريق مسدود، وهو ينظر في آيات الوضوء والتيمم، ويحاول الوصول إلى حل منطقي لترتيب نزولها لا يتعارض في الوقت نفسه مع كل ما قيل قبله، فقال عبارته المشهورة: وهذا هو الداء الذي لم أجد له دواء.

كل هذا مجتمعاً، ساهم بدرجة أو بأخرى، في صياغة نظرة الفقهاء بعد العصر النبوي إلى المرأة عموماً، وإلى لباسها وحجابها وخمارها خصوصاً.

نبدأ بالإمام الطبري، وبقصة الخطيئة الأولى كما وردت في تفسيره وفي تاريخه، يقول: حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق بن همام فقال، أخبرنا عمر بن عبد الرحمن قال، سمعت وهب بن منبه يقول(9): لما أسكن الله تعالى آدم وزوجته الجنة، ونهاه عن الشجرة، وكانت شجرة غصونها متشعب بعضها في بعض، وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم، وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فلما أراد إبليس أن يستزلهما دخل في جوف الحية، وكان للحية أربع قوائم، كأنها بختية، من أحسن دابة خلقها الله تعالى، فلما دخلت الحية الجنة خرج من جوفها إبليس، فأخذ من الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته، فجاء بها إلى حواء فقال: أنظري إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها، فأخذت حواء فأكلت منها، ثم ذهبت بها إلى آدم فقالت: أنظر إلى هذه الشجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لونها، فأكل منها آدم، فبدت لهما سوآتهما، فدخل آدم في جوف الشجرة،

فناداه ربه: يا آدم أين أنت؟ قال: أنا هنا يا رب. قال: ألا تخرج؟ قال: أستحي منك يا رب. قال: ملعونة الأرض التي خلقت منها لعنة حتى يتحول ثمرها شوكاً. قال: ولم يكن في الجنة ولا في الأرض شجرة كانت أفضل من الطلح والسدر. ثم قال: يا حواء، أنت التي غررت عبدي، فإنك لا تحملين حملاً إلا حملته كرهاً، فإذا أردت أن تضعي ما في بطنك أشرفت على الموت مراراً. وقال للحية: أنت التي دخل الملعون في بطنك حتى غرَّ عبدي، ملعونة أنت لعنة حتى تتحول قوائمك في بطنك، ولا يكن لك رزق إلا التراب، أنت عدوة بني آدم وهم أعداؤك، حيث لقيت أحداً منهم أخذت بعقبه، وحيث لقيك شدخ رأسك.

قيل لوهب: ما كانت الملائكة تأكل. قال: يفعل الله ما يشاء. (10)

ثم يسوق الطبري في تفسيره وتاريخه قصة أخرى للخطيئة الأولى يبدو فيها واضحاً الجانب الجنسي فيقول: حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا عبد الله بن وهب قال، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: وسوس الشيطان إلى حواء في الشجرة حتى أتى بها إليها، ثم حسَّنها في عين آدم، قال: فدعاها آدم لحاجته قالت: لا، إلا أن تأتي هاهنا، فلما أتى قالت: لا، إلا أن تأكل من هذه الشجرة. قال: فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما.

قال: وذهب آدم هارباً في الجنة، فناداه ربه: يا آدم أمنِّي تفر؟ قال: لا يا رب ولكن حياء منك. قال: يا آدم أنى أتيت؟ قال: من قبل حواء يا رب. فقال الله عز وجل: فإن لها علي أن أدميها في كل شهر مرة كما أدمت هذه الشجرة. وأن أجعلها سفيهة وقد كنت خلقتها حليمة، وأن أجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً، وقد كنت جعلتها تحمل يسراً وتضع يسراً. قال ابن زيد: ولولا البلية التي أصابت حواء لكان نساء أهل الدنيا لا يحضن، ولكنَّ حليمات، ولكنَّ يحملن يسراً ويضعن يسراً. (11)

ثم يسوق بعدها قصة ثالثة فيها ما ليس في سابقتيها، يقول: حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل الأبرش، عن محمد بن إسحق (12)، عن يزيد بن عبد الله بن قُسَيِّط، عن سعيد بن المسيب قال: سمعته يحلف بالله ما يستثني (13): ما أكل آدم من الشجرة وهو يعقل، ولكن حواء سقته الخمر حتى إذا سكر قادته إليها فأكل منها. فلما واقع آدم وحواء الخطيئة، أخرجهما الله تعالى من الجنة وسلبهما ما كانا فيه من النعمة والكرامة، وأهبطهما وعدوهما إبليس والحية إلى الأرض.

والمتأمل في القصص الثلاث التي تعكس نظرة المفسرين إلى المرأة وموقف الفقهاء منها، يجد أنها تكاد تكون صورة طبق الأصل عن الرواية التوراتية التي أوردناها آنفاً. لا بل يجد فيها ما لم يرد في بال واضع الرواية التوراتية. ويجد فيها من الركاكة والتناقض المضحك ما يدفع الإنسان العادي إلى رفضها وإنكارها، فما بالك بإمام كالطبري. لكنه التحرج من الإثم وتقديس التراث والسلف.

فممارسة الجنس في الجنة كانت شائعة بين آدم وزوجه، حسب القصة الثانية، وهو ما تنكره القصة الثالثة حين تعتبر الخروج من الجنة جزاء على الخطيئة الأولى، وعقوبة على ممارسة الجنس في مكان مقدس، مما يذكرنا بأسطورة أساف ونائلة وتحولهما إلى تمثالين، عقوبة لهما على ممارسة الجنس في البيت الحرام.

والسّكر وتعاطي شرب الخمر كان معروفاً في الجنة، حسب القصة الثانية، التي لا ندري إن صدق رواتها، كيف جازت على رجل مثل سعيد بن المسيب (14).

والحمل والإنجاب كان شائعاً في الجنة، حسب القصة الثانية، فقد جعلها الله بالأصل تحمل يسراً دون حيض، إلا أنه سبحانه جعلها تدمى مرة في الشهر عقوبة على إدمائها الشجرة، وجعلها تحمل كرهاً وتضع كرهاً.

والملائكة كانت تأكل في الجنة من ثمر الشجرة المحرمة لتبقى خالدة، حسب القصة الأولى، رغم ما ورد في التنزيل الحكيم صراحة من أنهم لا يأكلون.

لكننا لا نستطيع إنكار أن الإمام الطبري كان في نفسه شيء، لكنه لسبب أو لآخر لا يستطيع البوح به، بدليل السطر الأخير من القصة: “قيل لوهب: ما كانت الملائكة تأكل! فقال: يفعل الله ما يشاء”. واللبيب من الإشارة يفهم.

لقد أباح المفسرون والفقهاء لأنفسهم الرواية عن بني إسرائيل تحت غطاء حديث نسبوه للنبي يقول: “حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج” (البخاري 3202). فأخذت الإسرائيليات طريقها إلى كتب التفسير، وأخذها الخلف عن السلف بتأثير التحرج من الإثم وتقديس التراث وأهله كما أوضحنا آنفاً. ولكن، كيف يصح مثل هذا الحديث، إلى جانب عشرات الأحاديث الأخرى التي تنهى عن سؤالهم والأخذ عنهم؟

·         روى أحمد عن جابر أن عمر بن الخطاب أتى النبي بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب، فقرأه على النبي فغضب وقال: أمهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لو أن موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني. وفي رواية أخرى: فغضب وقال: لقد جئتكم بها بيضاء نقية، لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فيخبروكم بحق فتكذّبوه، أو بباطل فتصدقوه.

·         روى البخاري عن أبي هريرة: لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون. (البخاري 4125).

·         روى البخاري من حديث الزهري عن ابن عباس أنه قال: كيف تسألون أهل الكتاب، وكتابكم الذي أنزل الله على رسوله أحدث الكتب تقرؤونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا كتاب الله وغيروه، وكتبوا بأيديهم كتاباً قالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً، ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم. لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل إليكم. (البخاري 6815).

·         روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود أنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، أما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل. (مسند أحمد 14104).

فإذا كان هذا حال المفسرين لكتاب الله، في نظرتهم إلى المرأة، حين يرون أنه تعالى طرد آدم وحواء من الجنة لأمر ارتكبته حواء، وأنها كانت المسؤولة الأولى عمداً مع الإصرار عن الخطيئة الأولى، وأنه سبحانه أخذ جميع بنات حواء بجريرة أمهن خلافاً لقوله في التنزيل الحكيم {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، وأنه عاقبها فجعلها تحيض مرة في الشهر ولم تكن قبل ذلك كذلك.

نقول إذا كان هذا ما فهمه المفسرون من كتاب الله، فما هو حال المحدثين وموقفهم من المرأة، وكيف نظروا إليها؟

·         روى الترمذي وأحمد وأبو داوود عن النبي أنه قال: “لو كنت آمر أحداً أن يسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها” (الترمذي 1079). وهذا حديث لا يتفق مع قوله تعالى{ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} الروم 21.

·         روى ابن الأحوص عن النبي أنه قال: “النساء عورة فاحبسوهن في البيوت”، وهذا لا يتفق مع حديث النبي الآخر “استوصوا بالنساء خيراً” (البخاري 4787)، إلا إذا كان الخير عند النبي هو السجن.. حاشاه.

·         جاء في صحيح البخاري أن النبي خرج في أضحى أو فطر إلى المصلى، فمر على نساء فقال: “يا معشر النساء تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، قلن وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير، فما رأيت ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن، قلن وما نقصان ديننا وعقلنا؟ قال: أليس شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، فذلك من نقصان عقلها، أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم، فذلك من نقصان دينها”.

·         روي عن أبي هريرة عن النبي أنه قال: “ثلاثة تقطع صلاة الرجل، المرأة والحمار والكلب الأسود” (مسلم 790)، وكان هذا الحديث مدار حوار طريف بين السيدة عائشة (رض) وأبي هريرة، فارجع إليه في مظانه.

·         أورد الإمام الغزالي الملقب بحجة الإسلام في كتابه إحياء علوم الدين حديثاً أخرجه الطبراني، يقول فيه النبي: “للمرأة ستران الزوج والقبر”.

·         وأورد حديثاً آخر أخرجه الحافظ أبو بكر يقول فيه النبي: “للمرأة عشر عورات، إذا تزوجت ستر الزوج واحدة، فإذا ماتت ستر القبر العورات العشر”.

·         وروى ابن مسعود أن النبي قال: “المرأة عورة، إذا خرجت استشرفها الشيطان، وهي أقرب ما تكون من الله ما كانت في بيتها” (الترمذي 1093).

·         وروى أبو الأعلى المودودي: استأخرن فليس لكنّ أن تحققن الطريق (أي تركبن وسطها) عليكن بحافات الطريق. والطريف أن بعض الفقهاء رأى أنه لا يجوز للمرأة أن تلتصق بالجدار لأنه مذكر.

·         وروي عن ابن عمر أن امرأة سألت النبي فقالت: ماحق الزوج على الزوجة؟ فقال: لا تتصدق من بيته بشيء إلا بإذنه، ولا تصوم يوماً إلا بإذنه، فإن فعلت لعنتها ملائكة الله وملائكة الرحمة وملائكة الغضب.

·         وروى السيوطي عن النبي أنه قال: ليس للنساء سلام ولا عليهن سلام (ويقصد بالسلام أي التحية).

·         وروي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: المرأة شر كلها، وشر ما فيها أنه لابد منها.

هذه أمثلة نسوقها كنماذج، نلقي بعض الضوء على نظرة الفقهاء إلى المرأة عموماً، ولو شئنا لأوردنا منها المئات التي تطفح بها كتب الحديث والفقه. ولو شئنا لأوردنا أمام كل منها من الآيات والأحاديث ما يكفل إنكاره وردّه. لكننا نكتفي بالإشارة إلى آيتين من آيات التنزيل الحكيم، من أصل عشرات الآيات التي تكرم المرأة وتساويها بالرجل:

·         {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} الحجرات 13. ونفهم أن الذكر والأنثى عند الله سواء، وأن معيار التكريم عند الله هو العمل الصالح، وليس عنده أي معيار آخر.

·         {ضرب الله مثلا للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط} التحريم 10.

·         {وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون..} التحريم 11.

ونفهم أن المسألة عند الله ليست مسألة ذكورة أو أنوثة، ولا مسألة حيض يمنع من الصلاة والصوم فينقص الدين، فالدين أكبر من مجرد الصلاة والصوم، والله تعالى أكبر وأعقل من أن يجعل من الحيض الذي أبدعه هو في المرأة لغايات حفظ النوع سبباً لتحقيرها ونقصان دينها، ونفهم أنه تعالى يشير في إلماحة رائعة إلى قدر المرأة عنده حين يضربها مثلاً للذين آمنوا من ذكور وإناث، ومثلاً للذين كفروا من ذكور وإناث. لكن أكثر الناس لا يعلمون.

ونقف أخيراً أمام قول النبي: “استوصوا بالنساء خيراً” (البخاري 4787)، وأمام قوله: {ص): رفقاً بالقوارير. ونتساءل: هل لاحظ النبي (ص) أن البعض لا يرفق بالمرأة ولا يستوصي بها خيراً حتى قال ما قال؟ والجواب: نعم بالتأكيد. وكيف لا.، ونحن نقرأ أن إمام التابعين سعيد بن المسيب قال لصهره في أول لقاء بينهما: إن رابك منها أمر فعليك بالعصا!!.

نبذة تاريخية:

أخذ العرب الحجاب عن الفرس الزرادشتيين، الذين كانت المرأة عندهم كائناً غير طاهر، عليها أن تربط فمها وأنفها بعصابة كيلا تدنس بأنفاسها النار المقدسة. وقلد العرب البيزنطيين في عزل المرأة وانزوائها بالمنزل، الذين أخذوا ذلك عن الإغريق، حيث كان المنزل نصفين مستقلين، أحدهما للرجال والآخر للنساء، وتعزز هذا التقليد كلياً أيام الوليد الثاني في العهد الأموي، الذي كان أول من أحدث ركن الحريم في المنزل العربي (15).

وكان العرب قبل وإبان البعثة المحمدية يتألفون من طبقتين، طبقة الأحرار وطبقة العبيد. فقد كان الرق نظاماً معمولاً به عند العرب قبل وبعد البعثة المحمدية. وكان للرق والعبيد مصدران، أسواق النخاسة والغزو. ولم تخرج الغزوات في العصر النبوي عن كونها مصدراً من مصادر الرق، فالإمام الواحدي في أسباب النزول، يربط نزول قوله تعالى: {والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم كتاب الله عليكم..} النساء 24. بغزوة أوطاس فيقول عن أبي سعيد الخدري: أصبنا سبايا يوم أوطاس نعرف أنسابهن وأزواجهن فكرهنا أن نقع عليهن فسألنا النبي (ص) فنزلت الآية فاستحللناهن (16).

والإمام الرازي في تفسيره الكبير يرى للإحصان أربعة وجوه أحدها الحرية. فالمحصنة هي الحرة. ولما سقطت هذه الصفة عن المرأة المسبية في الغزو، فقد أصبحت من ملك اليمين فحلّ وطؤها. ويستشهد بقوله تعالى {ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات} أي الحرائر (17).

كان لابد من هذه التوطئة، لما بين الحرَّة والأَمَة من فرق في اللباس والحجاب، وتأكيداً لما قلناه وقاله كثيرون من أن اللباس والحجاب عند المرأة ليس تكليفاً شرعياً بقدر ما هو سلوك تقتضيه الحياة الاجتماعية والبيئة، يتغير بتغيرها. ومن هنا فقد فرَّق العرب، قبل البعثة المحمدية وأثناءها وبعدها، بين لباس الحرة ولباس الأمة. فلباس الحرة العربية هو لباس السيدة خديجة (رض)، التي تزوجها النبي قبل البعثة.

غطاء للرأس يقي من الحر ويجمع الشعر أن يتبعثر، وثوب طويل يستر القسم الأسفل من الجسد، لعدم جود ألبسة داخلية وقتها، وفضفاض يسمح لها بحرية الحركة في أعمالها وتحركاتها داخل البيت وخارجه، ولم يكن في الثوب فتحات أو جيوب إلا فتحة في الصدر، تبدو منها نهود المرأة حين تنحني إلى الأمام، وهو الجيب الذي ضربت عليه المرأة المؤمنة خمارها حين نزلت آية النور 31.

ولم يكن لباس الرجل يختلف من هذه الزاوية البيئية الاجتماعية عن لباس المرأة، فقد كان يغطي رأسه من الحر، ويلبس ثوباً طويلاً كيلا تظهر عورته حين يقعد لعدم وجود ألبسة داخلية وقتها. بالإضافة إلى لحية كان يطلقها الرجل، حتى لا يعاب بين قومه. وتروي لنا السيرة أن النبي كان يلبس كما يلبس الناس من حوله، حتى أن الرجل يدخل المسجد فيسأل القاعدين: أيكم محمد؟.

أما لباس الأمَة، التي اعتبروها تاريخياً ملك يمين، فقد كان أمراً آخر مختلفاً تماماً عما ذكرنا. وهذا بديهي طبيعي من جانبين. الأول أن الأمَة تعمل عند أسيادها على الطعام والشراب وكافة الأعمال المنزلية إضافة إلى جلب اللوازم والحاجيات من السوق. والثاني اختلاف المكانة الاجتماعية بين الحرائر والإماء، الأمر الذي اقتضى وجود فارق في اللباس للتمييز بينهن.

هذا الفارق الذي تعمق أكثر واتضحت ضرورته بعد الفتوحات الكبرى، في ضوء كثرة عدد الإماء والعبيد، حتى صار امتلاكهم والإكثار منهم موضع تفاخر ومباهاة. وكان لابد لهذا من أن يحظى باهتمام الفقهاء. ومن هنا فنحن نجد في كتب الفقه أبواباً كثيرة تضع أحكاماً للحرّة والحر، وأخرى للأمَة والعبد، في مجال النكاح والطلاق وقذف المحصنات والزنا وغيرها.

فللعبد في موطأ مالك أن يتزوج بامرأتين أما الحر فبأربع. ويقع الطلاق من العبد بتطليقتين ومن الحر بثلاث، وعدة الطلاق للأمَة شهر ونصف، وعدة الترمل بعد وفاة الزوج شهران وخمسة أيام. وحد العبد والأمة في الزنا خمسون جلدة (18)، وحدهما في قذف المحصنات أربعون، وليس على قذف الأمة حد. ولا يجوز للعبد إذا طلق زوجته أن يرتجعها إلا بعد أن يطأها رجل آخر (19).

أما في مسألة الحجاب فقد كان التفريق واضحاً على الصعيد التطبيقي الفقهي بين الحرّة والأمَة. يقول الدكتور نجمان ياسين (20): “أما الحجاب الذي ضرب على المرأة، والذي كان يعني إدناء الجلباب وفقاً لقوله تعالى:

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الأحزاب 59.

فالقصد منه ألا “يتشبهن بالإماء في لباسهن إذا خرجن من بيوتهن لحاجتهن، فيكشفن عن شعورهن ووجوههن، ولكن يدنين عليهن من جلابيبهن، لئلا يعرض لهن فاسق بأذى إذا علم أنهن حرائر”. فقد كانت الحرة تلبس لباس الأمة ذاته، فأمر الله نساء المؤمنين بإدناء جلابيبهن عليهن، وإدناء الجلباب أن تتقنع وتشد على جبينها. وهذا يعني أن الجلباب اتخذ كإجراء وتدبير لمعالجة حالة استثنائية دخلت على مجتمع المدينة.

وأن الرسول (ص) قد خشي ألا يميز الفسّاق من الشباب بين الأمَة التي يستلزم وضعها باعتبارها مملوكة أن تظهر مكشوفة، وأن تظهر محاسنها بأنواع الزينة للترغيب في شرائها وبين الحرة، فيتبعها الغواة وقد يصيبها منهم مكروه. والحق أن المفسرين قد وضعوا اليد على سبب إدناء الجلابيب، ووجدوا علاقة بين الجلباب والوضع الاجتماعي الأخلاقي في المدينة “. أهـ.

كذلك نرى أن الخليفة عمر بن الخطاب قد أخذ إجراءات احترازية للحيلولة دون الخلط بين الحرائر والإماء، فلم يكن يسمح للجواري بالخروج في هيئة الحرائر (21). ولقد سار الخليفة عمر بن عبد العزيز على المنهج ذاته فدعا إلى ” أن لا تلبس الأمة خماراً ولا يتشبهن بالحرائر” (22).

أما بالنسبة للفقه، فقد أجاز الفقهاء للأمَة لباساً معيناً، نجده عند عبد الرحمن الجزيري (23)، تحت عنوان لباس الأمَة في الصلاة يقول: شرط الصلاة الثاني هو ستر العورة، ويختلف حد العورة بالنسبة للرجل والحرة والأمة، فحد العورة للرجل عند المالكية من السرة إلى الركبة، والركبة ذاتها عندهم عورة أما السرة فخلاف ذلك، والأمَة كالرجل، وتزيد عنه أن بطنها كله وظهرها عورة، وعورة المرأة الحرة هو جميع بدنها حتى شعرها النازل على أذنيها لقوله: {ص): المرأة عورة ويستثنى من ذلك باطن الكفين وظاهر القدمين. وقال الشافعية مثل ذلك مع بعض الاختلافات الطفيفة، أما عند الحنابلة فالعورة كما قال الشافعية، إلا أنهم استثنوا من الحرّة الوجه فقط، وكل ما عداه عورة عندهم.

وتنقسم العورة إلى مغلظة ومخففة، فالمغلظة للرجل هي القبل والخصيتان وحلقة الدبر، والمخففة ما عدا ذلك. أما المغلظة للأمة فهي كالرجل بزيادة الإليتين، والمخففة للأمة كالمخففة للرجل. وأما الحرة فالمغلظة جميع بدنها ما عدا الأطراف والصدر.

هذا كله في الصلاة، فما هو الحكم خارج الصلاة؟ نعود إلى كتاب الفقه على المذاهب الأربعة فنراه يقول: يجب على المكلف ستر عورته خارج الصلاة عن نفسه وعن غيره، ممن لا يحل لهم النظر إلى عورته إلا لضرورة كالتداوي. حد العورة للمرأة الحرة خارج الصلاة هو ما بين السرة والركبة، إذا كانت في خلوة، أو في حضرة محارمها، أو في حضرة نساء مسلمات. أما إذا كانت بحضرة رجل أجنبي أو امرأة غير مسلمة فعورتها جميع بدنها عدا الوجه والكفين. أما عورة الرجل خارج الصلاة فهي ما بين سرته وركبته ويحل النظر إلى ما عدا ذلك من بدنه مطلقاً عند أمن الفتنة. أهـ.

وإذا القينا نظرة على كتاب (الفقه الإسلامي وأدلته) للدكتور وهبة الزحيلي في باب حد العورة نجده يذكر أن الأئمة اتفقوا على أن عورة الأمة هي عورة الرجل نفسها، وان اختلفوا قليلاً في دخول السرة أو عدمه، ويبين أن العورة للرجل عند المالكية هي المغلظة فقط وهي السوأتان، وعورة الأمة السوأتان مع الإليتين وعورة المرأة الحرة المغلظة جميع البدن ماعدا الصدر والأطراف من رأس ويدين ورجلين وما قابل الصدر من الظهر كالصدر.

ويوضح لنا مذهب الشافعية في أن السرة والركبة ليستا من العورة على الصحيح لحديث أنس ” أن النبي (ص) يوم خيبر حسر الإزار عن فخذه حتى إني لأنظر إلى بياض فخذه” (24).

ويلحق الشافعية عورة الأمة بالرجل بجامع أن رأس كل منهما ليس بعورة ولأن الرأس والذراع مما تدعو الحاجة إلى كشفه.

كما يشير الدكتور الزحيلي في مذهب الحنفية أنهم اعتبروا عورة الأمة كعورة الرجل لأنها تخرج لحاجة مولاها في ثياب مهنتها عادة، فاعتبرت كالمحارم في حق الأجانب عنهن دفعاً للحرج. وعند الحنابلة فليست سرة الرجل وركبته من عورته (25).

وفي فقه الشيعة فإن عورة الأمة كعورة الرجل. فقد أورد الشيخ الطوسي (385 – 460 هـ) في تفسيره (التبيان): ” قيل: العورة من النساء ماعدا الوجه والكفين والقدمين، وقيل العورة من الرجُل العانة إلى مستغلظ الفخذ من أعلى الركبة وهو العورة من الإماء” (26).

فإذا كان لباس الأمة في الصلاة كما ذكرنا، فلك أن تتصور لباسها في أسواق النخاسة، وهي تعرض للبيع في أسواق المدينة ودمشق وبغداد والقاهرة، وهذا الأمر الذي بلغ ذروته في العصر العباسي ثم المملوكي فالعثماني. حيث كان الرجال يخافون على حرائر النساء من الاختلاط، فعمدوا إلى منعهن من مغادرة البيوت، وإلى إجبارهن على تغطية وجوههن بسبب التسيب الجنسي، ونرى فيه سبباً تاريخياً اقتضاه الواقع الاجتماعي. حين كانت الإماء تسير في الطرقات وتقف في الصلاة عارية الثديين والإبطين حاسرة الرأس، لا تستر سوى جيوبها السفلية ما بين الركبة والسرة.

وذهب الرق، وانتهى عهد العبودية، وطوى التاريخ لباس الأمة، وبقي لباس الحرة على أنه لباس الإسلام الشرعي، بينما هو لباس اجتماعي بحت لا علاقة له بالإسلام أو بالإيمان لا من قريب ولا من بعيد.

يقول ابن تيمية: “الحجاب مختص بالحرائر دون الإماء، كما كانت سنة المؤمنين في زمن النبي (ص) وخلفائه، أن الحرة تحتجب والأمة تبرز. وكان عمر إذا رأى مختمرة ضربها وقال: أتتشبهين بالحرائر أي لكاع” (27). ويقول: وقد كانت الإماء في عهد الصحابة يمشين في الطرقات متكشفات الرؤوس ويخدمن الرجال مع سلامة القلوب. (28)

يقول ناصر الدين الألباني في كتابه ” حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة”: كان من شروط المسلمين الأولين على أهل الذمة أن تكشف نساؤهم عن سوقهن وأرجلهن كي لا يتشبهن بالمسلمات. (29)

هذا يظهر لنا بشكل قاطع أن أطروحة الحجاب التي تقوم على فتنة المرأة للرجل ليس لها أساس شرعي أو ديني، ولا تتفق حتى مع المنطق. إذ كيف نأمر بتحجيب الحرائر ونسمح بسفور الإماء، ويتفق هذا مع مفهوم أن المرأة فتنة للرجل وأنها كلها عورة وأنها كلها شر، والأمة أصلاً امرأة؟ وكيف نفهم أن الحرة القبيحة يجب أن تتحجب، ولا بأس بسفور الأمة ولو كانت شقراء حوراء في الثامنة عشرة من العمر؟ إلا إذا فهمنا أن مفهوم “المرأة فتنة الرجل” جاء من التفسير التوراتي لقصة الخطيئة الأولى كما فصلنا في موضعه.

لقد تم تغليب الروح الذكورية في علاقة الفقه الإسلامي التاريخي الإنساني بالمرأة وفي نظرته إليها، حتى تحولت العادات العربية المتعلقة بها إلى دين، وأصبحنا نرى مصطلحات تقوم عليها حياة العرب الاجتماعية والأخلاقية حتى يومنا هذا. هذه المصطلحات هي: الشرف / العِرض / النخوة / المروءة / الشهامة. وهي مصطلحات لا نجدها أبداً في التنزيل الحكيم، لأنها مفاهيم محلية، زمانية ومكانية.

فالرجل عند العرب له عِرض، أما المرأة فليس لها عرض، وشرف الرجل العربي محصور بالمرأة أماً وأختاً وزوجةً وبنتاً، أما المرأة إن ارتكبت فاحشة أو ظلمت نفسها، فقد طعنت بشرف أبيها أو أخيها أو زوجها أو حتى ابن عمها، وكأنما لا شرف لها خاص بها، وإذا ارتكب الرجل الفاحشة فلا يطعن بشرف أخته أو زوجته.

والرجل العربي إن رأى أخته أو ابنته العاقلة الراشدة مع شخص غريب (زميل دراسة/ زميل عمل/ جار)، ولم يبادرها ويبادره بالضرب والشتم، إن لم نقل بالمسدس والسكين، فهو فاقد في نظر مجتمعه للنخوة والمروءة والشرف. ولو أخذنا هذه المصطلحات بمفهومها العربي، وحاولنا تطبيقها أو بحثنا لها عن مقابل عند الصيني والياباني والألماني، فلن نجد لها أثراً، ولتعرضنا للضحك والسخرية. وبما أن الرسالة المحمدية رسالة إنسانية عالمية، فنحن لا نجد أثراً لهذه المصطلحات في التنزيل الحكيم.

ومع ذلك أصبحت هذه المفاهيم في التعامل مع المرأة عندنا أقوى من الدين، وغدت أقوى أثراً في المجتمعات العربية من التنزيل الحكيم نفسه. ورغم أنها مفاهيم بدوية بدائية، يستطيع الباحث أن يردها إلى الأصول التي جاءت منها كما رأينا، إلا أنها مسيطرة على حياتنا نحن العرب بالذات، مؤمنين ونصارى، من أبسط البيوت إلى أرقى الصالونات. ولا تغرنَّك الشعارات التي يرفعها البعض هنا وهناك من تقدمية وعلمانية، فما إن تصل كلها إلى المرأة حتى تعود قبلية بدوية شأنها شأن غيرها.

ثمة في القانون جريمة قتل اسمها “جريمة الشرف”، يختلف الحكم على فاعلها إن كان رجلاً، عنه إن كان امرأة. بينما نجد أن الرجل والمرأة في كتاب الله سبحانه سيان، متساويان في الحقوق والواجبات والعقوبات. ونفهم أن الله ورسوله بريئان من كل تخريجة تنسب إليهما في الحكم على أمثال هذه الجرائم (30).

الرجل في اليابان يرى شرفه في العمل وإتقان العمل، والرجل في ألمانيا يرى شرفه في صدق القول والوفاء بالالتزامات، والرجل في فرنسا وبلجيكا يرى شرفه في الالتزام بما يرسم له من قوانين من قبل البرلمان. وهذا كله موجود وواضح في كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة عندنا، لكننا وضعناه مع الأسف في الدرجة العشرين من سلّم اهتماماتنا وأولوياتنا. يقول النبي (ص): إن الله يحب العبد إذا عمل عملاً أن يتقنه.

وأنت لا تجد في طول البلاد الإسلامية وعرضها من يشير إلى هذه الحديث ويجعله موضع دراسته في خطبة الجمعة، فالكل غارقٌ في الصلاة والصيام ولباس المرأة وحجابها، إلا من رحم ربي، وقليل ما هم. وعند العرب والمسلمين من لا يتقن عمله لا يفقد شرفه. والغش في المواصفات عند العرب والمسلمين حالياً لا يجلب العار كالعِرض ولا يظهر الغشاش فاقداً للمروءة والنخوة، ولا تعتبر هذه الصفات من عدم إتقان المهنة والغش سبباً كافياً لأن ترفض عروسٌ خطيبها هي أو أهلها.

بعد هذا كله، وبعد أن تبين لنا من هذه المقدمة أن لباس المرأة ومفهوم الحجاب الشرعي أمر تاريخي بحت غير محسوم، ولا يخلو من الالتباس والتدليس، ننتقل لإعادة قراءة آيات الزينة، وماذا يظهر منها وماذا يخفى بالنسبة للمرأة والرجل على حد سواء، لاسيما بعد أن اتضح أمامنا أن الحجاب جاء في كتاب الله خاصاً بنساء النبي بمعناه المكاني في ضوء قوله تعالى {وإذا سألتموهن متاعاً فاسألوهن من وراء حجاب}، وأننا لا علاقة لنا به لخصوصيته حصراً بنساء النبي.

جاء لباس الرجل والمرأة في آيتين حدوديتين من سورة النور، فقال تعالى بالنسبة للرجل:

·         {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} النور 30.

وقال بالنسبة للمرأة:

·         {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ..} النور 31.

لنشرح هذه الآيات فقرة فقرة:

لقد جاء أمر مشترك للمؤمن والمؤمنة على حد سواء بشيئين أولهما الغض من البصر. هنا نلاحظ قوله تعالى {يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} فجاء هنا حرف الجر “من” للتبعيض أي جزء من كل، فأمرنا الله الغض من البصر لا غض البصر، ثم أنه لم يضع المفعول به بالنسبة للرجل والمرأة على حد سواء، أي لم يقل لنا أن نغض من أبصارنا عن ماذا؟

فتركت مفتوحة حسب الأعراف “حسب الزمان والمكان” ومفتوحة للمؤمن والمؤمنة على حد سواء. ثم أنه استعمل فعل “غض” في اللسان العربي للدلالة على لطف الفعل، لا على فظاظة الفعل. فالغضاضة فيها لطف وطراوة فنقول: غصن غض أي لين غير يابس، وهنا نضرب المثال التالي:

إذا كان رجل يغير ملابسه وهو في وضع لا يحب أن يراه فيه أحد حتى ولو كان رجلاً، ووقف حوله مجموعة من الرجال تنظر إليه فإنها ستسبب له الحرج، وكذلك المرأة إذا كانت في وضع لا تحب أن يراها فيه أحد حتى من النسوة فإنها ستشعر بالحرج إذا نظر إليها أحد، وهذا هو ما أراده الله منا رجالاً ونساء،

أن لا ينظر بعضنا إلى بعض في مواقف لا نحب أن يُنظر إلينا فيها، وهذا ما نسميه اليوم بالسلوك الاجتماعي المهذب، أي أننا يجب أن نأخذ موقف التجاهل في مثل هذه المواضع وهذا هو فعل “غض”. أما مفهوم غض البصر بمعنى أن لا ينظر الرجال إلى النساء، ولا تنظر النساء إلى الرجال أثناء العمل والبيع والشراء فهذا ليس عندنا بشيء.

ثاني هذين الشيئين هو حفظ الفرج، الذي ورد في كتاب الله وجوب حفظه في حالتين. الحالة الأولى حفظه من الزنى ومن كل العلاقات الجنسية غير المشروعة وذلك في قوله تعالى: {والذين هم لفروجهم حافظون …} المؤمنون 5، 6، 7. والقرينة التي دلتنا على أن الحفظ المطلوب هنا هو الحفظ من الزنى، تظهر في قوله تعالى {إلا على أزواجهم}، ولقد أوضحنا في مواضع أخرى من هذا الكتاب أن الزوج خارج وظيفة الجنس يصبح بعلاً ولا يبقى زوجاً.

أما الحالة الثانية فهي حفظه من البصر، وهي المقصودة في آية النور بقوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم} وقوله {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} . والبصر وظيفة العين، وهو غير النظر والرؤية، التي قد تحصل في الدماغ دون إبصار. ولذا نفهم أن حفظ الفرج عند الذكور هو الحد الأدنى من اللباس، أي ما نطلق عليه اليوم اسم (مايوه سباحة)، يكفي لستر الفرج والإليتين وهو ما يطلق عليه الفقهاء العورة المغلظة بالنسبة للرجل.

ثم يختم تعالى الآية بقوله: {إن الله خبير بما يصنعون} النور 30. وكما هو معروف فإن الصنع هو نتاج العمل {ويصنع الفلك} هود 38. أو نتاج تربية {ولتصنع على عيني} طه 39 فهنا وضع الأسلوب التربوي الذي هو الأسلوب الأساسي في صناعة المؤمن والمؤمنة القائم على السلوك المهذب وحفظ الفرج، وليس الأسلوب القمعي، وأن غض البصر وحفظ الفروج من الإبصار والفواحش هما نتاج تربية وليسا نتاج خوف وقمع.

الآن: ماهي الإضافات التي أضافها الكتاب بالنسبة للمرأة؟ هذه الإضافات تتعلق بالزينة والعورة حيث أن الآية (31) من سورة النور هي آية الحد الأدنى للباس المرأة وهي من الفرائض.

زينة المرأة:

لنضع الآن تعريفاً للزينة: فزينة المرأة في الآية (31) تقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الزينة الظاهرة، والقسم الثاني: الزينة المخفية. ولكن ماهي زينة المرأة المقصودة هنا بحيث تنسجم مع الآية نفسها وتنسجم مع بقية الآيات الواردة في الكتاب وخاصة آيات المحارم الواردة في سورة النساء رقم 22 ورقم 23؟

فالزينة لها ثلاثة أنواع:

أ – زينة الأشياء: إن زينة الأشياء هي إضافة أشياء لشيء أو لمكان ما لتزيينه، مثال على ذلك الديكورات في الغرف والنجف والدهان والملابس وتسريحة الشعر للرجل والمرأة والحلي والمكياج للنساء. كل هذه أشياء تضاف للتزيين، وقد جاءت الزينة الشيئية في قوله تعالى: والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة النحل 8. وقوله تعالى: {يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد} الأعراف 31.

ب – زينة المواقع أو الزينة المكانية: وهذا واضح في المدن، فالبلديات في المدن تبقي على ساحات خضراء تسمى حدائق. هذه الأماكن للزينة يقصدها الناس وهي تنتسب إلى الزينة المكانية، أي أن تبقى أماكن على طبيعتها أو نضيف عليها أشياء طبيعية كالشجر والورد وهذا ما جاء في الآية 31 في سورة النور أي حتى تنسجم هذه الآية مع آيات المحارم في سورة النساء يجب أن تكون الزينة مكانية لا شيئية.

ت – الزينة المكانية والشيئية معاً جاءت في قوله تعالى: {قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} الأعراف 32. وقوله: {حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها} يونس 34. أي أن التطور والتقدم العلمي سيملآن الأرض بالزينة المكانية والشيئية. فإذا كانت الزينة مكانية فجسد المرأة كله زينة والزينة هنا حتماً ليست المكياج والحلي وما شابه ذلك، وإنما هي جسد المرأة كله، هذا الجسد يقسم إلى قسمين:

·         قسم ظاهر بالخلق: لذا قال{ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها} فهذا يعني أن هناك بالضرورة زينة مخفية في جسد المرأة. فالزينة الظاهرة هي ما ظهر من جسد المرأة بالخلق أي ما أظهره الله سبحانه وتعالى في خلقها كالرأس والبطن والظهر والرجلين واليدين، ونحن نعلم أن الله سبحانه وتعالى خلق الرجل والمرأة عراة دون ملابس.

·         قسم غير ظاهر بالخلق: أي أخفاه الله في بنية المرأة وتصميمها. هذا القسم المخفي هو الجيوب. والجيب جاء من “جَيَبَ” كقولنا جبت القميص أي قورت جيبه وجيبته أي جعلت له جيباً، والجيب كما نعلم هو فتحة لها طبقتان لا طبقة واحدة، لأن الأساس في “جيب” هو فعل “جوب” في اللسان العربي له أصل واحد وهو الخرق في الشيء ومراجعة الكلام “السؤال والجواب” فالجيوب في المرأة لها طبقتان أو طبقتان مع خرق وهي ما بين الثديين وتحت الثديين وتحت الإبطين والفرج والإليتين هذه كلها جيوب، فهذه الجيوب يجب على المرأة المؤمنة أن تغطيها لذا قال{وليضربن بخمرهن على جيوبهن} .

والخمار جاءت من “خمر”، وهو الغطاء، والخمر سميت خمراً لأنها تغطي العقل وليس الخمار هو خمار الرأس فقط، وإنما هو أيُّ غطاء للرأس وغير الرأس، لذا أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنات بتغطية الجيوب التي هي الزينة المخفية خلقاً وسمح لهن بإبداء هذه الجيوب بقوله: {ولا يبدين زينتهن} . هذا الإبداء لا يكون إلا لشيء مخفي أصلاً كقوله تعالى {إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه} البقرة 284، والإبداء لا يكون إلا لعاقل كقوله: {فبدت لهما سوآتهما} طه 121.

قد يقول البعض: أليس الفم والأنف والعينان والأذنان من الجيوب؟ نقول: نعم ولكنها جيوب ظاهرة لأنها في الوجه، ورأس المرأة أو الرجل هو أظهر جزء منه وهو هوية الإنسان. ولقد ذكر تعالى بعض هذه الجيوب صراحة بقوله {ويحفظن فروجهن}، وأوجب حفظها من الأبصار. ونفهم أن فرج المرأة وإليتيها من الجيوب التي لا يجوز أن تقع عليها عين إلا عين الزوج وهو ما يطلق عليه الفقهاء العورة المغلظة للأمة أمام الآخرين والعورة المغلظة لحرة أمام محارمها فقط. وهذا يفسر لنا سبب عدم ذكر الزوج في الآية بين قائمة من يجوز للمرأة أن تبدي زينتها أمامهم بل ذكر البعل، وهم:

– البعل {بعولتهن}، الأب والجد {آبائهن}، أبو البعل وجده {آباء بعولتهن}، الابن {أبنائهن}، أبناء البعل {أبناء بعولتهن}، الأخ {إخوانهن}، أبناء الأخ {بني إخوانهن}، أبناء الأخت {بني أخواتهن} .

هنا يظهر الفرق واضحاً بين البعل والزوج. إذ لو اعتبرنا الزوج بعلاً، والبعل زوجاً كما يعتبرهما القائلون بالترادف لحصل تناقض كبير بين الآيات، إذ كيف يجيز لها تعالى في آية النور أن تبدي زينتها أمامه، وقد أباح لها في آية المؤمنون ألا تحفظ فرجها من أبصاره؟ فالتناقض هنا لا يرتفع إلا إذا اعتبرنا أن الزوج غير البعل، ولهذا نراه تعالى يسوي في مسألة إبداء الزينة بين البعل والابن والأخ وباقي المذكورين في الآية ممن لا يجوز لهم إبصار فرجها (عورتها المغلظة).

قلنا إن الجيوب هي الفرج والإليتان (الدبر) وما بين الثديين وما تحتهما وما تحت الإبطين. أما الفرج وما بين الإليتين (الدبر} (العورة المغلظة)، فممنوع على غير الزوج أن تقع عينه عليهما، وأما الثدييان فلم يختلف أحد في أن ما بينهما وما تحتهما من الجيوب. لابل ذهب كل المفسرين على الإطلاق إلى أنها هي الجيوب الوحيدة المقصودة في الآية. وجاء هذا الحصر من أن المرأة حين نزلت آية النور لم تفعل أكثر من أنها ضربت بخمارها على جيب صدرها لتستر ثدييها، لأن المرأة العربية كانت قبل الإسلام وفي العصر النبوي ترتدي ثوباً مفتوح الصدر فضفاضاً بسيطاً يتناسب مع بيئتها الصحراوية البدوية، لا يكشف بطبيعته

إلا عن جيب الصدر، أما باقي الجيوب فمغطاة بالأصل. يبقى لدينا أخيراً جيب واحد هو ما تحت الإبطين.

لقد وردت الجيوب في ثلاثة مواضع من التنزيل الحكيم، أحدها في آية النور التي ندرسها الآن. أما الموضعان الآخران فهما:

·         {أسلك يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء واضمم إليك جناحك من الرهب..} القصص 32.

·         {وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء..} النمل 12.

فإذا جمعنا إلى هاتين الآيتين قوله تعالى:

·         {واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوء..} طه 22.

وتأملنا القصد من الألفاظ الثلاثة (أسلك / أدخل / اضمم)، فهمنا أن المطلوب من موسى هو إدخال وتوصيل يده إلى ما تحت إبطه من خلال فتحة الصدر في قميصه. إذ لا مكان عند موسى غير الإبط يضم يده إليه تنفيذاً لأمر ربه.

وانظر كيف أوضح تعالى ذلك بكلمة (جناح)، فالذراع من الإنسان بمثابة الجناح من الطائر، ونهايتها الكتف والإبط. وانظر كيف استعمل الضم في آية طه. لأن وضع اليد في أي مكان من الجناح غير الإبط لا يكون ضماً، ثم انظر كيف استعمل الإسلاك والتسليك في آية القصص، ليدل على المكان الذي تصل إليه اليد بعد سلوكها، وليس مجرد وضع اليد في الجيب فقط.

قد يقول قائل: هذا يعني أنه لا يجوز للمرأة المؤمنة أن تظهر عارية تماماً أمام المذكورين في آية النور 31. أقول نعم لا يجوز ذلك إلا عرضاً أو سهواً أو اضطراراً، فالزوج هو صاحب الحق الوحيد بأن يرى جيوبها السفلية (العورة المغلظة)، أما الجيوب العلوية (الصدر وتحت الإبطين) فيجوز لها إظهارها للمذكورين في الآية، فإن فعلت، فلا يسمى ذلك حراماً بل يعتبر عيباً.

محارم الزينة

الآن إذا طرحنا البعل جانباً لأنه ليس من المحارم ولكنه كبعل من محارم إبصار الفرج، نجد أن المذكورين في باب الزينة من المحارم هم سبعة: {الأب، والد الزوج، الابن، ابن الزوج، الأخ، ابن الأخ، ابن الأخت). فإذا قارنا هؤلاء مع المحارم وجدنا أنهم نصف المحارم الواردين في سورة النساء تماماً. أما المحارم على المرأة التي حرم عليها أن تتزوجهم ولكن يجوز لها أن تختلي معهم ولا يجوز لها إبداء كل زينتها المخفية (الجيوب العلوية) أمامهم فهم: العم، الخال، الابن من الرضاعة، الأخ من الرضاعة، زوج الأم، زوج البنت، زوج الأخت.

فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن والذي يجبرنا أن نعيد النظر بمفهوم الزينة على أنها المكياج أو الحلي والتي يجب أن لا تظهرها المرأة ويجب أن تضرب عليها الخمار ومنها شعر الرأس، أنه إذا كان الأمر كذلك، فعلى المرأة المؤمنة أن تظهر أمام صهرها “زوج ابنتها” كما تظهر أمام الغريب تماماً لأنه محرم عليها حرمة أبدية، وغير مذكور في آية الزينة، أي لا يجوز له الاطلاع على كل زينتها المخفية وكذلك العم والخال.

فهل يمكن هنا أن تكون الزينة أمراً غير الجيوب التي شرحتها؟ وهكذا أخطأ الفقهاء حين اعتبروا أن الزينة المذكورة في الآية هي زينة الأشياء، وإنما هي زينة المواقع. وسبب هذا الخطأ هو قياس الشاهد على الغائب الذي سنشرحه فيما بعد، والخطأ في فهم نظرية الحدود.

إننا نقول هذا لأنه آن الأوان لكي نتسلح بالفكر النقدي ونعيد النظر بأقوال الفقهاء كلهم حول المرأة.

ثم أضاف إلى هؤلاء ليكون حكمهم كحكم الأب والزوج من ناحية إظهار الزينة عبارة:

{أو نسائهن}: ماذا تعني هنا كلمة “نسائهن”؟ لقد قال بعضهم إنها تعني النساء المؤمنات أي أن المرأة لا يحق لها أن تبدي زينتها المخفية إلا أمام النساء المؤمنات. وهذا غير صحيح لأنه لو عنى ذلك لقال “أو المؤمنات من النساء” ولكنه قال {أو نسائهن} ونون النسوة هنا للتابعية لا للجنس، فإذا كانت للجنس فهذا يعني أن هناك نساء النساء” وهذا غير معقول إذا كانت نسائهن تعني الإناث”.

ولكن إذا قصد “بنسائهن” زوجات الرجال المذكورين قبلها وهم أخوها وابن أخيها.. إلخ، فلزم أن يضع ميم الجماعة عوضاً عن نون النسوة فيقول “أو نسائهم” ولكن هنا نون النسوة وليس ميم الجماعة. ولا يصح أن نقول إنه وضع نون النسوة عوضاً عن ميم الجماعة للتغليب فيصبح وضع نون النسوة لضرورة صوتية، ولا يوجد في الكتاب كله شيء اسمه ضرورة اللحن أو النغم، وهناك شيء واحد فقط هو ضرورة المعنى.

ومن إعجاز التنزيل الحكيم أن هناك تطابقاً كاملاً بين ضرورة اللحن وضرورة الدقة في المعنى وضرورة التأثير النفسي. فنسائهن هنا يجب أن تكون من الذكور وليس من الإناث ونون النسوة للتابعية فقط كأن نقول “كتبهن، بيوتهن” وهذا لا يمكن إلا إذا فهمنا النساء على أنها جمع نسيء لا جمع امرأة أي المستجد “المتأخر” فالمستجد هنا وغير المذكور في الآية هو ما يلي:

لم يذكر في آية الزينة ابن الابن والأحفاد ولم يذكر حفيد الأخ وحفيد الأخت وحفيد الزوج.. وهكذا دواليك، فابن الابن يأتي متأخراً عن الابن “أو نسائهن” أي ما تأخر عن هؤلاء المذكورين من الذكور وهم أبناؤهم وأبناء أبنائهم، وبنفس الوقت هؤلاء المتأخرون لهم علاقة القرابة مع المرأة، لذا وضع نون النسوة للتابعية قال {أو نسائهن} وقد ذكر نفس الحالة مع نساء النبي (ص) في سورة الأحزاب عندما سمح لهن بالظهور ليس أمام كل المحارم بل أمام هؤلاء واستثنى منهم الزوج، لأن النبي (ص) هو زوجهن واستثنى ابن الزوج لأن النبي ليس له أبناء، واستثنى والد الزوج لأن النبي (ص) ولد يتيماً فقال: {لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} الأحزاب 55.

هنا لاحظ كيف وضع {ولا نسائهن} لكي يبين الأبناء وأبناء الأبناء “الأحفاد”.. وهكذا دواليك. قال هذا لنساء النبي (ص) مع أن كل المؤمنين هم من المحارم بالنسبة لنساء النبي (ص) {وأزواجه أمهاتكم} الأحزاب 6 {وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده} الأحزاب 53.

إن الوضع الخاص بالنسبة لنساء النبي (ص) هو مخاطبتهن المؤمنين من وراء حجاب مكاني، مع أن المؤمنين كلهم من المحارم بالنسبة إليهن وهذا غير مطلوب من النساء المؤمنات لقوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء} الأحزاب 32.

فغير مطلوب من المرأة المؤمنة تقليد نساء النبي في علاقاتها الاجتماعية مع الغير، وإذا أرادت أن تقلد نساء النبي فعليها أن تخاطب كل الناس بما فيهم المحارم من وراء حجاب عدا السبعة محارم ونسائهن المذكورين في آية الزينة.

وفي هذه الحالة تُحَمِّل المرأة المؤمنة نفسها لزوم مالا يلزم لأن الوضع الخاص بالنسبة لهن هو مخاطبة الناس من وراء حجاب ولا علاقة للزينة المخفية أو الظاهرة بنساء النبي. أما بالنسبة للمؤمنات فالوضع المشترك مع نساء النبي هو الزينة المخفية واللباس حسب الأعراف وليس المخاطبة من وراء حجاب.

لنورد الآن جدول المحارم وجدول من لا مانع للمرأة أن تبدي لهم جزءاً من زينتها المخفية (الجيوب العلوية فقط) وتخفي أمامهم العورة المغلظة:

جدول المحارم جدول بمن لا مانع للمرأة أن تبدي لهم جزءاً من زينتها المخفية (الجيوب العلوية)

1 – الابن

1 – الابن

2 – الأب

2 – الأب

3 – الأخ

3 – الأخ

4 – العم

5 – الخال

6 – ابن الأخ

4 – ابن الأخ

7 – ابن الأخت

5 – ابن الأخت

8 – الابن من الرضاعة

9 – الأخ من الرضاعة

10 – أبو الزوج

6 – أبو البعل

11 – زوج الأم

12 – زوج البنت

13 – زوج الأخت

14 – ابن الزوج

7 – ابن البعل

8 – يضاف إلى هؤلاء البعل الذي لا يعتبر من المحارم ولكن لا يحق له إبصار الفرج والإليتين (العورة المغلضة) وهو في حالة البعولة.

9 – يضاف لهؤلاء السبعة أولادهم وأحفادهم والذين دمجوا جميعاً بكلمة (أو نسائهن) وهذا ما يقال عنه الفروع مهما نزلوا.

ويجب أن يفهم من كلامنا أننا لا ندعو المرأة أن تخفي عورتها المغلظة وتبدي باقي جسدها أمام الثمانية المذكورين أعلاه، ولكن إذا حصل ذلك عرضاً أو سهواً فلا يوجد حرام.

ثم يتابع ذكر المسموح للمرأة بإبداء جزء من زينتها لهم وهم:

– {أو ما ملكت أيمانهن} النور 31.

إن بحث ملك اليمين يحتاج إلى دراسة خاصة، فقد اعتبر ملك اليمين رقاً وعبودية من الناحية التاريخية. ولهذا تجدنا أمام العديد من الإشكالات التي أوجدها هذا المنطلق. فاللباس والحجاب في عهد الصحابة لم يطل الإماء، وكن يمشين في الطرقات كاشفات الرؤوس والصدور، فقد روى أنس أن إماء عمر ” كنَّ يخدمننا كاشفات عن شعورهن تضطرب ثديهن” رواه البيهقي.

أما في مجال الجنس فثمة إشكالية كبيرة، هي أن الذكور في المجتمعات الإسلامية على امتداد العصور طبقوا عملياً قوله تعالى {إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين} لكنهم طبقوه من جانب واحد، فأجازوا للرجل وطء أَمَتَهُ، ولم يجيزوا للمرأة أن يطأها عبدها. وفي الأخبار أن امرأة عازبة مارست الجنس مع عبد لها تملكه فمنعها عمر.

ومع إلغاء نظام الرق اليوم في كل أنحاء العالم، فقد نسخت آيات ملك اليمين تاريخياً، وهذا أمر في غاية الخطورة، ما لم نبحث عن مدلول معاصر لملك اليمين، انطلاقاً من أن الرسالة المحمدية صالحة فعلاً وحقاً لكل زمان ومكان. ولعلنا نرى اليوم أن زواج المسيار الذي شاع عند البعض مؤخراً، ليس زواجاً بالمعنى الكامل، لكنه ليس حراماً من جانب آخر، وقد يمكن اعتباره شكلاً معاصراً من أشكال ملك اليمين.

– {أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال} النور 31:

هؤلاء الرجال يتبعون المذكورين أعلاه في الحكم وهم الرجال غير ذوي المأرب، وليس المعتوهين أو المجانين، فالشهوة الجنسية لا تخبو عند المجانين. فمثلاً الطبيب عندما يريد أن يولد المرأة فإنه يرى فرجها، ولكن ليس له أي مأرب فيها، فعليها والحالة هذه أن تعتبره كوالدها أو كولدها، وإذا أراد الطبيب أن يكشف على المرأة في منطقة الجيوب (تحت الإبطين أو بقية الجيوب) فيعتبر في حكم أبيها.

على النساء المؤمنات أن يفهمن ذلك، ويعلمن أن المرأة يحق لها الذهاب للطبيب الذي تراه مناسباً، والذي ترتاح إليه ذكراً كان أم أنثى دون حرام أو حرج لأنه يدخل في بند {غير أولي الإربة من الرجال} . وهناك أيضاً مهن أخرى وحالات تنطبق عليها الآية نفسها. فعلى المجتهدين البحث عنهم وتبيانهم للمرأة ” مثلاً الطبيب وكل من يعمل في اختصاص الطب من مصوري الأشعة والمخدرين والممرضين ونحوهم.. الخ”.

– {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} النور 31:

هنا لابد من تعريف العورة، فالعورة بالمعنى العربي هي ” ما يستحي المرء من إظهاره” هذا ما أجمع عليه أئمة اللسان العربي في معنى العورة “انظر كتاب فقه اللغة وسر العربية للثعالبي”، وفي هذا يستعملها النبي (ص) في أحاديث إن صحت، فالعورة ليس لها علاقة بالحلال والحرام لا من قريب ولا من بعيد إي إذا كان هناك رجل أصلع ولم يرغب بأن يرى الناس رأسه وهو أصلع فيضع الشعر المستعار على رأسه لأنه اعتبر الصلع في رأسه عورة.

وفي هذا قال النبي (ص) في حديثه إن صح ” من ستر على مؤمن عورته ستر الله عورته” “جامع الأصول ج6 ص 653 – 654” هنا يبين إذا كان هناك شيء في المرء لا يريد من الآخرين أن يعرفوه وعرفه أحدكم فلا يفضحه، وستر عورة المؤمن هنا لا تعني أن يضع عليه ملابس ليستره. وفي هذا المعنى جاءت في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا} الأحزاب 13. هنا المعنى واضح في العورة أن بيوتهم أصبحت مكشوفة بالنسبة للمهاجمين وهم لا يريدونها أن تكون كذلك، والواقع أنها ليست كذلك. وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم..} النور 58.

هنا يبين أن هناك ثلاثة أوقات يجب أن يستأذن من المرء حين الدخول عليه وقت النوم وهي وقت القيلولة عند الظهر ومن بعد العشاء وقبل الفجر، وهي الحد الأدنى للأوقات التي لا يرغب المرء أن يدخل عليه أحد لذا سماها ثلاث عورات، والحد الأعلى هو الاستئذان عند دخول الغرف دائماً.

فالعورة جاءت من الحياء وهو عدم رغبة الإنسان في إظهار شيء ما في جسده أو سلوكه، وهذا الحياء نسبي وغير مطلق ويتبع الأعراف. فالجيوب ثابتة والعورة متغيرة حسب الزمان والمكان فيصبح معنى الفقرة {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} هم الأطفال الذين لا يعرفون لماذا استحيت المرأة من وضعية معينة في الجلوس أو في اللباس وهذا معروف عند الأطفال بأن الطفل حتى سن معينة لا يفهم معنى الحياء والعيب، فالأطفال حتى السن الذي يعرفون فيه مصطلح الحياء والعيب في مجتمعهم تنطبق عليه الفقرة السابقة.

لذا فإن تحديد عورة الرجل من السرة إلى الركبة، هو تحديد نسبي وغير مطلق يتبع أعراف المجتمع الذي تم فيه هذا التحديد لأنه ينبع من مفهوم الحياء والعيب، لا من مفهوم الحلال والحرام، وإذا قال أحدهم هذا المفهوم الشرعي للعورة فهذا كلام مردود لأن الشرع هو حدود الله وما ورد في كتاب الله فقط وما عدا ذلك فهو حدود الناس.

وهذا يفسر لماذا اضطر الفقهاء إلى تحديد مصطلح العورة المخففة والعورة المغلظة حيث العورة المغلظة هي الجيوب السفلية بالنسبة للرجل والأمة بشكل عام وبالنسبة للمرأة الحرة أمام محارمها فقط عندهم. وعندنا للمرأة أياً كانت أمام جزء من محارمها فقط وليس كلهم.

– {ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن} النور 31:

إن الذي يفسر هذه الفقرة على أساس الخلخال في القدم، أي على المرأة أن لا تضع خلخالاً في القدم وتضرب على الأرض لكي لا يسمع صوت الخلخال أو أن تلبس حذاء ليس له صوت أثناء السير فهو غير مصيب في تفسيره.

لنفهم أولاً معنى فعل “ضرب” في اللسان العربي: فـ “ضرب” لها أصل واحد ثم يستعار ويحمل عليه. وأول معنى محمول عليه هو الضرب في الأرض بغرض العمل والتجارة والسفر كقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا.. الآية} النساء 94، هنا إذا خرجتم في سبيل الله. وكقوله {وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة} النساء 101، هنا جاءت بمعنى السفر. وقوله {إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت} المائدة 106.

والمعنى الثاني المحمول للضرب هو الصيغة والصياغة كقوله تعالى {وضربنا لكم الأمثال} إبراهيم 45. وقوله {وكلاً ضربنا له الأمثال} الفرقان 39. وقوله: {ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل} الروم 58.ويقال للطبيعة والسجية الضريبة كأن الإنسان قد ضرب عليها ضرباً، ويقال للصنف من الشيء الضرب كأنه ضرب على مثال ما سواه ومن هنا جاء ضرب المثل. والضريبة هي ما يضرب على الإنسان من مال مقابل الربح والكسب أو خدمة تؤديها له الدولة، وضرب فلان على يد فلان إذا حجر عليه ومنها جاء الإضراب عن العمل وهو حجر النفس وكفها عن العمل والإضراب عن الطعام وهو حجر النفس عن الأكل.

ومن هنا نفهم {ولا يضربن بأرجلهن} والسبب في ذلك النهي هو لكي لا يعلم ما يخفين من زينتهن وهنا الكلام عن الزينة المخفية وهي الجيوب لأنها لا يمكن أن تعلم إلا إذا أرادت المرأة ذلك، فهذا يعني أن الله منع المرأة المؤمنة من العمل والسعي “الضرب” بشكل يظهر جيوبها أو بعضها، كأن تعمل عارضة “ستربتيز Striptease ” أو تقوم برقصات تظهر فيها الجيوب أو بعضها، ولكنه لم يحرم الرقص بشكل مطلق بل حرم عليها إظهار الجيوب أو بعضها بشكل إرادي وهذا لا يحصل إلا من أجل كسب المال أو على شواطئ البحر، ومن هنا نرى أن الله سبحانه وتعالى حرم في حدوده مهنتين فقط على المرأة وهما: التعرية و البغاء.

أما بقية المهن فيمكن للمرأة أن تمارسها دون حرج أو خوف وذلك حسب الظروف الاجتماعية التاريخية والجغرافية السائدة والتي لا تحمل صفة التأبيد، ومخالفتها يعرض صاحبتها للّوم الاجتماعي، لا للحرام.

وفي نهاية الآية قال: {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} النور31. هنا طلب من المؤمنين والمؤمنات التوبة لأنه في سياق الحياة يمكن للمؤمن والمؤمنة أن يشذا عن ذلك فوضع لذلك التوبة فقط دون ترتيب عقوبات.

ويبقى لقائل أن يقول: إن ما تقوله عن لباس المرأة الذي جاء في سورة النور “الفرائض” هو تغطية نصف الجيوب المخفية (العورة المغلظة) عن كل الناس بما فيهم البعل ماعدا الزوج، والنصف الآخر عن المذكورين في الآية. أقول: نعم وهو الحد الأدنى من اللباس لذا سماه فريضة وهو فرق بين المسموح والممنوع دون عقوبات ومع التوبة فقط. ولكن هل للمؤمنة أن تخرج بهذا اللباس الذي هو الحد الأدنى؟

أقول: لقد جاء اللباس المتمم لهذا اللباس في سورة الأحزاب، وجاء الخطاب في مقام النبوة الذي هو ليس تشريعاً، وإنما تعليمات لدفع الأذى وذلك في قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} الأحزاب 59.

هنا بدأت الآية بقوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ} فهي آية تعليم وليست آية تشريع، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد فهمت الآية في المدينة فهماً مرحلياً، فارتبطت بعدم تعرض المؤمنات للأذى من قبل بعض السفهاء، أثناء الذهاب لقضاء حاجتهن، وقد زالت هذه الشروط والدواعي الآن تماماً، لأن آلية تطبيق هذه الآية لا تعتبر أبدية. وهذه الآية تعلم المؤمنات اللباس الخارجي حصراً أو لباس الخروج إلى المجتمع وهو ما سماه بالجلباب، فالجلباب جاء من الأصل “جلب” وهذا الفعل في اللسان العربي له أصلان أحدهما الإتيان بالشيء من موضع إلى موضع، والآخر الشيء يغشي ويغطي شيئاً آخر.

فالجلبة هي القشرة التي تغطي الجرح عندما يبرأ ويندمل وقبل أن يبدأ الجرح بالاندمال نضع له رباطاً من القماش المعقم لنحميه من الأذى الخارجي. ومن هنا جاء الجلباب للحماية وهو اللباس الخارجي الذي يمكن أن يكون بنطالاً وقميصاً أو تايوراً أو روباً أو مانطو، كل هذه الملابس تدخل تحت بند الجلابيب لذا قال: {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ} الأحزاب 59 للتبعيض باستعمال حرف الجر “من” وللتقريب باستعمال “يدنين” من فعل “دنو، يدنو” والجلب والإدناء متناسبان تماماً، فهناك الاقتراب وهو الجلب، وهناك عدم التصاق اللباس بالجسم وهو الدنو.

ألم تسمع قوله تعالى {قاب قوسين أو أدنى} . وبما أن هذه الآية للتعليم لا للتشريع، فقد وضع السبب، وهو المعرفة والأذى. فعلى المرأة المؤمنة تعليماً لا تشريعاً أن تغطي من جسدها الأجزاء التي إذا ظهرت تسبب لها الأذى. والأذى نوعان: طبيعي واجتماعي. والأذى الطبيعي مربوط بالبيئة الطبيعية من درجات الحرارة والرطوبة. فالمؤمنة تلبس حسب الشروط الجوية الخارجية بحيث لا تعرض نفسها للأذى الطبيعي.

قد يقول البعض ولكن هذا أمر مفروغ منه لذا لم يذكره في هذه الآية وإنما ربط الأذى بالمعرفة {أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} لاحظ “فاء السببية” والتعقيب بين المعرفة والأذى، وهو ما نسميه بالأذى الاجتماعي، أي على المؤمنة أن تلبس لباساً خارجياً وتخرج إلى المجتمع حسب الأعراف السائدة في مجتمعها بحيث لا تكون عرضة لسخرية وأذى الناس، وإذا لم تفعل ذلك ستعرض نفسها للأذى، وهذا الأذى الذي ستتعرض له هو عين عقوبتها لا أكثر من ذلك أي دون أن يكون هناك أية تبعة عند الله من ثواب أو عقاب وهذا ما حصل أثناء تطبيق هذه الآية في المدينة، حيث كان السفهاء يتعرضون للمؤمنات في خروجهن ليلاً لقضاء الحاجة.

ولكي لا يزاود الناس في اللباس، وضع النبي (ص) الحد الأعلى للباس المرأة بقوله إن صح: ” كل المرأة عورة ماعدا وجهها وكفيها. ومع ذلك فهذا القول لا يحمل الصفة الأبدية. فقد سمح النبي للمرأة بأن تغطي جسدها كله كحد أعلى، لكنه لم يسمح لها بأي حال من الأحوال بأن تغطي وجهها وكفيها، حيث أن وجه الإنسان هو هويته. فإذا خرجت المرأة بلباس يغطي جيوبها السفلية فقط، فقد خرجت عن حدود الله، وإذا خرجت دون أن يظهر منها شيء حتى وجهها وكفيها، فقد خرجت عن حدود رسول الله.

وهكذا نرى أن لباس معظم نساء أهل الأرض يقع بين حدود الله ورسوله وهذه هي فطرة الناس في اللباس، وفي بعض الحالات القليلة يقف اللباس عند الحدود، وفي حالات أقل يتجاوز اللباس الحدود.

حكم لباس النساء اللواتي لا يرجون نكاحاً:

لقد وضع الله حكماً خاصاً وحرية كبيرة في اللباس للنساء اللواتي لا يرجون نكاحاً من المقعدات بغض النظر عن السن حيث قال:

{وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} النور60.

فالقواعد جاءت من “قعد” وهو أصل واحد يقاس عليه ويدل على ثبات في شيء وهي لا تعني الجلوس، والقعود ضد القيام. والقعود جاءت من قوله تعالى: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} المائدة 24. والقعود جاءت بمعنى الثبات وعدم الحركة والامتناع عن الذهاب إلى القتال. والقيام جاءت بمعنى الاستمرار كأن تقول “وجدت فلاناً قائماً على رأس عمله” أي أنه يمارس عمله.

فهنا جاءت القواعد من النساء وهن النساء اللواتي أقعدن بسبب مرض ما كالشلل مثلاً بغض النظر عن السن بحيث جعلهن لا يرجون النكاح لذا قال: {اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا} ولا تعني أبداً اللواتي لا يرغبن بالزواج وهنا القواعد ليس كما قال الفقهاء قعدن عن الحيض وهذه الحالة جاءت في قوله تعالى {يئسن من المحيض} وليس قعدن عن المحيض وهو ما نسميه بسن اليأس للمرأة وليس بسن القعود.

{فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} النور 60. فالجناح جاءت من “جنح” وتعني الانحراف كأن نقول جنحت السفينة أو الطائرة عن مسارها. ومن هنا جاء مفهوم الجنحة وهو مفهوم أقل من الجريمة بكثير بحيث جاءت الجريمة بقوله تعالى {ويا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح.. الآية} هود 89.

أما فعل “وضع” في اللسان العربي فله أصل واحد يدل على الخروج للشيء وحطه وإخراجه كقوله {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن} الطلاق 4. وقوله {فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى} آل عمران 36. فعندما تضع المرأة حملها تخرجه منها كلية وتحطه عنها. فهنا قال {يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} فالثياب هنا اسم جنس وهي كل ما يرده الإنسان على جسمه من لباس داخلي وخارجي وجاءت من الأصل “ثوب” ومنها جاءت الثياب، والمثابة، والثواب هو كل ما يرد للإنسان من عمل صالح إيجابي.

فيصبح {يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ} هو خلع جميع الملابس، وقد اشترط بذلك عدم القصد بإظهار الزينة المخفية للآخرين “أي الجيوب فقط” بقوله: {غير متبرجات بزينة} و “برج” تعني في اللسان العربي البروز والظهور والملجأ والبرج هو بارز ظاهر وبنفس الوقت هو ملجأ للحماية.

لذا قال {غير متبرجات بزينة} فوضع هذا الشرط أن لا يكون القصد من وضع الثياب هو اللجوء إلى إبراز زينتها المخفية ماعدا الفرج وهذا واضح في الحياة، فكثير من النساء المقعدات بسبب المرض أو الشيخوخة يحتجن إلى حمام شمسي وإلى تغسيل ومساجات بحيث يحتجن إلى خلع كل ملابسهن (ماعدا العورة المغلظة) أمام الآخرين الذين يعتنون بهن لأنهن يحتجن إلى مساعدتهم ولكنه من باب الترجيح فقط وليس من باب الحلال والحرام قال: {وأن يستعففن خير لهن} أي إنها إن استطاعت أن لا تظهر زينتها المخفية كلها فهو خير لها.

لنشرح الآن أين يكمن خطأ التفسير الموروث حول لباس المرأة:

إذا أخذنا المرأة العربية في شبه جزيرة العرب قبل نزول الآية 31 في سورة النور والآية 59 في سورة الأحزاب فنرى ما يلي:

1 – لم تكن المرأة العربية حين نزول هاتين الآيتين عارية بدون ملابس.

2 – الرجال والنساء العرب كانوا يلبسون الزي القومي حسب الأعراف السائدة في مجتمعهم وحسب المستوى الإنتاجي للألبسة. فكان النبي (ص) يلبس من لباس قومه حتى أن كثيراً من العرب كانوا حين يأتون للمدينة لا يستطيعون تمييزه من غيره في اللباس، ويسألون: من منكم محمد؟

وكذلك كان لباس المرأة العربية لباساً حسب أعراف العرب ومناخ شبه جزيرة العرب فكانت تلبس ثوباً طويلاً وتضع خماراً على رأسها ليقيها الحر. كلباس نساء البادية الآن وهذا كان لباس أم المؤمنين خديجة (رض) التي توفيت قبل نزول سورة النور وسورة الأحزاب، حيث كان لباسها قومياً تماماً.

فعندما نزلت الآية 31 من سورة النور نظرت المرأة العربية المسلمة إلى لباسها الذي ترتديه فعلاً ولم تغير منه شيئاً وإنما وجدت إمكانية إظهار جيوب الثديين من فتحة الصدر في ثوبها الخارجي فضربت على صدرها بخمار رأسها، لأن بقية الجيوب أصلاً كانت مغطاة في زيها القومي. وهذا ما فعلته السيدة عائشة أم المؤمنين (رض)، حتى أننا لا نجد فرقاً بين لباس السيدة خديجة والسيدة عائشة، وخاصة فيما يتعلق بغطاء الرأس.

ومن هنا فهم خطأً بأن الجيوب هي الصدر فقط، لذا فإن ما نسميه اليوم باللباس الشرعي هو لباس المرأة العربية المؤمنة والمسيحية في القرن السابع الميلادي. إن الحد الأدنى للباس المرأة المؤمنة فقط جاء في سورة النور وجاء لكل مؤمنات الأرض ولكل زمان.

فعلى المرأة العربية المؤمنة أن تصحح هذا المفهوم الخاطئ والذي نتج عن قياس الشاهد لباس مسلمات أهل الأرض جميعاً في كل زمان ومكان على الغائب وهو اللباس القومي للمرأة العربية وليس المؤمنة فقط في القرن السابع. ولا يصح هذا القياس إلا إذا افترضنا أن المرأة العربية قبل نزول آيتي النور والأحزاب كانت عارية تماماً بدون أي لباس ثم لبست ما لبست من جراء هاتين الآيتين وهذا موضوعياً غير صحيح.

أي علينا أن لا نخلط بين فرائض اللباس في كتاب الله وبين الزي القومي، لأن هذا الخلط حصل فعلاً فيما يسمى “باللباس الشرعي” وقد جاء هذا الخلط من قياس الشاهد على الغائب. وهكذا نجد إلى يومنا هذا أنه لا فرق أبداً بين لباس المسلمات المؤمنات العربيات والمسلمات المسيحيات في منطقة حوران جنوبي سورية، فكلاهما لها زي واحد هو الزي القومي التاريخي التقليدي.

3 – حتى نفهم آيتي النور والأحزاب فهماً صحيحاً علينا أن نفترض وجود امرأة عارية تماماً تريد أن تدخل الإسلام. فماذا عليها أن تلبس؟

4 – علينا أن نفهم أن أي امرأة مؤمنة في أي بلد في العالم عليها أن تلبس حسب أعراف بلدها متقيدة بالآيتين 31 من سورة النور كفريضة والآية 59 من سورة الأحزاب كتعليم لا تشريع.

5 – أما فيما يتعلق ببعض الآراء الفقهية التي ترى أن صوت المرأة عورة فهذا محض وهم لأن المرأة كانت تحضر صلاة الجمعة في المدينة وكانت تقف مع النبي (ص) في طرقات المدينة وتسأله ويجيب على أسئلتها، ثم أن العورة هي من الحياء لا من الحرام. أي أنه إذا كان مجتمع ما، يحبذ صوت المرأة ولا يعتبره عيباً حتى في الغناء فلا يوجد أي إثم في ذلك.

قد يقول البعض: وهل الفقهاء كانوا لا يعرفون اللغة العربية ونحن نعرفها الآن؟ إن الخطأ ليس خطأً لغوياً، وإنما في المنهج، فعندما يقرأ علماء العربية كلهم الآية 31 من سورة النور والآية 59 من سورة الأحزاب ويقرؤون الحديث النبوي “كل المرأة عورة ماعدا وجهها وكفيها” ظانين بأن هذا الحديث هو شارح للآية وليس الحد الأعلى للباس المرأة، أي أعطى الطرف المقابل. ففي هذه الحالة لا تفيدهم كل معرفتهم للغة العربية وفقهها ونحوها وصرفها بشيء وسيضطرون إلى قبول المغالطات والدوران.

فإذا أردنا أن نرسم مخططاً للباس المرأة والمهن التي يمنع ممارستها وما هو المسموح والممنوع حسب حدود الله ورسوله فينتج لدينا المخطط التالي:


الخلاصة

1 – فيما يتعلق بلباس الرجل فإن الحد الأدنى له هو تغطية الفرج وهو ما يقال عنه في الفقه (العورة المغلظة)، وما فوق ذلك فهو تابع للأعراف فقط ولظروف الزمان والمكان.

2 – وفيما يتعلق بلباس المرأة فلها الحالات التالية:

أ – لا تظهر المرأة عارية إلا أمام زوجها وبدون حضور أي شخص آخر.

ب – تستر المرأة جيوبها السفلية (الفرج والإليتين) وهو الحد الأدنى للباس وهو ما يسمى بالعورة المغلظة أمام المذكورين في الآية 31 من سورة النور بما فيهم بعلها، والمحارم المذكورون في هذه الآية هم نصف المحارم وليس كلهم.

ت – الحد الأدنى للباس المرأة بشكل عام هو تغطية الجيوب العلوية (الثديين وتحت الإبطين) بالإضافة إلى الجيوب السفلية وهو ليس لباس الظهور الاجتماعي. وما مفهوم السرة والركبة إلا مفهوم اجتماعي فقهي بحت.

ث – لباس الخروج الاجتماعي للمرأة هو ابتداءً من الحد الأدنى وهو حسب أعراف المجتمع الذي تعيش فيه وحسب ظروف الزمان والمكان بحيث لا تتعرض للأذى الاجتماعي، ويتدرج حتى يبلغ حده الأعلى بإظهار الوجه والكفين فقط.

3 – غطاء الرأس بالنسبة للرجل أو المرأة ليس له علاقة بإسلام ولا بإيمان وهو يتبع أعراف المجتمع بشكل كامل.

ومع ذلك فإن المرأة مهما ارتقت فلن تدخل الجنة ومصيرها النار وذلك طبقاً للأحاديث التالية:

1 – حديث الفرقة الناجية.

2 – حديث بعث النار (أهل النار من كل ألف، تسعمائة وتسع وتسعون).

3 – حديث (أريت النار فرأيت معظم أهلها من النساء} (البخاري 38).

أما طبقاً لكتاب الله فالمرأة كالرجل تماماً {من عمل صالحاًُ من ذكر أو أنثى} وهو مؤمن، وقوله تعالى {وقيل تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون} الأعراف 43.

(1) ننوه بالشكر إلى السيد رضوان دوابي حيث نبهنا للفرق بين البعل والزوج.

(2) أنظر حسين العودات “المرأة العربية في الدين والمجتمع” دار الأهالي 1996 ص16، نقلاً عن وول ديورانت “قصة الحضارة” ج2 ص 31.

(3) المصدر السابق ص 18.

(4) المصدر السابق ص 27.

(5) المصدر السابق ص 29.

(6) المصدر السابق ص 35.

(7) المصدر السابق ص 26.

(8) اقتطعنا هذه الفقرة من حسين العودات “المرأة العربية في الدين والمجتمع” دار الأهالي 1996 ص 80، 81، 82.

(9) يمني من أبناء الفرس. آباؤه مجوس. أخذ عن يهود اليمن آدابهم وتقاليدهم. يجيد اليونانية وعنده من علم أهل الكتاب شيء كثير. ضعيف عند أهل الحديث. (أنظر مقدمة فتح الباري للقسطلاني ج2 ص171). قال بوجود صفة النبي في السطر الأول في التوراة: مولده بمكة وهجرته بطيبة وملكه بالشام.

(10) أنظر تاريخ الطبري ج 1 ص 108.

(11) المصدر السابق ص 111 ج 1.

(12) كان ابن إسحق يحمل عن اليهود والنصارى ويسميهم أهل العلم الأول، وأصحاب الحديث يضعفونه ويتهمونه (معجم الأدباء لياقوت ج18 ص8) وهو شيخ ابن هشام صاحب السيرة.

(13) ليس في الخبر اسم لذلك المجهول الذي سمعه سعيد يحلف بالله.

(14) أحد فقهاء المدينة السبعة، وسيد التابعين من الطراز الأول. ولد لسنتين مضتا من خلافة عمر وتوفي سنة 91 أو92 أو93 أو94 أو95 أو105 هـ. زوج ابنته لرجل اسمه أبو وداعة، فقال له بعد شهر: ما حال ذلك الإنسان؟ فأجابه: هو على ما يحب الصديق ويكره العدو، قال: إن رابك شيء فالعصا. (وفيات الأعيان ج2 ص376).

(15) أنظر حسين العودات “المرأة العربية في الدين والمجتمع” ص101، 102.

(16) أسباب النزول، الإمام علي بن أحمد الواحدي، ص 85.

(17) التفسير الكبير، الإمام فخر الدين الرازي، ج9 ص032

(18) موطأ مالك ص 476- 464.

(19) المصدر السابق ص 444.

(20) الإسلام والجنس في القرن الأول الهجري، ص 63، 64 نقلاً عن الطبري في جامع البيان.

(21) موطأ مالك ص 836.

(22) طبقات ابن سعد ج5 ص 281.

(23) كتاب الفقه على المذاهب الأربعة، ج1 ص 171 – 176.

(24) رواه أحمد والبخاري – نيل الأوطار 2/64.

(25) الفقه الإسلامي وأدلته – الدكتور وهبة الزحيلي – دار الفكر- ج1- حد العورة ص 583- 584.

(26) كتاب الستر والنظر لسماحة الإمام مهدي شمس الدين رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في لبنان – إصدار المؤسسة الدولية للدراسات والنشر – أيلول 1994 – ص 192.

(27) الإمام ابن تيميه، حجاب المرأة ولباسها في الصلاة، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني، المكتب الإسلامي، ص37.

(28) المصدر السابق ص 43.

(29) حجاب المرأة المسلمة في الكتاب والسنة – محمد ناصر الدين الألباني.

(30) ورد في مجلة الوسط العدد 411 تاريخ 13/12/1999 مقالة بعنوان “الشرف القاتل” أورد صاحبها إحصائيات قتل نساء بسبب الشرف في الأردن منها حالة قتل نساء بين عامي 1995- 1998 بعدد 119 امرأة منهن 64 امرأة قتلن بداعي الشرف، 48 حالة القاتل فيها الأخ وتسع حالات القاتل فيها الوالد وثلاث حالات القاتل فيها الزوج. وكذلك فقد بلغ عدد الضحايا من النساء في الأردن في الثمانينات من أجل نفس السبب /200/ ضحية تتراوح أعمارهن بين 15 – 30 سنة والأبطال المنفذين لهذه الجرائم بالتدريج: الأخ ثم الأب ثم الزوج. فانظر معي بدوية وبدائية المجتمع العربي الذكوري حتى في نهاية القرن العشرين علماً بأنه لم يذكر حالة قتلت فيها امرأة رجلاً من أجل شرف زوجها أو أبيها أو أخيها أو ابنها. وهكذا نرى أن هذه المفاهيم مسيطرة على المجتمع أكثر من التنزيل الحكيم وكذلك الحجاب، وهل هذا من مؤشرات الصحوة الإسلامية كما يدعي بعض الناس.



https://shahrour.org/?page_id=783  

Aucun commentaire: