ولد ارنست ماندل سنة 1923 بفرانكفورت من عائلة
ثورية شيوعية.
كان أبوه عضوا في حركة سبارتكوس بوند، حيث ناضلت روزا
لوكسمبورغ، والتي عارضت بنشاط خلال سنوات 30 الستالينية وصعود الفاشية.
في
هذا المناخ، حيث كان "نتصف ليل القرن"، ترعرع الشاب ماندل. والتحق وعمره 17
سنة بصفوف الأممية الرابعة ببلجيكا حيث لجأت أسرته.
شارك في مقاومة الحرب والاحتلال النازي مدافعا عن وجهة نظر أممية جريئة (بخلاف التيارات البورجوازية والستالينية) وصلت حدود توزيع مناشير ثورية وسط الجنود الألمان. أقنع، بمعية أبراهام ليون، الصهيونيين اليساريين داخل منظمة شومير هازيير (الحرس الفتي) ـ التي كانت قطعت مع الحزب الشيوعي بعد ميثاق هتلر ـ ستالين ـ بتبني الماركسية الثورية. أسس ماندل بصفته مناضلا في أنوية ثورية وسط-;-الحزب الاشتراكي الثوري، سلف الحزب العمالي الاشتراكي عمال المناجم وعمال صناعة التعدين في شارل لوروا ولييج. اعتقله المحتل مرات عديدة لكنه يفر كل مرة. وفي نهاية الحرب نفي إلى معسكرات العمل بألمانيا، لكنه فر مرة أخرى (أبريل 1945) عندما أوشكت هزيمة النازية والتحق برفاقه ببلجيكا.
انخرط في الحركة النقابية بعد الحرب، وأصبح أحد المستشارين الرئيسيين لأندري رونارد (الكاتب العام المساعد للفدرالية العامة لعمال بلجيكا FGTB الذي كان يقود اليسار النقابي)، كانا قد التقيا في الحرس الاشتراكي الفتي JGS بلييج خلال مقاومة الفاشية حيث كان رونارد يقوم بدور قيادي.
في الفدرالية العامة لعمال بلجيكا FGTB كان ماندل من الدافعين ببرنامج »الشركات الكبرى Holdings والديمقراطية الاقتصادية «وخطة الإصلاحات الهيكلية المعادية للرأسمالية. وساهم بالموازاة في تأسيس جريدة »اليسار «التي تجمع يسار الحزب الاشتراكي البلجيكي PSB برمته والتي كان رئيس تحريرها.
هيأ نشاط الحركة النقابية هذا الإضراب العام في ديسمبر 1960 ـ يناير 1961 ضد القانون الوحيد Loi Unique الذي أصدره الوزير الأول غاستون إيسكينس.
جرى طرد ماندل سنة 1964 ـ شأنه شأن اليسار المعادي للرأسمالية برمته ـ من الحزب الاشتراكي البلجيكي PSB الذي كان يشارك في الحكومة بجانب CVP ويعمل بشكل تدريجي على تمرير كل التدابير التي تضمنها القانون الوحيد مع قوانين ضد الإضرابات.
كان ارنست ماندل آنذاك نشيطا للغاية في التضامن مع الثورات المناهضة للإستعمار: الجزائر وكوبا... استدعاه تشي غيفارا إلى كوبا قصد المساهمة في النقاش الدائر حول التنظيم الاقتصادي للثورة الكوبية (1963-1964). كان الالتزام الأممي طبيعة ثانية عند ماندل. كان يدعو علانية في المعسكرات النازية إلى تضامن العمال الفرنسيين والبلجيكيين ضد الرأسمال الكبير، والتحق سنة 1949 بألوية دعم الشعب اليوغوسلافي وثورته التي يهدد ستالين بسحقها. أدرك كامل أهمية سنة 1968، ذلك الانعطاف في الوضع العالمي (ماي 68 وربيع براغ وهجوم Têt في الفيتنام). رفضت الحكومة الفرنسية السماح له بدخول أراضيها، ومنع من تأشيرات دخول كل من الولايات المتحدة الأمريكية والألمانيتين وأستراليا ونيوزيلاندا...
كان ارنست ماندل أحد مؤسسي رابطة العمال الثورية سنة 1971(أصبحت الحزب العمالي الاشتراكي POS ) ببلجيكا نتيجة اندماج يسار الحركة العمالية الاشتراكية المناهض للرأسمالية والمجموعات الراديكالية الجديدة في الشبيبة، وساهم بنشاط في قيادة الحزب العمالي الاشتراكي حتى وفاته.
كرس ماندل كل حياته لوضع نظرية ماركسية جذرية ومفتوحة. حقق مؤلفه "النظرية الاقتصادية الماركسية" انتشارا واسعا منذ صدوره عام 1962، وتُرجم إلى عدة لغات وكان له تأثير كبير على تكوين جيل جديد من الاقتصاديين النقديين. من بين أهم أعماله: "تشكل فكر ماركس الاقتصادي" مقدمة طبعة الرأسمال الصادرة عن دار نشر بيليكان و "موجات التطور الرأسمالي الطويلة" ولاسيما "شيخوخة الرأسمالية"، تشكل هذه الدراسة، حسب بيري أندرسون، "أول تحليل نظري للتطور العام لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ الحرب العالمية الثانية، وحول الرقابة العمالية والمجالس العمالية والتسيير الذاتي، ونقد الشيوعية الأوروبية، ومن الكومونة إلى ماي 68 " إلخ.
كتب مؤخرا "إلى أين يسير الاتحاد السوفياتي في ظل غورباتشوف" ولاسيما "السلطة والمال". أصدر أيضا مجموعة مذهلة من المقالات في صحافة فروع الأممية الرابعة (كان ماندل يجيد الكتابة والتحدث بعدة لغات) ورسائل وتحاليل علاوة على وثائق سياسية.
عقد آمالا كبيرة خلال 1989-1990 على التطورات السياسية بألمانيا. شارك في أحداث أوربا الشرقية بمتابعة نضال المعارضة اليسارية ضد الستالينية والرأسمالية. وساهم في نقاش قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي حول الدلالة السياسية لنضال تروتسكي.
رغم الهزائم بأوربا الشرقية والوضع الصعب للحركة العمالية العالمية، جاب ارنست ماندل القارات الخمس للدفاع عن أفكاره دون عصبوية وبتفاؤل واقتناع راسخ. ساهم بعدة مواقع في مد الجسور بين مختلف التيارات اليسارية وتقوية تحالفات جديدة. كسب من ذلك اقتناعا بأن اليسار، رغم صعوبات الوضع العالمي، حامل لآمال جديدة في ماركسية نقدية غير دوغمائية وحازمة وجذرية. وتعززت تلك القناعة بتطور الأحداث بالبرازيل والفلبين والشرق الأوسط وأوربا الغربية...
لكن نشاطه المتواصل أثر على صحته، إذ نادرا جدا ما قبل الراحة، وفقط في الأشهر الأخيرة من حياته أجبره تدهور صحته على تقليص نشاطه.
يوم 20 يوليوز 1995 وإثر أزمة قلبية حادة وافت المنية هذا الثوري الذي شارك باستماتة في نضالات الإنسانية. وقد عبر مرة أخرى في يونيو 1995 عن حماسه، خلال المؤتمر 14 للأممية الرابعة، بخصوص الإمكانيات المفتوحة بوجه أمميتنا النشيطة أكثر من أي وقت مضى في السعي إلى أشكال تنظيم جديدة لليسار المناهض للرأسمالية على المستوى السياسي والدولي.
شارك في مقاومة الحرب والاحتلال النازي مدافعا عن وجهة نظر أممية جريئة (بخلاف التيارات البورجوازية والستالينية) وصلت حدود توزيع مناشير ثورية وسط الجنود الألمان. أقنع، بمعية أبراهام ليون، الصهيونيين اليساريين داخل منظمة شومير هازيير (الحرس الفتي) ـ التي كانت قطعت مع الحزب الشيوعي بعد ميثاق هتلر ـ ستالين ـ بتبني الماركسية الثورية. أسس ماندل بصفته مناضلا في أنوية ثورية وسط-;-الحزب الاشتراكي الثوري، سلف الحزب العمالي الاشتراكي عمال المناجم وعمال صناعة التعدين في شارل لوروا ولييج. اعتقله المحتل مرات عديدة لكنه يفر كل مرة. وفي نهاية الحرب نفي إلى معسكرات العمل بألمانيا، لكنه فر مرة أخرى (أبريل 1945) عندما أوشكت هزيمة النازية والتحق برفاقه ببلجيكا.
انخرط في الحركة النقابية بعد الحرب، وأصبح أحد المستشارين الرئيسيين لأندري رونارد (الكاتب العام المساعد للفدرالية العامة لعمال بلجيكا FGTB الذي كان يقود اليسار النقابي)، كانا قد التقيا في الحرس الاشتراكي الفتي JGS بلييج خلال مقاومة الفاشية حيث كان رونارد يقوم بدور قيادي.
في الفدرالية العامة لعمال بلجيكا FGTB كان ماندل من الدافعين ببرنامج »الشركات الكبرى Holdings والديمقراطية الاقتصادية «وخطة الإصلاحات الهيكلية المعادية للرأسمالية. وساهم بالموازاة في تأسيس جريدة »اليسار «التي تجمع يسار الحزب الاشتراكي البلجيكي PSB برمته والتي كان رئيس تحريرها.
هيأ نشاط الحركة النقابية هذا الإضراب العام في ديسمبر 1960 ـ يناير 1961 ضد القانون الوحيد Loi Unique الذي أصدره الوزير الأول غاستون إيسكينس.
جرى طرد ماندل سنة 1964 ـ شأنه شأن اليسار المعادي للرأسمالية برمته ـ من الحزب الاشتراكي البلجيكي PSB الذي كان يشارك في الحكومة بجانب CVP ويعمل بشكل تدريجي على تمرير كل التدابير التي تضمنها القانون الوحيد مع قوانين ضد الإضرابات.
كان ارنست ماندل آنذاك نشيطا للغاية في التضامن مع الثورات المناهضة للإستعمار: الجزائر وكوبا... استدعاه تشي غيفارا إلى كوبا قصد المساهمة في النقاش الدائر حول التنظيم الاقتصادي للثورة الكوبية (1963-1964). كان الالتزام الأممي طبيعة ثانية عند ماندل. كان يدعو علانية في المعسكرات النازية إلى تضامن العمال الفرنسيين والبلجيكيين ضد الرأسمال الكبير، والتحق سنة 1949 بألوية دعم الشعب اليوغوسلافي وثورته التي يهدد ستالين بسحقها. أدرك كامل أهمية سنة 1968، ذلك الانعطاف في الوضع العالمي (ماي 68 وربيع براغ وهجوم Têt في الفيتنام). رفضت الحكومة الفرنسية السماح له بدخول أراضيها، ومنع من تأشيرات دخول كل من الولايات المتحدة الأمريكية والألمانيتين وأستراليا ونيوزيلاندا...
كان ارنست ماندل أحد مؤسسي رابطة العمال الثورية سنة 1971(أصبحت الحزب العمالي الاشتراكي POS ) ببلجيكا نتيجة اندماج يسار الحركة العمالية الاشتراكية المناهض للرأسمالية والمجموعات الراديكالية الجديدة في الشبيبة، وساهم بنشاط في قيادة الحزب العمالي الاشتراكي حتى وفاته.
كرس ماندل كل حياته لوضع نظرية ماركسية جذرية ومفتوحة. حقق مؤلفه "النظرية الاقتصادية الماركسية" انتشارا واسعا منذ صدوره عام 1962، وتُرجم إلى عدة لغات وكان له تأثير كبير على تكوين جيل جديد من الاقتصاديين النقديين. من بين أهم أعماله: "تشكل فكر ماركس الاقتصادي" مقدمة طبعة الرأسمال الصادرة عن دار نشر بيليكان و "موجات التطور الرأسمالي الطويلة" ولاسيما "شيخوخة الرأسمالية"، تشكل هذه الدراسة، حسب بيري أندرسون، "أول تحليل نظري للتطور العام لنمط الإنتاج الرأسمالي منذ الحرب العالمية الثانية، وحول الرقابة العمالية والمجالس العمالية والتسيير الذاتي، ونقد الشيوعية الأوروبية، ومن الكومونة إلى ماي 68 " إلخ.
كتب مؤخرا "إلى أين يسير الاتحاد السوفياتي في ظل غورباتشوف" ولاسيما "السلطة والمال". أصدر أيضا مجموعة مذهلة من المقالات في صحافة فروع الأممية الرابعة (كان ماندل يجيد الكتابة والتحدث بعدة لغات) ورسائل وتحاليل علاوة على وثائق سياسية.
عقد آمالا كبيرة خلال 1989-1990 على التطورات السياسية بألمانيا. شارك في أحداث أوربا الشرقية بمتابعة نضال المعارضة اليسارية ضد الستالينية والرأسمالية. وساهم في نقاش قيادة الحزب الشيوعي السوفياتي حول الدلالة السياسية لنضال تروتسكي.
رغم الهزائم بأوربا الشرقية والوضع الصعب للحركة العمالية العالمية، جاب ارنست ماندل القارات الخمس للدفاع عن أفكاره دون عصبوية وبتفاؤل واقتناع راسخ. ساهم بعدة مواقع في مد الجسور بين مختلف التيارات اليسارية وتقوية تحالفات جديدة. كسب من ذلك اقتناعا بأن اليسار، رغم صعوبات الوضع العالمي، حامل لآمال جديدة في ماركسية نقدية غير دوغمائية وحازمة وجذرية. وتعززت تلك القناعة بتطور الأحداث بالبرازيل والفلبين والشرق الأوسط وأوربا الغربية...
لكن نشاطه المتواصل أثر على صحته، إذ نادرا جدا ما قبل الراحة، وفقط في الأشهر الأخيرة من حياته أجبره تدهور صحته على تقليص نشاطه.
يوم 20 يوليوز 1995 وإثر أزمة قلبية حادة وافت المنية هذا الثوري الذي شارك باستماتة في نضالات الإنسانية. وقد عبر مرة أخرى في يونيو 1995 عن حماسه، خلال المؤتمر 14 للأممية الرابعة، بخصوص الإمكانيات المفتوحة بوجه أمميتنا النشيطة أكثر من أي وقت مضى في السعي إلى أشكال تنظيم جديدة لليسار المناهض للرأسمالية على المستوى السياسي والدولي.
ترجمة: غسان ماجد و كميل داغر (1980)
توطئة
هذا المدخل إلى الماركسية هو نتاج تجارب دروس عديدة ألقيت في مناضلين شباب، في لحظات مختلفة من السنوات الخمس عشرة الأخيرة. وهو مرتبط بالاحتياجات التربوية التي لمسناها والتي قد تختلف من بلد إلى آخر ومن وسط إلى آخر. لذا لا ندّعي البتة أنه مدخل «نموذجي».
وهو، فضلا عن كونه يتضمن العناصر الأساسية في نظرية المادية التاريخية والنظرية الاقتصادية الماركسية وتاريخ الحركة العمالية وقضايا استراتيجية الحركة العمالية المعاصرة وتكتيكها، يحتوي على «ابتكار» يبدو محيّرا للوهلة الأولى: فإن الفصل المتعلق بالديالكتيك المادي والفصل الذي يعرض عرضا منهجيا نظرية المادية التاريخية يردان في نهاية الكتاب وليس في بدايته.
طبعا، ليس هذا الابتكار «مراجعة منهجية»، بل هو عبرة مستمدة من ملاحظة اختبارية: أن عرضا حول الدياليكتيك يصلح فاتحة لمدرسة تكوين كوادر أكثر مما لمدرسة مناضلين مبتدئين. فهؤلاء يستوعبون النظرية بصورة أفضل إذا شُرحت لهم بشكل ملموس إلى أبعد حد ممكن. وانه لأفضل بالتالي الانطلاق مما يستطيع المرء التأكد منه مباشرة -التفاوت الاجتماعي، النضال الطبقي، الاستغلال الرأسمالي- وصولا إلى مفاهيم الديالكتيك الأكثر تجريدا وأساسية، بوصفها المنطق العام للحركة والتناقض، وذلك بعد توضيح حركة المجتمع والتناقضات التي تمزقه.
ليس في الأمر سوى اختيار مبني على خبرة تربوية شخصية. ومن البديهي أن تجارب أخرى قد تؤدي إلى استنتاجات مختلفة. هذا ونبقى على استعداد للعودة إلى بنية أكثر تقليدية لهذا المدخل، إذا أثبت لنا، على ضوء تجارب، أن طريقة العرض التقليدية تسمح لمناضلي القاعدة أن يستوعبوا جوهر الماركسية بصورة أفضل. بيد أننا نجيز لنفسنا أن نشك في هذا الأمر في الوقت الراهن.
إرنست ماندل
--------------------------------------------------------------------------------
1/ التفاوت الاجتماعي والنضالات الاجتماعية عبر التاريخ
1- التفاوت الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي المعاصر
في بلجيكا، يوجد توزيع هرمي للثروة وللسلطة الاجتماعية. ففي قاعدة هذا الهرم، نجد ثلث المواطنين لا يملكون شيئا سوى ما يكسبونه ويصرفونه، سنة بعد سنة. إنهم غير قادرين على الادّخار ولا على التملك. وفي قمة الهرم، نجد 4% من المواطنين يملكون نصف الثروة القومية الخاصة. إن ما يقل عن 1% من البلجيكيين يملكون أكثر من نصف ثروة البلاد المنقولة. وبينهم 200 عائلة تتحكم بالشركات الكبرى (holdings) التي تسيطر على مجمل الحياة الاقتصادية القومية.
إن دراسة نشرها حديثا معهد الإحصاءات والدراسات الاقتصادية القومي أشارت إلى أن 50% من الأمة الفرنسية لم يكونوا يملكون أكثر من 5% من الثروة القومية عام 1975، بينما نصف هذه الثروة بين أيدي أقل من 10% من الأسر، وذلك مع حسبان المساكن وودائع صناديق التوفير في فئة «الثروات». أمّا ثروة 1% من الأسر الأكثر ثراء فقد ازدادت بين عامي 1949 و1975 بوثيرة مقدارها ضعفا ثروة الأسر ذات المداخيل المتواضعة.
أما في الولايات المتحدة، فقد جاء في تقدير إحدى لجان مجلس الشيوخ أن ما يقل عن 1% من العائلات الأمريكية تملك 10% من جميع أسهم الشركات المساهمة، وأن 0,2% من العائلات تملك أكثر من ثلثي هذه الأسهم. وفي سويسرا، يملك 2% من السكان أكثر من 67% من الثروة الخاصة.
ولما كان مجمل الصناعة والقطاع المالي الأمريكيين (عدا بعض الاستثناءات) منظما على أساس «الشركة المغفلة»، نستطيع القول أن لدى 99% من المواطنين الأمريكيين سلطة اقتصادية أدنى مما لدى 0,1% من السكان.
ليس تفاوت المداخيل والثروات واقعا اقتصاديا وحسب، بل يستتبع تفاوتا في احتمالات البقاء، تفاوتا أمام الموت. هكذا نجد أن معدل وفيات الأطفال كان في عائلات العمال غير المتخصصين، في بريطانيا، قبل الحرب، أكثر من ضعفي ما كان في العائلات البورجوازية. وتشير إحصائية رسمية إلى أن معدل وفيات الأطفال ارتفع في فرنسا، سنة 1951، إلى 19,1 وفات لكل ألف ولادة في المهن الحرة، و23,9 وفاة في البورجوازية الرأسمالية، و28,2 وفاة عند موظفي التجارة، و34,5 وفاة عند التجار، و36,4 وفاة عند الحرفيين، و42,5 وفاة عند العمال المتخصصين، و 44,9 وفاة الفلاحين والعمال الزراعيين، و51,9 وفاة عند العمال نصف المتخصصين و61,7 وفاة عند العمال غير المتخصصين! هذه النسب لم تتغير عمليا حتى اليوم، بالرغم من أن معدل وفيات الأطفال قد انخفض في جميع الفئات.
وقد نشرت مؤخرا الصحيفة البلجيكية المحافظة «لاليبر بلجيك» دراسة مكربة تتعلق بتكوّن اللغة عند الطفل. تؤكد هذه الدراسة أن العبء الإضافي الذي غالبا ما يعاني منه طفل عائلة فقيرة خلال السنتين الأوليين من حياته، من جراء التخلف الثقافي الذي يفرضه المجتمع الطبقي، هذا العبء يجرّ عواقب دائمة من حيث إمكانية استيعاب مواضيع علمية، وهي عواقب لا يستطيع تعليم «متساو»، لا يقصد التعويض قصدا، أن يبطلها. فإن عبارة الروائي التي تقول أن التفاوت الاجتماعي يخنق تطور ألوف من أمثال موزار وشيكسبير وأينشتاين بين أولاد الشعب، هذه العبارة ما زالت صحيحة للأسف حتى في عصر دولة الخدمات الاجتماعية (Welfare state)!
وفي عصرنا هذا، لا يتوجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الفروقات الاجتماعية القائمة داخل كل بلد وحسب. بل يهم أن نأخذ أيضا بعين الاعتبار التفاوت القائم بين عدد قليل من البلدان المتقدمة صناعيا والقسم الأعظم من البشرية الذي يعيش في البلدان المسماة بالمتخلفة (البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة).
فالولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي وتستهلك أكثر من نصف العديد من المواد الأولية الصناعية في العالم الرأسمالي. ويتصرف 550 مليونا من الهنود بكميات من الفولاذ والطاقة تقل عما يتصرف به 9 ملايين من البلجيكيين. أمّا الدخل الفردي الواقعي في أفقر بلدان العالم فلا يتعدى 8% من الدخل الفردي في البلدان الأخرى. ولا يحصل 67% من سكان الكرة الأرضية سوى على 15% من الدخل العالمي. وفي الهند، يبلغ عدد الأمهات اللواتي يمتن من جراء العواقب المباشرة للأمومة، في مقابل كل 100 ألف ولادة، ثلاثين ضعف عددهن في الولايات المتحدة.
نتائج: يأكل المواطن الهندي كل يوم ما لا يزيد عن نصف الحراريات التي يتناولها مواطن البلدان المتقدمة في الغرب. والعمر المتوسط الذي يتعدى 65 عاما في الغرب، ليصل إلى 70 عاما في بعض البلدان، يكاد لا يبلغ 30 عاما في الهند.
2- التفاوت الاجتماعي في المجتمعات السابقة
نجد تفاوتا اجتماعيا مماثلا للذي هو قائم في العالم الرأسمالي، في جميع المجتمعات السابقة التي تعاقبت خلال التاريخ (أي خلال تلك المرحلة من وجود البشرية على الأرض، التي نملك عنها شهادات خطية).
هاكم وصفا لبؤس الفلاحين الفرنسيين في نهاية القرن 17نقلناه عن «أطباع» لا برويير [20]:
«نرى بعض الحيوانات المتوحشة، ذكورا وإناثا، منتشرة في الريف، سوداء، دكناء، حرقتها الشمس، مرتبطة بالأرض التي تنبشها وتحركها بمثابرة لا تقهر. لها ما يشبه الصوت الناطق، وعندما تقف على أرجلها، تظهر وجها إنسانيا وهي بالفعل من البشر. ينسحبون عند المساء إلى أوكار، حيث يعيشون من الخبز الأسود والماء والجذور…».
قارنوا هذه الصورة عن فلاحي ذلك العصر بصورة الحفلات الباهرة التي أقامها لويس الرابع عشر [21] في حديقة قصر فرساي، قارنوها بتخمة النبلاء وإسراف الملك، تكونون قد رسمتم صورة أخّاذة عن التفاوت الاجتماعي.
في مجتمع بداية العصر الوسيط [22] الذي شهد هيمنة القنانة، كان السيد النبيل يستأثر في معظم الأحيان بنصف عمل الفلاحين الأقنان أو بنصف محصولهم. وكان ثمة أسياد عديدون يعمل على أرضهم مئات بل ألوف الأقنان. فكان كل سيد يحصل سنويا على ما يساوي محصول مئات بل ألوف الفلاحين.
وكان الأمر على هذه الصورة في شتى مجتمعات الشرق الكلاسيكي (مصر، سومر، بابل، فارس، الهند، الصين، الخ) حيث كان المجتمع قائما على الزراعة وكان الملاك العقاريون أمّا أسيادا أو ملوكا (يمثلهم كتبة وكلاء لمصلحة الضرائب الملكية).
لقد ترك لنا كتاب «هجاء المهن» الذي كُتب في مصر الفرعونية، قبل 3500 عام، صورة عن الفلاحين الذين استغلهم هؤلاء الكتبة الملكيون وقد قارنهم المزارعون الناقمون بالحيوانات الضارة والحشرات الطفيلية.
أمّا العصور القديمة اليونانية والرومانية، فقد كان قائما على العبودية. وإذا استطاع ذلك المجتمع أن يبلغ مستوى عاليا من الثقافة، فسبب الأمر يعود جزئيا إلى أن سكان المدن القديمة تمكنوا من تخصيص قسم هام من وقتهم لنشاطات سياسية وثقافية وفنية ورياضية، حيث تُرك العمل اليدوي أكثر فأكثر للعبيد وحدهم.
3- التفاوت الاجتماعي والتفاوت الطبقي
ليست كل تفاوت اجتماعي بتفاوت طبقي. فإن الفرق بين أجر عامل غير متخصص وأجر عامل ذي اختصاص عال لا يجعل منهما عضوي طبقتين اجتماعيتين مختلفتين.
إن التفاوت الاجتماعي تفاوت يمد جذوره في بنية الحياة الاقتصادية وسيرها الطبيعي، وتحافظ عليه المؤسسات الاجتماعية والقانونية الرئيسية في عصره، وتزيد من حدته.
فلنوضح هذا التعريف ببعض الأمثلة:
لكي يصبح المرء رب عمل كبير في بلجيكا، عليه جمع رساميل تقدر بنصف مليون فرنك [23] مقابل كل عامل يجري استئجاره. إن مصنعا صغيرا يستخدم 100 عامل يتطلب بالتالي جمع رأسمال لا يقل عن 100 مليون فرنك. والحال أن أجر العامل الصافي لا يتعدى أبدا تقريبا 200 ألف فرنك سنويا فحتى إذا عمل خمسين عاما دون أن يصرف فلسا واحدا للأكل والعيش، لا يستطيع العامل جمع ما يكفي من المال ليصبح رأسماليا. فالعمل المأجور، الذي هو أحد ميزات بنية الاقتصاد الرأسمالي، يشكل إذا أحد جذور انقسام المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين مختلفتين بالأساس: الطبقة العاملة التي لا تستطيع أبدا أن تصبح بواسطة مداخيلها مالكة وسائل إنتاج، وطبقة مالكي وسائل الإنتاج أو الرأسماليين.
صحيح أنه يوجد إلى جانب الرأسماليين بحصر المعنى بعض التقنيين الذين يستطيعون أن يصلوا إلى مراكز إدارة المنشآت. غير أن التكوين التقني المطلوب هو تكوين جامعي. والحال أن 5 إلى 7% فقط من الطلاب الجامعيين في بلجيكا، في العقود الأخيرة، هم من أبناء العمال… والحالة هي نفسها في معظم البلدان الامبريالية.
إن المؤسسات الاجتماعية تقطع الطريق إلى الملكية الرأسمالية أمام العمال، سواء من جهة مداخيلهم أو من جهة نمط التعليم العالي. هذه المؤسسات تبقى انقسام المجتمع إلى طبقات كما هو قائم اليوم، وتحافظ عليه وتديمه.
حتى في الولايات المتحدة حيث يحلو لبعضهم أن يذكروا أمثالا عن «أبناء عمال مجتهدين أصبحوا من أصحاب المليارات بفضل دأبهم في العمل»، تبيّن نتيجة استقصاء أن 90% من مدراء المنشآت الهامة ذوو أصول برجوازية كبيرة ومتوسطة.
هكذا نجد عبر التاريخ تفاوتا اجتماعيا تبلور في تفاوت طبقي. ففي كل مجتمع من المجتمعات المذكورة، نجد طبقة من المنتجين تعيل بعملها المجتمع بأسره وطبقة مسيطرة تعيش من عمل الغير: فلاحون وكهنة أو أسياد أو كتبة في إمبراطوريات الشرق، عبيد وأسياد عبيد في العصور القديمة اليونانية والرومانية، أقنان وأسياد إقطاعيون في بداية العصر الوسيط، عمال ورأسماليون في العصر البرجوازي.
4- المساواة الاجتماعية في ما قبل التاريخ البشري
غير أن التاريخ لا يشكل سوى جزء بسيط من حياة البشرية على الكرة الأرضية. فقد سبقه ما قبل التاريخ، أي تلك المرحلة من وجود البشرية التي كانت خلالها الكتابة والحضارة مجهولتين. وقد بقيت بعض الشعوب البدائية في شروط العيش ما قبل التاريخية حتى زمن قريب، بل حتى أيامنا هذه. والحال أن البشرية جهلت التفاوت الطبقي طوال القسم الأعظم من وجودها ما قبل التاريخي.
وسوف يتضح لنا الفرق الأساسي بين جماعة بدائية ومجتمع طبقي من خلال استعراضنا لبعض مؤسسات تلك الجماعات.
فقد حدثنا العديد من علماء الأناسة (أنتربولوجيا) عن عادة نجدها عند شعوب بدائية كثيرة وهي عادة تنظيم احتفالات مسهبة بعد الحصاد. وقد وصفت لنا عالمة الأناسة مارغريت ميد هذه الاحتفالات عند شعب آرابيش البابو [24] في غينيا الجديدة، حيث جميع الذين حصدوا محصولا فوق المتوسط، يدعون عائلاتهم بكاملها وجميع جيرانهم إلى المشاركة في احتفالات تستمر حتى استهلاك القسم الأعظم من فائض ذلك المحصول. وتضيف مارغريت ميد:«إن هذه الاحتفالات تشكل إجراء ملائما لمنع الفرد من مراكمة ثروات..»
من جهة أخرى، درس عالم الأناسة آش نظام وتقاليد قبيلة قطنت جنوب الولايات المتحدة، هي قبيلة الـهوبي. في هذه القبيلة، وبخلاف مجتمعنا، يعتبر مبدأ المزاحمة الفردية مبدأ مدانا من وجهة النظر الأخلاقية. فعندما يلعب الأولاد الـهوبي ألعابا رياضية، لا يحسبون أبدا العلامات ويجهلون من «ربح».
إن المشاعات البدائية التي لم تنقسم بعد إلى طبقات، عندما تمارس الزراعة كنشاط اقتصادي رئيسي وتحتل أرضا معينة، لا تقوم باستثمار الأرض جماعيا. بل تحصل كل عائلة على حقل تستثمره لفترة. بيد أن الحقول يعاد توزيعها مرارا للحؤول دون تمتع أي عضو من أعضاء المشاعة بامتيازات على حساب الآخرين. أمّا المروج والغابات فإن استثمارها جماعي. إن نظام المشاعة القروية هذا، المبني على غياب الملكية الخاصة للأرض، قد وجد عند البحث في نشوء الزراعة لدى جميع شعوب العالم تقريبا. أنه يثبت أن المجتمع في تلك الفترة لم يكن منقسما إلى طبقات على صعيد القرية.
أمّا الأفكار الشائعة التي تردد دائما والقائلة أن التفاوت الاجتماعي يجد جذوره في تفاوت مواهب الأفراد أو كفاآتهم، وأن انقسام المجتمع إلى طبقات هو نتاج «أنانية الإنسان الغريزية» وبالتالي نتاج «الطبيعة الإنسانية»، فهي أفكار لا أساس علمي لها. إن اضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ليس نتاج «الطبيعة الإنسانية»، بل نتاج تطور تاريخي للمجتمع. إنه اضطهاد لم يكن موجودا دوما ولن يبقى إلى الأبد. فلم يكن ثمة أغنياء وفقراء دوما ولن يبقى أغنياء وفقراء إلى الأبد.
5- التمرد ضد التفاوت الاجتماعي عبر التاريخ
إن انقسام المجتمع إلى طبقات والملكية الخاصة للأرض ولوسائل الإنتاج ليسا إطلاقا، إذا، نتاج «الطبيعة الإنسانية». إنهما نتاج تطور للمجتمع وللمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وسوف نرى لماذا نشآ وكيف سيزولان.
في الواقع، ما أن يظهر انقسام المجتمع إلى طبقات حتى يبدي الإنسان حنينه إلى الحياة المشاعية القديمة. ونجد تعبيرات هذا الحنين في حلم «العصر الذهبي» الذي يقال أنه ساد عند فجر وجود البشرية على الأرض والذي وصفه الأدباء الكلاسيكيون الصينيون، شأنهم في ذلك شأن الكتاب الإغريق واللاتينيين. ويقول فرجيليوس [25] بوضوح أن المحاصيل، في ذلك العصر الذهبي، كان يجري تقاسمها جماعيا، أي أن الملكية الخاصة لم تكن موجودة.
هذا وقد اعتبر العديد من الفلاسفة والعلماء الشهيرين أن انقسام المجتمع إلى طبقات يشكل مصدر القلق الاجتماعي، وقد وضعوا مشاريع لإزالة هذا الانقسام.
هو ذا الفيلسوف اليوناني أفلاطون [26] يحدد أصل المصائب التي تصيب المجتمع: «حتى أصغر مدينة منقسمة إلى قسمين، مدينة فقراء ومدينة أغنياء تتعارضان (وكأنهما) في حالة حرب».
كذلك، فإن الشيع اليهودية التي تكاثرت في عصر المسيح ومن ثم آباء الكنيسة المسيحية الأول الذين حافظوا على تراث تلك الشيع بين القرن الثالث والخامس الميلاديين، كانوا دعاة متحمسين لعودة إلى مشاعية الأملاك. فقد كتب القديس برنابا: «لن تتكلم أبدا عن ملكيتك، لأنك إذا كنت تنعم بثرواتك الروحية بالمشاع، فحري أن تنعم بثرواتك المادية بالمشاع». وقد ألقى القديس قبريانوس مرافعات عديدة دعا فيها إلى تقاسم الثروات المتساوي بين جميع الناس. وكان القديس يوحنا فم الذهب أول من صاح: «الملكية هي السرقة». والقديس أوغسطينوس، حتى هو، بدأ بإلقاء مسؤولية العنف والصراعات الاجتماعية على الملكية الخاصة، قبل أن يغير لاحقا وجهة نظره.
وقد استمر هذا التقليد طوال العصر الوسيط، لا سيما عند القديس فرنسيس الاسيزي وعند رواد الإصلاح [27]. هاكم ما قاله الرائد الإنكليزي جون بول في القرن الرابع عشر: «يجب إلغاء القنانة وجعل جميع البشر متساوين. إن الذين يسمون بالأسياد يستهلكون ما ننتجه نحن.. إن ترفهم ناتج عن كدحنا».
وفي العصر الحديث، أخيرا، نرى مشاريع مجتمع المساواة تصبح أدق وأدق، سيما في كتاب «الطوبى» للإنكليزي توماس مور، وكتاب «مدينة الشمس» للإيطالي توماس كامبانيللا، وكتابات الفرنسي فوراس داللي (القرن 17)، وفي «وصية جان ميلييه» و«قانون الطبيعة» للفرنسي موريللي (القرن 18).
وإلى جانب هذا التمرد الفكري ضد التفاوت الاجتماعي، كانت ثمة تمردات فعلية لا تحصى، أي انتفاضات من قبل الطبقات المضطهَدة ضد مضطهِديها. إن تاريخ جميع المجتمعات الطبقية هو تاريخ الصراعات الطبقية التي تمزقها.
6- الصراعات الطبقية عبر التاريخ
إن الصراعات بين الطبقة المستغِلة والطبقة المستغَلة أو بين مختلف الطبقات المستغِلة تتخذ أكثر الأشكال تنوعا حسب المجتمع المعني ومرحلة تطوره المحددة.
هكذا فقد حصلت تمردات عديدة في مجتمعات ما يسمى بـ «نمط الإنتاج الآسيوي» (إمبراطوريات الشرق الكلاسيكي). وقد تعاقبت انتفاضات فلاحية لا تحصى في تاريخ السلالات التي سادت بالتتالي في الإمبراطوريات الصينية. وشهدت اليابان أيضا عددا كبيرا من الانتفاضات الفلاحية ، خاصة في القرن الثامن عشر.
وقد عرفت العصور القديمة اليونانية والرومانية سلسلة غير منقطعة من تمردات العبيد -كان أشهرها بقيادة سبارتكوس- التي ساهمت إلى حد بعيد في سقوط الإمبراطورية الرومانية. ونشب بين «الأحرار» صراع عنيف بين طبقة من الفلاحين المستدينين وتجار- مرابين، بين غير مالكين ومالكين.
وفي العصر الوسيط، في ظل النظام الإقطاعي، جرت صراعات طبقية بين الأسياد الإقطاعيين وبلدات حرة قائمة على الإنتاج البضاعي الصغير، وبين الحرفيين والتجار داخل هذه البلدات، وبين بعض الحرفيين المدينيين والفلاحين المجاورين للمدن. وجرت بالأخص صراعات طبقية عنيفة بين النبلاء الإقطاعيين والفلاحين الذين حاولوا التخلص من النير الإقطاعي، واتخذت هذه الصراعات أشكالا ثورية تماما في عاميات فرنسا وحروب الفلاحين في إنكلترا وبوهيميا وألمانيا في القرن السادس عشر.
وعرفت الأزمنة الحديثة صراعات طبقية بين النبلاء والبرجوازية، وبين المعلمين الحرفيين والصناع، وبين رجال المصارف والتجار الأغنياء من جهة و«السواعد العارية» في المدن من الجهة الأخرى، الخ.. هذه الصراعات هي مقدمة الثورات البرجوازية والرأسمالية الحديثة ونضال البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية
* * * * * * *
المراجع
ك. ماركس وف. إنجلس البيان الشيوعي.
ف. إنجلس، دحض دوهرنغ (الجزءان الثاني والثالث).
ماكس بير، تاريخ الاشتراكية.
ك. كاوتسكي، مصادر الاشتراكية، توماس مور.
مورتون، الطوبى الإنكليزية.
--------------------------------------------------------------------------------
2/ المصادر الاقتصادية للتفاوت الاجتماعي
1- المشاعات البدائية القائمة على الفقر
طوال القسم الأعظم من وجوده ما قبل التاريخي، عاش الإنسان في شروط من الفقر المدقع. ولم يكن للبشر من وسائل للحصول على القوت الضروري لعيشهم سوى القنص وصيد الأسماك وقطف الثمار. كانت البشرية تعيش بالتطفل على الطبيعة، حيث لم تكن تزيد الموارد الطبيعية التي كانت أساس بقائها. بل لم يكن لديها أية سيطرة على هذه الموارد.
كانت المشاعات البدائية منظمة بشكل يضمن بقاءها الجماعي في شروط عيش بالغة الصعوبة. وكان كل فرد يشارك إلزاميا في العمل حيث أن عمل كل فرد ضروري لبقاء المشاعة، وإنتاج القوت يكفي بالكاد لإطعام الجماعة. ولو وجدت امتيازات مادية لحكمت على قسم من القبيلة بالمجاعة وحرمتها من إمكانية العمل بصورة عقلانية ونسفت بالتالي شروط البقاء الجماعي. هو ذا السبب الذي جعل التنظيم الإجتماعي، في تلك المرحلة من تطور المجتمعات البشرية، ينزع إلى المحافظة على حد أقصى من المساواة داخل الجماعات البشرية.
وقد لاحظ علماء الأناسة الإنكليز هوبهاوس ووهيلر وغينسبرغ، بعد دراستهم للمؤسسات الاجتماعية في 425 قبيلة بدائية، لاحظوا غيابا تاما للطبقات الاجتماعية لدى جميع القبائل التي جهلت الزراعة.
2- ثورة عصر الحجر المصقول
هذا الوضع من الفقر الأساسي لم يعدل بصورة ثابتة إلاّ بعد تكون تقنيات زراعة الأرض وتربية الحيوانات. إن الفضل في اكتشاف تقنية زراعة الأرض، وهو أكبر ثورة اقتصادية في وجود البشرية، يعود إلى النساء، كما يعود لهن فضل سلسلة من الاكتشافات الهامة الأخرى في ما قبل التاريخ (لاسيما تقنية الخزافة والحياكة). وقد تدعمت الزراعة منذ 15 ألف سنة قبل الميلاد، تقريبا، في أمكنة عديدة من الكرة الأرضية، بدءا على الأرجح بآسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين وإيران وتركستان، وامتدت تدريجيا إلى مصر والهند والصين وإفريقيا الشمالية وأوروبا المتوسطية. ويسمى انتشار الزراعة بثورة عصر الحجر المصقول لأنه حصل في عصر من العصور الحجرية كانت فيه أدوات عمل الإنسان الرئيسية مصنوعة من الحجر المصقول (وهو أحدث العصور الحجرية).
لقد جعلت ثورة عصر الحجر المصقول الإنسان قادرا على إنتاج قوته بنفسه وقادرا بالتالي -إلى حد ما- على التحكم ببقائه. وقد قلصت ارتهان الإنسان البدائي بقوى الطبيعة. وسمحت بتكوين مخزونات من المؤن، الأمر الذي سمح بدوره بتحرير بعض أعضاء المشاعة من ضرورة إنتاج قوتهم. هكذا أصبح بالإمكان تطور تقسيم اقتصادي للعمل، أي تخصص مهني، يزيد إنتاجية العمل البشري. هذا التخصص لا يبدو بعد سوى ملامحه في المجتمع البدائي، لأنه كما قال أحد الرحالة الإسبان الأوائل في القرن السادس عشر، متحدثا عن الهنود: «يريد البدائيون استعمال كل ما لديهم من الوقت لجمع المؤن، لأنهم لو استعملوه بطريقة أخرى لعانوا من الجوع».
3- النتاج الضروري والنتاج الاجتماعي الفائض
إن ظهور فائض كبير ودائم من المؤن هو الذي يحدث انقلابا في شروط التنظيم الاجتماعي. فعندما يكون هذا الفائض صغيرا نسبيا ومبعثرا بين قرية وأخرى، لا يغير البنية المتساوية للمشاعة القروية. إنه يسمح فقط بإعالة بعض الحرفيين والموظفين، أمثال الذين بقوا خلال آلاف السنين في القرى الهندية.
لكن عندما يتم حصر هذه الفوائض على مساحات كبيرة من قبل زعماء عسكريين أو دينيين، أو عندما تتكاثر الفوائض في القرية بفضل تطوير أساليب الزراعة، تستطيع خلق شروط ظهور تفاوت اجتماعي، يمكن استعمالها لإعالة أسرى الحرب أو أسرى عمليات القرصنة (الذين كانوا يقتلون سابقا بسبب قلة المؤن). ويمكن إجبار هؤلاء على العمل لأجل المنتصرين لقاء قوتهم: هكذا ظهرت العبودية في العالم الإغريقي.
ويمكن استعمال الفائض ذاته لإعالة طائفة من الكهنة والجنود والموظفين والأسياد والملوك: هكذا ظهرت الطبقات المسيطرة في إمبراطوريات الشرق القديم (مصر، بابل، إيران، الهند، الصين).
عندها يستكمل التقسيم الاقتصادي للعمل بتقسيم اجتماعي. وينتهي استعمال الإنتاج الاجتماعي بمجمله لسد حاجات المنتجين. بل ينقسم هذا الإنتاج بعدئذ إلى قسمين:
الناتج الضروري، أي قوت المنتجين الذين لولا عملهم لأنهار المجتمع بأسره.
النتاج الاجتماعي الفائض، أي الفائض الذي ينتجه المنتجون والذي تحتكره الطبقات المالكة.
هاكم وصف المؤرخ هايشلهايم لظهور المدن الأولى في العالم القديم: «يتألف سكان المراكز المدنية الجديدة… بقسمهم الأعظم من شريحة عليا تعيش من الريوع (أي أنها تتملك فائض نتاج العمل الزراعي-أ.م.) مؤلفة من أسياد ونبلاء وكهنة. ويجب أن نضيف إليهم الموظفين والمستخدمين والخدام الذين تعيلهم هذه الشريحة العليا بصورة غير مباشرة».
هكذا يؤدي ظهور الطبقات الاجتماعية -الطبقات المنتجة والطبقات المسيطرة- إلى ولادة الدولة التي هي المؤسسة الرئيسية لحفظ الشروط الاجتماعية القائمة، أي التفاوت الاجتماعي. إن انقسام المجتمع إلى طبقات يتدعم بتملك الطبقات المسيطرة لوسائل الإنتاج.
4- الإنتاج والتراكم
إن تَكَوُّن الطبقات الاجتماعية وتملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل جزء من المجتمع ينتجان عن صراع اجتماعي ولا يستمران إلاّ بفضل صراع اجتماعي دائم.
بيد أن ظهور الطبقات يشكل في الوقت نفسه مرحلة -حتمية- من التقدم الاقتصادي، لكونه يسمح بفصل وظيفتين اقتصاديتين أساسيتين هما وظيفة الإنتاج ووظيفة المراكمة.
في المجتمع البدائي، كان جميع الرجال والنساء القادرين يعملون في إنتاج القوت بصورة رئيسية. ولم يكن بوسعهم، في تلك الشروط، أن يخصصوا سوى القليل من الوقت لصنع أدوات العمل وتخزينها والتخصص في صنعها والبحث المنهجي عن أدوات عمل أخرى والتمرس في تقنيات عمل معقدة (كعمل التعدين مثلا) والمراقبة المنهجية لظواهر الطبيعة، الخ…
إن إنتاج نتاج اجتماعي فائض يسمح بمنح قسم من البشرية ما يكفي من وقت الفراغ ليتفرغ لمجمل تلك النشاطات التي تيسر ازدياد إنتاجية العمل. فأوقات الفراغ هذه هي أساس الحضارة وتطور أولى التقنيات العلمية (علوم الفلك والهندسة والمياه والمعادن الخ...) والكتابة. ويرافق انفصال المجتمع إلى طبقات انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي، الذي هو نتاج أوقات الفراغ تلك.
يشكل إذن انقسام المجتمع إلى طبقات شرطا للتقدم التاريخي، طالما أن المجتمع أفقر من أن يتيح لجميع أعضائه التفرغ للعمل الذهني (لوظيفة المراكمة). غير أن ثمن هذا التقدم باهظ. فحتى عشية الرأسمالية الحديثة، لا يستفيد من منافع ازدياد إنتاجية العمل إلاّ الطبقات المالكة. وبالرغم من كل تقدم التقنية والعلم خلال السنوات الأربعة الاف التي تفصل بين بدايات الحضارة القديمة والقرن السادس عشر، نجد أن وضع الفلاح الهندي والصيني والمصري، بل حتى اليوناني والسلافي، لم يتبدل بصورة حسية.
5- سبب فشل كافة ثورات الماضي من أجل المساواة
عندما لا يكفي الفائض الذي ينتجه المجتمع البشري، أي النتاج الاجتماعي الفائض، لتحرير البشرية بأسرها من الكدح المرهق الدائم، فإن أية ثورة اجتماعية تهدف إلى إعادة المساواة البدائية بين البشر ثورة محكوم عليها بالفشل سلفا. فهي لا تستطيع أن تجد سوى مخرجين من التفاوت الاجتماعي القديم.
أما تدمير كل نتاج اجتماعي فائض عمدا والعودة إلى الفقر المدقع البدائي. عندها سوف تؤدي إعادة ظهور التقدم التقني بسرعة إلى التفاوتات الاجتماعية ذاتها التي كانت الغاية إلغاءها.
أو نزع ملكية الطبقة المالكة القديمة لصالح طبقة مالكة جديدة.
هذا بالضبط ما حصل في انتفاضة عبيد روما بقيادة سبارتكوس، وفي أولى الشيع المسيحية والأديرة، وفي مختلف الانتفاضات الفلاحية التي تتالت في الإمبراطورية الصينية، وفي ثورة الهراطقة المسيحيين في بوهيميا في القرن 15، وفي المستعمرات الشيوعية التي أسسها المهاجرون في أمريكا، الخ.
ودون أن ندعي أن الثورة الروسية أدت إلى الوضع ذاته، فإن إعادة ظهور تفاوت اجتماعي حاد في الاتحاد السوفياتي اليوم تجد تفسيرها الأساسي في فقر روسيا غداة الثورة، في عدم كفاية مستوى تطور قواها المنتجة وفي انعزال الثورة في بلد متأخر بنتيجة إخفاق الثورة في أوروبا الوسطى خلال مرحلة 1918-1923.
إن مجتمعا متساويا قائما على الوفرة وليس على الفقر -هو ذا هدف الاشتراكية- لا يستطيع أن يتطور إلاّ على قاعدة اقتصاد متقدم يكون النتاج الاجتماعي الفائض مرتفعا فيه إلى حد أنه يسمح بتحرير جميع المنتجين من كدح مرهق ويمنح المجتمع بأسره ما يكفي من أوقات الفراغ ليتمكن هذا الأخير من القيام جماعيا بالوظائف الإدارية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية (وضيفة المراكمة).
لماذا احتاج الاقتصاد البشري إلى 15 ألف سنة من النتاج الاجتماعي الفائض حتى تمكن من الانطلاق الضروري لظهور ملامح حل اشتراكي للتفاوت الاجتماعي؟ سبب ذلك هو أنه طالما تملكت الطبقات المالكة النتاج الاجتماعي الفائض بشكل منتجات (قيم استعمالية)، شكل استهلاكها الخاص (استهلاك غير منتج) سقف ازدياد الإنتاج الذي رغبت بتحقيقه.
إن معابد وملوك الشرق القديم، وأسياد العبيد في العصور القديمة اليونانية والرومانية، والأسياد النبلاء والتجار الصينيين والهنود واليابانيين والبيزنطيين والعرب، والنبلاء الإقطاعيين في العصر الوسيط، جميعهم لم يجدوا مصلحة في زيادة الإنتاج طالما كدسوا في قصورهم وبلاطاتهم ما كفاهم من المؤن والملابس الفخمة والتحف الفنية. فثمة حدود لا يستطيع الاستهلاك والترف تجاوزها (مثل مضحك: في المجتمع الإقطاعي لجزر هاواي، اتخذ النتاج الاجتماعي الفائض شكل الغذاء حصرا وكانت المكانة الاجتماعية مرهونة بالتالي بـ…وزن كل فرد).
وعندما يتخذ الناتج الاجتماعي الفائض شكل النقد -شكل فائض القيمة- ويصبح بالإمكان استعماله ليس لاقتناء سلع استهلاكية وحسب بل أيضا سلع تجهيزية (سلع إنتاجية)، عند ذلك فقط تجد الطبقة المسيطرة الجديدة -البورجوازية- مصلحة في ازدياد غير محدود للإنتاج. هكذا تولد الشروط الاجتماعية الضرورية لتطبيق جميع الاكتشافات العلمية في الانتاج، أي الشروط الضرورية لظهور الرأسمالية الصناعية الحديثة.
6- اضطهاد النساء، أول شكل واسع للا مساواة الاجتماعية.
بين المجتمع الشيوعي البدائي للجماعة والعشيرة، والأشكال الأولى للمجتمع القائم على سيطرة طبقية على أخرى (كالمجتمع العبودي مثلا)، هنالك مرحلة انتقالية لم تكن قد تطورت خلالها بشكل كامل طبقة مسيطرة مالكة، لكن تأسست إبانها لا مساواة اجتماعية واضحة. يشهد على وجود هذا النموذج من المجتمعات العديد من الآثار والأوصاف الماضية التي ما تزال بارزة على وجه الخصوص في الأساطير والخرافات والديانات «البدائية»، لكن كذلك المجتمع القرابي القائم اليوم في جزء من أرياف إفريقيا السوداء، وإن بشكل أكثر فأكثر تشويها، تبعا لاندماجه بالمجتمع الطبقي المسيطر في كل البلدان التي ما يزال على قيد الحياة فيها.
هذا الشكل الأول المؤسس للا مساواة والاضطهاد الاجتماعيين هو شكل اضطهاد النساء على يد الرجال في المجتمعات البدائية التي بلغت هذا الطور من التقدم. واضطهاد النساء لم يكن موجودا منذ البدء، فهو ليس ناتج جبرية بيولوجية تلقي بثقلها على الجنس النسوي. لا بل ثمة معطيات كثيرة تعود إلى ما قبل التاريخ وإلى مجتمع شيوعية العشيرة وتؤكد أن المساواة بين الجنسين بقيت قائمة زمنا طويلا. ومع أنه تنقصنا المعطيات التي تسمح لنا بتعميم هذه الظاهرة على مجمل البشرية البدائية، فثمة دلائل ساطعة على أن النساء لعبن دورا اجتماعيا مهيمنا في العديد من المجتمعات على الأقل. ويكفي أن نتذكر الظاهرة واسعة الانتشار لـ«الهة الخصب» كسيدة للسماء، لدى فجر الزراعة التي اخترعتها النساء، من أجل الاستنتاج أن الإحلال المعمم للآلهة الذكور (ثم للاله الواحد) محل هذه الالهة، لا يمكن أن يكون عرضيا. إن الثورة في السماء تعكس ثورة حدثت على سطح الأرض، وقلب المفاهيم الدينية ناتج عن قلب الشروط الاجتماعية للعلاقات المتبادلة بين الرجال والنساء.
ويمكن أن يبدو غريبا للوهلة الأولى أن يفتتح شيئا فشيئا عصر استعباد النساء الاجتماعي حين يتكرس دورهن الاقتصادي المهيمن عن طريق وظيفتهن الأساسية في أعمال الحقول (الثورة النيوليتية). إلاّ أنه ليس ثمة أي تناقض حقيقي.
فبمقدار ما تزدهر الزراعة البدائية تصبح النساء المصدر الرئيسي لثورة القبيلة، بشكل مضاعف: من حيث هن المنتجات الرئيسيات للأغذية ومن حيث هن منجبات للأطفال. ذلك أن التطور الديموغرافي لم يعد يستشعر به كتهديد، بل كنعمة محتملة انطلاقا فقط من قاعدة تمون بالأغذية مضمونة إلى هذا الحد أو ذاك، ولقد أصبحت النساء بفعل ذلك موضوعات جشع اقتصادي وهو ما لم يكن ممكنا في عصر الصيد وقطاف الأثمار.
وليمكن إنجاز هذه التبعية، توجب حدوث سلسلة متلازمة من التحولات الاجتماعية. تم نزع سلاح النساء، أي أن مهنة الأسلحة أصبحت حكرا على الذكور. وهذا الواقع لم يكن سائدا منذ البدء، تشهد على ذلك الأساطير العديدة المتعلقة بالأمازونات [28] والتي لم تزل تحيا في أذهان الناس في كل القارات. كما أن وضع المرأة قد تغير بشكل عميق بفعل تعديلات جذرية أدخلت على قواعد الزواج وإضفاء الطابع الاجتماعي على الأطفال، بغية ضمان هيمنة نظام الأبوة.
ومع تطور الملكية الخاصة، ومن ثم توطيدها، اتخذت العائلة البطريركية [29] بالتدريج الشكل النهائي الذي احتفظت به، رغم تعديلات متتالية، على امتداد قسم مهم من تاريخ المجتمعات الطبقية. ولقد أصبحت هي ذاتها واحدة من المؤسسات الرئيسية، التي لا يمكن الاستعاضة عنها، والتي تضمن استمرار الملكية الخاصة عبر الإرث والقمع الاجتماعي بكل صوره (بما فيها البنى الذهنية التي تؤبد الموافقة على السلطة «الآتية من عل» والطاعة العمياء). غدت منطلقا لعمليات تمييز لا تحصى على حساب النساء في كل دوائر الحياة الاجتماعية. والتبريرات الأيديولوجية والمسبقات المنافقة التي تنطوي على هذه التمييزات جزء لا يتجزأ من الأيديولوجية المسيطرة المرتبطة بالطبقات المالكة جمعاء التي تعاقبت في التاريخ. وهي بذلك قد طبعت، جزئيا على الأقل، ذهنية الطبقات المستغَلة، بما فيها ذهنية البروليتاريا الحديثة في النظام الرأسمالي وغداة إطاحته.
*****
المراجع:
ك. ماركس ف. إنجلس البيان الشيوعي.
انجلس، دحض دوهرينغ (الجزء الثاني والثالث).
غوردن شايلد، ماذا حدث في التاريخ؟
غوردن شايلد، الإنسان صنع نفسه.
غلوتز، العمل في اليونان القديمة.
بواسوناد، العمل في العصر الوسيط.
أ. ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية (الفصول الأربعة الأولى).
--------------------------------------------------------------------------------
3/ الدولة، أداة السيطرة الطبقية
1- التقسيم الاجتماعي للعمل ونشوء الدولة
في المجتمع البدائي اللا طبقي، كان جمهور المواطنين يقوم بالوظائف الادارية. وكان كل فرد مسلحا وكل فرد يشارك في الجمعيات العامة التي كانت تصدر القرارات المتعلقة بالحياة الجماعية وبعلاقات المشاعة بالعالم الخارجي. وكذلك فإن النزاعات الداخلية كان يحسمها أعضاء المجتمع.
طبعا ليس من داع إلى تجميل الوضع الذي ساد في تلك المشاعات البدائية التي عاشت في ظل شيوعية العشيرة أو القبيلة فقد كان مجتمعا فقيرا منتهى الفقر. وكان الإنسان يعيش تحت رحمة قوى الطبيعة. أمّا الاخلاق والتقاليد وقواعد التحكيم في النزاعات الداخلية والخارجية، فإذا صح أنها كانت تطبق جماعيا، يبقى أنها كانت مطبوعة بالجهل والخوف والمعتقدات السحرية. إن الذي يجب التشديد عليه بالمقابل هو أن المجتمع كان يحكم نفسه بنفسه في حدود معلوماته وإمكاناته.
ليس صحيحا بالتالي أن مفاهيم «المجتمع» و«الجماعة البشرية» و«الدولة» كانت متماثلة تقريبا وتشمل بعضها بعضا عبر العصور. بالعكس تماما: فقد عاشت البشرية طوال آلاف وآلاف السنين في مجتمعات لم يكن فيها دولة.
تولد الدولة عندما تصبح وظائف كان مجموعة أعضاء المجتمع يقوم بها في البدء، حكرا على تجمع منفصل من الرجال:
- جيش منفصل عن جمهور المواطنين المسلحين.
قضاة منفصلون عن جمهور المواطنين الذين يحاكمون أشباههم.
زعماء وراثيون، ملوك، نبلاء، بدل ممثلين أو قادة لهذا النشاط أو ذاك يعينون مؤقتا وهم قابلون دوما للإبدال.
«منتجو أيديولوجية» (كهنة، كتبة، مدرسون، فلاسفة، مثقفون متنفذون) منفصلون عن سائر المجتمع.
إن ولادة الدولة هي إذن نتاج تحول مزدوج: ظهور نتاج اجتماعي فائض دائم يسمح بتحرير قسم من المجتمع من الزام القيام بعمل لتأمين عيشه بما يخلق الشروط المادية لتخصص هذا القسم في وظائف المراكمة والإدارة، ومن جهة ثانية، تحول اجتماعي وسياسي يسمح بـعزل سائر أعضاء الجماعة عن ممارسة الوظائف السياسية التي كانت بالأمس وظائف الجميع.
2- الدولة في خدمة الطبقات المسيطرة
كون الوظائف التي كان يمارسها في البدء جميع أعضاء المجتمع أصبحت، منذ لحظة معينة، حكرا على تجمع منفصل من الرجال، هذا الواقع يشير بحد ذاته إلى أن ثمة أناسا لهم مصلحة في القيام بهذا العزل. إن الطبقات المسيطرة هي التي تتنظم لعزل أعضاء الطبقات المستغَلة والمنتجة عن ممارسة وظائف قد تسمح لهم بإزالة الاستغلال الذي تم فرضه عليهم.
إن مثال الجيش والتسلح لهو أسطع برهان على ما سبق. فإن ولادة الطبقات المسيطرة تتم عن طريق تملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل جزء من المجتمع. وقد شهد العديد من القبائل والقرى الإفريقية، خلال القرون الأخيرة، تكرار لتطور هو أصل ولادة الدولة في أقدم إمبراطوريات الشرق (مصر، بلاد ما بين النهرين، إيران، الصين، الهند الخ.): فإن هبات وهدايا وخدمات في شكل مساعدة متبادلة، كانت تعطى مجانيا في البدء لجميع الأسر، أصبحت تدريجيا إلزامية وتحولت إلى ريوع وضرائب وسخرات.
بيد أنه ينبغي أيضا تأمين هذه الفرائض. وهذا يتم بالأخص تحت إكراه الأسلحة. فإن تجمعات من الرجال المسلحين -مهما كانت تسميتهم، جنودا أو ذركيين أو قراصنة أو لصوصا- تجبر المزارعين ومربي الحيوانات، ولاحقا الحرفيين والتجار، على التخلي عن قسم من إنتاجهم لصالح الطبقات المسيطرة. وتحمل تلك التجمعات السلاح لهذا الغرض، ويتوجب عليها منع المنتجين من أن يتسلحوا هم أيضا.
في العصور القديمة اليونانية والرومانية، كان اقتناء السلاح محرما على العبيد تحريما صارما. وكذلك الأمر بالنسبة لأقنان العصر الوسيط. وبالأصل، فإن العبيد والفلاحين الأولين غالبا ما هم إمّا أسرى حرب لم يعدموا، أو فلاحو مناطق محتلة، أي ضحايا سيرورة نزع السلاح من البعض التي تمنح البعض الآخر احتكار السلاح.
إن فريدريك إنجلس على حق، بهذا المعنى، عندما يلخص تعريف الدولة بصيغة: تجمع من الرجال المسلحين. طبعا، فإن الدولة تقوم بوظائف أخرى غير تسليح الطبقة المالكة ونزع السلاح من الطبقة المنتجة. غير أن وظيفتها، في التحليل الأخير، هي وظيفة إكراه يمارسها قسم من المجتمع ضد قسم آخر. وليس في التاريخ من شيء يسمح بتبرير الأطروحة الليبرالية-البرجوازية القائلة أن الدولة ولدت بموجب «عقد» أو «إتفاق» أبرمه طوعا جميع أعضاء مجتمع ما. بل يؤكد كل شيء، على العكس، إن الدولة نتاج إكراه وعنف يمارسه بعضهم ضد بعضهم الآخر.
وإذا كان ظهور الدولة يتيح للطبقات المسيطرة أن تحافظ على تملك النتاج الاجتماعي الفائض، فإن هذا التملك يسمح كذلك بتعويض أعضاء جهاز الدولة. وكلما كان النتاج الاجتماعي الفائض أهم، كلما أمكن للدولة أن تتنظم بعدد من الجنود والموظفين والأيديولوجيين مرتفع أكثر فأكثر.
إن تطور الدولة في العصر الوسيط الإقطاعي قد جعل هذه العلاقات شفافة بصورة خاصة. فعندما يبلغ النظام الإقطاعي ذروته، كان كل نبيل إقطاعي في إقطاعته قائد الجيش وجابي الضرائب وذا صلاحية لإصدار العملة ومديرا عاما للاقتصاد. لكن اتساع بعض الإقطاعات وقيام مراتب بين النبلاء وظهور دوقات وكونتات ذوي سلطة على مساحات شاسعة من الأراضي، أمور جعلت من ممارسة الوظائف آنفة الذكر بصفة شخصية عملا مستحيلا. ويصح الأمر بالأحرى بالنسبة للملوك والأباطرة.
هكذا تظهر شخصيات تجسد الانفصال بين تلك الوظائف: القهارمة والمارشالات، الوزراء والأمناء، الخ. ويبين لنا علم الاشتقاق أن هذه الشخصيات كانت بالأصل من العبيد أو أقنان السيد، أي أنها كانت خاضعة كليا للطبقة المسيطرة.
3- الإكراه العنيف والاحتواء الإيديولوجي
إذا كانت الدولة، في التحليل الأخير، تجمعا من الرجال المسلحين، وإذا كانت سلطة طبقة مسيطرة قائمة في التعيين الأخير على الإكراه العنيف، يبقى أن هذه السلطة لا تستطيع أن تقتصر حصرا على هذا الإكراه. قال نابليون بونابرت أنه يمكن عمل أي شيء بالحراب، عدا الجلوس عليها. فإن مجتمعا طبقيا لا يقوم إلاّ على العنف المسلح قد يصبح في حال من الحرب الأهلية الدائمة، أي في حال من الأزمة بالغة الحدة.
لذا لا غنى من أجل تدعيم سيطرة طبقة على أخرى، لا غنى على الإطلاق عن جعل المنتجين، أعضاء الطبقة المستغَلة، يقبلون بتملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل أقلية على أنه أمر حتمي ودائم وعادل. ولهذا السبب لا تقوم الدولة بوظيفة قمع فحسب، بل تقوم أيضا بوظيفة احتواء أيديولوجي. إن «منتجي الأيديولوجية» هم الذين يؤمنون هذه الوظيفة الأخيرة.
إن من خصائص البشرية أنها لا تستطيع تأمين عيشها إلاّ بواسطة عمل اجتماعي يقتضي قيام روابط، أي علاقات إنتاج، بين البشر.
هذه الروابط التي لا غنى عنها تفرض ضرورة تواصل، أي لغة، بين البشر، الأمر الذي يسمح بتطور الوعي والفكر و«إنتاج الأفكار» (أي المفاهيم). هكذا فإن جميع الأعمال الهامة في الحياة البشرية مرفقة بتفكير حولها في ذهن البشر.
غير أن هذا التفكير لا يجري بصورة عفوية تماما. ولا يخترع دوما كل فرد أفكارا جديدة. بل يفكر معظم الأفراد بواسطة أفكار تعلموها في المدرسة أو الكنيسة وأيضا، في عصرنا هذا بواسطة أفكار مستعارة من التلفزيون أوالراديو، من الإعلانات أو من الصحف. إن إنتاج الأفكار، ونظم الأفكار المسماة بالإيديولوجيات، هو إذا محدود جدا. وهو يظهر أيضا كاحتكار لأقلية صغيرة في المجتمع.
إن الإيديولوجية السائدة، في كل مجتمع طبقي، هي أيديولوجية الطبقة السائدة. والسبب الأول في ذلك هو أن منتجي الأيديولوجية مرتهنون ماديا بمالكي النتاج الاجتماعي الفائض.
في بداية العصر الوسيط، كان الأسياد والكنيسة (وهي مالك عقاري إقطاعي كبير، إلى جانب النبلاء) ينفقون على الشعراء والرسامين والفلاسفة. وعندما تبدل الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أوصى التجار ورجال المصارف الأغنياء هم أيضا على أعمال أدبية أو فلسفية أو فنية. بيد أن الارتهان المادي لم يخف، حتى جاءت الرأسمالية وظهر معها منتجو أيديولوجية لم يعد عملهم خاضعا مباشرة للطبقة السائدة، بل عملوا لأجل «سوق مغفلة».
مهما يكن من أمر، فإن وظيفة الأيديولوجية السائدة هي بلا جدال وظيفة مثبتة للمجتمع كما هو، أي للسيطرة الطبقية. إن القانون يحمي شكل الملكية السائدة ويبرره. وتلعب العائلة الدور ذاته. أمّا الدين فيعظ المستغَلين بقبول مصيرهم. وتحاول الأفكار السياسية والأخلاقية السائدة أن تبرر حكم الطبقة السائدة بواسطة سفسطات أو حقائق نصفية (مثلا، الأطروحة التي صاغها غوته [30] أثناء الثورة الفرنسية وضدها، والقائلة أن الفوضى التي يخلقها النضال ضد الظلم هي أسوأ من الظلم ذاته. خلاصة القول: لا تغيروا النظام القائم).
4- الأيديولوجية السائدة والأيديولوجية الثورية
لكن إذا صح أن الأيديولوجية السائدة في كل عصر هي أيديولوجية الطبقة السائدة، فهذا لا يعني قط أن الأفكار الوحيدة الموجودة في مجتمع طبقي معين هي أفكار الطبقة السائدة. بصورة عامة -ومبسطة- تجول في كل مجتمع طبقي ثلاث فئات كبيرة من الأفكار، على الأقل:
الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة السائدة في عصرها، وهي الأفكار السائدة.
أفكار طبقات سادت سابقا، وقد هزمت وأزيحت عن السلطة، لكنها لا تزال تمارس نفوذا على الناس. هذا الأمر يعود إلى قوة ثبات الوعي، الذي هو دائما متأخر بالنسبة للواقع المادي. فإن نقل الأفكار ونشرها مستقلان جزئيا عما يجري في دائرة الإنتاج المادي. ويجوز بالتالي أن يبقى لقوى اجتماعية لم تعد سائدة نفوذ على الأفكار.
أفكار طبقة جديدة ثورية صاعدة، لا تزال تحت سيادة غيرها، لكنها قد بدأت كفاحها من أجل تحررها، ويتوجب عليها أن تتخلص، ولو جزئيا، من أفكار مضطهديها قبل أن تتمكن من إطاحة الاضطهاد بالفعل.
إن مثال القرن التاسع عشر في فرنسا نموذجي جدا في هذا الصدد. فالطبقة السائدة كانت البرجوازية. وكان لديها مفكرون ورجال قانون وأيديولوجيون وفلاسفة وأخلاقيون وأدباء خاصون بها، من بداية القرن حتى نهايته. وكانت طبقة النبلاء نصف الإقطاعية قد أزيحت بوصفها طبقة سائدة من قبل الثورة الفرنسية العظمى. ولم تعد إلى السلطة بواسطة رجوع عائلة البوربون إلى العرش سنة 1815. غير أن أيديولوجيتها، لا سيما الاكليروسية، استمرت بممارسة نفوذ عميق، طوال عقود، ليس فقط على بقايا النبلاء، بل أيضا على أجزاء من البرجوازية وشرائح من البرجوازية الصغيرة (فلاحين) وحتى من الطبقة العاملة.
بيد أنه، إلى جانب الأيديولوجية البرجوازية والأيديولوجية نصف الإقطاعية، كانت البرولييتاريا قد أخذت تتطور، بدءا بأيديولوجية البابوفيين [31]، ثم البلانكيين [32] ثم المشاعيين، وصولا إلى الماركسية وعامية باريس.
5- الثورات الاجتماعية والثورات السياسية
كلما زاد استقرار مجتمع طبقي، خفت المعارضة لسيادة الطبقة السائدة وانحصر الصراع الطبقي في نزاعات محدودة لا تهدد بنية ذلك المجتمع، أي ما يسميه الماركسيون علاقات الإنتاج أو نمط الإنتاج. وفي المقابل، كلما تصدع الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لنمط إنتاج معين، تصاعدت المعارضة لسيادة الطبقة الحاكمة وتطور الصراع الطبقي إلى حد طرح مسألة إسقاط هذه السيادة، مسألة الثورة الاجتماعية.
تنفجر ثورة اجتماعية عندما لا تعود الطبقات المستغَلة والخاضعة تقبل باستغلالها على أنه حتمي ودائم وعادل، عندما لا تعود تخاف من إكراه الحكام العنيف ولا تقبل بقمعهم لها ولا بالأيديولوجية التي تبرر حكمهم، وعندما تجمع القوى المادية والمعنوية الضرورية لإسقاط الطبقة السائدة.
مثل هذه الشروط ينتج عن تحولات اقتصادية عميقة. فالتنظيم الاجتماعي ونمط الإنتاج القائمان، اللذان سمحا خلال مرحلة معينة بتطوير القوى المنتجة وثروة المجتمع المادية، يصبحان عائقا لتطورها لاحقا. فيصطدم توسع الإنتاج بتنظيمه الاجتماعي، وبعلاقات الإنتاج الاجتماعية: هو ذا المصدر الأساسي لجميع الثورات الاجتماعية في التاريخ.
إن الثورة الاجتماعية تستبدل حكم طبقة بحكم طبقة أخرى. وتفترض إزاحة الطبقة السائدة سابقا عن سلطة الدولة. فكل ثورة اجتماعية مرفقة إذا بثورة سياسية. وتتميز الثورات البرجوازية بصورة عامة بإلغاء الملكية المطلقة واستبدالها بسلطة سياسية هي في قبضة مجالس تنتخبها البرجوازية. فقد ألغت الجمعيات العامة سلطة الملك فيليب الثاني في ثورة البلدان الواطئة. وحطم البرلمان الإنكليزي ملكية شارل الأول المطلقة في ثورة 1649 الإنكليزية. وحطم الكونغرس الأمريكي سيادة الملك جورج الثالث على الولايات المتحدة الثلاث عشرة. وحطمت الجمعيات المختلفة ملكية البوربون في ثورة 1789 الفرنسية.
بيد أنه إذا صح أن كل ثورة اجتماعية هي في الوقت نفسه ثورة سياسية، فليست كل ثورة سياسية بالضرورة ثورة اجتماعية. إن ثورة سياسية فقط تقتضي الاستبدال الثوري لشكل من السيادة، لشكل من دولة طبقة، بشكل آخر من دولة الطبقة ذاتها.
هكذا فإن الثورات الفرنسية في أعوام 1830 و1848 و1870 كانت ثورات سياسية أقامت بالتتالي ملكية يوليوز والجمهورية الثانية بعد الإمبراطورية الثانية، وكلها أشكال سياسية مختلفة لحكم طبقة اجتماعية وحيدة واحدة: البرجوازية. بصورة عامة، تُغيِّر الثورات السياسية شكل دولة الطبقة الاجتماعية ذاتها، انسجاما مع مصالح مهيمنة لشرائح وأقسام شتى من هذه الطبقة تتعاقب في السلطة. غير أن نمط الإنتاج الأساسي لا تغيره أبدا هذه الثورات.
6- خصائص الدولة البرجوازية
لم تخلق البرجوازية الحديثة جهاز دولتها من العدم. بل اكتفت عموما بالاستيلاء على جهاز دولة الملكية المطلقة، ومن ثم أعادت ترتيبه لتجعل منه أداة تخدم مصالحها الطبقية.
تتميز الدولة البرجوازية بأنها، فضلا عن وظيفتها القمعية ووظيفتها الأيديولوجية (الاحتوائية)، تقوم بوظيفة لا غنى عنها لحسن سير الاقتصاد الرأسمالي: وظيفة تأمين الشروط العامة للإنتاج الرأسمالي. فالإنتاج الرأسمالي، بالفعل، إنتاج قائم على الملكية الخاصة وبالتالي على المزاحمة. وهذا الواقع بالذات يحول دون التماثل بين المصلحة الجماعية للبورجوازية بوصفها طبقة ومصلحة أي رأسمالي ولو كان الأغنى. فتحصل الدولة على استقلال معين لتتمكن من تمثيل تلك المصلحة الجماعية: إنها «الرأسمالي الجماعي المثالي» (ف. انجلس).
ولكي يستطيع الاقتصاد الرأسمالي أن يعمل بصورة طبيعية، بل مثالية، يقتضي وجود شروط قانونية وأمنية مستقرة ومتساوية بالنسبة لجميع الرأسماليين. يقتضي على الأقل سوقا قومية موحدة ونظاما نقديا قائما على عملة واحدة أو على عدد محدود نسبيا في العملات القومية. كل هذه الشروط لا يمكن أن تنجم عفويا عن الملكية الخاصة أو عن المزاحمة الرأسماليتين. إن الدولة البرجوازية هي التي تخلقها.
وعندما تكون البرجوازية مزدهرة وصاعدة اقتصاديا ومتأكدة من سيطرتها اجتماعيا وسياسيا، تميل إلى تقليص الوظائف الاقتصادية للدولة إلى الحد الأدنى الذي وصفناه توا. أمّا في شروط إضعاف الحكم البرجوازي وانحداره، فتحاول البورجوازية، على العكس، أن توسع هذه الوظائف لتؤمن لنفسها ضمانات ربح خاص.
*******
المراجع
ك. ماركس وف. إنجلس، البيان الشيوعي.
ف. انجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.
هرمن غورتر، المادية التاريخية.
بوخارين، نظرية المادية التاريخية.
بليخانوف، المسائل الأساسية في الماركسية.
ك كاوتسكي، الأخلاق والتصور المادي للتاريخ
أ. موريه وج. دافي، من العشائر إلى الإمبراطوريات.
--------------------------------------------------------------------------------
4/ من الإنتاج البضاعي الصغير إلى نمط الإنتاج الرأسمالي
1- الإنتاج من أجل سد الحاجات والإنتاج من أجل التبادل
في المجتمع البدائي، ثم داخل المشاعة القروية التي خلقتها ثورة عصر الحجر المصقول، كان الإنتاج يهدف بالأساس إلى سد حاجات الجماعات المنتجة. ولم يكن التبادل سوى طارئ، ولا يطول غير جزء طفيف جدا من المنتوجات التي كانت في حوزة المشاعة.
ويفترض مثل هذا الشكل من الإنتاج تنظيما متعمدا للعمل. والعمل فيه هو بالتالي اجتماعي مباشرة. والقول أن تنظيم العمل متعمد لا يعني بالضرورة أنه تنظيم واع (وليس علميا بالتأكيد)، ولا تنظيم دقيق. بل يمكن أن يكون العديد من الأمور متروكا للصدفة، بالضبط لأنه ليس من دافع إلى الإثراء الخاص يتحكم بالنشاط الاقتصادي. فالأخلاق والعادات السلفية والتقاليد والطقوس والدين والسحر يمكنها جميعا أن تحدد تناوب النشاطات المنتجة ووتيرتها. بيد أن هذه النشاطات مخصصة دوما بشكل أساسي لسد الحاجات المباشرة للجماعات، وليس للتبادل أو للإثراء بوصفه هدفا بحد ذاته.
وينبثق تدريجيا من مثل هذا التنظيم للحياة الاقتصادية شكل من التنظيم الاقتصادي هو نقيضه الكلي. فبعد تقدم تقسيم العمل وظهور فائض معين، تتفتت طاقة عمل الجماعة تدريجيا إلى وحدات (عائلات كبرى، عائلات أبوية) تعمل بالاستقلال بعضها عن البعض الآخر. ويفصل بين أعضاء الجماعة الطابع الخاص للعمل والملكية الخاصة لمنتوجات العمل، بل لوسائل الإنتاج. فيمنع هذا الطابع الخاص أعضاء الجماعة من عقد علاقات اقتصادية اجتماعية متعمدة ومباشرة، فيما بينهم. ولم يعد من تشارك مباشر بين الوحدات أو الأفراد في الحياة الاقتصادية، بل أصبحت العلاقات تتم بواسطة تبادل منتجات عملهم.
إن البضاعة نتاج للعمل الاجتماعي يخصصه منتجه للتبادل وليس لاستهلاكه الخاص أو استهلاك الجماعة التي ينتمي إليها مباشرة، فهي، أي البضاعة، تفترض وضعا اجتماعيا مختلفا اختلافا عميقا عن الوضع الذي كانت فيه كتلة المنتجات مخصصة للاستهلاك المباشر من قبل الجماعات التي أنتجتها. طبعا، ثمة حالات انتقالية (مثلا، مزارع سد الحاجات المعيشية في عصرنا، التي تبيع فائضا صغيرا في السوق). لكن إذا أردنا أن ندرك جيدا الفرق الأساسي بين وضع اجتماعي يكون فيه الانتاج مخصصا بصورة رئيسية لاستهلاك المنتجين المباشر ووضع يكون فيه الإنتاج مخصصا للتبادل، فلنتذكر الجواب الساخر الذي أجاب بع الاشتراكي الألماني فردينان لاسال أحد الاقتصاديين الليبراليين في عصره: ربما أن السيد فلانا بن فلان، وهو مقاول في شؤون الجنازات، ينتج نعوشا لاستعماله الخاص أولا ولاستعمال أعضاء أسرته، ولا يبيع سوى الفائض الذي يبقى لديه…
2- الإنتاج البضاعي الصغير
ظهر إنتاج البضائع أولا قبل ما يقارب 10 ألف أو 12 ألف سنة، في الشرق الأوسط، في إطار تقسيم أساسي أولي للعمل بين حرفيين مهنيين وفلاحين، أي بنتيجة ظهور المدن. إننا نطلق على التنظيم الاقتصادي الذي يغلب فيه الإنتاج من أجل التبادل من قبل منتجين لا يزالون أسياد شروط إنتاجهم، نطلق عليه اسم: الإنتاج البضاعي الصغير.
وبالرغم من أنه كانت ثمة أشكال متعددة للإنتاج البضاعي الصغير، لا سيما في العصور القديمة وضمن نمط الإنتاج الآسيوي، لم يشهد الإنتاج البضاعي الصغير ازدهاره الرئيسي إلاّ بين القرنين الربع عشر والسادس عشر في إيطاليا الشمالية والوسطى وفي البلدان الواطئة الجنوبية والشمالية، نظرا لاضمحلال القنانة في هذه المناطق وفي تلك العصور، ولكون مالكي البضائع الذين التقوا في أسواقها أحرارا عموما ومتساوين بالحقوق إلى هذا الحد أو ذاك.
إن طابع الحرية والمساواة النسبيتين هذا الذي ميز مالكي البضائع، ضمن مجتمع قائم على الإنتاج البضاعي الصغير، هو بالضبط الذي يسمح بإدراك وظيفة التبادل بعينها: السماح باستمرارية جميع النشاطات المنتجة الرئيسية، بالرغم من تقسيم للعمل بات متقدما وبدون أن ترتهن هذه النشاطات بقرارات متعمدة من قبل الجماعات أو أسيادها.
فمحل تنظيم العمل القائم على التوزيع، المتعمد، والمدبر سلفا، لليد العاملة بين شتى فروع النشاط الرئيسية لسد حاجات المجتمع المباشرة، يحل تقسيم للعمل «فوضوي» و«حر» إلى هذا الحد أو ذاك، يبدو فيه أن الصدفة تتحكم بذاك التوزيع للطاقات الإنتاجية الحية أو الميتة (أدوات العمل). ومحل التخطيط التقليدي أو الواعي لتوزيع هذه الطاقات يحل التبادل. لكنه ينبغي عليه أن يحل بطريقة تضمن استمرارية الحياة الاقتصادية (ليس بدون العديد من «الحوادث العابرة» والأزمات وانقطاعات إعادة الإنتاج) وتضمن عموما أن تجد جميع النشاطات الرئيسية من يمارسها.
3- قانون القيمة
إن الطريقة التي تتحكم بالتبادل هي بالذات ما يضمن هذه النتيجة، في الأجل المتوسط على الأقل. فتبادل البضائع بحسب كميات العمل الضرورية لإنتاجها. وتبادل نتاجات يوم عمل مزارع بنتاجات يوم عمل حائك. وأنه لواضح أن التبادل لا يستطيع أن يقوم سوى على هذا التعادل، بالضبط عند بداية الإنتاج البضاعي الصغير، عندما لا يزال تقسيم العمل بين الفلاح والحرفي تقسيما أوليا وعندما لا تزال نشاطات حرفية عديدة تمارس في المزرعة. ولولا ذلك لترك هذا النشاط المنتج أو ذاك بسرعة، إذا كان يكافأ بأقل من النشاطات الأخرى. ولحصل نقص في هذا المجال، نقص يرفع الأسعار ويرفع بالتالي المكافأة التي يجنيها القائمون بهذا النشاط. هكذا تكون النشاطات المنتجة قد أعيد توزيعها بين مختلف قطاعات النشاط، بما يعيد قاعدة التعادل: لقاء كمية معينة من العمل المبذول، الحصول على الكمية ذاتها من القيمة في التبادل.
إننا نطلق اسم «قانون القمة» على القانون الذي يحكم تبادل البضائع ويحكم، بواسطة هذا التبادل، توزيع القوى العاملة وجميع الطاقات الإنتاجية بين شتى فروع النشاط. إنه بالفعل، إذا، قانون اقتصادي يقوم في جوهره على شكل من تنظيم العمل، على علاقات معقودة بين البشر ومتميزة عن العلاقات التي تشرف على تنظيم للاقتصاد مخطط وفقا لتقاليد منتجين متشاركين أو لإختياراتهم الواعية.
يضمن قانون القيمة الاعتراف الاجتماعي بالعمل بعد أن أصبح عملا خاصا. وبهذا المعنى، ينبغي أن يستند القانون إلى أساس من المقاييس الموضوعية، المتساوية للجميع. فلا يعقل بالتالي أن يكون إسكافي كسول، يحتاج إلى يومي عمل لإنتاج حذاءين ينتجهما إسكافي ماهر في يوم عمل، لا يعقل أن يكون قد أنتج في نهاية المطاف ضعفي القيمة التي أنتجها الإسكافي الماهر. مثل هذا التنظيم للسوق، يكافئ الكسل أو قلة المهارة، لو وجد لأدى بمجتمع قائم على تقسيم العمل والعمل الخاص إلى الارتداد السريع، بل إلى الاضمحلال.
إن تعادل أيام العمل، الذي يضمنه قانون القيمة، هو لهذا السبب تعادل عمل بإنتاجية متوسطة اجتماعيا. هذه الإنتاجية المتوسطة هي إجمالا مستقرة ومعروفة لدى الجميع في مجتمع ما قبل رأسمالي، لأن التقنية الإنتاجية تتطور فيه ببط شديد أو لا تتطور قطعا. نقول إذا إن قيمة البضائع تحددها كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها.
4- ظهور الرأسمال
في الإنتاج البضاعي الصغير، يصل المزارع الصغير والحرفي الصغير إلى السوق ومعهما منتجات عملهما. فيبيعانها ليشتريا منتجات يحتاجان إليها لإستهلاكهما الجاري ولا ينتجانها بنفسيهما ويمكن تلخيص نشاطهما في السوق بصيغة: البيع من أجل الشراء.
بيد أنه سريعا ما يقتضي الإنتاج البضاعي الصغير ظهور وسيلة تبادل مقبولة لدى العموم (يطلق عليها أيضا اسم «المعادل العام») لتسهيل التبادل. إن وسيلة التبادل هذه، التي يمكن مبادلة جميع البضائع بها دون فرق، هي النقد. ومع ظهور النقد، يصبح بالإمكان أن تظهر بنتيجة تقدم جديد في التقسيم الاجتماعي للعمل شخصية اجتماعية أخرى، طبقة اجتماعية أخرى: صاحب المال، المستقل عن مالك البضائع بذاتها والمقابل له. إنه المرابي أو التاجر المتخصص في التجارة الدولية.
ويقوم صاحب المال هذا بنشاط في السوق مختلف جدا عن نشاط الفلاح الصغير أو الحرفي. فبما أنه يصل إلى السوق ومعه مبلغ معين من المال، لم يعد شغله أن يبيع لكي يشتري، بل على العكس أن يشتري لكي يبيع. إن الفلاح أو الحرفي الصغيرين يبيعان لكي يشتريا بضاعة مختلفة عمّا ينتجانه بنفسيهما، غير أن الهدف من العملية يبقى سد حاجات مباشرة إلى هذا الحد أو ذاك. وبالعكس، فإن صاحب المال لا يستطيع أن «يشتري لكي يبيع» من أجل سد حاجاته فقط. إن «الشراء من أجل البيع» لا معنى له في نظر صاحب المصرف أو التاجر إلاّ إذا باع لقاء مبلغ يفوق المبلغ الذي جاء به إلى السوق. إن ازدياد قيمة المال عن طريق الحصول على فائض قيمة، أي الإثراء بوصفه هدفا بذاته، هو معنى نشاط المرابي أو التاجر.
إن الرأسمال -إذ أنه هو المعني، بشكله الأولي والبدائي، شكل الرأسمال النقدي- هو إذا كل قيمة تحاول أن تحصل على فائض قيمة، كل قيمة تنطلق بحثا عن فائض قيمة. هذا التعريف الماركسي للرأسمال يتعارض مع التعريف الشائع في الموجزات البرجوازية والقائل أن الرأسمال هو ببساطة كل أداة عمل، أو حتى، بمزيد من الإبهام، «كل سلعة دائمة». بمثل هذا التعريف، فإن أول قرد ضرب شجرة موز بعصا للحصول على موز هو أول رأسمالي…
فلنؤكد مرة أخرى على الفكرة: إن مقولة «الرأسمال»، شأنها شأن جميع «المقولات الاقتصادية»، لا يمكن فهمها إلاّ بالنظر إلى كونها قائمة على علاقة اجتماعية بين البشر، أي علاقة تتيح لصاحب رأسمال أن يتملك فائض قيمة.
5- من الرأسمال إلى الرأسمالية
لا يتطابق وجود الرأسمال مع وجود نمط الإنتاج الرأسمالي. بالعكس، فإن رساميل قد وجدت وجرى تداولها طوال آلاف السنين، قبل ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي في أوروبا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
وقد ظهر المرابي والتاجر أولا داخل مجتمعات ما قبل رأسمالية، عبودية، إقطاعية أو قائمة على نمط الإنتاج الاسيوي. إنهما يعملان في هذه المجتمعات خارج دائرة الإنتاج بصورة رئيسية. ويؤمنان دخول المال إلى مجتمع طبيعي (هذا المال يأتي من الخارج عموما)، ويدخلان منتجات كمالية أتت من بعيد، ويوفران حدا أدنى من التسليف للطبقات المالكة التي لا تحوز على ثروات منقولة وللملوك والأباطرة أيضا.
مثل هذا الرأسمال ضعيف سياسيا، وليس بمنأى عن الابتزاز والسلب والمصادرة. وهو ذا أصلا مصيره الاعتيادي. لذا يحمي صاحب المال ثروته بغيرة، حتى أنه يخفي جزءا منها ويحرص على ألاّ يوظفها بكاملها خوفا من أن تجري مصادرتها. فقد طالت المصادرات بعض أثرى تجمعات أصحاب الرساميل في العصر الوسيط، أمثال فرسان المعبد [33] في القرن الرابع عشر في فرنسا. وقد خسر رجال المصارف الإيطاليون ثرواتهم بعد أن مولوا حروب ملوك إنكلترا، لأن هؤلاء الملوك لم يسددوا ديونهم.
إن الرأسمال لا يستطيع أن يتراكم -أن ينمو- بصورة متواصلة إلى هذا الحد أو ذاك، إلاّ عندما يكون ميزان القوى السياسي قد تغير إلى حد أصبحت عنده المصادرات أصعب فأصعب. منذ ذلك الحين، يصبح دخول الرأسمال في دائرة الإنتاج ممكنا، وتصبح معه ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي، ولادة الرأسمالية الحديثة، ممكنة.
لم يعد الآن صاحب الرساميل مجرد مراب أو مصرفي أو تاجر. إنه مالك وسائل إنتاج، ومستأجر سواعد ومنظم للإنتاج وصاحب معمل أو مصنع. ولم يعد فائض القيمة مستخرجا من دائرة التوزيع. بل هو منتج بصورة مستمرة خلال سيرورة الإنتاج ذاتها.
6- ما هو فائض القيمة؟
في المجتمع ما قبل الرأسمالي عندما يعمل أصحاب الرساميل في دائرة التداول بصورة رئيسية، لا يستطيعون أن يتملكوا فائض قيمة إلاّ باستغلال مداخيل طبقات أخرى في المجتمع بشكل طفيلي. ويمكن أن يكون أصل فائض القيمة الطفيلي هذا أمّا جزءا من الفائض الزراعي (من الريع الإقطاعي مثلا) امتلكه أولا النبلاء أو الاكليروس، وأمّا جزءا من مداخيل الحرفيين والفلاحين الضامرة. إن فائض القيمة هذا هو في جوهره نتاج الخداع والسلب. وقد لعبت القرصنة والنهب وتجارة الرقيق دورا رئيسيا في تكون أولى ثروات تجار إيطاليين وفرنسيين وفلمنديين وألمان وإنكليز، في العصر الوسيط. ولعبت لاحقا ممارسة شراء البضائع في أسواق بعيدة بأقل من قيمتها، ثم إعادة بيعها بأكثر من قيمتها في أسواق منطقة البحر المتوسط أو أوروبا الغربية والوسطى، لعبت دورا مماثلا.
إنه لمن الواضح أن فائض قيمة كهذا لا ينجم سوى عن نشاطات تحويل. ولا يزداد بها مجمل ثروة المجتمع بأسره. بل يخسر بعضهم ما يربحه بعضهم الآخر. وبالفعل فإن الثروة المنقولة الإجمالية للبشرية لم تزد طوال آلاف السنين إلاّ ازديادا بسيطا، إلاّ أن الأمر قد تبدل منذ ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي. ذلك أن فائض القيمة لم يعد، منذ ذلك الحين، مسحوبا ببساطة من سيرورة تداول البضائع. بل هو الآن منتج بصورة مستمرة، وبالتالي يزداد توسعا بصورة مستمرة، خلال الإنتاج بالذات.
لقد رأينا أن المنتجين (عبيدا، وأقنانا، وفلاحين) في جميع المجتمعات الطبقية ما قبل الرأسمالية كانوا مضطرين لتقسيم أسبوع عملهم أو إنتاجهم السنوي إلى قسم كان بوسعهم استهلاكه بأنفسهم (النتاج الضروري)، وقسم كانت الطبقة السائدة تتملكه (النتاج الاجتماعي الفائض). فإن الظاهرة ذاتها تحصل في المصنع الرأسمالي، بالرغم من أنها مموهة بمظهر العلاقات التجارية التي تبدو كأنها تحكم «الشراء الحر والبيع الحر» لقوة العمل بين الرأسمالي والعامل.
عندما يبدأ العامل العمل في المصنع، في بداية يوم عمله (أو أسبوع عمله)، فإنه يضيف قيمة إلى المواد الأولية التي يعمل بها. وبعد عدد من ساعات (أو أيام) العمل، يكون قد أعاد إنتاج قيمة تعادل بالضبط أجره اليومي (أو الأسبوعي). ولو توقف عن العمل في تلك اللحظة بالذات، يكون الرأسمالي لم يحصل على فلس من فائض القيمة. غير أن الرأسمالي لن تكون لديه في هذه الشروط أية مصلحة في شراء قوة العمل. فهو كالمرابي أو التاجر في العصر الوسيط، «يشتري لكي يبيع». إنه يشتري قوة العمل ليحصل منها على نتاج أعلى مما أنفقه ليشتريها هذه «الزودة»، هذه «الإضافة»، هي بالضبط فائض قيمته، أي ربحه. وأنه لمفهوم بالتالي أن العامل، إذا كان ينتج معادل أجره خلال أربع ساعات عمل، سوف يعمل ليس أربع ساعات بل ستا أو سبعا أو ثماني أو تسعا. فهو، خلال الساعتين أو الثلاث أو الأربع أو الخمس «الإضافية»، ينتج فائض قيمة لصالح الرأسمالي ولا يلقى شيئا مقابله.
إن مصدر فائض القيمة هو إذا عمل إضافي، عمل مجاني، يتملكه الرأسمالي. وسوف يصرخ بعضهم: «بل هذه سرقة!». والجواب ينبغي أن يكون «نعم وكلا». نعم من وجهة نظر العامل، وكلا من وجهة نظر الرأسمالي و«قوانين السوق».
وبالفعل فإن الرأسمالي لم يشتر في السوق «القيمة المنتجة أو التي سوف ينتجها العامل». لم يشتر «عمل» العامل، أي العمل الذي سوف يقوم به العامل (لو فعل ذلك لأرتكب فعلا سرقة بكل معنى الكلمة ودفع ألف فرنك لقاء ما قيمته ألفا فرنك). لكنه اشترى قوة عمل العامل. ولقوة العمل هذه قيمة خاصة، كما أن لكل بضاعة قيمتها. فإن قيمة قوة العمل تحددها كمية العمل الضرورية لإعادة إنتاجها، أي لإعالة العامل وأسرته. ويجد فائض القيمة مصدره في ظهور فارق بين القيمة التي ينتجها العامل وقيمة البضائع الضرورية لتأمين عيشه (بالمعنى العريض للكلمة). هذا الفارق يعود لازدياد إنتاجية عمل العامل. ويستطيع الرأسمالي أن يتملك فوائد ازدياد إنتاجية العمل، لأن قوة العمل أصبحت بضاعة ولأن العامل قد وضع في شروط لم تعد تخوله إنتاج عيشه الخاص.
7- شروط ظهور الرأسمالية الحديثة
إن الرأسمالية الحديثة نتاج ثلاثة تحولات اقتصادية واجتماعية:
أ- فصل المنتجين عن وسائلهم للإنتاج والعيش. وقد جرى هذا الفصل، لا سيما في الزراعة، بطرد الفلاحين الصغار من أراضي الأسياد التي تم تحويلها إلى مروج، وفي الصناعة الحرفية، بتحطيم جمعيات الحرف القروسطية، وبتطور الصناعة المنزلية وبالتملك الخاص للأراضي العذراء، الخ.
ب- تكون طبقة اجتماعية تحتكر وسائل الإنتاج: هي البرجوازية الحديثة. وظهور هذه الطبقة يفترض أولا تراكمها للرساميل بشكل نقدي، ثم تحولا في وسائل الإنتاج يجعلها ثمينة إلى حد أن أصحاب الرساميل النقدية الهامة وحدهم يستطيعون الحصول عليها. وقد حققت ثورة القرن الثامن عشر الصناعية، التي جعلت الآلات أساس الإنتاج، حققت هذا التحول بصورة نهائية.
ج- تحول قوة العمل إلى بضاعة. هذا التحول ينتج عن ظهور طبقة لا تملك شيئا سوى قوة عملها وهي مضطرة، من أجل العيش، أن تبيع قوة العمل هذه لمالكي وسائل الإنتاج.
«أناس فقراء وكادحون يتحمل العديد منهم عبء نساء والعديد من الأولاد ولا يملكون شيئا سوى ما يمكنهم كسبه بعمل أيديهم»: هو ذا وصف بارع للبروليتاريا الحديثة، ورد في التماس كتب في مدينة لايد (في البلدان الواطئة) في نهاية القرن السادس عشر.
ولما كان هذا الجمهور من البروليتاريين لا يملك حرية الاختيار -سوى الاختيار بين بيع قوة عمله والجوع الدائم- فهو مضطر لأن يقبل كثمن لقوة عمله الثمن الذي تفرضه الشروط الرأسمالية العادية في «سوق العمل»، أي الحد الأدنى المعيشي المقر اجتماعيا. إن البروليتاريا هي طبقة الذين يضطرهم هذا الاكراه الاقتصادي إلى بيع قوة عملهم بصورة متواصلة إلى هذا الحد أو ذاك.
*****
المراجع
ك. ماركس، الأجور والأسعار والأرباح.
ر. لوكسمبورغ، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
أ. ماندل، مدخل إلى النظرية الاقتصادية الماركسية.
أ. ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية.
ب. سلامة وج. فالييه، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
--------------------------------------------------------------------------------
5/ الاقتصاد الرأسمالي
1- خصائص الاقتصاد الرأسمالي
يعمل الاقتصاد الرأسمالي وفقا لجملة من المميزات الخاصة به والتي نذكر من بينها:
أ- ان الإنتاج هو في جوهره إنتاج بضائع، أي إنتاج معد للبيع في السوق. فبدون البيع الفعلي للبضائع المنتجة، لا تستطيع المنشآت الرأسمالية والطبقة البرجوازية بمجملها أن تحقق فائض القيمة الذي أنتجه الشغيلة والذي تحتوي عليه قيمة البضائع المصنوعة.
ب- يجري الإنتاج ضمن شروط الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. هذه الملكية الخاصة ليست بمقولة حقوقية في المقام الأول، بل هي مقولة اقتصادية. إنها تعني أن سلطة التصرف بالقوى المنتجة (وسائل الإنتاج والقوى العاملة) ليست في حوزة المجتمع، بل هي مفتتة بين المنشآت منفصلة بعضها عن البعض الآخر تسيطر عليها تجمعات رأسمالية متميزة (مالكون فرديون، عائلات، شركات مغفلة أو تجمعات مالية). إن قرارات التوظيف التي تؤثر إلى حد بعيد على الظرف الاقتصادي تتخذ هي أيضا بشكل مفتت، على أساس المصلحة الخاصة والمستقلة لكل وحدة رأسمالية أو تجمع رأسمالي.
ج- يتم الإنتاج لأجل سوق مغفلة وتحكمه ضرورات المزاحمة. وبما أن الإنتاج لم تعد تحد منه التقاليد (كما في المشاعات البدائية) أو التشريعات (كما في جمعيات الحرف في العصر الوسيط)، فإن كل رأسمال خاص (كل مالك، كل منشأة أو كل تجمع رأسمالي) يسعى جهده لبلوغ أعلى رقم للمبيعات ولاحتكار القسم الأكبر من السوق دون المبالاة بالقرارات المماثلة التي تتخذها منشآت أخرى تعمل في المجال ذاته.
د- إن هدف الإنتاج الرأسمالي هو تحقيق الحد الأقصى من الربح. وبينما كانت الطبقات المالكة ما قبل الرأسمالية تعتاش من النتاج الاجتماعي الفائض وتستهلكه إجمالا بصورة غير منتجة، يتحتم على الطبقة الرأسمالية هي أيضا أن تستهلك جزءا من النتاج الاجتماعي الفائض، أي من الأرباح التي حققتها، بصورة غير منتجة. غير أنه ينبغي عليها، لكي تحقق هذه الأرباح، أن تتمكن من بيع بضائعها، الأمر الذي يقتضي أن تستطيع بيعها في السوق بسعر أدنى من أسعار المنافسين. وينبغي في سبيل ذلك أن تقدر على خفض تكاليف الإنتاج. أمّا الوسيلة الأنجع لخفض تكاليف الإنتاج (سعر التكلفة) فهي توسيع قاعدة الانتاج، أي زيادة الإنتاج، بواسطة آلات أكثر فأكثر اتقانا. غير أن هذا يتطلب رساميل أعظم فأعظم. إن سوط المزاحمة هو إذا الذي يجبر الرأسمالية على السعي وراء الحد الأقصى من الربح لتتمكن من تطوير التوظيفات المنتجة إلى أقصى حد.
هـ- هكذا يتبين أن الإنتاج الرأسمالي ليس إنتاجا في سبيل الربح فحسب، بل إنتاج من أجل تراكم الرأسمال. فإن منطق الرأسمالية يقتضي بالفعل أن يراكم القسم الأعظم من فائض القيمة بصورة منتجة (أي أن يتم تحويله إلى رأسمال إضافي بشكل آلات ومواد أولية إضافية، ويد عاملة إضافية)، لا أن يستهلك بصورة غير منتجة (الاستهلاك الخاص للبرجوازية وخدمها).
ويؤدي الإنتاج من أجل تراكم الرأسمال إلى نتائج متناقضة. فمن جهة، يستتبع تطور الآلات المستمر ازدهارا للقوى المنتجة ولإنتاجية العمل يخلق الأسس المادية لتحرر الإنسانية من اضطرارها مكرهة إلى «العمل بعرق جبينها». هي ذي الوظيفة التقدمية تاريخيا للرأسمالية. لكن تطور الآلات، الذي يفرضه البحث عن الحد الأقصى من الربح وعن تراكم الرساميل المتزايد بدون انقطاع، هذا التطور يستتبع، من جهة أخرى، إخضاع العامل للآلة بصورة أكثر فأكثر قساوة وإخضاع الجماهير الكادحة لـ«قوانين السوق» التي تفقدها دوريا التخصص والعمل. إن الازدهار الرأسمالي للقوى المنتجة هو في الوقت نفسه تطور متزايد الحدة لاستلاب الشغيلة (وبصورة غير مباشرة، استلاب جميع أفراد المجتمع البرجوازي) على صعيد أدوات عملهم ومنتجات عملهم وشروط عملهم وشروط عيشهم عامة (بما فيها شروط استهلاكهم واستعمالهم لـ«وقت الفراغ») وعلاقاتهم الإنسانية حقا بمواطنيهم.
2- سير الاقتصاد الرأسمالي
من أجل الحصول على الحد الأقصى من الربح وتطوير تراكم الرأسمال إلى أبعد حد ممكن، يتوجب على الرأسماليين أن يقلصوا إلى أقصى حد ذاك القسم من القيمة الجديدة، التي أنتجتها قوة العمل والذي يعود إليها بشكلِ أُجور. فإن هذه القيمة الجديدة، هذا «الدخل المخلوق»، تتحدد بالفعل في سيرورة الإنتاج ذاتها، باستقلال عن أية مشكلة توزيع. وهي تقاس بمجموع ساعات العمل التي بذلها مجمل المنتجين المأجورين. فبقدر ما تكبر حصة الأجور الفعلية التي يدفعها ذاك المجموع، تصغر حتميا حصة فائض القيمة. وكلما سعى الرأسماليون لزيادة الحصة العائدة لفائض القيمة، كلما اضطروا إلى تقليص الحصة المخصصة للأجور.
إن الوسيلتين الرئيسيتين اللتين يجهد الرأسماليون بواسطتهما لزيادة حصتهم، أي لزيادة فائض القيمة هما:
أ- إطالة يوم العمل (من القرن السادس عشر إلى منتصف التاسع عشر في الغرب، وحتى أيامنا في العديد من البلدان شبه المستعمرة) وتقليص الأجور الفعلية وتخفيض «الحد الأدنى» المعيشي. هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض القيمة المطلق.
ب- زيادة كثافة العمل وإنتاجيته في دائرة السلع الاستهلاكية (وقد سادت هذه الوسيلة في الغرب منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر). وبالفعل، فإذا سمحت زيادة إنتاجية العمل في صناعات السلع الاستهلاكية وفي الزراعة، إذا سمحت للعامل الصناعي المتوسط بأن يعيد إنتاج قيمة تشكيلة محددة من تلك السلع الاستهلاكية بثلاث ساعات عمل بدل الاضطرار إلى العمل خمس ساعات لإنتاجها، يصبح بامكان فائض القيمة الذي يقدمه العامل لرب عمله الانتقال من نتاج ثلاث ساعات إلى نتاج خمس ساعات عمل مع بقاء يوم العمل محددا بثماني ساعات. هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض القيمة النسبي.
كل رأسمالي يسعى للحصول على الحد الأقصى من الربح. ويسعى أيضا من أجل ذلك لزيادة الإنتاج إلى أقصى حد، ولأن ينخفض باستمرار سعر الكلفة وسعر المبيع (اللذين يحددان بوحدات نقدية ثابتة). وبنتيجة ذلك، تجري المزاحمة في الأمد المتوسط اختيارا بين المنشآت الرأسمالية، فتبقى الأكثر إنتاجية والأكثر «إيرادية» دون سواها. أمّا المنشآت التي تبيع بأسعار عالية فهي لا تحقق «الحد الأقصى من الربح»، بل ينتهي بها الأمر إلى زوال ربحها كليا. إنها تفلس أو يستوعبها المنافسون.
إن المزاحمة بين الرأسماليين تؤدي إلى تساوي معدل الربح. فينتهي الأمر بمعظم المنشآت إلى اضطرارها إلى الاكتفاء بربح متوسط تحدده في التحليل الأخير الكتلة الإجمالية للرأسمال الاجتماعي الموظف والكتلة الإجمالية لفائض القيمة الذي ينتجه مجمل المأجورين المنتجين. وحدها المنشآت التي تنعم بتقدم هام في الإنتاجية أو بهذا الوضع الاحتكاري أو ذاك، تحصل على أرباح فائضة، أي على أرباح تفوق ذلك المتوسط. غير أن المزاحمة الرأسمالية لا تسمح إجمالا للأرباح الفائضة أو للاحتكارات بأن تستمر لوقت غير محدود.
إن الفروقات بالنسبة لذلك الربح المتوسط هي التي تتحكم إلى حد بعيد بالتوظيفات في نمط الإنتاج الرأسمالي. فتترك الرساميل القطاعات حيث الربح أدنى من المتوسط وتتدفق نحو قطاعات حيث الربح أعلى من المتوسط (كانت، مثلا، الرساميل تتدفق نحو صناعة السيارات في الستينات، ثم تركتها لتتدفق نحو قطاع الطاقة في سبعينات قرننا). لكن هذه الرساميل، بتدفقها نحو القطاعات حيث معدل الربح أعلى من المتوسط، تخلق في هذه القطاعات مزاحمة حادة وفيض إنتاج وانخفاضا لأسعار المبيع وللأرباح حتى يستقر معدل الربح في المستوى ذاته إلى هذا الحد أو ذاك في جميع القطاعات.
3- تطور الأجور
إحدى ميزات الرأسمالية هي أنها تحول قوة العمل البشرية إلى بضاعة. وتحدد قيمة البضاعة -قوة العمل بتكاليف إعادة إنتاجها (أي قيمة جميع البضائع الضروري استهلاكها لإعادة تكوين قوة العمل). إن الأمر يتعلق هنا إذا بكم موضوعي، مستقل عن التقديرات الذاتية أو العرضية لتجمعات أفراد، أكانوا عمالا أو أرباب عمل.
بيد أن لقيمة قوة العمل ميزة خاصة بالمقارنة مع قيمة أية بضاعة أخرى: إنها تتضمن، علاوة على عنصر قابل للقياس بدقة، عنصرا متغيرا. إن العنصر الثابت هو قيمة البضائع التي تقتضيها إعادة تكوين قوة العمل من وجهة النظر الفيزيولوجية (أي البضائع التي تسمح للعامل باستعادة حريرات وفيتامينات، والقدرة على بذل طاقة عضلية وعصبية محددة يعجز بدونها عن العمل بالوثيرة «العادية» التي يفرضها التنظيم الرأسمالي للعمل في برهة معينة). أمّا العنصر المتغير فهو قيمة البضائع التي تدخل في «الحد الأدنى المعيشي العادي» في زمن وبلد محددين، والتي ليست جزءا من الحد الأدنى المعيشي الفيزيولوجي. ويسمي ماركس هذه الحصة الأخيرة من قيمة قوة العمل بالجزء «التاريخي-الأخلاقي». هذا يعني أنه ليس أيضا بجزء عرضي، بل هو نتاج تطور تاريخي وحالة معينة في ميزان القوى بين الرأسمال والعمل. وعند هذه النقطة بالذات من التحليل الاقتصادي الماركسي، يصبح الصراع الطبقي بماضيه وحاضره عاملا مساهما في تحديد الاقتصاد الرأسمالي.
الأجر هو سعر السوق لقوة العمل. وكجميع أسعار السوق، يتذبذب حول قيمة البضاعة المعنية. إن تموجات الجيش الاحتياطي الصناعي، أي جيش البطالة تساهم بصورة خاصة في تحديد تذبذبات الأجر، وذلك بثلاثة معان:
أ- عندما يعاني بلد رأسمالي من بطالة دائمة بالغة الأهمية (عندما يكون بالتالي متخلفا صناعيا)، تتعرض الأجور لأن تكون دائما إمّا دون قيمة قوة العمل أو في مستواها. هذه القيمة تكاد تقترب من الحد الأدنى المعيشي الفيزيولوجي.
ب- عندما تتقلص البطالة الجماهيرية الدائمة في الأمد الطويل، لا سيما بنتيجة التصنيع في العمق والهجرة الجماهيرية، تستطيع الأجور أن ترتقي فوق قيمة قوة العمل في مراحل الظرف الاقتصادي الملائم. ويستطيع النضال العمالي أن يؤدي في الأمد الطويل إلى دمج قيمة بضائع جديدة في قيمة قوة العمل. ويمكن للحد الأدنى المعيشي المعترف به اجتماعيا أن يزداد ازديادا فعليا، أي أن يتضمن حاجات جديدة.
ج- ليست تموجات جيش الاحتياط الصناعي مرهونة بحركات السكان (معدل الولادات والوفيات) وحركات الهجرة الدولية للبروليتاريا فحسب، بل هي مرهونة أيضا وخاصة بمنطق تراكم الرأسمال عينه. ففي الصراع من أجل البقاء في وجه المزاحمة، ينبغي على الرأسماليين أن يستبدلوا اليد العاملة بآلات («عمل ميت»). ويقذف هذا الاستبدال بصورة دائمة أفواجا من اليد العاملة خارج الإنتاج. وتلعب الأزمات الدور نفسه. وفي المقابل، في مراحل الظرف الاقتصادي الملائم و«سخونة» الاقتصاد، عندما يتقدم تراكم الرأسمال بوثيرة حادة، يتقلص جيش الاحتياط الصناعي.
ليس إذا من قانون صارم يتحكم بتطور الأجور. فإن الصراع الطبقي بين الرأسمال والعمل يحدد جزئيا هذا التطور، حيث يجهد الرأسمال لتخفيض الأجور إلى الحد الأدنى المعيشي الفيزيولوجي ويجهد العمال لتوسيع العنصر التاريخي والمعنوي في تركيب الأجر وذلك بدمج المزيد من الحاجات الجديدة المطلوب تلبيتها في هذا الأجر. إن درجة الانسجام والتنظيم والتضامن والكفاحية والوعي الطبقي في صفوف البروليتاريا هي إذا عوامل تساهم في تحديد تطور الأجور. غير أنه في الأمد الطويل يمكن أن نلاحظ بصورة غير قابلة للجدل ميلا إلى الافقار النسبي للطبقة العاملة. فإن حصة القيمة الجديدة التي تخلقها البروليتاريا والتي تعود إلى الشغيلة، تميل إلى الانخفاض (الأمر الذي يمكن بالأصل أن يرافقه ارتفاع في الأجور الواقعية). إن الفارق بين الحاجات الجديدة التي أثارها تطور القوى المنتجة وازدهار الإنتاج الرأسمالي بالذات، من جهة، والقدرة على تلبية الحاجات بواسطة الأجور المقبوضة من جهة أخرى، يميل إلى التوسع.
إن الفارق المتعاظم بين ازدياد إنتاجية العمل في الأمد الطويل وازدياد الأجور الواقعية لهو مؤشر واضح للإفقار النسبي. فمنذ بداية القرن العشرين حتى بداية السبعينات، ازدادت إنتاجية العمل بحوالي خمسة أو ستة أضعاف في الصناعة والزراعة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا الغربية والوسطى. لكن أجور العمال الواقعية لم تزدد سوى بضعفين أو ثلاثة أضعاف خلال الحقبة ذاتها.
4- قوانين تطور الرأسمالية
إن نمط الإنتاج الرأسمالي، من حيث ميزات سيره بذاتها، يتطور وفقا لقوانين تطور معينة تخص بالتالي طبيعته الخاصة:
أ- تركز الرأسمال وتمركزه
في المزاحمة، تبتلع الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة. فتتغلب المنشآت الكبيرة على المنشآت الأصغر حجما التي تحوز على إمكانيات أقل ولا تستطيع أن تستفيد من إيجابيات الإنتاج واسع النطاق ولا أن تدخل التقنية الأكثر تقدما وكلفة. فيزداد بالتالي حجم المنشآت الطليعية باستمرار (تركز الرأسمال). قبل قرن، كانت المنشآت التي يعمل فيها 500 أجير استثناء. أمّا اليوم، فثمة منشآت يعمل فيها أكثر من 100 ألف أجير. وفي الوقت نفسه، يتم ابتلاع العديد من المنشآت المغلوبة في المزاحمة من قبل منافسيها الظافرين (تمركز الرأسمال).
ب- تبلتر السكان العاملين التدريجي
يقتضي تمركز الرأسمال بأن يتقلص باستمرار عدد أرباب العمل الصغار العاملين لحسابهم الخاص. ولا ينفك قسم السكان العاملين المضطر إلى بيع قوة عمله للعيش يزداد. هي ذي الأرقام المتعلقة بهذا التطور في الولايات المتحدة، وهي تؤكد الميل بصورة ساطعة:
تطور البنية الطبقية في الولايات المتحدة
(بالنسبة المئوية من السكان العاملين)
المقاولون والمستقلون الأجراء السنة
36.9% 62% 1880
33.8% 65% 1890
30.8% 67.9% 1900
26.3% 71.9% 1910
23.5% 73.9% 1920
20.3% 76.8% 1930
18.8% 78.2% 1939
17.1% 79.8% 1950
14.0% 84.2% 1960
8.9% 89.9% 1970
وخلافا لأسطورة شائعة، فإن هذا الجمهور البروليتاري، بالرغم من انقسامه إلى شرائح عديدة، تزداد درجة انسجامه ازديادا هاما بدل أن تتراجع. إن الفرق بين عامل يدوي ومستخدم في مصرف وموظف حكومي صغير هو أقل اليوم مما كان قبل نصف قرن أو قرن، سواء من حيث مستوى المعيشة أو من حيث النزوع إلى الانضمام إلى نقابة وإلى الإضراب أو من حيث احتمال بلوغ الوعي المعادي للرأسمالية.
إن تبلتر السكان التدريجي في النظام الرأسمالي ينجم بالأخص عن إعادة الإنتاج التلقائية لعلاقات الإنتاج الرأسمالية من جراء التوزيع البرجوازي للمداخيل، وهي إعادة إنتاج سبق أن ذكرناها أعلاه. فالأجور، منخفضة كانت أو مرتفعة، لا تستخدم إلاّ لتلبية حاجات البروليتاريين الاستهلاكية (سواء مباشرة أو مؤجلة). ويعجز البروليتاريون عن مراكمة ثروات. من جهة أخرى، يستتبع تركز الرأسمال تكاليف إنشاء أكثر فأكثر ارتفاعا تقطع الطريق إلى ملكية المنشآت الصناعية والتجارية الكبيرة ليس أمام مجموع الطبقة العاملة وحسب، بل أيضا أمام الغالبية العظمى من البرجوازية الصغيرة.
ج- ازدياد التركيب العضوي للرأسمال
يمكن تقسيم رأسمال كل رأسمالي، وبالتالي رأسمال جميع الرأسماليين، إلى قسمين. يكرس الأول لشراء آلات وأبنية ومواد أولية. وتبقى قيمته ثابتة خلال الإنتاج، حيث تحافظ عليها قوة العمل وتنقل جزءا منها إلى المنتجات التي تصنعها. يطلق ماركس على هذا القسم اسم الرأسمال الثابت. ويكرس القسم الثاني لشراء قوة العمل، أي لدفع الأجور. ويطلق ماركس عليه اسم الرأسمال المتغير. هذا القسم وحده ينتج فائض القيمة.
إن نسبة الرأسمال الثابت إلى الرأسمال المتغير هي في آن واحد نسبة تقنية -لاستعمال هذه الآلات أو تلك بصورة مربحة، يجب إعطاؤها هذه الكمية من المواد الأولية ويجب تخصيص هذا العدد من العمال والعاملات للعمل عليها- ونسبة بالقيمة: هذا القدر من الأجور منفق لشراء هذا العدد من العمال لتشغيل هذا العدد من الآلات التي كلفت هذا المبلغ، لتحويل مواد أولية بهذا السعر. يشير ماركس إلى هذه النسبة المزدوجة بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير بعبارة التركيب العضوي للرأسمال.
ومع تطور الرأسمالية الصناعية، تميل هذه النسبة إلى الازدياد. فإن كتلة متزايدة من المواد الأولية وعددا متزايدا (وأكثر فأكثر تعقيدا) من الآلات سوف يحركها عامل واحد (أو 10 أو 100 أو 1000). وسوف تقابل كتلة واحدة من الأجور قيمة تميل إلى الارتفاع أكثر فأكثر منفقة لشراء مواد أولية وآلات وطاقة وأبنية.
د- ميل المعدل الوسطي للربح إلى الانخفاض
هذا القانون يتبع بصورة منطقية القانون السابق. فإذا ازداد التركيب العضوي للرأسمال، نزع الربح إلى الانخفاض بالنسبة إلى الرأسمال الإجمالي بما أن الرأسمال المتغير وحده ينتج فائض القيمة، أي الربح.
إننا بصدد قانون ميلي وليس بصدد قانون يفرض نفسه بصورة «مستقيمة» مثل قانون تركز الرأسمال أو قانون تبلتر السكان العاملين. وبالفعل، فإن عوامل شتى تعاكس هذا الميل. أهم هذه العوامل هو ازدياد معدل استغلال الأجراء، ازدياد معدل فائض القيمة (نسبة الكتلة الإجمالية لفائض القيمة إلى الكتلة الإجمالية للأجور). بيد أنه لا بد من أن نلاحظ أن ازدياد معدل فائض القيمة لا يستطيع أن يبطل الانخفاض الميلي للمعدل الوسطي للربح بصورة ثابتة. فثمة حد لا يستطيع الأجر الواقعي ولا حتى الأجر النسبي أن يسقطا تحته بدون تهديد إنتاجية العمل الاجتماعية ومردود اليد العاملة، في حين ليس من حد لازدياد التركيب العضوي للرأسمال (فهو يستطيع أن يرتفع بلا حدود في المنشآت المؤلّلة automatisées)
هـ- التحول الموضوعي للإنتاج إلى إنتاج اجتماعي
في بداية الإنتاج البضاعي، كانت كل منشأة خلية مستقلة عن الأخرى لا تقيم سوى علاقات عابرة مع مموّنين وزبائن. وكلما تطور النظام الرأسمالي، انعقدت روابط من الارتهان المتبادل الدائم، التقني والاجتماعي، بين منشآت وفروع من عدد متزايد من البلدان والقارات. فتنعكس أزمة في قطاع ما على جميع القطاعات الأخرى. هكذا تولد، للمرة الأولى منذ نشأة الجنس البشري، بنية تحتية اقتصادية مشتركة بين جميع البشر هي أساس تضامنهم في عالم الغد الشيوعي.
5- التناقضات الملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي
يمكن استخلاص جملة من التناقضات الأساسية في نمط الإنتاج الرأسمالي على أساس قوانين تطوره تلك:
أ- التناقض بين تنظيم الإنتاج داخل كل منشأة رأسمالية، وهو تنظيم متعمد وواع أكثر فأكثر، والفوضى المتفاقمة أكثر فأكثر في مجمل الإنتاج الرأسمالي والناتجة عن بقاء الملكية الخاصة والإنتاج البضاعي المعمم.
ب- التناقض بين التحول الموضوعي للإنتاج إلى إنتاج اجتماعي، والمحافظة على التملك الخاص للمنتجات والربح ووسائل الإنتاج. وأنه عندما يبلغ الارتهان المتبادل بين المنشآت والفروع والبلدان والقارات، حده الأقصى، يسفر عن كون هذا النظام برمته لا يسير إلاّ وفقا لأوامر حفنة من أثرياء الرأسماليين وحسابات ربحهم، يسفر عن طابعه العبثي اقتصاديا والمقيت اجتماعيا في آن واحد.
ج- التناقض بين ميل النظام الرأسمالي إلى تطوير القوى المنتجة بشكل غير محدود، والحدود الضيقة التي لا بد من أن يفرضها على الاستهلاك الفردي والاجتماعي لجمهور العاملين، طالما أن هدف الإنتاج هو الحد الأقصى من فائض القيمة، الأمر الذي يقتضي بالضرورة تحديد الأجور.
د- التناقض بين ازدهار عظيم للعلم والتقنية مع ما يمثلانه من طاقة لتحرر الإنسان، وإخضاع هذه الطاقة من القوى المنتجة لمقتضيات بيع البضائع وإثراء الرأسماليين، الأمر الذي يحول دوريا هذه القوى المنتجة إلى قوى تدمير (لاسيما في زمن الأزمات الاقتصادية والحروب وولادة أنظمة الديكتاتورية الفاشية الدموية، بل أيضا في الأخطار التي تهدد بيئة الإنسان الطبيعية)، واضعا البشرية هكذا أمام خيار: اشتراكية أو همجية.
هـ- التطور المحتم للصراع الطبقي بين الرأسمال والعمل، الذي ينسف دوريا الشروط العادية لإعادة إنتاج المجتمع البرجوازي. وسوف ننظر في هذه المسألة بصورة أكثر تفصيلا في الفصول 8 و9 و11 و14.
6- أزمات فيض الإنتاج الدورية
جميع التناقضات الملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي تنفجر دوريا في أزمات فيض الإنتاج. فإن الميل إلى أزمات فيض الإنتاج الدورية، وإلى سير الإنتاج بدورات يجتاز عبرها بالتتالي مراحل الإنعاش والرواج و«السخونة» والأزمة والكساد، هذا الميل ملازم لنمط الإنتاج الرأسمالي، وله وحده. يمكن أن يختلف اتساع هذه التموجات بين حقبة وأخرى، غير أنها واقع حتمي في النظام الرأسمالي.
لقد حصلت أزمات اقتصادية (بمعنى انقطاعات في إعادة الإنتاج الاعتيادية) في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، وتحصل أيضا أزمات في المجتمع ما بعد الرأسمالي. لكنها ليست في كلا الحالين أزمات فيض الإنتاج بضائع ورساميل، بل هي بالأحرى أزمات نقص في إنتاج قيم استعمالية. إن الذي يميز أزمة فيض الإنتاج الرأسمالية هو أن المداخيل تنخفض والبطالة تنتشر والبؤس (والجوع غالبا) يحلان، ليس لأن الإنتاج المادي قد انخفض بل عكس ذلك، لأنه ازداد بصورة تخطت بكثير القوة الشرائية المتوفرة. فينخفض النشاط الاقتصادي لأن المنتجات لم يعد بيعها ممكنا وليس لأنها نقصت ماديا.
في أساس أزمات فيض الإنتاج الدورية، نجد في آن واحد، انخفاض المعدل الوسطي للربح وفوضى الإنتاج الرأسمالي والميل إلى تطوير الإنتاج دون اعتبار الحدود التي يفرضها نمط التوزيع البرجوازي على استهلاك الجماهير الكادحة. إن قسما متزايدا من الرساميل يصبح عاجزا عن الحصول على ربح كاف بنتيجة انخفاض معدل الربح. فتتقلص التوظيفات وتنتشر البطالة. ويتضافر مع هذا العامل البيع بخسارة لعدد متزايد من البضائع ليسرع في هبوط عام لفرص العمل والمداخيل والقوة الشرائية والنشاط الاقتصادي بمجمله.
إن أزمة فيض الإنتاج هي في آن واحد نتاج هذه العوامل والوسيلة التي يحوز عليها النظام الرأسمالي ليبطل مفعولها جزئيا فالأزمة تؤدي إلى انخفاض قيمة البضائع وإفلاس منشآت عديدة. وتتقلص بالتالي قيمة الرأسمال الإجمالي. هذا الأمر يسمح بإعادة صعود لمعدل الربح ونشاط التراكم. وتسمح البطالة الجماهيرية بزيادة معدل استغلال اليد العاملة، الأمر الذي يؤدي إلى النتيجة ذاتها.
إن الأزمة الاقتصادية تفاقم التناقضات الاجتماعية ويمكنها أن تنفذ إلى أزمة اجتماعية وسياسية متفجرة. إنها تشير إلى أن النظام الرأسمالي أصبح ناضجا لاستبداله بنظام أكثر فعالية وأكثر إنسانية، لا يبذّر الموارد البشرية والمادية. لكنها لا تؤدي تلقائيا إلى انهيار هذا النظام، بل ينبغي أن يطيحه عمل واع من قبل الطبقة الثورية التي خلقها: الطبقة العاملة.
7- توحيد البروليتاريا وتفتيتها
تخلق الرأسمالية البروليتاريا، وتركزها في مشاريع تتزايد أهمية، وتبث فيها الانضباط الصناعي، ومع هذا الانضباط التعاضد والتضامن الأولي في مواقع العمل. إلاّ أنّ هذا كله يترافق مع السعي وراء أقصى الأرباح -سواء بالنسبة لكل مشروع رأسمالي مأخوذ على حدة أو بالنسبة للطبقة البورجوازية ككل. وهذه الطبقة واعية تماما للواقع الذي أكدته أولى انفجارات النضالات العمالية، والمتمثلة بأن تركيز القوى البروليتارية وتوحيدها يشكلان تهديدا عظيما لمصالحها.
لذا فتطور نمط الإنتاج مصحوب بحركة متناقضة مزدوجة: فمن جهة، ثمة الميل التاريخي -الأساسي على المدى الطويل- إلى توحيد البروليتاريا، أو مجمل الشغيلة المأجورين، وإدخال التجانس إلى صفوفها، ومن جهة أخرى، هنالك محاولات متكررة لتفتيت الطبقة البروليتارية وتقسيمها إلى شرائح عن طريق إخضاع بعض شرائحها لاستغلال مضاعف ولاضطهاد من نوع خاص، في حين يتم تمييز شرائح أخرى نسبيا. إن أيديولوجيات خاصة، من مثل العنصرية، والتمييز الجنسي، والشوفينية، وكره الأجانب، تلعب دور تبرير وتثبيت هذه الأشكال الخاصة من الاستغلال المضاعف والاضطهاد، التي ولدت داخل البلدان الرأسمالية الأولى بالذات، لكن التي زادها الاستعمار والإمبريالية حدة وارتفعا بها إلى الذروة على المستوى العالمي.
لقد كان الاستخدام الكثيف لعمل النساء والأحداث واحدة من الوسائل المفضلة التي استخدمها الصناعيون الأولون، من أجل «كسر» الأجور في المانيفاكتورات والمصانع الأولى. في الوقت ذاته، استندت البورجوازية إلى الكنيسة، على وجه الخصوص، وإلى وكالات أخرى لنشر الأيديولوجيات الرجعية، لكي تزرع داخل الطبقة العاملة وشرائح كادحة أخرى من السكان الفكرة القائلة بأن «مكان المرأة هو في الأسرة» وأنه ينبغي ألاّ تتولى النساء المهن المميزة (حيث قد يؤدي ذلك أيضا إلى خفض الأجور).
إن العاملات والمستخدمات في النظام الرأسمالي يتعرضن في الواقع للاستغلال المضاعف من وجهتين. أولا لأنهن يحصلن بمعظمهن على مكافأة أدنى من مكافأة الرجال، سواء بتصنيفهن المتدني أو بدفع أجور أدنى لهن لقاء عمل متساو، وهو ما يزيد مباشرة مبلغ فائض القيمة الذي يتملكه رأس المال. ثم لأن تنظيم الحياة الاجتماعية -الاقتصادية البورجوازية يتمحور حول العائلة البطريركية بما هي خلية أساسية للاستهلاك وإعادة الإنتاج المادي لقوى العمل. والحال أن النساء مضطرات ليقدمن داخل العائلة عملا لا يتلقين مقابلا له مخصصا لتهيئة الطعام، والتدفئة والغسل وتعهد الأطفال وتربيتهم، الخ. هذا العمل ليس مصدرا مباشرا لفائض القيمة، لأنه لا يتجسد في سلع، إلاّ أنه يزيد بصورة غير مباشرة من مبلغ فائض القيمة الاجتماعي، بمقدار ما يخفض تكاليف إعادة إنتاج قوة العمل التي على عاتق الطبقة البرجوازية. وإذا كان على البروليتاري أن يشتري كل وجباته والبسته وخدمات التنظيف والتدفئة من السوق، وإذا كان عليه أن يدفع خدمات حراسة وتربية لأطفاله خارج الدوامات المدرسية، كان لا بد لأجره المتوسط أن يزيد بشكل ملموس عما هو عليه، طالما بوسعه أن يلجأ إلى العمل غير المدفوع أجره الذي تضطلع به شريكته وبناته ووالدته، الخ.. وهو ما يخفض فائض القيمة الاجتماعي بالقدر نفسه.
إن الطابع المتشنج للإنتاج الرأسمالي، بزياداته المفاجئة وتخفيضاته للانتاج الصناعي، يتطلب حركة لا تقل تشنجا من تدفق اليد العاملة ومن تصفياتها الدورية في «سوق العمل». ولخفض التكاليف السياسية والاجتماعية لهذه الحركات العنيفة المصحوبة بتوترات وتعاسات إنسانية لا يستهان بها، من مصلحة رأس المال أن يتزود بيد عاملة قادمة من بلدان أقل تصنيعا. فهو يعتمد على طاعتها الناجمة عن البؤس والنقص في الاستخدام، في البدء، الأكثر حدة بكثير، كما على الاختلافات في العادات والتقاليد بين هذه اليد العاملة والطبقة العاملة «الوطنية» من أجل إعاقة تطور تضامن حقيقي ووحدة طبقية يشملان مجمل البروليتاريين من كل البلدان ومن كل الأمم.
إن حركات هجرة كبيرة صاحبت هكذا كل تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي. فالايرلنديون يتوجهون إلى إنكلترا واسكتلندا، والبولونيون إلى ألمانيا، والإيطاليون ثم الأفريقيون الشماليون والاسبانيون والبرتغاليون إلى فرنسا، والهنود إلى المستعمرات البريطانية في البدء، ثم إلى بريطانيا فيما بعد، والصينيون إلى كل مناطق المحيط الهادي، والكوريون إلى اليابان، وموجات متتالية من المهاجرين إلى أمريكا الشمالية (إنكليز، وايرلنديون، وإيطاليون، ويهود، وبولونيون، ويونانيون، ومكسيكيون، وبورتوريكيون، بالإضافة إلى العبيد السود في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر) والأرجنتين وأستراليا.
كل من هذه الموجات من الهجرة الكثيفة قد صاحبتها بدرجات مختلفة ظاهرات متشابهة من الاستغلال المضاعف والاضطهاد. فالمهاجرون يعملون في القطاعات الأقل أجرا، ويجبرون على أداء الأشغال الأكثر إساءة للصحة، محشورين في الغيتوات والأكواخ، محرومين عموما من كل تعليم بلغاتهم الأم. وهم يتعرضون لما لا يحصى من أشكال التمييز (لاسيما من أجل الحصول على الحقوق المدنية والسياسية والنقابية المتساوية)، بغية إعاقة تطورهم الثقافي والأدبي وإبقائهم فاقدي المعنويات معرضين للاستغلال المضاعف، وتركهم في حالة «عدم استقرار» تفوق حالة البروليتاريا الوطنية والمنظمة (تتضمن الطرد إلى بلدان المنشأ أو الإبعاد التعسفي).
إن المسبقات الأيديولوجية المنتشرة في صفوف البروليتاريا «الوطنية» تبرر بنظرها الاستغلال المضاعف وتبقي التفتيت والتجزئة الدائمين للطبقة العاملة إلى راشدين وأحداث، رجال ونساء، «وطنيين» ومهاجريين، مسيحيين ويهود، سود وبيض، عبرانيين وعرب، الخ.
ولا يمكن للبروليتاريا أن تخوض بنجاح نضالها للتحرر -بما فيه على مستوى الدفاع عن مصالحها الأكثر مباشرة والأكثر أولية- إلاّ إذا اتحدت وتنظمت بصورة تؤكد التضامن الطبقي والوحدة على صعيد كل المأجورين.
لذا فإن النضال ضد كل أشكال التمييز والاستغلال المضاعف التي تتعرض لها النساء والأحداث والمهاجرون والقوميات والأعراق المضطهدة ليس واجبا إنسانيا وسياسيا أواليا وحسب، بل يتوافق كذلك مع المصلحة الطبقية لجميع الشغيلة. إن التربية المنهجية للشغيلة باتجاه جعلهم ينبذون كل المسبقات القائمة على التمييز بين الجنسين والعنصرية والشوفينية وكره الأجانب، التي تشكل قاعدة للاستغلال المضاعف ولجهود التفتيت والتجزئة الدائمين للبروليتاريا، هي إذا من المهمات الأساسية للحركة العمالية.
*******
المراجع:
ك. ماركس، الأجور، الأسعار والأرباح.
ماركس-إنجلس، البيان الشيوعي.
ف. إنجلس، دحض دوهرينغ (الجزء الثاني).
ك. كاوتسكي، مذهب كارل ماركس الاقتصادي.
ر. لكسمبورغ، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
أ. ماندل، مدخل إلى النظرية الاقتصادية الماركسية.
ب. سلامة ج. فالييه، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
أ. ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية.
أ.ماندل ج. نوفاك، النظرية الماركسية في الاستلاب.
--------------------------------------------------------------------------------
6 - رأسمالية الاحتكارات
لا يبقى سير نمط الإنتاج الرأسمالي على حاله منذ نشأته. فبدون تناول رأسمالية المانيفكتورات التي تمتد من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، يمكن تمييز طورين في تاريخ الرأسمالية الصناعية بحصر المعنى:
طور رأسمالية المزاحمة الحرة الذي يبدأ بالثورة الصناعية (بعد عام 1760) وينتهي في ثمانينات القرن التاسع عشر.
طور الإمبريالية الذي يمتد منذ ثمانينات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.
1- من المزاحمة الحرة إلى الاتفاقات الرأسمالية
طوال الطور الأول من وجود الرأسمالية الصناعية تميزت بوجود عدد كبير من المنشآت المستقلة في كل فرع من الفروع الصناعية. ولم يكن بوسع أية منشأة أن تسيطر على السوق. فكانت كل واحدة تحاول أن تبيع بثمن أقل لتتمكن من تصريف بضاعتها.
تبدل هذا الوضع عندما أدى التركز والتمركز الرأسماليان إلى أنه لم يبق في جملة من الفروع الصناعية سوى عدد محدود من المنشآت ينتج بمجمله 60% أو 70% أو 80% من الإنتاج. فأصبح بإمكان هذه المنشآت أن تتحد لتحاول الهيمنة على السوق، أي الكف عن خفض أسعار المبيع، وذلك بتوزيع منافذ التصريف بينها حسب ميزان القوى الراهن.
لقد سهلت مثل هذا الانحدار للمزاحمة الحرة الرأسمالية ثورة تكنولوجية هامة حدثت في الوقت نفسه: استبدال المحرك البخاري بالمحرك الكهربائي والمحرك الانفجاري كمصدر الطاقة الرئيسي في الصناعة وفروع النقليات الرئيسية. فتطورت جملة من الصناعات الحديثة -الصناعة الكهربائية، صناعة الأجهزة الكهربائية، الصناعة النفطية، صناعة السيارات، الكيمياء التركيبية- تطلبت تكاليف إنشاء أهم بكثير مما في الفروع الصناعية القديمة، الأمر الذي قلص منذ البدء عدد المتزاحمين الممكنين.
إن الأشكال الرئيسية للاتحادات بين الرأسماليين هي:
-الكارتيل والنقابة في فرع صناعي، حيث تحافظ كل منشأة مشتركة في الاتحاد على استقلالها
التروست واندماج المنشآت، حيث يزول هذا الاستقلال ضمن شركة عملاقة واحدة.
المجموعة المالية والشركات الكبرى (holding) حيث يسيطر عدد صغير من الرأسماليين على منشآت عديدة في بضعة فروع صناعية، تبقى مستقلة قانونيا بعضها عن البعض الآخر.
2- التركزات المصرفية والرأسمال المالي
إن سيرورة تركز وتمركز الرأسمال ذاتها التي تتحقق في مجال الصناعة والنقاليات تحصل أيضا في مجال المصاريف. وفي نهاية هذا التطور، يهيمن عدد صغير من المصارف العملاقة على مجمل الحياة المالية في البلدان الرأسمالية.
إن الدور الرئيسي للمصارف في النظام الرأسمالي هو منح قروض للمنشآت. وعندما يصبح التركز المصرفي متقدما جدا، يحوز عدد صغير من رجال المصارف على احتكار فعلي لمنح القروض. ويجرهم هذا الأمر إلى تخطي سلوك الدائنين السلبيين، الذين يكتفون بقبض الفوائد على الرساميل المقروضة بانتظار تسديد القروض عندما يبلغ الدين أجله.
فالمصارف التي تمنح قروضا للمنشآت العاملة في نشاطات متماثلة أو متصلة، تجد مصلحة كبيرة في ضمان إيرادية جميع هذه المنشآت وملاءتها. إن مصلحتها تقتضي بأن تحول دون سقوط الأرباح إلى الصفر بنتيجة مزاحمة شرسة. فتتدخل المصارف بالتالي للإسراع في التركز والتمركز الصناعيين، ولفرضهما أحيانا.
وفي قيامها بهذا الدور، تستطيع أن تتخذ مبادرات تنشيط لخلق تروستات كبيرة. وتستطيع كذلك أن تستعمل مواقعها الاحتكارية في مجال الاقراض لتحصل لقاء القروض على مساهمات في رأسمال المنشآت الكبيرة. هكذا يتطور الرأسمال المالي، أي الرأسمال المصرفي الذي يدخل في الصناعة ويحتل فيها موقع مهيمنا.
فتبرز في قمة هرم السلطة في عصر رأسمالية الاحتكارات مجموعات مالية تسيطر في آن واحد على المصارف وعلى مؤسسات مالية أخرى (مثل شركات التأمين) وعلى التروستات الكبيرة في الصناعة والنقليات وعلى المخازن الكبرى، الخ. إن حفنة من كبار الرأسماليين، اشتهرت بينها «العائلات الستون» في الولايات المتحدة الأمريكية «والمائتا عائلة» في فرنسا، تمسك بيدها جميع مقاليد السلطة الاقتصادية في البلدان الإمبريالية.
في بلجيكا، تسيطر نحو عشر مجموعات مالية على القسم الأساسي من الاقتصاد، إلى جانب بعض المجموعات الأجنبية الكبيرة. وفي الولايات المتحدة، تمارس بعض المجموعات المالية (لاسيما مورغان، روكفيلر، ديبون، ملون، مجموعة شيكاغو، مجموعة كليفلاند، بنك أوف أميركا، الخ) هيمنة واسعة جدا على مجمل الحياة الاقتصادية. والأمر كذلك في اليابان حيث أعادت الزيباتسو (تراستات) القديمة تشكيل نفسها بسهولة بعد أن بدا أنها تفككت إثر الحرب العالمية الثانية. والمجموعات اليابانية الرئيسية هي ميتسوبيشي وميستوي وايتوه وسوميدومو وماروبيني.
3- رأسمالية الاحتكارات ورأسمالية المزاحمة الحرة.
لا يعني ظهور الاحتكارات أن المزاحمة الحرة زالت. ولا يعني بالأحرى أن كل فرع صناعي أصبح تحت الهيمنة النهائية لمنشأة واحدة. بل يعني قبل كل شيء وفي قطاعات الاحتكارات:
أ- إن المزاحمة لم تعد تجري بصورة عادية عن طريق خفض الأسعار.
ب- أن التروستات الكبيرة أصبحت، بنتيجة ذلك، تحصل على أرباح فائضة احتكارية، أي على معدل ربح أعلى من معدل ربح المنشآت العاملة في القطاعات غير الاحتكارية.
وتستمر المزاحمة من جهة أخرى:
أ- داخل قطاعات الاقتصاد غير الاحتكارية وهي لا زالت عديدة.
ب- بين الاحتكارات، بصورة عادية عن طريق تقنيات غير خفض أسعار المبيع (لا سيما خفض سعر الكلفة، والاعلانات، الخ)، وبصورة استثنائية أيضا عن طريق «حرب أسعار»، خاصة عندما يكون ميزان القوى بين التروستات قد تغير، وتكون الغاية تكييف تقسيم الأسواق مع ميزان القوى الجديد هذا.
ج- بين الاحتكارات «القومية» في السوق العالمية، عن الطريق «العادية» لـ«حرب الأسعار» بصورة رئيسية. بيد أن تركز الرأسمال يمكن أن يتقدم إلى حد أنه حتى في السوق العالمية، لا يبقى سوى بعض المنشآت في فرع من الفروع الصناعية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق كارتيلات دولية تتقاسم منافذ التصريف.
4- تصدير الرساميل
لا تستطيع الاحتكارات أن تسيطر على الأسواق الاحتكارية إلاّ شرط أن تحد من ازدياد الإنتاج فيها، وبالتالي تراكم الرأسمال. لكن هذه الاحتكارات ذاتها تحوز من جهة أخرى على رساميل وافرة، لا سيما بنتيجة الأرباح الفائضة الاحتكارية التي تحققها. إن عصر الرأسمالية الإمبريالي يتميز إذا بظاهرة الرساميل الفائضة في أيدي احتكارات البلدان الإمبريالية، وهي رساميل تبحث عن حقول جديدة للتوظيفات فيصبح تصدير الرساميل هو أيضا ميزة رئيسية للعصر الإمبريالي.
هذه الرساميل تصدر نحو بلدان يمكن أن تحقق فيها ربحا أعلى من الربح المتوسط في القطاعات المتزاحمة في البلدان الإمبريالية، لتحفز في تلك البلدان صناعات مكملة للصناعة الإمبريالية. ويجري استعمالها قبل كل شيء لتطوير إنتاج مواد أولية نباتية ومعدنية في البلدان المتخلفة (في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية).
طالما كانت الرأسمالية تعمل في السوق العالمية لبيع بضائعها وشراء مواد أولية ومؤن فحسب، لم يكن لديها مصلحة كبيرة في شق طريقها بالقوة العسكرية (بيد أن هذه القوة كانت تستعمل لهدم الحواجز أمام دخول البضائع -مثلا، حرب الأفيون التي خاضتها بريطانيا العظمى لتجبر الإمبراطورية الصينية على رفع الموانع التي أعاقت استيراد الأفيون القادم من الهند البريطانية). لكن هذا الوضع تغير عندما بدأ تصدير الرساميل يحتل مكانة مهيمنة في عمليات الرأسمال الدولية.
وفي حين يدفع ثمن بضاعة مباعة خلال بضعة أشهر كحد أقصى، لا يتم استهلاك رساميل موظفة في بلد ما سوى بعد سنوات طويلة. فتصبح بالتالي لدى القوى الإمبريالية مصلحة كبيرة في إقامة رقابة دائمة على البلدان التي وظفت فيها تلك الرساميل. ويمكن أن تكون هذه الرقابة غير مباشرة -من خلال حكومات عميلة للخارج لكنها في دول مستقلة شكليا- في البلدان شبه المستعمرة. كما يمكن أن تكون مباشرة - من خلال إدارة تابعة مباشرة للدول الإمبريالية- في البلدان المستعمرة. إن العصر الإمبريالي يتميز إذا بـ ميل إلى تقسيم العالم إلى إمبراطوريات استعمارية ومناطق نفوذ للدول الإمبريالية الكبرى.
لقد حصل هذا التقسيم في فترة معينة (خاصة في حقبة 1880-1900) وفقا لميزان القوى القائم في تلك الفترة: هيمنة بريطانيا العظمى، القوة الهامة للإمبرياليات الفرنسية والهولندية والبلجيكية، الضعف النسبي للدول الإمبريالية «الشابة»: ألمانيا، الولايات المتحدة، إيطاليا واليابان.
وسوف تجهد الدول الإمبريالية «الشابة» بواسطة سلسلة من الحروب الإمبريالية لتستعمل تبدل ميزان القوى من أجل تغيير هذا التقسيم للعالم لصالحها: الحرب الروسية-اليابانية، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية.
إنها حروب تخاض لأجل النهب، للحصول على حقول لتوظيف الرساميل ومصادر مواد أولية ومنافذ تصريف مميزة، وليست حروب من أجل «مثال» سياسي («مع الديموقراطية أو ضدها»، مع الاستبدادية أو ضدها، مع الفاشية أو ضدها) والملاحظة ذاتها تنطبق على حروب الفتح الاستعماري التي تتخلل العصر الإمبريالي (لا سيما، في القرن العشرين، حرب إيطاليا ضد تركيا والحرب الصينية-اليابانية وحرب إيطاليا ضد الحبشة) أو الحروب الاستعمارية ضد حركات تحرر الشعوب (حرب الجزائر، حرب فيتنام، الخ). التي يسعى فيها أحد الطرفين وراء النهب بينما يدافع الشعب المستعمَر أو شبه المستعمر عن قضية عادلة بسعيه وراء الإفلات من الاستعباد الإمبريالي.
5-البلدان الإمبريالية والبلدان التابعة
هكذا، فإن العصر الإمبريالي لا يشهد إقامة سيطرة لحفنة من كبار رجال المال والصناعة على الأمم الإمبريالية فحسب. بل يتميز أيضا بإقامة سيطرة للبرجوازية الإمبريالية في حفنة من البلدان على شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، التي تمثل ثلثي الجنس البشري.
وتستخرج البرجوازية الإمبريالية ثروات طائلة من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة. وتدر رساميلها الموظفة في هذه البلدان أرباحا فائضة استعمارية، يتم تصديرها من جديد إلى الدول الإمبريالية. إن التقسيم العالمي للعمل القائم على مبادلة منتجات الصناعة الإمبريالية بمواد أولية مستخرجة في المستعمرات، هذا التقسيم يؤدي إلى تبادل غير متساو، تبادل فيه البلدان الفقيرة كميات كبرى من العمل (لأنه عمل أقل كثافة) بكميات أدنى من العمل (لأنه عمل أكثر كثافة) تصدرها البلدان الإمبريالية. وتتمول الإدارة الاستعمارية بواسطة ضرائب تنتزعها من الشعوب المستعمرة، وتصدر جزءا هاما منها إلى الدولة الإمبريالية.
جميع هذه الموارد المستخرجة من البلدان التابعة تضيع بالنسبة لتمويل نموها الاقتصادي. هكذا فإن الإمبريالية أحد مصادر التخلف الرئيسية بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية.
6- عصر الرأسمالية المتأخرة
يمكن تقسيم العصر الإمبريالي بدوره إلى طورين: عصر الإمبريالية «الكلاسيكية» الذي يشمل حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى وحقبة ما بين الحربين، وعصر الرأسمالية المتأخرة الذي يبدأ مع الحرب العالمية الثانية أو مع نهايتها.
في هذا العصر من انحدار الرأسمالية، يمتد تركز وتمركز الرأسمال أكثر فأكثر على الصعيد العالمي. ففي حين شكل التروست الاحتكاري القومي «الخلية الأساسية» في العصر الإمبريالي الكلاسيكي، أصبحت الشركة متعددة القوميات هي «الخلية الأساسية» في عصر الرأسمالية المتأخرة. بيد أن عصر الرأسمالية المتأخرة يتميز في الوقت نفسه بتسارع للابتكار التكنولوجي وبحقب أقصر لاستهلاك الرأسمال الموظف في الآلات وباضطرار المنشآت الكبرى لحساب تكاليفها وتوظيفاتها ولتخطيطها بصورة أكثر دقة، وبالميل إلى البرمجة الاقتصادية للدولة الذي ينجم بصورة طبيعية عن ذاك الاضطرار.
كذلك فإن تدخل الدولة الاقتصادي يتزايد بنتيجة اضطرار البرجوازية لتعوّم بمساعدة الدولة قطاعات صناعية أصبحت في وضع من الإفلاس المزمن، ولتمول بواسطة الدولة قطاعات طليعية لم تصبح بعد مربحة، ولتؤمن عن طريق الدولة ضمانة لأرباح الاحتكارات الكبرى، لاسيما بواسطة طلبيات الدولة (خاصة، وليس حصرا، طلبيات عسكرية) والإعانات والمساعدات، الخ.
هذا التداول المتزايد للإنتاج من جهة، وهذا التدخل المتزايد للدولة القومية في الحياة الاقتصادية من جهة أخرى، يسببان جملة من التناقضات الجديدة في عصر الرأسمالية المتأخرة، أحد تعبيراتها الرئيسية أزمة النظام النقدي العالمي التي يغذيها التضخم الدائم.
ويتميز عصر الرأسمالية المتأخرة أيضا بتفكك معمم للإمبراطوريات الاستعمارية وبتحول البلدان المستعمرة إلى بلدان شبه مستعمرة وبإعادة توجيه تصديرات الرساميل التي أصبحت الآن تنتقل قبل كل شيء من بلد إمبريالي إلى آخر وليس من البلدان الإمبريالية إلى البلدان المستعمرة، وببداية تصنيع (محصور خاصة في دائرة السلع الاستهلاكية) في البلدان شبه المستعمرة. إن هذا التصنيع ليس فقط محاولة من قبل البرجوازية المحلية في البلدان التابعة لكبح حركات التمرد الشعبية، بل هو أيضا نتيجة لكون تصديرات الآلات والسلع التجهيزية تشكل اليوم القسم الأعظم من تصديرات البلدان الامبريالية ذاتها.
فلا التحولات التي حدثت في سير الاقتصاد الرأسمالي داخل البلدان الإمبريالية بالذات، ولا التحولات المتعلقة باقتصاد البلدان شبه المستعمرة وبالسير الإجمالي للنظام الإمبريالي، تسمح إذا بإعادة النظر في الاستنتاج الذي وصل اليه لينين قبل أكثر من نصف قرن والمتعلق بالمعنى التاريخي الإجمالي للعصر الإمبريالي. إنه عصر تفاقم جميع التناقضات بين الإمبرياليات. إنه عصر شعاره النزاعات العنيفة والحروب الإمبريالية وحروب التحرر القومي والحروب الأهلية. إنه عصر الثورات والثورات المضادة، والانفجارات الأكثر فأكثر خطورة، وليس عصر تقدم هادئ وسلمي للحضارة.
وكم هو أحرى أن نستبعد الأساطير التي تقول أن الاقتصاد الغربي الحالي لم يعد اقتصادا رأسماليا بحصر المعنى. إن الانكماش المعمم للاقتصاد الرأسمالي الدولي في سنتي 1974-1975 قد سدد ضربة قاضية للأطروحة القائلة أننا نعيش في «اقتصاد مختلط» مزعوم، يسمح فيه تنظيم الحياة الاقتصادية من قبل السلطات العامة بتأمين النمو الاقتصادي والعمالة الكاملة وتوسيع رفاهية الجميع بصورة غير منقطعة. لقد أثبت الواقع مرة أخرى أن مقتضيات الربح الخاص لا زالت تتحكم بهذا الاقتصاد وتتسبب فيه دوريا ببطالة جماهيرية وفيض إنتاج، وأنه بالتالي اقتصاد لا يزال رأسماليا.
كذلك فإن الأطروحة القائلة أن المدراء والبيروقراطية، بل التكنوقراطيين والعلماء، لا أكبر التجمعات الرأسمالية، هم الذين يديرون المجتمع الغربي، أطروحة لا تستند إلى أي برهان علمي جدي. إن العديد من «سادة» المجتمع هؤلاء قد فقدوا منصبهم خلال فترتي الانكماش الأخيرتين. فإن انتداب السلطات الذي يقبل به الرأسمال الكبير ويحسنه داخل الشركات العملاقة التي يسيطر عليها، يشمل معظم صلاحياته التقليدية، ما عدا الجوهري: قرارات التعيين الأخير حول الأشكال والتوجهات الأساسية لاستثمار الرأسمال وتراكمه، أي كل ما يتعلق بـ«أقدس المقدسات»: أولوية ربح الاحتكارات، التي يمكن التضحية في سبيلها بتوزيع أرباح الأسهم على المساهمين. فالذين يرون في هذا الأمر برهانا على أن الملكية الخاصة لم تعد مهمة، ينسون الميل إلى التضحية بملكية الصغار الخاصة لأجل ملكية حفنة من الكبار، وهو ميل مهيمن منذ بداية الرأسمالية.
*******
المراجع:
لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
ر. هيلفردنغ، الرأسمال المالي
ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية (الفصول 12،13، 14)
ب. جاليه، الإمبريالية عام 1970.
ب. سلامة، سيرورة التخلف.
--------------------------------------------------------------------------------
7/ النظام الإمبريالي
1- التصنيع الرأسمالي وقانون التطور المتفاوت والمركب
ولدت الرأسمالية الصناعية الحديثة في بريطانيا العظمى. وامتدت تدريجيا، خلال القرن التاسع عشر، إلى معظم بلدان أوروبا الغربية والوسطى وإلى الولايات المتحدة، ولاحقا إلى اليابان. وقد بدا أن وجود بعض البلدان ذات التصنيع الأولي لم يكن حائلا دون دخول الرأسمالية الصناعية وتوسعها في سلسلة متتالية من البلدان السائرة على درب التصنيع.
على العكس، فقد دمرت الصناعة الكبيرة البريطانية والبلجيكية والفرنسية، دمرت في تلك البلدان وبدون رحمة أشكال الإنتاج ما قبل الصناعية (الصناعة الحرفية والصناعة المنزلية). لكن الرساميل البريطانية والبلجيكية والفرنسية كانت لا تزال لديها حقول واسعة للتوظيفات مفتوحة أمامها في بلدانها الخاصة. وهكذا فقد حلت إجمالا صناعة حديثة قومية تدريجيا محل الصناعة الحرفية التي دمرتها مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة. هذا ما حصل بالأخص بالنسبة لإنتاج المنسوجات في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا وبوهيميا وروسيا القيصرية (بما فيها بولندا) والبلدان الواطئة، الخ.
ومع ولادة العصر الإمبريالي ورأسمالية الاحتكارات، تبدل هذا الوضع تبدلا كليا. فمنذ ذلك التاريخ، لم يعد سير السوق الرأسمالية العالمية يسهل التطور الرأسمالي «العادي»، ولاسيما التصنيع في العمق، للبلدان المتخلفة، بل أصبح بالعكس يعرقله. وتفقد عبارة ماركس القائلة أن كل بلد متقدم يدل بلدا اقل تطورا على صورة مستقبله الخاص، تفقد هذه العبارة صحتها التي حافظت عليها طوال عصر الرأسمالية المزاحمة الحرة.
ثلاثة عوامل رئيسية (وعوامل إضافية عديدة لن نذكرها) تحدد هذا التغير الأساسي في سير الاقتصاد الرأسمالي الدولي:
أ- اتساع الإنتاج بالجملة للعديد من بضائع البلدان الإمبريالية التي تغرق السوق العالمية وتحوز على تقدم في الإنتاجية وسعر الكلفة بالنسبة لكل إنتاج صناعي أولي في البلدان المتخلفة إلى حد أن هذا الإنتاج الأخير لا يعود يستطيع أن ينطلق فعلا على صعيد واسع ويصمد جديا في وجه مزاحمة الإنتاج الأجنبي. فتصبح الصناعة الغربية (ولاحقا الصناعة اليابانية أيضا) هي التي تستفيد أكثر فأكثر بعد تلك المرحلة من الإفلاس التدريجي للصناعة الحرفية والصناعة المنزلية والمانيفكتورة في بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.
ب- أن فائض الرساميل، الذي يظهر بصورة دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلدان الرأسمالية المصنعة التي تسيطر الاحتكارات عليها تدريجيا، يطلق حركة واسعة من تصدير الرساميل نحو البلدان المتخلفة ويطور فيها فروع إنتاج مكملة وليست منافسة بالنسبة للصناعة الغربية. هكذا فإن الرساميل الأجنبية التي تهيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص في إنتاج المواد الأولية المعدنية والنباتية وفي إنتاج المؤن. علاوة على ذلك، ففي هذه البلدان التي تنحدر تدريجيا إلى وضع البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة، تدافع الدولة قبل كل شيء عن مصالح الرأسمال الأجنبي. فهي لا تتخذ بالتالي حتى الإجراءات البسيطة لحماية الصناعة الجنينية ضد مزاحمة المنتجات المستوردة.
ج- تخلق هيمنة الرساميل الأجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا واجتماعيا تحافظ فيه الدولة على مصالح الطبقات السائدة القديمة وتدعمها، بربطها بمصالح الرأسمال الإمبريالي، بدل إزالتها بصورة جذرية إلى هذا الحد أو ذاك كما جرى خلال الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
إن مجمل هذا التطور الجديد للاقتصاد الرأسمالي الدولي في عصر الإمبريالي يمكن تلخيصه بقانون التطور المتفاوت والمركب. فالبنية الاجتماعية والاقتصادية في البلدان المتخلفة -أو في جملة من هذه البلدان على الأقل- ليست في سماتها الأساسية بنية مجتمع إقطاعي صرف ولا بنية مجتمع رأسمالي صرف. تحت تأثير هيمنة الرأسمال الإمبريالي، تدمج هذه البنية بصورة استثنائية سمات إقطاعية وشبه إقطاعية وشبه رأسمالية ورأسمالية. إن القوة الاجتماعية السائدة هي قوة الرأسمال -لكنه إجمالا الرأسمال الأجنبي. فالبورجوازية المحلية لا تمارس بالتالي السلطة السياسية. ولا تتألف غالبية السكان بالتالي من الأجراء، ولا من الأقنان بوجه عام، بل من فلاحين يخضعون بدرجات متفاوتة لابتزاز الملاك العقاريين شبه الإقطاعيين وشبه الرأسماليين والتجار- المرابين وجباة الضرائب. وبالرغم من أن هذا الجمهور الكبير يعيش جزئيا خارج الإنتاج البضاعي بل خارج الإنتاج النقدي، فإنه يصاب بالنتائج الكارثية لتذبذبات أسعار المواد الأولية في السوق الإمبريالية العالمية من خلال النتائج الإجمالية التي تجرها هذه التذبذبات على الاقتصاد القومي.
2-استغلال البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من قبل الرأسمال الإمبريالي
إن تدفق الرساميل الأجنبية نحو البلدان التابعة، المستعمرة وشبه المستعمرة، قد تسبب طوال عقود متعاقبة بالنهب والاستغلال والاضطهاد لأكثر من مليار إنسان من قبل الرأسمال الإمبريالي، الأمر الذي يشكل إحدى الجرائم الرئيسية التي تقع مسئوليتها على النظام الرأسمالي في تاريخه. وإذا ظهرت الرأسمالية على الأرض وهي تنضح الدم والعرق من جميع مسامها كما قال ماركس، فإن هذا التعريف لا ينطبق في مكان بالدقة التي ينطبق بها في البلدان التابعة.
يندرج العصر الإمبريالي في المقام الأول تحت شعار الفتح الاستعماري. طبعا، إن الاستعمار أقدم من الإمبريالية. فقد سبق أن أحل الفاتحون الإسبان والبرتغاليون الحرق والقتل في الجزر الخضراء والرأس الأخضر وكذلك في بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، مبيدين في كل مكان تقريبا قسما كبيرا من السكان المحليين، إن لم يكن جميعهم. ولم يتصرف المستعمرون البيض بطريقة أكثر إنسانية إزاء هنود أمريكا الشمالية. وترافق فتح إمبراطورية الهند من قبل بريطانيا العظمى بسلسلة من الفضاعات، وكذلك بالنسبة لفتح الجزائر من قبل فرنسا.
ومع ولادة العصر الإمبريالي، امتدت هذه الفضاعات إلى قسم كبير من إفريقيا وآسيا وأوقيانيا. فتعاقبت على نطاق واسع المجازر ونقل السكان وطرد الفلاحين من أراضيهم وإدخال العمل الإجباري، إن لم يكن القنانة بالفعل.
إن العنصرية «تبرر» هذه الممارسات اللا إنسانية بتأكيدها على تفوق العرق الأبيض و«رسالته التاريخية الحضارية». وبصورة أكثر حذاقة، تجرد العنصرية الشعوب المستعمرة من ماضيها الخاص وثقافتها الخاصة وعزتها العرقية، لا بل تجردها من لغتها في الوقت نفسه الذي تنتزع فيه منها ثرواتها القومية وقسما هاما من ثمار عملها.
وإذا تجرأ العبيد المستعمرون على التمرد ضد السيطرة الاستعمارية، جرى قمعهم بوحشية أفظع من أن توصف. نساء وأطفال هنود ذهبوا ضحية المجازر في حرب الهنود في الولايات المتحدة، «متمردون» هنديون وضعوا أمام مدافع أطلقت النار، قبائل في الشرق الأوسط قصفها الطيران الملكي البريطاني بلا رحمة، عشرات الآلاف من الجزائريين المدنيين ذهبوا ضحية المجازر «انتقاما» من الانتفاضة الوطنية في ماي 1945: كل ذلك ينذر بأوحش فظاعات النازية، بما فيها الإبادة الجماعية الصريحة، بل يكررها تماما. وإذا سخط برجوازيو أوروبا وأمريكا على هتلر سخطا شديدا، فلأنه ارتكب جريمة انتهاك العرق الأبيض عندما طبق على شعوب أوروبية، لحساب الإمبريالية الألمانية، ما أصاب شعوب آسيا وأمريكا وأفريقيا على يد الإمبريالية العالمية.
إن اقتصاد البلدان التابعة خاضع برمته لمصالح الرأسمال الأجنبي وما يفرضه. ففي معظم هذه البلدان، تصل السكك الحديدية مراكز الإنتاج العاملة من أجل التصدير بالموانئ، لكنها لا تصل المراكز المدينة الرئيسية بعضها ببعض. ويخدم البناء التحتي المؤمَّن نشاطات الاستيراد والتصدير، أمّا الشبكات المدرسية والصحية والثقافية فتعاني من تخلف مخيف. إن القسم الأعظم من السكان يعاني من الأمية والجهل والبؤس.
أكيد أن دخول الرأسمال الأجنبي قد سمح بتطور معين للقوى المنتجة وخلق بعض المدن الصناعية الكبيرة وطوّر جنينا متفاوت الأهمية من البروليتاريا في الموانئ والمناجم والمزارع والسكك الحديدية والإدارة العامة.
بيد أننا نستطيع أن نقول بدون مبالغة أن مستوى معيشة السكان المتوسطين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية (عدا بعض البلدان صاحبة الامتيازات) قد راوح مكانه أو تراجع خلال ثلاث أرباع القرن التي تفصل بين بداية الاندفاع نحو الاستعمار الشامل للبلدان المتخلفة وانتصار الثورة الصينية.
3-«الكتلة الطبقية» الحاكمة في البلدان شبه المستعمرة
لكي نفهم فهما أكثر تعمقا الطريقة التي «جمدت» بها السيطرة الإمبريالية البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة في تطورها وحالت دون تصنيع تدريجي «عادي» فيها على النمط الرأسمالي الغربي، يجب أن نوسع الشرح أكثر حول طبيعة «كتلة الطبقات الاجتماعية» الحاكمة في هذه البلدان خلال العصر الإمبريالي «الكلاسيكي» وما تستتبعه هذه «الكتلة» بالنسبة للتطور الاقتصادي والاجتماعي.
عندما يدخل الرأسمال الأجنبي بكثافة إلى البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، تكون الطبقة السائدة المحلية مؤلفة إجمالا من ملاك عقاريين (شبه إقطاعيين وشبه رأسماليين بمقادير تختلف حسب البلد المعني) متحالفين مع الرأسمال التجاري والمصرفي أوالمرابي. أمّا في البلدان الأكثر تخلفا كبلدان أفريقيا السوداء، فإننا نجد مجتمعات قبلية في طور التفكك تحت التأثير المديد لتجارة العبيد.
ويتحالف إجمالا الرأسمال الأجنبي مع هذه الطبقات السائدة المحلية ويعاملها كوسيطات لاستغلال الفلاحين والشغيلة المحليين ويدعم علاقاتها الاستغلالية مع شعوبها الخاصة. حتى أنه يرفع أحيانا بصورة هامة درجة الاستغلال هذا بشكله ما قبل الرأسمالي ويدمجه مع إدخال أشكال جديدة من الاستغلال الرأسمالي. ففي البنغال، حوّل الاستعمار البريطاني الزمندار، الذين كانوا في الأمس مجرد جباة ضرائب في خدمة الأباطرة المغول، حولهم إلى ملاك كاملي الحقوق للأراضي التي كانوا يجبون الضرائب عليها.
هكذا تظهر ثلاث طبقات اجتماعية هجينة في مجتمع البلدان المتخلفة، تطبع بطابعها تجميد تطور هذه البلدان الاقتصادي والاجتماعي:
طبقة البرجوازية الكومبرادورية، وهي برجوازية محلية تتكون في البدء من مجرد شركاء تعينهم المؤسسات الأجنبية للاستيراد والتصدير، ويغتنون من ثم ويتحولون تدريجيا إلى مقاولين مستقلين. غير أن منشآتهم تنحصر بصورة رئيسية في دائرة التجارة (و«الخدمات») أمّا أرباحهم فتوظف إجمالا في التجارة والربا وشراء الأراضي والمضاربة العقارية.
طبقة التجار-المرابين ( أو التجار-المرابين-الكولاك). إن الدخول البطيء للاقتصاد النقدي يفكك تقاليد التعاون داخل المشاعة القروية. ومع تعاقب المحاصيل السيئة والجيدة، على أراض خصبة إلى هذا الحد أو ذاك، يتقدم التفاضل الاجتماعي في القرية بدون رحمة. ويتواجه الفلاحون الأغنياء والفلاحون الفقراء، ويخضع هؤلاء أكثر فأكثر لأولئك، حيث يضطر الفلاحون الفقراء إلى الاستدانة لشراء البذور والمؤن عندما لا يكفي المحصول حتى لتغطية الحاجات الأكثر أولية. فيقعون تحت تبعية التجار-المرابين- الفلاحين الأغنياء الذين يصادرون منهم تدريجيا ملكية حقولهم ويخضعونهم لإبتزازات لا تحصى.
طبقة شبه البروليتاريا الريفية (التي شملت لاحقا «الهامشيين» المدينيين). إن الفلاحين المفقرين والمطرودين من أراضيهم لا يجدون عملا في الصناعة، نظرا لتخلفها. فيضطرون إلى البقاء في الريف أو يؤجرون سواعدهم للفلاحين الأغنياء أو يستأجرون قطع أرض لكي يحصلوا منها على عيشة بائسة لقاء ريع عقاري (أو حصة من المحصول في نظام المحاصصة) أكثر فأكثر بهظا. وكلما زاد بؤسهم ونقص استخدامهم قوة، كان الريع الذي هم على استعداد لدفعه لاستئجار حقل أكثر ارتفاعا. وكلما كان الريع العقاري أكثر ارتفاعا، تراجعت مصلحة أصحاب الرساميل في توظيفها في الصناعة بل يستخدمون رساميلهم بالأحرى لشراء الأرض. وكلما كان بؤس جمهور الفلاحين أكبر، ضاقت السوق الداخلية للسلع الاستهلاكية وبقيت الصناعة متخلفة وبقي نقص الاستخدام قويا.
ليس التخلف إذا نتيجة لنقص مطلق في الرساميل أو الموارد. بل بعكس ذلك، غالبا ما تشكل حصة النتاج الاجتماعي الفائض من الدخل القومي حصة أكبر في البلدان المتخلفة مما في البلدان المصنعة. إن التخلف نتاج بنية اجتماعية واقتصادية، ناجمة عن السيطرة الامبريالية، تجعل تراكم الرساميل النقدية لا يتجه بصورة رئيسية نحو التصنيع ولا حتى نحو التوظيف المنتج، الأمر الذي يتسبب في نقص استخدام (كمي ونوعي) ضخم إذا ما قورن بالبلدان الإمبريالية.
4- حركة التحرر القومي
كان محتما مع مرور الزمن ألا يخضع مئات الملايين من البشر لنظام استغلال واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأسماليي البلدان الإمبريالية بواسطة الأجهزة الإدارية والقمعية لتي في خدمتها. فمدت حركة تحرر قومي جذورها تدريجيا في صفوف المثقفين الشباب في بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، حركة تبنت أفكارا ديموقراطية-برجوازية بل شبه اشتراكية واشتراكية من أفكار الغرب، لتعارض السيطرة الأجنبية على بلادها. إن النزعة القومية ذات التوجه المعادي للإمبريالية، تتمحور في البلدان التابعة حول المصالح المختلفة لثلاث قوى اجتماعية:
يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية، في كل مكان تحوز فيه هذه الأخيرة على قاعدة مادية خاصة تجعل مصالحها تتزاحم مع مصالح الدول الإمبريالية المسيطرة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال حزب المؤتمر الهندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة المجموعات الصناعية الهندية الكبيرة.
بحفز من الثورة الروسية، يمكن أن يتم تبني النزعة القومية من قبل الحركة العمالية الناشئة التي سوف تجعل منها على الأخص أداة تعبئة للجماهير المدينية والقروية ضد السلطة القائمة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال الحزب الشيوعي الصيني منذ العشرينات ومثال الحزب الشيوعي في الهند الصينية في العقود اللاحقة.
يمكن أن تحفز النزعة القومية انفجار تمردات للبرجوازية الصغيرة المدينية وللفلاحين، تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية. إن ثورة 1910 المكسيكية هي النموذج الأخص لهذا الشكل من الحركة المناهضة للإمبريالية.
بوجه عام، فإن تأزم النظام الإمبريالي الذي عرف تمزقات داخلية متتالية -هزيمة روسيا القيصرية في الحرب ضد اليابان في سنتي 1904-1905، ثورة عام 1905 الروسية، الحرب العالمية الأولى، ثورة عام 1917 الروسية، ظهور الحركة الجماهيرية في الهند والصين، أزمة سنوات 1929-1932 الاقتصادية، الحرب العالمية الثانية، هزائم الإمبريالية الغربية على يد الإمبريالية اليابانية في سنتي 1941-1942، هزيمة الإمبريالية اليابانية في سنة 1945- تأزم النظام الإمبريالي هذا قد حفز حركة التحرر القومي في البلدان التابعة حفزا قويا. وقد تلقت هذه الحركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام 1949.
إن المشكلات التكتيكية والاستراتيجية التي تنجم عن ظهور حركة التحرر القومي في البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة، بالنسبة للحركة العمالية العالمية (والمحلية في البلدان التابعة)، سوف يتم تناولها بصورة أكثر تفصيلا في الفصل العاشر، النقطة 4، والفصل الثالث عشر، النقطة 4. أما هنا فنكتفي بالتأكيد على أن الواجب الخاص للحركة العمالية في البلدان الإمبريالية هو أن تؤيد بلا شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم بهما جماهير البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة ضد الاستغلال والاضطهاد اللذين تعاني منهما على يد الدول الإمبريالية. هذا الوالجب يقتضي تمييزا صارما بين الحروب الإمبريالية، وهي حروب رجعية، وحروب التحرر القومي التي هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة السياسية التي تقود الشعب المضطهد في هذه المرحلة من النضال أو تلك، وينبغي على البروليتاريا العالمية في هذه الحروب أن تعمل لأجل انتصار الشعوب المضطهدة.
5-الاستعمار الجديد
إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة الحرب العالمية الثانية قد جر الإمبريالية إلى تعديل أشكال سيطرتها على البلدان المتخلفة. فقد تحولت هذه السيطرة تدريجيا من سيطرة مباشرة إلى غير مباشرة. وقد تقلص بسرعة عدد المستعمرات بحصر المعنى، التي تديرها الدول الاستعمارية مباشرة. وانتقل هذا العدد، في غضون عقدين، من حوالي السبعين إلى بعض الوحدات فقط. وانهارت بمعظمها الإمبراطوريات الاستعمارية الإيطالية والبريطانية والهولندية والفرنسية وأخيرا البرتغالية والإسبانية.
لم يحصل طبعا زوال الإمبراطوريات الاستعمارية هذا دون مقاومة دموية ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأسمال الإمبريالي. تشهد على ذلك الحروب الاستعمارية الدموية التي خاضتها الإمبريالية الهولندية في أندونيسيا، والإمبريالية البريطانية في ماليزيا وفي كينيا، والإمبريالية الفرنسية في الهند الصينية وفي الجزائر، كما تشهد عليه «الحملات» الأقصر مدة لكن التي لا تقل دموية لحملة السويس سنة 1956 ضد مصر. غير أن هذه الأعمال المشؤومة تبدو تاريخيا كمعارك رجعية. يقينا أن الاستعمار المباشر كان محكوما عليه بالوزال.
بيد أن زواله لا يعني البتة تفكك النظام الإمبريالي العالمي. بل يستمر هذا النظام في الوجود، وإن في أشكال معدلة. فتبقى الغالبية العظمى من البلدان شبه المستعمرة محصورة في تصدير المواد الأولية. وتظل خاضعة لجميع النتائج المضرة للتبادل الاستغلالي غير المتساوي. ويستمر التباعد، بدل التقارب، بين درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان الإمبريالية . ويزداد بعد المسافة بين القسم «الشمالي» والقسم «الجنوبي» من الكرة الأرضية، من حيث الدخل الفردي ومستوى الرفاهية.
هذا ويقتضي تحول السيطرة الإمبريالية المباشرة إلى سيطرة إمبريالية غير مباشرة على البلدان المتخلفة، إشراكا أوثق للبرجوازية الصناعية «القومية» في استغلال الجماهير الكادحة في هذه البلدان، ويستتبع أيضا إسراعا ما لسيرورة التصنيع في جملة من البلدان شبه المستعمرة. هذا ينجم في آن واحد عن تبدل موازين القوى السياسية (أي أنه يشكل تنازلا محتما للنظام تحت ضغط الجماهير المتعاظم) وعن تبدل المصالح الأساسية للمجموعات الإمبريالية الرئيسية بذاتها.
إن طبيعة البضائع المصدرة من قبل البلدان الإمبريالية قد شهدت بالفعل تبدلا هاما. وأصبحت فئة «الآلات والسلع التجهيزية ووسائل النقل» تحتل فيها الصدارة بعد أن كانت تحتلها فئتا السلع الاستهلاكية والفولاذ. والحال أنه يستحيل أن تصدر التروستات الاحتكارية الرئيسية قدرا أكبر فأكبر من الآلات إلى البلدان التابعة دون أن تحفز فيها بعض أشكال التصنيع (المحصور إجمالا وبوجه خاص في صناعة السلع الاستهلاكية).
ومن جهة أخرى، فإن الشركات متعددة القوميات تجد في إطار استراتيجيتها العالمية مصلحة في الانغراس في عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ البدء تقريبا، نظرا لتوسع المبيعات اللاحق الذي تتوقعه. هكذا تتعمم صيغة المنشآت المشتركة (joint-ventures) بين الرأسمال الإمبريالي والرأسمال الصناعي «القومي» في تلك البلدان، أكان رأسمالا خاصا أو رأسمال دولة، حيث تشكل هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه الاستعمارية. ويزداد بالتالي ثقل الطبقة العاملة في المجتمع.
هذه البنية تظل منخرطة في منظومة إمبريالية قاسية واستغلالية. ويبقى التصنيع محدودا، حيث تكاد «سوقه الداخلية» لا تتعدى إجمالا ما بين 20% و25% من السكان: الطبقات الميسورة + التقنيون والكوادر، الخ + الفلاحون الأغنياء. ويضل بؤس الجماهير هائلا. فتتزايد التناقضات الاجتماعية بدل أن تتقلص: من هنا تبقى طاقة الانفجارات الثورية المتتالية في البلدان التابعة.
في هذه الشروط، تكتسب شريحة اجتماعية جديدة أهمية: أنها بيروقراطية الدولة التي «تدير» إجمالا قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة للاهتمامات القومية تجاه الخارج، لكنها تستغل في الواقع احتكارها للإدارة لتجري تراكمها الخاص على نطاق واسع.
*******
المراجع:
لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
تروتسكي، الثورة الدائمة.
تروتسكي، الأممية الثالثة بعد لينين.
ر. لكسمبورغ، تراكم الرأسمال (الفصول الستة الأخيرة).
ن. بوخارين، الإمبريالية والاقتصاد العالمي.
جاليه، الإمبريالية عام 1970.
ب.سلامة، سيرورة التخلف.
ب. باران، الاقتصاد السياسي للتنمية.
هوبت-لوفي-فايل، الماركسيون والمسألة القومية (نصوص مختارة).
ميخايل برات-براون، بعد الإمبريالية.
--------------------------------------------------------------------------------
8- نشأة الحركة العمالية الحديثة
منذ أن وجد عمال مأجورون، أي قبل تكون الرأسمالية الحديثة بكثير، حصلت ظاهرات صراع طبقي بين أرباب العمل والعمال. فالصراع الطبقي ليس بنتاج نشاطات تحريضية من قبل أفراد «يدعون إليه». بالعكس، فإن مذهب الصراع الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي التي سبقته.
1- الصراع الطبقي الأولي للبروليتاريا
تتمحور التجليات الأولية لصراع الأجراء الطبقي حول مطالب ثلاثة على الدوام. هذه المطالب هي التالية:
أ. زيادة الأجور. وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج الاجتماعي بين أرباب العمل والعمال لصالح الأجراء.
ب. إنقاص ساعات العمل دون تخفيض الأجر، وهي وسيلة مباشرة أخرى لتعديل هذا التوزيع لصالح الشغيلة.
ج. حرية التنظيم. ففي حين يستحوذ رب العمل، مالك رأس المال ووسائل الإنتاج، على القوة الاقتصادية، يجد العمال أنفسهم منزوعي السلاح طالما هم يخوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل. ضمن هذه الشروط، تصب «قواعد اللعبة» في صالح الرأسماليين على وجه الحصر، الذين يستطيعون تخفيض مستوى الأجور قدر ما يشاءون، فيما يضطر العمال للقبول بها خشية فقدان عملهم، وبالتالي لقمة عيشهم.
ليس للشغيلة فرصة الحصول على منافع من خلال النضال الذي يواجهون به أرباب العمل، إلاّ عن طريق إلغاء هذه المنافسة التي تفرق بينهم، ورفضهم جميعا أن يعملوا ضمن شروط غير ممكن قبولها. إن التجربة تعلمهم سريعا أنه إن لم تكن لهم حرية التنظيم، كانوا منزوعي السلاح في مواجهة الضغط الرأسمالي.
لقد اتخذ الصراع الطبقي الأولي الذي يخوضه البروليتاريون طابعا تقليديا يتمثل بالرفض الجماعي للعمل، أي بالإضراب. وينقل لنا مدونو أخبار قصص إضرابات حدثت في مصر والصين القديمتين. لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت في مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لاسيما في القرن الأول من التاريخ الميلادي.
2- الوعي الطبقي الأولي للبروليتاريا
إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية- من التنظيم الطبقي. يتطلب على وجه الخصوص معرفة أن خلاص كل من الأجراء يتوقف على عمل جماعي، وهو حل قائم على التضامن الطبقي، بالتعارض مع الحل الفردي (المتمثل بمحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية الأجراء).
هذه المعرفة هي الشكل الأولى للوعي الطبقي البروليتاري. يضاف إلى ذلك أن المأجورين يتعلمون فطريا خلال تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة. يتم إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليلا من عدم استقرار الوجود العمالي، وللسماح للبروليتاريين بالدفاع عن أنفسهم خلال فترات البطالة، الخ. تلك هي الأشكال الأولية للتنظيم الطبقي.
إلاّ أن هذه الأشكال الأولية من الوعي والتنظيم الطبقيين لا تتطلب وعي الأهداف التاريخية للحركة العمالية، ولا فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.
هكذا تجد الأشكال الأولى للعمل السياسي العمالي موقعها إلى أقصى يسار الراديكالية البرجوازية الصغيرة. إن مؤامرة المتساوين التي نظمها غراكوس بابوف [34]، والتي تمثل أول حركة سياسية حديثة تهدف إلى تجميع وسائل الإنتاج، ظهرت إبان الثورة الفرنسية إلى أقصى يسار اليعاقبة.
يهيئ لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية London Corresponding Society التي حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة الفرنسية. إلاّ أن القمع البوليسي تمكن من سحق المنظمة المذكورة. لكن نشأت على الفور، بعد نهاية الحروب النابوليونية، رابطة الاقتراع العام التي تشكلت في منطقة مانشستر-ليفربول الصناعية من عمال على وجه الخصوص، وكانت إلى أقصى يسار الحزب الراديكالي (البورجوازي الصغير). لقد تسارع بعد أحداث بيترلو الدامية في عام 1817 انفصال حركة عمالية مستقلة عن الحركة البورجوازية الصغيرة، ونشأ هكذا بعد قليل الحزب الشارطي أول حزب عمالي بصورة أساسية، يطالب بالاقتراع العام.
3- الاشتراكية الطوباوية
تلك الحركات الأولية للطبقة العاملة قادها كلها إلى حد بعيد عمال بالذات، أي عصاميون autodidactes كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول موضوعات تاريخية واقتصادية واجتماعية، تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم معالجتها بعمق. تطورت تلك الحركات إذا على هامش التطور العلمي في القرنين 17 و18. على عكس ذلك، وفي إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود أوائل المفكرين الكبار الطوباويين من أمثال توماس مور (مستشار إنكلترا في القرن 16)، وكامبانيلا (كاتب إيطالي في القرن 17)، وروبيرت أوين، وشارل فورييه وسان سيمون (كتّاب في القرنين 18 و19). حاول هؤلاء الكتّاب أن يجمعوا كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة:
أ. نقد حاد للا مساواة الاجتماعية، لا سيما تلك التي تميز المجتمع البورجوازي (وهو ما يعني أوين وفورييه وسان سيمون)
ب. مخطط تنظيم مجتمع متساو، قائم على الملكية الجماعية.
بهدين الوجهين لعمل كبار الاشتراكيين الطوباويين، يشكل هؤلاء الرواد الحقيقيين للاشتراكية الحديثة. إلاّ أن ضعف نظامهم يكمن في:
أ. واقع أن المجتمع المثالي الذي يحلمون به (من هنا تعبير الاشتراكية الطوباوية) ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عبر جهد للفهم يبذله الناس وإرادة حسنة، وذلك من دونما علاقة بالتطور التاريخي الذي يؤدي إليه المجتمع الرأسمالي بالذات إلى هذا الحد أو ذاك.
ب. واقع أن تفسيرات الظروف التي ظهرت خلالها اللا مساواة الاجتماعية والتي يمكن أن تختفي خلالها، هي تفسيرات ناقصة علميا وتقوم على عوامل ثانوية (العنف، الأخلاق، المال، علم النفس، الجهل، الخ)، ولا تنطلق من المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، مشكلات التفاعل بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج.
4- ولادة النظرية الماركسية -البيان الشيوعي
في هذين الحقلين بالذات، نرى أن إرساء النظرية الماركسية في الأيديولوجية الألمانية (1845)، وخصوصا، في البيان الشيوعي (1847) الذي وضعه ماركس وإنجلز، إنما يشكل تقدما حاسما. فمع النظرية الماركسية، يتجسد الوعي الطبقي العمالي في نظرية علمية من المستوى الأرفع.
لم يكتشف ماركس وإنجلز مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فهذان المفهومان كان يعرفهما الاشتراكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من مثل المؤرخين الفرنسيين تييري وغيزو. بيد أنهما شرحا علميا أصل الطبقات، وأسباب تطور الطبقات، وواقع إمكان تفسير التاريخ الإنساني بكامله انطلاقا من مفهوم صراع الطبقات، وعلى وجه الخصوص الشروط المادية والمعنوية التي بموجبها يمكن لانقسام المجتمع إلى طبقات أن يخلي المجال لمجتمع اشتراكي خال من الطبقات.
لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأسمالية بالذات يهيء لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية التي تضمن انتصار المجتمع الجديد. لا يعود هذا المجتمع يظهر مذاك كمجرد محصلة لأحلام الناس ورغباتهم، بل كالناتج المنطقي لتطور التاريخ البشري.
هكذا يمثل البيان الشيوعي شكلا أسمى من الوعي الطبقي البروليتاري. يعلّم الطبقة العاملة أن المجتمع الاشتراكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد البورجوازية. إنه يعلمها ضرورة ألاّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة الأجور، وأن تعمل بالتالي لإلغاء العمل المأجور. يعلمها على وجه الخصوص ضرورة تشكيل أحزاب عمالية مستقلة، وأن تستكمل عملها المتمثل بمطالب اقتصادية بعمل سياسي على الصعيدين القومي والأممي.
لقد ولدت الحركة العمالية الحديثة إذا من الاندماج بين الصراع الطبقي الأولي للطبقة العاملة والوعي الطبقي البروليتاري البالغ درجته العليا من التعبير المتجسدة في النظرية الماركسية.
5- الأممية الأولى
هذا الاندماج هو مآل كل تطور الحركة العمالية الأممية بين الخمسينات والثمانينات من القرن 19.
وخلال ثورات 1848 التي هزت أركان معظم بلدان أوروبا، لم تظهر الطبقة العاملة في أي مكان، ما عدا في ألمانيا (في جمعية الشيوعيين الصغيرة، التي كان يقودها ماركس) كحزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. كانت تسير في كل مكان في ذيل الراديكالية البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنها انفصلت في فرنسا عن هذه الأخيرة إبان أيام يونيو الدامية عام 1848، دون أن تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت المجموعات الثورية التي شكلها أوغست بلانكي نواته إلى هذا الحد أو ذاك). واثر سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1848، كانت المنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي التي تطورت قبل كل شيء في معظم البلدان، باستثناء ألمانيا، حيث سمح التحريض من أجل الاقتراع العام للاسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو الجمعية العامة للشغيلة الألمان.
لقد اندمج ماركس والمجموعة الصغيرة من نصرائه اندماجا حقيقيا مع الحركة العمالية الأولية في ذلك العصر بتأسيس الأممية الأولى عام 1864، وقد هيأوا بذلك تشكيل الأحزاب الاشتراكية في معظم بلدان أوروبا. ومن قبيل المفارقة البالغة أن الأحزاب التي اجتمعت لتشكيل الأممية الأولى لم تكن أحزابا عمالية. إن تشكيل هذه الأخيرة هو الذي سمح بالتجميع القومي لمجموعات محلية ونقابية انضمت إلى الأممية الأولى.
وحين تصدعت الأممية بعد هزيمة كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون بوعي ضرورة تجمع من هذا النوع على المستوى القومي. وخلال السبعينات والثمانينات، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، تشكلت نهائيا أحزاب اشتراكية مستندة إلى الحركة العمالية الأولية في ذلك الزمن. وكانت الإستثناءات المهمة الوحيدة لهذه السيرورة هي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فالأحزاب الاشتراكية التي تشكلت فيهما في ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة نقابية كانت قد أصبحت قوية. ولم يظهر حزب العمال المستند إلى النقابات في بريطانيا إلاّ في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، ما يزال إنشاء حزب من هذا النوع هو المهمة الملحة للحركة العمالية.
6-الأشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية
يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون mutualites والأحزاب الاشتراكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية المحتومة للنضال داخل المجتمع الرأسمالي، وأن الأمر يتوقف في النهاية على عوامل متعلقة بالتراث والأحوال القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر.
أمّا التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي، بل ناتج المبادرة التي قام بها روبيرت أوين ورفاقه عام 1844 حين أسسوا أول تعاونية في روشدال في إنكلترا.
إن أهمية الحركة التعاونية لا تنكر، لا فقط لأنه يمكنها أن تكون مدرسة تسيير عمالي للاقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة، بل خصوصا لأنها يمكن أن تهيئ داخل المجتمع الرأسمالي بالذات حل واحدة من المشكلات الأكثر صعوبة في المجتمع الاشتراكي، مشكلة التوزيع. بيد أنها تنطوي في الوقت ذاته على طاقة كامنة خطيرة من المنافسة الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي مع مشاريع رأسمالية، وهي منافسة لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى نتائج مشؤومة بالنسبة إلى الطبقة العاملة وخصوصا إلى تخريب الوعي الطبقي البروليتاريا.
7- كومونة باريس
تلخص كومونة باريس كل الاتجاهات التي برزت في أصل الحركة العمالية الحديثة وفي أوائل تفتحها. لقد ولدت من الحركة العمالية الجماهيرية العفوية لا من خطة أو برنامج وضعهما حزب عمالي بصورة مسبقة، وبيّنت اتجاه الطبقة العاملة لتخفي الطور الاقتصادي الصرف من نضالها -إن الأصل المباشر للكومونة سياسي للغاية، وهو يتمثل في حذر عمال باريس تجاه البورجوازية المتهمة بنيتها تسليم المدينة للجيوش البروسية التي كانت تحاصرها- وذلك بالدمج المستمر للمطالب الاقتصادية والمطالب السياسية. حملت الطبقة العاملة للمرة الأولى على استلام السلطة السياسية، ولو على أرض مدينة واحدة. لقد عكست اتجاه الطبقة العاملة لتدمير جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الديموقراطية البورجوازية بديموقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الديموقراطية. بيّنت كذلك أنه من دون قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة التي تعبر عنها البروليتاريا في خضم معركة ثورية تظل غير كافية لضمان النصر.
*******
المراجع:
ماركس وإنجلز، البيان الشيوعي.
إنجلز، من الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية العلمية.
بير، تاريخ الاشتراكية.
ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا.
ليساغاري، كومونة باريس.
مورتون وتيت، تاريخ الحركة العمالية الإنجليزية.
أبندروت، تاريخ الحركة العمالية الأوروبية.
تومسون، تكوّن الطبقة العاملة الإنجليزية.
--------------------------------------------------------------------------------
9- إصلاحات وثورة
إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.
***
1- التطور والثورة عبر التاريخ
أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..
إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.
إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.
إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [35]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.
هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.
2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة
لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.
لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.
إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.
فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.
أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.
3- تطور الحركة العمالية الحديثة
إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.
إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.
تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).
لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.
إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.
كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.
4- الانتهازية الإصلاحية
لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.
تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.
لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).
ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.
5- ضرورة بناء حزب طليعي
تثبت التجربة هكذا العناصر الأساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة. إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاتها في نضالات طبقية بالغة الاتساع حول أهداف فورية، وإذا كان بإمكانها أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي، فلا يمكنها أن تصل تلقائيا إلى الأشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي، التي لا غنى عنها من أجل توقع المنعطفات المفاجئة للوضع الموضوعي للتمكن من إنجاز مهام الحركة العمالية التي تترتب عليها، والتي لا غنى عنها كذلك للانتصار على المناورات البورجوازية وعلى كل التأثيرات التي يمكن أن تمارسها الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة على الجماهير الكادحة.
زد على ذلك أن الحركة الجماهيرية تمر حتما بحاولات متفاوتة فالجماهير الواسعة لا تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي. إن منظمة جماهيرية تسعى للتكيف مع المستوى المتوسط من نشاط تلك الجماهير ووعيها سوف تلعب إذا دورا كابحا لتفتح النشاط الثوري الذي لا يتم إلا في فترات محددة.
لهذه الأسباب جميعا لا غنى عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة، لا غنى عن بناء حزب ثوري. هذا الحزب سوف يبقى أقليا في الأزمنة العادية، إلاّ أنه سيبقى على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم. سوف يسمح بالحفاظ على مكاسب التجربة النضالية وبنشرها في الطبقة، ويظل مشدودا نحو نضالات ثورية قادمة، ويرى في تهيئة تلك النضالات رسالته الأساسية، وهو سيسهل هكذا إلى حد بعيد حدوث الانعطافات في ذهنية الشغيلة المنظمين والجماهير الكادحة الواسعة وفي سلوكها، وهي الانعطافات التي تتطلبها التبدلات المفاجئة للوضع الموضوعي.
طبعا،لا يمكن لأحزاب طليعية كهذه أن تحل محل الجماهير للسعي وراء تحقيق ثورة اجتماعية بالنيابة عنها. «لا يمكن لتحرير الشغيلة أن يكون إلاّ على أيدي الشغيلة أنفسهم». إن كسب أغلبية الشغيلة إلى جانب برنامج الحزب الثوري واستراتيجيته وتكتيكه هو الشرط المسبق الذي لا بد منه لكي يتمكن حزب طليعي من لعب دوره بالكامل.
لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إلاّ في لحظات «حارة» من الأزمنة ما قبل الثورية أو الثورية «يشير إليها» إنفجار حركات جماهيرية عفوية ضخمة. لذا ليس من تعارض مطلق بين عفوية الجماهير وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية، فهذه الأخيرة تستند إلى تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح لها بالانتصار عن طريق تركيز كل طاقتها على النقطة الحساسة، المتمثلة بقلب السلطة السياسية والاقتصادية لرأس المال.
6- الثوريون إزاء النضال من أجل الإصلاحات
لقد تطورت، داخل شرائح أقلية في الحركة العمالية والطبقة العاملة، مواقف يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل تحقيق الإصلاحات، وذلك كرد فعل تجاه الانتهازية الإصلاحية.
إن النزعة الإصلاحية لا تتماثل إطلاقا مع النضال من أجل الإصلاحات، في نظر الماركسيين الثوريين، فالإصلاحية هي وهم إلغاء الرأسمالية تدريجيا، عن طريق مراكمة الإصلاحات. إلاّ أنه يمكن دمج المساهمة في نضالات لتحقيق إصلاحات فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضالات مناهضة لرأس المال يصل حجمها إلى حد التسبب بأزمة ثورية في المجتمع.
إن الرفض الجذري لكل نضال من أجل إنجاز إصلاحات يستتبع القبول السلبي بتردي وضع الطبقة العاملة، إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه على قلب النظام الرأسمالي بضربة واحدة. هذا الموقف هو في الوقت ذاته طوباوي ورجعي.
هو طوباوي لأنه يتجاهل أن الشغيلة المنقسمين على أنفسهم وفاقدي المعنويات، يوما بعد يوم، بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم، وعن عملهم وحرياتهم وحقوقهم الأولية، ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال طبقة اجتماعية تمتلك الثروة والتجربة السياسية، هي البورجوازية الحديثة. وهو رجعي لأنه يخدم موضوعيا قضية رأس المال وأرباب العمل الذين لهم مصلحة في خفض الأجور والإبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق الإضراب فيما لو ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إلى عبيد مكتوفي الأيدي.
يرى الماركسيون الثوريون في تحرر الشغيلة وقلب الرأسمالية نهاية مطاف حقبة من القوة التنظيمية المتزايدة لدى البروليتاريا، والتماسك والتضامن الطبقي المضاعف، والثقة المتنامية بقواها الخاصة. ولا يمكن لهذه التحولات الذاتية أن تنجم عن الدعاية وحدها أو التربية الفكرية. إنها حاصل نجاحات متراكمة إبان نضالات يومية هي النضالات من أجل الإصلاحات.
ليست الإصلاحية الناتج الآلي لتلك النضالات أو النجاحات. إنها نتيجتها في حالة واحدة تتحقق حين تمتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة إطاحة النظام، حين تمتنع عن مكافحة تأثير الأيديولوجيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية داخل الطبقة العاملة، وعن الانخراط عمليا في نضالات جماهيرية غير برلمانية معادية لرأس المال تستهدف تجاوز طور الإصلاحات.
لابد للأسباب ذاتها من أن ينشط الثوريون في النقابات الجماهيرية ويناضلوا لتقوية المنظمات النقابية لا لإضعافها.
طبعا، تكون النقابات عاجزة عادة عن الإعداد لمعارك ثورية وعن تنظيمها، فليست تلك وظيفتها، إلاّ أنها ضرورية للدفاع عن مصالح الشغيلة يوما بيوم في وجه مصالح رأس المال. إن النضال الطبقي اليومي لا يختفي، حتى في عصر انحطاط الرأسمالية، فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة، يتمتع أرباب العمل بفرص كبيرة للخروج منتصرين من تلك المناوشات اليومية. إن التشكك والحذر، من جانب الجماهير العمالية الواسعة حيال قواها الخاصة بها، اللذين ينتجان عن تجارب بائسة كهذه، يضران إلى حد بعيد بنمو وعي طبقي رفيع لدى تلك الجماهير.
يضاف إلى ذلك أن العمل النقابي لم يعد يتقوقع حتما في دائرة النضال من أجل رفع الأجور، ومن أجل خفض عدد ساعات العمل، في عصر الرأسمالية الحديثة، إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكلات اقتصادية شاملة تؤثر على مستوى حياتهم، من مثل التضخم وإغلاق المعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل ومحاولات الدولة للحد من ممارسة حق الإضراب والتفاوض الحر بخصوص الأجور، الخ… هكذا تجد النقابة نفسها مجبرة على اتخاذ موقف، عاجلا أو آجلا، من كل تلك المسائل، فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بين ما تتناول مشكلات شاملة تطرحها الرأسمالية والاشتراكية. تصبح حلبة تتواجه فيها اتجاهات مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم، لا بل لدمج النقابات في الدولة البورجوازية، واتجاهات نضال طبقي ترفض إلحاق مصالح الشغيلة بـ«مصلحة عامة» مزعومة، ليست سوى مصلحة رأس المال وقد تم تمويهها قليلا. وبما أن الثوريين المنخرطين في اتجاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن المصالح المباشرة للجمهور الكبير، في وجه محاولات حرف النقابات عن وظيفتها الأساسية، فإن لديهم حظا بالتأثير المتنامي داخل النقابات، شريطة أن يعملوا بصبر ومثابرة وألا يتخلوا عن حقل العمل الجماهيري هذا للبيروقراطيين والإصلاحيين واليمينيين من كل الأنواع.
يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيين أي لكي يضغطوا باتجاه تبني النقابات وأعضائها للاقتراحات المتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم النضالات، تلك الاقتراحات الأكثر توافقا مع المصالح الطبقية الفورية للشغيلة. إنهم لا يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك المصالح الفورية، في حين يطورون بلا انقطاع دعايتهم العامة لصالح الثورة الاشتراكية التي لا يمكن بدونها توطيد أي مكسب عمالي، ولا تقديم حل نهائي لأي مشكلة حيوية تخص الطبقة العاملة.
زد على ذلك أن البيروقراطية النقابية الأكثر فأكثر اندماجا في الدولة البورجوازية، والتي تعمد أكثر فأكثر إلى إحلال سياسة مصالحة طبقية و«سلام اجتماعي» محل مهمتها الأصلية المتمثلة بالدفاع الذي لا يلين عن مصالح أعضاء النقابات، تتولى إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل وقناعات المنتسبين إليها. إن النضال من أجل الديموقراطية النقابية والنضال من أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكاملان هكذا بصورة منطقية، في خضم المعارك اليومية.
******
المراجع:
لينين، ما العمل؟
لينين، «اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي.
روزا لوكسمبورغ، إصلاح أم ثورة؟
روزا لوكسمبورغ، الإضراب الجماهيري.
ل. تروتسكي، النقابات في مرحلة انحطاط الرأسمالية.
ج. لوكاش، لينين.
--------------------------------------------------------------------------------
10/ الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية
1- الحرية الاقتصادية والحرية السياسية
إن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية مفهومان متساويات في نظر الكثيرين ممن لا يفكرون بهذه المسألة، وهو ما تؤكده العقيدة الليبرالية على وجه الخصوص، هذه العقيدة التي تزعم اليوم اصطفافها «بجانب الحرية» في جميع الحقول، وبالطريقة ذاتها.
إلاّ أنه إذا أمكن تحديد الحرية السياسية بسهولة، بحيث لا تستتبع حرية البعض استعباد الغير، فليس الأمر هو ذاته بالنسبة للحرية الاقتصادية. إن لحظة من التفكير تبرهن أن معظم مظاهر هذه «الحرية الاقتصادية» تستتبع اللا مساواة على وجه التحديد، وحرمان جزء كبير من المجتمع من إمكانية الاستمتاع بهذه الحرية بالذات.
إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفترض أن يكون المجتمع منقسما إلى مجموعتين: مجموعة العبيد ومجموعة أسياد العبيد، وتفترض حرية تملك وسائل الإنتاج الكبرى تملكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها، إذ ما الذي يمكن أن يفعله مالك مصنع كبير لو لم يكن أحد مضطرا للعمل لحساب الغير؟
لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأسمالية المنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ حرية تشغيل الأطفال في سن العشر سنوات بالأعمال المنجمية، وحرية إجبار الشغيلة على الكد ما بين 12 و14 ساعة في اليوم، إلاّ أنهم حظروا بشدة حرية واحدة، هي حرية تجمع الشغيلة التي منعها في فرنسا قانون لوشابلييه الذي تم تبنيه في أوج الثورة الفرنسية، بحجة تحظير كل التكتلات من أصل حرفي [36].
تختفي هذه التناقضات الظاهرة في الأيديولوجية البورجوازية منذ يعاد تنظيم كامل تلك المواقف حول موضوعة مركزية واحدة، تتمثل بالدفاع عن الملكية والمصلحة الطبقية الرأسماليتين. تلك هي قاعدة الأيديولوجية البورجوازية بمجملها، لا مجرد دفاع حازم عن «مبدأ» الحرية.
يظهر هذا بوضوح أكبر في تاريخ حق التصويت، فالبرلمانية الحديثة نشأت كتعبير عن حق البورجوازية في فرض رقابتها على النفقات العامة التي تمولها الضرائب التي تتولى هي دفعها. لقد أعلنت إبان ثورة 1649 الإنكليزية أن «لا ضرائب دون تمثيل» (برلماني) [37]، واستتبع ذلك منطقيا إنكار حق الطبقات الشعبية، التي لا تدفع ضرائب، بأن تدلي بأصواتها. الا يجد ممثلوها «الديماغوجيون» أنفسهم مدفوعين للتصويت «باستمرار» لصالح نفقات جديدة، طالما يتولى دفعها آخرون؟
مجددا نقول أن ما يوجد في أساس الأيديولوجية البورجوازية ليس مبدأ مساواة كل المواطنين في الحقوق (إن حق التصويت الذي يتمتع به دافعو الضرائب يدوس هذا المبدأ بالكثير من الوقاحة) ولا مبدأ الحرية السياسية المضمونة للجميع، بل مبدأ الدفاع عن الخزانات المالية وكبار المتمولين!
2- الدولة البرجوازية في خدمة مصالح رأس المال الطبقية
هكذا لم يكن صعبا إبان القرن 19 التوجه إلى الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة البرجوازية لم تكن يوما «حيادية» في الصراع الطبقي، ولم تكن «حكما» بين رأس المال والعمل، وهي المكلفة بالدفاع عن «المصلحة العامة»، لا بل أنها مثلت أداة للدفاع عن مصالح رأس المال في وجه مصالح العمل.
لقد كان حق التصويت موقوفا على البرجوازية وحدها، ولها وحدها الحق المطلق لرفض تشغيل الشغيلة. وما أن أضرب العمال ورفضوا بمجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط التي يمليها رأس المال، حتى ووجهوا برجال الدرك أوالجيش الذين أطلقوا عليهم النار. لقد كانت العدالة عدالة طبقية بما لا يقبل الشك، فالبرلمانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار الموظفين الاستعماريين والوزراء والمطارنة كانوا ينتمون جميعا إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها، وكانوا يرتبطون فيما بينهم جميعا بالروابط ذاتها، عنينا روابط المال والمصلحة، لا بل العائلة. أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العالم الجميل!
تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة التي انطلقت فيها الحركة العمالية الحديثة، واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة، وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضالات مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية في بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا وإيطاليا، الخ.). أصبح للطبقة العاملة تمثيل واسع في البرلمان (وهي وجدت نفسها مجبرة بذلك على أن تدفع حصة أكبر من الضرائب، إلاّ أن هذه قصة أخرى). ثمة أحزاب عمالية إصلاحية تشارك في حكومات تحالف مع البرجوازية، إلاّ أنها بدأت تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلين لأحزاب اشتراكية-ديموقراطية على وجه الحصر (بريطانيا، سكاندينافيا).
مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «ديموقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما» حقيقيا و«مصالحا» للتعارضات الطبقية، أمرا مقبولا بشكل أسهل داخل الطبقة العاملة، وأنها لإحدى الوظائف الأساسية للنزعة الإصلاحية المراجعة أن تنشر تلك الأوهام بصورة واسعة. لقد كان ذلك حكرا على الاشتراكية-الديموقراطية في الماضي، إلا أنّ الأحزاب الشيوعية المنخرطة في طريق إصلاحي جديد تنشر اليوم النوع ذاته من الأوهام.
إلاّ أن الطبيعة الحقيقية للدولة البرجوازية، حتى الأكثر «ديموقراطية» تظهر للعيان حالا إذا تفحصنا في الوقت ذاته مسارها العملي والشروط المادية لهذا المسار.
إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت الجماهير الكادحة حق الاقتراع العام ودخل الممثلون العماليون إلى البرلمان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية من البرلمان إلى جهاز الدولة البرجوازي الدائم: «الوزراء يأتون ويمضون، أمّا الشرطة فتبقى».
والحال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كاملا مع البرجوازيتين الوسطى والكبرى، بالطريقة التي يتم بها اختيار قياداته، وبتلك التي ينظم تسلسله وفقا لها، وبقواعد الاختيار والمهنة التي تحكمه. ثمة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية لا تنفصم تشد هذا الجهاز إلى الطبقة البرجوازية، فكل الموظفين الكبار يقبضون معاشات تسمح لهم بمراكمة خاصة لرأس المال لا بأس بها، ولو كانت متواضعة أحيانا، وهو ما يحفز هؤلاء الأشخاص بالذات، على الصعيد الفردي، للدفاع عن الملكية الخاصة، ويثير اهتمامهم بسير الاقتصاد الرأسمالي سيرا حسنا.
يضاف إلى ذلك أن الدولة القائمة على البرلمانية البرجوازية تنشد كليا إلى رأس المال بواسطة السلاسل الذهبية للتبعية المالية والدين العام. ولا يمكن لأي حكومة برجوازية أن تحكم دون اللجوء باستمرار إلى التسليف الذي تشرف عليه المصاريف ورأس المال المالي والبرجوازية الكبرى. إن أي سياسة معادية للرأسمالية تكتفي حكومة إصلاحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب المالي والاقتصادي من جانب الرأسماليين. فـ«إضراب التثميرات»، وهرب الرساميل، والتضخم، والسوق السوداء، وهبوط الإنتاج، والبطالة، تنجم جميعها عن هذا الرد في مهلة زمنية قصيرة جدا.
إن تاريخ القرن العشرين بمجمله يؤكد استحالة استخدام البرلمان البرجوازي والحكومة المرتكزين إلى الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية استخداما منطقيا في وجه البرجوازية. فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأسمالية تصطدم سريعا بخيار مصيري: أمّا الاستسلام لقدرة رأس المال تحت تأثير الابتزاز والتهويل، أو تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وإحلال التملك الجماعي لوسائل الإنتاج محل علاقات الملكية الرأسمالية.
3- حدود الحريات الديموقراطية البورجوازية
ليس صدفة أن تكون الحركة العمالية في طليعة النضال من أجل الحريات الديموقراطية في القرنين 19 و20. فالحركة العمالية إذ تدافع عن الحريات تدافع في الوقت ذاته عن أفضل شروط ارتقائها، والطبقة العاملة هي الطبقة الأكبر عددا في المجتمع المعاصر. إن اكتساب الحريات الديموقراطية يسمح لها بأن تنظم نفسها وتضمن إلى جانبها العدد الأكبر من الناس، وترجح كفتها أكثر فأكثر في موازين القوى.
زد على ذلك أن الحريات الديموقراطية التي ثم انتزاعها في ظل النظام الرأسمالي تمثل المدرسة الفضلى للديموقراطية الجوهرية التي سوف يستمتع بها الشغيلة لاحقا، بعد إطاحة مملكة رأس المال.
يتكلم تروتسكي، وهو محق، على «خلايا الديموقراطية البروليتارية داخل الديموقراطية البرجوازية» التي تمثلها التنظيمات الجماهيرية للطبقة العاملة، وقدرة الشغيلة على عقد مؤتمراتهم وتسيير مواكبهم وتنظيم إضرابات ومظاهرات جماهيرية وامتلاكهم صحافتهم ومدارسهم ومسارحهم وصالاتهم السينمائية، الخ.
ولكن تهم معرفة حدود الديموقراطية البرلمانية البرجوازية مهما تكن متقدمة، لأن الحريات الديموقراطية تكتسب بالضبط أهمية جوهرية في نظر الشغيلة.
فالديموقراطية البرلمانية البرجوازية هي ديموقراطية غير مباشرة قبل كل شيء، يعد بالآلاف من الوكلاء فقط، أو بعشرات الآلاف (نوابا وشيوخا ومختارين وعمدا وأعضاء مجالس البلديات أو مجالس عامة، الخ) من يشاركون في ظلها بإدارة الدولة، بينما تحرم من تلك المشاركة أكثرية المواطنين الساحقة، التي تكمن سلطتها الوحيدة في وضع بطاقة الاقتراع في صندوق كل أربع سنوات أو خمس.
ثم إن المساواة السياسية في ديموقراطية برلمانية برجوازية هي مساواة شكلية لا أكثر، وليست مساواة حقيقية. فمن حيث الشكل، يتمتع الغني والفقير «بالحق» ذاته، «حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات الملايين من الفرنكات، ومن حيث الشكل يتمتع الغني والفقير بـ«الحق» ذاته، حق شراء فترة ظهور على شاشة التلفزيون، وبـ«القدرة» ذاتها في التأثير على الناخبين. إلاّ أنه لما كانت الممارسة العملية لتلك الحقوق تفترض مسبقا تحريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغير الغني وحسب أن يتمتع بها كليا. سوف ينجح الرأسمالي في التأثير على عدد كبير من الناخبين الذين يرتبطون به ماديا، وفي شراء صحف ومحطات إذاعة أو فترات بث تلفزيوني، بفضل إمكاناته المالية. سوف «يقبض على ناصية» برلمانيين وحكومات بقوة رأسماله.
حتى لو طرحنا جانبا في نهاية المطاف كل هذه الحدود التي تقف عندها الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، ولو افترضنا خاطئين أنه لا ينقصها شيء، يبقى أنها ليست أكثر من ديموقراطية سياسية. لكن ما نفع مساواة سياسية بين الغني والفقير -وهي مساواة لا علاقة لها بالواقع- إذا كانت تتطابق في الوقت ذاته مع لامساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة، لا تنفك تتعاظم، وذلك منذ أكثر من نصف قرن، لا بل منذ أكثر من قرن؟ حتى لو كان الأغنياء والفقراء يتمتعون بالحقوق السياسية ذاتها، فالأولون يحتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية عظيمة لا يمتلكها الأخيرون، سلطة تخضع الأخيرين للأولين حتما في الحياة اليومية.
4- القمع والديكتاتوريات البرجوازية
إن الطبيعة الطبقية للدولة المرتكزة إلى الديموقراطية البرلمانية البرجوازية تبدو واضحة تماما حين نتفحص دورها القمعي. فنحن نعرف ما لا يحصى من النزاعات الاجتماعية التي تدخل فيها رجال الشرطة والدرك والجيش بغية «تحطيم» فرق إضراب، وتفريق مظاهرات عمالية، وإخلاء معامل يحتلها الشغيلة وإطلاق النار على المضربين، بينما لا نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو جيش البرجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عمالا، أو لمساعدة شغيلة على احتلال معامل أغلقها رأس المال، أو لإطلاق النار على برجوازيين ينظمون غلاء المعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضريبي.
سوف يرد المدافعون عن الديموقراطية البرجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة «القانون» في كل الحالات آنفة الذكر، وأنهم كانوا يهددون «النظام العام» الذي يفترض بقوى القمع أن تدافع عنه. أمّا نحن فنجيب بأن ذلك يؤكد تماما أن «القانون» ليس حياديا على الإطلاق، بل هو قانون برجوازي يحمي الملكية الرأسمالية، وأن قوى القمع في خدمة تلك الملكية، لذا فهي تتصرف بصورة مختلفة جدا حسبما يكون العمال، أو الرأسماليون هم الذين يقترفون انتهاكات شكلية بحق «القانون»، وأنه لا شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع البرجوازي قبل كل شيء الذي تتسم به الدولة.
لا تلعب أجهزة القمع في الظروف العادية أكثر من دور هامشي في الحفاظ على النظام الرأسمالي، لا سيما أن هذا النظام يحظى باحترام فعلي، في الحياة اليومية، من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة. إلاّ أن الأمر يختلف كليا في فترات الأزمات الحادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو مالية)، حين يكون النظام الرأسمالي عرضة لهزات عميقة، وحين تبدي الطبقات الكادحة إرادتها في إسقاط النظام، أو حين لا يعود هذا الأخير قادرا على العمل بشكل طبيعي.
إذ ذاك يتصدر القمع المسرح السياسي، وتظهر الطبيعة الأساسية للدولة البرجوازية فجأة بكل عريها: مجموعة من الناس المسلحين في خدمة رأس المال. هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية في تاريخ المجتمعات الطبقية: فكلما كان هذا المجتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين، وكلما كان عديم الاستقرار تهزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن يمارس السلطة السياسية عن طريق العنف الصريح.
هكذا نلاحظ أن تاريخ القرنين 19 و20 هو تاريخ العديد من تجارب القمع، تمارسها الديكتاتوريات البرجوازية ضد الحريات الديموقراطية للشغيلة، سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية، إلاّ أنّ الديكتاتورية الفاشية هي الشكل الأكثر شراسة وهمجية للديكتاتورية الموضوعة في خدمة رأس المال الكبير.
تتميز هذه الديكتاتورية على وجه الخصوص بكونها لا تكتفي بإلغاء الحريات المتعلقة بالمنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة، بل تسعى كذلك إلى تحطيم كل شكل من أشكال التنظيم الجماعي لدى الشغيلة، ومن أشكال مقاومتهم، بما فيها النقابات وأشكال الإضرابات الأكثر بدائية. إنها تتميز كذلك بواقع أن محاولة تذرير الطبقة العاملة لا يمكن أن تحضى بالفعالية عن طريق الاستناد فقط إلى جهاز القمع التقليدي (الجيش والدرك والشرطة والقضاة)، بل هي تحتاج إلى عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي الأخرى عن حركة جماهيرية، هي حركة البرجوازية الصغيرة المفقرة، التي أيأستها الأزمة والتضخم، والتي لم تفلح الحركة العمالية في جرها إلى خندقها عبر سياسة هجوم جريئة في مواجهة رأس المال.
ولا يمكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتين إزاء صعود الفاشية، بل عليهما أن تستميتا في الدفاع عن حرياتهما الديموقراطية. لذا عليهما أن تشكلا جبهة موحدة تضم كل المنظمات العمالية، بما فيها أكثرها إصلاحية واعتدالا، من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال في البيضة. عليهما أن يخلقا وحداتهما للدفاع الذاتي في وجه عصابات رأس المال المسلحة، وإلاّ يثقا بحماية الدولة البرجوازية. إن الطريق من أجل الحؤول دون الهمجية الفاشية المؤدية إلى معسكرات الاعتقال والمذابح وعمليات التعديب، من بوشنفالد إلى أوشويتز، إنما تكمن في بناء المليشيات العمالية المستندة إلى جماهير الشغيلة، بحيث تضم كل المنظمات العمالية وتمنع أي محاولة فاشية لإرهاب قطاع من القطاعات الجماهيرية أو لكسر إضراب واحد، أو لـ«تخريب» ندوة واحدة لمنظمة عمالية. إن أي نجاح على هذا الطريق يسمح للجماهير الكادحة بالانتقال بجزم إلى الهجوم المضاد وإلى الإجهاز على الخطر الفاشي، وفي الوقت ذاته على النظام الرأسمالي الذي أطلقه وغذاه.
5- الديموقراطية البروليتارية
إن الدولة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية البروليتارية التي يريد الماركسيون أن يحلوها محل الدولة البرجوازية التي تظل في المحصلة النهائية ديكتاتورية البرجوازية حتى وهي تتلبس الشكل الأكثر ديموقراطية، إنما تتميز بتوسيع الحريات الديموقراطية الفعلية لجمهور المواطنين الكادحين لا بالحد منها. لا بد من التذكير بشدة بهذا المبدأ الأساسي، لاسيما بعد التجربة المريعة للستالينية التي دمرت مصداقية الإيمان الديموقراطية التي أقسمتها الأحزاب الشيوعية الرسمية.
سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدول المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما سوف توسع من مساحة الديموقراطية المباشرة. سوف تكون دولة تشرع بالزوال منذ ولادتها، عن طريق تسليم ميادين كاملة من النشاط الاجتماعي إلى التسيير الذاتي والإدارة الذاتية للمواطنين المعنيين (البريد والمواصلات السلكية والصحة والتعليم والثقافة، الخ)، وتشرك جمهور الشغيلة المنظمين في مجالس عمالية في ممارسة السلطة مباشرة، عن طريق إلغاء الحدود الوهمية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. كما سوف تلغي الاحتراف من الحياة العامة عبر الحد من أجور الموظفين، بمن فيهم من هم في أعلى المناصب، حيث لا تزيد عن أجرة العامل المتخصص المتوسط، وتعيق تشكيل فئة مغلقة جديدة من المدراء -مدى- الحياة عبر إدخال مبدأ التناوب الإلزامي إلى كل انتداب للسلطة.
سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما ستخلق القواعد المادية لممارسة الجميع للحريات الديموقراطية. تصبح المطابع ومحطات الإذاعة والتلفزيون وقاعات الاجتماع ملكية جماعية وتوضع تحت التصرف الفعلي لكل مجموعة من الشغيلة تطلبها. إن حق خلق العديد من المنظمات السياسية، بما فيها المنظمات المعارضة، وخلق صحافة معارضة، والسماح للأقليات السياسية بالتعبير عن آرائها عبر الصحافة والاداعة والتلفزيون، هذا الحق سوف تدافع عنه المجالس العمالية دفاع المستميت. أمّا التسليح العام للجماهير الكادحة وإلغاء الجيش الدائم وأجهزة القمع، وانتخاب القضاة، والعلنية التامة لكل المحاكمات، فسوف تكون الضمانة الأقوى للحيلولة دون تمكن أي أقلية من ادعاء حق استبعاد أي مجموعة من المواطنين الكادحين من ممارسة الحريات الديموقراطية.
*******
مراجع:
كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا.
لينين، الدولة والثورة.
لينين، الثورة البروليتارية، والمرتد كاوتسكي.
ل. تروتسكي، كتابات عن ألمانيا.
المؤتمر الخامس للأممية الرابعة: موضوعات حول انحدار الستالينية وسقوطها (تضم وصفا مفصلا لمؤسسات الديموقراطية البروليتارية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا).
--------------------------------------------------------------------------------
11/ الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية
إن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد مثل الإشارة الأكثر وضوحا إلى أن الرأسمالية قد دخلت في طور انحدارها، فكل ما استطاعت أن تؤدي إليه من تقدم للبشرية يتعرض مذ ذاك للتهديد. يتم تدمير دوري لموارد مادية عظيمة: الحرب العالمية، الأزمة الاقتصادية لأعوام 1929-1932، الحرب العالمية الثانية، الحروب الإستعمارية، والعديد من أزمات الركود الاقتصادي. إن استمرار الرأسمالية على قيد الحياة ينتهي إلى مجازر حقيقية للأرواح البشرية. والديكتاتوريات الدامية، أكانت عسكرية أو فاشية، تأخذ في طريقها مكتسبات الثورات الديموقراطية البرجوازية الكبرى. إن البشرية أمام خيار مصيري فأما الاشتراكية وأمّا الهمجية.
***
1- الحركة العمالية العالمية حيال الحرب الإمبريالية
خلال العقد الذي سبق عام 1914، اجتهدت الأممية الاشتراكية وكل الحركة العمالية الأممية في تربية الجماهير الكادحة وتعبئتها ضد صعود تهديدات الحرب. فسباق التسلح وتزايد النزاعات «المحلية» وتفاقم التناقضات في الصفوف الإمبريالية أنذرت بالانفجار الوشيك. لقد ذكرت الأممية الشغيلة من كل البلدان بأن مصالحهم مشتركة وأنه ليس عليهم أن يتحملوا أعباء الخصومات المقرفة بين المالكين، وهي خصومات لأجل اقتسام الأرباح المنهوبة من البروليتاريين ومن شعوب العالم المستعمرة.
بيد أنه حين انفجرت الحرب عام 1914 ألقت القيادات الاشتراكية-الديموقراطية السلاح أمام الموجة الشوفينية التي أطلقتها البورجوازية. لقد التحقت كل منها بمعسكر«ها» الإمبريالي ضد معسكر خصوم برجوازيتها الخاصة بها، ولم تنقصها الأعذار. فالأمر كان يتعلق بالنسبة للقادة الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان والنمساويين بحماية الشعوب ضد همجية «الحكم القيصري المطلق»، بينما اعتبر القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون البلجيكيون والفرنسيون والبريطانيون أن النضال ضد «العسكرية البروسية» يتقدم على كل شيء.
إن الاصطفاف الشوفيني في كلا المعسكرين إلى جانب الدفاع القومي عن «الوطن» الإمبريالي قد استتبع وقف الدعاية الاشتراكية الثورية ضد العسكرية، لا بل وقف كل دفاع عن المصالح الطبقية للشغيلة، حتى المباشرة منها. تم إعلان «الوحدة المقدسة» للبروليتاريين والرأسماليين إزاء «العدو الأجنبي». لكن لما كانت تلك «الوحدة المقدسة» والحرب التي خيضت تحت رايتها لم تعدلا في شيء من الطبيعة الرأسمالية، أي الاستغلالية، للاقتصاد والمجتمع، فلقد استتبعت النزعة الاشتراكية-الوطنية القبول العملي لتفاقم ظروف معيشة العمال وشروط عملهم، وللثراء الفاحش للتروستات وغيرها من المستفيدين الرأسماليين من الحرب.
2- الحرب الإمبريالية تصب في الأزمة الثورية
مذ ذاك كان على تناقضات الاشتراكية-الوطنية أن تنفجر سريعا، فالقادة الاصلاحيون الأكثر مكرا برروا مواقفهم بكون الجماهير مؤيدة للحرب وبأن حزبا عماليا جماهيريا عاجز عن الوقوف في وجه المشاعر الشعبية المهيمنة. بيد أنه سرعان ما مالت المشاعر الجماهيرية المهيمنة نحو الاستياء، ومعارضة الحرب، والتمرد. إلاّ أن القادة الاشتراكيين-الوطنيين الألمان من أمثال شايدمان ونوسكي، والفرنسيين من أمثال رونوديل وجول غيسر، لم يفعلوا شيئا حينذاك من أجل «التكيف مع المشاعر المهيمنة داخل الطبقة العاملة». لا بل حاولوا على العكس أن يتحاشوا بجميع الوسائل انفجار الإضرابات والمظاهرات الجماهيرية، داخلين في حكومات تحالف مع البرجوازية، مساعدينها على قمع الدعاية المعادية للنزعة العسكرية والداعية للإضرابات والثورة، مخربين تطور النضالات العمالية. وحين انفجرت بعض الثورات عاد القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون، الذين كانوا أيدوا المجازر بحق ملايين الجنود لمصلحة الخزنات المالية، فاكتشفوا من جديد، فجأة، ميلا إلى السلام في أعماقهم وهو ما دفعهم إلى الابتهال إلى العمال كي لا يلجأوا إلى العنف ولا يكونوا سببا في اهراق المزيد من الدماء.
أمّا في بدء الحرب، حين كانت الجماهير مرتبكة بفعل الدعاية البرجوازية وخيانة قيادات تلك الجماهير بالذات، فلم تبق إلاّ قبضة من الاشتراكيين الثوريين أمينة للأممية البروليتارية، رافضة أن تخلط الرايات مع بورجوازية بلدانها. بين هؤلاء الثوريين كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ في ألمانيا، مونات وروزمير في فرنسا، لينين وقسم من البلاشفة وتروتسكي ومارتوف في روسيا، والحزب الاشتراكي الديموقراطي في هولندا وماك لين في بريطانيا، ودبس في الولايات المتحدة. كما أن أغلبية الحزب الاشتراكي الديموقراطي في إيطاليا والصرب وبلغاريا حافظت على مواقف أممية.
لقد سقطت الأممية الاشتراكية إلى الحضيض، وعاد الأمميون إلى التجمع في البدء في مؤتمري زيمرفالد (1915) وكينتال (1916)، إلاّ أنهم انقسموا مع ذلك إلى تيارين: التيار الوسطي الذي كان يرغب في الواقع أن يعيد بناء أممية معاد توحيدها مع الاشتراكيين-الوطنيين، والتيار الثوري الذي اتجه نحو تشكيل الأممية الثالثة.
إن لينين، الذي كان روح اليسار الزيمرفالدي، أرسى تحليلاته على اليقين بأن الحرب ستفاقم كل التناقضات داخل النظام الإمبريالي وتؤدي إلى أزمة ثورية واسعة المدى. كان بوسع الأمميين أن يتصوروا ضمن هذا المنظور قلبا مشهودا لموازين القوى بين أقصى اليسار في الحركة العمالية ويمينها.
تلك التوقعات تأكدت منذ عام 1917، فلقد انفجرت الثورة الروسية في مارس من ذلك العام، وانفجرت الثورة في نوفمبر من العام التالي في ألمانيا وفي النمسا-هنغاريا. وفي العامين 1919-1920 شهدت إيطاليا صعودا ثوريا عظيما لا سيما في مناطق الشمال الصناعية. كما اتسع الشرخ بين الاشتراكيين-الوطنيين والأمميين ليصبح شرخا بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الرافضين قطع علاقتهم بالدولة البرجوازية وبالرأسمالية، والشيوعيين الميممين وجههم شطر انتصار الثورة البروليتارية وجمهوريات المجالس العمالية. لقد تبنى الأولون موقفا معاديا للثورة بصورة جذرية منذ هددت الجماهير أركان البرجوازية.
3- ثورة فبراير 1917 في روسيا
في فبراير 1917 (مارس حسب التقويم الغربي) تهاوت الاستبدادية القيصرية تحت الضريات المزدوجة لانتفاضات الجوع العمالية، ولتفكك الجيش، أي للمعارضة المتنامية للحرب داخل طبقة الفلاحين. لقد كان وراء إخفاق ثورة 1905 الروسية غياب التلاحم بين الحركة العمالية وحركة الفلاحين، من هنا كان توفر ذلك التلاحم عام 1917 ذا نتائج قاصمة بالنسبة للقيصرية.
لقد لعبت الطبقة العاملة الدور الأساسي في الأحداث الثورية التي تفجرت في فبراير 1917. إلاّ أن افتقادها لقيادة ثورية جعلها تحرم من ثمار انتصارها، فالسلطة التنفيذية التي انتزعت من القيصرية تم تسليمها لحكومة مؤقتة تجمع الأحزاب البرجوازية، وفي مقدمتها حزب الكاديت (الديموقراطيين-الدستوريين)، إلى المجموعات المعتدلة داخل الحركة العمالية (المناشفة والاشتراكيين-الثوريين).
بيد أن حركة الجماهير كانت قوية إلى حد أنها استطاعت امتلاك بنية تنظيمية خاصة بها، تمثلت بمجالس (سوفييتات) مندوبي العمال والجنود والفلاحين يسندها حراس حمر مدججون بالسلاح. هكذا شهدت روسيا منذ فبراير 1917 نظام ازدواجية سلطة فعلية. ففي وجه الحكومة المؤقتة التي تقف على رأس جهاز دولة برجوازية في حالة تفكك بطيء كان هنالك شبكة من السوفييتات تبني سلطة دولة عمالية يوما بعد يوم.
قدمت الأحداث هكذا برهانا ساطعا على صحة التوقع الذي صاغه ليون تروتسكي منذ نهاية ثورة 1905 الروسية، والذي رأى أن روسيا سوف تكتسحها السوفييتات في ثورتها القادمة. كان على الماركسيين الروس والعالميين أن يعيدوا النظر هكذا بتحليلهم للطبيعة الاجتماعية للثورة الروسية القائمة.
هؤلاء الماركسيون كانوا قد اعتبروا أن الثورة الروسية سوف تكون ثورة برجوازية، ذلك أنه لما كانت روسيا بلدا متخلفا فقد بدا لهم أن المهام الأساسية التي على تلك الثورة أن تحلها شبيهة بمهمات الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في القرنين 18 و19، تختصرها شعارات إطاحة الحكم الاستبدادي المطلق، وانتزاع الحريات الديموقراطية والدستور، وتحرير الفلاحين من الرواسب نصف الاقطاعية، وتحرير القوميات المضطهدة وخلق سوق قومية موحدة لضمان الازدهار السريع للرأسمالية الصناعية الذي لا بد منه من أجل تهيئة انتصار ثورة اشتراكية لاحقة. وقد نجم عن ذلك استراتيجية تحالف بين البرجوازية الليبرالية والحركة العمالية، بحيث تكتفي الأخيرة بالنضال من أجل أهداف طبقية مباشرة (يوم عمل من ثماني ساعات، حرية التنظيم والإضراب، الخ.)، في حين تدفع البرجوازية لتستكمل بصورة أكثر جذرية عمل ثورتـ«ها».
لقد رفض لينين هذه الاستراتيجية عام 1905، وذكر بتحليل ماركس لمسلك البرجوازية منذ ثورة 1848، فحين ظهرت البروليتاريا على المسرح السياسي انزلقت البرجوازية إلى المعسكر المضاد للثورة، خوفا من الثورة العالمية. وهو لم يعدل تحليل المهام التاريخية للثورة الروسية، كما صاغها الماركسيون الروس من قبل، إلاّ أنه استنتج من الطابع المعادي للثورة بوضوح، الذي اتخذه مسلك البورجوازية، استحالة إنجاز تلك المهام عن طريق تحالف بين البرجوازية والبروليتاريا. من هنا فهو أحل محل ذلك فكرة التحالف بين البروليتاريا والفلاحين.
4- نظرية الثورة الدائمة
لقد تصور لينين هذه «الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين» على قاعدة اقتصاد لا يزال رأسماليا وفي إطار دولة لم تزل بورجوازية.
أمّا تروتسكي فقد لاحظ ضعف هذا التصور الكامن في عجز الفلاحين المزمن (الذي وافق عليه لينين بعد عام 1917) عن التشكل في قوة سياسية مستقلة. فعلى امتداد التاريخ الحديث بمجمله تلتحق طبقة الفلاحين على الدوام بقيادة بورجوازية أو بقيادة بروليتارية. فإذا كانت البورجوازية سوف تنتقل حتما إلى معسكر الثورة المضادة، يتوقف مصير الثورة على قدرة البروليتاريا على اكتساب الهيمنة السياسية داخل الحركة الفلاحية، وإرساء التحالف بين العمال والفلاحين بقيادتها هي. بتعبير آخر، لم يكن في وسع الثورة الروسية أن تنتصر وتنجز مهامها الثورية إلاّ إذا استولت البروليتاريا على السلطة السياسية واقامت دولة عمالية، مستندة إلى التحالف مع الفلاحين الكادحين.
تعلن نظرية الثورة الدائمة هكذا أن المهام التاريخية للثورة الديموقراطية-البورجوازية (الثورة الزراعية، الاستقلال القومي، الحريات الديموقراطية، توحيد البلاد لأجل إفساح المجال أمام ازدهار الصناعة) في عصر الإمبريالية لا يمكن أن تتحقق إلاّ عن طريق إرساء ديكتاتورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين الكادحين، وذلك لأن روابط لا تحصى تشد البورجوازية المسماة «قومية» أو «ليبرالية» في البلدان المتخلفة إلى الإمبريالية الأجنبية من جهة، وإلى الطبقات المالكة القديمة من جهة أخرى. إن هذا التوقع الذي صاغه تروتسكي عام 1906 قد تأكدت صحته كليا في مجرى ثورة 1917 الروسية، كما تأكد كذلك في مجرى كل الثورات التي انفجرت مذ ذاك، في البلدان المتخلفة.
5- ثورة أكتوبر 1917
إن لينين العائد إلى روسيا من المهجر لمِس لمْس اليد الإمكانات الثورية العظيمة، فأعاد توجيه الحزب البلشفي عن طريق «موضوعات أبريل» ضمن خط نظرية الثورة الدائمة: ينبغي النضال من أجل استلام السوفييتات للسلطة، ومن أجل إرساء ديكتاتورية البروليتاريا. هذا الموقف الذي طعن فيه في البدء القادة البلاشفة القدامى (ومن بينهم ستالين وكامينيف ومولوتوف) الذين تمسكوا بصيغ عام 1905، وكانوا يرغبون بالتوحد مجددا مع المناشفة وبتقديم دعم نقدي للحكومة المؤقتة، سرعان ما وافق عليه مجمل الحزب، لا سيما تحت ضغط العمال البلاشفة الطليعيين الذين تبنوه تلقائيا حتى قبل أن يصوغه لينين بصورة واعية. هكذا اندمج أنصار تروتسكي مع البلاشفة، وهبوا جميعا لكسب أغلبية الشغيلة.
بعد تطورات عديدة (انتفاضة يوليوز المبكرة، والانقلاب الفاشل المعادي للثورة الذي قام به الجنرال كورنيلوف في غشت) تحولت تلك الأغلبية لصالح البلاشفة في سوفييتات المدن الكبرى منذ شتنبر 1917. مذ ذاك وضع النضال من أجل الاستيلاء على السلطة على جدول الأعمال. وهو ما تحقق في أكتوبر (نونبر حسب التقويم الغربي) بقيادة اللجنة العسكرية الثورية لمدينة بتروغراد، التي كان يرأسها تروتسكي وتنبثق من سوفييت تلك المدينة.
نجح ذلك السوفييت في أن يضمن مسبقا ولاء كل الفيالق تقريبا، المتمركزة داخل العاصمة القيصرية القديمة، فلقد رفضت تلك الفيالق أن تطيع هيئة أركان الجيش البورجوازي. هكذا رأينا أن الانتفاضة التي تطابق موعدها مع موعد انعقاد المؤتمر الثاني للسوفييتات لعموم روسيا تحققت تقريبا دون اهراق الدماء. تهاوى إلى الحضيض جهاز الدولة القديم والحكومة المؤقتة، بينما صوت المؤتمر الثاني للسوفييتات بأغلبية كبرى على انتقال السلطة لسوفييتات العمال والفلاحين، وللمرة الأولى في التاريخ أقيمت على كامل أرض بلد كبير دولة تتخذ مثالا لها كومونة باريس، دولة عمالية.
6- تحطيم الرأسمالية في روسيا
توقع تروتسكي في نظريته عن الثورة الدائمة أنه لا يمكن للبروليتاريا، بعد أن تستولي على السلطة، الاكتفاء بتحقيق المهام التاريخية للثورة الديموقراطية-البرجوازية، بل يكون عليها أن تبادر إلى الاستيلاء على المعامل وإلغاء الاستغلال الرأسمالي والبدء ببناء مجتمع اشتراكي. وهو ما حدث بالفعل في روسيا بعد أكتوبر 1917.
فبرنامج الحكومة التي تولت السلطة في المؤتمر الثاني للسوفييتات اكتفى للوهلة الأولى بإقامة الرقابة العمالية على الإنتاج، على أساس أن المهام الفورية لثورة أكتوبر هي قبل كل شيء إعادة السلام وتوزيع الأراضي وحل المسألة القومية وخلق سلطة سوفياتية حقيقية على كامل الأراضي الروسية.
إلاّ أن البورجوازية ما لبثت أن بدأت تخرب تطبيق سياسة السلطة الجديدة. أمّا العمال الذين وجدوا أنفسهم أقوى فلم يتسامحوا مع استغلال الرأسماليين، ولا مع تخريبهم. هكذا تم الانتقال سريعا من إرساء الرقابة العمالية إلى تأميم المصارف والمعامل الكبرى ووسائط النقل. وسرعان ما أصبحت كل وسائل الإنتاج -ما خلا تلك العائدة إلى الفلاحين وصغار الحرفيين- بين أيدي الشعب.
كان على تنظيم اقتصاد قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج أن يصطدم حتما بالعديد من الصعوبات في بلد شديد التخلف حيث لم تكن الرأسمالية قد أنجزت ولو من بعيد مهمة خلق الأسس المادية للاشتراكية، وكان البلاشفة واعين هذه الصعوبة وعيا تاما. إلاّ أنهم كانوا على قناعة بأنهم لن يبقوا معزولين لمدة طويلة، فالثورة البروليتارية كانت على وشك الاندلاع في العديد من البلدان المتقدمة صناعيا، ولاسيما في ألمانيا. إن الاندماج بين الثورة الروسية والثورة الألمانية والثورة الإيطالية كان قادرا على خلق قاعدة انطلاق مادية لا تتزعزع لبناء مجتمع لا طبقي.
لقد برهن التاريخ على أن تلك الآمال لم تكن من دون أساس، فالثورة انفجرت عمليا في ألمانيا، وكانت إيطاليا في وضع شبيه جدا بين عامي 1919 و1920. وقد لعبت الثورة الروسية دورها كمفجر ونموذج محفز للثورة الاشتراكية العالمية. إن الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس الأوروبيين الذين سخروا فيما بعد معتبرين أن «أحلام» لينين وتروتسكي حول الثورة العالمية كانت من دون أساس، وأنه محكوم على الثورة الروسية أن تنعزل، وأنه من قبيل الطوباوية التفكير ببناء اقتصاد اشتراكي في بلد متخلف، إنما ينسون أن هزيمة الصعود الثوري لعامي 1919-1920 في أوروبا الوسطى لم تكن ناجمة إطلاقا عن غياب النضالات أو العنفوان الثوري لدى الجماهير، بل عن الدور المضاد للثورة الذي لعبته الاشتراكية-الديموقراطية العالمية عن سابق تصور وتصميم.
بهذه المعنى، فإن لينين وتروتسكي ورفاقهما بقيادتهم لبروليتاريا بلد أول نحو الاستيلاء على السلطة السياسية، فعلوا الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله ماركسيون ثوريون لتعديل موازين القوى لصالح طبقتهم، ألا وهو الاستغلال العميق للفرص الأكثر مناسبة التي توجد في بلد من البلدان، من أجل إطاحة سلطة رأس المال. وهذا لا يكفي بحد ذاته لتقرير مصير الصراع الأممي بين رأس المال والعمل، إلاّ أنه يشكل في كل حال الوسيلة الوحيدة للتأثير على مصير هذا الصراع في اتجاه ملائم لمصالح البروليتاريا.
*******
المراجع:
لينين، خطتا الاشتراكية-الديموقراطية.
لينين، الكارثة المحدقة وكيف نواجهها.
لينين، هل يحتفظ البلاشفة بالسلطة؟
روزا لوكسمبورغ، كراس جونيوس.
روزا لوكسمبورغ، الثورة الروسية.
ليون تروتسكي، تصورات ثلاثة للثورة الروسية/ خطاب كوبنهاغن (1932). (وهما ملخصان لنظرية الثورة الدائمة)
ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية.
ليون تروتسكي، الثورة الدائمة.
--------------------------------------------------------------------------------
12/ الستالينية
1- إخفاق الصعود الثوري لأعوام 1918-1923 في أوروبا
عام 1918 انفجرت الثورة العالمية التي انتظرتها البروليتاريا الروسية والقادة البلاشفة، وأقيمت مجالس عمال وجنود في ألمانيا والنمسا. وفي هنغاريا أعلن في مارس 1919 قيام جمهورية المجالس، وفي بافيير خلال شهر أبريل 1919. أما العمال في شمالي إيطاليا، الذين كانوا في حالة غليان متنامية منذ عام 1919 فقد احتلوا كل المصانع في أبريل 1920. واكتسحت تيارات ثورية بلدانا أخرى، من مثل فنلندا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وبلغاريا. بدت مقدمات إضراب عام في هولندا، بينما أقام العمال في بريطانيا العظمى «التحالف الثلاثي» للنقابات الثلاث الكبرى في البلاد، الذي زعزع أركان الحكم.
إلاّ أن هذه الموجة الثورية انتهت بالإخفاق، وقد كان وراء ذلك الإخفاق الأسباب التالية:
إن روسيا السوفييتات كانت تمزقها الحرب الأهلية، فالملاكون العقاريون القدامى والضباط القيصريون، يدعمهم الرأسماليون الروس والأجانب، حاولوا أن يقلبوا بقوة السلاح أول جمهورية للعمال والفلاحين. من هنا لم يكن بوسع سلطة السوفييتات أن تقدم إلاّ عونا ماديا وعسكريا محدودا للثورات الأوروبية، التي كانت تقاتلها الجيوش الإمبريالية كافة.
لم تتردد الاشتراكية-الديموقراطية العالمية في الانضمام إلى معسكر الثورة المضادة، ساعية بكل أنواع الوعود والمخادعات الممكن تصورها (وعدت في ألمانيا منذ فبراير 1919 بالتشريك الفوري للصناعات الكبرى، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق) أن تحرف الشغيلة عن النضال لأجل السلطة. كما لم تتردد كذلك في تنظيم العنف المعادي للثورة، لا سيما عن طريق تنظيم الفرق غير النظامية التي دعاها نوسكي للنجدة في مواجهة الثورة الألمانية، ولقد كانت تلك الفرق نواة العصابات النازية لاحقا.
إن الأحزاب الشيوعية الفتية التي أسست الأممية الثالثة كانت تنقصها التجربة والنضج فاقترفت العديد من الأخطاء «اليسارية» أو اليمينية.
إن البورجوازية التي أرعبها شبح الثورة قدمت تنازلات اقتصادية مهمة للشغيلة دفعة واحدة، لاسيما يوم العمل من ثماني ساعات والاقتراع العام في بلدان عدة، وهو ما أوقف الصعود الثوري في العديد من تلك البلدان.
لقد انتهت الاخفاقات الأولى للثورة بهزائم دامية في هنغاريا حيث رافق سحق جمهورية المجالس اهراق دم غزير، كما في إيطاليا حيث استولت الفاشية على السلطة عام 1922. إلاّ أن الحزب الشيوعي في ألمانيا تقوّى تدريجيا واكتسب قاعدة جماهيرية أكثر فأكثر اتساعا، وانطلق في العامين 1922-1923 لكسب النقابات الكبرى ومجالس المشاريع.
ولقد كان عام 1923 عام أزمة ثورية استثنائية في البلد المذكور، فالجيش الفرنسي احتل الروهر، وتفاقم التضخم، وانفجر إضراب عام ظافر نجح في قلب الحكومة، كما تشكلت حكومة تحالف بين الاشتراكيين اليساريين والشيوعيين في ساكس وتورينج. إلاّ أن الحزب الشيوعي الذي أساءت الأممية الشيوعية نصحه فشل في التنظيم المنهجي للانتفاضة المسلحة في اللحظة المناسبة، فاستطاع رأس المال الكبير أن يعيد تثبيت الوضع واستقرار المارك، وأن يعيد إلى السلطة تحالفا بورجوازيا، مما أدى إلى وضع حد للأزمة الثورية لما بعد الحرب.
2- صعود البيروقراطية السوفياتية
لقد خرجت روسيا السوفياتية منتصرة من الحرب الأهلية عام 1920-1921، إلاّ أنها خرجت منهكة من تلك الحرب، فالإنتاج الزراعي والصناعي انخفض بشكل ذريع وأصابت المجاعة مناطق واسعة من البلاد. وبانتظار صعود جديد للثورة العالمية، ومن أجل تقديم العلاج لهذا الوضع، قرر لينين وتروتسكي القيام بتراجع اقتصادي. فلقد أبقى على الملكية المؤممة بما يخص الصناعة الكبرى بمجملها والمصارف ونظام النقل، إلاّ أنه أعيدت حرية التجارة بصدد الفوائض الزراعية بعد تمام دفع الضريبة العينية، بالإضافة إلى الأعمال الحرفية والتجارة والطناعية الصغيرة الخاصة.
كان البلاشفة ينظرون إلى ذلك على أنه مجرد عمل مؤقت حسبوا مخاطره على الصعيد الاقتصادي، إذ أنه كان بإمكان البرجوازية الصغيرة المغتنمة أن تعيد باستمرار إنتاج التراكم الرأسمالي الخاص. إلاّ أن النتائج الاجتماعية والسياسية لانعزال الثورة البروليتارية في بلد متخلف كانت أكثر رهبة من تلك المخاطر الاقتصادية. وهي تتلخص كالتالي: لقد فقدت البروليتاريا الروسية يوما بعد يوم الممارسة المباشرة للسلطة السياسية والاقتصادية. بدأت شريحة جديدة ذات امتيازات تعتلي ظهرها، وقد اكتسبت هذه البيروقراطية احتكارا حقيقيا لممارسة السلطة في كل حقول المجتمع.
لم تكن تلك السيرورة نتيجة مؤامرة عن سابق تصور وتصميم، بل نجمت عن تفاعل مجموعة من العوامل. فلقد ضعفت البروليتاريا عدديا بفعل انخفاض الإنتاج الصناعي والنزوح إلى الريف، كما فقدت تسيسها جزئيا تحت وطأة الجوع والحرمانات. أمّا عناصرها الأكثر وعيا فامتصها الجهاز السوفياتي، وكان الكثير من أفضل أفرادها قد سقطوا في الحرب الأهلية. إن تلك الفترة المضطربة بمجملها لم تكن مناسبة لتكوين الكادرات المتميزة تقنيا وثقافيا داخل الطبقة العاملة. هكذا احتفظت الأنتليجنسيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية باحتكارها للمعارف، ذلك أن فترة قحط عظيم ملائمة لاكتساب امتيازات مادية والدفاع عنها.
لا نعتقد أن هذه السيرورة قد بقيت خارج إدراك الماركسيين الثوريين الروس، فمنذ عام 1920 قرعت المعارضة العمالية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي جرس الإنذار، وطرحت في الوقت ذاته حلولا غير مناسبة إلى حد بعيد. ومنذ عام 1921 أصبح شغل لينين الشاغل التفكير بالخطر البيروقراطي، وكان يسمي الدولة الروسية دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا ويشير شبه عاجز إلى سطوة البيروقراطية الوليدة على جهاز الحزب بالذات. ومنذ عام 1923 تشكلت المعارضة اليسارية التروتسكية التي سوف تجعل من النضال ضد البيروقراطية نقطة من النقاط الأساسية في برنامجها.
وقد يكون من قبيل الخطأ الاعتقاد أن صعود البيروقراطية السوفياتية يمثل ظاهرة حتمية، فإذا كانت تغرز جذورا عميقة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الروسي في أوائل العشرينات، فقد كان ممكنا في الوقت ذاته مجابهتها مع حظوظ نجاح حقيقية. كان برنامج المعارضة اليسارية التروتسكية يتجه بمجمله لخلق شروط ملائمة لتقويم الوضع من جديد.
أ- عن طريق تسريع تصنيع روسيا، بزيادة الوزن النوعي للبروليتاريا في المجتمع.
ب- بزيادة الأجور ومكافحة البطالة بغية تنمية ثقة الجماهير العمالية بذاتها.
ج- بالتوسيع الفوري للديموقراطية السوفياتية والديموقراطية داخل الحزب، بغية رفع مستوى النشاط السياسي ومستوى وعي البروليتاريا الطبقي.
د- بزيادة حدة التمايز داخل الفلاحين، عن طريق مساعدة الفلاحين الفقراء عبر تقديم قروض وآلات زراعية اليهم في بناء تعاونيات إنتاجية، وفرض ضرائب تصاعدية على الفلاحين الأغنياء.
هـ- بالإبقاء على التوجه شطر الثورة العالمية، وبتصحيح الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية للكومنترن.
لو فهم مجمل القادة والكادرات البلاشفة ضرورة إنجاز برنامج من هذا النوع وإمكان ذلك، لكانت إعادة إطلاق السوفييتات وممارسة البروليتاريا للسلطة ممكنة منذ أواسط العشرينات. إلاّ أن معظم كادرات الحزب كانوا قد انخرطوا من جانبهم في سيرورة البقرطة. معظم القادة تأخروا كثيرا في فهم خطر المميت لصعود البيروقراطية. إن ضعف «العامل الذاتي» (أي الحزب الثوري) انظم إلى الشروط الموضوعية الملائمة، لتفسير انتصار البيروقراطية الستالينية في الاتحاد السوفياتي.
3- طبيعة البيروقراطية وطبيعة الاتحاد السوفياتي
ليست البيروقراطية طبقة مسيطرة جديدة. وهي لا تلعب أي دور ضروري في سيرورة الإنتاج. إنها شريحة ذات امتيازات اغتصبت ممارسة وظائف الإدارة في الدولة والاقتصاد السوفياتيين، وتمنح لنفسها على أساس احتكار السلطة هذا منافع وفيرة في حقل الاستهلاك (أجور مرتفعة، منافع عينية، مخازن خاصة، الخ). ليست مالكة لوسائل الإنتاج، ولا تملك أي ضمانة للاحتفاظ بتلك المنافع أو توريثها لأولادها، إنما كل شيء مرتبط بممارسة وظائف نوعية خاصة.
إنها شريحة اجتماعية متميزة من البروليتاريا تقيم سلطتها على مكاسب ثورة أكتوبر الاشتراكية، كتأميم وسائل الإنتاج والتخطيط الاقتصادي واحتكار الدولة للتجارة الخارجية. وهي محافظة كما الحال مع أي بيروقراطية عمالية، إنها تضع الحفاظ على ما تم اكتسابه فوق كل مشروع يرمي إلى التوسع بالمكاسب الثورية.
إنها تخاف من الثورة العالمية التي قد تؤدي إلى إنعاش النشاط السياسي للبروليتاريا السوفييتية وتدمير سلطة البيروقراطية على هذا الأساس. من هنا فهي ترغب في الحفاظ على الوضع القائم العالمي. إلا أنها تبقى، من حيث هي شريحة اجتماعية، ضد إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي، ذلك أن هذه قد تدمر أسس امتيازاتها بالذات (وهو ما لا يمنع البيروقراطية من أن تكون الوسط الملائم لنمو مجموعات ثانوية واتجاهات فرعية يمكن أن تحاول التحول إلى رأسماليين جدد).
ليس الاتحاد السوفياتي مجتمعا اشتراكيا، أي مجتمعا بلا طبقات. إنه ما يزال، تماما كما غداة ثورة أكتوبر 1917، مجتمعا انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية، ويمكن أن تتم إعادة الرأسمالية فيه، لكن على أساس ثورة مضادة اجتماعية. كما يمكن بالمقابل إعادة إرساء السلطة المباشرة للشغيلة فيه، لكن على أساس ثورة سياسية تكسر احتكار ممارسة السلطة بأيدي البيروقراطية.
رغم أن الاقتصاد السوفياتي هو نظام «سيطرة البيروقراطية على المنتجين»، ورغم أنه أعطى الأولوية زمنا طويلا لتطور الآلات على حساب استهلاك الجماهير، فهو لا يستحق وصمه بـ«الرأسمالية». إن الرأسمالية نظام نوعي خاص للسيطرة الطبقية، يتصف بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وبالمنافسة والإنتاج البضاعي المعمم، وبالطابع البضاعي لقوة العمل، وبحتمية الأزمات الدورية لفيض الإنتاج المعمم، ونحن لا نجد أيا من هذه الملامح الأساسية في الاقتصاد السوفياتي.
إلاّ أنه إذا لم يكن الاقتصاد السوفياتي رأسماليا فهو ليس اشتراكيا أيضا، على الأقل بالمعنى التقليدي للكلمة، كما يتبين من كتابات ماركس وانجلز ولينين بالذات. فالاقتصاد الاشتراكي يتحدد بنظام المنتجين المتشاركين الذين ينظمون بأنفسهم حياتهم الإنتاجية والاجتماعية عن طريق وضع تسلسل في الحاجات التي ينبغي كفايتها تبعا للموارد التي في حوزتهم ولوقت العمل الذي هم مستعدون لتكريسه للجهد الإنتاجي، والاتحاد السوفياتي على بعد بعيد عن هذا الوضع. إن اقتصادا اشتراكيا يتحدد بزوال كل إنتاج بضاعي، وماركس وانجلز يوضحان أن هذا الزوال ليس خاصا «بالمرحلة الثانية» من المجتمع اللا طبقي، التي تطلق عليها عادة تسمية «المرحلة الشيوعية»، بل هو من سمات المرحلة الأولى المسماة «اشتراكية»، وذلك على عكس العقيدة المعتمدة رسميا في الاتحاد السوفياتي.
إن ستالين الذي فضل النظرية المضادة للماركسية حول الإمكانية المزعومة لإنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد، إنما كان يعبر بصورة تجريبية عن النزعة المحافظة البرجوازية الصغيرة لدى البيروقراطية السوفياتية المؤلفة من خليط من الموظفين القدامى في الدولة البرجوازية ومن محدثي النعمة في جهاز الدولة السوفياتية وشيوعيين مفسدين ومستخفين، وتقنيين شباب راغبين في «النجاح في المهنة» دون أدنى مراعاة للمصالح الطبقية للبروليتاريا.
لقد واجه تروتسكي والمعارضة اليسارية هذه النظرية بمبادئ أساسية في الماركسية («لا يمكن تحقيق المجتمع اللا طبقي إلا على المستوى العالمي، بحيث يضم على الأقل بعضا من الدول المصنعة الرئيسية» -«تشرع الثورة بالانتصار في بلد من البلدان، ثم تمتد على الصعيد الدولي، وتخوض في نهاية المطاف معركة حاسمة على المستوى العالمي»)، وهما لم يدافعا بذلك عن موقف «انتضاري» أو «انهزامي» تجاه الثورة الروسية. لقد سعيا لحفز فوري لتصنيع البلاد، وذلك قبل ستالين وبصورة أكثر عقلانية، وكانا نصيرين للدفاع عن الاتحاد السوفياتي ضد الامبريالية، وللدفاع عمّا بقي من مكاسب ثورة أكتوبر ضد أي محاولة لإعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي، وقد ظلا كذلك إلى النهاية. إلاّ أنهما فهما أن مصير الاتحاد السوفياتي سوف يحسمه في نهاية المطاف ما يؤول إليه الصراع الطبقي على المستوى العالمي، وهو استنتاج لا يزال اليوم صحيحا كما كان صحيحا بالأمس.
4- ما هي الستالينية؟
حين ألقى خروتشيف مرافعته المشهورة ضد جرائم ستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، فسر تلك الجرائم بـ«عبادة الشخصية» التي هيمنت خلال ديكتاتورية ستالين. وهذا التفسير الذاتي، لا بل السيكولوجي، لنظام سياسي قلب رأسا على عقب حياة عشرات الملايين من الكائنات البشرية، لا يتفق إطلاقا مع الماركسية. فظاهرة الستالينية لا يمكن اختصارها بالخصائص السيكولوجية أو السياسية لرجل فرد. إن الأمر يتعلق بظاهرة اجتماعية ينبغي تعرية جذورها الاجتماعية.
إن الستالينية في الاتحاد السوفياتي هي التعبير عن الانحطاط البيروقراطي لأول دولة عمالية، حيث اغتصبت شريحة اجتماعية ذات امتيازات ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية. إن الأشكال الفظة (الإرهاب البوليسي، التطهيرات الجماعية في الثلاثينات والأربعينات، اغتيال مجمل الكادرات القديمة للحزب الشيوعي السوفياتي تقريبا، ومحاكمات موسكو، الخ.) والأكثر «دقة» لهذه السلطة البيروقراطية يمكن أن تتبدل، إلاّ أنّ أسس الانحطاط البيروقراطي تبقى قائمة بعد ستالين كما في ظل ستالين.
فلسلطة لا تمارسها سوفييتات ينتخبها كل الشغيلة بحرية، والمشاريع لا يسيّرها الشغيلة. لا الطبقة العاملة ولا أعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالحريات الديموقراطية الضرورية للتمكن بحرية من تحديد الخيارات الكبرى بصدد السياسة الاقتصادية والثقافية، الداخلية والعالمية.
إن الستالينية تعني في العالم الرأسمالي قيام الأحزاب التي تتمبع سياسة الكريملين بإخضاع مصالح الثورة الاشتراكية في بلدانها إلى مصالح ديبلوماسية الكريملين. فهذا الأخير يستخدم الأحزاب الشيوعية الستالينية، وحركة الجماهير التي تشرف عليها، كمجرد عملة للتبادل في جهوده لتكريس الوضع القائم العالمي مع الامبريالية.
إن الستالينية تمثل على الصعيد الايديولوجي تشويها تبريريا وتجريبيا للنظرية الماركسية. فبدل أن تلعب النظرية الماركسية دور أداة تحليلية لتطور تناقضات الرأسمالية وموازين القوى بين الطبقات والواقع الموضوعي للمجتمع الانتقالي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بغية إسناد نضال البروليتاريا التحرري، يجري الحط منها إلى مستوى أداة تبرير لكل من «الانعطافات التكتيكية» للكريملين والأحزاب الستالينية.
تسعى الستالينية لتبرير هذه المناورات باسم حاجات الدفاع عن الاتحاد السوفياتي، «القلعة الرئيسية للثورة العالمية» كما كان يسمى قبل الحرب العالمية الثانية، و«مركز المعسكر العالمي للاشتراكية» كما أصبح يسمى منذ الحرب العالمية الثانية. وبالفعل على الشغيلة أن يدافعوا عن الاتحاد السوفياتي ضد محاولات الإمبريالية إعادة سلطة رأس المال إليه.
إلاّ أن المناورات التكتيكية الستالينية التي ساهمت في هزيمة كذا من الثورات في العالم، والتي سهلت وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، وحكمت على الثورة الإسبانية لعام 1936 بالهزيمة، وأجبرت الجماهير الشيوعية الفرنسية والإيطالية على إعادة بناء الدولة البورجوازية والاقتصاد الرأسمالي في بلادها ما بين 1944 و1946، وأدت إلى سحق الحركة الثورية في أندونيسيا والبرازيل والشيلي والعديد من البلدان الأخرى مذ ذاك، لا تتوافق إطلاقا مع مصالح الاتحاد السوفياتي كدولة، بل مع المصالح الضيقة المتعلقة بالدفاع عن امتيازات البيروقراطية السوفياتية المتناقضة في كل من تلك الحالات مع المصالح الحقيقية للاتحاد السوفياتي.
5- أزمة الستالينية
إن انحدار الثورة العالمية بعد عام 1923 والوضع المتخلف للاقتصاد السوفياتي هما الدعامتان الرئيسيتان لسلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، وهاتان الدعامتان قد تآكلتا تدريجيا منذ نهاية الأربعينات.
فلقد تلا عشرين عاما من هزائم الثورة صعود جديد للثورة العالمية، انحصر في البدء في بلدان متخلفة هي الأخرى (يوغسلافيا، الصين، فيتنام، كوبا)، إلاّ أنه امتد إلى الغرب منذ ماي 1968. وبعد سنوات من جهود «التراكم الاشتراكي»، توقف الاتحاد السوفياتي عن أن يكون بلدا متخلفا، إذ هو اليوم القوة الصناعية الثانية في العالم، ويبلغ المستوى التقني والثقافي فيه مستوى العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة. أمّا البروليتاريا السوفياتية فهي، إلى جانب بروليتاريا الولايات المتحدة، البروليتاريا الأقوى من حيث العدد.
ضمن هذه الشروط، بدأت تزول أسس سلبية الجماهير في البلدان التي تسيطر عليها البيروقراطية السوفياتية، حيث تتوافق مع انتعاش النشاطات المعارضة انقصافات داخل البيروقراطية بالذات التي تخضع، منذ القطيعة بين ستالين وتيتو عام 1948، لسيرورة تمايز متنامية. إن التداخل بين العاملين يشجع على فورات مفاجئة للنشاط السياسي الجماهيري تنطلق على طريق الثورة السياسية، كما حدث في أكتوبر-نونبر 1956 في هنغاريا، أو خلال «ربيع براغ» عام 1968 في جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية.
جرى إلى الآن قمع هذه الحركات الجماهيرية عبر التدخل العسكري للبيروقراطية السوفياتية، إلاّ أنه بمقدار ما تنضج هذه السيرورات ذاتها في الاتحاد السوفياتي فلن يكون بإمكان أية قوة خارجية أن توقف أمواج الثورة السياسية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وسوف يعاد إرساء الديموقراطية السوفياتية، ويتم التحطيم النهائي لأي خطر يهدد بعودة الرأسمالية. سوف يمارس السلطة السياسية الشغيلة والفلاحون الكادحون، كما سيصبح النضال من أجل الثورة الاشتراكية في سائر أنحاء العالم أسهل بما لا يقاس.
6- الإصلاحات الاقتصادية
بعد موت ستالين، ولاسيما في بداية الستينات، بدأت حركة إصلاح واسعة لطرائق التخطيط والتسيير في الاتحاد السوفياتي وفي العديد من «الديموقراطيات الشعبية». وقد كانت الإصلاحات الأكثر إلحاحا في ميدان الزراعة، حيث كان إنتاج المواد الغذائية على أساس الفرد عند وفاة ستالين أدنى بعض الأحيان مما كان عليه عام 1928، وأدنى فيما يخص الإنتاج الحيواني، مما كان عليه في عهد القياصرة. استهدفت تدابير متتالية إثارة اهتمام الفلاحين، وعقلنة استخدام الآلات الزراعية (التي بيعت للكولخوزات)، وإقامة مزارع دولة عملاقة على «الأراضي البكر» في كازاخستان، والمضاعفة الكثيفة للتثميرات في الزراعة.
أمّا الإصلاحات على صعيد الصناعة فكانت أكثر بطءا وترددا، فالضرورة الموضوعية لتلك الإصلاحات نجمت عن أزمة نمو الاقتصاد السوفياتي وعن انخفاض في نسبة النمو السنوية للإنتاج الصناعي، وهي تتوافق مع نفاد الحوافز التي سمحت بالتسيير كيفما أتفق لعملية التصنيع الواسع، أي دون بذل جهد لتوفير أقصى ما يمكن من نفقات اليد العاملة، والمواد الأولية والأراضي. لقد أدى استنفاد الاحتياطي لضرورة اعتماد حساب أكثر دقة، وخيار أكثر عقلانية بين مختلف مشاريع التثميرات. إن ازدهار الاقتصاد ومضاعفة المشاريع وموارها هددا بزيادة التبذير إلى الحد الأقصى ما لم يتم اعتماد طرائق إدارة وتخطيط أكثر عقلانية.
إن ضغط الجماهير الكادحة التي أنهكتها عقود من التضحيات والتوترات وترغب في تحسين استهلاكها وتنويعه، بالإضافة إلى ضرورة الاقتراب بالقرارات -على مستوى الصناعة الخفيفة- من تلك الرغبات الاستهلاكية، قد فعلا فعلهما في الاتجاه ذاته. وقد شجع عنصر آخر أيضا السعي وراء الاصلاحات، ونقصد بذلك التأخر التكنولوجي المتناهي بالنسبة للثورة التكنولوجية الثالثة للاقتصاد الرأسمالي، وهو تأخر ناجم عن نظام حوافز مادية بالنسبة للبيروقراطية يثبط الهمم إزاء الاختبار والتجديد على صعيد التكنولوجيا، لذا تم تعديل شكل تلك الحوافز مذ ذاك.
لقد جرى الاعتقاد بالحؤول دون تبذير المواد الأولية وقوة العمل وبتشجيع استخدام للتجهيز أكثر عقلانية، عن طريق ربط العلاوات المقدمة للمديرين بـ«الربح» (الفرق بين سعر الكلفة وسعر المبيع) المفترض أنه «يؤلف» النتيجة الإجمالية النهائية للمشروع، بدل ربطها بالإنتاج الخام المعبر عنه بمصطلحات مادية. كانت النتائج متواضعة، لكن إيجابية في الصناعة الخفيفة، إلاّ أنها لم تعدل أبدا في طبيعة النظام الهجينة، لأن أسعار المبيع ظلت تحددها سلطات الخطة المركزية.
إن أهمية تلك الإصلاحات جميعا محدودة، بقدر ما لا تحل المشكلة الأساسية، فما من «آلية اقتصادية»، خارج الرقابة الديموقراطية والعامة التي يمارسها جمهور المنتجين والمستهلكين، يمكنها أن تبلغ الحد الأقصى من المردود مقابل الحد الأدنى من الجهود. كل إصلاح يميل إلى إحلال شكل جديد من التعسفات البيروقراطية والتبذيرات محل الشكل السابق، وليس هناك من عقلنة إجمالية للتخطيط ممكنة في ظل سلطة البيروقراطية وانتفاعها المادي المعتبر محركا رئيسيا لتنفيذ الخطة. إن الإصلاحات لم تعد الرأسمالية ولم تعد إدخال ربح المشاريع كدليل لقرارات التثمير، إلاّ أنها زادت من تناقضات النظام الداخلية. فمن جهة زادت من حدة اندفاع جناح من البيروقراطية لصالح استقلال أكبر لمديري المعامل، وألغت بعض مكاسب الطبقة العاملة من مثل ضمان حق العمل، وزادت من جهة أخرى من حدة مقاومة الشغيلة للميول إلى تحطيم تلك المكتسبات والاقتصاد المخطط.
7- الماوية
كان انتصار الثورة الصينية الثالثة عام 1949 أهم انتصار حققته الثورة العالمية منذ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية. فهو كسر التطويق الرأسمالي للاتحاد السوفياتي وحفز حفزا عظيما سيرورة الثورة الدائمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعدل موازين القوى بشكل محسوس على المستوى العالمي على حساب ألإمبريالية. ولقد تم ذلك الانتصار لأن القيادة الماوية للحزب الشيوعي الصيني قطعت على مستوى الممارسة مع الخط الستاليني القائل بـ«كتلة الطبقات الأربع» وبالثورة على مراحل، وقادت انتفاضة زراعية واسعة واتجهت نحو تدمير الجيش والدولة البرجوازية، رغم إعلاناتها المؤيدة لتحالف مع تشانغ كاي تشيك.
إلاّ أن هذه الثورة الظافرة كانت منذ البدء مشوهة بيروقراطيا، فالقيادة الماوية حدّت من نشاط البروليتاريا المستقل، إذا لم تمنعه منعا تاما، والدولة العمالية التي أقيمت لم يتم إرساؤها على أساس المجالس العمالية والفلاحية المنتخبة ديموقراطيا. انتشرت أشكال إدارة وامتيازات بيروقراطية تتشبه بتلك القائمة في روسيا الستالينية. وهو ما أدى إلى استياء متنام لدى الجماهير، لاسيما الجماهير العمالية والشابة، سعى ماو إلى احتوائه عن طريق تفجير «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» بين عامي 1964 و1965.
هذه «الثورة» دمجت أشكالا أصيلة من التعبئة والوعي المعاديين للبيروقراطية لجماهير المدن مع محاولة ماو تطهير جهاز الحزب الشيوعي من خصومه داخل البيروقراطية. وعندما هددت تعبئة الجماهير والتطور الأيديولوجي الأكثر فأكثر نقدية من جانب «الحراس الحمر» بالإفلات من رقابة الجناح الماوي، أوقف هذا الجناح «الثورة الثقافية»، وأعاد إلى حد بعيد وحدة البيروقراطية، مرجعا إلى مراكز القيادة معظم البيروقراطيين الذين تمت تنحيتهم حين بلغت تلك «الثورة» ذروتها.
إن النزاع الصيني-السوفياتي الذي أثارته محاولة البيروقراطية السوفياتية فرض رقابة صارمة على قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وإلغاء المساعدة الاقتصادية والعسكرية المقدمة لجمهورية الصين الشعبية ردا على رفض ماو الانحناء أمام تلك القرارات التعسفية، تحول تدريجيا من نزاع بين البيروقراطيتين إلى نزاع على مستوى الدولة وإلى معركة تنظيمية وأيديولوجية داخل الحركة الستالينية العالمية. لقد وجهت النزعة القومية الضيقة للبيروقراطيتين السوفياتية والصينية ضربة قاصمة لمصالح الحركة العمالية والمعادية للإمبريالية على المستوى العالمي، وسمحت للإمبريالية بالمناورة لاستغلال النزاع الصيني-السوفياتي.
تمثل الماوية على المستوى الأيديولوجي تيارا خاصا داخل الحركة العمالية، العديد من وجوهه تنويع من التشويه الستاليني للماركسية-اللينينية، إلاّ أنه لا يمكن حصره بالستالينية. ففيما الستالينية ناتج وتعبير في الوقت ذاته عن ثورة مضادة سياسية داخل ثورة بروليتارية ظافرة، فالماوية هي في الوقت ذاته تعبير عن انتصار ثورة اشتراكية وعن الطبيعة المشوهة بيروقراطيا منذ البدء لتلك الثورة. إنها تدمج إذا ملامح مقاربة أكثر مرونة وأكثر انتقائية للعلاقات بين الأجهزة والجماهير، مع ملامح مميزة لخنق كل استقلال لنشاط الجماهير وتنظيمها، لاسيما الجماهير العمالية. وهي تتميز على وجه الخصوص بعدم فهم الطبيعة الاجتماعية للبيروقراطية العمالية وأصول الانحطاط البيروقراطي المحتمل للثورات الاشتراكية والدول العمالية، طالما هي بذاتها التعبير الأيديولوجي عن واحد من أجنحة البيروقراطية. وهي إذ تماثل بصورة غير مسؤولة وغير علمية بين «البيروقراطية» و«بورجوازية الدولة» في الاتحاد السوفياتي، تبرر مسبقا كل انعطافات السياسة الخارجية الصينية والمجموعات الماوية، إلى حد وضع الإمبريالية الأمريكية والاتحاد السوفياتي، والأحزاب البرجوازية والأحزاب الشيوعية، على قدم المساواة، لا بل إلى حد اعتبار الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية «العدو الرئيسي للشعوب»، عارضة التحالف مع القوى الإمبريالية العظمى والأحزاب البورجوازية في مجه الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية. زد على أن هذه التكتيكات تستند إلى الموضوعة التي تقول أن معظم البلدان الرأسمالية ليست اليوم إزاء مهمة الثورة الاشتراكية، بل فقط إزاء مهمة «النضال من أجل الاستقلال القومي في مواجهة القوى العظمى».
إن الطابع الاعتباطي لهذه النظريات جميعا، التي ليست في نهاية المطاف أكثر من تبريرات لاحقة لمناورات بيكين الديبلوماسية، تمد جذورها في تشويه الماركسية المثالي والإرادي، فبحجة مكافحة «النزعة الاقتصادية» التي هي المراجعة «الأخطر» للماركسية، يتوقف «الماويون الأورثوذكسيون» عن اعتبار الطبقات الاجتماعية كحقائق موضوعية تحددها علاقات الإنتاج التي تعقدها في إنتاجها لحياتها المادية. تجري مماثلة الطبقات الاجتماعية مع خيارات إيديولوجية، ولا تعود البروليتاريا مجموع من يحصلون على أجور لقاء عملهم، بل أولئك الذين «يسيرون وفقا لخط ماو تسي تونغ». وبهذه الطريقة تجري مماثلة تيارات ذات أيديولوجية بورجوازية أو بورجوازية صغيرة داخل الطبقة العاملة مع «البورجوازية» أو «ممثليها»، والنضال الأيديولوجي داخل الحركة العمالية مع «الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية». يشكل ذلك مذ ذاك ركيزة رفض الديموقراطية العمالية، وتبرير استخدام العنف والقمع داخل الحركة العمالية، ورفض كل التراث الماركسي-اللينيني للنضال من أجل الجبهة الموحدة للمنظمات العمالية في وجه العدو الطبقي المشترك. تتم مماثلة ديكتاتورية البروليتاريا مع «فكر ماو تسي تونغ»، ويمارسها «حزب ماو تسي تونغ». هكذا تغلق الحلقة، وبعد الدخول في حرب ضد سلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، تنتهي القيادة الماوية إلى تنصيب نظام قيادة بيروقراطية شبيهة جدا بتلك الموجودة في الاتحاد السوفياتي، حتى ولو أحاطت بها بهارج «ديموقراطية مباشرة» و«مشاركة» جماهيرية باتخاذ القرارات. ولا يقل رفض ماو عن رفض ستالين أو خروتشيف أو بريجنيف للنظرية اللينينية حول ديكتاتورية البروليتاريا كديكتاتورية مرتكزة إلى ممارسة السلطة من جانب مجالس العمال والفلاحين المنتخبة انتخابا حرا وديموقراطيا.
*******
المراجع:
أرنست ماندل، حل البيروقراطية.
ل. تروتسكي، دروس أكتوبر.
ل. تروتسكي، المجرى الجديد.
ل. تروتسكي، الثورة المغدورة.
م. ليفن، معركة لينين الأخيرة.
موضوعات المؤتمر الرابع والخامس للأممية الرابعة: صعود الستالينية وانحدارها - انحدار الستالينية وسقوطها.
سميزدات أ (منشورات سوي).
بولونيا-هنغاريا 1956 (منشورات F.D.I باريس).
--------------------------------------------------------------------------------
13/ من النضالات الجارية التي تخوضها الجماهير إلى الثورة الاشتراكية العالمية
منذ الحرب العالمية الأولى والشروط المادية الضرورية لقيام مجتمع اشتراكي قيد الوجود. فالمنشأة الكبيرة أصبحت قاعدة الإنتاج، والتقسيم العالمي للعمل بلغ مستوى عاليا، وتحقق التداخل بين البشر جميعا -«التشريك الموضوعي للعمل»- إلى حد بعيد. مذ ذاك أصبح ممكنا من الناحية الموضوعية استبدال نظام الملكية الخاصة والمنافسة واقتصاد السوق بنظام قائم على التشارك بين جميع المنتجين وتخطيط الاقتصاد بغية تحقيق أغراض مختارة بحرية.
***
1- شروط انتصار الثورة الاشتراكية
إلاّ أن الثورة الاشتراكية، على نقيض كل الثورات الاجتماعية الماضية، تتطلب جهدا واعيا وإراديا من جانب الطبقة الثورية، أي من جانب البروليتاريا. ففي حين أحلت ثورات الماضي نظام استغلال اقتصادي للمنتجين محل نظام آخر، واكتفت هكذا بإزالة الحواجز من على طريق اشتغال هذه الآلية الاقتصادية أو تلك، تسعى الثورة الاشتراكية لإعادة تنظيم الاقتصاد والمجتمع وفقا لمشروع متصور مسبقا، يكمن في التنظيم الواعي للاقتصاد بهدف كفاية كل الحاجات العقلانية لدى البشر وضمان التفتح الكامل لشخصيتهم.
مشروع من هذا النوع لا يتحقق آليا، إنه يتطلب من الطبقة الثورية وعيا كاملا لأهدافها ولوسائل بلوغ تلك الأهداف، لاسيما أن على طبقة الشغيلة خلال نضالها من أجل الثورة الاشتراكية أن تواجه عدوا طبقيا، منظما تنظيما عاليا، يملك أكثر فأكثر شبكة عالمية من القوى العسكرية والمالية والسياسية والتجارية والأيديولوجية بغية تأبيد سيطرته.
يتطلب انتصار الثورة الاشتراكية إذا نوعين من الشروط ليضمن النجاح:
شروطا موضوعية -كما يقال- أي مستقلة عن مستوى وعي البروليتاريين والثوريين، ومن بينها نضج الشروط المادية والاجتماعية (القاعدة الاقتصادية وقوة البروليتاريا العددية) - الحاصلة على المستوى العالمي بصورة مستمرة منذ ما قبل عام 1914. ينبغي أن نضيف كذلك شروطا سياسية، من مثل عجز الطبقة البورجوازية عن الحكم وانقساماتها الداخلية المتعاظمة، ورفض الطبقات المنتجة لسلطة البورجوازيين وتمردها المتعاظم على تلك السلطة. هذه الشروط السياسية الموضوعية الضرورية لانتصار ثورة اجتماعية يتم اكتسابها دوريا في العديد من البلدان، إبان أزمات سابقة للثورة وأزمات ثورية عميقة تنفجر فيها.
وشروطا ذاتية، أي متعلقة بمستوى وعي الطبقة البروليتاريا وبدرجة نضج قيادتها الثورية أو حزبها الثوري وتأثير تلك القيادة وقوتها.
يمكن أن نستخلص أن الثورات الاشتراكية الظافرة منذ الحرب العالمية الأولى كانت ممكنة موضوعيا في العديد من المرار وفي العديد من البلدان، ونكتفي في هذا المجال بالإشارة إلى البلدان المتقدمة صناعيا، من مثل ألمانيا بين 1918 و1920، وعام 1923، وفي أعوام 1930-1932، وإيطاليا بين 1919 و1920 وبين 1946 و1948، وبين 1969 و1970، وفرنسا عام 1936، وبين 1944 و1947، وفي ماي 1968، وبريطانيا بين 1919 و1920، وعام 1926، وعام 1945، وإسبانيا بين 1936 و1937 الخ. الخ.
بالمقابل، لم تكن الشروط الذاتية ناضجة لانتصار الثورة، فغياب الانتصارات الثورية في الغرب مرتهن إلى الآن قبل كل شيء بـ«أزمة العامل الذاتي للتاريخ»، أزمة الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا.
2- بناء الأممية الرابعة
انطلاقا من هذا التحليل المرتكز إلى الإفلاس التاريخي للإصلاحية والستالينية في قيادة البروليتاريا إلى النصر، اضطلع تروتسكي وقبضة من الشيوعيين المعارضين منذ عام 1933 بمهمة بناء قيادة ثورية جديدة للبروليتاريا العالمية، وقد أسسوا عام 1938 الأممية الرابعة لهذه الغاية.
طبعا لم تصبح بحد ذاتها الأممية الثورية الجماهيرية التي ستكون وحدها قادرة على العمل كهيئة أركان عامة للثورة العالمية، إلاّ أنها تنقل برنامج هكذا أممية ثورية جماهيرية وتتقنه وتحسنه، بفضل نشاطاتها الدائبة في قلب الصراع الطبقي في خمسين بلدا. وهي تكون كادرات ثورية على قاعدة هذا البرنامج وعبر نشاطاتها المتعددة، وتحفز هكذا عن سابق تصور وتصميم توحيد تجارب الثوريين ووعيهم على المستوى العالمي، عن طريق تعليمهم العملل داخل تنظيم واحد بدل أن ينتظروا عبثا توحيدا من هذا النوع من النتائج العفوية لانطلاق القوى الثورية في مختلف بلدان العالم وأجزائه، تلك القوى التي تتطور منفصلة بعضها عن البعض الآخر.
لا تكتفي الأممية الرابعة بأن تنتظر بصورة سلبية «ذلك المساء العظيم» فيما تنجز إبان ذلك برنامجها. وهي لا تتقوقع في الدعاية المجردة لهذا البرنامج. كما أنها لا تبذر كذلك قواها في نشاطية وتحريض عقيمين، محصورين في دعم النضالات المباشرة للجماهير المستغلة.
إن بناء أحزاب ثورية جديدة وأممية ثورية جديدة ينطوي في الوقت ذاته على الدفاع الحازم عن البرنامج الماركسي الثوري الذي يجمع دروس كل التجارب الماضية للصراع الطبقي، وعلى الدعاية والتحريض من أجل برنامج عمل هو جزء من البرنامج الماركسي-الثوري العام، دعاه تروتسكي برنامج المطالب الانتقالية وهو يستوحي تعابير استخدمها قادة الأممية الشيوعية خلال سنواتها الأولى، وعلى التدخل المتواصل في نضالات الجماهير بغية الوصول بها إلى أن تتبنى عمليا برنامج العمل هذا، وبغية تزويد تلك النضالات بأشكال تنظيم تؤول إلى خلق مجالس عمالية.
إن ضرورة قيام أممية ثورية، هي أكثر من جمع أحزاب ثورية قومية، ضرورة ترتكز إلى قواعد مادية صلبة. فالعصر الإمبريالي هو عصر الاقتصاد والسياسة والحروب العالمية، والإمبريالية هي نظام عالمي متمفصل، وقوى الإنتاج أصبحت دولية منذ زمن بعيد. أمّا رأس المال فينتظم يوما بعد يوم على المستوى الدولي في تروستاته الكبيرة متعددة الجنسيات، والدولة القومية صارت منذ زمن بعيد عائقا دون التطورات اللاحقة للإنتاج والحضارة. من هنا لا يمكن حل مشكلات الإنسانية إلاّ على المستوى العالمي، تلك المشكلات التي نختصرها بالأمور التالية: الحؤول دون الحرب النووية العالمية، سد جوع نصف الكرة الجنوبي، تخطيط النمو الاقتصادي، التوزيع العادل للموارد والمداخيل بين الشعوب جمعاء، حماية البيئة، وضع العلم في خدمة الإنسان.
إنه لمن قبيل الطوباوية أن نريد ضمن هذه الشروط التقدم نحو الاشتراكية فرادى، أن نريد الإجهاز على خصم منظم عالميا فيما نحتقر كل تنسيق أممي للمشروع الثوري، لا بل أن نريد مواجهة تروستات متعددة الجنسيات عبر نضالات عمالية مقصورة على بلد واحد.
أضف إلى ذلك أن للنضالات الثورية اتجاها موضوعيا وعفويا للامتداد على المستوى الدولي، لا فقط ردا على تدخلات مضادة للثورة من جانب العدو الطبقي، بل كذلك، على وجه الخصوص، بفعل الحافز الذي تمارسه على شغيلة العديد من البلدان. إن التأخير المتواصل لخلق منظمة أممية حقيقية للثوريين لا يعني التأخر فقط بالنسبة للضرورات الموضوعية لعصرنا بل كذلك بالنسبة للاتجاهات العفوية للقطاعات الجماهيرية الأكثر تقدما.
في إطار الصعود الجديد للنضالات العمالية ولتجذر الشبيبة عبر العالم منذ نهاية الستينات، الذي يرمز إليه ماي 1968 في فرنسا، تمكنت الأممية الرابعة من مضاعفة قواها بشكل محسوس. إنها الآن موجودة في 65 بلدا، وفي كل القارات. عشرون من منظماتها شهدت تطورا ذا شأن إذ حققت انغراسا حقيقيا وسط الجماهير، وشاركت أحيانا من مستوى القيادة، في نضالات طبقية مهمة. نشير في هذا المجال إلى دور التروتسكيين الفرنسيين في ماي 1968 وفي تشكيل طليعة عمالية ونقابية جديدة مذ ذاك. وإلى دور التروتسكيين الأمريكيين في التعبئة ضد الحرب القذرة في فيتنام! وإلى دور التروتسكيين الإسبانيين في تكوين طليعة ثورية جديدة! وإلى دور التروتسكيين الأرجنتينيين والمكسيكيين والكولومبيين في خلق تيار طبقي داخل الحركة الجماهيرية في بلدانهم! وإلى دور التروتسكيين السيلانيين في إعادة إطلاق اليسار العمالي بعد انحدار القيادة القديمة للحركة العمالية إلى حضيض التعاون الطبقي. تلك الأدوار تشكل بعض النتائج الرئيسية التي تم التوصل إليها ما بين 1968 و1977.
3- المطالب المباشرة والمطالب الانتقالية
إن الاستغلال والاضطهاد الإمبرياليين، في عصرنا، يدفعان الجماهير في كل مرة من جديد على طريق معارك كبرى. إلاّ أن الجماهير، متروكة لذاتها، لا تصوغ أكثر من أهداف مباشرة لتلك النضالات، من مثل الدفاع عن الأجور الفعلية أو زيادتها والدفاع عن بعض الحريات الديموقراطية الأساسية أو انتزاعها، وإسقاط حكومات قمعية بوجه خاص، الخ.
يمكن للبرجوازية أن تقدم تنازلات للجماهير المناضلة تلافيا لتطور معاركها إلى درجة تهديد مجمل الاستغلال الرأسمالي. وهي تسمح لنفسها بذلك، لاسيما أنها تمتلك العديد من الأدوات الصالحة للاستعمال من أجل إفراغ تلك التنازلات من مضامنها، واستعادة يد ما تقدمه اليد الأخرى. فإذا كانت تقبل بزيادات في الأجور، يمكن لرفع الأسعار أن يبقي الأرباح عند مستواها الأصلي، وإذا تم الحد من دوام العمل يمكن تسريع وثيرته، وإذا انتزع الشغيلة تدابير ضمان اجتماعي يمكن مضاعفة الضرائب التي تصيب مداخيلهم، بحيث يدفعون بذاتهم ما يبدو أن الدولة تمنحهم إياه، الخ.
من أجل الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ينبغي دفع الجماهير لتضع لأنفسها أهدافا لنضالاتها الجارية تتمثل بمطالب انتقالية يتعارض تحقيقها مع المسار الطبيعي للاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية، وينبغي أن تصاغ هذه المطالب بحيث تفهمها الجماهير، وإلاّ بقيت حبرا على ورق. يلزم أن تكون في الوقت ذاته قادرة على أن تثير بمضمونها، وباتساع النضالات التي تستثيرها، رفضا إجماليا للنظام الرأسمالي وولادة أجهزة من النموذج السوفياتي، أجهزة ازدواجية سلطة. ليست المطالب الانتقالية صالحة فقط في فترة الأزمة الثورية الحادة -ومن بينها مطلب الرقابة العمالية-، بل هي تتجه على وجه التحديد نحو توليد هكذا أزمة ثورية، عبر دفع الشغيلة إلى رفض النظام الرأسمالي، سواء على المستوى العملي أو على مستوى وعيهم.
4- القطاعات الثلاث للثورة العالمية في أيامنا
بفعل تأخر الثورة الاشتراكية في البلدان الصناعية المتقدمة تجد البروليتاريا العالمية نفسها في مواجهة مهام مختلفة في أجزاء مختلفة من العالم.
ففي البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، لا يمكن للشغيلة والفلاحين الفقراء أن ينتظروا هرع عمال البلدان المصنعة لمساعدتهم. إن اندلاع نضالات جماهيرية وحركات ثورية واسعة أمر محتوم بفعل العبء الثقيل من القمع والبؤس الذي فرضته الإمبريالية على الجماهير العمالية والفلاحية في تلك البلدان. على الشغيلة أن يدعموا كل حركة جماهيرية معادية للإمبريالية، سواء كانت موجهة ضد السيطرة الأجنبية أو ضد الاستغلال الذي تمارسه التروستات الأجنبية، وسواء استهدفت الثورة الفلاحية أو تصفية ديكتاتوريات محلية دموية. إن البروليتاريا التي اكتسبت القيادة السياسية لتلك الحركات الجماهيرية، بفضل حزمها واجتهادها في تبني المطالب التقدمية لكل طبقات الأمة وشرائحها المستغلة، إنما تقاتل لأجل استلام السلطة، ولتطيح في الوقت ذاته ملكية البرجوازية الصناعية وسلطتها.
وفي البلدان العمالية المتبقرطة، تنتفض الجماهير من أجل انتزاع حريتها الديموقراطية، وذلك في وجه احتكار ممارسة السلطة من جانب البيروقراطية، وضد انبعاث الاضطهاد القومي، وضد الفوضى والتبذير والامتيازات المادية الملازمة للتسيير البيروقراطي للاقتصاد. إنها تطالب بتسيير الدولة العمالية بواسطة الشغيلة أنفسهم، المنظمين في مجالسهم (السوفييتات)، وبتسيير الاقتصاد المخطط عن طريق نظام مجالس شغيلة ممركز ديموقراطيا.
أما في البلدان الإمبريالية فتتحول حركات الجماهير ضد الاستغلال الرأسمالي والتضييق على الحريات الديموقراطية أو إلغائها، بفضل البرامج الانتقالي وبناء قيادة ثورية جديدة، إلى نضالات لإطاحة الدولة البرجوازية ومصادرة رأس المال، فإلى ثورة اشتراكية ظافرة.
إن المهام المختلفة التي تواجه البروليتاريا والثوريين في أجزاء مختلفة من العالم -أي مهام الثورة الدائمة في البلدان المتخلفة ومهام الثورة السياسية المناهضة للبيروقراطية في البلدان العمالية المتبقرطة، ومهام الثورة البروليتارية في البلدان الإمبريالية- إنما تعكس التطور اللا متساوي والمركب للثورة العالمية. فهذه الأخيرة لا تنفجر بصورة متشابهة في كل البلدان، إذ لا تعيش كل البلدان ضمن شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية متماثلة.
تكمن المهمة العليا للماركسيين الثوريين في التوحيد التدريجي لتلك الحركات الثورة الثلاث في السيرورة ذاتها للثورة الاشتراكية العالمية. هذا التوحيد ممكن موضوعيا بفضل كون طبقة اجتماعية واحدة، هي البروليتاريا، قادرة لوحدها على أن تقود إلى الشاطئ الأمين المهام التاريخية المتمايزة للثورة في كل من القطاعات الثلاثة التي أشرنا إليها، وسيصبح هذا التوحيد حقيقيا بفضل التربية والسياسة الأمميتين للطليعة الثورية التي سوف تستخلص من النضالات الجارية يوما بعد يوم تجارب تضامن أممي بين الشغيلة والمضطهدين في كل البلدان، وتقاتل بصورة منهجية كره الأجنبي والعنصرية ومختلف المسبقات القومية، من أجل إدخال هذا الوعي الأممي إلى أعماق الجماهير الواسعة.
5- الديموقراطية العمالية والتنظيم الذاتي للجماهير والثورة الاشتراكية
إن أحد الوجوه الرئيسية لعمل الجماهير المباشرة، لحركات التظاهر أو الإضراب الضخمة التي يقومون بها، إنما هو رفع مستوى وعيهم عن طريق تزايد ثقتهم بأنفسهم.
يعتاد الشغيلة والفلاحون الفقراء وصغار الحرفيين والنساء والشباب والأقليات القومية والعرقية على التعرض خلال الحياة اليومية للانسحاق والاستغلال والاضطهاد من جانب خليط من المالكين والأقوياء. لديهم انطباع أن التمرد مستحيل وغير مجد، وأن قوة خصومهم كبيرة لدرجة ينتهي معها كل شيء إلى «العودة للنظام» على الدوام. إلاّ أن هذا الخوف، هذا الإحباط، هذا الشعور بالدونية والعجز، يذوب فجأة في مصهر التعبئة والمعارك الجماهيرية الكبرى. فالجماهير تكتسب إذ ذاك وعيا عميقا لسلطتها العظيمة الكامنة، منذ تتحرك مجتمعة، بصورة جماعية ومتضامنة، منذ تتنظم وتنظم معركتها بفعالية.
لذا يعلق الماركسيون الثوريون أهمية قصوى على كل ما يضاعف هذا الشعور بالثقة بالذات لدى الجماهير، على كل ما يحررهم من السلوك المطواع والخاضع الذي تشربوه خلال الآلاف من سنوات سيطرة الطبقات المالكة. «لسنا شيئا، فلنكن كل شيء»: إن هذه الكلمات من المقطع الأول في نشيدنا، «نشيد الأممية»، تلخص بصورة مدهشة تلك الثورة النفسية التي لا بد منها لأجل انتصار ثورة اشتراكية.
على طريق التنظيم الذاتي للجماهير، تلعب دورا حيويا جمعيات ديموقراطية للمضربين تنتخب لجان إضراب، وكل آلية مشابهة داخل أشكال أخرى للعمل الجماهيري. في تلك الجمعيات تتمرن الجماهير على حكم ذاتها بذاتها، وبتعلمها قيادة نضالاتها الخاصة بها تتعلم كيف تدير الدولة والاقتصاد غدا. إن أشكال التنظيم التي تعتاد هكذا عليها هي الأشكال الجنينية للمجالس العمالية القادمة، للسوفييتات القادمة، هي أشكال التنظيم الأساسية للدولة العمالية التي ينبغي بناؤها.
إن وحدة العمل التي لا بد منها من أجل جمع قوى الشغيلة المبعثرة، الروح الوحدوية العظيمة التي تجمع عبر حالات التعبئة والأعمال الجماهيرية الكبرى ملايين الأشخاص الذين لم يعتادوا على العمل معا، لا يمكن تحقيقها من دون ممارسة أوسع قدر من الديموقراطية العمالية. ينبغي للجنة إضراب منتخبة ديموقراطيا أن تكون، من حيث تحديدها، منبثقة من كل المضربين في المنشأة، أو في الفرع الصناعي، أو المدينة، أو المنطقة، أو البلد الذي يشهد حالة الإضراب. إن استبعاد ممثلي هذا القطاع أو ذاك من الشغيلة المعنيين، بحجة أن آراءهم السياسية أو الفلسفية لا تناسب قادة الإضراب المؤقتين، هو كسر لوحدة الإضراب، وبالتالي كسر للإضراب.
يطبق المبدأ ذاته على كل أشكال العمل الجماهيري الواسع وعلى أشكال التنظيم التمثيلية التي يتخذها. إن الوحدة التي لا غنى عنها من أجل تحقيق النصر تفترض الديموقراطية العمالية مسبقا، أي مبدأ عدم استبعاد أي تيار من المقاتلين. فللكل الحق في الكلام والتمثيل، وللكل الحق في الدفاع عن اقتراحاتهم الخاصة بهم بغية تتويج النضال بالنصر.
إذا تم احترام تلك الديموقراطية فسوف تحترم الأقليات بدورها قرارات الأكثريات لأنها تحتفظ بإمكانية تعديلها على ضوء التجربة. وبهذا التأكيد للديموقراطية العمالية تبشر أشكال التنظيم الديموقراطية لنضالات الشغيلة بإحدى خصائص الدولة العمالية القادمة، المتمثلة بتوسيع الحريات الديموقراطية لا الحد منها.
*******
مراجع:
ليون تروتسكي، احتضار الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة (البرنامج الانتقالي).
مؤتمر إعادة توحيد (المؤتمر العالمي السابع).
الأممية الرابعة: الديالكتيك الحالي للثورة العمالية.
أرنست ماندل، الرقابة العمالية.
أرنست ماندل، الرقابة العمالية، المجالس العمالية، التسيير الذاتي (نصوص مختارة).
العصبة الشيوعية: مشروع برنامج.
وثائق المؤتمرين العالميين التاسع والعاشر للأممية الرابعة.
--------------------------------------------------------------------------------
14/ كسب الثوريين للجماهير
1- التمايز السياسي داخل البروليتاريا
لقد رأينا (الفصل 9، النقطة 5) كيف تولد الحاجة إلى حزب طليعي ثوري من تقطع العمل المباشر لأوسع الجماهير، كما من الطابع العلمي للاستراتيجية الضرورية لقلب سلطة البرجوازية. وعلينا أن نضيف الآن عنصرا إضافيا لهذا التحليل، هو التمايز السياسي داخل البروليتاريا.
تظهر الحركة العمالية في كل بلدان العالم كمجموعة تيارات إيديولوجية مختلفة. ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى التيارات التالية: التيار الاشتراكي-الديموقراطي، وهو إصلاحي تقليدي! تيار الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، وهي من أصل ستاليني وذات توجه إصلاحي جديد متنام، التيار الفوضوي أو النقابي الثوري! التيار الماوي! التيار الماركسي الثوري (الأممية الرابعة). تضاف إلى ذلك في العديد من البلدان تشكيلات وسيطة (وسطية) بين هذه التيارات الأيديولوجية الرئيسية.
لهذا التمايز الأيديولوجي داخل الحركة العمالية جذور موضوعية عديدة في واقع البروليتاريا وفي تاريخها.
ليست الطبقة العاملة متجانسة كليا من زاوية ظروفها الإجتماعية، فحسبما يكون الشغيلة يعملون في الصناعة الكبرى أو الصغيرة، استقروا في المدينة منذ أجيال عديدة أو فقط منذ زمن قريب، تلقوا تدريبا عاليا أو متوسطا، يؤدي ذلك بهم لفهم أسرع أو أبطأ لصحة بعض الأفكار الأساسية للاشتراكية العلمية. فالعمال المتخصصون يفهمون ضرورة تنظيم نقابي بسرعة أكبر مما يفعل عمال عاطلون عن العمل خلال نصف حياتهم. إلاّ أن تنظيمهم النقابي مهدد أيضا بالوقوع بسرعة أكبر ضحية النزعة الحرفية الضيقة، التي تخضع المصالح العامة للطبقة العاملة إلى المصالح الخاصة لأريستوقراطية عمالية تدافع على وجه الخصوص عن المكاسب المستحصل عليها فيما تحاول منع الوصول إلى مواقعها المهنية - إنه لأسهل لعمال المدن الكبرى والصناعات الكبيرة أن يعوا القوة الكامنة العظيمة لجمهور البروليتاريا الواسع وأن يؤمنوا بإمكانية نضال ظافر للبروليتاريا نحو انتزاع السلطة والمصانع من البرجوازية، بينما الأمر أقل سهولة بالنسبة لعمال يشتغلون في مؤسسات صغيرة ويعيشون في مدن صغيرة.
يضاف إلى انعدام تجانس الطبقة العاملة تنوع التجربة النضالية وتنوع طاقات الشغيلة الفردية. فهذا الفريق العمالي خاض تجربة عشرة إضرابات (معظمها تتوج بالنصر) والعديد من المظاهرات العمالية، وهذه التجربة تحدد لديه جزئيا وعيا مختلفا عن وعي فريق آخر من البروليتاريين لم يخض أكثر من تجربة إضراب واحد (مني بالفشل) خلال عشر سنوات، ولم يشارك ككتلة واحدة في نضال سياسي.
هذا العامل أو المستخدم يندفع بشكل طبيعي إلى الدراسة، يقرأ الكراسات والكتب بالإضافة إلى قراءة صحيفته المفضلة، بينما لا يقرأ عامل آخر على الإطلاق. هذا ذو طبع مشاكس، لا بل يتمتع بمواهب قيادية، بينما ذاك ذو شخصية سلبية ويفضل السكوت خلال الاجتماعات. واحد يعقد صلات بالرفاق دون صعوبة، بينما الآخر مشدود إلى حياة المنزل ويفضل الاهتمام بعائلته. كل ذلك يؤثر جزئيا في سلوك الشغيلة وخيارهم السياسي على المستوى الفردي، كما يؤثر في مستوى وعيهم الطبقي عند لحظة محددة.
ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أخيرا التاريخ الخاص للحركة العمالية في كل بلد، وتقاليدها القومية. فالطبقة العاملة البريطانية التي كانت الأولى التي تصل إلى تنظيم نفسها تنظيما طبقيا مستقلا عن طريق الحركة الشارتية لم تعرف يوما حزبا جماهيريا مستندا إلى برنامج أو تربية ماركسيين، ولو بدائيين. إن حزبها الجماهيري قائم على النقابية الجماهيرية، ومنبثق عنها، عنينا حزب العمال. أمّا الطبقة العاملة الفرنسية التي وسمتها بعمق تقاليد النصف الأول من القرن 19 (البابوفية والبلانكية والبرودونية) فقد كبح اعتناقها للماركسية ضعف الصناعة الكبرى النسبي وتوزعها النسبي في مدن المقاطعات الصغيرة نسبيا. لقد توجب انتظار ازدهار المصانع الكبرى في ضواحي باريس وليون ومارسيليا والشمال في العشرينات والثلاتينات من هذا القرن، الذي زاد حدة في الخمسينات والستينات ليتمكن الإضراب الجماهيري من التحكم بالمجرى العام للنضال الطبقي (يونيو 1936، إضرابات 1947-1948، ماي 1968) وليصبح الحزب الشيوعي الفرنسي الحزب المهيمن داخل الطبقة العاملة، مضفيا عليها طابعا ينتمي بوضوح إلى الماركسية. ولقد انطبعت الطبقة العاملة والحركة العمالية الإسبانيتان، لمدة طويلة، بتقاليد النقابية الثورية التي تأثرت عميقا بالتخلف الحاد للصناعة الكبرى في شبه الجزيرة الإيبيرية الخ…
نتج تنع التيارات الأيديولوجية للحركة العمالية عن منطقها وتاريخها الخاصين بها، أي عن النقاشات والتعارضات الناجمة عن مجرى النضال الطبقي بالذات. فقد حدثت في البدء القطيعة بين الماركسيين والفوضويين داخل الأممية الأولى انطلاقا من الخلاف حول مسألة ضرورة الاستيلاء على السلطة السياسية، ثم القطيعة بين الثوريين والإصلاحيين داخل الأممية الثانية حول مسألة المشاركة في حكومات بورجوازية، ودعم الدفاع القومي في البلدان الإمبريالية، ودعم النضال الثوري الجماهيري الذي يهدد استمرار الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، أو خنق ذلك النضال! ثم القطيعة بين الستالينيين والتروتسكيين (الماركسيين الثوريين) داخل الأممية الثالثة والحركة الشيوعية الدولية، بين أنصار نظرية الثورة الدائمة وخصومها، وبين أنصار نظرية «الثورة على مراحل» وخصومها، بين أنصار طوبى إنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد وخصومه، وبالتالي أنصار إخضاع مصالح الثورة العالمية للضرورات المزعومة لهذا الإنجاز وخصومه.
إلاّ أن لهذا التنوع في التيارات الأيديولوجية أيضا جذورا موضوعية ومادية أشد عمقا، من مثل تلك التي قمنا إلى الآن بتعريتها.
2- الجبهة العمالية الموحدة ضد العدو الطبقي
قاد تنوع التيارات الأيديولوجية داخل الحركة العمالية إلى تفتيت المنظمات السياسية للطبقة العاملة. ففي حين نجد الوحدة النقابية في العديد من البلدان (بريطانيا، البلدان السكندينافية، ألمانيا الاتحادية، النمسا)، نجد الانقسام الشامل على صعيد المنظمات السياسية. وبوصفنا ماديين، علينا أن نفهم أن وراء ذلك أسبابا موضوعية، وليس ناتجا صدفة عن «جرائم» «الانشقاقيين» أو عن «الدور المشؤوم» لهذا أو ذاك من الأفراد.
وإذا نظرنا إلى هذا الانقسام السياسي بحد ذاته فليس شرا، فالطبقة العاملة حققت العديد من انتصاراتها الأكثر دويا ضمن شروط تعايش أحزاب عدة واتجاهات عدة تنتسب جميعا إلى الحركة العمالية. إن مؤتمر السوفييتات الثاني لعامة روسيا، الذي قرر نقل جميع السلطات إلى السوفييتات، كان يتميز بالتفتت إلى أحزاب واتجاهات سياسية مختلفة على صعيد الطبقة العاملة، تفتت أكثر حدة مما نعرفه الآن في الغرب. إن انقسام الطبقة العاملة الألمانية إلى أحزاب كبيرة ثلاثة (والعديد من الشلل والتيارات الصغيرة) لم يحل دون انتصار الإضراب العام في مارس 1920 الذي خنق في البيضة محاولة الانقلاب الرجعية الفاشية التي قام بها فون كاب، كما أن تنوع المنظمات السياسية والنقابية للبروليتاريا الإسبانية في يوليوز 1936 لم يمنعها من التغلب على الانتفاضة العسكرية-الفاشية في معظم أحواض البلاد الصناعية.
إلاّ أن الشرط المسبق لكيلا يؤدي التبعثر السياسي للحركة العمالية إلى إضعاف قوة الهجوم لدى الطبقة العاملة بمجملها، هو ألاّ يحول دون وحدة عمل الشغيلة ضد العدو الطبقي المتمثل بأرباب العمل والبرجوازية الكبرى والحكومة البرجوازية والدولة البرجوازية. أمّا الشرط المسبق الآخر فهو ألاّ يحول دون النضال السياسي والأيديولوجي من أجل هيمنة الماركسية الثورية داخل الطبقة العاملة بهدف بناء الحزب الثوري الجماهيري وبالتالي إعادة الديموقراطية العمالية إلى عقر دار الحركة العمالية المنظمة.
إن الرد الوحدوي للطبقة العاملة أمر لا غنى عنه على الإطلاق بمواجهة هجمات البرجوازية على وجه الخصوص. ويمكن أن تكون تلك الهجمات اقتصادية، من مثل الصرف من العمل وإقفال المنشآت وخفض الأجور الفعلية، الخ. كما يمكن أن تكون سياسية، كالهجمات ضد حق الإضراب والحريات النقابية، وضد الحريات الديموقراطية للجماهير والحركة العمالية، ومحاولات إرساء أنظمة تسلطية، أو فاشية سافرة، تلغي حرية التنظيم والعمل للحركة العمالية بمجموعها. في هذه الحالات جميعا، يمكن فقط لرد جماهيري وموحد أن يؤدي بالهجوم البرجوازي إلى الفشل. ووحدة العمل الفعلية لدى الطبقة العاملة تمر بالجبهة الواحدة الفعلية لكل المنظمات العمالية، بقدر ما تبقى سطوتها داخل قطاعات مهمة من البروليتاريا واقعا حيا.
لقد كانت إحدى المآسي الكبرى في القرن 20 هزيمة البروليتاريا الألمانية بفعل استيلاء هتلر على السلطة في 30 يناير 1933، كنتيجة لرفض قيادتي الحزب الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي الألماني أن تعقدا في اللحظة المناسبة اتفاقا لإقامة جبهة موحدة ضد الصعود النازي، وعجزهما عن القيام بذلك. إن عواقب تلك المأساة كانت على درجة من الخطورة بحيث على جميع الشغيلة أن يحفظوا عن ظهر قلب الدرس الرئيسي لتلك التجربة: في مواجهة صعود الفاشية، لا غنى عن الجبهة الموحدة لكل المنظمات العمالية، بغية الحيلولة دون ارتقاء القتلة والجلادين سدة السلطة، عن طريق عمل حازم وموحد تضطلع به الجماهير الكادحة.
إن الذرائع والعوائق دون تحقيق الجبهة الموحدة ذات طبيعة أيديولوجية وسياسية قبل كل شيء، فمعظم الشغيلة يؤيدون تلقائيا كل مبادرة وحدوية. بين تلك العوائق ذات الطبيعة السياسية والأيديولوجية ما يلي:
الممارسات القمعية للقادة الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين يضطلعون بمسؤوليات داخل الدولة البرجوازية، وللقادة الستالينيين في الظروف ذاتها. إن الشرائح المتجذرة من الطبقة العاملة تشعر بالسخط على هكذا ممارسات تبدأ بكسر الإضرابات وتصل إلى التنظيم المنهجي للتجسس داخل المنظمات العمالية، لا بل إلى تنظيم اغتيال القادة الثوريين أو حتى العمال العاديين (نوسكي!).
الممارسات البيروقراطية للقادة النقابيين الإصلاحيين والستالينيين، ولقادة في الأحزاب الشيوعية وصلوا إلى مواقع قيادية في الحركة العمالية، الخ. هذه الممارسات التي تعتبر امتدادا لممارسات البيروقراطية القمعية حيث تمارس السلطة، تثير كذلك اشمئزازا مبررا لدى العديد من شرائح الشغيلة.
الدور المعادي للثورة بصورة منهجية للقيادات التقليدية للحركة العمالية التي تحول دون نمو الوعي الطبقي وتساعد موضوعيا (لا بل إراديا في الغالب) على تحقيق مشاريع معادية للثورة والعمال يقف وراءها رأس المال، وتنشر الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في صفوف الطبقة العاملة، الخ.
إلاّ أنه ضروري مكافحة العصبوية والتطرف اليساري تجاه منظمات الطبقة العاملة الجماهيرية التقليدية، اللذين لا يحولان فقط دون تحقيق الجبهة العمالية الموحدة في وجه العدو الطبقي، بل كذلك دون النضال الفعال ضد هيمنة القيادات الإصلاحية والستالينية على أغلبية الطبقة العاملة.
نجد في أساس الأخطاء العصبوية واليسارية المتطرفة انعدام فهم الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للمنظمات الجماهيرية التقليدية والمتبقرطة في الحركة العمالية. فالعصبوية تتميز عموما على الصعيد الفكري بتضخيم وجه خاص للتكتيك أو للاستراتيجية، وبالعجز عن رؤية مشكلة النضال الطبقي والثورة البروليتارية بكل تعقيداتها وبمجملها. وإذا كان صحيحا أن سياسة قيادات تلك المنظمات لصالح البورجوازية إلى حد بعيد، وأن تلك القيادات تمارس التعاون الطبقي وتضعف نضال البروليتاريا الطبقي، وهي بالتالي مسؤولة عن هزائم لا تحصى لحقت بالطبقة العاملة، فصحيح أيضا أن وجود تلك المنظمات يسمح للشغيلة ببلوغ الحد الأدنى من الوعي والقوة الطبقيتين، اللذين بدونهما يصبح تقدم ذلك الوعي أصعب بكثير. إن وجود هذه المنظمات يسمح كذلك بتعديل موازين القوى اليومية بين رأس المال والعمل الذي بدونه تهتز ثقة الطبقة العاملة بنفسها اهتزازا شديدا. وحده استبدالها المباشر بأشكال أعلى من التنظيم الطبقي (سوفييتات) قد يسمح بألاّ ينتهي إضعافها بتراجع الطبقة العاملة أو شللها. بالمقابل فإن إضعافها، لكي لا نقول تدمير الرجعية الرأسمالية لها، يشكل إضعافا وتراجعا خطيرين لمجمل البروليتاريا. هذه هي القاعدة المبدئية التي يركز الماركسيون الثوريون عليها سياستهم المتمثلة بالجبهة العمالية الموحدة ضد الرجعية الرأسمالية.
3- الدينامية الهجومية لجبهة «طبقة ضد طبقة»
بمواجهة أي هجوم رأسمالي ضد الطبقة العاملة، ولا سيما بمواجهة أي تهديد فاشي أو إقامة ديكتاتورية يمينية، يدعو الماركسيون الثوريون إلى تشكيل جبهة موحدة من جميع المنظمات العمالية، من القاعدة إلى القمة، ويجتهدون في أن يدخلوا إلى هذه الجبهة الموحدة كل المنظمات التي تنتسب إلى الحركة العمالية بما فيها الأكثر اعتدالا، التي يقودها أشد الناس انتهازية وأشدهم مراجعة. كما يتوجهون منهجيا إلى قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والنقابات الإصلاحية والمسيحية لكي يتم إرساء جبهة موحدة بين القيادات القومية، والمنطقية والمحلية، كما بين الفروع داخل المنشآت والأحياء، وذلك لمواجهة الهجوم المعادي بكل الوسائل المتوفرة.
إن رفض توسيع الجبهة الموحدة لتشمل قيادة الاشتراكية-الديموقراطية اوالأحزاب الشيوعية (وهي السياسة المسماة «سياسة المرحلة الثالثة» للكومنترن، التي يستعيدها اليوم العديد من المنظمات الماوية-الستالينية) يقوم على عدم فهم قصوي وطفولي للوظيفة الموضوعية لوحدة الجبهة البروليتارية ولشروطها المسبقة الذاتية. إنه يفترض مسبقا أن يكون جمهور الشغيلة الاشتراكيين (أو التابعين للحزب الشيوعي) مستعدا للانخراط في العمل الموحد مع الشغيلة الثوريين، دون الموافقة المسبقة لقياداته «الاشتراكية-الفاشية» أو «المراجعة». أي أنها تفترض كون المهمة التي ينبغي حلها قد تم حلها، إلاّ وهي مهمة فصل هذا الجمهور عبر تجربته الخاصة عن قياداته الانتهازية. ولكن توجيه الدعوة بالضبط إلى قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي للالتقاء داخل جبهة موحدة في وجه هجوم الرجعية، يسمح للشغيلة الذين يتبعون تلك القيادات بان يعيشوا تجربة ثمينة ولا غنى عنها بما يخص مصداقية اولئك القادة وفعالياتهم وحسن نواياهم.
زد على ذلك أن افتراض عدم ضرورة انخراط قيادات الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي في الجبهة الموحدة العمالية، إنما يختصر هذه الجبهة إلى أقلية داخل الطبقة العاملة، وينشر أوهاما خطيرة حول إمكانية دفع أرباب العمل، أو الدولة البورجوازية، أو التهديد الفاشي، إلى الوراء، تحت ضربات نشاطات أقلية.
هل يعني ذلك أن تكتيك الجبهة الموحدة محدود بأهداف دفاعية؟ كلا بالطبع، فتنظيم كامل الطبقة العاملة كتشكيل مثالي -ولو لأهداف دفاعية في البدء- يعدل موازين القوى بين الطبقات ويقوي إلى حد بعيد قتالية الطبقات الكادحة، وقوتها الضاربة، وقدرتها على العمل السياسي وثقتها بأنفسهما، فيخلق بالتالي احتياطيا عظيما إضافيا للنضال، يمكنه أن يتولى التحويل السريع للنضال الدفاعي إلى نضال هجومي. فأثناء الانقلاب الفاشل الذي نظمه فون كاب في مارس 1920 في ألمانيا، خلق الرد الظافر والموحد للمنظمات العمالية الألمانية، خلال أيام قليلات، وضعا وافق أثناءه مناضلو منظمات عديدة -بما فيها منظمات إصلاحية- على تشكيل ميليشيات عمالية مسلحة في العديد من مدن الرور، لا بل طرح القادة النقابيون الأكثر اتعدالا ضرورة قيام حكومة عمالية. إن الرد الظافر والوحدوي للجماهير الإسبانية ضد الانقلاب الفاشي الفاشل في يوليوز 1936 في معظم المدن الكبرى أدى إلى التسليح الشامل للبروليتاريا وإلى الاستيلاء على المصانع.
إن الماركسيين الثوريين الذين يرمون إلى الاستفادة ما أمكن من هذه الطاقة الهجومية الكامنة للجبهة العمالية الموحدة ينادون بضرورة بناء الجبهة الموحدة في القاعدة كما في القمة، دون أن يشكل هذا البناء إنذارا موجها لأحزاب البروليتاريا أو نقاباتها أو جماهيرها. ويفترض بناء من هذا النوع أن تضم الجبهة الموحدة، بالإضافة إلى الاتفاقات و«الكارتيلات» القومية، والنطقية، الخ.. للمنظمات العمالية، لجانا قاعدية في المنشآت والأحياء والنواحي، لجانا ينبغي أن تكون بأسرع ما يمكن لجانا منتخبة ديموقراطيا، ومنخرطة في حشودات وأعمال جماهيرية منهجية. إن الدينامية الهجومية لبنية من هذا النوع، تفتح الطريق في الواقع أمام وضع ثوري، إنما هي أمر بديهي.
4- الجبهة الموحدة العمالية والجبهة الشعبية
بقدر ما الماركسيون الثوريون هم أنصار الأكثر حزما لسياسة جبهة عمالية موحدة، بقدر ما يرفضون سياسة «الجبهة الشعبية»، التي طرحت من جديد منذ المؤتمر السابع للكومنترن، وهي السياسة الإصلاحية الاشتراكية-الديموقراطية القديمة القاضية بالتحالف بين البرجوازية «الليبرالية» (أو «القومية»، أو «المعادية للفاشية») والحركة العمالية («كارتيل اليسار»).
إن التمييز الجوهري بين الجبهة العمالية الموحدة و«كارتيل اليسار»، أو «الجبهة الشعبية»، يكمن في أن الجبهة العمالية الموحدة تستثير بمنطقها الرافع لشعار «طبقة ضد طبقة» دينامية تصعيدية لنضال البروليتاريا ضد البرجوازية، بينما تستثير سياسة الجبهة الشعبية بالمقابل، انطلاقا من منطقها القائل بالتعاون الطبقي، دينامية كبح للنضالات العمالية، لا بل قمع للشرائح العمالية الأكثر تجذرا. ففي حين لا تنطوي الجبهة العمالية الموحدة في وجه الهجوم الرأسمالي على أي شرط مسبق للدفاع عن النظام البرجوازي والملكية الرأسمالية (مهما يكن تعلق القادة الإصلاحيين بهكذا دفاع)، تقوم الجبهة الشعبية على احترام النظام البورجوازي والملكية، الذي يؤدي انعدامه، كما يقال، إلى استحالة استقبال «البرجوازية التقدمية» في الجبهة، بما «يمكن أن يقوي الرجعية». إن كل منطق الجبهة الشعبية يتجه إذا إلى حرف النضالات الجماهيرية، أو احتوائها، أو تحطيمها، وهو ما ليس واردا في حال اتفاقات الجبهة العمالية الموحدة.
طبعا، إن التمييز بين جبهة عمالية موحدة وجبهة شعبية لا ينطوي على اختلاف «مطلق»، وإن كان يطرح اختلافا ذا شأن، تبعا للطبيعة الطبقية الموضوعية لنوعي الاتفاق. إذ يمكن أن يكون هنالك تطبيقات انتهازية لتكتيك الجبهة العمالية الموحدة يبدأ خلالها قادة المنظمات التي تزعم أنها منظمات ثورية بكبح النضالات الجماهيرية بدورهم، بذريعة «عدم إرعاب القادة الإصلاحيين»، بينما يمكن للجماهير أن تنطلق في بعض الحالات من أوهام وحدوية تبذرها اتفاقات جبهة شعبية من أجل زيادة حدة نضالاتها، لا بل خلق بنى تنظيم ذاتي، وهي مبادرات على الماركسيين الثوريين أن يؤيدوها بالطبع ويدعموها بكل الوسائل.
لكن مهما تكن هذه الحالات الوسيطة، تبقى القضية المبدئية قضية حيوية، إذ علينا من وجهة نظر الصراع الطبقي أن ندعم سياسة الجبهة العمالية الموحدة، وأن نكافح كل اتفاق سياسي مع أحزاب بورجوازية، -حتى لو كانت «يسارية»- يعيد النظر في الاستقلال السياسي الطبقي للبروليتاريا.
5- الاستقلال السياسي الطبقي والتنظيم الموحد للطبقة
هكذا فإن إشكالية الجبهة الموحدة العمالية، كما إشكالية الجبهة الشعبية، تعيدنا في النهاية إلى مسألة حيوية واحدة، هي كيف يمكن للطبقة العاملة أن تنجز تنظيما توحيديا لقوتها، بالاستقلال التام عن البورجوازية، رغم تفتتها إلى تيارات أيديولوجية وأحزاب وشلل وبدع سياسية مختلفة، ورغم النقص في مستوى المتوسط لوعيها الطبقي.
إن الذين يدعون إلى الزوال المسبق لهذا التفتت، كشرط مسبق لتحقيق التنظيم الطبقي الموحد، يلاحقون سرابا لا أكثر، فهذا التفتت موجود منذ قرن، ولا أدنى إشارة إلى أنه سوف يزول قريبا. إن اعتبار هذا الزوال شرطا تمهيديا يشبه القول علميا أن وحدة الجبهة البروليتارية (إذا انتصارها) مستحيلة حتى مستقبل غير منظور.
إن الذين يرون في تحقيق وحدة عمل الطبقة ناتج اتفاقات على صعيد القمة، بالاستقلال عن المضمون الطبقي والدينامية الموضوعية التي تثيرها تلك الاتفاقات -عن طريق المماثلة مثلا بين الجبهة العمالية الموحدة والجبهة الشعبية- ينسون أن الوحدة الحقيقية للجبهة البروليتارية مستحيلة إلاّ على أساس طبقي. ليس معقولا أن تقبل كل قطاعات الطبقة العاملة وشرائحها الكبح الذاتي والبتر الذاتي اللذين تنطوي عليهما اتفاقات تعاون طبقي.
ثمة إذا رابط وثيق بين وحدة عمل الطبقة العاملة بمجملها والأهداف النضالية التي يوافق عليها الجميع، لا بل أشكال النضال التي تتبناها الطبقة. والماركسيون الثوريون يتمسكون بحزم بكل مبادرة وحدوية حقيقية، لأنهم مقتنعون أن هكذا مبادرات تقوي على الدوام كفاحية الشغيلة ووعيهم، باتجاه النضال الطبقي الحازم ضد رأس المال.
إن استقلال البروليتاريا الطبقي، الذي لا يمكن أن تتحقق بدونه وحدتها، يقع حيال أرباب العمل على مستوى المشروع الصناعي والفرع. كما يقع حيال الأحزاب البورجوازية، لا بل حتى حيال الدولة البورجوازية، والدولة الديموقراطية-البورجوازية الأكثر حرية. فالثقة بالنفس التي تكسبها الطبقة العاملة، التي تمر بتجربة وحدوية حقيقية تشمل الطبقة بأكملها، تحفزها للقبض بيديها الاثنتين على ناصية حل مشكلاتها جميعا، بما فيها المشكلات المتروكة عادة للبرلمان، وهذا سبب إضافي لكي يكون الثوريون المحامين الأشد حزما وصلابة عن وحدة عمل الطبقة العاملة كلها.
6- الاستقلال الطبقي والتحالفات بين الطبقات
إن التمييز المبدئي، الذي نقيمه بين الجبهة العمالية الموحدة والجبهة الشعبية، تعرض غالبا للاتهام بأنه «دوغمائي». والناقدون يرون أنه «ينكر ضرورة التحالفات»، وأنه بدون «تحالفات طبقية» لا مجال لانتصار الثورة الاشتراكية. لينين ذاته، ألم يركز كل الاستراتيجية البلشفية على ضرورة قيام تحلف بين البروليتاريا والفلاحين؟
فلنشر أولا إلى أن كل مقارنة بين البلدان الإمبريالية حاليا وروسيا القيصرية مقارنة خادعة. ففي روسيا لم تكن تمثل البروليتاريا أكثر من 20% من السكان العاملين. أمّا في البلدان الإمبريالية -باستثناء البرتغال- فالبروليتاريا، أي جمهور الذين يضطرون لبيع قوة عملهم، تمثل الأغلبية الساحقة داخل الأمة، أو 70% إلى 90% من السكان العاملين في معظم تلك البلدان. إن وحدة الجبهة البروليتارية (التي تضم فيما تضم المستخدمين بالطبع) هي أمر أكثر حيوية بكثير بالنسبة للثورة من التحالف مع الفلاحين.
نضيف إلى ذلك أن الماركسيين الثوريين ليسوا معادين أبدا لتحالف بين البروليتاريا والبورجوازية الصغيرة الكادحة (غير المستغِلة) في المدن والأرياف، حتى في البلدان التي تكون هذه الأخيرة فيها أقلية. ففي العديد من البلدان الإمبريالية، مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، ما يزال إرساء التحالف العمالي-الفلاحي ذا أهمية سياسية كبرى، وخصوصا اقتصادية، من أجل انتصار الثورة الاشتراكية وتدعيمها.
أمّا ما نرفضه فهو أن يكون التحالف بين الأحزاب العمالية والأحزاب البورجوازية ضروريا لإقامة تحالف الطبقات الكادحة. على العكس من ذلك، فتحرير الفلاحين وصغار البورجوازيين المدينيين من سيطرة البورجوازية يفترض مسبقا تحريرهم من الدعم الذي يقدمونه للأحزاب السياسية البورجوازية. يمكن للتحالف -لا بل ينبغي- أن يقوم على اساس مصالح مشتركة، وعلى البروليتاريا وأحزابها أن تقدم لهاتين الطبقتين أهدافا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية تهمها وتعجز البرجوازية عن تحقيقها لها. وإذا كانت التجربة تثبت إرادة البروليتاريا انتزاع السلطة وتحقيق برنامجها، فيمكنها أن تحوز على دعم جزء مهم من البورجوازية الصغيرة بغية تحقيق تلك الأهداف.
7- حركات تحرر النساء والأقليات القومية المضطهدة في انطلاق النضالات المعادية للرأسمالية
تقليديا، فهمت الحركة العمالية المنظمة مشكلة «التحالفات» كمشكلة انتخابية وسياسية (تحالف بين عدة أحزاب)، أو كتحالف بين الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين الكادحين وشرائح أخرى مستغلة من البورجوازية الصغيرة. إلاّ أنه خلال الثورات البروليتارية الماضية الكبرى، لاسيما الثورة الروسية والثورة الإسبانية، لعب الدمج بين الثورة الاجتماعية وحركات تحرر القوميات المضطهدة دورا مرموقا.
وإذ تغوص الرأسمالية المعاصرة في أزمة اجتماعية أكثر فأكثر تعميما (لا سيما منذ النصف الثاني من الستينات)، تتسم الصراعات الاجتماعية-السياسية في البلدان الإمبريالية بالدمج بين النضالات البروليتارية «الصرفة» وانفجارات استياء وتمرد اجتماعي لقطاعات واسعة من السكان لا تتشكل بكاملها من البروليتاريا: حركة تمرد الشبيبة، حركة تحرر النساء، حركة تمرد القوميات المضطهدة.
حين نقول «لا تتشكل بكاملها من البروليتاريا»، نريد أن نقول ذلك وحسب. إنه لمن العبث أن نعتبر الشبيبة أو النساء أو الأقليات العرقية والسلالية كـ«غير بروليتاري»، لا بل «بورجوازية صغيرة» بمجملها، تبعا لمعايير أيديولوجية نفسية. فجزء متزايد من النساء في البلدان الإمبريالية (أكثر من 50% في بعض البلدان) يتألف من مأجورات وليس من ربات منازل، وجزء مهم من الشباب يتألف من شغيلة شبان ومن متدربين. إن السود البورتوركيين والشيكانو في الولايات المتحدة، والايرلنديين والمهاجرين من آسيا والهند الغربية إلى بريطانيا، والباسكيين والقشتاليين في إسبانيا -ونحن نقتصر على هذه الأمثلة الثلاثة- لم يتبلتروا فقط إلى حد بعيد، بل يشكلون كذلك جزءا مهما من بروليتاريا تلك الدول بصورة إجمالية.
إن شروط حياة كل هذه الشرائح التي في وضع التمرد من نوع خاص -نساء، وشباب وأقليات عرقية وقومية- ومطالبها الخاصة بها، تستحق انتباها خاصا من جانب الحركة العمالية وطليعتها الثورية لأسباب ثلاثة بديهية.
أولا، لأن هذه الشرائح تضم عموما القسم الأكثر تعرضا للاستغلال والأكثر بؤسا من البروليتاريا الذي يتطلب اهتماما خاصا من جانب كل شغيل واع. ثم إن هذه الشرائح هي عموما ضحايا اضطهاد مزدوج، بما هي بروليتاريون ونساء وشبيبة وأقليات ومهاجرون في الوقت ذاته… والحال أن البروليتاريا ليست قادرة على التحرر نهائيا، ولا أن تلغي العمل المأجور وتبني مجتمعا لا طبقيا، من دون أن تصفي جذريا كل أشكال التمييز والاضطهاد واللا مساواة الاجتماعية. أخيرا، تسمح حركة تمرد تلك الشرائح وتحررها بانخراط قطاعات غير بروليتارية، تشكل أجزاء من الشرائح المضطهدة المشار إليها أعلاه، في النضال من أجل الثورة الاشتراكية.
هذا التحالف ليس آليا طبعا، فهو يتوقف على وزن التفاوت الطبقي الذي سيستثيره التقاطب الأقصى للقوى الاجتماعية، خلال السيرورة الثورية، داخل حركة تحرر النساء والشبيبة والقوميات والأعراق المضطهدة. إلاّ أنه يتوقف أيضا على قدرة الحركة العمالية، ولا سيما على قدرة طليعتها الثورية أن تقبض بجرأة على ناصية القضية العادلة التي يقاتل من أجلها المتعرضون للاضطهاد.
إن الماركسيين الثوريين يعترفون بمبررات حركات التحرر المستقلة للنساء والشبيبة والقوميات والأعراق المضطهدة، لا فقط قبل انهيار الرأسمالية، بل حتى بعده، هذا الانهيار الذي لا يمحو بين ليلة وضحاها رواسب آلاف السنين من المسبقات القائمة على التمييز بين الجنسين، أو العرقية أو الشوفينية، أو الحاقدة على الأجانب، داخل الجماهير الكادحة. ولسوف يسعون لكي يكونوا أفضل المكافحين، داخل هذه لحركات الجماهيرية المستقلة، من أجل كل المطالب العادلة والتقدمية، ولكي يكونوا وراء التعبئات والنضال الأكثر اتساعا والأكثر توحيدية.
كما سيكافحون في الوقت ذاته منهجيا لصالح حلول سياسية واجتماعية إجمالية -استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وإلغاء النظام الرأسمالي- بدونها يستحيل تقديم حل عام ودائم للتمييز بين الجنسين وللتمييز العرقي والشوفيني. وسيكونون بصورة ليست أقل منهجية المدافعين الأشداء عن تضامن كل المستغَلين (بفتح الغين) وكل البروليتاريين في النضال من أجل مصالحهم الطبقية، بغض النظر عن كل اختلاف في الجنس أو العرق أو القومية. وكلما كانت معركتهم ضد كل أشكال الاضطهاد الخاصة، التي تعاني منها هذه الشرائح المتعرضة لاستغلال مضاعف، معركة أكثر حزما واقناعا، كلما أصبح هذا النضال من أجل التضامن الطبقي العام داخلها أكثر فعالية.
*******
المراجع:
قرارات المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية حول التكتيك
لينين، «اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي
تروتسكي، إلى أين تتجه فرنسا؟
تروتسكي، كتابات حول إسبانيا.
تروتسكي، كتابات حول ألمانيا.
تروتسكي، الحركة الشيوعية في فرنسا.
ماندل، حول الفاشية.
دانييل غيران، الفاشية ورأس المال الكبير.
هنري فيبر، الماركسية والوعي الطبقي.
ماندل، لينين والوعي الطبقي البروليتاري.
--------------------------------------------------------------------------------
15/ حول المجتمع اللا طبقي
1- الهدف الاشتراكي المقصود
إن الهدف الاشتراكي الذي نرمي إلى بلوغه هو استبدال المجتمع البورجوازي، القائم على نضال الجميع ضد الجميع، بمجتمع جماعي لا طبقي، حيث يحل التضامن الاجتماعي محل الرغبة في الثراء الفردي كمحرك أساسي للنشاط، وحيث يضمن ثراء المجتمع التطور المنسجم لجميع الأفراد.
إن الماركسيين لا يطمحون إلى «جعل الناس جميعا متساوين» كما يزعم كل الخصوم الجاهلين للاشتراكية، بل يودون أن يفسحوا في المجال، للمرة الأولى في التاريخ البشري، أمام تطور السلسلة اللا متناهية من إمكانات الفكر والعمل لدى كل فرد. إلاّ أنهم يفهمون أن المساواة الاقتصادية والاجتماعية، وتحرر الإنسان من ضرورة الكفاح لأجل خبزه اليومي، يمثلان شرطا مسبقا للحصول على هذا التحقيق الفعلي للشخصية الإنسانية لدى كل الأفراد.
إن مجتمعا اشتراكيا يتطلب إذا اقتصادا متطورا إلى حد يلي معه الإنتاج وفقا للحاجات الإنتاج بهدف الربح. فالإنسانية الاشتراكية لن تعود تنتج سلعا معدة للتبادل في السوق لقاء المال، بل ستنتج قيما استعمالية توزع على جميع أعضاء المجتمع بهدف كفاية كل حاجاتهم.
إن مجتمعا من هذا النوع سيحرر الإنسان من قيود التقسيم الاجتماعي والاقتصادي للعمل. فالماركسيون يرفضون الموضوعة التي ترى أن بعض الناس «ولدو للقيادة» والبعض الآخر «ولدوا للطاعة». وليس أي من الناس معدا بطبيعته ليكون طيلة حياته عامل منجم أو فرازا أو سائق حافلة كهربائية. في كل إنسان تهجع رغبة ممارسة عدد كبير من النشاطات المختلفة، ويكفي أن نراقب الشغيلة في أوقات فراغهم لنتأكد من ذلك. وفي المجتمع الاشتراكي، سوف يسمح المستوى الرفيع من التأهيل التقني والثقافي لأي مواطن أن يشغل نفسه بالعديد من المهمات المتنوعة المفيدة للجماعة، ولن يفرض اختيار «المهنة» فرضا على الناس، بفعل قوى أو شروط مادية مستقلة عن إرادتهم، بل سيتوقف ذلك الاختيار على حاجتهم الخاصة بهم، وعلى تطورهم الفردي. سيتوقف العمل عن أن يكون نشاطا مفروضا يتهرب المرء منه، ليصبح تحقيقا للذات وحسب، وسيكون الإنسان حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن مجتمعا من هذا النوع سوف يجهد لإزالة كل أسباب النزاعات بين البشر، وسيكرس للنضال ضد الأمراض ولتكوين الطبع لدى الطفل، وللتربية والفنون الجميلة، الموارد الهائلة المبذرة اليوم على أهداف التدمير والقسر. وبإزالة كل التناقضات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس تتم إزالة كل أسباب الحرب أو الصراعات العنيفة. إن ارساء مجتمع اشتراكي يشمل العالم بأجمعه هو وحده الكفيلة بتأمين هذا السلم الشامل الذي يصير شرطا لاستمرار الجنس البشري على قيد الحياة في عصر الأسلحة الذرية والنووية الحرارية
2- الشروط الاقتصادية والاجتماعية لبلوغ هذا الهدف
إذا كنا لا نكتفي بالحلم بمستقبل مشرق، وإذا كنا نريد الكفاح من أجل بلوغ هذا المستقبل، علينا أن نفهم أن بناء مجتمع اشتراكي يقلب رأس على عقب تقاليد الناس وعاداتهم التي تبلورت خلال آلاف السنين في مجتمعات منقسمة إلى طبقات، هذا البناء يخضع لتحولات مادية ليست أقل زعزعة ينبغي إنجازها مسبقا.
يتطلب بلوغ الاشتراكية قبل كل شيء إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. هذه الملكية تفترض حتما في عصر الصناعة الكبرى والتقنية الحديثة (التي لا يمكن إلغاؤها دون حشر البشرية في زاوية الفقر المعمم) قسمة المجتمع إلى أقلية من الرأسماليين المستغِلين (بكسر الغين) وأكثرية مستغَلة (بفتح الغين) من مأجورين.
إن بلوغ المجتمع الاشتراكي يتطلب إلغاء العمل المأجور وبيع قوة العمل لقاء أجرة ثابت من المال يجعل من المنتج جزءا عاجزا من الحياة الاقتصادية. ينبغي أن يحل محل العمل المأجور تعويض العمل بالحصول الحر على كل الخيرات الضرورية لكفاية حاجات المنتجين، ولا يمكن أن يولد وعي اجتماعي جديد وموقف جديد يتخذه الناس بعضهم تجاه البعض الآخر إلاّ في مجتمع يضمن للإنسان هكذا وفرة في الخيرات.
هكذا وفرة في الخيرات ليست طوباوية إطلاقا، شرط إدخالها تدريجيا والانطلاق من عقلنة تدريجية لحاجات الناس الذين تحرروا من إكراه المنافسة، ومن مطاردة الثراء الفردي، ومن استخدام الإعلان الذي يهتم بخلق حالة عدم اكتفاء دائم لدى الأفراد. هكذا خلقت التطورات في مستوى الحياة حالة إشباع الاستهلاك الخبز والبطاطا والخضار وبعض الفواكه، لا بل منتجات الحليب والسمنة واللحم في الجزء الأقل فقرا من سكان البلدان الإمبريالية. كما أن اتجاها مماثلا يتجلى على صعيد الألبسة الداخلية والأحدية والأثاث المنزلي الأساسي، الخ. فهذه المنتجات جميعا يمكن أن توزع بالتدريج مجانا، دون تدخل المال، ودون أن يؤدي هذا إلى زيادات مهمة في الإنفاقات الجماعية. والإمكانية ذاتها قائمة بالنسبة للخدمات الاجتماعية كالتعليم والعناية بالصحة والنقل المشترك، الخ.
إلاّ أن إلغاء العمل المأجور لا يتطلب تبديل شروط المكافأة وتوزيع الأموال الاستهلاكية وحسب، بل كذلك تبديل بنية المشروع التسلسلية، وإحلال نظام ديموقراطية المنتجين محل نظام الأمر المحصور بالمدير (يساعده رؤساء المشاغل ورؤساء الفرق، الخ.). إن هدف الاشتراكية حكم الناس ذاتهم بذاتهم على كل مستويات الحياة الاجتماعية ابتداء بالحياة الاقتصادية. إنه استبدال كل المندوبين المعينين بقادة منتخبين، كل المندوبين الدائمين بقادة يمارسون وظيفتهم بالتناوب. على هذه الطريق يتم التوصل لخلق شروط مساواة حقيقية.
إن الثروة الاجتماعية التي تسمح بإرساء نظام وفرة، غير ممكن بلوغها إلاّ عن طريق تخطيط الاقتصاد، الذي يسمح بتلافي كل تبذير يتمثل بعدم استخدام وسائل الإنتاج والبطالة، أو باستخدامها لأهداف متعارضة مع مصالح البشرية. ويبقى تحرير العمل خاضعا للتطور العظيم للتقنية الحديثة (التطبيق الإنتاجي للطاقة الذرية بعد استجماع شروط الأمن القصوى، والبحث المكثف عن موارد طاقة بديلة، الإلكترونيك والتوجيه من بعيد اللذان يسمحان بالأتمتة الكلية للإنتاج) الذي يحرر الإنسان أكثر فأكثر من المهام الثقيلة والمحطة. هكذا يجيب التاريخ مقدما على الاعتراض المبتذل القديم على الاشتراكية: «من سيمارس إذا المهمات الدنيا في مجتمع اشتراكي؟»
إن التطور الأقصى للإنتاج ضمن الشروط الأكثر ريعية بالنسبة للبشرية يتطلب الإبقاء على تقسيم دولي للعمل والتوسع به، تقسيم معدل مع ذلك بعمق من أجل إلغاء الانقسام إلى بلدان «متقدمة» وبلدان «تابعة»، وإلغاء الحدود وتخطيط الاقتصاد على المستوى العالمي. إن إلغاء الحدود والتوحيد الفعلي للجنس البشري هو أيضا أمر سيكولوجي من أوامر الاشتراكية، والوسيلة الوحيدة لإلغاء اللاّ مساواة الاقتصادية والاجتماعية بين الأمم. ولا يعني إلغاء الحدود إلغاء الشخصية الثقافية الخاصة بكل أمة، بل يسمح على العكس بتأكيد هذه الشخصية بصورة أكثر سطوعا مما هي الحال اليوم، في الميدان الخاص بها.
إن تسيير الشغيلة للمشاريع، وتسيير مؤتمر مجالس الشغيلة للاقتصاد، وتسيير كل دوائر الحياة الاجتماعية عن طريق التجمعات المعنية، يتطلب هو الآخر شروط تحقيق مادية، إذا شاء ألاّ يكون وهميا. ولا غنى عن الخفض الجذري ليوم العمل -أو اتباع الدوام النصفي- من أجل أن يتوفر للمنتجين الوقت لتسيير المشاريع والكومونات، ولكي لا تتشكل شريحة جديدة من المدراء المحترفين.
لا غنى عن تعميم التعليم العالي -وتوزيع جديد لـ«وقت الدراسة» و«وقت العمل» على امتداد كل حياة الرشد للرجل والمرأة- من أجل أن يزول بالتدريج فصل العمل اليدوي عن العمل الذهني. كما لا غنى عن المساواة الدقيقة في المكافأة وفي التمثيل وفرص التأهيل العالي للنساء من أجل ألاّ تستمر اللا مساواة بين الجنسين بعد زوال اللا مساواة بين الطبقات الاجتماعية.
3- الشروط السياسية، والأيديولوجية، والنفسية والثقافية لبلوغ هذا الهدف
إن الشروط المادية لبلوغ مجتمع لا طبقي هي شروط ضرورية لكنها غير كافية، فالاشتراكية والشيوعية لن تكونا الناتج الآلي لتطور قوى الإنتاج، ولاختفاء النقص في الحاجيات، ولارتفاع مستوى التأهيل التقني والثقافي للبشرية. ينبغي كذلك تبديل العادات والتقاليد والبنى الذهنية التي تنتج عن آلاف السنوات من الاستغلال والقمع وعن الشروط الاجتماعية التي تلائم الرغبة في الإثراء الفردي.
قبل كل شيء، ينبغي انتزاع كل سلطة سياسية من الطبقات المسيطرة ومنعها من استعادة تلك السلطة. إن التسليح العام للشغيلة، الذي يحل محل الجيوش الدائمة، ثم التدمير التدريجي لكل الأسلحة وعجز أنصار محتملين لإعادة حكم الأقلية عن إنتاج تلك الأسلحة، كل ذلك ينبغي أن يسمح ببلوغ الهدف المشار إليه.
إن ما يضمن استمرار الشروط التي يستحيل معها العودة لنظام قمع واستغلال يتلخص بالأمور التالية: ديموقراطية مجالس الشغيلة، ممارسة تلك المجالس لكامل السلطة السياسية، الرقابة العامة على الإنتاج وتوزيع الثروات، تأمين علنية تامة للنقاشات التي تؤدي إلى القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، وصول الشغيلة جميعا إلى وسائل الإعلام وتكوين الرأي العام.
يتعلق الأمر فيما بعد بخلق الشروط الملائمة لكي يعتاد المنتجون على العيش بأمان ويتوقفوا عن قياس جهودهم تبعا للمكافآت التي يتوقعونها لقاءها. ولا يمكن لهذه الثورة النفسية أن تظهر إلاّ حين تعلم التجربة الناس أن المجتمع الاشتراكي يضمن فعليا، وبصورة دائمة، كفاية حاجاتهم الأساسية، دون حساب كل واحد منهم، بالمقابل، في الثروة الاجتماعية.
إن مجانية الغداء واللباس الضروري، والخدمات العامة، والعناية بالصحة، والتعليم، والخدمات الثقافية، سوف تسمح ببلوغ هذا الهدف بعدما يكون قد مر على اعتمادها جيلان أو ثلاثة. فمنذ ذاك لا يعود ينظر إلى العمل كوسيلة «لكسب المعيشة» أو لتأمين الاستهلاك الجاري، بل يصبح حاجة للنشاط الخلاق الذي يساهم كل واحد عبره في رخاء الجميع وتطورهم.
إن التبديل الراديكالي لبنى القمع المتمثلة بالعائلة البطريركية وبالمدرسة المتسلطة المتقوقعة في برجها العاجي، وبالاستهلاك السلبي للأفكار و«الخيرات الثقافية»، سوف يتلازم مع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية.
لن تتولى ديكتاتورية البروليتاريا قمع أية فكرة وأي تيار علمي أو أدبي أو ثقافي أو فني، فهي لن تخاف من الأفكار، لقناعتها بتفوق الأفكار الشيوعية. ومع ذلك فلن تكون حيادية إزاء النضال الأيديولوجي الذي يستمر. وسوف تخلق كل الشروط الملائمة من أجل أن تتمثل البروليتاريا المتحررة أفضل منتجات الثقافية القديمة، وتبني بالتدريج عناصر الثقافة الشيوعية الموحدة للبشرية القادمة.
إن الثورة الثقافية التي ستطبع بخاتمها بناء الشيوعية ستكون قبل كل شيء ثورة الشروط التي يخلق الناس من ضمنها ثقافتهم الخاصة بهم، وتحويل جمهور المواطنين من مستهلكين سلبيين إلى منتجين ثقافيين فاعلين وخلاقين.
والعائق الأكبر الذي يبقى على البشرية أن تتخطاه لخلق عالم شيوعي إنما هو المسافة الضخمة التي تفصل الإنتاج ومستوى معيشة الفرد في البلدان المتقدمة صناعيا عنهما في البلدان المتخلفة. فالماركسية تنبذ الطوبى الرجعية لشيوعية قائمة على التقشف والعسر. إن تفتح الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب نصف الكرة الجنوبي لا يتطلب فقط تخطيطا اشتراكيا للاقتصاد العالمي، بل كذلك إعادة توزيع جذرية للموارد لصالح تلك الشعوب.
إن تبديل أنماط التفكير الأنانية وقصيرة النظر البورجوازية الصغيرة التي تواصل الحياة اليوم على مستوى جزء مهم من الطبقة العاملة في نصف الكرة الشمالي سيسمح وحده ببلوغ هذا الهدف. وعلى التربية الأممية أن تسير نحو هذا الهدف جنبا إلى جنب مع عادة الوفرة التي ستبرهن أنه يمكن القيام بإعادة التوزيع تلك دون إحداث تراجع في مستوى معيشة الجماهير الشمالية.
4- أطوار المجتمع غير الطبقي
على أساس التجربة الغنية للثورات البروليتارية منذ أكثر من قرن -أي منذ كومونة باريس- يمكن أن نميز ثلاثة أطوار من بناء مجتمع لا طبقي:
- طور الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وهو طور ديكتاتورية البروليتاريا، واستمرار الرأسمالية في بلدان مهمة، والاستمرار الجزئي للإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، واستمرار العديد من الطبقات والشرائح الاجتماعية داخل البلدان المنخرطة في هذا الطور، وبالتالي ضرورة استمرار الدولة من أجل الدفاع عن مصالح الشغيلة ضد جميع أنصار العودة إلى مملكة رأس المال.
- طور الاشتراكية، التي ينجز بناؤها والتي تتميز بزوال الطبقات الاجتماعية («الاشتراكية هي المجتمع اللا طبقي» حسب تعبير لينين)، وبزوال الاقتصاد البضاعي والنقدي واخفتاء الدولة وانتصار المجتمع الجديد على المستوى العالمي. إلاّ أنّ مكافأة كل شخص في الطور الاشتراكي (بغض النظر عن الكفاية المجانية للحاجات الأساسية) سيستمر قياسها تبعا لكمية العمل الذي يقدمه هذا الشخص للمجتمع.
- طور الشيوعية، الذي يتميز بالتطبيق الكامل لمبدأ «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته»، وبزوال التقسيم الاجتماعي للعمل والفصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني، وبزوال الفروق بين المدينة والريف. سوف تعيد البشرية تنظيم نفسها بشكل كومونات حرة من المنتجين-المستهلكين، القادرين على إدارة أوضاعهم بأنفسهم دون أي جهاز منفصل، وقد أعيد دمجهم في وسط طبيعي معاد تأهيله، وقدمت لهم الحماية ضد مخاطر تدمير توازن البيئة.
إلا أنه حين نجد أنفسنا أمام مجتمع لاحق للرأسمالية تخلص من احتكار السلطة بين يدي شريحة بيروقراطية -أي إزاء سلطة فعلية للشغيلة- لن تعود هناك حاجة لأية ثورة وأية قطيعة مفاجئة لتسجيل تعاقب هذه الأطوار، فهي ستنتج عن تطور تدريجي لعلاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وستكون تعبيرا عن الاضمحلال التدريجي للمقاولات البضاعية والمال والطبقات الاجتماعية والدولة والتقسيم الاجتماعي للعمل والبنى الذهنية التي نجمت عن كل الماضي القائم على اللا مساواة والصراع الاجتماعيين. إن الجوهري يكمن في الشروع حالا بسيرورات الاضمحلال وعدم تأجيلها لأجيال قادمة.
هذا هو مثلنا الأعلى الشيوعي، وهو يشكل الحل الوحيد للمشكلات الحادة التي تواجهها الإنسانية. وتكريس الحياة لتحقيقه يبرهن عن الجدارة بفطنة أفضل أولاد جنسنا وشهامتهم، بالمفكرين الأكثر جسارة والمقاتلين الأكثر جرأة من أجل تحرير العمل، بالأمس كما اليوم.
*******
المراجع:
كارل ماركس، نقد برنامج غوتا.
فريدريك إنجلز، دحض دوهرينغ، الجزء الثالث: «الاشتراكية».
لينين، الدولة والثورة.
بوخارين وبريو براجنسكي، ألف باء الشيوعية.
ليون تروتسكي، الأدب والثورة -مشكلات الحياة اليومية.
لافارغ، حق الكسل.
--------------------------------------------------------------------------------
16/ الدياليكتيك المادي
1- الحركة الشاملة
إذا عدنا إلى مضمون الفصول الخمسة عشر السابقة وحاولنا أن نختصرها بصيغة واحدة، لا يمكننا أن نجد أفضل من الصيغة التالية: كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.
لقد انتقلت البشرية من المجتمع البدائي غير الطبقي إلى المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي سيكون بدوره منطلقا للمجتمع الاشتراكي اللا طبقي اللاحق. إن أنماط الإنتاج تتعاقب، وحتى قبل أن تزول تخضع لتبدلات متواصلة. تختلف الطبقة المسيطرة اليوم كثيرا عن طبقة مالكي العبيد التي كانت مهيمنة في الإمبراطورية الرومانية، والبروليتاري المعاصر يختلف كليا عن القن في القرون الوسطى. وبين الرأسمالي صاحب المعمل الصغير في بداية القرن التاسع عشر، والسيد روكفلر أو صاحب تروست رون بولنك في أيامنا هذه، بون شاسع. كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.
هذه الحركة الشاملة يمكن أن نجدها على كل مستويات الواقع، وليس فقط مستوى تاريخ المجتمعات البشرية. فالأفراد يتبدلون، خاضعين لقدر محتوم. إنهم يولدون ويكبرون وينضجون ويرشدون، ثم يشرعون بالانحدار وينتهون إلى الموت، وهذا القدر يصيب الأنواع الحية كما يصيب الأفراد. فالجنس البشري لم يكن حيا على الدوام، والعديد من الأنواع التي كانت تقطن في الماضي كوكبنا، من مثل الزواحف العملاقة في العصر الثالث، قد اندثرت، بينما تندثر الآن تحت أعيننا أنواع أخرى نباتية وحيوانية، وذلك جزئيا كنتيجة لأشكال الخلل الفوضوية التي أحدثها نمط الإنتاج الرأسمالي في البيئة الأرضية.
إن كوكبنا بدوره لن يحيا إلى الأبد، ففقدان الطاقة يحكم عليه بالزوال حتما في يوم من الأيام. كما أنه لم يكن موجودا منذ البدء، فقد ولد من مجموعة نجوم ليست بحد ذاتها إلاّ واحدة من مجموعات لا تحصى مشابهة لها في الكون. إن الحركة أو التطور الشامل تتحكم بكل وجود، وهذا الوجود مادي بحت، وفي أساس المادة ذرات تتألف هي الأخرى من دقائق أصغر، وإدغامات الذرات تشكل جزيئات تكوّن فيما بينها العناصر الأساسية المختلفة للقشرة الأرضية والجو. هكذا فإن الأوكسجين والهيدروجين، بعد أن يدخلا في إدغام معيّن، مرموز إليه بـ H2O يؤلفان الماء، بينما تشكل الجزيئات الأسس التي تقود عملية تكوين الحوامض الأمينية.
هكذا نرى أن تطور المادة غير العضوية أدى إلى ولادة المادة العضوية، ضمن شروط محددة. فالحوامض الأمينية تشكل البروتيينات التي تعمل كخلايا، وهذه الأخيرة تستثير تطور الأنواع الحية، أكانت نباتية أو حيوانية. وتولد في مجرى هذا التطور الكائنات الحية العليا، أو الثدييات، وتتفرع عنها القرديات التي تحدر منها النوع البشري.
2-الدياليكتيك، منطق الحركة
بما أن حركة شاملة تميز -كما يبدو- كل وجود، فينبغي أن نستخلص ملامح مشتركة بين حركة المادة (أو الطبيعة) وحركة المجتمع الإنساني وحركة معارفنا (أو العلم، الفكر الإنساني). إن الدياليكتيك المادي الذي بلوره ماركس وإنجلز يؤكد أنه عرّى في الواقع هذه الملامح المشتركة للحركة الشاملة.
يتجلى الدياليكتيك إذا، أو منطق الحركة، على ثلاثة مستويات:
ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كليا، أي مستقل عن الوجود الإنساني وعن مشاريع الإنسان ونواياه أو حوافزه، وهو لا يفعل مباشرة في التاريخ البشري. لا يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى الإنتاج من استخدام قوانين الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية.
ديالكتيك التاريخ، وهو ديالكتيك موضوعي إلى حد بعيد أولا، ولكن يشكل اقتحامه من جانب مشروع البروليتاريا، القاضي بإعادة بناء المجتمع وفقا لبرنامج معد مسبقا، إنعطافا ثوريا، حتى لو ارتبط وضع هذا المشروع وتحقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقا ومستقلة عن إرادة البشر.
ديالكتيك المعرفة (الفكر الإنساني) الذي هو ديالكتيك الموضوع-الذات بامتياز، وناتج تفاعل مستمر بين الموضوعات المطلوبة معرفتها (موضوعات كل فرع من العلوم) وعمل الذوات التي تسعى لفهمها والتي يشرطها وضعها الاجتماعي، ووسائل التقصي الموروثة الموضوعة تحت تصرفها -وسائل العمل كما المفاهيم- وتحويل تلك الوسائل عبر النشاط الاجتماعي الجاري، الخ.
بمقدار ما يشكل اكتشاف الديالكتيك الموضوعي طورا من تاريخ المعارف والفكر البشري (بلور الديالكتيك في البدء فلاسفة إغربق مثل هيراقليط، ثم استعاده سبينوزا وطوّره هيغل)، يمكن أن نخضع لإغراء إرجاع كل الديالكتيك إلى ديالكتيك الموضوع-الذات، وهو ما يمكن اعتباره خطأ.
واضح أن كل ما نعرفه، ومن بينه ما له علاقة بديالكتيك الطبيعة، إنما نعرفه بواسطة دماغنا وأفكارنا وممارستنا الاجتماعية، التي تحددها شروط وجودنا الاجتماعي. إلاّ أن هذا الواقع البديهي لا يحول دون أن نتمكن من معرفة أن الحياة أقدم من الفكر الإنساني (ومن التأكيد من صحة ذلك، ورؤية إثبات ذلك عن طريق براهين عملية متعددة)، وأن الأرض أقدم من الحياة، والكون أقدم من الأرض، وأن كل هذه الحركة هي حركة مستقلة عن العمل وعن وجود الإنسان أو فكره، وأنّ الفكر الإنساني ذاته هو ناتج تلك الحركة: فالفكر هو المادة التي تعي ذاتها. ذلكم هو المعنى الدقيق لمفهوم: «الديالكتيك المادي».
أكثر من ذلك، فبقدر ما تتحسن معارفنا وتصبح علمية أكثر فأكثر، وبقدرما تقترب المعرفة من الواقع (إن تطابقا كليا للمعرفة والواقع مستحيل، لا سيما لكون هذا الأخير في حالة تبدل دائم)، بمقدار ما تتابع مسيرة تلك المعرفة الحركة الموضوعية للمادة أكثر فأكثر. إن بوسع ديالكتيك فكرنا العلمي، أو الديالكتيك المادي، أن يقارب الواقع، بالضبط لكون حركته الخاصة تتوافق أكثر فأكثر مع حركة المادة، لا سيما بفضل الممارسة الاجتماعية التي تعبر عن سيطرة متنامية على قوى الطبيعة، لأن قوانين المعرفة والفهم الذهني للواقع الذي تطبقه تتوافق أكثر فأكثر مع القوانين التي تقود الحركة الشاملة للواقع الموضوعي.
ينبغي أن نشير إلى وجود اختلاف كبير بين تطور العلوم الطبيعية وتطور العلوم الاجتماعية أي معارفنا المتعلقة بكل ما يتخذ الحياة الاجتماعية موضوعا للبحث، بما فيها معارفنا حول بدايات تطور العلوم جميعا، ومن بينها العلوم الطبيعية، وحول ديالكتيكها.
إن تطور العلوم الطبيعية محدد هو الآخر تاريخيا واجتماعيا، فالناس، ومن بينهم العباقرة الأكثر جسارة، عاجزون عن أن يطرحوا أكثر من عدد معين من المشكلات العلمية في كل عصر، وعن أن يحلوا أكثر منه. إنهم يخضعون للأفكار والتربية المتلقاة، والإشكاليات الجديدة تولد في هذا السياق، في علاقة مع تبدلات مادية، لا سيما تلك المتعلقة بالعمل وبأدوات العمل وأدوات الاستقصاء العلمية، الخ. إلاّ أن الأمر يتعلق بتحديد غير مباشر، لا تتوسطه بشكل مباشر مصالح مادية طبقية. ولا يمكن دحض نظريات علمية تقوم على براهين اختبارية عن طريق الرجوع إلى الديالكتيك عموما أو إلى الأصل الاجتماعي أو المواقف السياسية لدى العلماء الذين صاغوا تلك النظريات. لا يمكن دحضها إلاّ عبر نظريات علمية أخرى جرى البرهان على صحتها اختباريا، نظريات تحلل بشكل أفضل واقعا أكثر تعقيدا.
يختلف الأمر مع العلوم الاجتماعية، إذ هي تتناول عن كثب أكثر تنظيم المجتمع الطبقي وبنيته. ووزن «الأفكار المتلقاة والموروثة» أكبر فيها، لا سيما أن هذه الأفكار ليست سوى التعبير، على المستوى الإيديولوجي، عن مصالح ترمي للمحافظة على الواقع الاجتماعي أو للثورة الاجتماعية، مصالح يمكن إرجاعها في نهاية المطاف إلى مواقف طبقية متضادة. ودون أن نريد تحويل الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والأنتبولوجيا إلى «عملاء» واعين لهذه أو تلك من الطبقات الاجتماعية، منخرطين في «مؤامرة» للدفاع عن الوضع القائم أو لـ«تنظيم التخريب»، من البديهي أن التحديد الاجتماعي لتطور العلوم الاجتماعية هو أكثر مباشرة وفورية بكثير من تطور العلوم الطبيعية. وفي الوقت ذاته، فإن موضوع العلوم الاجتماعية يتحدد فورا، وبقوة الأشياء، ببنية المجتمعات التي ترتبط بها الوقائع المدروسة وبتاريخها، وهو ما ليس حال موضوع العلوم الطبيعية.
3- الديالكتيك والمنطق الصوري
يتميز الديالكتيك، أو منطق الحركة، عن المنطق الصوري أو المنطق السكوني. فالمنطق الصوري يقوم على ثلاثة قوانين أساسية:
أ- قانون التماثل: أ = أ. يبقى الشيء مساويا لداته على الدوام.
ب- قانون التضاد: أ، مختلفة عن لا-أ، أ لا يمكن أن تكون مساوية أبدا للا -أ.
ج- قانون الثالث المستبعد: أمّا أ، وأمّا لا-أ. لا يمكن لشيء أن لا يكون أ، وأن لا يكون لا-أ.
تسمح لنا لحظة من التأمل بالاستنتاج أن ما يميز المنطق الصوري هو المسار الذي يكمن في وضع الحركة والتبدل بين هلالين. كل القوانين التي أوردنا صحيحة، إذا لم نأخذ الحركة بالاعتبار. أ تبقى مساوية لذاتها طالما لم تتغير. أ تختلف عن لا-أ طالما لم تتحول إلى نقيضها. هنالك أ، او لا-أ طالما ليست هناك حركة تدغم أ مع لا-أ، الخ، الخ. إزاء لآتحول الشرقنة إلى فراشة والمراهق إلى راشد، يصبح «قانون التماثل» غير كاف، بوضوح.
إن غض النظر عن الحركة والتحول والتبدلات مفيد من زاويتين: أولا للتمكن من دراسة ظاهرات معينة بصورة معزولة ومتواصلة، وهو ما يسمح، دون شك، بتعميق معارفنا حول هذه الظاهرات. وبالتالي، من زاوية عملية، حين تكون التبدلات الحادثة طفيفة للغاية بحيث يمكن تجاهلها عمليا.
فإذا اشتريت كيلو سكر من حانوت السمان، فالمساواة التي يشير إليها الميزان: 1 كغ سكر = 1 كغ، ذات قيمة بالنسبة إلي، نظرا للهدف العملي للشراء. فللتمكن من تحلية قهوتي والإبقاء على توازن موازنتي المنزلية، لا يهم كثيرا ألاّ يكون الوزن الفعلي لهذه الرزمة كيلو غراما، بل فقط 999 غ، وأن يكون وزن تلك الرزمة الأخرى 980 غ (بسبب رطوبة الجو على الأقل)، ففرق صغير جدا يمكن تجاهلها من الزاوية العملية.
هذا هو السبب في أن المنطق الصوري ما يزال يستخدم في النظرية كما في الممارسة، وفي أن الديالكتيك المادي لا «ينكر» المنطق الصوري بل يستوعبه، يعتبره أداة تحليل ومعرفة مقبولة -لكن مقبولة شرط فهم حدودها: أي فهم استحالة تطبيقها على ظاهرات الحركة وسيرورة التبدل. فمذ نصبح إزاء هكذا ظاهرات يفرض اللجوء إلى مقولات الديالكتيك، أو منطق الحركة، نفسه، وهي مقولات مختلفة عن مقولات المنطق الصوري.
4- الحركة، تبعا للتناقض
الحركة بطبيعتها عبور وتخطّ. فمن زاوية سكونية، لا يمكن لشيء محدد أن يكون في مكانين مختلفين في الوقت ذاته (ولو كان هذا الوقت في منتهى القصر). وحركة الشيء، من وجهة النظر الدينامية، هي بالتحديد انتقاله من نقطة إلى أخرى.
يدرس الدياليكتيك أو منطق الحركة إذا قوانين الحركة على وجه الخصوص، والأشكال التي تتبناها. وسوف نتفحص تلك القوانين من وجهتين: الحركة تبعا للتناقض، والحركة تبعا للكلية.
لكل حركة سبب دائما، والسببية واحدة من مقولات الدياليكتيك الأساسية، تماما كما هي مقولة أساسية في كل علم. وإنكار السببية هو إنكار لإمكانية المعرفة، في نهاية المطاف.
إن السبب الأخير لكل حركة، ولكل تبدل، يكمن في التناقضات الداخلية للموضوع المتبدل. كل موضوع، كل ظاهرة، يتغير، يتحرك، يتعدل، ويتحول في التحليل الأخير تحت تأثير تناقضاته الداخلية والتناقضات التي تنتج عن علاقاته بظاهرات أخرى (تناقضات داخلية في «نظام» الموضوعات والظاهرات التي هو جزء منها). بهذا المعنى، غالبا ما سمي الدياليكتيك، بحق، علم التناقضات. إن منطق الحركة ومنطق التناقضات تعريفان متماثلان عمليا للديالكتيك.
ينبغي إذا لتحليل كل موضوع، وكل ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات، أن يهدف لتحديد ما هي عناصره المكونة المتناقضة، وما هي الحركة أو الدينامية التي تستثيرها تلك التناقضات.
هكذا رأينا على امتداد عرضنا إلى أي حد يقوم الصراع الطبقي -وهو محصلة وجود طبقات اجتماعية متضادة داخل المجتمع- بتوجيه حركة تاريخ المجتمعات المنقسمة إلى طبقات. يمكننا أن نقول، ونحن نشمل في الوقت ذاته المجتمع البدائي غير الطبقي والمجتمع المنقسم إلى طبقات والمجتمع الاشتراكي القادم، أن التناقض بين المستوى الذي بلغه في بعض العهود تطور قوى الإنتاج (درجة تحكم الإنسان بالطبيعة)، وعلاقات الانتاج (التنظيم الاجتماعي) المنبثقة في التحليل الأخير من مستويات تطور سابقة لقوى الانتاج ذاتها، إنما يوجه كل التطور البشري.
يمكننا ونحن نختصر الأمور إلى درجة لا متناهية أن نشير إلى القوانين التالية للحركة، أو الأشكال الرئيسية التي تتخذها، والتي تقدم مقولات أساسية للمنطق الدياليكتيكي أو منطق الحركة:
أ- وحدة الأضداد وتداخلها وصراعها
من يقل حركة يقل تناقضا، ومن يقل تناقضا يقل تعايشا بين عناصر متعارضة بعضها مع البعض الآخر، تعايشا وصراعا في الوقت ذاته بين تلك العناصر. إذا كان ثمة تجانس كلي وانعدام كامل لعناصر متعارض بعضها عن البعض الآخر، فليس هناك تناقض وليس هناك حركة، لا حياة هنالك ولا وجود. يتشكل الوجود من وحدة عناصر متضادة ومن تداخلها وصراعها، أي من حركتها.
إن وجود عناصر متناقضة يشمل (تعايشها في كلية مبنية totalité structurée، في مجموع لكل من هذه العناصر مكانه ضمنه، وفي الوقت ذاته صراع تلك العناصر لتحطيم هذا المجموع. ليست الرأسمالية ممكنة دون الوجود المتلازم لرأس المال والعمل المأجور، للبورجوازية والبروليتاريا. ولا يمكن للواحد أن يوجد دون الآخر، إلا أن هذا لا يعني أن لا يسعى الواحد باستمرار ليكبت الآخر، وأن لا تسعى البروليتاريا لإلغاء رأس المال والعمل المأجور، إذا لتخطي الرأسمالية.
ب- تحولات كمية وتحولات نوعية
تتخذ الحركة شكل تحولات تبقي على بنية (أو نوعية) الظاهرات، وسوف نتكلم في هذه الحالة على تبدل كمي، غالبا ما يكون غير ملحوظ. منذ بلوغ «عتبة» معينة، يتحول التبدل الكمي إلى تبدل نوعي، ومنذ تلك «العتبة»، بدل أن يحدث التبدل الكمي تدريجيا يتم بـ«قفزة»، وتظهر للحال «نوعية» جديدة. يمكن لقرية صغيرة أن تتحول تدريجيا إلى قرية كبيرة أو دسكرة، لا بل إلى مدينة صغيرة. لكن بين مدينة وقرية، ليس هنالك فرق كمي (عدد السكان والأبنية، الخ) وحسب، بل كذلك فرق نوعي. فالنشاط المهني لاغلبة السكان قد تغير، وحل محل المزارع العامل والمستخدم. لقد ولدت بيئة اجتماعية جديدة تطرح مشكلات اجتماعية لم تكن قائمة في القرية، من مثل مشكلة النقل المشترك، وتظهر طبقات اجتماعية جديدة وتناقضات جديدة فيما بينها.
ج- النفي والتخطي
كل حركة تميل لانتاج نفي لبعض ظاهراتها، ولتحويل موضوعات إلى نقيضها. الحياة تنتج الموت، ولا يمكن الشعور بالحرارة إلاّ تبعا للبرد، والمجتمع اللا طبقي ينتج المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي ينتج بدوره مجتمعا غير طبقي. إلاّ أنه ينبغي التمييز بين النفي «الصرف» و«نفي النفي»، الذي هو تخطي التناقض إلى مستوى أعلى، يستتبع في الوقت ذاته نفيا ومحافظة وارتفاعا إلى مستوى أعلى. لقد كان للمجتمع البدائي اللاطبقي مستوى عال من التماسك الداخلي، تبعا لفقره على وجه التحديد، ولخضوعه شبه الكلي لقوى الطبيعة. إن المجتمع المنقسم إلى طبقات هو مرحلة من السيطرة العليا للإنسان على قوى الطبيعة، ثمنها تمزق أعمق للتنظيم الاجتماعي. أمّا في المجتمع الاشتراكي القادم فهذا التناقض سيتم تخطيه، وسوف يندمج إذاك شكل رفيع من سيطرة الإنسان على الطبيعة بشكل رفيع أيضا من التماسك الاجتماعي والتعاضد، بفضل وجود مجتمع لا طبقي.
5- بعض المشكلات الإضافية بخصوص ديالكتيك المعرفة
أ- المضمون والشكل
كل حركة تتخذ بالضرورة أشكالا متتالية، يمكن أن تتبدل وفقا لعدد كبير من الظروف، وليس بوسعها أن تتخلص آليا من هذا الشكل أو ذاك الذي تم تبنيه من قبل، فهو يقاوم وهذه المقاومة ينبغي تحطيمها. ينبغي أن يتوافق الشكل مع المضمون، وهو يتوافق معه إذا، إلاّ أن ذلك لا يتعدى درجة معينة. فطبيعة الشكل الأكثر تحجرا تتعارض مع كل توافق مطلق ودائم مع حركة هي النقيض بالذات لكل ما هو متحجر.
ب-الأسباب والنتائج
كل حركة تبرز كسلسلة متداخلة من الأسباب والنتائج، يمزجها بعضها ببعض تفاعل معقد جدا، للوهلة الأولى. إن سبب العمل المأجور هو التملك الخاص لوسائل الانتاج التي أصبحت حكرا على طبقة اجتماعية، إلاّ أن هذا الاحتكار يستمر بالضبط كنتيجة للعمل المأجور. فالأجور لا تسمح باكتساب العمال وسائل الإنتاج، والعمل المأجور ينتج فائض قيمة يستملكه الرأسماليون ويتحول إلى ملكية بورجوازية لوسائل إنتاج إضافية، وهكذا دواليك.
لكي لا نقع في انتقائية مبتذلة وعقيمة، علينا تطبيق الطريقة التكونية، أي البحث عن الأصل التاريخي للحركة التي نحن بصددها. هكذا نجد أن رأس المال وفائض القيمة سابقان للعمل المأجور، وأنهما انبثقا من خارج دائرة الإنتاج، وأنه قد حصل تراكم بدائي لرأس المال، يكسر حلقة الأسباب والنتائج، عمل مأجور-رأس المال-عمل مأجور، هذه الحلقة المقفلة في الظاهر.
ج- العام والخاص
لكل حركة وكل ظاهرة ميزات خاصة بها. ورغم هذه الميزات النوعية الخاصة، فكل حركة، كل ظاهرة، لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاّ في إطار مجموعات أوسع وأعم، فالرأسمالية البريطانية في القرن التاسع عشر لا تشبه الرأسمالية البريطانية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية. كل من هذه الرأسماليات يمثل تكوينا اجتماعيا خاصا، مع الانخراط الخاص في اقتصاد عالمي تغير جدا في ظرف قرن. بيد أنه لا يمكن فهم الرأسمالية البريطانية في العصر الفيكتوري، ولا الرأسمالية البريطانية الآفلة المعاصرة، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية، خارج قوانين التطور العامة التي تطبع الرأسمالية عموما. فالديالكتيك العام والخاص لا يكتفي بـ«دغم» تحليل «العام» و«الخاص». إنه يجتهد في تفسير الخاص تبعا للقوانين العامة، وفي تعديل القوانين العامة تبعا لفعل العديد من العوامل الخاصة.
هـ-النسبي والمطلق
إن فهم الحركة أو التبدل الشامل هو فهم وجود ما لا نهاية له من الحالات الانتقالية. «الحركة هي وحدة التواصل والانقطاع» (هيغل). لذا فإن واحدة من الميزات الأساسية للديالكتيك هي فهم نسبية الأشياء، هي رفض إقامة حواجز مطلقة بين المقولات، السعي وراء توسطات بين العناصر المتعارضة. ويستتبع التطور الشامل وجود ظاهرات هجينة، وجود أوضاع وحالات «انتقالية» بين الحيات والموت، بين الأنواع النباتية والحيوانية، بين العصافير والثيديات، بين القرود والإنسان، تجعل التمايزات بين كل هذه المقولات نسبية.
بيد أن الدياليكتيك قد استخدم مرارا عديدة بصورة ذاتية، كـ«فن خلط المفارقات» أو «فن الدفاع عن المفارقات». ويكمن الفرق بين الدياليكتيك العلمي، أداة معرفة الواقع، والديالكتيك الذاتي أو السفسطائية، في أن نسبية الظاهرات والمقولات تصبح بدورها شيئا مطلقا لدى السفسطائيين. إنهم ينسون (أو يتناسون) أن نسبية المقولات ليست سوى نسبية جزئية، لا نسبية مطلقة، وأنه ينبغي إذا تنسيب النسبية.
يقول الديالكتيك العلمي أن الفرق «المطلق» بين الحياة والموت يحد من إطلاقيته وجود حالات إنتقالية. كل شيء نسبي، فليس الفرق بين الحياة والموت إذا إلا نسبيا، إذا لم يكن معدوما، حسب ادعاء السفسطائي. إلاّ أن الديالبكتيكي يرد عليه بقوله: ثمة شيء مطلق في الفرق بين الحياة والموت، لا نسبي وحسب. يجب ألاّ نخرج بالاستنتاج العبثي الذي يكمن في إنكار أن الموت يبقى نفي الحياة، إنطلاقا من الواقع الثابت أن ثمة العديد من المراحل الوسطية.
6- الحركة، تبعا للكلية-المجردة والملموس
رأينا أن كل حركة ترتبط على الدوام بالتناقضات الداخلية للظاهرة أو لمجموعة الظاهرات المأخوذة بالاعتبار. كل ظاهرة -أكانت خلية حية، أو بيئة طبيعية تتعايش فيها أجناس متنوعة، أو مجتمعا إنسانيا، أو نظاما كواكبيا- تنطوي مع ذلك على ما لا يحصى من الوجوه والعناصر المكونة. ولا تتجمع هذه العناصر بعضها مع بعض بصورة عرضية ومتبدلة باستمرار، بل تشكل مجموعات مبنية، تشكل كلية مركبة بناء على قوانين محددة.
هكذا فالعلاقات المتبادلة والمتضادة، في المجتمع البورجوازي، بين رأس المال والعمل ليست عرضية على الاطلاق، بل يحددها الاضطرار الاقتصادي للعامل المأجور إلى بيع قوة عمله للرأسمالي مالك وسائل الإنتاج ووسائل الاستمرار على قيد الحياة، بشكل بضائع. إن علاقات متبادلة مختلفة نوعيا عن هذه العلاقات أنتجت مجتمعات أخرى قائمة على الاستغلال، إلاّ أنها لم تكن بمجتمعات رأسمالية.
على الدياليكتيك المادي إذا أن يتناول كل ظاهرة، وكل موضوع تحليل ومعرفة، لا فقط ليحدد تناقضاته الداخلية التي تتحكم بتطوره («قوانين تطوره»)، بل عليه أن يسعى كذلك لتناول تلك الظاهرة بصورة اجمالية، وأن يفهمها بكل جوانبها، ويعتبرها بكليتها، ويتحاشى كل مقاربة من جانب واحد، تعزل هذا الوجه الخاص أو ذاك من وجوه الواقع عزلا اعتباطيا، وتلغي بالاعتباط ذاته هذا أو ذاك من وجوه، وتعجز بالتالي عن فهم التناقضات بمجملها، إذا عن فهم الحركة بكليتها.
إن قدرة الدياليكتيك هذه على أن يدمج في تحليله المنهج «الشمولي» (أو Allseitigkeit كما يقول لينين بالألمانية والروسية) هي إحدى جداراته الرئيسية. و«منطق الحركة» و«منطق التناقض» و«منطق الكلية» مرادفات على المستوى العملي. إن بعض المفكرين غير الديالكتيكيين يمضون من الكلي إلى الجزئي، مفرغين التناقض والكلية في الوقت ذاته، وذلك فيما يغمضون الأعين إزاء بعض عناصر الواقع المتناقضة التي تبدو كما لو كانت تجعل التحليل «عظيم التعقيد».
طبعا إن اختزالا ما، «حصرا» لـ«الكلية» بعناصرها المكونة الحاسمة، أمر محتوم كمسعى أول لمقاربة أي تحليل علمي. وهذا الأخير هو في البدء مجرد بالضرورة، فبدون هذا التجريد يستحيل تحليل الظاهرة في حركتها ومع تناقضاتها. كل «تفسير» يبقى متعلقا بالظاهرات الظاهرة هو وصف أكثر منه تفسير علمي لجوهر تلك الظاهرات. إن الأسعار مثلا هي ظاهرات ظاهرة، والقيمة، أو العمل الاجتماعي، هي الجوهر.
إلاّ أنه ينبغي ألاّ ننسى أن سيرورة التجريد المحتومة هذه تفقر الواقع. فكلما اقتربنا أكثر من الواقع كلما اقتربنا من كلية غنية بما لا يحصى من الوجوه التي على التحليل العلمي والمعرفة أن يفسراها في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها المتناقضة في الوقت ذاته: «الحقيقة دائما ملموسة» (لينين). «الحقيقي هو الكلية» (هيغل). إن الكلية هي مجمل الجوهر، ومظاهره، والتوسطات التي تفسر لماذا يتجلى الجوهر في هذه المظاهر بالضبط لا في مظاهر أخرى.
7- النظرية والممارسة
إن الدياليكتيك نظرية، أو أداة، للمعرفة. يمكن أن نعرف الدياليكتيك المادي، تاريخيا، كنظرية المعرفة لدى البروليتاريا (وهو ما لا ينقص في شيء طابعها العلمي الموضوعي الذي يتطلب تثبتا دائما، وصارما، وموضوعيا، من دون مسبقات أو تحيّزات، في الميدان العلمي أيضا). وكل نظرية للمعرفة تخضع لامتحان صارم هو امتحان الممارسة.
ليست المعرفة ذاتها، في التحليل الأخير، ظاهرة منفصلة عن حياة الناس ومصالحهم. فهي سلاح للمحافظة على النوع، وسلاح يسمح للانسان بالسيطرة على قوى الطبيعة، وسلاح لفهم (لاحق) لجذور «المسألة الاجتماعية» ووسائل حلها. لقد انبثقت المعرفة إذا من الممارسة الاجتماعية لدى الانسان، ووظيفتها تحسين هذه الممارسة. وتقاس فعاليتها في التحليل الأخير بنتائجها العملية، فالتثبت العملي من صحتها أفضل سلاح ضد السفسطائيين والمتشككين.
لا يعني ذلك أن النظرية تذوب في برنامج مبتذل قصير النظر. فغالبا ما لا تظهر فورا الفعالية العملية، والطابع «الصحيح» أو«المغلوط» لفرضية علمية. هنالك حاجة للوقت، للمسافة، لتجارب جديدة، ولسلسلة متتالية من «امتحانات الممارسة» قبل أن يتمكن الطابع العملي لنظرية محددة من فرض نفسه فعليا في الممارسة. يمكن للعديد من الرجال والنساء، أسرى المظاهر، وأسرى رؤية جزئية وسطحية للواقع، رؤية مؤقتة للسيرورة الثورية (التي تحددها بدورها أيديولوجية الطبقات أو الشرائح الاجتماعية غير الثورية)، أن يشكوا، رغم أفضل النوايا والقناعات الاشتراكية، بعضهم بالطابع البورجوازي للديموقراطية البرلمانية، وبعضهم بضرورة ديكتاتورية البروليتاريا، والبعض الآخر بضرورة انتصار الثورة الأممية لاستكمال بناء مجتمع اشتراكي حقا في الاتحاد السوفياتي أو في بلد آخر.
بيد أن الوقائع تنتهي في خاتمة المطاف باثبات أي نظرية كانت علمية حقا، أي قادرة على فهم الواقع بكل تناقضاته، وكل حركته الاجمالية وأي الفرضيات كانت خاطئة، إي قادرة على أن تفهم فقط أجزاء من الواقع، عبر عزلها عن الكلية المبنية، وبالتالي عاجزة عن فهم الحركة على المدى الطويل بالدياليكتيكها الأساسي. إن انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، وبلوغ مجتمع لا طبقي، سوف يثبتان عمليا صحة النظرية الماركسية الثورية.
********
المراجع:
فريكريك إنجلز، لودينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
فريكريك إنجلز، دحض دوهرينغ، الجزء الأول.
لينين، دفاتر حول الديالكتيك.
هنري لوفيفر، المنطق الصوري والمنطق الديالكتيكي.
بليخانوف، مسائل أساسية في الماركسية.
جورج نوفاك، مدخل إلى المنطق الماركسي.
بوخارين، المادية التاريخية.
جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي (الفصلان الأولان).
-----
17/ المادية التاريخية
نرى في الختام أن نصوغ بصورة أكثر منهجية الموضوعات الأساسية للمادية التاريخية، التي جرى الإلمام بها سريعا في الفصول الأولى من هذا الكتيب
***
1- الإنتاج والتواصلات الإنسانية
المخلوق الذي أصبح إنسانا حيوان خاص من حيث مواصفاته ونقاط ضعفه البدنية. فمن جهة هناك القامة الواقفة، واليد ذات الإبهام الحر والمطواع، والعينان المرتفعتان اللتان تسمحان بالرؤية الناتئة, واللسان والحلق والأوتار الصوتية التي تسمح بالتلفظ بأصوات متقطعة ومدموجة، والفص الجبهي من الدماغ والتلافيف المخية وقشرة الدماغ المتطورة جدا، والتكوير الجمجمي والحد من مساحة الوجه، التي تسمح بهذا التطور: هذه الصفات الجسدية جميعا لا غنى عنها من أجل صنع الأدوات، وهي تتحسن مع تحسن الأدوات والعمل الإنتاجي.
لكن من جهة أخرى، معظم الحواس والأعضاء البشرية أقل تطورا منها لدى أنواع حيوانية متخصصة جدا. فلم يكن بوسع الإنسان البدائي، المضطر تحت وطأة تغيير في المناخ حتما للترجل من الأشجار والعيش في السهول المعشبة على غذاء متنوع، أن يدافع عن نفسه ضد آكلات اللحوم من الحيوانات عن طريق الركض كالضبي، ولا عن طريق التسلق كالشمبانزي، ولا عن طريق الطيران كالعصفور، ولا بالاكتفاء بقوته البدنية كالجاموس أو الغوريلا، ولا بفضل قوقعة كتلك التي لوحيد القرن. لم يكن بوسعه الحصول لوحده على الغداء الأكثر إثارة للقابلية، نظرا لوجود عدد لا يحصى من المجترات التي تعيش معه في السهل المعشب. ثم أن الوليد البشري كان سريع العطب وعاجزا بوجه خاص، وغرائزه قليلة النمو بوضوح، وهو بمثابة جنين حقيقي خارج الرحم محتاج كليا لعناية أمهات الجماعة (إن وضع الوقوف الذي ضيّق حوض النساء ساهم بالتأكيد في هذا الطابع المبكر للوضع لدى أفراد الجنس البشري).
في هذا الخليط من الميزات ونقاط الضعف تمد الجذور إمكانية التنظيم الاجتماعي وضرورته. فالإنسان عاجز عن الحياة منعزلا وعن تأمين معيشته خارج التعاون مع آخرين من نوعه. ولا تسمح له أعضاء جسده غير النامية بالحصول مباشرة على طعامه، إذ عليه أن ينتج هذا الطعام بصورة جماعية، بواسطة أدوات تشكل امتدادا لأعضائه وتحسينا لها. ذلك هو اللعمل المشترك لمجموعة بشرية تؤمن هذا الإنتاج. إن الأطفال البشريين يندمجون بالجماعة عن طريق الكسب التدريجي للطابع الاجتماعي ويتعلمون قواعد الاستمرار في الحياة وتقنيته كأعضاء في الجماعة.
إن التنظيم الاجتماعي للبشر واكتساب الأطفال الطابع الاجتماعي يفرضان مسبقا أشكالا عالية نوعيا من التواصلات بين أعضاء الجماعة البشرية، بالنسبة إلى تلك التي تعرفها أنواع حيوانية أخرى. هذه الأشكال الرفيعة من اللغة، المرتبطة بتطور القشرة الدماغية، تسمح بانطلاق القدرة على التجريد، وعلى التعلم، أي حفظ دروس التجارب ونقلها، كما تسمح بإنتاج المفاهيم والفكر والوعي. بهذا المعنى، ترتبط مواصفات الإنسان المختلفة -«صفتنا الأنتربولوجية»- ارتباطا وثيقا بعضها بالبعض الآخر. فلكون الانسان «قردا عاريا يسير واقفا» ولأنه يبقى بعد ولادته «جنينا خارج الرحم»، عليه أن يصير صانع أدوات، حيوانا اجتماعيا مطورا للغته، يختزن الانطباعات والصور المتتالية، قادرا على استخدامها لغايات التجريد، قادرا على التفكير والتخيل والاختراع.
إن التفاعل بين هذه المواصفات ودغمها أمر حاسم، فثمة قرود متطورة جدا تستخدم أدوات وتستطيع حتى أن تتخطى أحيانا عتبة صناعتها البدائية، وثمة العديد من الأنواع التي تعرف أشكالا غريزية من التعاون الجماعي، لا بل ثمة أنواع كثيرة تعرف أشكالا بدائية من التواصل. إلاّ أن النوع البشري هو الوحيد القادر على صنع الأدوات بصورة واعية أكثر فأكثر، من أجل أن تصير أكثر فأكثر اتقانا، بعد أن تم تصميمها على هذا الحال بشكل واع، على قاعدة التجربة التدريجية، التي يتم نقلها بفضل وسائل اتصال أكثر فأكثر تنوعا وأكثر فأكثر اتقانا. فالأدات تسمح بتحرير الفهم، وهو ما يسمح بتحسين الأداة عن طريق إتقان اللغة والقدرة علىالتجريد. أمّا اليد فتطور الدماغ الذي يخلق شروط تحسين قدراته عن طريق تحسين استخدام اليد.
إذا كان تحويل المقدمات البشرية إلى بشر مشروطا بوجود بنية تحتية تشريحية وعصبية، فهو لا يقتصر على هذه البنية التحتية. فالديالكتيك «إنتاج/ وسائل اتصال» يخلق إمكانية تطور غير محدود لصنع الأدوات، وبالتالي الإنتاج البشري، تطور غير محدود للتجارب وإمكانات التعلم البشرية، إذا مطواعة وقدرة على التكيف غير محدودتين عمليا لدى الجنس البشري. يصبح المجتمع وثقافة الإنسان المادية طبيعته الثانية.
ينتج عن ذلك أنه من العبث إعلان هذه أو تلك من المؤسسات الاجتماعية (الملكية الخاصة، انعدام الملكية الخاصة) «متعارضة مع الطبيعة البشرية»، فالإنسان عاش، ويمكنه أن يعيش، ضمن أقصى الشروط تنوعا، وما من مؤسسة بدت ممتنعة على التحول أو شرطا مسبقا مطلقا لاستمرار الإنسان على قيد الحياة. إن التأكيد أن «الغريزة العدوانية» سوف تهيمن على التطور البشري إنما هو الخلط بين وجود ميل (يتعايش في كل حال مع نفيه، الذي هو غريزة الحس الاجتماعي والتعاون) وتحقيقه. فالتاريخ وما قبل التاريخ يؤكدان وجود مؤسسات وشروط اجتماعية تسمح باحتواء هذا الاتجاه وكبته، بينما ثمة مؤسسات أخرى تشجع على العكس تجليه الأكثر فأكثر إفراطا.
إن ديالكتيك «الإنتاج-التواصل» يتحكم بالشرط الإنساني بكامله. فكل ما يصنعه الإنسان «يمر عبر رأسه»، والإنتاج البشري يتميز عن التملك الحيواني للغذاء بواقع كونه ليس نشاطا غريزيا. إنه يشكل عموما تنفيذا لمشروع يجول أولا في رأسه، إلاّ أن هذا «المشروع» لا يسقط من السماء، وهو ليس سوى عمد دماغ الإنسان إلى إعادة إنتاج، أو تأليف، عناصر نشاطات لا غنى عنها لاستمراره ومشكلاتها، التي اختبرها هذا الدماغ وسجلها مئات المرات على أساس ممارسة فعلية. إن المادية التاريخية هي علم المجتمعات الإنسانية الذي يحاول أن يعطي صورة عن ديالكتيك «الإنتاج-التواصلات البشرية» وأن يشرحه.
2- القاعدة والبنية الفوقية الاجتماعيتان
على كل مجتمع بشري أن ينتج لكي يستمر على قيد الحياة، فإنتاج وسائل العيش -بالمعنى الضيق أو الواسع للكلمة، أي كفاية الحاجات الاستهلاكية- وأدوات العمل ومواده الضرورية لهذا الإنتاج، هو الشرط المسبق لكل تنظيم أو نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا.
تعتبر المادية التاريخية أن الطريقة التي ينظم الناس وفقا لها إنتاجهم المادي تشكل أساس كل تنظيم اجتماعي. ويحدد هذا الأساس بدوره كل النشاطات الاجتماعية الأخرى، من مثل إدارة العلاقات بين الجماعات البشرية (لا سيما ظهور الدولة وتطورها)، والإنتاج الفكري، والقانون والأخلاق والدين الخ. وهذه النشاطات العائدة -كما يقال- للبنية الفوقية في المجتمع، يتم ربطها بالأساس دائما، بصورة أو بأخرى.
لقد صدمت هذه الفكرة الكثير من الناس ولا تزال تصدمهم. فهل يمكن للأناجيل، وشعر هوميروس، ومبادئ الحق الروماني، ومسرح شكسبير، ورسم ميكايلانج، وإعلان حقوق الإنسان، والبيان الشيوعي بالذات، أن تتوقف على الطريقة التي كان معاصروها يحرثون حقولهم وفقا لها أو يدعكون الأجواخ؟ إن فهم موضوعة المادية التاريخية يتطلب البدء بصياغتها بشكل صحيح.
لا تؤكد المادية التاريخية أبدا أن الإنتاج المادي («العامل الاقتصادي») يحدد بصورة مباشرة وفورية مضمون كل النشاطات، التي تنسب إلى البنية الفوقية، وشكلها. والأساس الاجتماعي - ليس النشاط الإنتاجي من حيث هو كذلك، كما ليس «الإنتاج المادي» منظورا إليه لوحده، بل هو العلاقات الاجتماعية التي يعقدها الناس فيما ينتجون حياتهم المادية. فالمادية التاريخية ليست إذا حتمية اجتماعية-اقتصادية.
ثم إن النشاطات على مستوى البنية الفوقية لا تنجم مباشرة عن علاقات الإنتاج الاجتماعية هذه، ولا تتحدد بها إلاّ بالدرجة الأخيرة. فبين مستويي النشاط الاجتماعي سلسلة من التوسطات سوف نمر بها بإيجاز في النقطة الثالثة من هذا الفصل.
أخيرا، إذا كان الأساس الاجتماعي يحدد بالتحليل الأخير الظاهرات والنشاطات على مستوى البنية الفوقية، يمكن لهذه الإخيرة أن تبادله الفعل. ونكتفي بمثال في هذا المجال. فللدولة على الدوام طبيعة طبقية محددة، وهي تتناسب ذا مع قاعدة اجتماعية -اقتصادية محددة، إلاّ أنها تستطيع بدورها تعديل تلك القاعدة جزئيا. فدولة الملكية المطلقة (في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، في أوروبا) التي علمت خلال قرون عديدة على انقاد طبقة النبلاء الإقطاعية من الدمار الاقتصادي عن طريق اقتطاعات من مداخيل طبقة اجتماعية أخرى، كانت إلى حد بعيد وراء إحلال نمط الإنتاج الرأسمالي محل نمط الإنتاج الإقطاعي عبر تطوير المركنتيلية والاستعمار وتشجيع المانيفكتورات والنظام النقدي القومي، الخ
إن كون النشاطات على مستوى البنية الفوقية تتحدد في التحليل الأخير بالقاعدة الاجتماعية يمكن تفسيره بعدة أسباب. فمن يشرفون على الإنتاج المادي وفائض الإنتاج الإجتماعي يشرفون في الوقت ذاته على من يتعيشون على فائض الإنتاج الاجتماعي. وسواء وافق المنظرون والفنانون والعلماء على هذه التبعية أو تمردوا عليها، فهي تحدد مع ذلك إطار نشاطهم. والعلاقات الاجتماعية على صعيد الإنتاج تولد نتائج من حيث أشكال النشاط في دائرة البنية الفوقية، وهذا أيضا من قبيل التكييف لها والتحكم بها. إن علاقات الإنتاج تترافق بأشكال تواصل مسيطرة في كل نموذج من المجتمعات، وهو ما يؤدي إلى ظهور بنى ذهنية مسيطرة تكيّف أشكال الفكر والخلق الفني الخ. الخ.
3- الإنتاج المادي والإنتاج الفكري
إن ديالكتيك الأساس/البنية الفوقية الاجتماعيين يعيدنا إلى العلاقات بين الإنتاج المادي والإنتاج الفكري. ويسمح تفحص أكثر تعمقا لهذه العلاقات بفهم افضل لتعقيد هذا الدياليكتيك، كما يسمح كذلك بإبراز أهمية العنصر الفاعل في هذا الدياليكتيك، وهو عنصر ستتم معالجته في نهاية هذا الفصل.
تعتبر المادية التاريخية أن علاقات الإنتاج تشكل أساس كل مجتمع، الذي تقوم عليه البنية الفوقية: هذان المستويان يتعلقان في الواقع بشكلين متمايزين من النشاط الاجتماعي. فالإنتاج المادي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى الأساس الاجتماعي والإنتاج الأيديولوجي (الفلسفي والديني والقانوني والسياسي، الخ) والإنتاج الفني والعلمي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى البنية الفوقية الاجتماعية. طبعا تشمل هذه الأخيرة أيضا نشاطات جهاز الدولة التي لا تقتصر أبدا على الميدان الإيديولوجي وحده (عالجنا مشكلة الدولة في الفصل الثالث). لكن إذا استثنينا ذلك، يبدو التمييز الذي أدخلناه ملائما.
وتجتهد المادية التاريخية في شرح تطور كل من هاتين الدائرتين، وتداخلهما وعلاقاتهما المتبادلة، هذا الشرح يدمج أربعة مستويات من التحديد:
أ- كل إنتاج فكري مرتبط بصورة أو بأخرى بسيرورات عمل مادي، وهو يعمل على الدوام مع بنية تحتية مادية خاصة به. إن بعض الفنون هي في البدء انبثاق مباشر من العمل المادي (الوظيفة السحرية للرسم البدائي، أصول الرقص في وضع قواعد الحركات الإنتاجية، دمج الأناشيد في الإنتاج، الخ.).
إن الثورات التكنولوجية تؤثر تأثيرا عميقا في الفن والعلم والإنتاج الأيديولوجي، وثمة علوم كالهندسة وعلم الفلك والهيدروغرافيا والبيولوجيا والكيمياء انبثقت في علاقة وثيقة مع الزراعة المروية والتربية المتقدمة للمواشي وعلم التعدين الوليد. أمّا تقنية الطباعة في القرن السادس عشر، والراديو والتلفزيون في القرن العشرين، فهي لم تؤثر فقط تأثيرا عميقا على نشر الأفكار، بل كذلك على شكلها، وبعض مضامينها. ولا جدال في تأثير الآلات الإليكترونية على تطور العلم خلال الثلاثين سنة الأخيرة.
ب- كل إنتاج فكري يتطور تبعا لدياليكتيك داخلي خاص بتاريخه. فكل فيلسوف، أو حقوقي، أو كاهن، أو عالم، يبدأ طالبا، وعبر دراساته يتمثل مفاهيم (أو أنظمة مفاهيم) تم إنتاجها سابقا ونقلها من حيث هي مفاهيم إلى الجيل الحالي. إن المنتجين الفكريين يحفظون هذه المفاهيم، أو فرضيات العمل أو يعدلونها أو يقلبونها رأسا على عقب، وفقا لطرق إنتاج يستعيرونها أو يبتدعونها في إطار الدياليكتيك الخاص لنشاطهم. وكل جيل جديد يعمل على الإحتفاظ بأجوبة على استفهامات ناجمة عن المادة المعالجة، أو على تعميقها، أو نفضها من الأساس. ويمكنه في بعض الأحيان أن يكتشف استفهامات جديدة (تتطلب مذاك أجوبة «ثورية»: الثورات العلمية، والفنية، والفلسفية، الخ.)، أو إعادة اكتشاف استفهامات نحتها جانبا أجيال عديدة سابقة.
ج- إلا أن هذه التعديلات في معالجة المفاهيم الأيديولوجية، والأشكال الفنية، وفرضيات العمل العلمية، لا تحصل بشكل اعتباطي، ولا ضمن أي من الشروط الاجتماعية-التاريخية، بل يكيفها، أو يستثيرها، أو يسمح بها سياق وحاجات اجتماعية-اقتصادية. إن الانتقال من الاروحية animisme [38] إلى الإيمان بالاله الواحد لم يتحقق داخل جماعات بدائية صغيرة متقوقعة في القطاف والصيد، كما لم يظهر المفهوم الثوري للحق الخاص قبل التأسيس الاجتماعي للملكية الخاصة، ولم يمكن للنظرية العلمية حول القيمة-العمل أن تتطور قبل ظهور الرأسمالية الحديثة، كما أن تطور الفيزياء الميكانيكية وثيق الارتباط بتطور الآلات.
هذه التحولات الكبيرة في الإنتاج الفكري مرتبطة ببنى ذهنية خاصة، تحددها مسبقا بنى اجتماعية. فليس صدفة أن كل المحاولات الكبرى للثورة السياسية والاجتماعية من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر قد عبرت عن نفسها جميعا بالشكل الأيديولوجي للنضالات الدينية، نظرا للأولوية التي اكتسبها الدين في البنية الفوقية للمجتمع الإقطاعي. كذلك فإن صعود البورجوازية الحديثة خلق ابتداء بالنصف الثاني من القرن السادس عشر بنية ذهنية تنقل الاستقلال والمنافسة لدى مالكي السلع إلى كل حقوق الإنتاج الفكري (الحق الطبيعي، المذاهب التربوية الانسية، الفلسفة المثالية الألمانية، رسوم الأشخاص والطبيعة الميتة في الرسم، الليبرالية السياسية، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الليبرالي، الخ.).
د- يتحدد تطور الإنتاج الفكري أخيرا بالصراعات بين المصالح الاجتماعية. فالكل يعرف أن أعمال الانسيكلوبيديين ومحاجات فولتر وفلسفة جان جاك روسو السياسية أو تحليل ماديي القرن الثامن عشر، كانت جميعها قذائف مدفعية أطلقتها البورجوازية المانيفاكتورية الصاعدة ضد الملكية المطلقة وبقايا المجتمع الإقطاعي. إن الوظيفة التي لعبها الإشتراكيون الطوباويون، ثم ماركس وإنجلز، لتسريع وعي البروليتاريا لطبيعتها الطبقية ولموقعها ومهامها تجاه المجتمع البورجوازي هي كذلك أمر بديهي. واليوم أيضا، لا يمكن الشك بوظيفة التنجيم وبعض البدع الدينية والصوفية، والفلسفات التي تمجد اللاعقلاني ومذاهب «الدم والأرض» (Blut und Boden) من حيث هي أسلحة معادية للعمال ومعادية للثورة تشجع نمو مناخ سابق للفاشية.
لا تستتبع هذه التحديدات فكرة «مؤامرة منظمة» بين طبقات اجتماعية محددة ومنتجين فكريين من حيث هم أفراد، ولا فكرة تواطؤ واع من جانب كل هؤلاء المنتجين مع مشاريع سياسية محددة. إنها تعكس تفاعلا موضوعيا، يمكن أن يتم أحيانا، لكن ليس بالضرورة. فالمنتجون الفكريون يمكن أن تستخدمهم قوى اجتماعية من دون علمهم، لكن ذلك لا يفعل أكثر من تأكيد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي، لا فقط بمعنى تكييفه في التحليل الأخير، بل كذلك بمعنى تعيين وظيفة محددة له في بنية مجتمع معين وفي تطور هذا المجتمع.
4- قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية وأنماط الإنتاج
كل منتَج يصنعه الإنسان هو ناتج دمج عناصر ثلاث هي: موضوع العمل وهو مادة أولية أنتجتها الطبيعة مباشرة أو مداورة، وأداة العمل، وهي وسيلة إنتاج متطورة إلى هذا الحد أو ذاك خلقها الإنسان (من قضبان الخشب الأولى ومضارب الحجر المقطوع إلى الماكينات الآلية الأكثر تطورا حاليا، والذات القائمة بالعمل، أي الشغيل. ولما كان العمل دائما اجتماعيا وغير فردي بالدرجة الأخيرة، فإن الذات العاملة تدخل حتما في علاقة إنتاج اجتماعية.
وحتى لو كان موضوع العمل وأداة العمل عنصرين لا غنى عنهما لكل إنتاج، لا يمكن تصور علاقات الإنتاج الاجتماعي بصورة «مشيأة» أي لا ينبغي النظر إليها كما لو كانت تتعلق بعلاقات بين الأشياء، أو بين ناس وأشياء. إن علاقات الإنتاج الاجتماعية تتعلق بعلاقات بين البشر، وفقط بعلاقات بين البشر. وتشمل مجموع العلاقات التي يعقدها الناس فيما بينهم أثناء إنتاج حياتهم المادية. ولا يعني «مجموع العلاقات» العلاقات في أمكنة العمل بحصر المعنى («at the point of production») وحسب، بل كذلك العلاقات التي تتعلق بتداول مختلف عناصر الناتج الاجتماعي الضرورية لهذا الانتاج المادي، وبتوزيع تلك العناصر، لاسيما الطريقة التي تصل بها موضوعات العمل وأدوات العمل إلى المنتجين المباشرين، والطريقة التي يحصل بها هؤلاء على معاشهم، الخ.
يتوافق عموما مع درجة محددة من تطور قوى الإنتاج، مع مقدار محدد من وسائل إنتاج، ومع تقنية عمل وتنظيم له محددين، علاقات إنتاج تلائمها. فلقد كان صعبا في عصر الحجر المقطوع تخطي الشيوعية البدائية للجماعة أو القبيلة. إن الزراعة على أساس الري أو بواسطة أدوات حديدية تنتج فائض إنتاج دائم مهم يؤدي إلى ولادة مجتمع طبقي (المجتمع العبودي ومجتمع نمط الإنتاج الآسيوي، الخ). وتخلق الزراعة على أساس إراحة الأرض مرة كل ثلاث سنوات أسس المجتمع الإقطاعي المادية. أمّا ولادة استخدام الآلات فكفلت نهائيا صعود الرأسمالية الحديثة. إنه لصعب أن نتصور التأليل المعمم دون زوال الإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، أي خارج مجتمع اشتراكي مكتمل التطور ومستقر.
لكن إذا كان هنالك توافق عام بين درجة تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية، فهذا التوافق ليس مطلقا ولا دائما. يمكن أن ينتج فيما بينها اختلال مزدوج في التمفصل. فعلاقات إنتاج محددة يمكن أن تصير معيقات لانطلاق قوى الإنتاج، وتلك هي أوضح علامة على أن شكلا اجتماعيا معينا محكوم عليه بالزوال. على عكس ذلك، يمكن لعلاقات انتاج جديدة انبثقت من ثورة اجتماعية ظافرة أن تكون متقدمة على درجة تطور قوى الإنتاج في البلد المعني. تلك كانت حال الثورة البرجوازية الظافرة في هولندا في القرن السادس عشر، والثورة الاشتراكية الظافرة في روسيا في أكتوبر 1917.
ليس صدفة أن تتعلق هاتان الحالتان الرئيسيتان من اختلال التمفصل بفترات تاريخية تشهد هزات اجتماعية عميقة وثورات اجتماعية. ويمكن لاختلال التمفصل أن يحدث كذلك بمعنى تراجع دهري لقوى الإنتاج، كما في عصر انحطاط الإمبراطورية الرومانية في الغرب، أو انحطاط الخلافة المشرقية في الشرق الأوسط.
إن الدياليكتيك بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية هو الذي يحدد في القسم الأكبر توالي العصور الكبرى في التاريخ الإنساني، وهذا أصح من تصور التفاعل فيما بينها كما لو كان توافقا آليا. كل نمط إنتاج يمر بمراحل متتالية من الولادة والصعود والنضج والانحطاط والسقوط والزوال. هذه المراحل تتوقف في التحليل الأخير على الطريقة التي تلائم بها علاقات الإنتاج -التي تكون في البدء جديدة، ثم تتوطد، ثم تدخل في أزمة- إنطلاق قوى الإنتاج، أو تسمح به، أو تعيقه يوما بعد يوم. إن التمفصل بين هذا الدياليكتيك والصراع الطبقي أمر بديهي، فعبر عمل طبقة اجتماعية أو عدة طبقات اجتماعية معينة وحسب، يمكن لعلاقات انتاج محددة أن تُدخل أو يحافظ عليها أو يتم قلبها.
إن كل تشكيل اجتماعي، أي كل مجتمع في بلد محدد وفترة محددة، يتسم دائما بمجموعة علاقات إنتاج، فتشكيل اجتماعي ليس فيه علاقات إنتاج هو بلد لا عمل فيه ولا إنتاج، أي بلد لا سكان فيه ولا مجتمع. إلاّ أن كل مجموعة من علاقات الإنتاج الاجتماعية لا تستتبع بالضرورة وجود نمط إنتاج مستقر، ولا تجانس علاقات الإنتاج المشار إليها.
إن نمط انتاج مستقر هو مجموعة علاقات إنتاج تعيد إنتاج ذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك، عبر سير الاقتصاد بالذات، أو الحركة العادية لإعادة إنتاج قوى الإنتاج، مع وجود دور ملائم، مهم إلى هذا الحد أو ذاك، تتولاه بعض عوامل البنية الفوقية الاجتماعية. كانت تلك هي الحال خلال قرون عديدة، وفي بلدان كثيرة، مع نمط الإنتاج الأسيوي، والعبودي، والإقطاعي، والرأسمالي، كما كانت تلك هي حال نمط إنتاج الشيوعية القبلية، خلال آلاف السنين. إن نمط إنتاج هو بهذا المعنى بنية لا يمكن تعديلها بشكل أساسي عن طريق التطور، أو التوفيق أو الإصلاح الذاتي، إذ لا يمكن تخطي منطقه الداخلي إلاّ عبر قلبه.
بالمقابل، يمكن أن نشهد في فترات تاريخية من الخضات الاجتماعية العميقة مجموعات علاقات إنتاج ليست لها طبيعة نمط إنتاج مستقر، والمثال النموذجي على ذلك هو عصر سيطرة الإنتاج البضاعي الصغير (في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في هولندا وإيطاليا الشمالية ثم إنكلترا) حيث لا تتفوق العلاقات بين السادة والأقنان، ولا علاقات الرأسماليين والمنتجين المأجورين، بل علاقات المنتجين الأحرار غير المفصولين عن وسائل إنتاجهم. والأمر ذاته بالنسبة لعلاقات الإنتاج المميزة للدول العمالية المبقرطة اليوم، ففي كلا الحالين لا نجد نمط إنتاج مستقرا. في كل مجتمعات مراحل الانتقال تلك، لا تكون علاقات الإنتاج الهجينة بنى تعيد إنتاج ذاتها بذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك. يمكنها أن تقود إما إلى إعادة المجتمع القديم أو إلى قيام نمط إنتاج جديد. هذا الخيار التاريخي تحسمه مجموعة من العوامل التي يدخل فيها على وجه الخصوص الانطلاق الكافي أو غير الكافي لقوى الإنتاج، ونتيجة الصراع الطبقي في البلد المعني وعلى المستوى العالمي، وتأثير عناصر تابعة للبنية الفوقية وذاتية (دور الدولة، دور الحزب، مستوى كفاحية الطبقة الثورية ووعيها، الخ).
من جهة أخرى حتى حين يوجد نمط إنتاج مستقر، لا تكون علاقات الإنتاج متجانسة بالضرورة، لا بل لا تكون كذلك أبدا. ثمة دائما في كل تشكيل اجتماعي ملموس، إدغام بين علاقات إنتاج مميزة لنمط إنتاج قائم، ورواسب لم يتم امتصاصها كليا لعلاقات إنتاج سابقة تم تخطيها تاريخيا منذ زمن طويل. إن كل البلدان الإمبريالية ما تزال تعرف عمليا، على سبيل المثال، رواسب الإنتاج البضاعي الصغير (فلاحون صغار، مالكون يعملون دون اللجوء ليد عالمة مأجورة)، لا بل رواسب علاقات إنتاج إقطاعية (كالمزارعة). إنه لمبرر أن نتكلم في تلك الحالات على نمط إنتاج مستقر حين تكون سيطرة علاقات الإنتاج المميزة له قوية لدرجة إعادة إنتاجها آليا، وفرض سيطرة منطقها الداخلي وقوانين تطورها على مجمل الحياة الاقتصادية.
إن المثل المميز لعلاقات إنتاج هجينة يسيطر فيها نمط إنتاج مهيمنة هو مثل التشكيلات الاجتماعية المسماة «عالمثالثية» (نسبة للعالم الثالث أو البلدان المتخلفة، أنظر الفصل السابع). تتجاور هنا علاقات إنتاج سابقة للرأسمالية، ونصف رأسمالية، ورأسمالية، مندمجة بصورة جامدة تحت ضغط بنى الاقتصاد العالمي الإمبريالية.رغم هيمنة رأس المال، ورغم الانخراط في النظام الامبريالي، لا تتعمم علاقات الإنتاج الرأسمالية (وقبل كل شيء العلاقة «عمل مأجور-رأس مال منتج»)، رغم أنها قائمة وتتمدد ببطء. إلاّ أن هذا الواقع لا يبرر أبدا اعتبار هذه التشكيلات الاجتماعية كما لو كانت «بلدانا إقطاعية» ولا فرضية هيمنة علاقات الإنتاج الإقطاعية أو نصف الإقطاعية داخلها، وهو خطأ نظري يقترفه العديد من المنظرين الستالينيين أو الماويين.
5- الحتمية التاريخية والممارسة الثورية
المادية التاريخية مذهب حتمي. فموضوعته الأساسية تؤكد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي. وتاريخ المجتمعات الإنسانية قابل للتفسير وليس عرضيا أو اعتباطيا، فمسيرته لا تتوقف على نزوات غير متوقعة للتحولات الوراثية، أو لبعض «الرجال العظام» أو لحشد تعرض للإشعاعات الذرية، وهو يفسر في التحليل الأخير بنية المجتمع الأساسية في كل عصر محدد وبالتناقضات الجوهرية لتلك البنية. وطالما بقي المجتمع منقسما إلى طبقات، فهو يفسر إذا بالصراع الطبقي.
بيد أنه إذا كانت المادية التاريخية مذهبا حتميا، فهي كذلك بالمعنى الديالكتيكي للكلمة لا بالمعنى الميكانيكي، إذ الماركسية تستبعد الجبرية. ولمزيد من الدقة، فإن كل محاولة لتحويل الماركسية إلى جبرية أو إلى تطورية آلية، إنما تزيل منها بعدا أساسيا.
ومع أن خيارات البشرية تحددها مسبقا ضغوطات مادية واجتماعية لا يمكنها أن تتلافاها، فهي قادرة على أن تصنع مصيرها في إطار هذه الضغوطات. إن الناس يصنعون تاريخهم، فإذا كانوا نتاج شروط مادية محددة، فهذه الشروط المادية هي بدورها نتاج ممارسة الناس الاجتماعية.
هذا التخطي للمثالية التاريخية القديمة («الأفكار، أو الرجال العظام، يصنعون التاريخ») وللمادية الميكانيكية القديمة («الناس نتاج الظروف») هو بشكل ما وثيقة ولادة الماركسية. نجده في «الموضوعات حول فيورباخ» التي تشكل خلاصة «الأيديولوجية الألمانية» لماركس وإنجلز.
يعني هذا بين ما يعني أن نتيجة كل عصر كبير من التشنجات الاجتماعية في التاريخ غير أكيدة، فقد تؤدي إلى انتصار الطبقة الثورية، وقد تؤدي إلى الانحلال المتبادل لكل الطبقات الأساسية في المجتمع المعين، كما كانت الحال في نهاية نمط الإنتاج العبودي القديم. فليس التاريخ مجموع تطورات مستقيمة، والكثير من التشكيلات الاجتماعية الماضية زالت دون أن تترك آثارا، لاسيما بفعل غياب طبقة ثورية قادرة على شق الطريق إلى التقدم، أو بفعل ضعفها.
إن الانحطاط الواضح للرأسمالية المعاصرة لا يصب في انتصار الاشتراكية الجبري، بل في الخيار بين الاشتراكية والبربرية. فالاشتراكية ضرورة تاريخية للسماح بانطلاق جديد لقوى الإنتاج موافق لإمكانات العلم والتقنية المعاصرين. وهي ضرورة إنسانية على وجه الخصوص، للسماح بكفاية الحاجات التي أيقضتها تطورات العالم الثقنية لدى الناس، ولكفاية هذه الحاجات ضمن شروط تضمن تفتح كل الطاقات البشرية الكامنة، لدى كل الأفراد، من كل الشعوب، دون تدمير توازن البيئة. إلا أن ما هو ضروري لا يتحقق حتما، فأمل البروليتاريا الثوري والواعي وحده هو الذي يضمن انتصار الاشتراكية، وإلاّ فإن الطاقة الإنتاجية الضخمة الكامنة للعلم والتقنية المعاصرين ستظهر في شكل أكثر فأكثر تدميرا للحضارة والثقافة والانسان والطبيعة، لا بل للحياة على كوكبنا.
إن ممارسة الناس الاجتماعية هي التي تخلق البنى الاجتماعية التي تحتويهم فيما بعد، وبالممارسة الاجتماعية الثورية يمكن قلب هذه البنى بالذات. والماركسية حتمية بقدرما تؤكد أن هذه الخضات لا يمكن أن تحصل في أي من الاتجاهات، فعلى أساس القوى الإنتاجية المعاصرة تستحيل إعادة إدخال الإقطاعية أو شيوعية جماعات صغيرة مكتفية ذاتيا من المنتجين-المستهلكين. إنها حتمية بمعنى أن ثورات اجتماعية تقدمية («fortschrittliche») غير ممكنة إلاّ إذا نضجت داخل المجتمع القديم الشروط المادية المسبقة والقوى الاجتماعية التي تسمح بخلق تنظيم اجتماعي أعلى.
إلاّ أن الماركسية ليست جبرية لأنها لا تفترض أن مجيئ هذا المجتمع الجديد سيكون الناتج الحتمي لنضج الشروط المسبقة المادية والاجتماعية الضرورية لظهوره. فهذا المجيء لا يمكن أن ينجم إلا عن نتيجة الصراعات القوى الاجتماعية الحية. إنه ينتج إذا في التحليل الأخير عن درجة فعالية العمل الثوري. فإذا كان هذا بدوره مشروطا جزئيا بظروف وموازين قوى اجتماعية، يمكن للعمل الثوري أن يقلب بدوره تطور هذه الظروف وموازين القوى أو يكبحه أو يسرّعه. حتى موازين قوى ملائمة للغاية يمكن أن «تخربها» نقاط ضعف ذاتية لدى الطبقة الثورية. بهذا المعنى يلعب «العامل الذاتي التاريخي» (الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا)، في عصرنا عصر الثورات والثورات المضادة، دورا رئيسيا في تحديد نتيجة المعارك الطبقية الكبرى، لتقرير مستقبل النوع البشري.
6- الاستلاب والتحرر
لقد عاشت البشرية طوال آلاف السنين حياة التبعية الشديدة لقوى الطبيعة الهوجاء. لم يكن في وسعها إلاّ أن تسعى للتكيف مع بيئة طبيعية معينة، وكل تجمع بشري صغير مع بيئته الخاصة به، وكانت أسيرة أفق ضيق ومحدود حتى ولو استطاعت مجتمعات بدائية عديدة أن تطور بعض الإمكانات البشرية بشكل مرموق (كالرسم الباليوليتي مثلا).
ومع تطور قوى الانتاج تتوصل البشرية شيئا فشيئا إلى قلب علاقة التبعية المطلقة تلك، وتنجح في إخضاع قوى الطبيعة أكثر فأكثر، وفي الإشراف عليها وتدجينها واستخدامها بوعي بهدف زيادة إنتاجها وتنويع حاجاتها وتطوير طاقاتها، وتوسيع علاقاتها الاجتماعية التي تخلص إلى شمول كل كوكبنا وإلى احتمال توحيد البشرية جمعاء.
لكن كلما تحرر الناس حيال قوى الطبيعة كلما استلبهم تنظيمهم الاجتماعي الخاص بهم. فبقدر ما تزيد قوى الإنتاج، ويتقدم الانتاج المادي، وتصبح علاقات الإنتاج علاقات مجتمع منقسم إلى طبقات، لا تعود البشرية تشرف على مجمل إنتاجها ولا على مجمل نشاطها الإنتاجي، ولا تعود تشرف بالتالي على مصيرها الاجتماعي، وفقدان الإشراف هذا في المجتمع الرأسمالي يصبح كليا. إن البشرية التي تتحرر من الخضوع لجبرية الطبيعة، تبدو أكثر فأكثر خضوعا لجبرية تنظيمها الاجتماعي. كما لو أن مصيرا أعمى يحكم عليها بأن تخضع، لا للنتائج الحتمية للفيضانات والزلازل والأوبئة وتموجات الجفاف، بل لنتائج الحروب والأزمات الاقتصادية والديكتاتوريات الدموية والتدمير الإجرامي لقوى الإنتاج، لا بل الإبادة النووية. ويوحي الخوف من هذه الكوارث بقلق أعظم مما كان يوحي به الخوف من الصواعق والمرض والموت.
إلاّ أن التطور الجامح ذاته، على صعيد قوى الإنتاج، الذي يدفع إلى الحدود القصوى استلاب الإنسان حيال إنتاجه ومجتمعه الخاصين به، يخلق في ظل الرأسمالية إمكانية تحرر حقيقي للإنسان، كما سبق وأشرنا في نهاية الفصل الثاني. وينبغي أن نتصور هذه الإمكانية بمعنى مزدوج، فالإنسانية سوف تصبح أكثر فأكثر تمكنا من الإشراف على تطورها الاجتماعي كما على خضات البيئة الطبيعية التي يحدث ضمنها، ومن التحكم بذلك كله ذاتيا. سوف تتمكن أكثر فأكثر من تفجير كل امكانات التطور الفردي والإجتماعي التي يخنقها أو يشوهها إلى الآن تقصيرها في الاشراف على قوى الطبيعة وعلى التنظيم والصيرورة الاجتماعيين.
ويستتبع بناء مجتمع غير طبقي، ثم قيام مجتمع شيوعي، تحرر العمل أو تحرر الانسان من حيث هو منتج. يصبح الشغيلة أسياد منتجاتهم وسيرورات عملهم، فيختارون بحرية سلم الأولويات في توزيع الناتج الاجتماعي، ويقررون جماعيا وديموقراطيا أعباء الإنتاج والتضحيات بأوقات الفراغ وبالاستهلاك الجاري، التي سوف تتحكم بعملية التوزيع.
هذه الخيارات ستظل تتم بالطبع في إطار لا يخلو من الإكراه، فما من مجتمع بشري قادر على أن يستهلك أكثر مما ينتج، من دون أن يحد من احتياطيه ومن موارده الإنتاجية، أو أن يحكم على نفسه بالحد لاحقا من استهلاكه المعتاد، مذ يبلغ نفاد الاحتياطي والحد من الموارد الإنتاجية مستوى معينا. بهذا المعنى فإن عبارة فريديريك إنجلز، التي ترى أن الحرية هي الاعتراف بالضرورة، تبقى صحيحة حتى بالنسبة للإنسانية الشيوعية. وقد يكون استبدال تعبير «الاعتراف بالضرورة» بتعبير «الاضطلاع بأعباء الضرورة» أصح، لأنه كلما زاد إشراف الإنسان على شروط وجوده الطبيعية والاجتماعية كلما زادت أشكال الردود الممكنة على الشروط الاكراهية وكلما تحرر الإنسان من واجب تبني شكل واحد من الرد.
إلاّ أن هنالك بعدا ثانيا لتحرير الإنسان من الاستلاب يوسع بصورة فريدة دائرة الحرية الإنسانية، فعندما تتم كفاية كل حاجات الناس الأساسية، وعندما تتأمن إعادة إنتاج هذه الوفرة، يتوقف حل المشكلات المادية عن أن يكون المهمة الأولى أمام البشرية، ويتحرر الإنسان من استعباد العمل الآلي غير الخلاق، ويتحرر من ضرورة الوزن الوضيع لاستخدام وقته، وتخصيصه للإنتاج المادي على وجه الخصوص. يتفوق إذاك تطوير النشاطات الخلاقة لديه وشخصيته الغنية، وتطوير علاقات إنسانية أوسع فأوسع، على المراكمة المتواصلة لخيرات مادية أقل فأقل نفعا.
إن الممارسة الاجتماعية الثورية سوف لا تكتفي مذاك بقلب علاقات الإنتاج، بل ستقلب كل التنظيم الاجتماعي، وكل العادات التقليدية، كما ستقلب ذهنية الناس ونفسيتهم. وتذبل الأنانية المادية وروح المنافسة بعد أن تكون التجربة اليومية والمصالح العظمى توقفت عن مدهما بالغذاء.
وسوف تخص البشرية بيئتها الجغرافية، وتبدل شكل الكرة وطبيعة المناخ، وتوزيع احتياطات المياه الكبرى، في حين تحفظ التوازن البيئي أو تعيده، لا بل ستهز إلى الأعماق أساساتها البيولوجية الخاصة بها. وهي لن تتمكن من انجاح هذه المراهنات بصورة إرادية مطلقة، بالاستقلال عن شروط مسبقة وبنية تحتية مادية كافية. لكن ما أن تتأمن هذه البنية التحتية حتى تصبح البشرية الفاعلة، والأكثر فأكثر حرية في خياراتها، الرافعة الرئيسية لخلق إنسان جديد، الإنسان الشيوعي الحر والمتخلص من الاستلاب. بهذا المعنى يصح أن نتكلم على أنسية ماركسية وشيوعية.
*********
المراجع:
كارل ماركس، مقدمة «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي».
كارل ماركس - ف. إنجلز، الأيديولوجية الألمانية.
ف. إنجلز، لودينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
ف. إنجلز، من الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية العلمية.
ف. إنجلز، دور العمل في تحول القرد إلى إنسان.
بوخارين، المادية التاريخية.
مهرينغ، أسطورة لسنغ.
مهرينغ، دراسات حول المادية التاريخية.
كاوتسكي، الأخلاق والفهم المادي للتاريخ.
بليخانوف، الفن والتصور المادي للتاريخ.
غرامشي، المادية التاريخية (مقتطفات من دفاتر السجن).
غورتر، المادية التاريخية.
لوكاش، نقد كتاب السوسيولوجيا لـ ن. بوخارين (مجلة «الإنسان والمجتمع»، العدد الثاني، 1966).
تران-دوك-تو، حول ولادة الوعي واللغة.
ماندل، تكوين الفكر الاقتصادي لدى كارل ماركس (الفصلان الأخيران).
توطئة
هذا المدخل إلى الماركسية هو نتاج تجارب دروس عديدة ألقيت في مناضلين شباب، في لحظات مختلفة من السنوات الخمس عشرة الأخيرة. وهو مرتبط بالاحتياجات التربوية التي لمسناها والتي قد تختلف من بلد إلى آخر ومن وسط إلى آخر. لذا لا ندّعي البتة أنه مدخل «نموذجي».
وهو، فضلا عن كونه يتضمن العناصر الأساسية في نظرية المادية التاريخية والنظرية الاقتصادية الماركسية وتاريخ الحركة العمالية وقضايا استراتيجية الحركة العمالية المعاصرة وتكتيكها، يحتوي على «ابتكار» يبدو محيّرا للوهلة الأولى: فإن الفصل المتعلق بالديالكتيك المادي والفصل الذي يعرض عرضا منهجيا نظرية المادية التاريخية يردان في نهاية الكتاب وليس في بدايته.
طبعا، ليس هذا الابتكار «مراجعة منهجية»، بل هو عبرة مستمدة من ملاحظة اختبارية: أن عرضا حول الدياليكتيك يصلح فاتحة لمدرسة تكوين كوادر أكثر مما لمدرسة مناضلين مبتدئين. فهؤلاء يستوعبون النظرية بصورة أفضل إذا شُرحت لهم بشكل ملموس إلى أبعد حد ممكن. وانه لأفضل بالتالي الانطلاق مما يستطيع المرء التأكد منه مباشرة -التفاوت الاجتماعي، النضال الطبقي، الاستغلال الرأسمالي- وصولا إلى مفاهيم الديالكتيك الأكثر تجريدا وأساسية، بوصفها المنطق العام للحركة والتناقض، وذلك بعد توضيح حركة المجتمع والتناقضات التي تمزقه.
ليس في الأمر سوى اختيار مبني على خبرة تربوية شخصية. ومن البديهي أن تجارب أخرى قد تؤدي إلى استنتاجات مختلفة. هذا ونبقى على استعداد للعودة إلى بنية أكثر تقليدية لهذا المدخل، إذا أثبت لنا، على ضوء تجارب، أن طريقة العرض التقليدية تسمح لمناضلي القاعدة أن يستوعبوا جوهر الماركسية بصورة أفضل. بيد أننا نجيز لنفسنا أن نشك في هذا الأمر في الوقت الراهن.
إرنست ماندل
--------------------------------------------------------------------------------
1/ التفاوت الاجتماعي والنضالات الاجتماعية عبر التاريخ
1- التفاوت الاجتماعي في المجتمع الرأسمالي المعاصر
في بلجيكا، يوجد توزيع هرمي للثروة وللسلطة الاجتماعية. ففي قاعدة هذا الهرم، نجد ثلث المواطنين لا يملكون شيئا سوى ما يكسبونه ويصرفونه، سنة بعد سنة. إنهم غير قادرين على الادّخار ولا على التملك. وفي قمة الهرم، نجد 4% من المواطنين يملكون نصف الثروة القومية الخاصة. إن ما يقل عن 1% من البلجيكيين يملكون أكثر من نصف ثروة البلاد المنقولة. وبينهم 200 عائلة تتحكم بالشركات الكبرى (holdings) التي تسيطر على مجمل الحياة الاقتصادية القومية.
إن دراسة نشرها حديثا معهد الإحصاءات والدراسات الاقتصادية القومي أشارت إلى أن 50% من الأمة الفرنسية لم يكونوا يملكون أكثر من 5% من الثروة القومية عام 1975، بينما نصف هذه الثروة بين أيدي أقل من 10% من الأسر، وذلك مع حسبان المساكن وودائع صناديق التوفير في فئة «الثروات». أمّا ثروة 1% من الأسر الأكثر ثراء فقد ازدادت بين عامي 1949 و1975 بوثيرة مقدارها ضعفا ثروة الأسر ذات المداخيل المتواضعة.
أما في الولايات المتحدة، فقد جاء في تقدير إحدى لجان مجلس الشيوخ أن ما يقل عن 1% من العائلات الأمريكية تملك 10% من جميع أسهم الشركات المساهمة، وأن 0,2% من العائلات تملك أكثر من ثلثي هذه الأسهم. وفي سويسرا، يملك 2% من السكان أكثر من 67% من الثروة الخاصة.
ولما كان مجمل الصناعة والقطاع المالي الأمريكيين (عدا بعض الاستثناءات) منظما على أساس «الشركة المغفلة»، نستطيع القول أن لدى 99% من المواطنين الأمريكيين سلطة اقتصادية أدنى مما لدى 0,1% من السكان.
ليس تفاوت المداخيل والثروات واقعا اقتصاديا وحسب، بل يستتبع تفاوتا في احتمالات البقاء، تفاوتا أمام الموت. هكذا نجد أن معدل وفيات الأطفال كان في عائلات العمال غير المتخصصين، في بريطانيا، قبل الحرب، أكثر من ضعفي ما كان في العائلات البورجوازية. وتشير إحصائية رسمية إلى أن معدل وفيات الأطفال ارتفع في فرنسا، سنة 1951، إلى 19,1 وفات لكل ألف ولادة في المهن الحرة، و23,9 وفاة في البورجوازية الرأسمالية، و28,2 وفاة عند موظفي التجارة، و34,5 وفاة عند التجار، و36,4 وفاة عند الحرفيين، و42,5 وفاة عند العمال المتخصصين، و 44,9 وفاة الفلاحين والعمال الزراعيين، و51,9 وفاة عند العمال نصف المتخصصين و61,7 وفاة عند العمال غير المتخصصين! هذه النسب لم تتغير عمليا حتى اليوم، بالرغم من أن معدل وفيات الأطفال قد انخفض في جميع الفئات.
وقد نشرت مؤخرا الصحيفة البلجيكية المحافظة «لاليبر بلجيك» دراسة مكربة تتعلق بتكوّن اللغة عند الطفل. تؤكد هذه الدراسة أن العبء الإضافي الذي غالبا ما يعاني منه طفل عائلة فقيرة خلال السنتين الأوليين من حياته، من جراء التخلف الثقافي الذي يفرضه المجتمع الطبقي، هذا العبء يجرّ عواقب دائمة من حيث إمكانية استيعاب مواضيع علمية، وهي عواقب لا يستطيع تعليم «متساو»، لا يقصد التعويض قصدا، أن يبطلها. فإن عبارة الروائي التي تقول أن التفاوت الاجتماعي يخنق تطور ألوف من أمثال موزار وشيكسبير وأينشتاين بين أولاد الشعب، هذه العبارة ما زالت صحيحة للأسف حتى في عصر دولة الخدمات الاجتماعية (Welfare state)!
وفي عصرنا هذا، لا يتوجب علينا أن نأخذ بعين الاعتبار الفروقات الاجتماعية القائمة داخل كل بلد وحسب. بل يهم أن نأخذ أيضا بعين الاعتبار التفاوت القائم بين عدد قليل من البلدان المتقدمة صناعيا والقسم الأعظم من البشرية الذي يعيش في البلدان المسماة بالمتخلفة (البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة).
فالولايات المتحدة تنتج أكثر من نصف الإنتاج الصناعي وتستهلك أكثر من نصف العديد من المواد الأولية الصناعية في العالم الرأسمالي. ويتصرف 550 مليونا من الهنود بكميات من الفولاذ والطاقة تقل عما يتصرف به 9 ملايين من البلجيكيين. أمّا الدخل الفردي الواقعي في أفقر بلدان العالم فلا يتعدى 8% من الدخل الفردي في البلدان الأخرى. ولا يحصل 67% من سكان الكرة الأرضية سوى على 15% من الدخل العالمي. وفي الهند، يبلغ عدد الأمهات اللواتي يمتن من جراء العواقب المباشرة للأمومة، في مقابل كل 100 ألف ولادة، ثلاثين ضعف عددهن في الولايات المتحدة.
نتائج: يأكل المواطن الهندي كل يوم ما لا يزيد عن نصف الحراريات التي يتناولها مواطن البلدان المتقدمة في الغرب. والعمر المتوسط الذي يتعدى 65 عاما في الغرب، ليصل إلى 70 عاما في بعض البلدان، يكاد لا يبلغ 30 عاما في الهند.
2- التفاوت الاجتماعي في المجتمعات السابقة
نجد تفاوتا اجتماعيا مماثلا للذي هو قائم في العالم الرأسمالي، في جميع المجتمعات السابقة التي تعاقبت خلال التاريخ (أي خلال تلك المرحلة من وجود البشرية على الأرض، التي نملك عنها شهادات خطية).
هاكم وصفا لبؤس الفلاحين الفرنسيين في نهاية القرن 17نقلناه عن «أطباع» لا برويير [20]:
«نرى بعض الحيوانات المتوحشة، ذكورا وإناثا، منتشرة في الريف، سوداء، دكناء، حرقتها الشمس، مرتبطة بالأرض التي تنبشها وتحركها بمثابرة لا تقهر. لها ما يشبه الصوت الناطق، وعندما تقف على أرجلها، تظهر وجها إنسانيا وهي بالفعل من البشر. ينسحبون عند المساء إلى أوكار، حيث يعيشون من الخبز الأسود والماء والجذور…».
قارنوا هذه الصورة عن فلاحي ذلك العصر بصورة الحفلات الباهرة التي أقامها لويس الرابع عشر [21] في حديقة قصر فرساي، قارنوها بتخمة النبلاء وإسراف الملك، تكونون قد رسمتم صورة أخّاذة عن التفاوت الاجتماعي.
في مجتمع بداية العصر الوسيط [22] الذي شهد هيمنة القنانة، كان السيد النبيل يستأثر في معظم الأحيان بنصف عمل الفلاحين الأقنان أو بنصف محصولهم. وكان ثمة أسياد عديدون يعمل على أرضهم مئات بل ألوف الأقنان. فكان كل سيد يحصل سنويا على ما يساوي محصول مئات بل ألوف الفلاحين.
وكان الأمر على هذه الصورة في شتى مجتمعات الشرق الكلاسيكي (مصر، سومر، بابل، فارس، الهند، الصين، الخ) حيث كان المجتمع قائما على الزراعة وكان الملاك العقاريون أمّا أسيادا أو ملوكا (يمثلهم كتبة وكلاء لمصلحة الضرائب الملكية).
لقد ترك لنا كتاب «هجاء المهن» الذي كُتب في مصر الفرعونية، قبل 3500 عام، صورة عن الفلاحين الذين استغلهم هؤلاء الكتبة الملكيون وقد قارنهم المزارعون الناقمون بالحيوانات الضارة والحشرات الطفيلية.
أمّا العصور القديمة اليونانية والرومانية، فقد كان قائما على العبودية. وإذا استطاع ذلك المجتمع أن يبلغ مستوى عاليا من الثقافة، فسبب الأمر يعود جزئيا إلى أن سكان المدن القديمة تمكنوا من تخصيص قسم هام من وقتهم لنشاطات سياسية وثقافية وفنية ورياضية، حيث تُرك العمل اليدوي أكثر فأكثر للعبيد وحدهم.
3- التفاوت الاجتماعي والتفاوت الطبقي
ليست كل تفاوت اجتماعي بتفاوت طبقي. فإن الفرق بين أجر عامل غير متخصص وأجر عامل ذي اختصاص عال لا يجعل منهما عضوي طبقتين اجتماعيتين مختلفتين.
إن التفاوت الاجتماعي تفاوت يمد جذوره في بنية الحياة الاقتصادية وسيرها الطبيعي، وتحافظ عليه المؤسسات الاجتماعية والقانونية الرئيسية في عصره، وتزيد من حدته.
فلنوضح هذا التعريف ببعض الأمثلة:
لكي يصبح المرء رب عمل كبير في بلجيكا، عليه جمع رساميل تقدر بنصف مليون فرنك [23] مقابل كل عامل يجري استئجاره. إن مصنعا صغيرا يستخدم 100 عامل يتطلب بالتالي جمع رأسمال لا يقل عن 100 مليون فرنك. والحال أن أجر العامل الصافي لا يتعدى أبدا تقريبا 200 ألف فرنك سنويا فحتى إذا عمل خمسين عاما دون أن يصرف فلسا واحدا للأكل والعيش، لا يستطيع العامل جمع ما يكفي من المال ليصبح رأسماليا. فالعمل المأجور، الذي هو أحد ميزات بنية الاقتصاد الرأسمالي، يشكل إذا أحد جذور انقسام المجتمع الرأسمالي إلى طبقتين مختلفتين بالأساس: الطبقة العاملة التي لا تستطيع أبدا أن تصبح بواسطة مداخيلها مالكة وسائل إنتاج، وطبقة مالكي وسائل الإنتاج أو الرأسماليين.
صحيح أنه يوجد إلى جانب الرأسماليين بحصر المعنى بعض التقنيين الذين يستطيعون أن يصلوا إلى مراكز إدارة المنشآت. غير أن التكوين التقني المطلوب هو تكوين جامعي. والحال أن 5 إلى 7% فقط من الطلاب الجامعيين في بلجيكا، في العقود الأخيرة، هم من أبناء العمال… والحالة هي نفسها في معظم البلدان الامبريالية.
إن المؤسسات الاجتماعية تقطع الطريق إلى الملكية الرأسمالية أمام العمال، سواء من جهة مداخيلهم أو من جهة نمط التعليم العالي. هذه المؤسسات تبقى انقسام المجتمع إلى طبقات كما هو قائم اليوم، وتحافظ عليه وتديمه.
حتى في الولايات المتحدة حيث يحلو لبعضهم أن يذكروا أمثالا عن «أبناء عمال مجتهدين أصبحوا من أصحاب المليارات بفضل دأبهم في العمل»، تبيّن نتيجة استقصاء أن 90% من مدراء المنشآت الهامة ذوو أصول برجوازية كبيرة ومتوسطة.
هكذا نجد عبر التاريخ تفاوتا اجتماعيا تبلور في تفاوت طبقي. ففي كل مجتمع من المجتمعات المذكورة، نجد طبقة من المنتجين تعيل بعملها المجتمع بأسره وطبقة مسيطرة تعيش من عمل الغير: فلاحون وكهنة أو أسياد أو كتبة في إمبراطوريات الشرق، عبيد وأسياد عبيد في العصور القديمة اليونانية والرومانية، أقنان وأسياد إقطاعيون في بداية العصر الوسيط، عمال ورأسماليون في العصر البرجوازي.
4- المساواة الاجتماعية في ما قبل التاريخ البشري
غير أن التاريخ لا يشكل سوى جزء بسيط من حياة البشرية على الكرة الأرضية. فقد سبقه ما قبل التاريخ، أي تلك المرحلة من وجود البشرية التي كانت خلالها الكتابة والحضارة مجهولتين. وقد بقيت بعض الشعوب البدائية في شروط العيش ما قبل التاريخية حتى زمن قريب، بل حتى أيامنا هذه. والحال أن البشرية جهلت التفاوت الطبقي طوال القسم الأعظم من وجودها ما قبل التاريخي.
وسوف يتضح لنا الفرق الأساسي بين جماعة بدائية ومجتمع طبقي من خلال استعراضنا لبعض مؤسسات تلك الجماعات.
فقد حدثنا العديد من علماء الأناسة (أنتربولوجيا) عن عادة نجدها عند شعوب بدائية كثيرة وهي عادة تنظيم احتفالات مسهبة بعد الحصاد. وقد وصفت لنا عالمة الأناسة مارغريت ميد هذه الاحتفالات عند شعب آرابيش البابو [24] في غينيا الجديدة، حيث جميع الذين حصدوا محصولا فوق المتوسط، يدعون عائلاتهم بكاملها وجميع جيرانهم إلى المشاركة في احتفالات تستمر حتى استهلاك القسم الأعظم من فائض ذلك المحصول. وتضيف مارغريت ميد:«إن هذه الاحتفالات تشكل إجراء ملائما لمنع الفرد من مراكمة ثروات..»
من جهة أخرى، درس عالم الأناسة آش نظام وتقاليد قبيلة قطنت جنوب الولايات المتحدة، هي قبيلة الـهوبي. في هذه القبيلة، وبخلاف مجتمعنا، يعتبر مبدأ المزاحمة الفردية مبدأ مدانا من وجهة النظر الأخلاقية. فعندما يلعب الأولاد الـهوبي ألعابا رياضية، لا يحسبون أبدا العلامات ويجهلون من «ربح».
إن المشاعات البدائية التي لم تنقسم بعد إلى طبقات، عندما تمارس الزراعة كنشاط اقتصادي رئيسي وتحتل أرضا معينة، لا تقوم باستثمار الأرض جماعيا. بل تحصل كل عائلة على حقل تستثمره لفترة. بيد أن الحقول يعاد توزيعها مرارا للحؤول دون تمتع أي عضو من أعضاء المشاعة بامتيازات على حساب الآخرين. أمّا المروج والغابات فإن استثمارها جماعي. إن نظام المشاعة القروية هذا، المبني على غياب الملكية الخاصة للأرض، قد وجد عند البحث في نشوء الزراعة لدى جميع شعوب العالم تقريبا. أنه يثبت أن المجتمع في تلك الفترة لم يكن منقسما إلى طبقات على صعيد القرية.
أمّا الأفكار الشائعة التي تردد دائما والقائلة أن التفاوت الاجتماعي يجد جذوره في تفاوت مواهب الأفراد أو كفاآتهم، وأن انقسام المجتمع إلى طبقات هو نتاج «أنانية الإنسان الغريزية» وبالتالي نتاج «الطبيعة الإنسانية»، فهي أفكار لا أساس علمي لها. إن اضطهاد طبقة اجتماعية لطبقة أخرى ليس نتاج «الطبيعة الإنسانية»، بل نتاج تطور تاريخي للمجتمع. إنه اضطهاد لم يكن موجودا دوما ولن يبقى إلى الأبد. فلم يكن ثمة أغنياء وفقراء دوما ولن يبقى أغنياء وفقراء إلى الأبد.
5- التمرد ضد التفاوت الاجتماعي عبر التاريخ
إن انقسام المجتمع إلى طبقات والملكية الخاصة للأرض ولوسائل الإنتاج ليسا إطلاقا، إذا، نتاج «الطبيعة الإنسانية». إنهما نتاج تطور للمجتمع وللمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية. وسوف نرى لماذا نشآ وكيف سيزولان.
في الواقع، ما أن يظهر انقسام المجتمع إلى طبقات حتى يبدي الإنسان حنينه إلى الحياة المشاعية القديمة. ونجد تعبيرات هذا الحنين في حلم «العصر الذهبي» الذي يقال أنه ساد عند فجر وجود البشرية على الأرض والذي وصفه الأدباء الكلاسيكيون الصينيون، شأنهم في ذلك شأن الكتاب الإغريق واللاتينيين. ويقول فرجيليوس [25] بوضوح أن المحاصيل، في ذلك العصر الذهبي، كان يجري تقاسمها جماعيا، أي أن الملكية الخاصة لم تكن موجودة.
هذا وقد اعتبر العديد من الفلاسفة والعلماء الشهيرين أن انقسام المجتمع إلى طبقات يشكل مصدر القلق الاجتماعي، وقد وضعوا مشاريع لإزالة هذا الانقسام.
هو ذا الفيلسوف اليوناني أفلاطون [26] يحدد أصل المصائب التي تصيب المجتمع: «حتى أصغر مدينة منقسمة إلى قسمين، مدينة فقراء ومدينة أغنياء تتعارضان (وكأنهما) في حالة حرب».
كذلك، فإن الشيع اليهودية التي تكاثرت في عصر المسيح ومن ثم آباء الكنيسة المسيحية الأول الذين حافظوا على تراث تلك الشيع بين القرن الثالث والخامس الميلاديين، كانوا دعاة متحمسين لعودة إلى مشاعية الأملاك. فقد كتب القديس برنابا: «لن تتكلم أبدا عن ملكيتك، لأنك إذا كنت تنعم بثرواتك الروحية بالمشاع، فحري أن تنعم بثرواتك المادية بالمشاع». وقد ألقى القديس قبريانوس مرافعات عديدة دعا فيها إلى تقاسم الثروات المتساوي بين جميع الناس. وكان القديس يوحنا فم الذهب أول من صاح: «الملكية هي السرقة». والقديس أوغسطينوس، حتى هو، بدأ بإلقاء مسؤولية العنف والصراعات الاجتماعية على الملكية الخاصة، قبل أن يغير لاحقا وجهة نظره.
وقد استمر هذا التقليد طوال العصر الوسيط، لا سيما عند القديس فرنسيس الاسيزي وعند رواد الإصلاح [27]. هاكم ما قاله الرائد الإنكليزي جون بول في القرن الرابع عشر: «يجب إلغاء القنانة وجعل جميع البشر متساوين. إن الذين يسمون بالأسياد يستهلكون ما ننتجه نحن.. إن ترفهم ناتج عن كدحنا».
وفي العصر الحديث، أخيرا، نرى مشاريع مجتمع المساواة تصبح أدق وأدق، سيما في كتاب «الطوبى» للإنكليزي توماس مور، وكتاب «مدينة الشمس» للإيطالي توماس كامبانيللا، وكتابات الفرنسي فوراس داللي (القرن 17)، وفي «وصية جان ميلييه» و«قانون الطبيعة» للفرنسي موريللي (القرن 18).
وإلى جانب هذا التمرد الفكري ضد التفاوت الاجتماعي، كانت ثمة تمردات فعلية لا تحصى، أي انتفاضات من قبل الطبقات المضطهَدة ضد مضطهِديها. إن تاريخ جميع المجتمعات الطبقية هو تاريخ الصراعات الطبقية التي تمزقها.
6- الصراعات الطبقية عبر التاريخ
إن الصراعات بين الطبقة المستغِلة والطبقة المستغَلة أو بين مختلف الطبقات المستغِلة تتخذ أكثر الأشكال تنوعا حسب المجتمع المعني ومرحلة تطوره المحددة.
هكذا فقد حصلت تمردات عديدة في مجتمعات ما يسمى بـ «نمط الإنتاج الآسيوي» (إمبراطوريات الشرق الكلاسيكي). وقد تعاقبت انتفاضات فلاحية لا تحصى في تاريخ السلالات التي سادت بالتتالي في الإمبراطوريات الصينية. وشهدت اليابان أيضا عددا كبيرا من الانتفاضات الفلاحية ، خاصة في القرن الثامن عشر.
وقد عرفت العصور القديمة اليونانية والرومانية سلسلة غير منقطعة من تمردات العبيد -كان أشهرها بقيادة سبارتكوس- التي ساهمت إلى حد بعيد في سقوط الإمبراطورية الرومانية. ونشب بين «الأحرار» صراع عنيف بين طبقة من الفلاحين المستدينين وتجار- مرابين، بين غير مالكين ومالكين.
وفي العصر الوسيط، في ظل النظام الإقطاعي، جرت صراعات طبقية بين الأسياد الإقطاعيين وبلدات حرة قائمة على الإنتاج البضاعي الصغير، وبين الحرفيين والتجار داخل هذه البلدات، وبين بعض الحرفيين المدينيين والفلاحين المجاورين للمدن. وجرت بالأخص صراعات طبقية عنيفة بين النبلاء الإقطاعيين والفلاحين الذين حاولوا التخلص من النير الإقطاعي، واتخذت هذه الصراعات أشكالا ثورية تماما في عاميات فرنسا وحروب الفلاحين في إنكلترا وبوهيميا وألمانيا في القرن السادس عشر.
وعرفت الأزمنة الحديثة صراعات طبقية بين النبلاء والبرجوازية، وبين المعلمين الحرفيين والصناع، وبين رجال المصارف والتجار الأغنياء من جهة و«السواعد العارية» في المدن من الجهة الأخرى، الخ.. هذه الصراعات هي مقدمة الثورات البرجوازية والرأسمالية الحديثة ونضال البروليتاريا الطبقي ضد البرجوازية
* * * * * * *
المراجع
ك. ماركس وف. إنجلس البيان الشيوعي.
ف. إنجلس، دحض دوهرنغ (الجزءان الثاني والثالث).
ماكس بير، تاريخ الاشتراكية.
ك. كاوتسكي، مصادر الاشتراكية، توماس مور.
مورتون، الطوبى الإنكليزية.
--------------------------------------------------------------------------------
2/ المصادر الاقتصادية للتفاوت الاجتماعي
1- المشاعات البدائية القائمة على الفقر
طوال القسم الأعظم من وجوده ما قبل التاريخي، عاش الإنسان في شروط من الفقر المدقع. ولم يكن للبشر من وسائل للحصول على القوت الضروري لعيشهم سوى القنص وصيد الأسماك وقطف الثمار. كانت البشرية تعيش بالتطفل على الطبيعة، حيث لم تكن تزيد الموارد الطبيعية التي كانت أساس بقائها. بل لم يكن لديها أية سيطرة على هذه الموارد.
كانت المشاعات البدائية منظمة بشكل يضمن بقاءها الجماعي في شروط عيش بالغة الصعوبة. وكان كل فرد يشارك إلزاميا في العمل حيث أن عمل كل فرد ضروري لبقاء المشاعة، وإنتاج القوت يكفي بالكاد لإطعام الجماعة. ولو وجدت امتيازات مادية لحكمت على قسم من القبيلة بالمجاعة وحرمتها من إمكانية العمل بصورة عقلانية ونسفت بالتالي شروط البقاء الجماعي. هو ذا السبب الذي جعل التنظيم الإجتماعي، في تلك المرحلة من تطور المجتمعات البشرية، ينزع إلى المحافظة على حد أقصى من المساواة داخل الجماعات البشرية.
وقد لاحظ علماء الأناسة الإنكليز هوبهاوس ووهيلر وغينسبرغ، بعد دراستهم للمؤسسات الاجتماعية في 425 قبيلة بدائية، لاحظوا غيابا تاما للطبقات الاجتماعية لدى جميع القبائل التي جهلت الزراعة.
2- ثورة عصر الحجر المصقول
هذا الوضع من الفقر الأساسي لم يعدل بصورة ثابتة إلاّ بعد تكون تقنيات زراعة الأرض وتربية الحيوانات. إن الفضل في اكتشاف تقنية زراعة الأرض، وهو أكبر ثورة اقتصادية في وجود البشرية، يعود إلى النساء، كما يعود لهن فضل سلسلة من الاكتشافات الهامة الأخرى في ما قبل التاريخ (لاسيما تقنية الخزافة والحياكة). وقد تدعمت الزراعة منذ 15 ألف سنة قبل الميلاد، تقريبا، في أمكنة عديدة من الكرة الأرضية، بدءا على الأرجح بآسيا الصغرى وبلاد ما بين النهرين وإيران وتركستان، وامتدت تدريجيا إلى مصر والهند والصين وإفريقيا الشمالية وأوروبا المتوسطية. ويسمى انتشار الزراعة بثورة عصر الحجر المصقول لأنه حصل في عصر من العصور الحجرية كانت فيه أدوات عمل الإنسان الرئيسية مصنوعة من الحجر المصقول (وهو أحدث العصور الحجرية).
لقد جعلت ثورة عصر الحجر المصقول الإنسان قادرا على إنتاج قوته بنفسه وقادرا بالتالي -إلى حد ما- على التحكم ببقائه. وقد قلصت ارتهان الإنسان البدائي بقوى الطبيعة. وسمحت بتكوين مخزونات من المؤن، الأمر الذي سمح بدوره بتحرير بعض أعضاء المشاعة من ضرورة إنتاج قوتهم. هكذا أصبح بالإمكان تطور تقسيم اقتصادي للعمل، أي تخصص مهني، يزيد إنتاجية العمل البشري. هذا التخصص لا يبدو بعد سوى ملامحه في المجتمع البدائي، لأنه كما قال أحد الرحالة الإسبان الأوائل في القرن السادس عشر، متحدثا عن الهنود: «يريد البدائيون استعمال كل ما لديهم من الوقت لجمع المؤن، لأنهم لو استعملوه بطريقة أخرى لعانوا من الجوع».
3- النتاج الضروري والنتاج الاجتماعي الفائض
إن ظهور فائض كبير ودائم من المؤن هو الذي يحدث انقلابا في شروط التنظيم الاجتماعي. فعندما يكون هذا الفائض صغيرا نسبيا ومبعثرا بين قرية وأخرى، لا يغير البنية المتساوية للمشاعة القروية. إنه يسمح فقط بإعالة بعض الحرفيين والموظفين، أمثال الذين بقوا خلال آلاف السنين في القرى الهندية.
لكن عندما يتم حصر هذه الفوائض على مساحات كبيرة من قبل زعماء عسكريين أو دينيين، أو عندما تتكاثر الفوائض في القرية بفضل تطوير أساليب الزراعة، تستطيع خلق شروط ظهور تفاوت اجتماعي، يمكن استعمالها لإعالة أسرى الحرب أو أسرى عمليات القرصنة (الذين كانوا يقتلون سابقا بسبب قلة المؤن). ويمكن إجبار هؤلاء على العمل لأجل المنتصرين لقاء قوتهم: هكذا ظهرت العبودية في العالم الإغريقي.
ويمكن استعمال الفائض ذاته لإعالة طائفة من الكهنة والجنود والموظفين والأسياد والملوك: هكذا ظهرت الطبقات المسيطرة في إمبراطوريات الشرق القديم (مصر، بابل، إيران، الهند، الصين).
عندها يستكمل التقسيم الاقتصادي للعمل بتقسيم اجتماعي. وينتهي استعمال الإنتاج الاجتماعي بمجمله لسد حاجات المنتجين. بل ينقسم هذا الإنتاج بعدئذ إلى قسمين:
الناتج الضروري، أي قوت المنتجين الذين لولا عملهم لأنهار المجتمع بأسره.
النتاج الاجتماعي الفائض، أي الفائض الذي ينتجه المنتجون والذي تحتكره الطبقات المالكة.
هاكم وصف المؤرخ هايشلهايم لظهور المدن الأولى في العالم القديم: «يتألف سكان المراكز المدنية الجديدة… بقسمهم الأعظم من شريحة عليا تعيش من الريوع (أي أنها تتملك فائض نتاج العمل الزراعي-أ.م.) مؤلفة من أسياد ونبلاء وكهنة. ويجب أن نضيف إليهم الموظفين والمستخدمين والخدام الذين تعيلهم هذه الشريحة العليا بصورة غير مباشرة».
هكذا يؤدي ظهور الطبقات الاجتماعية -الطبقات المنتجة والطبقات المسيطرة- إلى ولادة الدولة التي هي المؤسسة الرئيسية لحفظ الشروط الاجتماعية القائمة، أي التفاوت الاجتماعي. إن انقسام المجتمع إلى طبقات يتدعم بتملك الطبقات المسيطرة لوسائل الإنتاج.
4- الإنتاج والتراكم
إن تَكَوُّن الطبقات الاجتماعية وتملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل جزء من المجتمع ينتجان عن صراع اجتماعي ولا يستمران إلاّ بفضل صراع اجتماعي دائم.
بيد أن ظهور الطبقات يشكل في الوقت نفسه مرحلة -حتمية- من التقدم الاقتصادي، لكونه يسمح بفصل وظيفتين اقتصاديتين أساسيتين هما وظيفة الإنتاج ووظيفة المراكمة.
في المجتمع البدائي، كان جميع الرجال والنساء القادرين يعملون في إنتاج القوت بصورة رئيسية. ولم يكن بوسعهم، في تلك الشروط، أن يخصصوا سوى القليل من الوقت لصنع أدوات العمل وتخزينها والتخصص في صنعها والبحث المنهجي عن أدوات عمل أخرى والتمرس في تقنيات عمل معقدة (كعمل التعدين مثلا) والمراقبة المنهجية لظواهر الطبيعة، الخ…
إن إنتاج نتاج اجتماعي فائض يسمح بمنح قسم من البشرية ما يكفي من وقت الفراغ ليتفرغ لمجمل تلك النشاطات التي تيسر ازدياد إنتاجية العمل. فأوقات الفراغ هذه هي أساس الحضارة وتطور أولى التقنيات العلمية (علوم الفلك والهندسة والمياه والمعادن الخ...) والكتابة. ويرافق انفصال المجتمع إلى طبقات انفصال العمل الذهني عن العمل اليدوي، الذي هو نتاج أوقات الفراغ تلك.
يشكل إذن انقسام المجتمع إلى طبقات شرطا للتقدم التاريخي، طالما أن المجتمع أفقر من أن يتيح لجميع أعضائه التفرغ للعمل الذهني (لوظيفة المراكمة). غير أن ثمن هذا التقدم باهظ. فحتى عشية الرأسمالية الحديثة، لا يستفيد من منافع ازدياد إنتاجية العمل إلاّ الطبقات المالكة. وبالرغم من كل تقدم التقنية والعلم خلال السنوات الأربعة الاف التي تفصل بين بدايات الحضارة القديمة والقرن السادس عشر، نجد أن وضع الفلاح الهندي والصيني والمصري، بل حتى اليوناني والسلافي، لم يتبدل بصورة حسية.
5- سبب فشل كافة ثورات الماضي من أجل المساواة
عندما لا يكفي الفائض الذي ينتجه المجتمع البشري، أي النتاج الاجتماعي الفائض، لتحرير البشرية بأسرها من الكدح المرهق الدائم، فإن أية ثورة اجتماعية تهدف إلى إعادة المساواة البدائية بين البشر ثورة محكوم عليها بالفشل سلفا. فهي لا تستطيع أن تجد سوى مخرجين من التفاوت الاجتماعي القديم.
أما تدمير كل نتاج اجتماعي فائض عمدا والعودة إلى الفقر المدقع البدائي. عندها سوف تؤدي إعادة ظهور التقدم التقني بسرعة إلى التفاوتات الاجتماعية ذاتها التي كانت الغاية إلغاءها.
أو نزع ملكية الطبقة المالكة القديمة لصالح طبقة مالكة جديدة.
هذا بالضبط ما حصل في انتفاضة عبيد روما بقيادة سبارتكوس، وفي أولى الشيع المسيحية والأديرة، وفي مختلف الانتفاضات الفلاحية التي تتالت في الإمبراطورية الصينية، وفي ثورة الهراطقة المسيحيين في بوهيميا في القرن 15، وفي المستعمرات الشيوعية التي أسسها المهاجرون في أمريكا، الخ.
ودون أن ندعي أن الثورة الروسية أدت إلى الوضع ذاته، فإن إعادة ظهور تفاوت اجتماعي حاد في الاتحاد السوفياتي اليوم تجد تفسيرها الأساسي في فقر روسيا غداة الثورة، في عدم كفاية مستوى تطور قواها المنتجة وفي انعزال الثورة في بلد متأخر بنتيجة إخفاق الثورة في أوروبا الوسطى خلال مرحلة 1918-1923.
إن مجتمعا متساويا قائما على الوفرة وليس على الفقر -هو ذا هدف الاشتراكية- لا يستطيع أن يتطور إلاّ على قاعدة اقتصاد متقدم يكون النتاج الاجتماعي الفائض مرتفعا فيه إلى حد أنه يسمح بتحرير جميع المنتجين من كدح مرهق ويمنح المجتمع بأسره ما يكفي من أوقات الفراغ ليتمكن هذا الأخير من القيام جماعيا بالوظائف الإدارية في الحياة الاقتصادية والاجتماعية (وضيفة المراكمة).
لماذا احتاج الاقتصاد البشري إلى 15 ألف سنة من النتاج الاجتماعي الفائض حتى تمكن من الانطلاق الضروري لظهور ملامح حل اشتراكي للتفاوت الاجتماعي؟ سبب ذلك هو أنه طالما تملكت الطبقات المالكة النتاج الاجتماعي الفائض بشكل منتجات (قيم استعمالية)، شكل استهلاكها الخاص (استهلاك غير منتج) سقف ازدياد الإنتاج الذي رغبت بتحقيقه.
إن معابد وملوك الشرق القديم، وأسياد العبيد في العصور القديمة اليونانية والرومانية، والأسياد النبلاء والتجار الصينيين والهنود واليابانيين والبيزنطيين والعرب، والنبلاء الإقطاعيين في العصر الوسيط، جميعهم لم يجدوا مصلحة في زيادة الإنتاج طالما كدسوا في قصورهم وبلاطاتهم ما كفاهم من المؤن والملابس الفخمة والتحف الفنية. فثمة حدود لا يستطيع الاستهلاك والترف تجاوزها (مثل مضحك: في المجتمع الإقطاعي لجزر هاواي، اتخذ النتاج الاجتماعي الفائض شكل الغذاء حصرا وكانت المكانة الاجتماعية مرهونة بالتالي بـ…وزن كل فرد).
وعندما يتخذ الناتج الاجتماعي الفائض شكل النقد -شكل فائض القيمة- ويصبح بالإمكان استعماله ليس لاقتناء سلع استهلاكية وحسب بل أيضا سلع تجهيزية (سلع إنتاجية)، عند ذلك فقط تجد الطبقة المسيطرة الجديدة -البورجوازية- مصلحة في ازدياد غير محدود للإنتاج. هكذا تولد الشروط الاجتماعية الضرورية لتطبيق جميع الاكتشافات العلمية في الانتاج، أي الشروط الضرورية لظهور الرأسمالية الصناعية الحديثة.
6- اضطهاد النساء، أول شكل واسع للا مساواة الاجتماعية.
بين المجتمع الشيوعي البدائي للجماعة والعشيرة، والأشكال الأولى للمجتمع القائم على سيطرة طبقية على أخرى (كالمجتمع العبودي مثلا)، هنالك مرحلة انتقالية لم تكن قد تطورت خلالها بشكل كامل طبقة مسيطرة مالكة، لكن تأسست إبانها لا مساواة اجتماعية واضحة. يشهد على وجود هذا النموذج من المجتمعات العديد من الآثار والأوصاف الماضية التي ما تزال بارزة على وجه الخصوص في الأساطير والخرافات والديانات «البدائية»، لكن كذلك المجتمع القرابي القائم اليوم في جزء من أرياف إفريقيا السوداء، وإن بشكل أكثر فأكثر تشويها، تبعا لاندماجه بالمجتمع الطبقي المسيطر في كل البلدان التي ما يزال على قيد الحياة فيها.
هذا الشكل الأول المؤسس للا مساواة والاضطهاد الاجتماعيين هو شكل اضطهاد النساء على يد الرجال في المجتمعات البدائية التي بلغت هذا الطور من التقدم. واضطهاد النساء لم يكن موجودا منذ البدء، فهو ليس ناتج جبرية بيولوجية تلقي بثقلها على الجنس النسوي. لا بل ثمة معطيات كثيرة تعود إلى ما قبل التاريخ وإلى مجتمع شيوعية العشيرة وتؤكد أن المساواة بين الجنسين بقيت قائمة زمنا طويلا. ومع أنه تنقصنا المعطيات التي تسمح لنا بتعميم هذه الظاهرة على مجمل البشرية البدائية، فثمة دلائل ساطعة على أن النساء لعبن دورا اجتماعيا مهيمنا في العديد من المجتمعات على الأقل. ويكفي أن نتذكر الظاهرة واسعة الانتشار لـ«الهة الخصب» كسيدة للسماء، لدى فجر الزراعة التي اخترعتها النساء، من أجل الاستنتاج أن الإحلال المعمم للآلهة الذكور (ثم للاله الواحد) محل هذه الالهة، لا يمكن أن يكون عرضيا. إن الثورة في السماء تعكس ثورة حدثت على سطح الأرض، وقلب المفاهيم الدينية ناتج عن قلب الشروط الاجتماعية للعلاقات المتبادلة بين الرجال والنساء.
ويمكن أن يبدو غريبا للوهلة الأولى أن يفتتح شيئا فشيئا عصر استعباد النساء الاجتماعي حين يتكرس دورهن الاقتصادي المهيمن عن طريق وظيفتهن الأساسية في أعمال الحقول (الثورة النيوليتية). إلاّ أنه ليس ثمة أي تناقض حقيقي.
فبمقدار ما تزدهر الزراعة البدائية تصبح النساء المصدر الرئيسي لثورة القبيلة، بشكل مضاعف: من حيث هن المنتجات الرئيسيات للأغذية ومن حيث هن منجبات للأطفال. ذلك أن التطور الديموغرافي لم يعد يستشعر به كتهديد، بل كنعمة محتملة انطلاقا فقط من قاعدة تمون بالأغذية مضمونة إلى هذا الحد أو ذاك، ولقد أصبحت النساء بفعل ذلك موضوعات جشع اقتصادي وهو ما لم يكن ممكنا في عصر الصيد وقطاف الأثمار.
وليمكن إنجاز هذه التبعية، توجب حدوث سلسلة متلازمة من التحولات الاجتماعية. تم نزع سلاح النساء، أي أن مهنة الأسلحة أصبحت حكرا على الذكور. وهذا الواقع لم يكن سائدا منذ البدء، تشهد على ذلك الأساطير العديدة المتعلقة بالأمازونات [28] والتي لم تزل تحيا في أذهان الناس في كل القارات. كما أن وضع المرأة قد تغير بشكل عميق بفعل تعديلات جذرية أدخلت على قواعد الزواج وإضفاء الطابع الاجتماعي على الأطفال، بغية ضمان هيمنة نظام الأبوة.
ومع تطور الملكية الخاصة، ومن ثم توطيدها، اتخذت العائلة البطريركية [29] بالتدريج الشكل النهائي الذي احتفظت به، رغم تعديلات متتالية، على امتداد قسم مهم من تاريخ المجتمعات الطبقية. ولقد أصبحت هي ذاتها واحدة من المؤسسات الرئيسية، التي لا يمكن الاستعاضة عنها، والتي تضمن استمرار الملكية الخاصة عبر الإرث والقمع الاجتماعي بكل صوره (بما فيها البنى الذهنية التي تؤبد الموافقة على السلطة «الآتية من عل» والطاعة العمياء). غدت منطلقا لعمليات تمييز لا تحصى على حساب النساء في كل دوائر الحياة الاجتماعية. والتبريرات الأيديولوجية والمسبقات المنافقة التي تنطوي على هذه التمييزات جزء لا يتجزأ من الأيديولوجية المسيطرة المرتبطة بالطبقات المالكة جمعاء التي تعاقبت في التاريخ. وهي بذلك قد طبعت، جزئيا على الأقل، ذهنية الطبقات المستغَلة، بما فيها ذهنية البروليتاريا الحديثة في النظام الرأسمالي وغداة إطاحته.
*****
المراجع:
ك. ماركس ف. إنجلس البيان الشيوعي.
انجلس، دحض دوهرينغ (الجزء الثاني والثالث).
غوردن شايلد، ماذا حدث في التاريخ؟
غوردن شايلد، الإنسان صنع نفسه.
غلوتز، العمل في اليونان القديمة.
بواسوناد، العمل في العصر الوسيط.
أ. ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية (الفصول الأربعة الأولى).
--------------------------------------------------------------------------------
3/ الدولة، أداة السيطرة الطبقية
1- التقسيم الاجتماعي للعمل ونشوء الدولة
في المجتمع البدائي اللا طبقي، كان جمهور المواطنين يقوم بالوظائف الادارية. وكان كل فرد مسلحا وكل فرد يشارك في الجمعيات العامة التي كانت تصدر القرارات المتعلقة بالحياة الجماعية وبعلاقات المشاعة بالعالم الخارجي. وكذلك فإن النزاعات الداخلية كان يحسمها أعضاء المجتمع.
طبعا ليس من داع إلى تجميل الوضع الذي ساد في تلك المشاعات البدائية التي عاشت في ظل شيوعية العشيرة أو القبيلة فقد كان مجتمعا فقيرا منتهى الفقر. وكان الإنسان يعيش تحت رحمة قوى الطبيعة. أمّا الاخلاق والتقاليد وقواعد التحكيم في النزاعات الداخلية والخارجية، فإذا صح أنها كانت تطبق جماعيا، يبقى أنها كانت مطبوعة بالجهل والخوف والمعتقدات السحرية. إن الذي يجب التشديد عليه بالمقابل هو أن المجتمع كان يحكم نفسه بنفسه في حدود معلوماته وإمكاناته.
ليس صحيحا بالتالي أن مفاهيم «المجتمع» و«الجماعة البشرية» و«الدولة» كانت متماثلة تقريبا وتشمل بعضها بعضا عبر العصور. بالعكس تماما: فقد عاشت البشرية طوال آلاف وآلاف السنين في مجتمعات لم يكن فيها دولة.
تولد الدولة عندما تصبح وظائف كان مجموعة أعضاء المجتمع يقوم بها في البدء، حكرا على تجمع منفصل من الرجال:
- جيش منفصل عن جمهور المواطنين المسلحين.
قضاة منفصلون عن جمهور المواطنين الذين يحاكمون أشباههم.
زعماء وراثيون، ملوك، نبلاء، بدل ممثلين أو قادة لهذا النشاط أو ذاك يعينون مؤقتا وهم قابلون دوما للإبدال.
«منتجو أيديولوجية» (كهنة، كتبة، مدرسون، فلاسفة، مثقفون متنفذون) منفصلون عن سائر المجتمع.
إن ولادة الدولة هي إذن نتاج تحول مزدوج: ظهور نتاج اجتماعي فائض دائم يسمح بتحرير قسم من المجتمع من الزام القيام بعمل لتأمين عيشه بما يخلق الشروط المادية لتخصص هذا القسم في وظائف المراكمة والإدارة، ومن جهة ثانية، تحول اجتماعي وسياسي يسمح بـعزل سائر أعضاء الجماعة عن ممارسة الوظائف السياسية التي كانت بالأمس وظائف الجميع.
2- الدولة في خدمة الطبقات المسيطرة
كون الوظائف التي كان يمارسها في البدء جميع أعضاء المجتمع أصبحت، منذ لحظة معينة، حكرا على تجمع منفصل من الرجال، هذا الواقع يشير بحد ذاته إلى أن ثمة أناسا لهم مصلحة في القيام بهذا العزل. إن الطبقات المسيطرة هي التي تتنظم لعزل أعضاء الطبقات المستغَلة والمنتجة عن ممارسة وظائف قد تسمح لهم بإزالة الاستغلال الذي تم فرضه عليهم.
إن مثال الجيش والتسلح لهو أسطع برهان على ما سبق. فإن ولادة الطبقات المسيطرة تتم عن طريق تملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل جزء من المجتمع. وقد شهد العديد من القبائل والقرى الإفريقية، خلال القرون الأخيرة، تكرار لتطور هو أصل ولادة الدولة في أقدم إمبراطوريات الشرق (مصر، بلاد ما بين النهرين، إيران، الصين، الهند الخ.): فإن هبات وهدايا وخدمات في شكل مساعدة متبادلة، كانت تعطى مجانيا في البدء لجميع الأسر، أصبحت تدريجيا إلزامية وتحولت إلى ريوع وضرائب وسخرات.
بيد أنه ينبغي أيضا تأمين هذه الفرائض. وهذا يتم بالأخص تحت إكراه الأسلحة. فإن تجمعات من الرجال المسلحين -مهما كانت تسميتهم، جنودا أو ذركيين أو قراصنة أو لصوصا- تجبر المزارعين ومربي الحيوانات، ولاحقا الحرفيين والتجار، على التخلي عن قسم من إنتاجهم لصالح الطبقات المسيطرة. وتحمل تلك التجمعات السلاح لهذا الغرض، ويتوجب عليها منع المنتجين من أن يتسلحوا هم أيضا.
في العصور القديمة اليونانية والرومانية، كان اقتناء السلاح محرما على العبيد تحريما صارما. وكذلك الأمر بالنسبة لأقنان العصر الوسيط. وبالأصل، فإن العبيد والفلاحين الأولين غالبا ما هم إمّا أسرى حرب لم يعدموا، أو فلاحو مناطق محتلة، أي ضحايا سيرورة نزع السلاح من البعض التي تمنح البعض الآخر احتكار السلاح.
إن فريدريك إنجلس على حق، بهذا المعنى، عندما يلخص تعريف الدولة بصيغة: تجمع من الرجال المسلحين. طبعا، فإن الدولة تقوم بوظائف أخرى غير تسليح الطبقة المالكة ونزع السلاح من الطبقة المنتجة. غير أن وظيفتها، في التحليل الأخير، هي وظيفة إكراه يمارسها قسم من المجتمع ضد قسم آخر. وليس في التاريخ من شيء يسمح بتبرير الأطروحة الليبرالية-البرجوازية القائلة أن الدولة ولدت بموجب «عقد» أو «إتفاق» أبرمه طوعا جميع أعضاء مجتمع ما. بل يؤكد كل شيء، على العكس، إن الدولة نتاج إكراه وعنف يمارسه بعضهم ضد بعضهم الآخر.
وإذا كان ظهور الدولة يتيح للطبقات المسيطرة أن تحافظ على تملك النتاج الاجتماعي الفائض، فإن هذا التملك يسمح كذلك بتعويض أعضاء جهاز الدولة. وكلما كان النتاج الاجتماعي الفائض أهم، كلما أمكن للدولة أن تتنظم بعدد من الجنود والموظفين والأيديولوجيين مرتفع أكثر فأكثر.
إن تطور الدولة في العصر الوسيط الإقطاعي قد جعل هذه العلاقات شفافة بصورة خاصة. فعندما يبلغ النظام الإقطاعي ذروته، كان كل نبيل إقطاعي في إقطاعته قائد الجيش وجابي الضرائب وذا صلاحية لإصدار العملة ومديرا عاما للاقتصاد. لكن اتساع بعض الإقطاعات وقيام مراتب بين النبلاء وظهور دوقات وكونتات ذوي سلطة على مساحات شاسعة من الأراضي، أمور جعلت من ممارسة الوظائف آنفة الذكر بصفة شخصية عملا مستحيلا. ويصح الأمر بالأحرى بالنسبة للملوك والأباطرة.
هكذا تظهر شخصيات تجسد الانفصال بين تلك الوظائف: القهارمة والمارشالات، الوزراء والأمناء، الخ. ويبين لنا علم الاشتقاق أن هذه الشخصيات كانت بالأصل من العبيد أو أقنان السيد، أي أنها كانت خاضعة كليا للطبقة المسيطرة.
3- الإكراه العنيف والاحتواء الإيديولوجي
إذا كانت الدولة، في التحليل الأخير، تجمعا من الرجال المسلحين، وإذا كانت سلطة طبقة مسيطرة قائمة في التعيين الأخير على الإكراه العنيف، يبقى أن هذه السلطة لا تستطيع أن تقتصر حصرا على هذا الإكراه. قال نابليون بونابرت أنه يمكن عمل أي شيء بالحراب، عدا الجلوس عليها. فإن مجتمعا طبقيا لا يقوم إلاّ على العنف المسلح قد يصبح في حال من الحرب الأهلية الدائمة، أي في حال من الأزمة بالغة الحدة.
لذا لا غنى من أجل تدعيم سيطرة طبقة على أخرى، لا غنى على الإطلاق عن جعل المنتجين، أعضاء الطبقة المستغَلة، يقبلون بتملك النتاج الاجتماعي الفائض من قبل أقلية على أنه أمر حتمي ودائم وعادل. ولهذا السبب لا تقوم الدولة بوظيفة قمع فحسب، بل تقوم أيضا بوظيفة احتواء أيديولوجي. إن «منتجي الأيديولوجية» هم الذين يؤمنون هذه الوظيفة الأخيرة.
إن من خصائص البشرية أنها لا تستطيع تأمين عيشها إلاّ بواسطة عمل اجتماعي يقتضي قيام روابط، أي علاقات إنتاج، بين البشر.
هذه الروابط التي لا غنى عنها تفرض ضرورة تواصل، أي لغة، بين البشر، الأمر الذي يسمح بتطور الوعي والفكر و«إنتاج الأفكار» (أي المفاهيم). هكذا فإن جميع الأعمال الهامة في الحياة البشرية مرفقة بتفكير حولها في ذهن البشر.
غير أن هذا التفكير لا يجري بصورة عفوية تماما. ولا يخترع دوما كل فرد أفكارا جديدة. بل يفكر معظم الأفراد بواسطة أفكار تعلموها في المدرسة أو الكنيسة وأيضا، في عصرنا هذا بواسطة أفكار مستعارة من التلفزيون أوالراديو، من الإعلانات أو من الصحف. إن إنتاج الأفكار، ونظم الأفكار المسماة بالإيديولوجيات، هو إذا محدود جدا. وهو يظهر أيضا كاحتكار لأقلية صغيرة في المجتمع.
إن الإيديولوجية السائدة، في كل مجتمع طبقي، هي أيديولوجية الطبقة السائدة. والسبب الأول في ذلك هو أن منتجي الأيديولوجية مرتهنون ماديا بمالكي النتاج الاجتماعي الفائض.
في بداية العصر الوسيط، كان الأسياد والكنيسة (وهي مالك عقاري إقطاعي كبير، إلى جانب النبلاء) ينفقون على الشعراء والرسامين والفلاسفة. وعندما تبدل الوضع الاجتماعي والاقتصادي، أوصى التجار ورجال المصارف الأغنياء هم أيضا على أعمال أدبية أو فلسفية أو فنية. بيد أن الارتهان المادي لم يخف، حتى جاءت الرأسمالية وظهر معها منتجو أيديولوجية لم يعد عملهم خاضعا مباشرة للطبقة السائدة، بل عملوا لأجل «سوق مغفلة».
مهما يكن من أمر، فإن وظيفة الأيديولوجية السائدة هي بلا جدال وظيفة مثبتة للمجتمع كما هو، أي للسيطرة الطبقية. إن القانون يحمي شكل الملكية السائدة ويبرره. وتلعب العائلة الدور ذاته. أمّا الدين فيعظ المستغَلين بقبول مصيرهم. وتحاول الأفكار السياسية والأخلاقية السائدة أن تبرر حكم الطبقة السائدة بواسطة سفسطات أو حقائق نصفية (مثلا، الأطروحة التي صاغها غوته [30] أثناء الثورة الفرنسية وضدها، والقائلة أن الفوضى التي يخلقها النضال ضد الظلم هي أسوأ من الظلم ذاته. خلاصة القول: لا تغيروا النظام القائم).
4- الأيديولوجية السائدة والأيديولوجية الثورية
لكن إذا صح أن الأيديولوجية السائدة في كل عصر هي أيديولوجية الطبقة السائدة، فهذا لا يعني قط أن الأفكار الوحيدة الموجودة في مجتمع طبقي معين هي أفكار الطبقة السائدة. بصورة عامة -ومبسطة- تجول في كل مجتمع طبقي ثلاث فئات كبيرة من الأفكار، على الأقل:
الأفكار التي تعكس مصالح الطبقة السائدة في عصرها، وهي الأفكار السائدة.
أفكار طبقات سادت سابقا، وقد هزمت وأزيحت عن السلطة، لكنها لا تزال تمارس نفوذا على الناس. هذا الأمر يعود إلى قوة ثبات الوعي، الذي هو دائما متأخر بالنسبة للواقع المادي. فإن نقل الأفكار ونشرها مستقلان جزئيا عما يجري في دائرة الإنتاج المادي. ويجوز بالتالي أن يبقى لقوى اجتماعية لم تعد سائدة نفوذ على الأفكار.
أفكار طبقة جديدة ثورية صاعدة، لا تزال تحت سيادة غيرها، لكنها قد بدأت كفاحها من أجل تحررها، ويتوجب عليها أن تتخلص، ولو جزئيا، من أفكار مضطهديها قبل أن تتمكن من إطاحة الاضطهاد بالفعل.
إن مثال القرن التاسع عشر في فرنسا نموذجي جدا في هذا الصدد. فالطبقة السائدة كانت البرجوازية. وكان لديها مفكرون ورجال قانون وأيديولوجيون وفلاسفة وأخلاقيون وأدباء خاصون بها، من بداية القرن حتى نهايته. وكانت طبقة النبلاء نصف الإقطاعية قد أزيحت بوصفها طبقة سائدة من قبل الثورة الفرنسية العظمى. ولم تعد إلى السلطة بواسطة رجوع عائلة البوربون إلى العرش سنة 1815. غير أن أيديولوجيتها، لا سيما الاكليروسية، استمرت بممارسة نفوذ عميق، طوال عقود، ليس فقط على بقايا النبلاء، بل أيضا على أجزاء من البرجوازية وشرائح من البرجوازية الصغيرة (فلاحين) وحتى من الطبقة العاملة.
بيد أنه، إلى جانب الأيديولوجية البرجوازية والأيديولوجية نصف الإقطاعية، كانت البرولييتاريا قد أخذت تتطور، بدءا بأيديولوجية البابوفيين [31]، ثم البلانكيين [32] ثم المشاعيين، وصولا إلى الماركسية وعامية باريس.
5- الثورات الاجتماعية والثورات السياسية
كلما زاد استقرار مجتمع طبقي، خفت المعارضة لسيادة الطبقة السائدة وانحصر الصراع الطبقي في نزاعات محدودة لا تهدد بنية ذلك المجتمع، أي ما يسميه الماركسيون علاقات الإنتاج أو نمط الإنتاج. وفي المقابل، كلما تصدع الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لنمط إنتاج معين، تصاعدت المعارضة لسيادة الطبقة الحاكمة وتطور الصراع الطبقي إلى حد طرح مسألة إسقاط هذه السيادة، مسألة الثورة الاجتماعية.
تنفجر ثورة اجتماعية عندما لا تعود الطبقات المستغَلة والخاضعة تقبل باستغلالها على أنه حتمي ودائم وعادل، عندما لا تعود تخاف من إكراه الحكام العنيف ولا تقبل بقمعهم لها ولا بالأيديولوجية التي تبرر حكمهم، وعندما تجمع القوى المادية والمعنوية الضرورية لإسقاط الطبقة السائدة.
مثل هذه الشروط ينتج عن تحولات اقتصادية عميقة. فالتنظيم الاجتماعي ونمط الإنتاج القائمان، اللذان سمحا خلال مرحلة معينة بتطوير القوى المنتجة وثروة المجتمع المادية، يصبحان عائقا لتطورها لاحقا. فيصطدم توسع الإنتاج بتنظيمه الاجتماعي، وبعلاقات الإنتاج الاجتماعية: هو ذا المصدر الأساسي لجميع الثورات الاجتماعية في التاريخ.
إن الثورة الاجتماعية تستبدل حكم طبقة بحكم طبقة أخرى. وتفترض إزاحة الطبقة السائدة سابقا عن سلطة الدولة. فكل ثورة اجتماعية مرفقة إذا بثورة سياسية. وتتميز الثورات البرجوازية بصورة عامة بإلغاء الملكية المطلقة واستبدالها بسلطة سياسية هي في قبضة مجالس تنتخبها البرجوازية. فقد ألغت الجمعيات العامة سلطة الملك فيليب الثاني في ثورة البلدان الواطئة. وحطم البرلمان الإنكليزي ملكية شارل الأول المطلقة في ثورة 1649 الإنكليزية. وحطم الكونغرس الأمريكي سيادة الملك جورج الثالث على الولايات المتحدة الثلاث عشرة. وحطمت الجمعيات المختلفة ملكية البوربون في ثورة 1789 الفرنسية.
بيد أنه إذا صح أن كل ثورة اجتماعية هي في الوقت نفسه ثورة سياسية، فليست كل ثورة سياسية بالضرورة ثورة اجتماعية. إن ثورة سياسية فقط تقتضي الاستبدال الثوري لشكل من السيادة، لشكل من دولة طبقة، بشكل آخر من دولة الطبقة ذاتها.
هكذا فإن الثورات الفرنسية في أعوام 1830 و1848 و1870 كانت ثورات سياسية أقامت بالتتالي ملكية يوليوز والجمهورية الثانية بعد الإمبراطورية الثانية، وكلها أشكال سياسية مختلفة لحكم طبقة اجتماعية وحيدة واحدة: البرجوازية. بصورة عامة، تُغيِّر الثورات السياسية شكل دولة الطبقة الاجتماعية ذاتها، انسجاما مع مصالح مهيمنة لشرائح وأقسام شتى من هذه الطبقة تتعاقب في السلطة. غير أن نمط الإنتاج الأساسي لا تغيره أبدا هذه الثورات.
6- خصائص الدولة البرجوازية
لم تخلق البرجوازية الحديثة جهاز دولتها من العدم. بل اكتفت عموما بالاستيلاء على جهاز دولة الملكية المطلقة، ومن ثم أعادت ترتيبه لتجعل منه أداة تخدم مصالحها الطبقية.
تتميز الدولة البرجوازية بأنها، فضلا عن وظيفتها القمعية ووظيفتها الأيديولوجية (الاحتوائية)، تقوم بوظيفة لا غنى عنها لحسن سير الاقتصاد الرأسمالي: وظيفة تأمين الشروط العامة للإنتاج الرأسمالي. فالإنتاج الرأسمالي، بالفعل، إنتاج قائم على الملكية الخاصة وبالتالي على المزاحمة. وهذا الواقع بالذات يحول دون التماثل بين المصلحة الجماعية للبورجوازية بوصفها طبقة ومصلحة أي رأسمالي ولو كان الأغنى. فتحصل الدولة على استقلال معين لتتمكن من تمثيل تلك المصلحة الجماعية: إنها «الرأسمالي الجماعي المثالي» (ف. انجلس).
ولكي يستطيع الاقتصاد الرأسمالي أن يعمل بصورة طبيعية، بل مثالية، يقتضي وجود شروط قانونية وأمنية مستقرة ومتساوية بالنسبة لجميع الرأسماليين. يقتضي على الأقل سوقا قومية موحدة ونظاما نقديا قائما على عملة واحدة أو على عدد محدود نسبيا في العملات القومية. كل هذه الشروط لا يمكن أن تنجم عفويا عن الملكية الخاصة أو عن المزاحمة الرأسماليتين. إن الدولة البرجوازية هي التي تخلقها.
وعندما تكون البرجوازية مزدهرة وصاعدة اقتصاديا ومتأكدة من سيطرتها اجتماعيا وسياسيا، تميل إلى تقليص الوظائف الاقتصادية للدولة إلى الحد الأدنى الذي وصفناه توا. أمّا في شروط إضعاف الحكم البرجوازي وانحداره، فتحاول البورجوازية، على العكس، أن توسع هذه الوظائف لتؤمن لنفسها ضمانات ربح خاص.
*******
المراجع
ك. ماركس وف. إنجلس، البيان الشيوعي.
ف. انجلس، أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة.
هرمن غورتر، المادية التاريخية.
بوخارين، نظرية المادية التاريخية.
بليخانوف، المسائل الأساسية في الماركسية.
ك كاوتسكي، الأخلاق والتصور المادي للتاريخ
أ. موريه وج. دافي، من العشائر إلى الإمبراطوريات.
--------------------------------------------------------------------------------
4/ من الإنتاج البضاعي الصغير إلى نمط الإنتاج الرأسمالي
1- الإنتاج من أجل سد الحاجات والإنتاج من أجل التبادل
في المجتمع البدائي، ثم داخل المشاعة القروية التي خلقتها ثورة عصر الحجر المصقول، كان الإنتاج يهدف بالأساس إلى سد حاجات الجماعات المنتجة. ولم يكن التبادل سوى طارئ، ولا يطول غير جزء طفيف جدا من المنتوجات التي كانت في حوزة المشاعة.
ويفترض مثل هذا الشكل من الإنتاج تنظيما متعمدا للعمل. والعمل فيه هو بالتالي اجتماعي مباشرة. والقول أن تنظيم العمل متعمد لا يعني بالضرورة أنه تنظيم واع (وليس علميا بالتأكيد)، ولا تنظيم دقيق. بل يمكن أن يكون العديد من الأمور متروكا للصدفة، بالضبط لأنه ليس من دافع إلى الإثراء الخاص يتحكم بالنشاط الاقتصادي. فالأخلاق والعادات السلفية والتقاليد والطقوس والدين والسحر يمكنها جميعا أن تحدد تناوب النشاطات المنتجة ووتيرتها. بيد أن هذه النشاطات مخصصة دوما بشكل أساسي لسد الحاجات المباشرة للجماعات، وليس للتبادل أو للإثراء بوصفه هدفا بحد ذاته.
وينبثق تدريجيا من مثل هذا التنظيم للحياة الاقتصادية شكل من التنظيم الاقتصادي هو نقيضه الكلي. فبعد تقدم تقسيم العمل وظهور فائض معين، تتفتت طاقة عمل الجماعة تدريجيا إلى وحدات (عائلات كبرى، عائلات أبوية) تعمل بالاستقلال بعضها عن البعض الآخر. ويفصل بين أعضاء الجماعة الطابع الخاص للعمل والملكية الخاصة لمنتوجات العمل، بل لوسائل الإنتاج. فيمنع هذا الطابع الخاص أعضاء الجماعة من عقد علاقات اقتصادية اجتماعية متعمدة ومباشرة، فيما بينهم. ولم يعد من تشارك مباشر بين الوحدات أو الأفراد في الحياة الاقتصادية، بل أصبحت العلاقات تتم بواسطة تبادل منتجات عملهم.
إن البضاعة نتاج للعمل الاجتماعي يخصصه منتجه للتبادل وليس لاستهلاكه الخاص أو استهلاك الجماعة التي ينتمي إليها مباشرة، فهي، أي البضاعة، تفترض وضعا اجتماعيا مختلفا اختلافا عميقا عن الوضع الذي كانت فيه كتلة المنتجات مخصصة للاستهلاك المباشر من قبل الجماعات التي أنتجتها. طبعا، ثمة حالات انتقالية (مثلا، مزارع سد الحاجات المعيشية في عصرنا، التي تبيع فائضا صغيرا في السوق). لكن إذا أردنا أن ندرك جيدا الفرق الأساسي بين وضع اجتماعي يكون فيه الانتاج مخصصا بصورة رئيسية لاستهلاك المنتجين المباشر ووضع يكون فيه الإنتاج مخصصا للتبادل، فلنتذكر الجواب الساخر الذي أجاب بع الاشتراكي الألماني فردينان لاسال أحد الاقتصاديين الليبراليين في عصره: ربما أن السيد فلانا بن فلان، وهو مقاول في شؤون الجنازات، ينتج نعوشا لاستعماله الخاص أولا ولاستعمال أعضاء أسرته، ولا يبيع سوى الفائض الذي يبقى لديه…
2- الإنتاج البضاعي الصغير
ظهر إنتاج البضائع أولا قبل ما يقارب 10 ألف أو 12 ألف سنة، في الشرق الأوسط، في إطار تقسيم أساسي أولي للعمل بين حرفيين مهنيين وفلاحين، أي بنتيجة ظهور المدن. إننا نطلق على التنظيم الاقتصادي الذي يغلب فيه الإنتاج من أجل التبادل من قبل منتجين لا يزالون أسياد شروط إنتاجهم، نطلق عليه اسم: الإنتاج البضاعي الصغير.
وبالرغم من أنه كانت ثمة أشكال متعددة للإنتاج البضاعي الصغير، لا سيما في العصور القديمة وضمن نمط الإنتاج الآسيوي، لم يشهد الإنتاج البضاعي الصغير ازدهاره الرئيسي إلاّ بين القرنين الربع عشر والسادس عشر في إيطاليا الشمالية والوسطى وفي البلدان الواطئة الجنوبية والشمالية، نظرا لاضمحلال القنانة في هذه المناطق وفي تلك العصور، ولكون مالكي البضائع الذين التقوا في أسواقها أحرارا عموما ومتساوين بالحقوق إلى هذا الحد أو ذاك.
إن طابع الحرية والمساواة النسبيتين هذا الذي ميز مالكي البضائع، ضمن مجتمع قائم على الإنتاج البضاعي الصغير، هو بالضبط الذي يسمح بإدراك وظيفة التبادل بعينها: السماح باستمرارية جميع النشاطات المنتجة الرئيسية، بالرغم من تقسيم للعمل بات متقدما وبدون أن ترتهن هذه النشاطات بقرارات متعمدة من قبل الجماعات أو أسيادها.
فمحل تنظيم العمل القائم على التوزيع، المتعمد، والمدبر سلفا، لليد العاملة بين شتى فروع النشاط الرئيسية لسد حاجات المجتمع المباشرة، يحل تقسيم للعمل «فوضوي» و«حر» إلى هذا الحد أو ذاك، يبدو فيه أن الصدفة تتحكم بذاك التوزيع للطاقات الإنتاجية الحية أو الميتة (أدوات العمل). ومحل التخطيط التقليدي أو الواعي لتوزيع هذه الطاقات يحل التبادل. لكنه ينبغي عليه أن يحل بطريقة تضمن استمرارية الحياة الاقتصادية (ليس بدون العديد من «الحوادث العابرة» والأزمات وانقطاعات إعادة الإنتاج) وتضمن عموما أن تجد جميع النشاطات الرئيسية من يمارسها.
3- قانون القيمة
إن الطريقة التي تتحكم بالتبادل هي بالذات ما يضمن هذه النتيجة، في الأجل المتوسط على الأقل. فتبادل البضائع بحسب كميات العمل الضرورية لإنتاجها. وتبادل نتاجات يوم عمل مزارع بنتاجات يوم عمل حائك. وأنه لواضح أن التبادل لا يستطيع أن يقوم سوى على هذا التعادل، بالضبط عند بداية الإنتاج البضاعي الصغير، عندما لا يزال تقسيم العمل بين الفلاح والحرفي تقسيما أوليا وعندما لا تزال نشاطات حرفية عديدة تمارس في المزرعة. ولولا ذلك لترك هذا النشاط المنتج أو ذاك بسرعة، إذا كان يكافأ بأقل من النشاطات الأخرى. ولحصل نقص في هذا المجال، نقص يرفع الأسعار ويرفع بالتالي المكافأة التي يجنيها القائمون بهذا النشاط. هكذا تكون النشاطات المنتجة قد أعيد توزيعها بين مختلف قطاعات النشاط، بما يعيد قاعدة التعادل: لقاء كمية معينة من العمل المبذول، الحصول على الكمية ذاتها من القيمة في التبادل.
إننا نطلق اسم «قانون القمة» على القانون الذي يحكم تبادل البضائع ويحكم، بواسطة هذا التبادل، توزيع القوى العاملة وجميع الطاقات الإنتاجية بين شتى فروع النشاط. إنه بالفعل، إذا، قانون اقتصادي يقوم في جوهره على شكل من تنظيم العمل، على علاقات معقودة بين البشر ومتميزة عن العلاقات التي تشرف على تنظيم للاقتصاد مخطط وفقا لتقاليد منتجين متشاركين أو لإختياراتهم الواعية.
يضمن قانون القيمة الاعتراف الاجتماعي بالعمل بعد أن أصبح عملا خاصا. وبهذا المعنى، ينبغي أن يستند القانون إلى أساس من المقاييس الموضوعية، المتساوية للجميع. فلا يعقل بالتالي أن يكون إسكافي كسول، يحتاج إلى يومي عمل لإنتاج حذاءين ينتجهما إسكافي ماهر في يوم عمل، لا يعقل أن يكون قد أنتج في نهاية المطاف ضعفي القيمة التي أنتجها الإسكافي الماهر. مثل هذا التنظيم للسوق، يكافئ الكسل أو قلة المهارة، لو وجد لأدى بمجتمع قائم على تقسيم العمل والعمل الخاص إلى الارتداد السريع، بل إلى الاضمحلال.
إن تعادل أيام العمل، الذي يضمنه قانون القيمة، هو لهذا السبب تعادل عمل بإنتاجية متوسطة اجتماعيا. هذه الإنتاجية المتوسطة هي إجمالا مستقرة ومعروفة لدى الجميع في مجتمع ما قبل رأسمالي، لأن التقنية الإنتاجية تتطور فيه ببط شديد أو لا تتطور قطعا. نقول إذا إن قيمة البضائع تحددها كمية العمل الضروري اجتماعيا لإنتاجها.
4- ظهور الرأسمال
في الإنتاج البضاعي الصغير، يصل المزارع الصغير والحرفي الصغير إلى السوق ومعهما منتجات عملهما. فيبيعانها ليشتريا منتجات يحتاجان إليها لإستهلاكهما الجاري ولا ينتجانها بنفسيهما ويمكن تلخيص نشاطهما في السوق بصيغة: البيع من أجل الشراء.
بيد أنه سريعا ما يقتضي الإنتاج البضاعي الصغير ظهور وسيلة تبادل مقبولة لدى العموم (يطلق عليها أيضا اسم «المعادل العام») لتسهيل التبادل. إن وسيلة التبادل هذه، التي يمكن مبادلة جميع البضائع بها دون فرق، هي النقد. ومع ظهور النقد، يصبح بالإمكان أن تظهر بنتيجة تقدم جديد في التقسيم الاجتماعي للعمل شخصية اجتماعية أخرى، طبقة اجتماعية أخرى: صاحب المال، المستقل عن مالك البضائع بذاتها والمقابل له. إنه المرابي أو التاجر المتخصص في التجارة الدولية.
ويقوم صاحب المال هذا بنشاط في السوق مختلف جدا عن نشاط الفلاح الصغير أو الحرفي. فبما أنه يصل إلى السوق ومعه مبلغ معين من المال، لم يعد شغله أن يبيع لكي يشتري، بل على العكس أن يشتري لكي يبيع. إن الفلاح أو الحرفي الصغيرين يبيعان لكي يشتريا بضاعة مختلفة عمّا ينتجانه بنفسيهما، غير أن الهدف من العملية يبقى سد حاجات مباشرة إلى هذا الحد أو ذاك. وبالعكس، فإن صاحب المال لا يستطيع أن «يشتري لكي يبيع» من أجل سد حاجاته فقط. إن «الشراء من أجل البيع» لا معنى له في نظر صاحب المصرف أو التاجر إلاّ إذا باع لقاء مبلغ يفوق المبلغ الذي جاء به إلى السوق. إن ازدياد قيمة المال عن طريق الحصول على فائض قيمة، أي الإثراء بوصفه هدفا بذاته، هو معنى نشاط المرابي أو التاجر.
إن الرأسمال -إذ أنه هو المعني، بشكله الأولي والبدائي، شكل الرأسمال النقدي- هو إذا كل قيمة تحاول أن تحصل على فائض قيمة، كل قيمة تنطلق بحثا عن فائض قيمة. هذا التعريف الماركسي للرأسمال يتعارض مع التعريف الشائع في الموجزات البرجوازية والقائل أن الرأسمال هو ببساطة كل أداة عمل، أو حتى، بمزيد من الإبهام، «كل سلعة دائمة». بمثل هذا التعريف، فإن أول قرد ضرب شجرة موز بعصا للحصول على موز هو أول رأسمالي…
فلنؤكد مرة أخرى على الفكرة: إن مقولة «الرأسمال»، شأنها شأن جميع «المقولات الاقتصادية»، لا يمكن فهمها إلاّ بالنظر إلى كونها قائمة على علاقة اجتماعية بين البشر، أي علاقة تتيح لصاحب رأسمال أن يتملك فائض قيمة.
5- من الرأسمال إلى الرأسمالية
لا يتطابق وجود الرأسمال مع وجود نمط الإنتاج الرأسمالي. بالعكس، فإن رساميل قد وجدت وجرى تداولها طوال آلاف السنين، قبل ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي في أوروبا الغربية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر.
وقد ظهر المرابي والتاجر أولا داخل مجتمعات ما قبل رأسمالية، عبودية، إقطاعية أو قائمة على نمط الإنتاج الاسيوي. إنهما يعملان في هذه المجتمعات خارج دائرة الإنتاج بصورة رئيسية. ويؤمنان دخول المال إلى مجتمع طبيعي (هذا المال يأتي من الخارج عموما)، ويدخلان منتجات كمالية أتت من بعيد، ويوفران حدا أدنى من التسليف للطبقات المالكة التي لا تحوز على ثروات منقولة وللملوك والأباطرة أيضا.
مثل هذا الرأسمال ضعيف سياسيا، وليس بمنأى عن الابتزاز والسلب والمصادرة. وهو ذا أصلا مصيره الاعتيادي. لذا يحمي صاحب المال ثروته بغيرة، حتى أنه يخفي جزءا منها ويحرص على ألاّ يوظفها بكاملها خوفا من أن تجري مصادرتها. فقد طالت المصادرات بعض أثرى تجمعات أصحاب الرساميل في العصر الوسيط، أمثال فرسان المعبد [33] في القرن الرابع عشر في فرنسا. وقد خسر رجال المصارف الإيطاليون ثرواتهم بعد أن مولوا حروب ملوك إنكلترا، لأن هؤلاء الملوك لم يسددوا ديونهم.
إن الرأسمال لا يستطيع أن يتراكم -أن ينمو- بصورة متواصلة إلى هذا الحد أو ذاك، إلاّ عندما يكون ميزان القوى السياسي قد تغير إلى حد أصبحت عنده المصادرات أصعب فأصعب. منذ ذلك الحين، يصبح دخول الرأسمال في دائرة الإنتاج ممكنا، وتصبح معه ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي، ولادة الرأسمالية الحديثة، ممكنة.
لم يعد الآن صاحب الرساميل مجرد مراب أو مصرفي أو تاجر. إنه مالك وسائل إنتاج، ومستأجر سواعد ومنظم للإنتاج وصاحب معمل أو مصنع. ولم يعد فائض القيمة مستخرجا من دائرة التوزيع. بل هو منتج بصورة مستمرة خلال سيرورة الإنتاج ذاتها.
6- ما هو فائض القيمة؟
في المجتمع ما قبل الرأسمالي عندما يعمل أصحاب الرساميل في دائرة التداول بصورة رئيسية، لا يستطيعون أن يتملكوا فائض قيمة إلاّ باستغلال مداخيل طبقات أخرى في المجتمع بشكل طفيلي. ويمكن أن يكون أصل فائض القيمة الطفيلي هذا أمّا جزءا من الفائض الزراعي (من الريع الإقطاعي مثلا) امتلكه أولا النبلاء أو الاكليروس، وأمّا جزءا من مداخيل الحرفيين والفلاحين الضامرة. إن فائض القيمة هذا هو في جوهره نتاج الخداع والسلب. وقد لعبت القرصنة والنهب وتجارة الرقيق دورا رئيسيا في تكون أولى ثروات تجار إيطاليين وفرنسيين وفلمنديين وألمان وإنكليز، في العصر الوسيط. ولعبت لاحقا ممارسة شراء البضائع في أسواق بعيدة بأقل من قيمتها، ثم إعادة بيعها بأكثر من قيمتها في أسواق منطقة البحر المتوسط أو أوروبا الغربية والوسطى، لعبت دورا مماثلا.
إنه لمن الواضح أن فائض قيمة كهذا لا ينجم سوى عن نشاطات تحويل. ولا يزداد بها مجمل ثروة المجتمع بأسره. بل يخسر بعضهم ما يربحه بعضهم الآخر. وبالفعل فإن الثروة المنقولة الإجمالية للبشرية لم تزد طوال آلاف السنين إلاّ ازديادا بسيطا، إلاّ أن الأمر قد تبدل منذ ولادة نمط الإنتاج الرأسمالي. ذلك أن فائض القيمة لم يعد، منذ ذلك الحين، مسحوبا ببساطة من سيرورة تداول البضائع. بل هو الآن منتج بصورة مستمرة، وبالتالي يزداد توسعا بصورة مستمرة، خلال الإنتاج بالذات.
لقد رأينا أن المنتجين (عبيدا، وأقنانا، وفلاحين) في جميع المجتمعات الطبقية ما قبل الرأسمالية كانوا مضطرين لتقسيم أسبوع عملهم أو إنتاجهم السنوي إلى قسم كان بوسعهم استهلاكه بأنفسهم (النتاج الضروري)، وقسم كانت الطبقة السائدة تتملكه (النتاج الاجتماعي الفائض). فإن الظاهرة ذاتها تحصل في المصنع الرأسمالي، بالرغم من أنها مموهة بمظهر العلاقات التجارية التي تبدو كأنها تحكم «الشراء الحر والبيع الحر» لقوة العمل بين الرأسمالي والعامل.
عندما يبدأ العامل العمل في المصنع، في بداية يوم عمله (أو أسبوع عمله)، فإنه يضيف قيمة إلى المواد الأولية التي يعمل بها. وبعد عدد من ساعات (أو أيام) العمل، يكون قد أعاد إنتاج قيمة تعادل بالضبط أجره اليومي (أو الأسبوعي). ولو توقف عن العمل في تلك اللحظة بالذات، يكون الرأسمالي لم يحصل على فلس من فائض القيمة. غير أن الرأسمالي لن تكون لديه في هذه الشروط أية مصلحة في شراء قوة العمل. فهو كالمرابي أو التاجر في العصر الوسيط، «يشتري لكي يبيع». إنه يشتري قوة العمل ليحصل منها على نتاج أعلى مما أنفقه ليشتريها هذه «الزودة»، هذه «الإضافة»، هي بالضبط فائض قيمته، أي ربحه. وأنه لمفهوم بالتالي أن العامل، إذا كان ينتج معادل أجره خلال أربع ساعات عمل، سوف يعمل ليس أربع ساعات بل ستا أو سبعا أو ثماني أو تسعا. فهو، خلال الساعتين أو الثلاث أو الأربع أو الخمس «الإضافية»، ينتج فائض قيمة لصالح الرأسمالي ولا يلقى شيئا مقابله.
إن مصدر فائض القيمة هو إذا عمل إضافي، عمل مجاني، يتملكه الرأسمالي. وسوف يصرخ بعضهم: «بل هذه سرقة!». والجواب ينبغي أن يكون «نعم وكلا». نعم من وجهة نظر العامل، وكلا من وجهة نظر الرأسمالي و«قوانين السوق».
وبالفعل فإن الرأسمالي لم يشتر في السوق «القيمة المنتجة أو التي سوف ينتجها العامل». لم يشتر «عمل» العامل، أي العمل الذي سوف يقوم به العامل (لو فعل ذلك لأرتكب فعلا سرقة بكل معنى الكلمة ودفع ألف فرنك لقاء ما قيمته ألفا فرنك). لكنه اشترى قوة عمل العامل. ولقوة العمل هذه قيمة خاصة، كما أن لكل بضاعة قيمتها. فإن قيمة قوة العمل تحددها كمية العمل الضرورية لإعادة إنتاجها، أي لإعالة العامل وأسرته. ويجد فائض القيمة مصدره في ظهور فارق بين القيمة التي ينتجها العامل وقيمة البضائع الضرورية لتأمين عيشه (بالمعنى العريض للكلمة). هذا الفارق يعود لازدياد إنتاجية عمل العامل. ويستطيع الرأسمالي أن يتملك فوائد ازدياد إنتاجية العمل، لأن قوة العمل أصبحت بضاعة ولأن العامل قد وضع في شروط لم تعد تخوله إنتاج عيشه الخاص.
7- شروط ظهور الرأسمالية الحديثة
إن الرأسمالية الحديثة نتاج ثلاثة تحولات اقتصادية واجتماعية:
أ- فصل المنتجين عن وسائلهم للإنتاج والعيش. وقد جرى هذا الفصل، لا سيما في الزراعة، بطرد الفلاحين الصغار من أراضي الأسياد التي تم تحويلها إلى مروج، وفي الصناعة الحرفية، بتحطيم جمعيات الحرف القروسطية، وبتطور الصناعة المنزلية وبالتملك الخاص للأراضي العذراء، الخ.
ب- تكون طبقة اجتماعية تحتكر وسائل الإنتاج: هي البرجوازية الحديثة. وظهور هذه الطبقة يفترض أولا تراكمها للرساميل بشكل نقدي، ثم تحولا في وسائل الإنتاج يجعلها ثمينة إلى حد أن أصحاب الرساميل النقدية الهامة وحدهم يستطيعون الحصول عليها. وقد حققت ثورة القرن الثامن عشر الصناعية، التي جعلت الآلات أساس الإنتاج، حققت هذا التحول بصورة نهائية.
ج- تحول قوة العمل إلى بضاعة. هذا التحول ينتج عن ظهور طبقة لا تملك شيئا سوى قوة عملها وهي مضطرة، من أجل العيش، أن تبيع قوة العمل هذه لمالكي وسائل الإنتاج.
«أناس فقراء وكادحون يتحمل العديد منهم عبء نساء والعديد من الأولاد ولا يملكون شيئا سوى ما يمكنهم كسبه بعمل أيديهم»: هو ذا وصف بارع للبروليتاريا الحديثة، ورد في التماس كتب في مدينة لايد (في البلدان الواطئة) في نهاية القرن السادس عشر.
ولما كان هذا الجمهور من البروليتاريين لا يملك حرية الاختيار -سوى الاختيار بين بيع قوة عمله والجوع الدائم- فهو مضطر لأن يقبل كثمن لقوة عمله الثمن الذي تفرضه الشروط الرأسمالية العادية في «سوق العمل»، أي الحد الأدنى المعيشي المقر اجتماعيا. إن البروليتاريا هي طبقة الذين يضطرهم هذا الاكراه الاقتصادي إلى بيع قوة عملهم بصورة متواصلة إلى هذا الحد أو ذاك.
*****
المراجع
ك. ماركس، الأجور والأسعار والأرباح.
ر. لوكسمبورغ، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
أ. ماندل، مدخل إلى النظرية الاقتصادية الماركسية.
أ. ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية.
ب. سلامة وج. فالييه، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
--------------------------------------------------------------------------------
5/ الاقتصاد الرأسمالي
1- خصائص الاقتصاد الرأسمالي
يعمل الاقتصاد الرأسمالي وفقا لجملة من المميزات الخاصة به والتي نذكر من بينها:
أ- ان الإنتاج هو في جوهره إنتاج بضائع، أي إنتاج معد للبيع في السوق. فبدون البيع الفعلي للبضائع المنتجة، لا تستطيع المنشآت الرأسمالية والطبقة البرجوازية بمجملها أن تحقق فائض القيمة الذي أنتجه الشغيلة والذي تحتوي عليه قيمة البضائع المصنوعة.
ب- يجري الإنتاج ضمن شروط الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. هذه الملكية الخاصة ليست بمقولة حقوقية في المقام الأول، بل هي مقولة اقتصادية. إنها تعني أن سلطة التصرف بالقوى المنتجة (وسائل الإنتاج والقوى العاملة) ليست في حوزة المجتمع، بل هي مفتتة بين المنشآت منفصلة بعضها عن البعض الآخر تسيطر عليها تجمعات رأسمالية متميزة (مالكون فرديون، عائلات، شركات مغفلة أو تجمعات مالية). إن قرارات التوظيف التي تؤثر إلى حد بعيد على الظرف الاقتصادي تتخذ هي أيضا بشكل مفتت، على أساس المصلحة الخاصة والمستقلة لكل وحدة رأسمالية أو تجمع رأسمالي.
ج- يتم الإنتاج لأجل سوق مغفلة وتحكمه ضرورات المزاحمة. وبما أن الإنتاج لم تعد تحد منه التقاليد (كما في المشاعات البدائية) أو التشريعات (كما في جمعيات الحرف في العصر الوسيط)، فإن كل رأسمال خاص (كل مالك، كل منشأة أو كل تجمع رأسمالي) يسعى جهده لبلوغ أعلى رقم للمبيعات ولاحتكار القسم الأكبر من السوق دون المبالاة بالقرارات المماثلة التي تتخذها منشآت أخرى تعمل في المجال ذاته.
د- إن هدف الإنتاج الرأسمالي هو تحقيق الحد الأقصى من الربح. وبينما كانت الطبقات المالكة ما قبل الرأسمالية تعتاش من النتاج الاجتماعي الفائض وتستهلكه إجمالا بصورة غير منتجة، يتحتم على الطبقة الرأسمالية هي أيضا أن تستهلك جزءا من النتاج الاجتماعي الفائض، أي من الأرباح التي حققتها، بصورة غير منتجة. غير أنه ينبغي عليها، لكي تحقق هذه الأرباح، أن تتمكن من بيع بضائعها، الأمر الذي يقتضي أن تستطيع بيعها في السوق بسعر أدنى من أسعار المنافسين. وينبغي في سبيل ذلك أن تقدر على خفض تكاليف الإنتاج. أمّا الوسيلة الأنجع لخفض تكاليف الإنتاج (سعر التكلفة) فهي توسيع قاعدة الانتاج، أي زيادة الإنتاج، بواسطة آلات أكثر فأكثر اتقانا. غير أن هذا يتطلب رساميل أعظم فأعظم. إن سوط المزاحمة هو إذا الذي يجبر الرأسمالية على السعي وراء الحد الأقصى من الربح لتتمكن من تطوير التوظيفات المنتجة إلى أقصى حد.
هـ- هكذا يتبين أن الإنتاج الرأسمالي ليس إنتاجا في سبيل الربح فحسب، بل إنتاج من أجل تراكم الرأسمال. فإن منطق الرأسمالية يقتضي بالفعل أن يراكم القسم الأعظم من فائض القيمة بصورة منتجة (أي أن يتم تحويله إلى رأسمال إضافي بشكل آلات ومواد أولية إضافية، ويد عاملة إضافية)، لا أن يستهلك بصورة غير منتجة (الاستهلاك الخاص للبرجوازية وخدمها).
ويؤدي الإنتاج من أجل تراكم الرأسمال إلى نتائج متناقضة. فمن جهة، يستتبع تطور الآلات المستمر ازدهارا للقوى المنتجة ولإنتاجية العمل يخلق الأسس المادية لتحرر الإنسانية من اضطرارها مكرهة إلى «العمل بعرق جبينها». هي ذي الوظيفة التقدمية تاريخيا للرأسمالية. لكن تطور الآلات، الذي يفرضه البحث عن الحد الأقصى من الربح وعن تراكم الرساميل المتزايد بدون انقطاع، هذا التطور يستتبع، من جهة أخرى، إخضاع العامل للآلة بصورة أكثر فأكثر قساوة وإخضاع الجماهير الكادحة لـ«قوانين السوق» التي تفقدها دوريا التخصص والعمل. إن الازدهار الرأسمالي للقوى المنتجة هو في الوقت نفسه تطور متزايد الحدة لاستلاب الشغيلة (وبصورة غير مباشرة، استلاب جميع أفراد المجتمع البرجوازي) على صعيد أدوات عملهم ومنتجات عملهم وشروط عملهم وشروط عيشهم عامة (بما فيها شروط استهلاكهم واستعمالهم لـ«وقت الفراغ») وعلاقاتهم الإنسانية حقا بمواطنيهم.
2- سير الاقتصاد الرأسمالي
من أجل الحصول على الحد الأقصى من الربح وتطوير تراكم الرأسمال إلى أبعد حد ممكن، يتوجب على الرأسماليين أن يقلصوا إلى أقصى حد ذاك القسم من القيمة الجديدة، التي أنتجتها قوة العمل والذي يعود إليها بشكلِ أُجور. فإن هذه القيمة الجديدة، هذا «الدخل المخلوق»، تتحدد بالفعل في سيرورة الإنتاج ذاتها، باستقلال عن أية مشكلة توزيع. وهي تقاس بمجموع ساعات العمل التي بذلها مجمل المنتجين المأجورين. فبقدر ما تكبر حصة الأجور الفعلية التي يدفعها ذاك المجموع، تصغر حتميا حصة فائض القيمة. وكلما سعى الرأسماليون لزيادة الحصة العائدة لفائض القيمة، كلما اضطروا إلى تقليص الحصة المخصصة للأجور.
إن الوسيلتين الرئيسيتين اللتين يجهد الرأسماليون بواسطتهما لزيادة حصتهم، أي لزيادة فائض القيمة هما:
أ- إطالة يوم العمل (من القرن السادس عشر إلى منتصف التاسع عشر في الغرب، وحتى أيامنا في العديد من البلدان شبه المستعمرة) وتقليص الأجور الفعلية وتخفيض «الحد الأدنى» المعيشي. هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض القيمة المطلق.
ب- زيادة كثافة العمل وإنتاجيته في دائرة السلع الاستهلاكية (وقد سادت هذه الوسيلة في الغرب منذ النصف الثاني للقرن التاسع عشر). وبالفعل، فإذا سمحت زيادة إنتاجية العمل في صناعات السلع الاستهلاكية وفي الزراعة، إذا سمحت للعامل الصناعي المتوسط بأن يعيد إنتاج قيمة تشكيلة محددة من تلك السلع الاستهلاكية بثلاث ساعات عمل بدل الاضطرار إلى العمل خمس ساعات لإنتاجها، يصبح بامكان فائض القيمة الذي يقدمه العامل لرب عمله الانتقال من نتاج ثلاث ساعات إلى نتاج خمس ساعات عمل مع بقاء يوم العمل محددا بثماني ساعات. هذا ما يسميه ماركس زيادة فائض القيمة النسبي.
كل رأسمالي يسعى للحصول على الحد الأقصى من الربح. ويسعى أيضا من أجل ذلك لزيادة الإنتاج إلى أقصى حد، ولأن ينخفض باستمرار سعر الكلفة وسعر المبيع (اللذين يحددان بوحدات نقدية ثابتة). وبنتيجة ذلك، تجري المزاحمة في الأمد المتوسط اختيارا بين المنشآت الرأسمالية، فتبقى الأكثر إنتاجية والأكثر «إيرادية» دون سواها. أمّا المنشآت التي تبيع بأسعار عالية فهي لا تحقق «الحد الأقصى من الربح»، بل ينتهي بها الأمر إلى زوال ربحها كليا. إنها تفلس أو يستوعبها المنافسون.
إن المزاحمة بين الرأسماليين تؤدي إلى تساوي معدل الربح. فينتهي الأمر بمعظم المنشآت إلى اضطرارها إلى الاكتفاء بربح متوسط تحدده في التحليل الأخير الكتلة الإجمالية للرأسمال الاجتماعي الموظف والكتلة الإجمالية لفائض القيمة الذي ينتجه مجمل المأجورين المنتجين. وحدها المنشآت التي تنعم بتقدم هام في الإنتاجية أو بهذا الوضع الاحتكاري أو ذاك، تحصل على أرباح فائضة، أي على أرباح تفوق ذلك المتوسط. غير أن المزاحمة الرأسمالية لا تسمح إجمالا للأرباح الفائضة أو للاحتكارات بأن تستمر لوقت غير محدود.
إن الفروقات بالنسبة لذلك الربح المتوسط هي التي تتحكم إلى حد بعيد بالتوظيفات في نمط الإنتاج الرأسمالي. فتترك الرساميل القطاعات حيث الربح أدنى من المتوسط وتتدفق نحو قطاعات حيث الربح أعلى من المتوسط (كانت، مثلا، الرساميل تتدفق نحو صناعة السيارات في الستينات، ثم تركتها لتتدفق نحو قطاع الطاقة في سبعينات قرننا). لكن هذه الرساميل، بتدفقها نحو القطاعات حيث معدل الربح أعلى من المتوسط، تخلق في هذه القطاعات مزاحمة حادة وفيض إنتاج وانخفاضا لأسعار المبيع وللأرباح حتى يستقر معدل الربح في المستوى ذاته إلى هذا الحد أو ذاك في جميع القطاعات.
3- تطور الأجور
إحدى ميزات الرأسمالية هي أنها تحول قوة العمل البشرية إلى بضاعة. وتحدد قيمة البضاعة -قوة العمل بتكاليف إعادة إنتاجها (أي قيمة جميع البضائع الضروري استهلاكها لإعادة تكوين قوة العمل). إن الأمر يتعلق هنا إذا بكم موضوعي، مستقل عن التقديرات الذاتية أو العرضية لتجمعات أفراد، أكانوا عمالا أو أرباب عمل.
بيد أن لقيمة قوة العمل ميزة خاصة بالمقارنة مع قيمة أية بضاعة أخرى: إنها تتضمن، علاوة على عنصر قابل للقياس بدقة، عنصرا متغيرا. إن العنصر الثابت هو قيمة البضائع التي تقتضيها إعادة تكوين قوة العمل من وجهة النظر الفيزيولوجية (أي البضائع التي تسمح للعامل باستعادة حريرات وفيتامينات، والقدرة على بذل طاقة عضلية وعصبية محددة يعجز بدونها عن العمل بالوثيرة «العادية» التي يفرضها التنظيم الرأسمالي للعمل في برهة معينة). أمّا العنصر المتغير فهو قيمة البضائع التي تدخل في «الحد الأدنى المعيشي العادي» في زمن وبلد محددين، والتي ليست جزءا من الحد الأدنى المعيشي الفيزيولوجي. ويسمي ماركس هذه الحصة الأخيرة من قيمة قوة العمل بالجزء «التاريخي-الأخلاقي». هذا يعني أنه ليس أيضا بجزء عرضي، بل هو نتاج تطور تاريخي وحالة معينة في ميزان القوى بين الرأسمال والعمل. وعند هذه النقطة بالذات من التحليل الاقتصادي الماركسي، يصبح الصراع الطبقي بماضيه وحاضره عاملا مساهما في تحديد الاقتصاد الرأسمالي.
الأجر هو سعر السوق لقوة العمل. وكجميع أسعار السوق، يتذبذب حول قيمة البضاعة المعنية. إن تموجات الجيش الاحتياطي الصناعي، أي جيش البطالة تساهم بصورة خاصة في تحديد تذبذبات الأجر، وذلك بثلاثة معان:
أ- عندما يعاني بلد رأسمالي من بطالة دائمة بالغة الأهمية (عندما يكون بالتالي متخلفا صناعيا)، تتعرض الأجور لأن تكون دائما إمّا دون قيمة قوة العمل أو في مستواها. هذه القيمة تكاد تقترب من الحد الأدنى المعيشي الفيزيولوجي.
ب- عندما تتقلص البطالة الجماهيرية الدائمة في الأمد الطويل، لا سيما بنتيجة التصنيع في العمق والهجرة الجماهيرية، تستطيع الأجور أن ترتقي فوق قيمة قوة العمل في مراحل الظرف الاقتصادي الملائم. ويستطيع النضال العمالي أن يؤدي في الأمد الطويل إلى دمج قيمة بضائع جديدة في قيمة قوة العمل. ويمكن للحد الأدنى المعيشي المعترف به اجتماعيا أن يزداد ازديادا فعليا، أي أن يتضمن حاجات جديدة.
ج- ليست تموجات جيش الاحتياط الصناعي مرهونة بحركات السكان (معدل الولادات والوفيات) وحركات الهجرة الدولية للبروليتاريا فحسب، بل هي مرهونة أيضا وخاصة بمنطق تراكم الرأسمال عينه. ففي الصراع من أجل البقاء في وجه المزاحمة، ينبغي على الرأسماليين أن يستبدلوا اليد العاملة بآلات («عمل ميت»). ويقذف هذا الاستبدال بصورة دائمة أفواجا من اليد العاملة خارج الإنتاج. وتلعب الأزمات الدور نفسه. وفي المقابل، في مراحل الظرف الاقتصادي الملائم و«سخونة» الاقتصاد، عندما يتقدم تراكم الرأسمال بوثيرة حادة، يتقلص جيش الاحتياط الصناعي.
ليس إذا من قانون صارم يتحكم بتطور الأجور. فإن الصراع الطبقي بين الرأسمال والعمل يحدد جزئيا هذا التطور، حيث يجهد الرأسمال لتخفيض الأجور إلى الحد الأدنى المعيشي الفيزيولوجي ويجهد العمال لتوسيع العنصر التاريخي والمعنوي في تركيب الأجر وذلك بدمج المزيد من الحاجات الجديدة المطلوب تلبيتها في هذا الأجر. إن درجة الانسجام والتنظيم والتضامن والكفاحية والوعي الطبقي في صفوف البروليتاريا هي إذا عوامل تساهم في تحديد تطور الأجور. غير أنه في الأمد الطويل يمكن أن نلاحظ بصورة غير قابلة للجدل ميلا إلى الافقار النسبي للطبقة العاملة. فإن حصة القيمة الجديدة التي تخلقها البروليتاريا والتي تعود إلى الشغيلة، تميل إلى الانخفاض (الأمر الذي يمكن بالأصل أن يرافقه ارتفاع في الأجور الواقعية). إن الفارق بين الحاجات الجديدة التي أثارها تطور القوى المنتجة وازدهار الإنتاج الرأسمالي بالذات، من جهة، والقدرة على تلبية الحاجات بواسطة الأجور المقبوضة من جهة أخرى، يميل إلى التوسع.
إن الفارق المتعاظم بين ازدياد إنتاجية العمل في الأمد الطويل وازدياد الأجور الواقعية لهو مؤشر واضح للإفقار النسبي. فمنذ بداية القرن العشرين حتى بداية السبعينات، ازدادت إنتاجية العمل بحوالي خمسة أو ستة أضعاف في الصناعة والزراعة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا الغربية والوسطى. لكن أجور العمال الواقعية لم تزدد سوى بضعفين أو ثلاثة أضعاف خلال الحقبة ذاتها.
4- قوانين تطور الرأسمالية
إن نمط الإنتاج الرأسمالي، من حيث ميزات سيره بذاتها، يتطور وفقا لقوانين تطور معينة تخص بالتالي طبيعته الخاصة:
أ- تركز الرأسمال وتمركزه
في المزاحمة، تبتلع الأسماك الكبيرة الأسماك الصغيرة. فتتغلب المنشآت الكبيرة على المنشآت الأصغر حجما التي تحوز على إمكانيات أقل ولا تستطيع أن تستفيد من إيجابيات الإنتاج واسع النطاق ولا أن تدخل التقنية الأكثر تقدما وكلفة. فيزداد بالتالي حجم المنشآت الطليعية باستمرار (تركز الرأسمال). قبل قرن، كانت المنشآت التي يعمل فيها 500 أجير استثناء. أمّا اليوم، فثمة منشآت يعمل فيها أكثر من 100 ألف أجير. وفي الوقت نفسه، يتم ابتلاع العديد من المنشآت المغلوبة في المزاحمة من قبل منافسيها الظافرين (تمركز الرأسمال).
ب- تبلتر السكان العاملين التدريجي
يقتضي تمركز الرأسمال بأن يتقلص باستمرار عدد أرباب العمل الصغار العاملين لحسابهم الخاص. ولا ينفك قسم السكان العاملين المضطر إلى بيع قوة عمله للعيش يزداد. هي ذي الأرقام المتعلقة بهذا التطور في الولايات المتحدة، وهي تؤكد الميل بصورة ساطعة:
تطور البنية الطبقية في الولايات المتحدة
(بالنسبة المئوية من السكان العاملين)
المقاولون والمستقلون الأجراء السنة
36.9% 62% 1880
33.8% 65% 1890
30.8% 67.9% 1900
26.3% 71.9% 1910
23.5% 73.9% 1920
20.3% 76.8% 1930
18.8% 78.2% 1939
17.1% 79.8% 1950
14.0% 84.2% 1960
8.9% 89.9% 1970
وخلافا لأسطورة شائعة، فإن هذا الجمهور البروليتاري، بالرغم من انقسامه إلى شرائح عديدة، تزداد درجة انسجامه ازديادا هاما بدل أن تتراجع. إن الفرق بين عامل يدوي ومستخدم في مصرف وموظف حكومي صغير هو أقل اليوم مما كان قبل نصف قرن أو قرن، سواء من حيث مستوى المعيشة أو من حيث النزوع إلى الانضمام إلى نقابة وإلى الإضراب أو من حيث احتمال بلوغ الوعي المعادي للرأسمالية.
إن تبلتر السكان التدريجي في النظام الرأسمالي ينجم بالأخص عن إعادة الإنتاج التلقائية لعلاقات الإنتاج الرأسمالية من جراء التوزيع البرجوازي للمداخيل، وهي إعادة إنتاج سبق أن ذكرناها أعلاه. فالأجور، منخفضة كانت أو مرتفعة، لا تستخدم إلاّ لتلبية حاجات البروليتاريين الاستهلاكية (سواء مباشرة أو مؤجلة). ويعجز البروليتاريون عن مراكمة ثروات. من جهة أخرى، يستتبع تركز الرأسمال تكاليف إنشاء أكثر فأكثر ارتفاعا تقطع الطريق إلى ملكية المنشآت الصناعية والتجارية الكبيرة ليس أمام مجموع الطبقة العاملة وحسب، بل أيضا أمام الغالبية العظمى من البرجوازية الصغيرة.
ج- ازدياد التركيب العضوي للرأسمال
يمكن تقسيم رأسمال كل رأسمالي، وبالتالي رأسمال جميع الرأسماليين، إلى قسمين. يكرس الأول لشراء آلات وأبنية ومواد أولية. وتبقى قيمته ثابتة خلال الإنتاج، حيث تحافظ عليها قوة العمل وتنقل جزءا منها إلى المنتجات التي تصنعها. يطلق ماركس على هذا القسم اسم الرأسمال الثابت. ويكرس القسم الثاني لشراء قوة العمل، أي لدفع الأجور. ويطلق ماركس عليه اسم الرأسمال المتغير. هذا القسم وحده ينتج فائض القيمة.
إن نسبة الرأسمال الثابت إلى الرأسمال المتغير هي في آن واحد نسبة تقنية -لاستعمال هذه الآلات أو تلك بصورة مربحة، يجب إعطاؤها هذه الكمية من المواد الأولية ويجب تخصيص هذا العدد من العمال والعاملات للعمل عليها- ونسبة بالقيمة: هذا القدر من الأجور منفق لشراء هذا العدد من العمال لتشغيل هذا العدد من الآلات التي كلفت هذا المبلغ، لتحويل مواد أولية بهذا السعر. يشير ماركس إلى هذه النسبة المزدوجة بين الرأسمال الثابت والرأسمال المتغير بعبارة التركيب العضوي للرأسمال.
ومع تطور الرأسمالية الصناعية، تميل هذه النسبة إلى الازدياد. فإن كتلة متزايدة من المواد الأولية وعددا متزايدا (وأكثر فأكثر تعقيدا) من الآلات سوف يحركها عامل واحد (أو 10 أو 100 أو 1000). وسوف تقابل كتلة واحدة من الأجور قيمة تميل إلى الارتفاع أكثر فأكثر منفقة لشراء مواد أولية وآلات وطاقة وأبنية.
د- ميل المعدل الوسطي للربح إلى الانخفاض
هذا القانون يتبع بصورة منطقية القانون السابق. فإذا ازداد التركيب العضوي للرأسمال، نزع الربح إلى الانخفاض بالنسبة إلى الرأسمال الإجمالي بما أن الرأسمال المتغير وحده ينتج فائض القيمة، أي الربح.
إننا بصدد قانون ميلي وليس بصدد قانون يفرض نفسه بصورة «مستقيمة» مثل قانون تركز الرأسمال أو قانون تبلتر السكان العاملين. وبالفعل، فإن عوامل شتى تعاكس هذا الميل. أهم هذه العوامل هو ازدياد معدل استغلال الأجراء، ازدياد معدل فائض القيمة (نسبة الكتلة الإجمالية لفائض القيمة إلى الكتلة الإجمالية للأجور). بيد أنه لا بد من أن نلاحظ أن ازدياد معدل فائض القيمة لا يستطيع أن يبطل الانخفاض الميلي للمعدل الوسطي للربح بصورة ثابتة. فثمة حد لا يستطيع الأجر الواقعي ولا حتى الأجر النسبي أن يسقطا تحته بدون تهديد إنتاجية العمل الاجتماعية ومردود اليد العاملة، في حين ليس من حد لازدياد التركيب العضوي للرأسمال (فهو يستطيع أن يرتفع بلا حدود في المنشآت المؤلّلة automatisées)
هـ- التحول الموضوعي للإنتاج إلى إنتاج اجتماعي
في بداية الإنتاج البضاعي، كانت كل منشأة خلية مستقلة عن الأخرى لا تقيم سوى علاقات عابرة مع مموّنين وزبائن. وكلما تطور النظام الرأسمالي، انعقدت روابط من الارتهان المتبادل الدائم، التقني والاجتماعي، بين منشآت وفروع من عدد متزايد من البلدان والقارات. فتنعكس أزمة في قطاع ما على جميع القطاعات الأخرى. هكذا تولد، للمرة الأولى منذ نشأة الجنس البشري، بنية تحتية اقتصادية مشتركة بين جميع البشر هي أساس تضامنهم في عالم الغد الشيوعي.
5- التناقضات الملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي
يمكن استخلاص جملة من التناقضات الأساسية في نمط الإنتاج الرأسمالي على أساس قوانين تطوره تلك:
أ- التناقض بين تنظيم الإنتاج داخل كل منشأة رأسمالية، وهو تنظيم متعمد وواع أكثر فأكثر، والفوضى المتفاقمة أكثر فأكثر في مجمل الإنتاج الرأسمالي والناتجة عن بقاء الملكية الخاصة والإنتاج البضاعي المعمم.
ب- التناقض بين التحول الموضوعي للإنتاج إلى إنتاج اجتماعي، والمحافظة على التملك الخاص للمنتجات والربح ووسائل الإنتاج. وأنه عندما يبلغ الارتهان المتبادل بين المنشآت والفروع والبلدان والقارات، حده الأقصى، يسفر عن كون هذا النظام برمته لا يسير إلاّ وفقا لأوامر حفنة من أثرياء الرأسماليين وحسابات ربحهم، يسفر عن طابعه العبثي اقتصاديا والمقيت اجتماعيا في آن واحد.
ج- التناقض بين ميل النظام الرأسمالي إلى تطوير القوى المنتجة بشكل غير محدود، والحدود الضيقة التي لا بد من أن يفرضها على الاستهلاك الفردي والاجتماعي لجمهور العاملين، طالما أن هدف الإنتاج هو الحد الأقصى من فائض القيمة، الأمر الذي يقتضي بالضرورة تحديد الأجور.
د- التناقض بين ازدهار عظيم للعلم والتقنية مع ما يمثلانه من طاقة لتحرر الإنسان، وإخضاع هذه الطاقة من القوى المنتجة لمقتضيات بيع البضائع وإثراء الرأسماليين، الأمر الذي يحول دوريا هذه القوى المنتجة إلى قوى تدمير (لاسيما في زمن الأزمات الاقتصادية والحروب وولادة أنظمة الديكتاتورية الفاشية الدموية، بل أيضا في الأخطار التي تهدد بيئة الإنسان الطبيعية)، واضعا البشرية هكذا أمام خيار: اشتراكية أو همجية.
هـ- التطور المحتم للصراع الطبقي بين الرأسمال والعمل، الذي ينسف دوريا الشروط العادية لإعادة إنتاج المجتمع البرجوازي. وسوف ننظر في هذه المسألة بصورة أكثر تفصيلا في الفصول 8 و9 و11 و14.
6- أزمات فيض الإنتاج الدورية
جميع التناقضات الملازمة لنمط الإنتاج الرأسمالي تنفجر دوريا في أزمات فيض الإنتاج. فإن الميل إلى أزمات فيض الإنتاج الدورية، وإلى سير الإنتاج بدورات يجتاز عبرها بالتتالي مراحل الإنعاش والرواج و«السخونة» والأزمة والكساد، هذا الميل ملازم لنمط الإنتاج الرأسمالي، وله وحده. يمكن أن يختلف اتساع هذه التموجات بين حقبة وأخرى، غير أنها واقع حتمي في النظام الرأسمالي.
لقد حصلت أزمات اقتصادية (بمعنى انقطاعات في إعادة الإنتاج الاعتيادية) في المجتمعات ما قبل الرأسمالية، وتحصل أيضا أزمات في المجتمع ما بعد الرأسمالي. لكنها ليست في كلا الحالين أزمات فيض الإنتاج بضائع ورساميل، بل هي بالأحرى أزمات نقص في إنتاج قيم استعمالية. إن الذي يميز أزمة فيض الإنتاج الرأسمالية هو أن المداخيل تنخفض والبطالة تنتشر والبؤس (والجوع غالبا) يحلان، ليس لأن الإنتاج المادي قد انخفض بل عكس ذلك، لأنه ازداد بصورة تخطت بكثير القوة الشرائية المتوفرة. فينخفض النشاط الاقتصادي لأن المنتجات لم يعد بيعها ممكنا وليس لأنها نقصت ماديا.
في أساس أزمات فيض الإنتاج الدورية، نجد في آن واحد، انخفاض المعدل الوسطي للربح وفوضى الإنتاج الرأسمالي والميل إلى تطوير الإنتاج دون اعتبار الحدود التي يفرضها نمط التوزيع البرجوازي على استهلاك الجماهير الكادحة. إن قسما متزايدا من الرساميل يصبح عاجزا عن الحصول على ربح كاف بنتيجة انخفاض معدل الربح. فتتقلص التوظيفات وتنتشر البطالة. ويتضافر مع هذا العامل البيع بخسارة لعدد متزايد من البضائع ليسرع في هبوط عام لفرص العمل والمداخيل والقوة الشرائية والنشاط الاقتصادي بمجمله.
إن أزمة فيض الإنتاج هي في آن واحد نتاج هذه العوامل والوسيلة التي يحوز عليها النظام الرأسمالي ليبطل مفعولها جزئيا فالأزمة تؤدي إلى انخفاض قيمة البضائع وإفلاس منشآت عديدة. وتتقلص بالتالي قيمة الرأسمال الإجمالي. هذا الأمر يسمح بإعادة صعود لمعدل الربح ونشاط التراكم. وتسمح البطالة الجماهيرية بزيادة معدل استغلال اليد العاملة، الأمر الذي يؤدي إلى النتيجة ذاتها.
إن الأزمة الاقتصادية تفاقم التناقضات الاجتماعية ويمكنها أن تنفذ إلى أزمة اجتماعية وسياسية متفجرة. إنها تشير إلى أن النظام الرأسمالي أصبح ناضجا لاستبداله بنظام أكثر فعالية وأكثر إنسانية، لا يبذّر الموارد البشرية والمادية. لكنها لا تؤدي تلقائيا إلى انهيار هذا النظام، بل ينبغي أن يطيحه عمل واع من قبل الطبقة الثورية التي خلقها: الطبقة العاملة.
7- توحيد البروليتاريا وتفتيتها
تخلق الرأسمالية البروليتاريا، وتركزها في مشاريع تتزايد أهمية، وتبث فيها الانضباط الصناعي، ومع هذا الانضباط التعاضد والتضامن الأولي في مواقع العمل. إلاّ أنّ هذا كله يترافق مع السعي وراء أقصى الأرباح -سواء بالنسبة لكل مشروع رأسمالي مأخوذ على حدة أو بالنسبة للطبقة البورجوازية ككل. وهذه الطبقة واعية تماما للواقع الذي أكدته أولى انفجارات النضالات العمالية، والمتمثلة بأن تركيز القوى البروليتارية وتوحيدها يشكلان تهديدا عظيما لمصالحها.
لذا فتطور نمط الإنتاج مصحوب بحركة متناقضة مزدوجة: فمن جهة، ثمة الميل التاريخي -الأساسي على المدى الطويل- إلى توحيد البروليتاريا، أو مجمل الشغيلة المأجورين، وإدخال التجانس إلى صفوفها، ومن جهة أخرى، هنالك محاولات متكررة لتفتيت الطبقة البروليتارية وتقسيمها إلى شرائح عن طريق إخضاع بعض شرائحها لاستغلال مضاعف ولاضطهاد من نوع خاص، في حين يتم تمييز شرائح أخرى نسبيا. إن أيديولوجيات خاصة، من مثل العنصرية، والتمييز الجنسي، والشوفينية، وكره الأجانب، تلعب دور تبرير وتثبيت هذه الأشكال الخاصة من الاستغلال المضاعف والاضطهاد، التي ولدت داخل البلدان الرأسمالية الأولى بالذات، لكن التي زادها الاستعمار والإمبريالية حدة وارتفعا بها إلى الذروة على المستوى العالمي.
لقد كان الاستخدام الكثيف لعمل النساء والأحداث واحدة من الوسائل المفضلة التي استخدمها الصناعيون الأولون، من أجل «كسر» الأجور في المانيفاكتورات والمصانع الأولى. في الوقت ذاته، استندت البورجوازية إلى الكنيسة، على وجه الخصوص، وإلى وكالات أخرى لنشر الأيديولوجيات الرجعية، لكي تزرع داخل الطبقة العاملة وشرائح كادحة أخرى من السكان الفكرة القائلة بأن «مكان المرأة هو في الأسرة» وأنه ينبغي ألاّ تتولى النساء المهن المميزة (حيث قد يؤدي ذلك أيضا إلى خفض الأجور).
إن العاملات والمستخدمات في النظام الرأسمالي يتعرضن في الواقع للاستغلال المضاعف من وجهتين. أولا لأنهن يحصلن بمعظمهن على مكافأة أدنى من مكافأة الرجال، سواء بتصنيفهن المتدني أو بدفع أجور أدنى لهن لقاء عمل متساو، وهو ما يزيد مباشرة مبلغ فائض القيمة الذي يتملكه رأس المال. ثم لأن تنظيم الحياة الاجتماعية -الاقتصادية البورجوازية يتمحور حول العائلة البطريركية بما هي خلية أساسية للاستهلاك وإعادة الإنتاج المادي لقوى العمل. والحال أن النساء مضطرات ليقدمن داخل العائلة عملا لا يتلقين مقابلا له مخصصا لتهيئة الطعام، والتدفئة والغسل وتعهد الأطفال وتربيتهم، الخ. هذا العمل ليس مصدرا مباشرا لفائض القيمة، لأنه لا يتجسد في سلع، إلاّ أنه يزيد بصورة غير مباشرة من مبلغ فائض القيمة الاجتماعي، بمقدار ما يخفض تكاليف إعادة إنتاج قوة العمل التي على عاتق الطبقة البرجوازية. وإذا كان على البروليتاري أن يشتري كل وجباته والبسته وخدمات التنظيف والتدفئة من السوق، وإذا كان عليه أن يدفع خدمات حراسة وتربية لأطفاله خارج الدوامات المدرسية، كان لا بد لأجره المتوسط أن يزيد بشكل ملموس عما هو عليه، طالما بوسعه أن يلجأ إلى العمل غير المدفوع أجره الذي تضطلع به شريكته وبناته ووالدته، الخ.. وهو ما يخفض فائض القيمة الاجتماعي بالقدر نفسه.
إن الطابع المتشنج للإنتاج الرأسمالي، بزياداته المفاجئة وتخفيضاته للانتاج الصناعي، يتطلب حركة لا تقل تشنجا من تدفق اليد العاملة ومن تصفياتها الدورية في «سوق العمل». ولخفض التكاليف السياسية والاجتماعية لهذه الحركات العنيفة المصحوبة بتوترات وتعاسات إنسانية لا يستهان بها، من مصلحة رأس المال أن يتزود بيد عاملة قادمة من بلدان أقل تصنيعا. فهو يعتمد على طاعتها الناجمة عن البؤس والنقص في الاستخدام، في البدء، الأكثر حدة بكثير، كما على الاختلافات في العادات والتقاليد بين هذه اليد العاملة والطبقة العاملة «الوطنية» من أجل إعاقة تطور تضامن حقيقي ووحدة طبقية يشملان مجمل البروليتاريين من كل البلدان ومن كل الأمم.
إن حركات هجرة كبيرة صاحبت هكذا كل تاريخ نمط الإنتاج الرأسمالي. فالايرلنديون يتوجهون إلى إنكلترا واسكتلندا، والبولونيون إلى ألمانيا، والإيطاليون ثم الأفريقيون الشماليون والاسبانيون والبرتغاليون إلى فرنسا، والهنود إلى المستعمرات البريطانية في البدء، ثم إلى بريطانيا فيما بعد، والصينيون إلى كل مناطق المحيط الهادي، والكوريون إلى اليابان، وموجات متتالية من المهاجرين إلى أمريكا الشمالية (إنكليز، وايرلنديون، وإيطاليون، ويهود، وبولونيون، ويونانيون، ومكسيكيون، وبورتوريكيون، بالإضافة إلى العبيد السود في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر) والأرجنتين وأستراليا.
كل من هذه الموجات من الهجرة الكثيفة قد صاحبتها بدرجات مختلفة ظاهرات متشابهة من الاستغلال المضاعف والاضطهاد. فالمهاجرون يعملون في القطاعات الأقل أجرا، ويجبرون على أداء الأشغال الأكثر إساءة للصحة، محشورين في الغيتوات والأكواخ، محرومين عموما من كل تعليم بلغاتهم الأم. وهم يتعرضون لما لا يحصى من أشكال التمييز (لاسيما من أجل الحصول على الحقوق المدنية والسياسية والنقابية المتساوية)، بغية إعاقة تطورهم الثقافي والأدبي وإبقائهم فاقدي المعنويات معرضين للاستغلال المضاعف، وتركهم في حالة «عدم استقرار» تفوق حالة البروليتاريا الوطنية والمنظمة (تتضمن الطرد إلى بلدان المنشأ أو الإبعاد التعسفي).
إن المسبقات الأيديولوجية المنتشرة في صفوف البروليتاريا «الوطنية» تبرر بنظرها الاستغلال المضاعف وتبقي التفتيت والتجزئة الدائمين للطبقة العاملة إلى راشدين وأحداث، رجال ونساء، «وطنيين» ومهاجريين، مسيحيين ويهود، سود وبيض، عبرانيين وعرب، الخ.
ولا يمكن للبروليتاريا أن تخوض بنجاح نضالها للتحرر -بما فيه على مستوى الدفاع عن مصالحها الأكثر مباشرة والأكثر أولية- إلاّ إذا اتحدت وتنظمت بصورة تؤكد التضامن الطبقي والوحدة على صعيد كل المأجورين.
لذا فإن النضال ضد كل أشكال التمييز والاستغلال المضاعف التي تتعرض لها النساء والأحداث والمهاجرون والقوميات والأعراق المضطهدة ليس واجبا إنسانيا وسياسيا أواليا وحسب، بل يتوافق كذلك مع المصلحة الطبقية لجميع الشغيلة. إن التربية المنهجية للشغيلة باتجاه جعلهم ينبذون كل المسبقات القائمة على التمييز بين الجنسين والعنصرية والشوفينية وكره الأجانب، التي تشكل قاعدة للاستغلال المضاعف ولجهود التفتيت والتجزئة الدائمين للبروليتاريا، هي إذا من المهمات الأساسية للحركة العمالية.
*******
المراجع:
ك. ماركس، الأجور، الأسعار والأرباح.
ماركس-إنجلس، البيان الشيوعي.
ف. إنجلس، دحض دوهرينغ (الجزء الثاني).
ك. كاوتسكي، مذهب كارل ماركس الاقتصادي.
ر. لكسمبورغ، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
أ. ماندل، مدخل إلى النظرية الاقتصادية الماركسية.
ب. سلامة ج. فالييه، مدخل إلى الاقتصاد السياسي.
أ. ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية.
أ.ماندل ج. نوفاك، النظرية الماركسية في الاستلاب.
--------------------------------------------------------------------------------
6 - رأسمالية الاحتكارات
لا يبقى سير نمط الإنتاج الرأسمالي على حاله منذ نشأته. فبدون تناول رأسمالية المانيفكتورات التي تمتد من القرن السادس عشر حتى الثامن عشر، يمكن تمييز طورين في تاريخ الرأسمالية الصناعية بحصر المعنى:
طور رأسمالية المزاحمة الحرة الذي يبدأ بالثورة الصناعية (بعد عام 1760) وينتهي في ثمانينات القرن التاسع عشر.
طور الإمبريالية الذي يمتد منذ ثمانينات القرن التاسع عشر حتى يومنا هذا.
1- من المزاحمة الحرة إلى الاتفاقات الرأسمالية
طوال الطور الأول من وجود الرأسمالية الصناعية تميزت بوجود عدد كبير من المنشآت المستقلة في كل فرع من الفروع الصناعية. ولم يكن بوسع أية منشأة أن تسيطر على السوق. فكانت كل واحدة تحاول أن تبيع بثمن أقل لتتمكن من تصريف بضاعتها.
تبدل هذا الوضع عندما أدى التركز والتمركز الرأسماليان إلى أنه لم يبق في جملة من الفروع الصناعية سوى عدد محدود من المنشآت ينتج بمجمله 60% أو 70% أو 80% من الإنتاج. فأصبح بإمكان هذه المنشآت أن تتحد لتحاول الهيمنة على السوق، أي الكف عن خفض أسعار المبيع، وذلك بتوزيع منافذ التصريف بينها حسب ميزان القوى الراهن.
لقد سهلت مثل هذا الانحدار للمزاحمة الحرة الرأسمالية ثورة تكنولوجية هامة حدثت في الوقت نفسه: استبدال المحرك البخاري بالمحرك الكهربائي والمحرك الانفجاري كمصدر الطاقة الرئيسي في الصناعة وفروع النقليات الرئيسية. فتطورت جملة من الصناعات الحديثة -الصناعة الكهربائية، صناعة الأجهزة الكهربائية، الصناعة النفطية، صناعة السيارات، الكيمياء التركيبية- تطلبت تكاليف إنشاء أهم بكثير مما في الفروع الصناعية القديمة، الأمر الذي قلص منذ البدء عدد المتزاحمين الممكنين.
إن الأشكال الرئيسية للاتحادات بين الرأسماليين هي:
-الكارتيل والنقابة في فرع صناعي، حيث تحافظ كل منشأة مشتركة في الاتحاد على استقلالها
التروست واندماج المنشآت، حيث يزول هذا الاستقلال ضمن شركة عملاقة واحدة.
المجموعة المالية والشركات الكبرى (holding) حيث يسيطر عدد صغير من الرأسماليين على منشآت عديدة في بضعة فروع صناعية، تبقى مستقلة قانونيا بعضها عن البعض الآخر.
2- التركزات المصرفية والرأسمال المالي
إن سيرورة تركز وتمركز الرأسمال ذاتها التي تتحقق في مجال الصناعة والنقاليات تحصل أيضا في مجال المصاريف. وفي نهاية هذا التطور، يهيمن عدد صغير من المصارف العملاقة على مجمل الحياة المالية في البلدان الرأسمالية.
إن الدور الرئيسي للمصارف في النظام الرأسمالي هو منح قروض للمنشآت. وعندما يصبح التركز المصرفي متقدما جدا، يحوز عدد صغير من رجال المصارف على احتكار فعلي لمنح القروض. ويجرهم هذا الأمر إلى تخطي سلوك الدائنين السلبيين، الذين يكتفون بقبض الفوائد على الرساميل المقروضة بانتظار تسديد القروض عندما يبلغ الدين أجله.
فالمصارف التي تمنح قروضا للمنشآت العاملة في نشاطات متماثلة أو متصلة، تجد مصلحة كبيرة في ضمان إيرادية جميع هذه المنشآت وملاءتها. إن مصلحتها تقتضي بأن تحول دون سقوط الأرباح إلى الصفر بنتيجة مزاحمة شرسة. فتتدخل المصارف بالتالي للإسراع في التركز والتمركز الصناعيين، ولفرضهما أحيانا.
وفي قيامها بهذا الدور، تستطيع أن تتخذ مبادرات تنشيط لخلق تروستات كبيرة. وتستطيع كذلك أن تستعمل مواقعها الاحتكارية في مجال الاقراض لتحصل لقاء القروض على مساهمات في رأسمال المنشآت الكبيرة. هكذا يتطور الرأسمال المالي، أي الرأسمال المصرفي الذي يدخل في الصناعة ويحتل فيها موقع مهيمنا.
فتبرز في قمة هرم السلطة في عصر رأسمالية الاحتكارات مجموعات مالية تسيطر في آن واحد على المصارف وعلى مؤسسات مالية أخرى (مثل شركات التأمين) وعلى التروستات الكبيرة في الصناعة والنقليات وعلى المخازن الكبرى، الخ. إن حفنة من كبار الرأسماليين، اشتهرت بينها «العائلات الستون» في الولايات المتحدة الأمريكية «والمائتا عائلة» في فرنسا، تمسك بيدها جميع مقاليد السلطة الاقتصادية في البلدان الإمبريالية.
في بلجيكا، تسيطر نحو عشر مجموعات مالية على القسم الأساسي من الاقتصاد، إلى جانب بعض المجموعات الأجنبية الكبيرة. وفي الولايات المتحدة، تمارس بعض المجموعات المالية (لاسيما مورغان، روكفيلر، ديبون، ملون، مجموعة شيكاغو، مجموعة كليفلاند، بنك أوف أميركا، الخ) هيمنة واسعة جدا على مجمل الحياة الاقتصادية. والأمر كذلك في اليابان حيث أعادت الزيباتسو (تراستات) القديمة تشكيل نفسها بسهولة بعد أن بدا أنها تفككت إثر الحرب العالمية الثانية. والمجموعات اليابانية الرئيسية هي ميتسوبيشي وميستوي وايتوه وسوميدومو وماروبيني.
3- رأسمالية الاحتكارات ورأسمالية المزاحمة الحرة.
لا يعني ظهور الاحتكارات أن المزاحمة الحرة زالت. ولا يعني بالأحرى أن كل فرع صناعي أصبح تحت الهيمنة النهائية لمنشأة واحدة. بل يعني قبل كل شيء وفي قطاعات الاحتكارات:
أ- إن المزاحمة لم تعد تجري بصورة عادية عن طريق خفض الأسعار.
ب- أن التروستات الكبيرة أصبحت، بنتيجة ذلك، تحصل على أرباح فائضة احتكارية، أي على معدل ربح أعلى من معدل ربح المنشآت العاملة في القطاعات غير الاحتكارية.
وتستمر المزاحمة من جهة أخرى:
أ- داخل قطاعات الاقتصاد غير الاحتكارية وهي لا زالت عديدة.
ب- بين الاحتكارات، بصورة عادية عن طريق تقنيات غير خفض أسعار المبيع (لا سيما خفض سعر الكلفة، والاعلانات، الخ)، وبصورة استثنائية أيضا عن طريق «حرب أسعار»، خاصة عندما يكون ميزان القوى بين التروستات قد تغير، وتكون الغاية تكييف تقسيم الأسواق مع ميزان القوى الجديد هذا.
ج- بين الاحتكارات «القومية» في السوق العالمية، عن الطريق «العادية» لـ«حرب الأسعار» بصورة رئيسية. بيد أن تركز الرأسمال يمكن أن يتقدم إلى حد أنه حتى في السوق العالمية، لا يبقى سوى بعض المنشآت في فرع من الفروع الصناعية، الأمر الذي يمكن أن يؤدي إلى خلق كارتيلات دولية تتقاسم منافذ التصريف.
4- تصدير الرساميل
لا تستطيع الاحتكارات أن تسيطر على الأسواق الاحتكارية إلاّ شرط أن تحد من ازدياد الإنتاج فيها، وبالتالي تراكم الرأسمال. لكن هذه الاحتكارات ذاتها تحوز من جهة أخرى على رساميل وافرة، لا سيما بنتيجة الأرباح الفائضة الاحتكارية التي تحققها. إن عصر الرأسمالية الإمبريالي يتميز إذا بظاهرة الرساميل الفائضة في أيدي احتكارات البلدان الإمبريالية، وهي رساميل تبحث عن حقول جديدة للتوظيفات فيصبح تصدير الرساميل هو أيضا ميزة رئيسية للعصر الإمبريالي.
هذه الرساميل تصدر نحو بلدان يمكن أن تحقق فيها ربحا أعلى من الربح المتوسط في القطاعات المتزاحمة في البلدان الإمبريالية، لتحفز في تلك البلدان صناعات مكملة للصناعة الإمبريالية. ويجري استعمالها قبل كل شيء لتطوير إنتاج مواد أولية نباتية ومعدنية في البلدان المتخلفة (في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية).
طالما كانت الرأسمالية تعمل في السوق العالمية لبيع بضائعها وشراء مواد أولية ومؤن فحسب، لم يكن لديها مصلحة كبيرة في شق طريقها بالقوة العسكرية (بيد أن هذه القوة كانت تستعمل لهدم الحواجز أمام دخول البضائع -مثلا، حرب الأفيون التي خاضتها بريطانيا العظمى لتجبر الإمبراطورية الصينية على رفع الموانع التي أعاقت استيراد الأفيون القادم من الهند البريطانية). لكن هذا الوضع تغير عندما بدأ تصدير الرساميل يحتل مكانة مهيمنة في عمليات الرأسمال الدولية.
وفي حين يدفع ثمن بضاعة مباعة خلال بضعة أشهر كحد أقصى، لا يتم استهلاك رساميل موظفة في بلد ما سوى بعد سنوات طويلة. فتصبح بالتالي لدى القوى الإمبريالية مصلحة كبيرة في إقامة رقابة دائمة على البلدان التي وظفت فيها تلك الرساميل. ويمكن أن تكون هذه الرقابة غير مباشرة -من خلال حكومات عميلة للخارج لكنها في دول مستقلة شكليا- في البلدان شبه المستعمرة. كما يمكن أن تكون مباشرة - من خلال إدارة تابعة مباشرة للدول الإمبريالية- في البلدان المستعمرة. إن العصر الإمبريالي يتميز إذا بـ ميل إلى تقسيم العالم إلى إمبراطوريات استعمارية ومناطق نفوذ للدول الإمبريالية الكبرى.
لقد حصل هذا التقسيم في فترة معينة (خاصة في حقبة 1880-1900) وفقا لميزان القوى القائم في تلك الفترة: هيمنة بريطانيا العظمى، القوة الهامة للإمبرياليات الفرنسية والهولندية والبلجيكية، الضعف النسبي للدول الإمبريالية «الشابة»: ألمانيا، الولايات المتحدة، إيطاليا واليابان.
وسوف تجهد الدول الإمبريالية «الشابة» بواسطة سلسلة من الحروب الإمبريالية لتستعمل تبدل ميزان القوى من أجل تغيير هذا التقسيم للعالم لصالحها: الحرب الروسية-اليابانية، الحرب العالمية الأولى، الحرب العالمية الثانية.
إنها حروب تخاض لأجل النهب، للحصول على حقول لتوظيف الرساميل ومصادر مواد أولية ومنافذ تصريف مميزة، وليست حروب من أجل «مثال» سياسي («مع الديموقراطية أو ضدها»، مع الاستبدادية أو ضدها، مع الفاشية أو ضدها) والملاحظة ذاتها تنطبق على حروب الفتح الاستعماري التي تتخلل العصر الإمبريالي (لا سيما، في القرن العشرين، حرب إيطاليا ضد تركيا والحرب الصينية-اليابانية وحرب إيطاليا ضد الحبشة) أو الحروب الاستعمارية ضد حركات تحرر الشعوب (حرب الجزائر، حرب فيتنام، الخ). التي يسعى فيها أحد الطرفين وراء النهب بينما يدافع الشعب المستعمَر أو شبه المستعمر عن قضية عادلة بسعيه وراء الإفلات من الاستعباد الإمبريالي.
5-البلدان الإمبريالية والبلدان التابعة
هكذا، فإن العصر الإمبريالي لا يشهد إقامة سيطرة لحفنة من كبار رجال المال والصناعة على الأمم الإمبريالية فحسب. بل يتميز أيضا بإقامة سيطرة للبرجوازية الإمبريالية في حفنة من البلدان على شعوب البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، التي تمثل ثلثي الجنس البشري.
وتستخرج البرجوازية الإمبريالية ثروات طائلة من البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة. وتدر رساميلها الموظفة في هذه البلدان أرباحا فائضة استعمارية، يتم تصديرها من جديد إلى الدول الإمبريالية. إن التقسيم العالمي للعمل القائم على مبادلة منتجات الصناعة الإمبريالية بمواد أولية مستخرجة في المستعمرات، هذا التقسيم يؤدي إلى تبادل غير متساو، تبادل فيه البلدان الفقيرة كميات كبرى من العمل (لأنه عمل أقل كثافة) بكميات أدنى من العمل (لأنه عمل أكثر كثافة) تصدرها البلدان الإمبريالية. وتتمول الإدارة الاستعمارية بواسطة ضرائب تنتزعها من الشعوب المستعمرة، وتصدر جزءا هاما منها إلى الدولة الإمبريالية.
جميع هذه الموارد المستخرجة من البلدان التابعة تضيع بالنسبة لتمويل نموها الاقتصادي. هكذا فإن الإمبريالية أحد مصادر التخلف الرئيسية بالنسبة لجنوب الكرة الأرضية.
6- عصر الرأسمالية المتأخرة
يمكن تقسيم العصر الإمبريالي بدوره إلى طورين: عصر الإمبريالية «الكلاسيكية» الذي يشمل حقبة ما قبل الحرب العالمية الأولى وحقبة ما بين الحربين، وعصر الرأسمالية المتأخرة الذي يبدأ مع الحرب العالمية الثانية أو مع نهايتها.
في هذا العصر من انحدار الرأسمالية، يمتد تركز وتمركز الرأسمال أكثر فأكثر على الصعيد العالمي. ففي حين شكل التروست الاحتكاري القومي «الخلية الأساسية» في العصر الإمبريالي الكلاسيكي، أصبحت الشركة متعددة القوميات هي «الخلية الأساسية» في عصر الرأسمالية المتأخرة. بيد أن عصر الرأسمالية المتأخرة يتميز في الوقت نفسه بتسارع للابتكار التكنولوجي وبحقب أقصر لاستهلاك الرأسمال الموظف في الآلات وباضطرار المنشآت الكبرى لحساب تكاليفها وتوظيفاتها ولتخطيطها بصورة أكثر دقة، وبالميل إلى البرمجة الاقتصادية للدولة الذي ينجم بصورة طبيعية عن ذاك الاضطرار.
كذلك فإن تدخل الدولة الاقتصادي يتزايد بنتيجة اضطرار البرجوازية لتعوّم بمساعدة الدولة قطاعات صناعية أصبحت في وضع من الإفلاس المزمن، ولتمول بواسطة الدولة قطاعات طليعية لم تصبح بعد مربحة، ولتؤمن عن طريق الدولة ضمانة لأرباح الاحتكارات الكبرى، لاسيما بواسطة طلبيات الدولة (خاصة، وليس حصرا، طلبيات عسكرية) والإعانات والمساعدات، الخ.
هذا التداول المتزايد للإنتاج من جهة، وهذا التدخل المتزايد للدولة القومية في الحياة الاقتصادية من جهة أخرى، يسببان جملة من التناقضات الجديدة في عصر الرأسمالية المتأخرة، أحد تعبيراتها الرئيسية أزمة النظام النقدي العالمي التي يغذيها التضخم الدائم.
ويتميز عصر الرأسمالية المتأخرة أيضا بتفكك معمم للإمبراطوريات الاستعمارية وبتحول البلدان المستعمرة إلى بلدان شبه مستعمرة وبإعادة توجيه تصديرات الرساميل التي أصبحت الآن تنتقل قبل كل شيء من بلد إمبريالي إلى آخر وليس من البلدان الإمبريالية إلى البلدان المستعمرة، وببداية تصنيع (محصور خاصة في دائرة السلع الاستهلاكية) في البلدان شبه المستعمرة. إن هذا التصنيع ليس فقط محاولة من قبل البرجوازية المحلية في البلدان التابعة لكبح حركات التمرد الشعبية، بل هو أيضا نتيجة لكون تصديرات الآلات والسلع التجهيزية تشكل اليوم القسم الأعظم من تصديرات البلدان الامبريالية ذاتها.
فلا التحولات التي حدثت في سير الاقتصاد الرأسمالي داخل البلدان الإمبريالية بالذات، ولا التحولات المتعلقة باقتصاد البلدان شبه المستعمرة وبالسير الإجمالي للنظام الإمبريالي، تسمح إذا بإعادة النظر في الاستنتاج الذي وصل اليه لينين قبل أكثر من نصف قرن والمتعلق بالمعنى التاريخي الإجمالي للعصر الإمبريالي. إنه عصر تفاقم جميع التناقضات بين الإمبرياليات. إنه عصر شعاره النزاعات العنيفة والحروب الإمبريالية وحروب التحرر القومي والحروب الأهلية. إنه عصر الثورات والثورات المضادة، والانفجارات الأكثر فأكثر خطورة، وليس عصر تقدم هادئ وسلمي للحضارة.
وكم هو أحرى أن نستبعد الأساطير التي تقول أن الاقتصاد الغربي الحالي لم يعد اقتصادا رأسماليا بحصر المعنى. إن الانكماش المعمم للاقتصاد الرأسمالي الدولي في سنتي 1974-1975 قد سدد ضربة قاضية للأطروحة القائلة أننا نعيش في «اقتصاد مختلط» مزعوم، يسمح فيه تنظيم الحياة الاقتصادية من قبل السلطات العامة بتأمين النمو الاقتصادي والعمالة الكاملة وتوسيع رفاهية الجميع بصورة غير منقطعة. لقد أثبت الواقع مرة أخرى أن مقتضيات الربح الخاص لا زالت تتحكم بهذا الاقتصاد وتتسبب فيه دوريا ببطالة جماهيرية وفيض إنتاج، وأنه بالتالي اقتصاد لا يزال رأسماليا.
كذلك فإن الأطروحة القائلة أن المدراء والبيروقراطية، بل التكنوقراطيين والعلماء، لا أكبر التجمعات الرأسمالية، هم الذين يديرون المجتمع الغربي، أطروحة لا تستند إلى أي برهان علمي جدي. إن العديد من «سادة» المجتمع هؤلاء قد فقدوا منصبهم خلال فترتي الانكماش الأخيرتين. فإن انتداب السلطات الذي يقبل به الرأسمال الكبير ويحسنه داخل الشركات العملاقة التي يسيطر عليها، يشمل معظم صلاحياته التقليدية، ما عدا الجوهري: قرارات التعيين الأخير حول الأشكال والتوجهات الأساسية لاستثمار الرأسمال وتراكمه، أي كل ما يتعلق بـ«أقدس المقدسات»: أولوية ربح الاحتكارات، التي يمكن التضحية في سبيلها بتوزيع أرباح الأسهم على المساهمين. فالذين يرون في هذا الأمر برهانا على أن الملكية الخاصة لم تعد مهمة، ينسون الميل إلى التضحية بملكية الصغار الخاصة لأجل ملكية حفنة من الكبار، وهو ميل مهيمن منذ بداية الرأسمالية.
*******
المراجع:
لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية
ر. هيلفردنغ، الرأسمال المالي
ماندل، النظرية الاقتصادية الماركسية (الفصول 12،13، 14)
ب. جاليه، الإمبريالية عام 1970.
ب. سلامة، سيرورة التخلف.
--------------------------------------------------------------------------------
7/ النظام الإمبريالي
1- التصنيع الرأسمالي وقانون التطور المتفاوت والمركب
ولدت الرأسمالية الصناعية الحديثة في بريطانيا العظمى. وامتدت تدريجيا، خلال القرن التاسع عشر، إلى معظم بلدان أوروبا الغربية والوسطى وإلى الولايات المتحدة، ولاحقا إلى اليابان. وقد بدا أن وجود بعض البلدان ذات التصنيع الأولي لم يكن حائلا دون دخول الرأسمالية الصناعية وتوسعها في سلسلة متتالية من البلدان السائرة على درب التصنيع.
على العكس، فقد دمرت الصناعة الكبيرة البريطانية والبلجيكية والفرنسية، دمرت في تلك البلدان وبدون رحمة أشكال الإنتاج ما قبل الصناعية (الصناعة الحرفية والصناعة المنزلية). لكن الرساميل البريطانية والبلجيكية والفرنسية كانت لا تزال لديها حقول واسعة للتوظيفات مفتوحة أمامها في بلدانها الخاصة. وهكذا فقد حلت إجمالا صناعة حديثة قومية تدريجيا محل الصناعة الحرفية التي دمرتها مزاحمة البضائع الأجنبية الرخيصة. هذا ما حصل بالأخص بالنسبة لإنتاج المنسوجات في ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والنمسا وبوهيميا وروسيا القيصرية (بما فيها بولندا) والبلدان الواطئة، الخ.
ومع ولادة العصر الإمبريالي ورأسمالية الاحتكارات، تبدل هذا الوضع تبدلا كليا. فمنذ ذلك التاريخ، لم يعد سير السوق الرأسمالية العالمية يسهل التطور الرأسمالي «العادي»، ولاسيما التصنيع في العمق، للبلدان المتخلفة، بل أصبح بالعكس يعرقله. وتفقد عبارة ماركس القائلة أن كل بلد متقدم يدل بلدا اقل تطورا على صورة مستقبله الخاص، تفقد هذه العبارة صحتها التي حافظت عليها طوال عصر الرأسمالية المزاحمة الحرة.
ثلاثة عوامل رئيسية (وعوامل إضافية عديدة لن نذكرها) تحدد هذا التغير الأساسي في سير الاقتصاد الرأسمالي الدولي:
أ- اتساع الإنتاج بالجملة للعديد من بضائع البلدان الإمبريالية التي تغرق السوق العالمية وتحوز على تقدم في الإنتاجية وسعر الكلفة بالنسبة لكل إنتاج صناعي أولي في البلدان المتخلفة إلى حد أن هذا الإنتاج الأخير لا يعود يستطيع أن ينطلق فعلا على صعيد واسع ويصمد جديا في وجه مزاحمة الإنتاج الأجنبي. فتصبح الصناعة الغربية (ولاحقا الصناعة اليابانية أيضا) هي التي تستفيد أكثر فأكثر بعد تلك المرحلة من الإفلاس التدريجي للصناعة الحرفية والصناعة المنزلية والمانيفكتورة في بلدان أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا.
ب- أن فائض الرساميل، الذي يظهر بصورة دائمة إلى هذا الحد أو ذاك في البلدان الرأسمالية المصنعة التي تسيطر الاحتكارات عليها تدريجيا، يطلق حركة واسعة من تصدير الرساميل نحو البلدان المتخلفة ويطور فيها فروع إنتاج مكملة وليست منافسة بالنسبة للصناعة الغربية. هكذا فإن الرساميل الأجنبية التي تهيمن على اقتصاد هذه البلدان تفرض عليها التخصص في إنتاج المواد الأولية المعدنية والنباتية وفي إنتاج المؤن. علاوة على ذلك، ففي هذه البلدان التي تنحدر تدريجيا إلى وضع البلدان المستعمرة أو شبه المستعمرة، تدافع الدولة قبل كل شيء عن مصالح الرأسمال الأجنبي. فهي لا تتخذ بالتالي حتى الإجراءات البسيطة لحماية الصناعة الجنينية ضد مزاحمة المنتجات المستوردة.
ج- تخلق هيمنة الرساميل الأجنبية على اقتصاد البلدان التابعة وضعا اقتصاديا واجتماعيا تحافظ فيه الدولة على مصالح الطبقات السائدة القديمة وتدعمها، بربطها بمصالح الرأسمال الإمبريالي، بدل إزالتها بصورة جذرية إلى هذا الحد أو ذاك كما جرى خلال الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في أوروبا الغربية والولايات المتحدة.
إن مجمل هذا التطور الجديد للاقتصاد الرأسمالي الدولي في عصر الإمبريالي يمكن تلخيصه بقانون التطور المتفاوت والمركب. فالبنية الاجتماعية والاقتصادية في البلدان المتخلفة -أو في جملة من هذه البلدان على الأقل- ليست في سماتها الأساسية بنية مجتمع إقطاعي صرف ولا بنية مجتمع رأسمالي صرف. تحت تأثير هيمنة الرأسمال الإمبريالي، تدمج هذه البنية بصورة استثنائية سمات إقطاعية وشبه إقطاعية وشبه رأسمالية ورأسمالية. إن القوة الاجتماعية السائدة هي قوة الرأسمال -لكنه إجمالا الرأسمال الأجنبي. فالبورجوازية المحلية لا تمارس بالتالي السلطة السياسية. ولا تتألف غالبية السكان بالتالي من الأجراء، ولا من الأقنان بوجه عام، بل من فلاحين يخضعون بدرجات متفاوتة لابتزاز الملاك العقاريين شبه الإقطاعيين وشبه الرأسماليين والتجار- المرابين وجباة الضرائب. وبالرغم من أن هذا الجمهور الكبير يعيش جزئيا خارج الإنتاج البضاعي بل خارج الإنتاج النقدي، فإنه يصاب بالنتائج الكارثية لتذبذبات أسعار المواد الأولية في السوق الإمبريالية العالمية من خلال النتائج الإجمالية التي تجرها هذه التذبذبات على الاقتصاد القومي.
2-استغلال البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة من قبل الرأسمال الإمبريالي
إن تدفق الرساميل الأجنبية نحو البلدان التابعة، المستعمرة وشبه المستعمرة، قد تسبب طوال عقود متعاقبة بالنهب والاستغلال والاضطهاد لأكثر من مليار إنسان من قبل الرأسمال الإمبريالي، الأمر الذي يشكل إحدى الجرائم الرئيسية التي تقع مسئوليتها على النظام الرأسمالي في تاريخه. وإذا ظهرت الرأسمالية على الأرض وهي تنضح الدم والعرق من جميع مسامها كما قال ماركس، فإن هذا التعريف لا ينطبق في مكان بالدقة التي ينطبق بها في البلدان التابعة.
يندرج العصر الإمبريالي في المقام الأول تحت شعار الفتح الاستعماري. طبعا، إن الاستعمار أقدم من الإمبريالية. فقد سبق أن أحل الفاتحون الإسبان والبرتغاليون الحرق والقتل في الجزر الخضراء والرأس الأخضر وكذلك في بلدان أمريكا الوسطى والجنوبية، مبيدين في كل مكان تقريبا قسما كبيرا من السكان المحليين، إن لم يكن جميعهم. ولم يتصرف المستعمرون البيض بطريقة أكثر إنسانية إزاء هنود أمريكا الشمالية. وترافق فتح إمبراطورية الهند من قبل بريطانيا العظمى بسلسلة من الفضاعات، وكذلك بالنسبة لفتح الجزائر من قبل فرنسا.
ومع ولادة العصر الإمبريالي، امتدت هذه الفضاعات إلى قسم كبير من إفريقيا وآسيا وأوقيانيا. فتعاقبت على نطاق واسع المجازر ونقل السكان وطرد الفلاحين من أراضيهم وإدخال العمل الإجباري، إن لم يكن القنانة بالفعل.
إن العنصرية «تبرر» هذه الممارسات اللا إنسانية بتأكيدها على تفوق العرق الأبيض و«رسالته التاريخية الحضارية». وبصورة أكثر حذاقة، تجرد العنصرية الشعوب المستعمرة من ماضيها الخاص وثقافتها الخاصة وعزتها العرقية، لا بل تجردها من لغتها في الوقت نفسه الذي تنتزع فيه منها ثرواتها القومية وقسما هاما من ثمار عملها.
وإذا تجرأ العبيد المستعمرون على التمرد ضد السيطرة الاستعمارية، جرى قمعهم بوحشية أفظع من أن توصف. نساء وأطفال هنود ذهبوا ضحية المجازر في حرب الهنود في الولايات المتحدة، «متمردون» هنديون وضعوا أمام مدافع أطلقت النار، قبائل في الشرق الأوسط قصفها الطيران الملكي البريطاني بلا رحمة، عشرات الآلاف من الجزائريين المدنيين ذهبوا ضحية المجازر «انتقاما» من الانتفاضة الوطنية في ماي 1945: كل ذلك ينذر بأوحش فظاعات النازية، بما فيها الإبادة الجماعية الصريحة، بل يكررها تماما. وإذا سخط برجوازيو أوروبا وأمريكا على هتلر سخطا شديدا، فلأنه ارتكب جريمة انتهاك العرق الأبيض عندما طبق على شعوب أوروبية، لحساب الإمبريالية الألمانية، ما أصاب شعوب آسيا وأمريكا وأفريقيا على يد الإمبريالية العالمية.
إن اقتصاد البلدان التابعة خاضع برمته لمصالح الرأسمال الأجنبي وما يفرضه. ففي معظم هذه البلدان، تصل السكك الحديدية مراكز الإنتاج العاملة من أجل التصدير بالموانئ، لكنها لا تصل المراكز المدينة الرئيسية بعضها ببعض. ويخدم البناء التحتي المؤمَّن نشاطات الاستيراد والتصدير، أمّا الشبكات المدرسية والصحية والثقافية فتعاني من تخلف مخيف. إن القسم الأعظم من السكان يعاني من الأمية والجهل والبؤس.
أكيد أن دخول الرأسمال الأجنبي قد سمح بتطور معين للقوى المنتجة وخلق بعض المدن الصناعية الكبيرة وطوّر جنينا متفاوت الأهمية من البروليتاريا في الموانئ والمناجم والمزارع والسكك الحديدية والإدارة العامة.
بيد أننا نستطيع أن نقول بدون مبالغة أن مستوى معيشة السكان المتوسطين في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية (عدا بعض البلدان صاحبة الامتيازات) قد راوح مكانه أو تراجع خلال ثلاث أرباع القرن التي تفصل بين بداية الاندفاع نحو الاستعمار الشامل للبلدان المتخلفة وانتصار الثورة الصينية.
3-«الكتلة الطبقية» الحاكمة في البلدان شبه المستعمرة
لكي نفهم فهما أكثر تعمقا الطريقة التي «جمدت» بها السيطرة الإمبريالية البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة في تطورها وحالت دون تصنيع تدريجي «عادي» فيها على النمط الرأسمالي الغربي، يجب أن نوسع الشرح أكثر حول طبيعة «كتلة الطبقات الاجتماعية» الحاكمة في هذه البلدان خلال العصر الإمبريالي «الكلاسيكي» وما تستتبعه هذه «الكتلة» بالنسبة للتطور الاقتصادي والاجتماعي.
عندما يدخل الرأسمال الأجنبي بكثافة إلى البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، تكون الطبقة السائدة المحلية مؤلفة إجمالا من ملاك عقاريين (شبه إقطاعيين وشبه رأسماليين بمقادير تختلف حسب البلد المعني) متحالفين مع الرأسمال التجاري والمصرفي أوالمرابي. أمّا في البلدان الأكثر تخلفا كبلدان أفريقيا السوداء، فإننا نجد مجتمعات قبلية في طور التفكك تحت التأثير المديد لتجارة العبيد.
ويتحالف إجمالا الرأسمال الأجنبي مع هذه الطبقات السائدة المحلية ويعاملها كوسيطات لاستغلال الفلاحين والشغيلة المحليين ويدعم علاقاتها الاستغلالية مع شعوبها الخاصة. حتى أنه يرفع أحيانا بصورة هامة درجة الاستغلال هذا بشكله ما قبل الرأسمالي ويدمجه مع إدخال أشكال جديدة من الاستغلال الرأسمالي. ففي البنغال، حوّل الاستعمار البريطاني الزمندار، الذين كانوا في الأمس مجرد جباة ضرائب في خدمة الأباطرة المغول، حولهم إلى ملاك كاملي الحقوق للأراضي التي كانوا يجبون الضرائب عليها.
هكذا تظهر ثلاث طبقات اجتماعية هجينة في مجتمع البلدان المتخلفة، تطبع بطابعها تجميد تطور هذه البلدان الاقتصادي والاجتماعي:
طبقة البرجوازية الكومبرادورية، وهي برجوازية محلية تتكون في البدء من مجرد شركاء تعينهم المؤسسات الأجنبية للاستيراد والتصدير، ويغتنون من ثم ويتحولون تدريجيا إلى مقاولين مستقلين. غير أن منشآتهم تنحصر بصورة رئيسية في دائرة التجارة (و«الخدمات») أمّا أرباحهم فتوظف إجمالا في التجارة والربا وشراء الأراضي والمضاربة العقارية.
طبقة التجار-المرابين ( أو التجار-المرابين-الكولاك). إن الدخول البطيء للاقتصاد النقدي يفكك تقاليد التعاون داخل المشاعة القروية. ومع تعاقب المحاصيل السيئة والجيدة، على أراض خصبة إلى هذا الحد أو ذاك، يتقدم التفاضل الاجتماعي في القرية بدون رحمة. ويتواجه الفلاحون الأغنياء والفلاحون الفقراء، ويخضع هؤلاء أكثر فأكثر لأولئك، حيث يضطر الفلاحون الفقراء إلى الاستدانة لشراء البذور والمؤن عندما لا يكفي المحصول حتى لتغطية الحاجات الأكثر أولية. فيقعون تحت تبعية التجار-المرابين- الفلاحين الأغنياء الذين يصادرون منهم تدريجيا ملكية حقولهم ويخضعونهم لإبتزازات لا تحصى.
طبقة شبه البروليتاريا الريفية (التي شملت لاحقا «الهامشيين» المدينيين). إن الفلاحين المفقرين والمطرودين من أراضيهم لا يجدون عملا في الصناعة، نظرا لتخلفها. فيضطرون إلى البقاء في الريف أو يؤجرون سواعدهم للفلاحين الأغنياء أو يستأجرون قطع أرض لكي يحصلوا منها على عيشة بائسة لقاء ريع عقاري (أو حصة من المحصول في نظام المحاصصة) أكثر فأكثر بهظا. وكلما زاد بؤسهم ونقص استخدامهم قوة، كان الريع الذي هم على استعداد لدفعه لاستئجار حقل أكثر ارتفاعا. وكلما كان الريع العقاري أكثر ارتفاعا، تراجعت مصلحة أصحاب الرساميل في توظيفها في الصناعة بل يستخدمون رساميلهم بالأحرى لشراء الأرض. وكلما كان بؤس جمهور الفلاحين أكبر، ضاقت السوق الداخلية للسلع الاستهلاكية وبقيت الصناعة متخلفة وبقي نقص الاستخدام قويا.
ليس التخلف إذا نتيجة لنقص مطلق في الرساميل أو الموارد. بل بعكس ذلك، غالبا ما تشكل حصة النتاج الاجتماعي الفائض من الدخل القومي حصة أكبر في البلدان المتخلفة مما في البلدان المصنعة. إن التخلف نتاج بنية اجتماعية واقتصادية، ناجمة عن السيطرة الامبريالية، تجعل تراكم الرساميل النقدية لا يتجه بصورة رئيسية نحو التصنيع ولا حتى نحو التوظيف المنتج، الأمر الذي يتسبب في نقص استخدام (كمي ونوعي) ضخم إذا ما قورن بالبلدان الإمبريالية.
4- حركة التحرر القومي
كان محتما مع مرور الزمن ألا يخضع مئات الملايين من البشر لنظام استغلال واضطهاد كانت تفرضه عليهم حفنة من كبار رأسماليي البلدان الإمبريالية بواسطة الأجهزة الإدارية والقمعية لتي في خدمتها. فمدت حركة تحرر قومي جذورها تدريجيا في صفوف المثقفين الشباب في بلدان أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا، حركة تبنت أفكارا ديموقراطية-برجوازية بل شبه اشتراكية واشتراكية من أفكار الغرب، لتعارض السيطرة الأجنبية على بلادها. إن النزعة القومية ذات التوجه المعادي للإمبريالية، تتمحور في البلدان التابعة حول المصالح المختلفة لثلاث قوى اجتماعية:
يتم تبنيها قبل كل شيء من قبل البرجوازية القومية الصناعية الفتية، في كل مكان تحوز فيه هذه الأخيرة على قاعدة مادية خاصة تجعل مصالحها تتزاحم مع مصالح الدول الإمبريالية المسيطرة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال حزب المؤتمر الهندي الذي قاده غاندي والذي دعمته بقوة المجموعات الصناعية الهندية الكبيرة.
بحفز من الثورة الروسية، يمكن أن يتم تبني النزعة القومية من قبل الحركة العمالية الناشئة التي سوف تجعل منها على الأخص أداة تعبئة للجماهير المدينية والقروية ضد السلطة القائمة. إن المثال الأكثر نموذجية في هذا الصدد هو مثال الحزب الشيوعي الصيني منذ العشرينات ومثال الحزب الشيوعي في الهند الصينية في العقود اللاحقة.
يمكن أن تحفز النزعة القومية انفجار تمردات للبرجوازية الصغيرة المدينية وللفلاحين، تتخذ كشكل سياسي شكل النزعة الشعبية القومية. إن ثورة 1910 المكسيكية هي النموذج الأخص لهذا الشكل من الحركة المناهضة للإمبريالية.
بوجه عام، فإن تأزم النظام الإمبريالي الذي عرف تمزقات داخلية متتالية -هزيمة روسيا القيصرية في الحرب ضد اليابان في سنتي 1904-1905، ثورة عام 1905 الروسية، الحرب العالمية الأولى، ثورة عام 1917 الروسية، ظهور الحركة الجماهيرية في الهند والصين، أزمة سنوات 1929-1932 الاقتصادية، الحرب العالمية الثانية، هزائم الإمبريالية الغربية على يد الإمبريالية اليابانية في سنتي 1941-1942، هزيمة الإمبريالية اليابانية في سنة 1945- تأزم النظام الإمبريالي هذا قد حفز حركة التحرر القومي في البلدان التابعة حفزا قويا. وقد تلقت هذه الحركة دفعها الرئيسي عند انتصار الثورة الصينية عام 1949.
إن المشكلات التكتيكية والاستراتيجية التي تنجم عن ظهور حركة التحرر القومي في البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة، بالنسبة للحركة العمالية العالمية (والمحلية في البلدان التابعة)، سوف يتم تناولها بصورة أكثر تفصيلا في الفصل العاشر، النقطة 4، والفصل الثالث عشر، النقطة 4. أما هنا فنكتفي بالتأكيد على أن الواجب الخاص للحركة العمالية في البلدان الإمبريالية هو أن تؤيد بلا شروط كل حركة وكل عمل فعلي تقوم بهما جماهير البلدان المستعمَرة والشبه المستعمَرة ضد الاستغلال والاضطهاد اللذين تعاني منهما على يد الدول الإمبريالية. هذا الوالجب يقتضي تمييزا صارما بين الحروب الإمبريالية، وهي حروب رجعية، وحروب التحرر القومي التي هي حروب عادلة بصرف النظر عن القوة السياسية التي تقود الشعب المضطهد في هذه المرحلة من النضال أو تلك، وينبغي على البروليتاريا العالمية في هذه الحروب أن تعمل لأجل انتصار الشعوب المضطهدة.
5-الاستعمار الجديد
إن ازدهار حركة التحرر القومي غداة الحرب العالمية الثانية قد جر الإمبريالية إلى تعديل أشكال سيطرتها على البلدان المتخلفة. فقد تحولت هذه السيطرة تدريجيا من سيطرة مباشرة إلى غير مباشرة. وقد تقلص بسرعة عدد المستعمرات بحصر المعنى، التي تديرها الدول الاستعمارية مباشرة. وانتقل هذا العدد، في غضون عقدين، من حوالي السبعين إلى بعض الوحدات فقط. وانهارت بمعظمها الإمبراطوريات الاستعمارية الإيطالية والبريطانية والهولندية والفرنسية وأخيرا البرتغالية والإسبانية.
لم يحصل طبعا زوال الإمبراطوريات الاستعمارية هذا دون مقاومة دموية ومضادة للثورة من قبل قطاعات هامة من الرأسمال الإمبريالي. تشهد على ذلك الحروب الاستعمارية الدموية التي خاضتها الإمبريالية الهولندية في أندونيسيا، والإمبريالية البريطانية في ماليزيا وفي كينيا، والإمبريالية الفرنسية في الهند الصينية وفي الجزائر، كما تشهد عليه «الحملات» الأقصر مدة لكن التي لا تقل دموية لحملة السويس سنة 1956 ضد مصر. غير أن هذه الأعمال المشؤومة تبدو تاريخيا كمعارك رجعية. يقينا أن الاستعمار المباشر كان محكوما عليه بالوزال.
بيد أن زواله لا يعني البتة تفكك النظام الإمبريالي العالمي. بل يستمر هذا النظام في الوجود، وإن في أشكال معدلة. فتبقى الغالبية العظمى من البلدان شبه المستعمرة محصورة في تصدير المواد الأولية. وتظل خاضعة لجميع النتائج المضرة للتبادل الاستغلالي غير المتساوي. ويستمر التباعد، بدل التقارب، بين درجة تطور هذه البلدان ودرجة تطور البلدان الإمبريالية . ويزداد بعد المسافة بين القسم «الشمالي» والقسم «الجنوبي» من الكرة الأرضية، من حيث الدخل الفردي ومستوى الرفاهية.
هذا ويقتضي تحول السيطرة الإمبريالية المباشرة إلى سيطرة إمبريالية غير مباشرة على البلدان المتخلفة، إشراكا أوثق للبرجوازية الصناعية «القومية» في استغلال الجماهير الكادحة في هذه البلدان، ويستتبع أيضا إسراعا ما لسيرورة التصنيع في جملة من البلدان شبه المستعمرة. هذا ينجم في آن واحد عن تبدل موازين القوى السياسية (أي أنه يشكل تنازلا محتما للنظام تحت ضغط الجماهير المتعاظم) وعن تبدل المصالح الأساسية للمجموعات الإمبريالية الرئيسية بذاتها.
إن طبيعة البضائع المصدرة من قبل البلدان الإمبريالية قد شهدت بالفعل تبدلا هاما. وأصبحت فئة «الآلات والسلع التجهيزية ووسائل النقل» تحتل فيها الصدارة بعد أن كانت تحتلها فئتا السلع الاستهلاكية والفولاذ. والحال أنه يستحيل أن تصدر التروستات الاحتكارية الرئيسية قدرا أكبر فأكبر من الآلات إلى البلدان التابعة دون أن تحفز فيها بعض أشكال التصنيع (المحصور إجمالا وبوجه خاص في صناعة السلع الاستهلاكية).
ومن جهة أخرى، فإن الشركات متعددة القوميات تجد في إطار استراتيجيتها العالمية مصلحة في الانغراس في عدد من البلدان التابعة لتحتل فيها السوق منذ البدء تقريبا، نظرا لتوسع المبيعات اللاحق الذي تتوقعه. هكذا تتعمم صيغة المنشآت المشتركة (joint-ventures) بين الرأسمال الإمبريالي والرأسمال الصناعي «القومي» في تلك البلدان، أكان رأسمالا خاصا أو رأسمال دولة، حيث تشكل هذه الصيغة إحدى ميزات البنية شبه الاستعمارية. ويزداد بالتالي ثقل الطبقة العاملة في المجتمع.
هذه البنية تظل منخرطة في منظومة إمبريالية قاسية واستغلالية. ويبقى التصنيع محدودا، حيث تكاد «سوقه الداخلية» لا تتعدى إجمالا ما بين 20% و25% من السكان: الطبقات الميسورة + التقنيون والكوادر، الخ + الفلاحون الأغنياء. ويضل بؤس الجماهير هائلا. فتتزايد التناقضات الاجتماعية بدل أن تتقلص: من هنا تبقى طاقة الانفجارات الثورية المتتالية في البلدان التابعة.
في هذه الشروط، تكتسب شريحة اجتماعية جديدة أهمية: أنها بيروقراطية الدولة التي «تدير» إجمالا قطاعا مؤمما هاما وتنصب نفسها ممثلة للاهتمامات القومية تجاه الخارج، لكنها تستغل في الواقع احتكارها للإدارة لتجري تراكمها الخاص على نطاق واسع.
*******
المراجع:
لينين، الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمالية.
تروتسكي، الثورة الدائمة.
تروتسكي، الأممية الثالثة بعد لينين.
ر. لكسمبورغ، تراكم الرأسمال (الفصول الستة الأخيرة).
ن. بوخارين، الإمبريالية والاقتصاد العالمي.
جاليه، الإمبريالية عام 1970.
ب.سلامة، سيرورة التخلف.
ب. باران، الاقتصاد السياسي للتنمية.
هوبت-لوفي-فايل، الماركسيون والمسألة القومية (نصوص مختارة).
ميخايل برات-براون، بعد الإمبريالية.
--------------------------------------------------------------------------------
8- نشأة الحركة العمالية الحديثة
منذ أن وجد عمال مأجورون، أي قبل تكون الرأسمالية الحديثة بكثير، حصلت ظاهرات صراع طبقي بين أرباب العمل والعمال. فالصراع الطبقي ليس بنتاج نشاطات تحريضية من قبل أفراد «يدعون إليه». بالعكس، فإن مذهب الصراع الطبقي هو نتاج ممارسة الصراع الطبقي التي سبقته.
1- الصراع الطبقي الأولي للبروليتاريا
تتمحور التجليات الأولية لصراع الأجراء الطبقي حول مطالب ثلاثة على الدوام. هذه المطالب هي التالية:
أ. زيادة الأجور. وهي وسيلة فورية لتعديل توزيع الناتج الاجتماعي بين أرباب العمل والعمال لصالح الأجراء.
ب. إنقاص ساعات العمل دون تخفيض الأجر، وهي وسيلة مباشرة أخرى لتعديل هذا التوزيع لصالح الشغيلة.
ج. حرية التنظيم. ففي حين يستحوذ رب العمل، مالك رأس المال ووسائل الإنتاج، على القوة الاقتصادية، يجد العمال أنفسهم منزوعي السلاح طالما هم يخوضون فيها بينهم صراعا تنافسيا للحصول على عمل. ضمن هذه الشروط، تصب «قواعد اللعبة» في صالح الرأسماليين على وجه الحصر، الذين يستطيعون تخفيض مستوى الأجور قدر ما يشاءون، فيما يضطر العمال للقبول بها خشية فقدان عملهم، وبالتالي لقمة عيشهم.
ليس للشغيلة فرصة الحصول على منافع من خلال النضال الذي يواجهون به أرباب العمل، إلاّ عن طريق إلغاء هذه المنافسة التي تفرق بينهم، ورفضهم جميعا أن يعملوا ضمن شروط غير ممكن قبولها. إن التجربة تعلمهم سريعا أنه إن لم تكن لهم حرية التنظيم، كانوا منزوعي السلاح في مواجهة الضغط الرأسمالي.
لقد اتخذ الصراع الطبقي الأولي الذي يخوضه البروليتاريون طابعا تقليديا يتمثل بالرفض الجماعي للعمل، أي بالإضراب. وينقل لنا مدونو أخبار قصص إضرابات حدثت في مصر والصين القديمتين. لدينا كذلك وقائع إضرابات حدثت في مصر في ظل الإمبراطورية الرومانية، لاسيما في القرن الأول من التاريخ الميلادي.
2- الوعي الطبقي الأولي للبروليتاريا
إن تنظيم إضراب يتطلب على الدوام درجة ما -أولية- من التنظيم الطبقي. يتطلب على وجه الخصوص معرفة أن خلاص كل من الأجراء يتوقف على عمل جماعي، وهو حل قائم على التضامن الطبقي، بالتعارض مع الحل الفردي (المتمثل بمحاولة زيادة الربح الفردي دون اهتمام بدخول بقية الأجراء).
هذه المعرفة هي الشكل الأولى للوعي الطبقي البروليتاري. يضاف إلى ذلك أن المأجورين يتعلمون فطريا خلال تنظيم إضراب أن ينشئوا صناديق مساعدة. يتم إنشاء صناديق مساعدة والتعاون هذه أيضا للتخفيف قليلا من عدم استقرار الوجود العمالي، وللسماح للبروليتاريين بالدفاع عن أنفسهم خلال فترات البطالة، الخ. تلك هي الأشكال الأولية للتنظيم الطبقي.
إلاّ أن هذه الأشكال الأولية من الوعي والتنظيم الطبقيين لا تتطلب وعي الأهداف التاريخية للحركة العمالية، ولا فهم ضرورة عمل سياسي مستقل من جانب الطبقة العاملة.
هكذا تجد الأشكال الأولى للعمل السياسي العمالي موقعها إلى أقصى يسار الراديكالية البرجوازية الصغيرة. إن مؤامرة المتساوين التي نظمها غراكوس بابوف [34]، والتي تمثل أول حركة سياسية حديثة تهدف إلى تجميع وسائل الإنتاج، ظهرت إبان الثورة الفرنسية إلى أقصى يسار اليعاقبة.
يهيئ لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية London Corresponding Society التي حاولت تنظيم حركة تضامن مع الثورة الفرنسية. إلاّ أن القمع البوليسي تمكن من سحق المنظمة المذكورة. لكن نشأت على الفور، بعد نهاية الحروب النابوليونية، رابطة الاقتراع العام التي تشكلت في منطقة مانشستر-ليفربول الصناعية من عمال على وجه الخصوص، وكانت إلى أقصى يسار الحزب الراديكالي (البورجوازي الصغير). لقد تسارع بعد أحداث بيترلو الدامية في عام 1817 انفصال حركة عمالية مستقلة عن الحركة البورجوازية الصغيرة، ونشأ هكذا بعد قليل الحزب الشارطي أول حزب عمالي بصورة أساسية، يطالب بالاقتراع العام.
3- الاشتراكية الطوباوية
تلك الحركات الأولية للطبقة العاملة قادها كلها إلى حد بعيد عمال بالذات، أي عصاميون autodidactes كانوا غالبا ما يصوغون أفكار ساذجة حول موضوعات تاريخية واقتصادية واجتماعية، تتطلب دراسات علمية متينة كي تتم معالجتها بعمق. تطورت تلك الحركات إذا على هامش التطور العلمي في القرنين 17 و18. على عكس ذلك، وفي إطار هذا التطور العلمي بالذات تقع جهود أوائل المفكرين الكبار الطوباويين من أمثال توماس مور (مستشار إنكلترا في القرن 16)، وكامبانيلا (كاتب إيطالي في القرن 17)، وروبيرت أوين، وشارل فورييه وسان سيمون (كتّاب في القرنين 18 و19). حاول هؤلاء الكتّاب أن يجمعوا كل معارف عصرهم العلمية ليقوموا بصياغة:
أ. نقد حاد للا مساواة الاجتماعية، لا سيما تلك التي تميز المجتمع البورجوازي (وهو ما يعني أوين وفورييه وسان سيمون)
ب. مخطط تنظيم مجتمع متساو، قائم على الملكية الجماعية.
بهدين الوجهين لعمل كبار الاشتراكيين الطوباويين، يشكل هؤلاء الرواد الحقيقيين للاشتراكية الحديثة. إلاّ أن ضعف نظامهم يكمن في:
أ. واقع أن المجتمع المثالي الذي يحلمون به (من هنا تعبير الاشتراكية الطوباوية) ينطرح كمثل أعلى مطلوب بناؤه وبلوغه دفعة واحدة عبر جهد للفهم يبذله الناس وإرادة حسنة، وذلك من دونما علاقة بالتطور التاريخي الذي يؤدي إليه المجتمع الرأسمالي بالذات إلى هذا الحد أو ذاك.
ب. واقع أن تفسيرات الظروف التي ظهرت خلالها اللا مساواة الاجتماعية والتي يمكن أن تختفي خلالها، هي تفسيرات ناقصة علميا وتقوم على عوامل ثانوية (العنف، الأخلاق، المال، علم النفس، الجهل، الخ)، ولا تنطلق من المشكلات البنيوية الاقتصادية والاجتماعية، مشكلات التفاعل بين علاقات الإنتاج ومستوى تطور قوى الإنتاج.
4- ولادة النظرية الماركسية -البيان الشيوعي
في هذين الحقلين بالذات، نرى أن إرساء النظرية الماركسية في الأيديولوجية الألمانية (1845)، وخصوصا، في البيان الشيوعي (1847) الذي وضعه ماركس وإنجلز، إنما يشكل تقدما حاسما. فمع النظرية الماركسية، يتجسد الوعي الطبقي العمالي في نظرية علمية من المستوى الأرفع.
لم يكتشف ماركس وإنجلز مفهومي الطبقة الاجتماعية والصراع الطبقي، فهذان المفهومان كان يعرفهما الاشتراكيون الطوباويون وبورجوازيون آخرون من مثل المؤرخين الفرنسيين تييري وغيزو. بيد أنهما شرحا علميا أصل الطبقات، وأسباب تطور الطبقات، وواقع إمكان تفسير التاريخ الإنساني بكامله انطلاقا من مفهوم صراع الطبقات، وعلى وجه الخصوص الشروط المادية والمعنوية التي بموجبها يمكن لانقسام المجتمع إلى طبقات أن يخلي المجال لمجتمع اشتراكي خال من الطبقات.
لقد فسرا من جهة أخرى كيف أن تطور الرأسمالية بالذات يهيء لمجيء مجتمع اشتراكي، ويهيئ القوى المادية والأدبية التي تضمن انتصار المجتمع الجديد. لا يعود هذا المجتمع يظهر مذاك كمجرد محصلة لأحلام الناس ورغباتهم، بل كالناتج المنطقي لتطور التاريخ البشري.
هكذا يمثل البيان الشيوعي شكلا أسمى من الوعي الطبقي البروليتاري. يعلّم الطبقة العاملة أن المجتمع الاشتراكي سوف يكون ناتج صراعها الطبقي ضد البورجوازية. إنه يعلمها ضرورة ألاّ تكتفي بالنضال من أجل زيادة الأجور، وأن تعمل بالتالي لإلغاء العمل المأجور. يعلمها على وجه الخصوص ضرورة تشكيل أحزاب عمالية مستقلة، وأن تستكمل عملها المتمثل بمطالب اقتصادية بعمل سياسي على الصعيدين القومي والأممي.
لقد ولدت الحركة العمالية الحديثة إذا من الاندماج بين الصراع الطبقي الأولي للطبقة العاملة والوعي الطبقي البروليتاري البالغ درجته العليا من التعبير المتجسدة في النظرية الماركسية.
5- الأممية الأولى
هذا الاندماج هو مآل كل تطور الحركة العمالية الأممية بين الخمسينات والثمانينات من القرن 19.
وخلال ثورات 1848 التي هزت أركان معظم بلدان أوروبا، لم تظهر الطبقة العاملة في أي مكان، ما عدا في ألمانيا (في جمعية الشيوعيين الصغيرة، التي كان يقودها ماركس) كحزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة. كانت تسير في كل مكان في ذيل الراديكالية البورجوازية الصغيرة، إلاّ أنها انفصلت في فرنسا عن هذه الأخيرة إبان أيام يونيو الدامية عام 1848، دون أن تتمكن من تشكيل حزب سياسي مستقل (كانت المجموعات الثورية التي شكلها أوغست بلانكي نواته إلى هذا الحد أو ذاك). واثر سنوات الردة الرجعية التي تلت هزيمة ثورة 1848، كانت المنظمات النقابية والتعاونية التابعة للطبقة العاملة هي التي تطورت قبل كل شيء في معظم البلدان، باستثناء ألمانيا، حيث سمح التحريض من أجل الاقتراع العام للاسال أن يشكل حزبا سياسيا عماليا هو الجمعية العامة للشغيلة الألمان.
لقد اندمج ماركس والمجموعة الصغيرة من نصرائه اندماجا حقيقيا مع الحركة العمالية الأولية في ذلك العصر بتأسيس الأممية الأولى عام 1864، وقد هيأوا بذلك تشكيل الأحزاب الاشتراكية في معظم بلدان أوروبا. ومن قبيل المفارقة البالغة أن الأحزاب التي اجتمعت لتشكيل الأممية الأولى لم تكن أحزابا عمالية. إن تشكيل هذه الأخيرة هو الذي سمح بالتجميع القومي لمجموعات محلية ونقابية انضمت إلى الأممية الأولى.
وحين تصدعت الأممية بعد هزيمة كومونة باريس احتفظ العمال الطليعيون بوعي ضرورة تجمع من هذا النوع على المستوى القومي. وخلال السبعينات والثمانينات، وبعد العديد من المحاولات الفاشلة، تشكلت نهائيا أحزاب اشتراكية مستندة إلى الحركة العمالية الأولية في ذلك الزمن. وكانت الإستثناءات المهمة الوحيدة لهذه السيرورة هي بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، فالأحزاب الاشتراكية التي تشكلت فيهما في ذلك العصر بالذات بقيت على هامش حركة نقابية كانت قد أصبحت قوية. ولم يظهر حزب العمال المستند إلى النقابات في بريطانيا إلاّ في القرن العشرين. وفي الولايات المتحدة، ما يزال إنشاء حزب من هذا النوع هو المهمة الملحة للحركة العمالية.
6-الأشكال المختلفة لتنظيم الحركة العمالية
يسمح لنا هذا بأن نوضح أن النقابات وشركات التعاون mutualites والأحزاب الاشتراكية قد ظهرت تقريبا كالنواتج العفوية المحتومة للنضال داخل المجتمع الرأسمالي، وأن الأمر يتوقف في النهاية على عوامل متعلقة بالتراث والأحوال القومية إذا كان شكل ما يتطور قبل شكل آخر.
أمّا التعاونيات فليست الناتج العفوي للصراع الطبقي، بل ناتج المبادرة التي قام بها روبيرت أوين ورفاقه عام 1844 حين أسسوا أول تعاونية في روشدال في إنكلترا.
إن أهمية الحركة التعاونية لا تنكر، لا فقط لأنه يمكنها أن تكون مدرسة تسيير عمالي للاقتصاد بالنسبة للطبقة العاملة، بل خصوصا لأنها يمكن أن تهيئ داخل المجتمع الرأسمالي بالذات حل واحدة من المشكلات الأكثر صعوبة في المجتمع الاشتراكي، مشكلة التوزيع. بيد أنها تنطوي في الوقت ذاته على طاقة كامنة خطيرة من المنافسة الاقتصادية داخل النظام الرأسمالي مع مشاريع رأسمالية، وهي منافسة لا يمكن إلاّ أن تؤدي إلى نتائج مشؤومة بالنسبة إلى الطبقة العاملة وخصوصا إلى تخريب الوعي الطبقي البروليتاريا.
7- كومونة باريس
تلخص كومونة باريس كل الاتجاهات التي برزت في أصل الحركة العمالية الحديثة وفي أوائل تفتحها. لقد ولدت من الحركة العمالية الجماهيرية العفوية لا من خطة أو برنامج وضعهما حزب عمالي بصورة مسبقة، وبيّنت اتجاه الطبقة العاملة لتخفي الطور الاقتصادي الصرف من نضالها -إن الأصل المباشر للكومونة سياسي للغاية، وهو يتمثل في حذر عمال باريس تجاه البورجوازية المتهمة بنيتها تسليم المدينة للجيوش البروسية التي كانت تحاصرها- وذلك بالدمج المستمر للمطالب الاقتصادية والمطالب السياسية. حملت الطبقة العاملة للمرة الأولى على استلام السلطة السياسية، ولو على أرض مدينة واحدة. لقد عكست اتجاه الطبقة العاملة لتدمير جهاز الدولة البورجوازي واستبدال الديموقراطية البورجوازية بديموقراطية بروليتارية هي شكل رفيع من الديموقراطية. بيّنت كذلك أنه من دون قيادة ثورية واعية فإن البطولة العارمة التي تعبر عنها البروليتاريا في خضم معركة ثورية تظل غير كافية لضمان النصر.
*******
المراجع:
ماركس وإنجلز، البيان الشيوعي.
إنجلز، من الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية العلمية.
بير، تاريخ الاشتراكية.
ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا.
ليساغاري، كومونة باريس.
مورتون وتيت، تاريخ الحركة العمالية الإنجليزية.
أبندروت، تاريخ الحركة العمالية الأوروبية.
تومسون، تكوّن الطبقة العاملة الإنجليزية.
--------------------------------------------------------------------------------
9- إصلاحات وثورة
إن ولادة الحركة العمالية الحديثة وتطورها داخل المجتمع الرأسمالي يقدمان لنا مثلا عن العمل المتبادل الذي يمارسه الواحد حيال الآخر، كل من الوسط الاجتماعي الذي يتواجد ضمنه الناس، بالاستقلال عن إرادتهم، والعمل الواعي إلى هذا الحد أو ذاك الذي يطورونه لتغيير هذا الوسط.
***
1- التطور والثورة عبر التاريخ
أن التغييرات على صعيد النظام الاجتماعي، التي حدثت عبر العصور، كانت على الدوام نتيجة تغيير مفاجئ وعنيف، بفعل حروب أو ثورات أو شيء من هذه وتلك. ليس من دولة قائمة في أيامنا هذه إلاّ وكانت ناتج هكذا خضات ثورية، فلقد قامت الدولة الأمريكية على قاعدة ثورة 1776 وحرب 1861-1865 الأهلية، ونشأت الدولة البريطانية عن ثورة 1648 وثورة 1689، والدولة الفرنسية عن ثورات 1789 و1830 و1848 و1870، والدولة البلجيكية عن ثورة 1830. والدولة النيرلندية عن ثورة البلدان الواطئة في القرن 16، والدولة الألمانية عن حروب 1870-1871، و1914-1918 و1939-1945، وعن ثورات 1848 و1918 الخ..
إلاّ أنه من قبيل الخطأ الافتراض أنه يكفي استخدام العنف للتمكن من تغيير البنية الاجتماعية حسب مشيئة المقاتلين. فلكي تقوم ثورة بإحداث تغيير حقيقي في المجتمع وفي ظروف حياة الطبقات الكادحة، ينبغي أن يسبقها تطور يخلق داخل المجتمع القديم القواعد المادية (الاقتصادية والتقنية و…) والبشرية (الطبقات الاجتماعية المتميزة ببعض السمات النوعية الخاصة بها) للمجتمع الجديد، إذ حين لا تتوفر تلك القواعد، تنتهي الثورات، مهما تكن عنيفة، إلى وضع تعيد معه إنتاج الظروف التي هدفت إلى إلغائها.
إن الانتفاضات الفلاحية الظافرة التي تتعاقب على امتداد التاريخ الصيني تقدم لنا المثال الكلاسيكي على هذا الواقع، فهي تمثل في كل مرة رد فعل الشعب ضد المظالم والأعباء الضريبية التي لا تطاق، التي كانت تلحق بالفلاحين في فترات انحطاط السلالات المتعاقبة التي حكمت الإمبراطورية السماوية. وقد كانت تؤدي تلك الانتفاضات إلى قلب سلالة ووصول أخرى إلى السلطة، منبثقة غالبا عن قادة الانتفاضة الفلاحية ذاتهم، كما كانت الحال مع سلالة الهانيين.
إن السلالة الجديدة تشرع بإرساء شروط معيشة أفضل بالنسبة للفلاحين. لكن بقدر ما تتوطد سلطتها وتتدعم إدارتها، تزيد نفقات الدولة، وهو ما يستتبع زيادة الضرائب، فيشرع الماندرينيون [35]، الذين يدفع لهم في البداية صندوق الدولة، بإساءة استخدام سلطتهم ويقتطعون لأنفسهم ملكيات اعتباطية على حساب أراضي الفلاحين، ناهبين منها ريعا «عقاريا» يضاف إلى الضريبة.
هكذا تعقب عقودا من الحياة الفضلى عودة الفلاحين إلى مهاوي البؤس. إن انعدام حدوث «قفزة إلى الأمام» على صعيد قوى الإنتاج، وغياب تطور صناعة حديثة قائمة على استخدام الآلات، يفسران هذا الطابع الدوري للثورات الاجتماعية في الصين القديمة، واستحالة توصل الفلاحين إلى تحرر طويل الأمد.
2-التطور والثورة في الرأسمالية الحديثة
لقد نجمت الرأسمالية المعاصرة هي الأخرى عن الثورات الاجتماعية والسياسية، ونعني بذلك الثورات البورجوازية الكبرى التي توالت بين القرنين 16 و18، والتي كانت في أساس قيام الدولة القومية. لقد مهد لهذه الثورات تطور سابق تمثل بنمو قوى الإنتاج داخل المجتمع الإقطاعي، تلك القوى التي غدت متعارضة مع استمرار القنانة والنقابات الحرفية والتضييقات المفرطة على التداول الحر للسلع.
لقد ولّد هذا التطور كذلك طبقة اجتماعية جديدة هي البورجوازية الحديثة التي تدربت على النضال السياسي في إطار كومونة القرون الوسطى، والمناوشات التي كانت تتم في ظل الملكية المطلقة، قبل الانطلاق في طريق الاستيلاء على السلطة السياسية.
إن المجتمع البورجوازي يتصف عند نقطة معينة من نموه بتطور يمهد حتما لثورة اجتماعية جديدة.
فعلى المستوى المادي، تنمو قوى الإنتاج إلى الحد الذي تصبح معه أكثر فأكثر تصادما مع الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج الرأسمالية. إن نمو الصناعة الكبيرة، وتركز الرأسمال وخلق التروستات، والتدخل المتزايد من جانب الدولة البورجوازية بغية «تنظيم» مسيرة الاقتصاد الرأسمالي، تمهد الطريق أمام تشريك (التملك الجماعي) وسائل الإنتاج، وأمام تسييرها من جانب المنتجين المتشاركين بالذات، وفقا لخطة موضوعة مسبقا.
أمّا على الصعيد البشري (الاجتماعي) فتتكون وتتوطد طبقة تجمع شيئا فشيئا كل الميزات المطلوبة لتحقيق هذه الثورة الاجتماعية: «إن الرأسمالية تنتج مع البروليتاريا حفاري قبورها» هذه البروليتاريا المتركزة في مشاريع كبرى فاقدة أي أمل بالارتقاء الاجتماعي الفردي، تكتسب عبر نضالها الطبقي اليومي تلك الصفات الأساسية، المتمثلة بالتضامن الجماعي والتعاون والانضباط في العمل، التي تسمح بإعادة تنظيم أساسية لكل الحياة الاقتصادية والاجتماعية.
وكلما تفاقمت التناقضات الملازمة للرأسمالية كلما احتدم الصراع الطبقي، وكلما مهد تطور الرأسمالية طريق الثورة، كلما أخذ وجهة انفجارات متنوعة (اقتصادية واجتماعية وسياسية وعسكرية ومالية، الخ..) يمكن للبروليتاريا أن تعمل خلالها لانتزاع السلطة السياسية وإنجاز الثورة الاجتماعية.
3- تطور الحركة العمالية الحديثة
إلاّ أن تاريخ الرأسمالية وتاريخ الحركة العمالية لم يتبعا خطا واضحا ومستقيما بالقدر الذي كان يأمله الماركسيون حوالي عام 1880.
إن التناقضات الداخلية للاقتصاد والمجتمع في البلدان الإمبريالية لم تحتدم فورا. على العكس من ذلك، شهدت أوروبا الغربية والولايات المتحدة ما بين هزيمة كومونة باريس واندلاع الحرب العالمية الأولى مرحلة طويلة من الازدهار لقوى الإنتاج، بطيء تارة، ومتسارع طورا، غطى «النشاط التدميري» لتناقضات النظام الداخلية وطمسه.
تلك التناقضات انفجرت بعنف عام 1914، وقد كان بين علاماتها الأولى على وجه الخصوص ثورة 1905 الروسية والإضراب العام لشغيلة النمسا في العام ذاته. إلاّ أن التجربة المباشرة للشغيلة والحركة العمالية في تلك البلدان لم تكن تعكس تعمقا لتناقضات النظام، بل على العكس الاعتقاد بتطور تدريجي، سلمي إلى حد بعيد ولا رجعة فيه، للتقدم نحو الاشتراكية (لم يكن الأمر هو ذاته في أوروبا الشرقية، من هنا الوزن المحدود لتلك الأوهام في بلدانها المختلفة).
لا شك أن الأرباح الكولونيالية الفائضة التي راكمها الإمبرياليون سمحت لهم بتقديم إصلاحات لشغيلة البلدان الغربية. إلاّ أنه ينبغي أن نأخذ بالحسبان عوامل أخرى لفهم هذا التطور.
إن الهجرة الواسعة نحو البلدان البعيدة وازدهار الصادرات الأوروبية وجهة سائر بلدان المعمور حدث على المدى الطويل من «ضخامة جيش الاحتياط الصناعي». لقد تحسنت هكذا موازين القوى بين رأس المال والعمل، في «سوق العمل»، لصالح الشغيلة، مما خلق قواعد لازدهار نقابية جماهيرية لا تقتصر على العمال المتخصصين وحدهم. لقد ارتعبت البورجوازية إزاء كومونة باريس والإضرابات العنيفة في بلجيكا (1886-1893)، والصعود الذي لا يقاوم في الظاهر للاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، كما عملت على تهدئة الجماهير المنتفضة عن طريق إصلاحات اجتماعية.
كانت النتيجة العملية للتطور المشار إليه حركة عمالية في الغرب تكتفي على الصعيد العملي بالنضال من أجل إصلاحات ممكنة التحقيق فورا: من مثل زيادة الأجور وتدعيم التشريع الاجتماعي وتوسيع الحريات الديموقراطية، الخ… كانت تلك الحركة تحول المعركة من أجل ثورة اجتماعية إلى حقل الدعاية الأدبية وتربية الكادرات. توقفت هكذا عن إعداد نفسها بصورة واعية للثورة الاشتراكية، معتقدة أنه تكفي تقوية المنظمات الجماهيرية للبروليتاريا لكي تلعب هذه القوة العملاقة آليا، «ما أن تحل ساعة الحسم»، دورا ثوريا.
4- الانتهازية الإصلاحية
لم تكتف الأحزاب والنقابات الجماهيرية في أوروبا الغربية بأن تعكس تطورا مؤقتا لصراعات طبقية محصورة بمعظمها في حقل الاصلاحات، لقد أصبحت بدورها قوة سياسية زادت من حدة تكيف الحركة العمالية الجماهيرية مع الرأسمالية «المزدهرة» للبلدان الإمبريالية. أهملت الانتهازية الاشتراكية-الديموقراطية عملية إعداد الشغيلة للتغيرات المفاجئة في المناخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي التي كانت تعلن عن نفسها، وأصبحت هكذا عاملا مهما سهل استمرار الرأسمالية على قيد الحياة في خضم سنوات 1914-1923.
تجلت الانتهازية على الصعيد النظري عن طريق مراجعة للماركسية أطلقها رسميا إدوارد برنشتاين («الحركة كل شيء، الهدف لا شيء») الذي كان يطلب من الاشتراكية-الديموقراطية أن تتخلى عن كل نشاط عدا ذلك الذي يتوخى إحداث إصلاحات في صلب النظام. أمّا «الحركة الماركسية الوسطية» المتمحورة حول كاوتسكي فقد كافحت النزعة المراجعة، إلاّ أنها قدمت لها في الوقت ذاته العديد من التنازلات، لاسيما عن طريق تبرير ممارسة للأحزاب والنقابات كانت تقترب أكثر فأكثر من النزعة المراجعة.
لقد تجلت الانتهازية على الصعيد العملي بقبول التحالف الانتخابي مع أحزاب بورجوازية «ليبرالية»، وبالقبول التدريجي للمشاركة الوزارية في حكومات تحالف مع البورجوازية، وبانعدام نضال منسجم ضد الاستعمار وتجليات أخرى للإمبريالية. إذا كانت هذه الانتهازية قد تلقت ضربة قاسية من نتائج ثورة 1905 في روسيا، فقد تجلت على وجه الخصوص في ألمانيا برفض الموافقة على اقتراح روزا لوكسمبورغ تفجير إضرابات جماهيرية لأهداف سياسية. كانت تعكس في الواقع المصالح الخاصة بجهاز بيروقراطي إصلاحي (نواب اشتراكيون ديموقراطيون، وموظفون في الحزب والنقابات حصلوا على مكاسب وفيرة داخل المجتمع البورجوازي).
ويدل هذا المثال على أن اكتساح الانتهازية الإصلاحية للحركة العمالية لم يكن أمرا محتوما. لقد كان بالإمكان القيام بنشاطات غير برلمانية وبإضرابات أكثر فأكثر اتساعا خلال السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى، وكان بإمكان تلك النشاطات أن تعد الجماهير العمالية للمهام التي طرحها الصعود الثوري عند نهاية تلك الحرب.
5- ضرورة بناء حزب طليعي
تثبت التجربة هكذا العناصر الأساسية للنظرية اللينينية حول حزب الطليعة. إذا كان للطبقة العاملة أن تنخرط بذاتها في نضالات طبقية بالغة الاتساع حول أهداف فورية، وإذا كان بإمكانها أن تبلغ مستوى أوليا من الوعي الطبقي، فلا يمكنها أن تصل تلقائيا إلى الأشكال العليا من الوعي الطبقي السياسي، التي لا غنى عنها من أجل توقع المنعطفات المفاجئة للوضع الموضوعي للتمكن من إنجاز مهام الحركة العمالية التي تترتب عليها، والتي لا غنى عنها كذلك للانتصار على المناورات البورجوازية وعلى كل التأثيرات التي يمكن أن تمارسها الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة على الجماهير الكادحة.
زد على ذلك أن الحركة الجماهيرية تمر حتما بحاولات متفاوتة فالجماهير الواسعة لا تبقى على الدوام عند مستوى مرتفع من النشاط السياسي. إن منظمة جماهيرية تسعى للتكيف مع المستوى المتوسط من نشاط تلك الجماهير ووعيها سوف تلعب إذا دورا كابحا لتفتح النشاط الثوري الذي لا يتم إلا في فترات محددة.
لهذه الأسباب جميعا لا غنى عن بناء منظمة طليعية للطبقة العاملة، لا غنى عن بناء حزب ثوري. هذا الحزب سوف يبقى أقليا في الأزمنة العادية، إلاّ أنه سيبقى على استمرارية نشاط مناضليه وعلى مستوى وعيهم. سوف يسمح بالحفاظ على مكاسب التجربة النضالية وبنشرها في الطبقة، ويظل مشدودا نحو نضالات ثورية قادمة، ويرى في تهيئة تلك النضالات رسالته الأساسية، وهو سيسهل هكذا إلى حد بعيد حدوث الانعطافات في ذهنية الشغيلة المنظمين والجماهير الكادحة الواسعة وفي سلوكها، وهي الانعطافات التي تتطلبها التبدلات المفاجئة للوضع الموضوعي.
طبعا،لا يمكن لأحزاب طليعية كهذه أن تحل محل الجماهير للسعي وراء تحقيق ثورة اجتماعية بالنيابة عنها. «لا يمكن لتحرير الشغيلة أن يكون إلاّ على أيدي الشغيلة أنفسهم». إن كسب أغلبية الشغيلة إلى جانب برنامج الحزب الثوري واستراتيجيته وتكتيكه هو الشرط المسبق الذي لا بد منه لكي يتمكن حزب طليعي من لعب دوره بالكامل.
لن يكون هذا الكسب ممكنا بصورة طبيعية إلاّ في لحظات «حارة» من الأزمنة ما قبل الثورية أو الثورية «يشير إليها» إنفجار حركات جماهيرية عفوية ضخمة. لذا ليس من تعارض مطلق بين عفوية الجماهير وضرورة بناء منظمة ثورية طليعية، فهذه الأخيرة تستند إلى تلك العفوية وتواصلها وتكملها وتسمح لها بالانتصار عن طريق تركيز كل طاقتها على النقطة الحساسة، المتمثلة بقلب السلطة السياسية والاقتصادية لرأس المال.
6- الثوريون إزاء النضال من أجل الإصلاحات
لقد تطورت، داخل شرائح أقلية في الحركة العمالية والطبقة العاملة، مواقف يسارية متطرفة ترفض أي نضال من أجل تحقيق الإصلاحات، وذلك كرد فعل تجاه الانتهازية الإصلاحية.
إن النزعة الإصلاحية لا تتماثل إطلاقا مع النضال من أجل الإصلاحات، في نظر الماركسيين الثوريين، فالإصلاحية هي وهم إلغاء الرأسمالية تدريجيا، عن طريق مراكمة الإصلاحات. إلاّ أنه يمكن دمج المساهمة في نضالات لتحقيق إصلاحات فورية مع إعداد الطليعة العمالية لنضالات مناهضة لرأس المال يصل حجمها إلى حد التسبب بأزمة ثورية في المجتمع.
إن الرفض الجذري لكل نضال من أجل إنجاز إصلاحات يستتبع القبول السلبي بتردي وضع الطبقة العاملة، إلى أن يأتي اليوم الذي تصبح هذه قادرة فيه على قلب النظام الرأسمالي بضربة واحدة. هذا الموقف هو في الوقت ذاته طوباوي ورجعي.
هو طوباوي لأنه يتجاهل أن الشغيلة المنقسمين على أنفسهم وفاقدي المعنويات، يوما بعد يوم، بفعل عجزهم عن الدفاع عن مستوى معيشتهم، وعن عملهم وحرياتهم وحقوقهم الأولية، ليسوا بقادرين أبدا على مواجهة ظافرة حيال طبقة اجتماعية تمتلك الثروة والتجربة السياسية، هي البورجوازية الحديثة. وهو رجعي لأنه يخدم موضوعيا قضية رأس المال وأرباب العمل الذين لهم مصلحة في خفض الأجور والإبقاء على بطالة كثيفة وإلغاء النقابات وحق الإضراب فيما لو ترك الشغيلة أنفسهم يتحولون إلى عبيد مكتوفي الأيدي.
يرى الماركسيون الثوريون في تحرر الشغيلة وقلب الرأسمالية نهاية مطاف حقبة من القوة التنظيمية المتزايدة لدى البروليتاريا، والتماسك والتضامن الطبقي المضاعف، والثقة المتنامية بقواها الخاصة. ولا يمكن لهذه التحولات الذاتية أن تنجم عن الدعاية وحدها أو التربية الفكرية. إنها حاصل نجاحات متراكمة إبان نضالات يومية هي النضالات من أجل الإصلاحات.
ليست الإصلاحية الناتج الآلي لتلك النضالات أو النجاحات. إنها نتيجتها في حالة واحدة تتحقق حين تمتنع الطليعة العمالية عن تربية الطبقة على فكرة ضرورة إطاحة النظام، حين تمتنع عن مكافحة تأثير الأيديولوجيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية داخل الطبقة العاملة، وعن الانخراط عمليا في نضالات جماهيرية غير برلمانية معادية لرأس المال تستهدف تجاوز طور الإصلاحات.
لابد للأسباب ذاتها من أن ينشط الثوريون في النقابات الجماهيرية ويناضلوا لتقوية المنظمات النقابية لا لإضعافها.
طبعا، تكون النقابات عاجزة عادة عن الإعداد لمعارك ثورية وعن تنظيمها، فليست تلك وظيفتها، إلاّ أنها ضرورية للدفاع عن مصالح الشغيلة يوما بيوم في وجه مصالح رأس المال. إن النضال الطبقي اليومي لا يختفي، حتى في عصر انحطاط الرأسمالية، فبدون نقابات قوية تضم جزءا عظيما من الطبقة العاملة، يتمتع أرباب العمل بفرص كبيرة للخروج منتصرين من تلك المناوشات اليومية. إن التشكك والحذر، من جانب الجماهير العمالية الواسعة حيال قواها الخاصة بها، اللذين ينتجان عن تجارب بائسة كهذه، يضران إلى حد بعيد بنمو وعي طبقي رفيع لدى تلك الجماهير.
يضاف إلى ذلك أن العمل النقابي لم يعد يتقوقع حتما في دائرة النضال من أجل رفع الأجور، ومن أجل خفض عدد ساعات العمل، في عصر الرأسمالية الحديثة، إذ أنه تواجه الشغيلة يوما بعد يوم مشكلات اقتصادية شاملة تؤثر على مستوى حياتهم، من مثل التضخم وإغلاق المعامل والبطالة وتسريع وثائر العمل ومحاولات الدولة للحد من ممارسة حق الإضراب والتفاوض الحر بخصوص الأجور، الخ… هكذا تجد النقابة نفسها مجبرة على اتخاذ موقف، عاجلا أو آجلا، من كل تلك المسائل، فتصبح إذا مدرسة تربية للطبقة العاملة تتناول بين ما تتناول مشكلات شاملة تطرحها الرأسمالية والاشتراكية. تصبح حلبة تتواجه فيها اتجاهات مؤيدة للتعاون الطبقي الدائم، لا بل لدمج النقابات في الدولة البورجوازية، واتجاهات نضال طبقي ترفض إلحاق مصالح الشغيلة بـ«مصلحة عامة» مزعومة، ليست سوى مصلحة رأس المال وقد تم تمويهها قليلا. وبما أن الثوريين المنخرطين في اتجاه الصراع الطبقي يدافعون ضمن هذه الشروط عن المصالح المباشرة للجمهور الكبير، في وجه محاولات حرف النقابات عن وظيفتها الأساسية، فإن لديهم حظا بالتأثير المتنامي داخل النقابات، شريطة أن يعملوا بصبر ومثابرة وألا يتخلوا عن حقل العمل الجماهيري هذا للبيروقراطيين والإصلاحيين واليمينيين من كل الأنواع.
يسعى الثوريون لكي يكونوا أفضل النقابيين أي لكي يضغطوا باتجاه تبني النقابات وأعضائها للاقتراحات المتعلقة بأهداف النضال وأشكال تنظيم النضالات، تلك الاقتراحات الأكثر توافقا مع المصالح الطبقية الفورية للشغيلة. إنهم لا يتوانون أبدا عن الدفاع عن تلك المصالح الفورية، في حين يطورون بلا انقطاع دعايتهم العامة لصالح الثورة الاشتراكية التي لا يمكن بدونها توطيد أي مكسب عمالي، ولا تقديم حل نهائي لأي مشكلة حيوية تخص الطبقة العاملة.
زد على ذلك أن البيروقراطية النقابية الأكثر فأكثر اندماجا في الدولة البورجوازية، والتي تعمد أكثر فأكثر إلى إحلال سياسة مصالحة طبقية و«سلام اجتماعي» محل مهمتها الأصلية المتمثلة بالدفاع الذي لا يلين عن مصالح أعضاء النقابات، تتولى إضعاف النقابة موضوعيا إذ تدوس بأقدامها يوما بعد يوم مشاغل وقناعات المنتسبين إليها. إن النضال من أجل الديموقراطية النقابية والنضال من أجل نقابية قائمة على الصراع الطبقي يتكاملان هكذا بصورة منطقية، في خضم المعارك اليومية.
******
المراجع:
لينين، ما العمل؟
لينين، «اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي.
روزا لوكسمبورغ، إصلاح أم ثورة؟
روزا لوكسمبورغ، الإضراب الجماهيري.
ل. تروتسكي، النقابات في مرحلة انحطاط الرأسمالية.
ج. لوكاش، لينين.
--------------------------------------------------------------------------------
10/ الديموقراطية البورجوازية والديموقراطية البروليتارية
1- الحرية الاقتصادية والحرية السياسية
إن الحرية السياسية والحرية الاقتصادية مفهومان متساويات في نظر الكثيرين ممن لا يفكرون بهذه المسألة، وهو ما تؤكده العقيدة الليبرالية على وجه الخصوص، هذه العقيدة التي تزعم اليوم اصطفافها «بجانب الحرية» في جميع الحقول، وبالطريقة ذاتها.
إلاّ أنه إذا أمكن تحديد الحرية السياسية بسهولة، بحيث لا تستتبع حرية البعض استعباد الغير، فليس الأمر هو ذاته بالنسبة للحرية الاقتصادية. إن لحظة من التفكير تبرهن أن معظم مظاهر هذه «الحرية الاقتصادية» تستتبع اللا مساواة على وجه التحديد، وحرمان جزء كبير من المجتمع من إمكانية الاستمتاع بهذه الحرية بالذات.
إن حرية شراء عبيد وبيعهم تفترض أن يكون المجتمع منقسما إلى مجموعتين: مجموعة العبيد ومجموعة أسياد العبيد، وتفترض حرية تملك وسائل الإنتاج الكبرى تملكا شخصيا وجود طبقة اجتماعية مضطرة لبيع قوة عملها، إذ ما الذي يمكن أن يفعله مالك مصنع كبير لو لم يكن أحد مضطرا للعمل لحساب الغير؟
لقد دافع بورجوازيو عصر صعود الرأسمالية المنسجمون مع أنفسهم عن مبدأ حرية تشغيل الأطفال في سن العشر سنوات بالأعمال المنجمية، وحرية إجبار الشغيلة على الكد ما بين 12 و14 ساعة في اليوم، إلاّ أنهم حظروا بشدة حرية واحدة، هي حرية تجمع الشغيلة التي منعها في فرنسا قانون لوشابلييه الذي تم تبنيه في أوج الثورة الفرنسية، بحجة تحظير كل التكتلات من أصل حرفي [36].
تختفي هذه التناقضات الظاهرة في الأيديولوجية البورجوازية منذ يعاد تنظيم كامل تلك المواقف حول موضوعة مركزية واحدة، تتمثل بالدفاع عن الملكية والمصلحة الطبقية الرأسماليتين. تلك هي قاعدة الأيديولوجية البورجوازية بمجملها، لا مجرد دفاع حازم عن «مبدأ» الحرية.
يظهر هذا بوضوح أكبر في تاريخ حق التصويت، فالبرلمانية الحديثة نشأت كتعبير عن حق البورجوازية في فرض رقابتها على النفقات العامة التي تمولها الضرائب التي تتولى هي دفعها. لقد أعلنت إبان ثورة 1649 الإنكليزية أن «لا ضرائب دون تمثيل» (برلماني) [37]، واستتبع ذلك منطقيا إنكار حق الطبقات الشعبية، التي لا تدفع ضرائب، بأن تدلي بأصواتها. الا يجد ممثلوها «الديماغوجيون» أنفسهم مدفوعين للتصويت «باستمرار» لصالح نفقات جديدة، طالما يتولى دفعها آخرون؟
مجددا نقول أن ما يوجد في أساس الأيديولوجية البورجوازية ليس مبدأ مساواة كل المواطنين في الحقوق (إن حق التصويت الذي يتمتع به دافعو الضرائب يدوس هذا المبدأ بالكثير من الوقاحة) ولا مبدأ الحرية السياسية المضمونة للجميع، بل مبدأ الدفاع عن الخزانات المالية وكبار المتمولين!
2- الدولة البرجوازية في خدمة مصالح رأس المال الطبقية
هكذا لم يكن صعبا إبان القرن 19 التوجه إلى الشغيلة بشرح مفاده أن الدولة البرجوازية لم تكن يوما «حيادية» في الصراع الطبقي، ولم تكن «حكما» بين رأس المال والعمل، وهي المكلفة بالدفاع عن «المصلحة العامة»، لا بل أنها مثلت أداة للدفاع عن مصالح رأس المال في وجه مصالح العمل.
لقد كان حق التصويت موقوفا على البرجوازية وحدها، ولها وحدها الحق المطلق لرفض تشغيل الشغيلة. وما أن أضرب العمال ورفضوا بمجموعهم بيع قوة عملهم بالشروط التي يمليها رأس المال، حتى ووجهوا برجال الدرك أوالجيش الذين أطلقوا عليهم النار. لقد كانت العدالة عدالة طبقية بما لا يقبل الشك، فالبرلمانيون والقضاء وكبار الضباط وكبار الموظفين الاستعماريين والوزراء والمطارنة كانوا ينتمون جميعا إلى الطبقة الاجتماعية ذاتها، وكانوا يرتبطون فيما بينهم جميعا بالروابط ذاتها، عنينا روابط المال والمصلحة، لا بل العائلة. أما الطبقة العاملة فكانت مستبعدة كليا عن هذا العالم الجميل!
تعدل هذا الوضع بدءا من اللحظة التي انطلقت فيها الحركة العمالية الحديثة، واكتسبت قوة تنظيمية مرهونة، وانتزعت حق التصويت العام عن طريق نضالات مباشرة فرضت نفسها (إضرابات سياسية في بلجيكا والنمسا والسويد وهولندا وإيطاليا، الخ.). أصبح للطبقة العاملة تمثيل واسع في البرلمان (وهي وجدت نفسها مجبرة بذلك على أن تدفع حصة أكبر من الضرائب، إلاّ أن هذه قصة أخرى). ثمة أحزاب عمالية إصلاحية تشارك في حكومات تحالف مع البرجوازية، إلاّ أنها بدأت تشكل أحيانا حكومات مؤلفة من ممثلين لأحزاب اشتراكية-ديموقراطية على وجه الحصر (بريطانيا، سكاندينافيا).
مذ ذاك أصبح وهم قيام دولة «ديموقراطية» فوق الطبقات تكون «حكما» حقيقيا و«مصالحا» للتعارضات الطبقية، أمرا مقبولا بشكل أسهل داخل الطبقة العاملة، وأنها لإحدى الوظائف الأساسية للنزعة الإصلاحية المراجعة أن تنشر تلك الأوهام بصورة واسعة. لقد كان ذلك حكرا على الاشتراكية-الديموقراطية في الماضي، إلا أنّ الأحزاب الشيوعية المنخرطة في طريق إصلاحي جديد تنشر اليوم النوع ذاته من الأوهام.
إلاّ أن الطبيعة الحقيقية للدولة البرجوازية، حتى الأكثر «ديموقراطية» تظهر للعيان حالا إذا تفحصنا في الوقت ذاته مسارها العملي والشروط المادية لهذا المسار.
إنه لنموذجي أنه كلما انتزعت الجماهير الكادحة حق الاقتراع العام ودخل الممثلون العماليون إلى البرلمان بقوة كلما انتقل مركز ثقل الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية من البرلمان إلى جهاز الدولة البرجوازي الدائم: «الوزراء يأتون ويمضون، أمّا الشرطة فتبقى».
والحال أن جهاز الدولة هذا يفرز توحدا كاملا مع البرجوازيتين الوسطى والكبرى، بالطريقة التي يتم بها اختيار قياداته، وبتلك التي ينظم تسلسله وفقا لها، وبقواعد الاختيار والمهنة التي تحكمه. ثمة وشائج أيديولوجية واجتماعية واقتصادية لا تنفصم تشد هذا الجهاز إلى الطبقة البرجوازية، فكل الموظفين الكبار يقبضون معاشات تسمح لهم بمراكمة خاصة لرأس المال لا بأس بها، ولو كانت متواضعة أحيانا، وهو ما يحفز هؤلاء الأشخاص بالذات، على الصعيد الفردي، للدفاع عن الملكية الخاصة، ويثير اهتمامهم بسير الاقتصاد الرأسمالي سيرا حسنا.
يضاف إلى ذلك أن الدولة القائمة على البرلمانية البرجوازية تنشد كليا إلى رأس المال بواسطة السلاسل الذهبية للتبعية المالية والدين العام. ولا يمكن لأي حكومة برجوازية أن تحكم دون اللجوء باستمرار إلى التسليف الذي تشرف عليه المصاريف ورأس المال المالي والبرجوازية الكبرى. إن أي سياسة معادية للرأسمالية تكتفي حكومة إصلاحية برسم خطوطها العريضة تصطدم فورا بالتخريب المالي والاقتصادي من جانب الرأسماليين. فـ«إضراب التثميرات»، وهرب الرساميل، والتضخم، والسوق السوداء، وهبوط الإنتاج، والبطالة، تنجم جميعها عن هذا الرد في مهلة زمنية قصيرة جدا.
إن تاريخ القرن العشرين بمجمله يؤكد استحالة استخدام البرلمان البرجوازي والحكومة المرتكزين إلى الملكية الرأسمالية والدولة البرجوازية استخداما منطقيا في وجه البرجوازية. فكل سياسة تود أن تتبع عمليا طريقا مناهضة للرأسمالية تصطدم سريعا بخيار مصيري: أمّا الاستسلام لقدرة رأس المال تحت تأثير الابتزاز والتهويل، أو تحطيم جهاز الدولة البرجوازية وإحلال التملك الجماعي لوسائل الإنتاج محل علاقات الملكية الرأسمالية.
3- حدود الحريات الديموقراطية البورجوازية
ليس صدفة أن تكون الحركة العمالية في طليعة النضال من أجل الحريات الديموقراطية في القرنين 19 و20. فالحركة العمالية إذ تدافع عن الحريات تدافع في الوقت ذاته عن أفضل شروط ارتقائها، والطبقة العاملة هي الطبقة الأكبر عددا في المجتمع المعاصر. إن اكتساب الحريات الديموقراطية يسمح لها بأن تنظم نفسها وتضمن إلى جانبها العدد الأكبر من الناس، وترجح كفتها أكثر فأكثر في موازين القوى.
زد على ذلك أن الحريات الديموقراطية التي ثم انتزاعها في ظل النظام الرأسمالي تمثل المدرسة الفضلى للديموقراطية الجوهرية التي سوف يستمتع بها الشغيلة لاحقا، بعد إطاحة مملكة رأس المال.
يتكلم تروتسكي، وهو محق، على «خلايا الديموقراطية البروليتارية داخل الديموقراطية البرجوازية» التي تمثلها التنظيمات الجماهيرية للطبقة العاملة، وقدرة الشغيلة على عقد مؤتمراتهم وتسيير مواكبهم وتنظيم إضرابات ومظاهرات جماهيرية وامتلاكهم صحافتهم ومدارسهم ومسارحهم وصالاتهم السينمائية، الخ.
ولكن تهم معرفة حدود الديموقراطية البرلمانية البرجوازية مهما تكن متقدمة، لأن الحريات الديموقراطية تكتسب بالضبط أهمية جوهرية في نظر الشغيلة.
فالديموقراطية البرلمانية البرجوازية هي ديموقراطية غير مباشرة قبل كل شيء، يعد بالآلاف من الوكلاء فقط، أو بعشرات الآلاف (نوابا وشيوخا ومختارين وعمدا وأعضاء مجالس البلديات أو مجالس عامة، الخ) من يشاركون في ظلها بإدارة الدولة، بينما تحرم من تلك المشاركة أكثرية المواطنين الساحقة، التي تكمن سلطتها الوحيدة في وضع بطاقة الاقتراع في صندوق كل أربع سنوات أو خمس.
ثم إن المساواة السياسية في ديموقراطية برلمانية برجوازية هي مساواة شكلية لا أكثر، وليست مساواة حقيقية. فمن حيث الشكل، يتمتع الغني والفقير «بالحق» ذاته، «حق» تأسيس جريدة يكلف إصدارها مئات الملايين من الفرنكات، ومن حيث الشكل يتمتع الغني والفقير بـ«الحق» ذاته، حق شراء فترة ظهور على شاشة التلفزيون، وبـ«القدرة» ذاتها في التأثير على الناخبين. إلاّ أنه لما كانت الممارسة العملية لتلك الحقوق تفترض مسبقا تحريك وسائل مادية ذات شأن فليس لغير الغني وحسب أن يتمتع بها كليا. سوف ينجح الرأسمالي في التأثير على عدد كبير من الناخبين الذين يرتبطون به ماديا، وفي شراء صحف ومحطات إذاعة أو فترات بث تلفزيوني، بفضل إمكاناته المالية. سوف «يقبض على ناصية» برلمانيين وحكومات بقوة رأسماله.
حتى لو طرحنا جانبا في نهاية المطاف كل هذه الحدود التي تقف عندها الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، ولو افترضنا خاطئين أنه لا ينقصها شيء، يبقى أنها ليست أكثر من ديموقراطية سياسية. لكن ما نفع مساواة سياسية بين الغني والفقير -وهي مساواة لا علاقة لها بالواقع- إذا كانت تتطابق في الوقت ذاته مع لامساواة اقتصادية واجتماعية عظيمة، لا تنفك تتعاظم، وذلك منذ أكثر من نصف قرن، لا بل منذ أكثر من قرن؟ حتى لو كان الأغنياء والفقراء يتمتعون بالحقوق السياسية ذاتها، فالأولون يحتفظون مع ذلك بسلطة اقتصادية واجتماعية عظيمة لا يمتلكها الأخيرون، سلطة تخضع الأخيرين للأولين حتما في الحياة اليومية.
4- القمع والديكتاتوريات البرجوازية
إن الطبيعة الطبقية للدولة المرتكزة إلى الديموقراطية البرلمانية البرجوازية تبدو واضحة تماما حين نتفحص دورها القمعي. فنحن نعرف ما لا يحصى من النزاعات الاجتماعية التي تدخل فيها رجال الشرطة والدرك والجيش بغية «تحطيم» فرق إضراب، وتفريق مظاهرات عمالية، وإخلاء معامل يحتلها الشغيلة وإطلاق النار على المضربين، بينما لا نعرف حالة واحدة تدخلت فيها الشرطة والدرك أو جيش البرجوازية لتوقيف أرباب عمل يصرفون عمالا، أو لمساعدة شغيلة على احتلال معامل أغلقها رأس المال، أو لإطلاق النار على برجوازيين ينظمون غلاء المعيشة أو هرب الرساميل أو الغش الضريبي.
سوف يرد المدافعون عن الديموقراطية البرجوازية بأن العمال أنتهكوا حرمة «القانون» في كل الحالات آنفة الذكر، وأنهم كانوا يهددون «النظام العام» الذي يفترض بقوى القمع أن تدافع عنه. أمّا نحن فنجيب بأن ذلك يؤكد تماما أن «القانون» ليس حياديا على الإطلاق، بل هو قانون برجوازي يحمي الملكية الرأسمالية، وأن قوى القمع في خدمة تلك الملكية، لذا فهي تتصرف بصورة مختلفة جدا حسبما يكون العمال، أو الرأسماليون هم الذين يقترفون انتهاكات شكلية بحق «القانون»، وأنه لا شيء يثبت بأفضل من ذلك الطابع البرجوازي قبل كل شيء الذي تتسم به الدولة.
لا تلعب أجهزة القمع في الظروف العادية أكثر من دور هامشي في الحفاظ على النظام الرأسمالي، لا سيما أن هذا النظام يحظى باحترام فعلي، في الحياة اليومية، من جانب الغالبية العظمى للطبقات الكادحة. إلاّ أن الأمر يختلف كليا في فترات الأزمات الحادة (أكانت اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو عسكرية أو مالية)، حين يكون النظام الرأسمالي عرضة لهزات عميقة، وحين تبدي الطبقات الكادحة إرادتها في إسقاط النظام، أو حين لا يعود هذا الأخير قادرا على العمل بشكل طبيعي.
إذ ذاك يتصدر القمع المسرح السياسي، وتظهر الطبيعة الأساسية للدولة البرجوازية فجأة بكل عريها: مجموعة من الناس المسلحين في خدمة رأس المال. هكذا تتأكد قاعدة أكثر عمومية في تاريخ المجتمعات الطبقية: فكلما كان هذا المجتمع أكثر استقرارا كلما أمكنه منح حريات شكلية متنوعة للمضطهدين، وكلما كان عديم الاستقرار تهزه أزمات عميقة كلما كان عليه أن يمارس السلطة السياسية عن طريق العنف الصريح.
هكذا نلاحظ أن تاريخ القرنين 19 و20 هو تاريخ العديد من تجارب القمع، تمارسها الديكتاتوريات البرجوازية ضد الحريات الديموقراطية للشغيلة، سواء كانت ديكتاتوريات عسكرية أو بونابرتية أو فاشية، إلاّ أنّ الديكتاتورية الفاشية هي الشكل الأكثر شراسة وهمجية للديكتاتورية الموضوعة في خدمة رأس المال الكبير.
تتميز هذه الديكتاتورية على وجه الخصوص بكونها لا تكتفي بإلغاء الحريات المتعلقة بالمنظمات الثورية أو الراديكالية للطبقة العاملة، بل تسعى كذلك إلى تحطيم كل شكل من أشكال التنظيم الجماعي لدى الشغيلة، ومن أشكال مقاومتهم، بما فيها النقابات وأشكال الإضرابات الأكثر بدائية. إنها تتميز كذلك بواقع أن محاولة تذرير الطبقة العاملة لا يمكن أن تحضى بالفعالية عن طريق الاستناد فقط إلى جهاز القمع التقليدي (الجيش والدرك والشرطة والقضاة)، بل هي تحتاج إلى عصابات مسلحة خاصة تنبثق هي الأخرى عن حركة جماهيرية، هي حركة البرجوازية الصغيرة المفقرة، التي أيأستها الأزمة والتضخم، والتي لم تفلح الحركة العمالية في جرها إلى خندقها عبر سياسة هجوم جريئة في مواجهة رأس المال.
ولا يمكن للطبقة العاملة وطليعتها الثورية أن تكونا حياديتين إزاء صعود الفاشية، بل عليهما أن تستميتا في الدفاع عن حرياتهما الديموقراطية. لذا عليهما أن تشكلا جبهة موحدة تضم كل المنظمات العمالية، بما فيها أكثرها إصلاحية واعتدالا، من أجل مواجهة صعود الفاشية وسحق الوحش الشرير وهو ما يزال في البيضة. عليهما أن يخلقا وحداتهما للدفاع الذاتي في وجه عصابات رأس المال المسلحة، وإلاّ يثقا بحماية الدولة البرجوازية. إن الطريق من أجل الحؤول دون الهمجية الفاشية المؤدية إلى معسكرات الاعتقال والمذابح وعمليات التعديب، من بوشنفالد إلى أوشويتز، إنما تكمن في بناء المليشيات العمالية المستندة إلى جماهير الشغيلة، بحيث تضم كل المنظمات العمالية وتمنع أي محاولة فاشية لإرهاب قطاع من القطاعات الجماهيرية أو لكسر إضراب واحد، أو لـ«تخريب» ندوة واحدة لمنظمة عمالية. إن أي نجاح على هذا الطريق يسمح للجماهير الكادحة بالانتقال بجزم إلى الهجوم المضاد وإلى الإجهاز على الخطر الفاشي، وفي الوقت ذاته على النظام الرأسمالي الذي أطلقه وغذاه.
5- الديموقراطية البروليتارية
إن الدولة العمالية وديكتاتورية البروليتاريا والديموقراطية البروليتارية التي يريد الماركسيون أن يحلوها محل الدولة البرجوازية التي تظل في المحصلة النهائية ديكتاتورية البرجوازية حتى وهي تتلبس الشكل الأكثر ديموقراطية، إنما تتميز بتوسيع الحريات الديموقراطية الفعلية لجمهور المواطنين الكادحين لا بالحد منها. لا بد من التذكير بشدة بهذا المبدأ الأساسي، لاسيما بعد التجربة المريعة للستالينية التي دمرت مصداقية الإيمان الديموقراطية التي أقسمتها الأحزاب الشيوعية الرسمية.
سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدول المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما سوف توسع من مساحة الديموقراطية المباشرة. سوف تكون دولة تشرع بالزوال منذ ولادتها، عن طريق تسليم ميادين كاملة من النشاط الاجتماعي إلى التسيير الذاتي والإدارة الذاتية للمواطنين المعنيين (البريد والمواصلات السلكية والصحة والتعليم والثقافة، الخ)، وتشرك جمهور الشغيلة المنظمين في مجالس عمالية في ممارسة السلطة مباشرة، عن طريق إلغاء الحدود الوهمية بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. كما سوف تلغي الاحتراف من الحياة العامة عبر الحد من أجور الموظفين، بمن فيهم من هم في أعلى المناصب، حيث لا تزيد عن أجرة العامل المتخصص المتوسط، وتعيق تشكيل فئة مغلقة جديدة من المدراء -مدى- الحياة عبر إدخال مبدأ التناوب الإلزامي إلى كل انتداب للسلطة.
سوف تكون الدولة العمالية أكثر ديموقراطية من الدولة القائمة على الديموقراطية البرلمانية، بمقدار ما ستخلق القواعد المادية لممارسة الجميع للحريات الديموقراطية. تصبح المطابع ومحطات الإذاعة والتلفزيون وقاعات الاجتماع ملكية جماعية وتوضع تحت التصرف الفعلي لكل مجموعة من الشغيلة تطلبها. إن حق خلق العديد من المنظمات السياسية، بما فيها المنظمات المعارضة، وخلق صحافة معارضة، والسماح للأقليات السياسية بالتعبير عن آرائها عبر الصحافة والاداعة والتلفزيون، هذا الحق سوف تدافع عنه المجالس العمالية دفاع المستميت. أمّا التسليح العام للجماهير الكادحة وإلغاء الجيش الدائم وأجهزة القمع، وانتخاب القضاة، والعلنية التامة لكل المحاكمات، فسوف تكون الضمانة الأقوى للحيلولة دون تمكن أي أقلية من ادعاء حق استبعاد أي مجموعة من المواطنين الكادحين من ممارسة الحريات الديموقراطية.
*******
مراجع:
كارل ماركس، الحرب الأهلية في فرنسا.
لينين، الدولة والثورة.
لينين، الثورة البروليتارية، والمرتد كاوتسكي.
ل. تروتسكي، كتابات عن ألمانيا.
المؤتمر الخامس للأممية الرابعة: موضوعات حول انحدار الستالينية وسقوطها (تضم وصفا مفصلا لمؤسسات الديموقراطية البروليتارية في ظل ديكتاتورية البروليتاريا).
--------------------------------------------------------------------------------
11/ الحرب العالمية الأولى والثورة الروسية
إن اندلاع الحرب العالمية الأولى قد مثل الإشارة الأكثر وضوحا إلى أن الرأسمالية قد دخلت في طور انحدارها، فكل ما استطاعت أن تؤدي إليه من تقدم للبشرية يتعرض مذ ذاك للتهديد. يتم تدمير دوري لموارد مادية عظيمة: الحرب العالمية، الأزمة الاقتصادية لأعوام 1929-1932، الحرب العالمية الثانية، الحروب الإستعمارية، والعديد من أزمات الركود الاقتصادي. إن استمرار الرأسمالية على قيد الحياة ينتهي إلى مجازر حقيقية للأرواح البشرية. والديكتاتوريات الدامية، أكانت عسكرية أو فاشية، تأخذ في طريقها مكتسبات الثورات الديموقراطية البرجوازية الكبرى. إن البشرية أمام خيار مصيري فأما الاشتراكية وأمّا الهمجية.
***
1- الحركة العمالية العالمية حيال الحرب الإمبريالية
خلال العقد الذي سبق عام 1914، اجتهدت الأممية الاشتراكية وكل الحركة العمالية الأممية في تربية الجماهير الكادحة وتعبئتها ضد صعود تهديدات الحرب. فسباق التسلح وتزايد النزاعات «المحلية» وتفاقم التناقضات في الصفوف الإمبريالية أنذرت بالانفجار الوشيك. لقد ذكرت الأممية الشغيلة من كل البلدان بأن مصالحهم مشتركة وأنه ليس عليهم أن يتحملوا أعباء الخصومات المقرفة بين المالكين، وهي خصومات لأجل اقتسام الأرباح المنهوبة من البروليتاريين ومن شعوب العالم المستعمرة.
بيد أنه حين انفجرت الحرب عام 1914 ألقت القيادات الاشتراكية-الديموقراطية السلاح أمام الموجة الشوفينية التي أطلقتها البورجوازية. لقد التحقت كل منها بمعسكر«ها» الإمبريالي ضد معسكر خصوم برجوازيتها الخاصة بها، ولم تنقصها الأعذار. فالأمر كان يتعلق بالنسبة للقادة الاشتراكيين الديموقراطيين الألمان والنمساويين بحماية الشعوب ضد همجية «الحكم القيصري المطلق»، بينما اعتبر القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون البلجيكيون والفرنسيون والبريطانيون أن النضال ضد «العسكرية البروسية» يتقدم على كل شيء.
إن الاصطفاف الشوفيني في كلا المعسكرين إلى جانب الدفاع القومي عن «الوطن» الإمبريالي قد استتبع وقف الدعاية الاشتراكية الثورية ضد العسكرية، لا بل وقف كل دفاع عن المصالح الطبقية للشغيلة، حتى المباشرة منها. تم إعلان «الوحدة المقدسة» للبروليتاريين والرأسماليين إزاء «العدو الأجنبي». لكن لما كانت تلك «الوحدة المقدسة» والحرب التي خيضت تحت رايتها لم تعدلا في شيء من الطبيعة الرأسمالية، أي الاستغلالية، للاقتصاد والمجتمع، فلقد استتبعت النزعة الاشتراكية-الوطنية القبول العملي لتفاقم ظروف معيشة العمال وشروط عملهم، وللثراء الفاحش للتروستات وغيرها من المستفيدين الرأسماليين من الحرب.
2- الحرب الإمبريالية تصب في الأزمة الثورية
مذ ذاك كان على تناقضات الاشتراكية-الوطنية أن تنفجر سريعا، فالقادة الاصلاحيون الأكثر مكرا برروا مواقفهم بكون الجماهير مؤيدة للحرب وبأن حزبا عماليا جماهيريا عاجز عن الوقوف في وجه المشاعر الشعبية المهيمنة. بيد أنه سرعان ما مالت المشاعر الجماهيرية المهيمنة نحو الاستياء، ومعارضة الحرب، والتمرد. إلاّ أن القادة الاشتراكيين-الوطنيين الألمان من أمثال شايدمان ونوسكي، والفرنسيين من أمثال رونوديل وجول غيسر، لم يفعلوا شيئا حينذاك من أجل «التكيف مع المشاعر المهيمنة داخل الطبقة العاملة». لا بل حاولوا على العكس أن يتحاشوا بجميع الوسائل انفجار الإضرابات والمظاهرات الجماهيرية، داخلين في حكومات تحالف مع البرجوازية، مساعدينها على قمع الدعاية المعادية للنزعة العسكرية والداعية للإضرابات والثورة، مخربين تطور النضالات العمالية. وحين انفجرت بعض الثورات عاد القادة الاشتراكيون-الديموقراطيون، الذين كانوا أيدوا المجازر بحق ملايين الجنود لمصلحة الخزنات المالية، فاكتشفوا من جديد، فجأة، ميلا إلى السلام في أعماقهم وهو ما دفعهم إلى الابتهال إلى العمال كي لا يلجأوا إلى العنف ولا يكونوا سببا في اهراق المزيد من الدماء.
أمّا في بدء الحرب، حين كانت الجماهير مرتبكة بفعل الدعاية البرجوازية وخيانة قيادات تلك الجماهير بالذات، فلم تبق إلاّ قبضة من الاشتراكيين الثوريين أمينة للأممية البروليتارية، رافضة أن تخلط الرايات مع بورجوازية بلدانها. بين هؤلاء الثوريين كارل ليبكنخت وروزا لوكسمبورغ في ألمانيا، مونات وروزمير في فرنسا، لينين وقسم من البلاشفة وتروتسكي ومارتوف في روسيا، والحزب الاشتراكي الديموقراطي في هولندا وماك لين في بريطانيا، ودبس في الولايات المتحدة. كما أن أغلبية الحزب الاشتراكي الديموقراطي في إيطاليا والصرب وبلغاريا حافظت على مواقف أممية.
لقد سقطت الأممية الاشتراكية إلى الحضيض، وعاد الأمميون إلى التجمع في البدء في مؤتمري زيمرفالد (1915) وكينتال (1916)، إلاّ أنهم انقسموا مع ذلك إلى تيارين: التيار الوسطي الذي كان يرغب في الواقع أن يعيد بناء أممية معاد توحيدها مع الاشتراكيين-الوطنيين، والتيار الثوري الذي اتجه نحو تشكيل الأممية الثالثة.
إن لينين، الذي كان روح اليسار الزيمرفالدي، أرسى تحليلاته على اليقين بأن الحرب ستفاقم كل التناقضات داخل النظام الإمبريالي وتؤدي إلى أزمة ثورية واسعة المدى. كان بوسع الأمميين أن يتصوروا ضمن هذا المنظور قلبا مشهودا لموازين القوى بين أقصى اليسار في الحركة العمالية ويمينها.
تلك التوقعات تأكدت منذ عام 1917، فلقد انفجرت الثورة الروسية في مارس من ذلك العام، وانفجرت الثورة في نوفمبر من العام التالي في ألمانيا وفي النمسا-هنغاريا. وفي العامين 1919-1920 شهدت إيطاليا صعودا ثوريا عظيما لا سيما في مناطق الشمال الصناعية. كما اتسع الشرخ بين الاشتراكيين-الوطنيين والأمميين ليصبح شرخا بين الاشتراكيين-الديموقراطيين الرافضين قطع علاقتهم بالدولة البرجوازية وبالرأسمالية، والشيوعيين الميممين وجههم شطر انتصار الثورة البروليتارية وجمهوريات المجالس العمالية. لقد تبنى الأولون موقفا معاديا للثورة بصورة جذرية منذ هددت الجماهير أركان البرجوازية.
3- ثورة فبراير 1917 في روسيا
في فبراير 1917 (مارس حسب التقويم الغربي) تهاوت الاستبدادية القيصرية تحت الضريات المزدوجة لانتفاضات الجوع العمالية، ولتفكك الجيش، أي للمعارضة المتنامية للحرب داخل طبقة الفلاحين. لقد كان وراء إخفاق ثورة 1905 الروسية غياب التلاحم بين الحركة العمالية وحركة الفلاحين، من هنا كان توفر ذلك التلاحم عام 1917 ذا نتائج قاصمة بالنسبة للقيصرية.
لقد لعبت الطبقة العاملة الدور الأساسي في الأحداث الثورية التي تفجرت في فبراير 1917. إلاّ أن افتقادها لقيادة ثورية جعلها تحرم من ثمار انتصارها، فالسلطة التنفيذية التي انتزعت من القيصرية تم تسليمها لحكومة مؤقتة تجمع الأحزاب البرجوازية، وفي مقدمتها حزب الكاديت (الديموقراطيين-الدستوريين)، إلى المجموعات المعتدلة داخل الحركة العمالية (المناشفة والاشتراكيين-الثوريين).
بيد أن حركة الجماهير كانت قوية إلى حد أنها استطاعت امتلاك بنية تنظيمية خاصة بها، تمثلت بمجالس (سوفييتات) مندوبي العمال والجنود والفلاحين يسندها حراس حمر مدججون بالسلاح. هكذا شهدت روسيا منذ فبراير 1917 نظام ازدواجية سلطة فعلية. ففي وجه الحكومة المؤقتة التي تقف على رأس جهاز دولة برجوازية في حالة تفكك بطيء كان هنالك شبكة من السوفييتات تبني سلطة دولة عمالية يوما بعد يوم.
قدمت الأحداث هكذا برهانا ساطعا على صحة التوقع الذي صاغه ليون تروتسكي منذ نهاية ثورة 1905 الروسية، والذي رأى أن روسيا سوف تكتسحها السوفييتات في ثورتها القادمة. كان على الماركسيين الروس والعالميين أن يعيدوا النظر هكذا بتحليلهم للطبيعة الاجتماعية للثورة الروسية القائمة.
هؤلاء الماركسيون كانوا قد اعتبروا أن الثورة الروسية سوف تكون ثورة برجوازية، ذلك أنه لما كانت روسيا بلدا متخلفا فقد بدا لهم أن المهام الأساسية التي على تلك الثورة أن تحلها شبيهة بمهمات الثورات الديموقراطية-البرجوازية الكبرى في القرنين 18 و19، تختصرها شعارات إطاحة الحكم الاستبدادي المطلق، وانتزاع الحريات الديموقراطية والدستور، وتحرير الفلاحين من الرواسب نصف الاقطاعية، وتحرير القوميات المضطهدة وخلق سوق قومية موحدة لضمان الازدهار السريع للرأسمالية الصناعية الذي لا بد منه من أجل تهيئة انتصار ثورة اشتراكية لاحقة. وقد نجم عن ذلك استراتيجية تحالف بين البرجوازية الليبرالية والحركة العمالية، بحيث تكتفي الأخيرة بالنضال من أجل أهداف طبقية مباشرة (يوم عمل من ثماني ساعات، حرية التنظيم والإضراب، الخ.)، في حين تدفع البرجوازية لتستكمل بصورة أكثر جذرية عمل ثورتـ«ها».
لقد رفض لينين هذه الاستراتيجية عام 1905، وذكر بتحليل ماركس لمسلك البرجوازية منذ ثورة 1848، فحين ظهرت البروليتاريا على المسرح السياسي انزلقت البرجوازية إلى المعسكر المضاد للثورة، خوفا من الثورة العالمية. وهو لم يعدل تحليل المهام التاريخية للثورة الروسية، كما صاغها الماركسيون الروس من قبل، إلاّ أنه استنتج من الطابع المعادي للثورة بوضوح، الذي اتخذه مسلك البورجوازية، استحالة إنجاز تلك المهام عن طريق تحالف بين البرجوازية والبروليتاريا. من هنا فهو أحل محل ذلك فكرة التحالف بين البروليتاريا والفلاحين.
4- نظرية الثورة الدائمة
لقد تصور لينين هذه «الديكتاتورية الديموقراطية للعمال والفلاحين» على قاعدة اقتصاد لا يزال رأسماليا وفي إطار دولة لم تزل بورجوازية.
أمّا تروتسكي فقد لاحظ ضعف هذا التصور الكامن في عجز الفلاحين المزمن (الذي وافق عليه لينين بعد عام 1917) عن التشكل في قوة سياسية مستقلة. فعلى امتداد التاريخ الحديث بمجمله تلتحق طبقة الفلاحين على الدوام بقيادة بورجوازية أو بقيادة بروليتارية. فإذا كانت البورجوازية سوف تنتقل حتما إلى معسكر الثورة المضادة، يتوقف مصير الثورة على قدرة البروليتاريا على اكتساب الهيمنة السياسية داخل الحركة الفلاحية، وإرساء التحالف بين العمال والفلاحين بقيادتها هي. بتعبير آخر، لم يكن في وسع الثورة الروسية أن تنتصر وتنجز مهامها الثورية إلاّ إذا استولت البروليتاريا على السلطة السياسية واقامت دولة عمالية، مستندة إلى التحالف مع الفلاحين الكادحين.
تعلن نظرية الثورة الدائمة هكذا أن المهام التاريخية للثورة الديموقراطية-البورجوازية (الثورة الزراعية، الاستقلال القومي، الحريات الديموقراطية، توحيد البلاد لأجل إفساح المجال أمام ازدهار الصناعة) في عصر الإمبريالية لا يمكن أن تتحقق إلاّ عن طريق إرساء ديكتاتورية البروليتاريا المستندة إلى الفلاحين الكادحين، وذلك لأن روابط لا تحصى تشد البورجوازية المسماة «قومية» أو «ليبرالية» في البلدان المتخلفة إلى الإمبريالية الأجنبية من جهة، وإلى الطبقات المالكة القديمة من جهة أخرى. إن هذا التوقع الذي صاغه تروتسكي عام 1906 قد تأكدت صحته كليا في مجرى ثورة 1917 الروسية، كما تأكد كذلك في مجرى كل الثورات التي انفجرت مذ ذاك، في البلدان المتخلفة.
5- ثورة أكتوبر 1917
إن لينين العائد إلى روسيا من المهجر لمِس لمْس اليد الإمكانات الثورية العظيمة، فأعاد توجيه الحزب البلشفي عن طريق «موضوعات أبريل» ضمن خط نظرية الثورة الدائمة: ينبغي النضال من أجل استلام السوفييتات للسلطة، ومن أجل إرساء ديكتاتورية البروليتاريا. هذا الموقف الذي طعن فيه في البدء القادة البلاشفة القدامى (ومن بينهم ستالين وكامينيف ومولوتوف) الذين تمسكوا بصيغ عام 1905، وكانوا يرغبون بالتوحد مجددا مع المناشفة وبتقديم دعم نقدي للحكومة المؤقتة، سرعان ما وافق عليه مجمل الحزب، لا سيما تحت ضغط العمال البلاشفة الطليعيين الذين تبنوه تلقائيا حتى قبل أن يصوغه لينين بصورة واعية. هكذا اندمج أنصار تروتسكي مع البلاشفة، وهبوا جميعا لكسب أغلبية الشغيلة.
بعد تطورات عديدة (انتفاضة يوليوز المبكرة، والانقلاب الفاشل المعادي للثورة الذي قام به الجنرال كورنيلوف في غشت) تحولت تلك الأغلبية لصالح البلاشفة في سوفييتات المدن الكبرى منذ شتنبر 1917. مذ ذاك وضع النضال من أجل الاستيلاء على السلطة على جدول الأعمال. وهو ما تحقق في أكتوبر (نونبر حسب التقويم الغربي) بقيادة اللجنة العسكرية الثورية لمدينة بتروغراد، التي كان يرأسها تروتسكي وتنبثق من سوفييت تلك المدينة.
نجح ذلك السوفييت في أن يضمن مسبقا ولاء كل الفيالق تقريبا، المتمركزة داخل العاصمة القيصرية القديمة، فلقد رفضت تلك الفيالق أن تطيع هيئة أركان الجيش البورجوازي. هكذا رأينا أن الانتفاضة التي تطابق موعدها مع موعد انعقاد المؤتمر الثاني للسوفييتات لعموم روسيا تحققت تقريبا دون اهراق الدماء. تهاوى إلى الحضيض جهاز الدولة القديم والحكومة المؤقتة، بينما صوت المؤتمر الثاني للسوفييتات بأغلبية كبرى على انتقال السلطة لسوفييتات العمال والفلاحين، وللمرة الأولى في التاريخ أقيمت على كامل أرض بلد كبير دولة تتخذ مثالا لها كومونة باريس، دولة عمالية.
6- تحطيم الرأسمالية في روسيا
توقع تروتسكي في نظريته عن الثورة الدائمة أنه لا يمكن للبروليتاريا، بعد أن تستولي على السلطة، الاكتفاء بتحقيق المهام التاريخية للثورة الديموقراطية-البرجوازية، بل يكون عليها أن تبادر إلى الاستيلاء على المعامل وإلغاء الاستغلال الرأسمالي والبدء ببناء مجتمع اشتراكي. وهو ما حدث بالفعل في روسيا بعد أكتوبر 1917.
فبرنامج الحكومة التي تولت السلطة في المؤتمر الثاني للسوفييتات اكتفى للوهلة الأولى بإقامة الرقابة العمالية على الإنتاج، على أساس أن المهام الفورية لثورة أكتوبر هي قبل كل شيء إعادة السلام وتوزيع الأراضي وحل المسألة القومية وخلق سلطة سوفياتية حقيقية على كامل الأراضي الروسية.
إلاّ أن البورجوازية ما لبثت أن بدأت تخرب تطبيق سياسة السلطة الجديدة. أمّا العمال الذين وجدوا أنفسهم أقوى فلم يتسامحوا مع استغلال الرأسماليين، ولا مع تخريبهم. هكذا تم الانتقال سريعا من إرساء الرقابة العمالية إلى تأميم المصارف والمعامل الكبرى ووسائط النقل. وسرعان ما أصبحت كل وسائل الإنتاج -ما خلا تلك العائدة إلى الفلاحين وصغار الحرفيين- بين أيدي الشعب.
كان على تنظيم اقتصاد قائم على الملكية الجماعية لوسائل الإنتاج أن يصطدم حتما بالعديد من الصعوبات في بلد شديد التخلف حيث لم تكن الرأسمالية قد أنجزت ولو من بعيد مهمة خلق الأسس المادية للاشتراكية، وكان البلاشفة واعين هذه الصعوبة وعيا تاما. إلاّ أنهم كانوا على قناعة بأنهم لن يبقوا معزولين لمدة طويلة، فالثورة البروليتارية كانت على وشك الاندلاع في العديد من البلدان المتقدمة صناعيا، ولاسيما في ألمانيا. إن الاندماج بين الثورة الروسية والثورة الألمانية والثورة الإيطالية كان قادرا على خلق قاعدة انطلاق مادية لا تتزعزع لبناء مجتمع لا طبقي.
لقد برهن التاريخ على أن تلك الآمال لم تكن من دون أساس، فالثورة انفجرت عمليا في ألمانيا، وكانت إيطاليا في وضع شبيه جدا بين عامي 1919 و1920. وقد لعبت الثورة الروسية دورها كمفجر ونموذج محفز للثورة الاشتراكية العالمية. إن الاشتراكيين-الديموقراطيين الروس الأوروبيين الذين سخروا فيما بعد معتبرين أن «أحلام» لينين وتروتسكي حول الثورة العالمية كانت من دون أساس، وأنه محكوم على الثورة الروسية أن تنعزل، وأنه من قبيل الطوباوية التفكير ببناء اقتصاد اشتراكي في بلد متخلف، إنما ينسون أن هزيمة الصعود الثوري لعامي 1919-1920 في أوروبا الوسطى لم تكن ناجمة إطلاقا عن غياب النضالات أو العنفوان الثوري لدى الجماهير، بل عن الدور المضاد للثورة الذي لعبته الاشتراكية-الديموقراطية العالمية عن سابق تصور وتصميم.
بهذه المعنى، فإن لينين وتروتسكي ورفاقهما بقيادتهم لبروليتاريا بلد أول نحو الاستيلاء على السلطة السياسية، فعلوا الشيء الوحيد الذي يمكن أن يفعله ماركسيون ثوريون لتعديل موازين القوى لصالح طبقتهم، ألا وهو الاستغلال العميق للفرص الأكثر مناسبة التي توجد في بلد من البلدان، من أجل إطاحة سلطة رأس المال. وهذا لا يكفي بحد ذاته لتقرير مصير الصراع الأممي بين رأس المال والعمل، إلاّ أنه يشكل في كل حال الوسيلة الوحيدة للتأثير على مصير هذا الصراع في اتجاه ملائم لمصالح البروليتاريا.
*******
المراجع:
لينين، خطتا الاشتراكية-الديموقراطية.
لينين، الكارثة المحدقة وكيف نواجهها.
لينين، هل يحتفظ البلاشفة بالسلطة؟
روزا لوكسمبورغ، كراس جونيوس.
روزا لوكسمبورغ، الثورة الروسية.
ليون تروتسكي، تصورات ثلاثة للثورة الروسية/ خطاب كوبنهاغن (1932). (وهما ملخصان لنظرية الثورة الدائمة)
ليون تروتسكي، تاريخ الثورة الروسية.
ليون تروتسكي، الثورة الدائمة.
--------------------------------------------------------------------------------
12/ الستالينية
1- إخفاق الصعود الثوري لأعوام 1918-1923 في أوروبا
عام 1918 انفجرت الثورة العالمية التي انتظرتها البروليتاريا الروسية والقادة البلاشفة، وأقيمت مجالس عمال وجنود في ألمانيا والنمسا. وفي هنغاريا أعلن في مارس 1919 قيام جمهورية المجالس، وفي بافيير خلال شهر أبريل 1919. أما العمال في شمالي إيطاليا، الذين كانوا في حالة غليان متنامية منذ عام 1919 فقد احتلوا كل المصانع في أبريل 1920. واكتسحت تيارات ثورية بلدانا أخرى، من مثل فنلندا وبولونيا وتشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا وبلغاريا. بدت مقدمات إضراب عام في هولندا، بينما أقام العمال في بريطانيا العظمى «التحالف الثلاثي» للنقابات الثلاث الكبرى في البلاد، الذي زعزع أركان الحكم.
إلاّ أن هذه الموجة الثورية انتهت بالإخفاق، وقد كان وراء ذلك الإخفاق الأسباب التالية:
إن روسيا السوفييتات كانت تمزقها الحرب الأهلية، فالملاكون العقاريون القدامى والضباط القيصريون، يدعمهم الرأسماليون الروس والأجانب، حاولوا أن يقلبوا بقوة السلاح أول جمهورية للعمال والفلاحين. من هنا لم يكن بوسع سلطة السوفييتات أن تقدم إلاّ عونا ماديا وعسكريا محدودا للثورات الأوروبية، التي كانت تقاتلها الجيوش الإمبريالية كافة.
لم تتردد الاشتراكية-الديموقراطية العالمية في الانضمام إلى معسكر الثورة المضادة، ساعية بكل أنواع الوعود والمخادعات الممكن تصورها (وعدت في ألمانيا منذ فبراير 1919 بالتشريك الفوري للصناعات الكبرى، وهو ما لم يتحقق على الإطلاق) أن تحرف الشغيلة عن النضال لأجل السلطة. كما لم تتردد كذلك في تنظيم العنف المعادي للثورة، لا سيما عن طريق تنظيم الفرق غير النظامية التي دعاها نوسكي للنجدة في مواجهة الثورة الألمانية، ولقد كانت تلك الفرق نواة العصابات النازية لاحقا.
إن الأحزاب الشيوعية الفتية التي أسست الأممية الثالثة كانت تنقصها التجربة والنضج فاقترفت العديد من الأخطاء «اليسارية» أو اليمينية.
إن البورجوازية التي أرعبها شبح الثورة قدمت تنازلات اقتصادية مهمة للشغيلة دفعة واحدة، لاسيما يوم العمل من ثماني ساعات والاقتراع العام في بلدان عدة، وهو ما أوقف الصعود الثوري في العديد من تلك البلدان.
لقد انتهت الاخفاقات الأولى للثورة بهزائم دامية في هنغاريا حيث رافق سحق جمهورية المجالس اهراق دم غزير، كما في إيطاليا حيث استولت الفاشية على السلطة عام 1922. إلاّ أن الحزب الشيوعي في ألمانيا تقوّى تدريجيا واكتسب قاعدة جماهيرية أكثر فأكثر اتساعا، وانطلق في العامين 1922-1923 لكسب النقابات الكبرى ومجالس المشاريع.
ولقد كان عام 1923 عام أزمة ثورية استثنائية في البلد المذكور، فالجيش الفرنسي احتل الروهر، وتفاقم التضخم، وانفجر إضراب عام ظافر نجح في قلب الحكومة، كما تشكلت حكومة تحالف بين الاشتراكيين اليساريين والشيوعيين في ساكس وتورينج. إلاّ أن الحزب الشيوعي الذي أساءت الأممية الشيوعية نصحه فشل في التنظيم المنهجي للانتفاضة المسلحة في اللحظة المناسبة، فاستطاع رأس المال الكبير أن يعيد تثبيت الوضع واستقرار المارك، وأن يعيد إلى السلطة تحالفا بورجوازيا، مما أدى إلى وضع حد للأزمة الثورية لما بعد الحرب.
2- صعود البيروقراطية السوفياتية
لقد خرجت روسيا السوفياتية منتصرة من الحرب الأهلية عام 1920-1921، إلاّ أنها خرجت منهكة من تلك الحرب، فالإنتاج الزراعي والصناعي انخفض بشكل ذريع وأصابت المجاعة مناطق واسعة من البلاد. وبانتظار صعود جديد للثورة العالمية، ومن أجل تقديم العلاج لهذا الوضع، قرر لينين وتروتسكي القيام بتراجع اقتصادي. فلقد أبقى على الملكية المؤممة بما يخص الصناعة الكبرى بمجملها والمصارف ونظام النقل، إلاّ أنه أعيدت حرية التجارة بصدد الفوائض الزراعية بعد تمام دفع الضريبة العينية، بالإضافة إلى الأعمال الحرفية والتجارة والطناعية الصغيرة الخاصة.
كان البلاشفة ينظرون إلى ذلك على أنه مجرد عمل مؤقت حسبوا مخاطره على الصعيد الاقتصادي، إذ أنه كان بإمكان البرجوازية الصغيرة المغتنمة أن تعيد باستمرار إنتاج التراكم الرأسمالي الخاص. إلاّ أن النتائج الاجتماعية والسياسية لانعزال الثورة البروليتارية في بلد متخلف كانت أكثر رهبة من تلك المخاطر الاقتصادية. وهي تتلخص كالتالي: لقد فقدت البروليتاريا الروسية يوما بعد يوم الممارسة المباشرة للسلطة السياسية والاقتصادية. بدأت شريحة جديدة ذات امتيازات تعتلي ظهرها، وقد اكتسبت هذه البيروقراطية احتكارا حقيقيا لممارسة السلطة في كل حقول المجتمع.
لم تكن تلك السيرورة نتيجة مؤامرة عن سابق تصور وتصميم، بل نجمت عن تفاعل مجموعة من العوامل. فلقد ضعفت البروليتاريا عدديا بفعل انخفاض الإنتاج الصناعي والنزوح إلى الريف، كما فقدت تسيسها جزئيا تحت وطأة الجوع والحرمانات. أمّا عناصرها الأكثر وعيا فامتصها الجهاز السوفياتي، وكان الكثير من أفضل أفرادها قد سقطوا في الحرب الأهلية. إن تلك الفترة المضطربة بمجملها لم تكن مناسبة لتكوين الكادرات المتميزة تقنيا وثقافيا داخل الطبقة العاملة. هكذا احتفظت الأنتليجنسيا البورجوازية الصغيرة والبورجوازية باحتكارها للمعارف، ذلك أن فترة قحط عظيم ملائمة لاكتساب امتيازات مادية والدفاع عنها.
لا نعتقد أن هذه السيرورة قد بقيت خارج إدراك الماركسيين الثوريين الروس، فمنذ عام 1920 قرعت المعارضة العمالية داخل الحزب الشيوعي السوفياتي جرس الإنذار، وطرحت في الوقت ذاته حلولا غير مناسبة إلى حد بعيد. ومنذ عام 1921 أصبح شغل لينين الشاغل التفكير بالخطر البيروقراطي، وكان يسمي الدولة الروسية دولة عمالية مشوهة بيروقراطيا ويشير شبه عاجز إلى سطوة البيروقراطية الوليدة على جهاز الحزب بالذات. ومنذ عام 1923 تشكلت المعارضة اليسارية التروتسكية التي سوف تجعل من النضال ضد البيروقراطية نقطة من النقاط الأساسية في برنامجها.
وقد يكون من قبيل الخطأ الاعتقاد أن صعود البيروقراطية السوفياتية يمثل ظاهرة حتمية، فإذا كانت تغرز جذورا عميقة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي الروسي في أوائل العشرينات، فقد كان ممكنا في الوقت ذاته مجابهتها مع حظوظ نجاح حقيقية. كان برنامج المعارضة اليسارية التروتسكية يتجه بمجمله لخلق شروط ملائمة لتقويم الوضع من جديد.
أ- عن طريق تسريع تصنيع روسيا، بزيادة الوزن النوعي للبروليتاريا في المجتمع.
ب- بزيادة الأجور ومكافحة البطالة بغية تنمية ثقة الجماهير العمالية بذاتها.
ج- بالتوسيع الفوري للديموقراطية السوفياتية والديموقراطية داخل الحزب، بغية رفع مستوى النشاط السياسي ومستوى وعي البروليتاريا الطبقي.
د- بزيادة حدة التمايز داخل الفلاحين، عن طريق مساعدة الفلاحين الفقراء عبر تقديم قروض وآلات زراعية اليهم في بناء تعاونيات إنتاجية، وفرض ضرائب تصاعدية على الفلاحين الأغنياء.
هـ- بالإبقاء على التوجه شطر الثورة العالمية، وبتصحيح الأخطاء التكتيكية والاستراتيجية للكومنترن.
لو فهم مجمل القادة والكادرات البلاشفة ضرورة إنجاز برنامج من هذا النوع وإمكان ذلك، لكانت إعادة إطلاق السوفييتات وممارسة البروليتاريا للسلطة ممكنة منذ أواسط العشرينات. إلاّ أن معظم كادرات الحزب كانوا قد انخرطوا من جانبهم في سيرورة البقرطة. معظم القادة تأخروا كثيرا في فهم خطر المميت لصعود البيروقراطية. إن ضعف «العامل الذاتي» (أي الحزب الثوري) انظم إلى الشروط الموضوعية الملائمة، لتفسير انتصار البيروقراطية الستالينية في الاتحاد السوفياتي.
3- طبيعة البيروقراطية وطبيعة الاتحاد السوفياتي
ليست البيروقراطية طبقة مسيطرة جديدة. وهي لا تلعب أي دور ضروري في سيرورة الإنتاج. إنها شريحة ذات امتيازات اغتصبت ممارسة وظائف الإدارة في الدولة والاقتصاد السوفياتيين، وتمنح لنفسها على أساس احتكار السلطة هذا منافع وفيرة في حقل الاستهلاك (أجور مرتفعة، منافع عينية، مخازن خاصة، الخ). ليست مالكة لوسائل الإنتاج، ولا تملك أي ضمانة للاحتفاظ بتلك المنافع أو توريثها لأولادها، إنما كل شيء مرتبط بممارسة وظائف نوعية خاصة.
إنها شريحة اجتماعية متميزة من البروليتاريا تقيم سلطتها على مكاسب ثورة أكتوبر الاشتراكية، كتأميم وسائل الإنتاج والتخطيط الاقتصادي واحتكار الدولة للتجارة الخارجية. وهي محافظة كما الحال مع أي بيروقراطية عمالية، إنها تضع الحفاظ على ما تم اكتسابه فوق كل مشروع يرمي إلى التوسع بالمكاسب الثورية.
إنها تخاف من الثورة العالمية التي قد تؤدي إلى إنعاش النشاط السياسي للبروليتاريا السوفييتية وتدمير سلطة البيروقراطية على هذا الأساس. من هنا فهي ترغب في الحفاظ على الوضع القائم العالمي. إلا أنها تبقى، من حيث هي شريحة اجتماعية، ضد إعادة الرأسمالية إلى الاتحاد السوفياتي، ذلك أن هذه قد تدمر أسس امتيازاتها بالذات (وهو ما لا يمنع البيروقراطية من أن تكون الوسط الملائم لنمو مجموعات ثانوية واتجاهات فرعية يمكن أن تحاول التحول إلى رأسماليين جدد).
ليس الاتحاد السوفياتي مجتمعا اشتراكيا، أي مجتمعا بلا طبقات. إنه ما يزال، تماما كما غداة ثورة أكتوبر 1917، مجتمعا انتقاليا بين الرأسمالية والاشتراكية، ويمكن أن تتم إعادة الرأسمالية فيه، لكن على أساس ثورة مضادة اجتماعية. كما يمكن بالمقابل إعادة إرساء السلطة المباشرة للشغيلة فيه، لكن على أساس ثورة سياسية تكسر احتكار ممارسة السلطة بأيدي البيروقراطية.
رغم أن الاقتصاد السوفياتي هو نظام «سيطرة البيروقراطية على المنتجين»، ورغم أنه أعطى الأولوية زمنا طويلا لتطور الآلات على حساب استهلاك الجماهير، فهو لا يستحق وصمه بـ«الرأسمالية». إن الرأسمالية نظام نوعي خاص للسيطرة الطبقية، يتصف بالملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، وبالمنافسة والإنتاج البضاعي المعمم، وبالطابع البضاعي لقوة العمل، وبحتمية الأزمات الدورية لفيض الإنتاج المعمم، ونحن لا نجد أيا من هذه الملامح الأساسية في الاقتصاد السوفياتي.
إلاّ أنه إذا لم يكن الاقتصاد السوفياتي رأسماليا فهو ليس اشتراكيا أيضا، على الأقل بالمعنى التقليدي للكلمة، كما يتبين من كتابات ماركس وانجلز ولينين بالذات. فالاقتصاد الاشتراكي يتحدد بنظام المنتجين المتشاركين الذين ينظمون بأنفسهم حياتهم الإنتاجية والاجتماعية عن طريق وضع تسلسل في الحاجات التي ينبغي كفايتها تبعا للموارد التي في حوزتهم ولوقت العمل الذي هم مستعدون لتكريسه للجهد الإنتاجي، والاتحاد السوفياتي على بعد بعيد عن هذا الوضع. إن اقتصادا اشتراكيا يتحدد بزوال كل إنتاج بضاعي، وماركس وانجلز يوضحان أن هذا الزوال ليس خاصا «بالمرحلة الثانية» من المجتمع اللا طبقي، التي تطلق عليها عادة تسمية «المرحلة الشيوعية»، بل هو من سمات المرحلة الأولى المسماة «اشتراكية»، وذلك على عكس العقيدة المعتمدة رسميا في الاتحاد السوفياتي.
إن ستالين الذي فضل النظرية المضادة للماركسية حول الإمكانية المزعومة لإنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد، إنما كان يعبر بصورة تجريبية عن النزعة المحافظة البرجوازية الصغيرة لدى البيروقراطية السوفياتية المؤلفة من خليط من الموظفين القدامى في الدولة البرجوازية ومن محدثي النعمة في جهاز الدولة السوفياتية وشيوعيين مفسدين ومستخفين، وتقنيين شباب راغبين في «النجاح في المهنة» دون أدنى مراعاة للمصالح الطبقية للبروليتاريا.
لقد واجه تروتسكي والمعارضة اليسارية هذه النظرية بمبادئ أساسية في الماركسية («لا يمكن تحقيق المجتمع اللا طبقي إلا على المستوى العالمي، بحيث يضم على الأقل بعضا من الدول المصنعة الرئيسية» -«تشرع الثورة بالانتصار في بلد من البلدان، ثم تمتد على الصعيد الدولي، وتخوض في نهاية المطاف معركة حاسمة على المستوى العالمي»)، وهما لم يدافعا بذلك عن موقف «انتضاري» أو «انهزامي» تجاه الثورة الروسية. لقد سعيا لحفز فوري لتصنيع البلاد، وذلك قبل ستالين وبصورة أكثر عقلانية، وكانا نصيرين للدفاع عن الاتحاد السوفياتي ضد الامبريالية، وللدفاع عمّا بقي من مكاسب ثورة أكتوبر ضد أي محاولة لإعادة الرأسمالية في الاتحاد السوفياتي، وقد ظلا كذلك إلى النهاية. إلاّ أنهما فهما أن مصير الاتحاد السوفياتي سوف يحسمه في نهاية المطاف ما يؤول إليه الصراع الطبقي على المستوى العالمي، وهو استنتاج لا يزال اليوم صحيحا كما كان صحيحا بالأمس.
4- ما هي الستالينية؟
حين ألقى خروتشيف مرافعته المشهورة ضد جرائم ستالين في المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي، فسر تلك الجرائم بـ«عبادة الشخصية» التي هيمنت خلال ديكتاتورية ستالين. وهذا التفسير الذاتي، لا بل السيكولوجي، لنظام سياسي قلب رأسا على عقب حياة عشرات الملايين من الكائنات البشرية، لا يتفق إطلاقا مع الماركسية. فظاهرة الستالينية لا يمكن اختصارها بالخصائص السيكولوجية أو السياسية لرجل فرد. إن الأمر يتعلق بظاهرة اجتماعية ينبغي تعرية جذورها الاجتماعية.
إن الستالينية في الاتحاد السوفياتي هي التعبير عن الانحطاط البيروقراطي لأول دولة عمالية، حيث اغتصبت شريحة اجتماعية ذات امتيازات ممارسة السلطة الاقتصادية والسياسية. إن الأشكال الفظة (الإرهاب البوليسي، التطهيرات الجماعية في الثلاثينات والأربعينات، اغتيال مجمل الكادرات القديمة للحزب الشيوعي السوفياتي تقريبا، ومحاكمات موسكو، الخ.) والأكثر «دقة» لهذه السلطة البيروقراطية يمكن أن تتبدل، إلاّ أنّ أسس الانحطاط البيروقراطي تبقى قائمة بعد ستالين كما في ظل ستالين.
فلسلطة لا تمارسها سوفييتات ينتخبها كل الشغيلة بحرية، والمشاريع لا يسيّرها الشغيلة. لا الطبقة العاملة ولا أعضاء الحزب الشيوعي يتمتعون بالحريات الديموقراطية الضرورية للتمكن بحرية من تحديد الخيارات الكبرى بصدد السياسة الاقتصادية والثقافية، الداخلية والعالمية.
إن الستالينية تعني في العالم الرأسمالي قيام الأحزاب التي تتمبع سياسة الكريملين بإخضاع مصالح الثورة الاشتراكية في بلدانها إلى مصالح ديبلوماسية الكريملين. فهذا الأخير يستخدم الأحزاب الشيوعية الستالينية، وحركة الجماهير التي تشرف عليها، كمجرد عملة للتبادل في جهوده لتكريس الوضع القائم العالمي مع الامبريالية.
إن الستالينية تمثل على الصعيد الايديولوجي تشويها تبريريا وتجريبيا للنظرية الماركسية. فبدل أن تلعب النظرية الماركسية دور أداة تحليلية لتطور تناقضات الرأسمالية وموازين القوى بين الطبقات والواقع الموضوعي للمجتمع الانتقالي من الرأسمالية إلى الاشتراكية، بغية إسناد نضال البروليتاريا التحرري، يجري الحط منها إلى مستوى أداة تبرير لكل من «الانعطافات التكتيكية» للكريملين والأحزاب الستالينية.
تسعى الستالينية لتبرير هذه المناورات باسم حاجات الدفاع عن الاتحاد السوفياتي، «القلعة الرئيسية للثورة العالمية» كما كان يسمى قبل الحرب العالمية الثانية، و«مركز المعسكر العالمي للاشتراكية» كما أصبح يسمى منذ الحرب العالمية الثانية. وبالفعل على الشغيلة أن يدافعوا عن الاتحاد السوفياتي ضد محاولات الإمبريالية إعادة سلطة رأس المال إليه.
إلاّ أن المناورات التكتيكية الستالينية التي ساهمت في هزيمة كذا من الثورات في العالم، والتي سهلت وصول هتلر إلى السلطة في ألمانيا عام 1933، وحكمت على الثورة الإسبانية لعام 1936 بالهزيمة، وأجبرت الجماهير الشيوعية الفرنسية والإيطالية على إعادة بناء الدولة البورجوازية والاقتصاد الرأسمالي في بلادها ما بين 1944 و1946، وأدت إلى سحق الحركة الثورية في أندونيسيا والبرازيل والشيلي والعديد من البلدان الأخرى مذ ذاك، لا تتوافق إطلاقا مع مصالح الاتحاد السوفياتي كدولة، بل مع المصالح الضيقة المتعلقة بالدفاع عن امتيازات البيروقراطية السوفياتية المتناقضة في كل من تلك الحالات مع المصالح الحقيقية للاتحاد السوفياتي.
5- أزمة الستالينية
إن انحدار الثورة العالمية بعد عام 1923 والوضع المتخلف للاقتصاد السوفياتي هما الدعامتان الرئيسيتان لسلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، وهاتان الدعامتان قد تآكلتا تدريجيا منذ نهاية الأربعينات.
فلقد تلا عشرين عاما من هزائم الثورة صعود جديد للثورة العالمية، انحصر في البدء في بلدان متخلفة هي الأخرى (يوغسلافيا، الصين، فيتنام، كوبا)، إلاّ أنه امتد إلى الغرب منذ ماي 1968. وبعد سنوات من جهود «التراكم الاشتراكي»، توقف الاتحاد السوفياتي عن أن يكون بلدا متخلفا، إذ هو اليوم القوة الصناعية الثانية في العالم، ويبلغ المستوى التقني والثقافي فيه مستوى العديد من البلدان الرأسمالية المتقدمة. أمّا البروليتاريا السوفياتية فهي، إلى جانب بروليتاريا الولايات المتحدة، البروليتاريا الأقوى من حيث العدد.
ضمن هذه الشروط، بدأت تزول أسس سلبية الجماهير في البلدان التي تسيطر عليها البيروقراطية السوفياتية، حيث تتوافق مع انتعاش النشاطات المعارضة انقصافات داخل البيروقراطية بالذات التي تخضع، منذ القطيعة بين ستالين وتيتو عام 1948، لسيرورة تمايز متنامية. إن التداخل بين العاملين يشجع على فورات مفاجئة للنشاط السياسي الجماهيري تنطلق على طريق الثورة السياسية، كما حدث في أكتوبر-نونبر 1956 في هنغاريا، أو خلال «ربيع براغ» عام 1968 في جمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية.
جرى إلى الآن قمع هذه الحركات الجماهيرية عبر التدخل العسكري للبيروقراطية السوفياتية، إلاّ أنه بمقدار ما تنضج هذه السيرورات ذاتها في الاتحاد السوفياتي فلن يكون بإمكان أية قوة خارجية أن توقف أمواج الثورة السياسية في أوروبا الشرقية والاتحاد السوفياتي، وسوف يعاد إرساء الديموقراطية السوفياتية، ويتم التحطيم النهائي لأي خطر يهدد بعودة الرأسمالية. سوف يمارس السلطة السياسية الشغيلة والفلاحون الكادحون، كما سيصبح النضال من أجل الثورة الاشتراكية في سائر أنحاء العالم أسهل بما لا يقاس.
6- الإصلاحات الاقتصادية
بعد موت ستالين، ولاسيما في بداية الستينات، بدأت حركة إصلاح واسعة لطرائق التخطيط والتسيير في الاتحاد السوفياتي وفي العديد من «الديموقراطيات الشعبية». وقد كانت الإصلاحات الأكثر إلحاحا في ميدان الزراعة، حيث كان إنتاج المواد الغذائية على أساس الفرد عند وفاة ستالين أدنى بعض الأحيان مما كان عليه عام 1928، وأدنى فيما يخص الإنتاج الحيواني، مما كان عليه في عهد القياصرة. استهدفت تدابير متتالية إثارة اهتمام الفلاحين، وعقلنة استخدام الآلات الزراعية (التي بيعت للكولخوزات)، وإقامة مزارع دولة عملاقة على «الأراضي البكر» في كازاخستان، والمضاعفة الكثيفة للتثميرات في الزراعة.
أمّا الإصلاحات على صعيد الصناعة فكانت أكثر بطءا وترددا، فالضرورة الموضوعية لتلك الإصلاحات نجمت عن أزمة نمو الاقتصاد السوفياتي وعن انخفاض في نسبة النمو السنوية للإنتاج الصناعي، وهي تتوافق مع نفاد الحوافز التي سمحت بالتسيير كيفما أتفق لعملية التصنيع الواسع، أي دون بذل جهد لتوفير أقصى ما يمكن من نفقات اليد العاملة، والمواد الأولية والأراضي. لقد أدى استنفاد الاحتياطي لضرورة اعتماد حساب أكثر دقة، وخيار أكثر عقلانية بين مختلف مشاريع التثميرات. إن ازدهار الاقتصاد ومضاعفة المشاريع وموارها هددا بزيادة التبذير إلى الحد الأقصى ما لم يتم اعتماد طرائق إدارة وتخطيط أكثر عقلانية.
إن ضغط الجماهير الكادحة التي أنهكتها عقود من التضحيات والتوترات وترغب في تحسين استهلاكها وتنويعه، بالإضافة إلى ضرورة الاقتراب بالقرارات -على مستوى الصناعة الخفيفة- من تلك الرغبات الاستهلاكية، قد فعلا فعلهما في الاتجاه ذاته. وقد شجع عنصر آخر أيضا السعي وراء الاصلاحات، ونقصد بذلك التأخر التكنولوجي المتناهي بالنسبة للثورة التكنولوجية الثالثة للاقتصاد الرأسمالي، وهو تأخر ناجم عن نظام حوافز مادية بالنسبة للبيروقراطية يثبط الهمم إزاء الاختبار والتجديد على صعيد التكنولوجيا، لذا تم تعديل شكل تلك الحوافز مذ ذاك.
لقد جرى الاعتقاد بالحؤول دون تبذير المواد الأولية وقوة العمل وبتشجيع استخدام للتجهيز أكثر عقلانية، عن طريق ربط العلاوات المقدمة للمديرين بـ«الربح» (الفرق بين سعر الكلفة وسعر المبيع) المفترض أنه «يؤلف» النتيجة الإجمالية النهائية للمشروع، بدل ربطها بالإنتاج الخام المعبر عنه بمصطلحات مادية. كانت النتائج متواضعة، لكن إيجابية في الصناعة الخفيفة، إلاّ أنها لم تعدل أبدا في طبيعة النظام الهجينة، لأن أسعار المبيع ظلت تحددها سلطات الخطة المركزية.
إن أهمية تلك الإصلاحات جميعا محدودة، بقدر ما لا تحل المشكلة الأساسية، فما من «آلية اقتصادية»، خارج الرقابة الديموقراطية والعامة التي يمارسها جمهور المنتجين والمستهلكين، يمكنها أن تبلغ الحد الأقصى من المردود مقابل الحد الأدنى من الجهود. كل إصلاح يميل إلى إحلال شكل جديد من التعسفات البيروقراطية والتبذيرات محل الشكل السابق، وليس هناك من عقلنة إجمالية للتخطيط ممكنة في ظل سلطة البيروقراطية وانتفاعها المادي المعتبر محركا رئيسيا لتنفيذ الخطة. إن الإصلاحات لم تعد الرأسمالية ولم تعد إدخال ربح المشاريع كدليل لقرارات التثمير، إلاّ أنها زادت من تناقضات النظام الداخلية. فمن جهة زادت من حدة اندفاع جناح من البيروقراطية لصالح استقلال أكبر لمديري المعامل، وألغت بعض مكاسب الطبقة العاملة من مثل ضمان حق العمل، وزادت من جهة أخرى من حدة مقاومة الشغيلة للميول إلى تحطيم تلك المكتسبات والاقتصاد المخطط.
7- الماوية
كان انتصار الثورة الصينية الثالثة عام 1949 أهم انتصار حققته الثورة العالمية منذ انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية. فهو كسر التطويق الرأسمالي للاتحاد السوفياتي وحفز حفزا عظيما سيرورة الثورة الدائمة في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، وعدل موازين القوى بشكل محسوس على المستوى العالمي على حساب ألإمبريالية. ولقد تم ذلك الانتصار لأن القيادة الماوية للحزب الشيوعي الصيني قطعت على مستوى الممارسة مع الخط الستاليني القائل بـ«كتلة الطبقات الأربع» وبالثورة على مراحل، وقادت انتفاضة زراعية واسعة واتجهت نحو تدمير الجيش والدولة البرجوازية، رغم إعلاناتها المؤيدة لتحالف مع تشانغ كاي تشيك.
إلاّ أن هذه الثورة الظافرة كانت منذ البدء مشوهة بيروقراطيا، فالقيادة الماوية حدّت من نشاط البروليتاريا المستقل، إذا لم تمنعه منعا تاما، والدولة العمالية التي أقيمت لم يتم إرساؤها على أساس المجالس العمالية والفلاحية المنتخبة ديموقراطيا. انتشرت أشكال إدارة وامتيازات بيروقراطية تتشبه بتلك القائمة في روسيا الستالينية. وهو ما أدى إلى استياء متنام لدى الجماهير، لاسيما الجماهير العمالية والشابة، سعى ماو إلى احتوائه عن طريق تفجير «الثورة الثقافية البروليتارية الكبرى» بين عامي 1964 و1965.
هذه «الثورة» دمجت أشكالا أصيلة من التعبئة والوعي المعاديين للبيروقراطية لجماهير المدن مع محاولة ماو تطهير جهاز الحزب الشيوعي من خصومه داخل البيروقراطية. وعندما هددت تعبئة الجماهير والتطور الأيديولوجي الأكثر فأكثر نقدية من جانب «الحراس الحمر» بالإفلات من رقابة الجناح الماوي، أوقف هذا الجناح «الثورة الثقافية»، وأعاد إلى حد بعيد وحدة البيروقراطية، مرجعا إلى مراكز القيادة معظم البيروقراطيين الذين تمت تنحيتهم حين بلغت تلك «الثورة» ذروتها.
إن النزاع الصيني-السوفياتي الذي أثارته محاولة البيروقراطية السوفياتية فرض رقابة صارمة على قيادة الحزب الشيوعي الصيني، وإلغاء المساعدة الاقتصادية والعسكرية المقدمة لجمهورية الصين الشعبية ردا على رفض ماو الانحناء أمام تلك القرارات التعسفية، تحول تدريجيا من نزاع بين البيروقراطيتين إلى نزاع على مستوى الدولة وإلى معركة تنظيمية وأيديولوجية داخل الحركة الستالينية العالمية. لقد وجهت النزعة القومية الضيقة للبيروقراطيتين السوفياتية والصينية ضربة قاصمة لمصالح الحركة العمالية والمعادية للإمبريالية على المستوى العالمي، وسمحت للإمبريالية بالمناورة لاستغلال النزاع الصيني-السوفياتي.
تمثل الماوية على المستوى الأيديولوجي تيارا خاصا داخل الحركة العمالية، العديد من وجوهه تنويع من التشويه الستاليني للماركسية-اللينينية، إلاّ أنه لا يمكن حصره بالستالينية. ففيما الستالينية ناتج وتعبير في الوقت ذاته عن ثورة مضادة سياسية داخل ثورة بروليتارية ظافرة، فالماوية هي في الوقت ذاته تعبير عن انتصار ثورة اشتراكية وعن الطبيعة المشوهة بيروقراطيا منذ البدء لتلك الثورة. إنها تدمج إذا ملامح مقاربة أكثر مرونة وأكثر انتقائية للعلاقات بين الأجهزة والجماهير، مع ملامح مميزة لخنق كل استقلال لنشاط الجماهير وتنظيمها، لاسيما الجماهير العمالية. وهي تتميز على وجه الخصوص بعدم فهم الطبيعة الاجتماعية للبيروقراطية العمالية وأصول الانحطاط البيروقراطي المحتمل للثورات الاشتراكية والدول العمالية، طالما هي بذاتها التعبير الأيديولوجي عن واحد من أجنحة البيروقراطية. وهي إذ تماثل بصورة غير مسؤولة وغير علمية بين «البيروقراطية» و«بورجوازية الدولة» في الاتحاد السوفياتي، تبرر مسبقا كل انعطافات السياسة الخارجية الصينية والمجموعات الماوية، إلى حد وضع الإمبريالية الأمريكية والاتحاد السوفياتي، والأحزاب البرجوازية والأحزاب الشيوعية، على قدم المساواة، لا بل إلى حد اعتبار الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية «العدو الرئيسي للشعوب»، عارضة التحالف مع القوى الإمبريالية العظمى والأحزاب البورجوازية في مجه الاتحاد السوفياتي والأحزاب الشيوعية. زد على أن هذه التكتيكات تستند إلى الموضوعة التي تقول أن معظم البلدان الرأسمالية ليست اليوم إزاء مهمة الثورة الاشتراكية، بل فقط إزاء مهمة «النضال من أجل الاستقلال القومي في مواجهة القوى العظمى».
إن الطابع الاعتباطي لهذه النظريات جميعا، التي ليست في نهاية المطاف أكثر من تبريرات لاحقة لمناورات بيكين الديبلوماسية، تمد جذورها في تشويه الماركسية المثالي والإرادي، فبحجة مكافحة «النزعة الاقتصادية» التي هي المراجعة «الأخطر» للماركسية، يتوقف «الماويون الأورثوذكسيون» عن اعتبار الطبقات الاجتماعية كحقائق موضوعية تحددها علاقات الإنتاج التي تعقدها في إنتاجها لحياتها المادية. تجري مماثلة الطبقات الاجتماعية مع خيارات إيديولوجية، ولا تعود البروليتاريا مجموع من يحصلون على أجور لقاء عملهم، بل أولئك الذين «يسيرون وفقا لخط ماو تسي تونغ». وبهذه الطريقة تجري مماثلة تيارات ذات أيديولوجية بورجوازية أو بورجوازية صغيرة داخل الطبقة العاملة مع «البورجوازية» أو «ممثليها»، والنضال الأيديولوجي داخل الحركة العمالية مع «الصراع الطبقي بين البروليتاريا والبورجوازية». يشكل ذلك مذ ذاك ركيزة رفض الديموقراطية العمالية، وتبرير استخدام العنف والقمع داخل الحركة العمالية، ورفض كل التراث الماركسي-اللينيني للنضال من أجل الجبهة الموحدة للمنظمات العمالية في وجه العدو الطبقي المشترك. تتم مماثلة ديكتاتورية البروليتاريا مع «فكر ماو تسي تونغ»، ويمارسها «حزب ماو تسي تونغ». هكذا تغلق الحلقة، وبعد الدخول في حرب ضد سلطة البيروقراطية في الاتحاد السوفياتي، تنتهي القيادة الماوية إلى تنصيب نظام قيادة بيروقراطية شبيهة جدا بتلك الموجودة في الاتحاد السوفياتي، حتى ولو أحاطت بها بهارج «ديموقراطية مباشرة» و«مشاركة» جماهيرية باتخاذ القرارات. ولا يقل رفض ماو عن رفض ستالين أو خروتشيف أو بريجنيف للنظرية اللينينية حول ديكتاتورية البروليتاريا كديكتاتورية مرتكزة إلى ممارسة السلطة من جانب مجالس العمال والفلاحين المنتخبة انتخابا حرا وديموقراطيا.
*******
المراجع:
أرنست ماندل، حل البيروقراطية.
ل. تروتسكي، دروس أكتوبر.
ل. تروتسكي، المجرى الجديد.
ل. تروتسكي، الثورة المغدورة.
م. ليفن، معركة لينين الأخيرة.
موضوعات المؤتمر الرابع والخامس للأممية الرابعة: صعود الستالينية وانحدارها - انحدار الستالينية وسقوطها.
سميزدات أ (منشورات سوي).
بولونيا-هنغاريا 1956 (منشورات F.D.I باريس).
--------------------------------------------------------------------------------
13/ من النضالات الجارية التي تخوضها الجماهير إلى الثورة الاشتراكية العالمية
منذ الحرب العالمية الأولى والشروط المادية الضرورية لقيام مجتمع اشتراكي قيد الوجود. فالمنشأة الكبيرة أصبحت قاعدة الإنتاج، والتقسيم العالمي للعمل بلغ مستوى عاليا، وتحقق التداخل بين البشر جميعا -«التشريك الموضوعي للعمل»- إلى حد بعيد. مذ ذاك أصبح ممكنا من الناحية الموضوعية استبدال نظام الملكية الخاصة والمنافسة واقتصاد السوق بنظام قائم على التشارك بين جميع المنتجين وتخطيط الاقتصاد بغية تحقيق أغراض مختارة بحرية.
***
1- شروط انتصار الثورة الاشتراكية
إلاّ أن الثورة الاشتراكية، على نقيض كل الثورات الاجتماعية الماضية، تتطلب جهدا واعيا وإراديا من جانب الطبقة الثورية، أي من جانب البروليتاريا. ففي حين أحلت ثورات الماضي نظام استغلال اقتصادي للمنتجين محل نظام آخر، واكتفت هكذا بإزالة الحواجز من على طريق اشتغال هذه الآلية الاقتصادية أو تلك، تسعى الثورة الاشتراكية لإعادة تنظيم الاقتصاد والمجتمع وفقا لمشروع متصور مسبقا، يكمن في التنظيم الواعي للاقتصاد بهدف كفاية كل الحاجات العقلانية لدى البشر وضمان التفتح الكامل لشخصيتهم.
مشروع من هذا النوع لا يتحقق آليا، إنه يتطلب من الطبقة الثورية وعيا كاملا لأهدافها ولوسائل بلوغ تلك الأهداف، لاسيما أن على طبقة الشغيلة خلال نضالها من أجل الثورة الاشتراكية أن تواجه عدوا طبقيا، منظما تنظيما عاليا، يملك أكثر فأكثر شبكة عالمية من القوى العسكرية والمالية والسياسية والتجارية والأيديولوجية بغية تأبيد سيطرته.
يتطلب انتصار الثورة الاشتراكية إذا نوعين من الشروط ليضمن النجاح:
شروطا موضوعية -كما يقال- أي مستقلة عن مستوى وعي البروليتاريين والثوريين، ومن بينها نضج الشروط المادية والاجتماعية (القاعدة الاقتصادية وقوة البروليتاريا العددية) - الحاصلة على المستوى العالمي بصورة مستمرة منذ ما قبل عام 1914. ينبغي أن نضيف كذلك شروطا سياسية، من مثل عجز الطبقة البورجوازية عن الحكم وانقساماتها الداخلية المتعاظمة، ورفض الطبقات المنتجة لسلطة البورجوازيين وتمردها المتعاظم على تلك السلطة. هذه الشروط السياسية الموضوعية الضرورية لانتصار ثورة اجتماعية يتم اكتسابها دوريا في العديد من البلدان، إبان أزمات سابقة للثورة وأزمات ثورية عميقة تنفجر فيها.
وشروطا ذاتية، أي متعلقة بمستوى وعي الطبقة البروليتاريا وبدرجة نضج قيادتها الثورية أو حزبها الثوري وتأثير تلك القيادة وقوتها.
يمكن أن نستخلص أن الثورات الاشتراكية الظافرة منذ الحرب العالمية الأولى كانت ممكنة موضوعيا في العديد من المرار وفي العديد من البلدان، ونكتفي في هذا المجال بالإشارة إلى البلدان المتقدمة صناعيا، من مثل ألمانيا بين 1918 و1920، وعام 1923، وفي أعوام 1930-1932، وإيطاليا بين 1919 و1920 وبين 1946 و1948، وبين 1969 و1970، وفرنسا عام 1936، وبين 1944 و1947، وفي ماي 1968، وبريطانيا بين 1919 و1920، وعام 1926، وعام 1945، وإسبانيا بين 1936 و1937 الخ. الخ.
بالمقابل، لم تكن الشروط الذاتية ناضجة لانتصار الثورة، فغياب الانتصارات الثورية في الغرب مرتهن إلى الآن قبل كل شيء بـ«أزمة العامل الذاتي للتاريخ»، أزمة الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا.
2- بناء الأممية الرابعة
انطلاقا من هذا التحليل المرتكز إلى الإفلاس التاريخي للإصلاحية والستالينية في قيادة البروليتاريا إلى النصر، اضطلع تروتسكي وقبضة من الشيوعيين المعارضين منذ عام 1933 بمهمة بناء قيادة ثورية جديدة للبروليتاريا العالمية، وقد أسسوا عام 1938 الأممية الرابعة لهذه الغاية.
طبعا لم تصبح بحد ذاتها الأممية الثورية الجماهيرية التي ستكون وحدها قادرة على العمل كهيئة أركان عامة للثورة العالمية، إلاّ أنها تنقل برنامج هكذا أممية ثورية جماهيرية وتتقنه وتحسنه، بفضل نشاطاتها الدائبة في قلب الصراع الطبقي في خمسين بلدا. وهي تكون كادرات ثورية على قاعدة هذا البرنامج وعبر نشاطاتها المتعددة، وتحفز هكذا عن سابق تصور وتصميم توحيد تجارب الثوريين ووعيهم على المستوى العالمي، عن طريق تعليمهم العملل داخل تنظيم واحد بدل أن ينتظروا عبثا توحيدا من هذا النوع من النتائج العفوية لانطلاق القوى الثورية في مختلف بلدان العالم وأجزائه، تلك القوى التي تتطور منفصلة بعضها عن البعض الآخر.
لا تكتفي الأممية الرابعة بأن تنتظر بصورة سلبية «ذلك المساء العظيم» فيما تنجز إبان ذلك برنامجها. وهي لا تتقوقع في الدعاية المجردة لهذا البرنامج. كما أنها لا تبذر كذلك قواها في نشاطية وتحريض عقيمين، محصورين في دعم النضالات المباشرة للجماهير المستغلة.
إن بناء أحزاب ثورية جديدة وأممية ثورية جديدة ينطوي في الوقت ذاته على الدفاع الحازم عن البرنامج الماركسي الثوري الذي يجمع دروس كل التجارب الماضية للصراع الطبقي، وعلى الدعاية والتحريض من أجل برنامج عمل هو جزء من البرنامج الماركسي-الثوري العام، دعاه تروتسكي برنامج المطالب الانتقالية وهو يستوحي تعابير استخدمها قادة الأممية الشيوعية خلال سنواتها الأولى، وعلى التدخل المتواصل في نضالات الجماهير بغية الوصول بها إلى أن تتبنى عمليا برنامج العمل هذا، وبغية تزويد تلك النضالات بأشكال تنظيم تؤول إلى خلق مجالس عمالية.
إن ضرورة قيام أممية ثورية، هي أكثر من جمع أحزاب ثورية قومية، ضرورة ترتكز إلى قواعد مادية صلبة. فالعصر الإمبريالي هو عصر الاقتصاد والسياسة والحروب العالمية، والإمبريالية هي نظام عالمي متمفصل، وقوى الإنتاج أصبحت دولية منذ زمن بعيد. أمّا رأس المال فينتظم يوما بعد يوم على المستوى الدولي في تروستاته الكبيرة متعددة الجنسيات، والدولة القومية صارت منذ زمن بعيد عائقا دون التطورات اللاحقة للإنتاج والحضارة. من هنا لا يمكن حل مشكلات الإنسانية إلاّ على المستوى العالمي، تلك المشكلات التي نختصرها بالأمور التالية: الحؤول دون الحرب النووية العالمية، سد جوع نصف الكرة الجنوبي، تخطيط النمو الاقتصادي، التوزيع العادل للموارد والمداخيل بين الشعوب جمعاء، حماية البيئة، وضع العلم في خدمة الإنسان.
إنه لمن قبيل الطوباوية أن نريد ضمن هذه الشروط التقدم نحو الاشتراكية فرادى، أن نريد الإجهاز على خصم منظم عالميا فيما نحتقر كل تنسيق أممي للمشروع الثوري، لا بل أن نريد مواجهة تروستات متعددة الجنسيات عبر نضالات عمالية مقصورة على بلد واحد.
أضف إلى ذلك أن للنضالات الثورية اتجاها موضوعيا وعفويا للامتداد على المستوى الدولي، لا فقط ردا على تدخلات مضادة للثورة من جانب العدو الطبقي، بل كذلك، على وجه الخصوص، بفعل الحافز الذي تمارسه على شغيلة العديد من البلدان. إن التأخير المتواصل لخلق منظمة أممية حقيقية للثوريين لا يعني التأخر فقط بالنسبة للضرورات الموضوعية لعصرنا بل كذلك بالنسبة للاتجاهات العفوية للقطاعات الجماهيرية الأكثر تقدما.
في إطار الصعود الجديد للنضالات العمالية ولتجذر الشبيبة عبر العالم منذ نهاية الستينات، الذي يرمز إليه ماي 1968 في فرنسا، تمكنت الأممية الرابعة من مضاعفة قواها بشكل محسوس. إنها الآن موجودة في 65 بلدا، وفي كل القارات. عشرون من منظماتها شهدت تطورا ذا شأن إذ حققت انغراسا حقيقيا وسط الجماهير، وشاركت أحيانا من مستوى القيادة، في نضالات طبقية مهمة. نشير في هذا المجال إلى دور التروتسكيين الفرنسيين في ماي 1968 وفي تشكيل طليعة عمالية ونقابية جديدة مذ ذاك. وإلى دور التروتسكيين الأمريكيين في التعبئة ضد الحرب القذرة في فيتنام! وإلى دور التروتسكيين الإسبانيين في تكوين طليعة ثورية جديدة! وإلى دور التروتسكيين الأرجنتينيين والمكسيكيين والكولومبيين في خلق تيار طبقي داخل الحركة الجماهيرية في بلدانهم! وإلى دور التروتسكيين السيلانيين في إعادة إطلاق اليسار العمالي بعد انحدار القيادة القديمة للحركة العمالية إلى حضيض التعاون الطبقي. تلك الأدوار تشكل بعض النتائج الرئيسية التي تم التوصل إليها ما بين 1968 و1977.
3- المطالب المباشرة والمطالب الانتقالية
إن الاستغلال والاضطهاد الإمبرياليين، في عصرنا، يدفعان الجماهير في كل مرة من جديد على طريق معارك كبرى. إلاّ أن الجماهير، متروكة لذاتها، لا تصوغ أكثر من أهداف مباشرة لتلك النضالات، من مثل الدفاع عن الأجور الفعلية أو زيادتها والدفاع عن بعض الحريات الديموقراطية الأساسية أو انتزاعها، وإسقاط حكومات قمعية بوجه خاص، الخ.
يمكن للبرجوازية أن تقدم تنازلات للجماهير المناضلة تلافيا لتطور معاركها إلى درجة تهديد مجمل الاستغلال الرأسمالي. وهي تسمح لنفسها بذلك، لاسيما أنها تمتلك العديد من الأدوات الصالحة للاستعمال من أجل إفراغ تلك التنازلات من مضامنها، واستعادة يد ما تقدمه اليد الأخرى. فإذا كانت تقبل بزيادات في الأجور، يمكن لرفع الأسعار أن يبقي الأرباح عند مستواها الأصلي، وإذا تم الحد من دوام العمل يمكن تسريع وثيرته، وإذا انتزع الشغيلة تدابير ضمان اجتماعي يمكن مضاعفة الضرائب التي تصيب مداخيلهم، بحيث يدفعون بذاتهم ما يبدو أن الدولة تمنحهم إياه، الخ.
من أجل الخروج من هذه الدائرة المفرغة، ينبغي دفع الجماهير لتضع لأنفسها أهدافا لنضالاتها الجارية تتمثل بمطالب انتقالية يتعارض تحقيقها مع المسار الطبيعي للاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية، وينبغي أن تصاغ هذه المطالب بحيث تفهمها الجماهير، وإلاّ بقيت حبرا على ورق. يلزم أن تكون في الوقت ذاته قادرة على أن تثير بمضمونها، وباتساع النضالات التي تستثيرها، رفضا إجماليا للنظام الرأسمالي وولادة أجهزة من النموذج السوفياتي، أجهزة ازدواجية سلطة. ليست المطالب الانتقالية صالحة فقط في فترة الأزمة الثورية الحادة -ومن بينها مطلب الرقابة العمالية-، بل هي تتجه على وجه التحديد نحو توليد هكذا أزمة ثورية، عبر دفع الشغيلة إلى رفض النظام الرأسمالي، سواء على المستوى العملي أو على مستوى وعيهم.
4- القطاعات الثلاث للثورة العالمية في أيامنا
بفعل تأخر الثورة الاشتراكية في البلدان الصناعية المتقدمة تجد البروليتاريا العالمية نفسها في مواجهة مهام مختلفة في أجزاء مختلفة من العالم.
ففي البلدان المستعمرة وشبه المستعمرة، لا يمكن للشغيلة والفلاحين الفقراء أن ينتظروا هرع عمال البلدان المصنعة لمساعدتهم. إن اندلاع نضالات جماهيرية وحركات ثورية واسعة أمر محتوم بفعل العبء الثقيل من القمع والبؤس الذي فرضته الإمبريالية على الجماهير العمالية والفلاحية في تلك البلدان. على الشغيلة أن يدعموا كل حركة جماهيرية معادية للإمبريالية، سواء كانت موجهة ضد السيطرة الأجنبية أو ضد الاستغلال الذي تمارسه التروستات الأجنبية، وسواء استهدفت الثورة الفلاحية أو تصفية ديكتاتوريات محلية دموية. إن البروليتاريا التي اكتسبت القيادة السياسية لتلك الحركات الجماهيرية، بفضل حزمها واجتهادها في تبني المطالب التقدمية لكل طبقات الأمة وشرائحها المستغلة، إنما تقاتل لأجل استلام السلطة، ولتطيح في الوقت ذاته ملكية البرجوازية الصناعية وسلطتها.
وفي البلدان العمالية المتبقرطة، تنتفض الجماهير من أجل انتزاع حريتها الديموقراطية، وذلك في وجه احتكار ممارسة السلطة من جانب البيروقراطية، وضد انبعاث الاضطهاد القومي، وضد الفوضى والتبذير والامتيازات المادية الملازمة للتسيير البيروقراطي للاقتصاد. إنها تطالب بتسيير الدولة العمالية بواسطة الشغيلة أنفسهم، المنظمين في مجالسهم (السوفييتات)، وبتسيير الاقتصاد المخطط عن طريق نظام مجالس شغيلة ممركز ديموقراطيا.
أما في البلدان الإمبريالية فتتحول حركات الجماهير ضد الاستغلال الرأسمالي والتضييق على الحريات الديموقراطية أو إلغائها، بفضل البرامج الانتقالي وبناء قيادة ثورية جديدة، إلى نضالات لإطاحة الدولة البرجوازية ومصادرة رأس المال، فإلى ثورة اشتراكية ظافرة.
إن المهام المختلفة التي تواجه البروليتاريا والثوريين في أجزاء مختلفة من العالم -أي مهام الثورة الدائمة في البلدان المتخلفة ومهام الثورة السياسية المناهضة للبيروقراطية في البلدان العمالية المتبقرطة، ومهام الثورة البروليتارية في البلدان الإمبريالية- إنما تعكس التطور اللا متساوي والمركب للثورة العالمية. فهذه الأخيرة لا تنفجر بصورة متشابهة في كل البلدان، إذ لا تعيش كل البلدان ضمن شروط اجتماعية واقتصادية وسياسية متماثلة.
تكمن المهمة العليا للماركسيين الثوريين في التوحيد التدريجي لتلك الحركات الثورة الثلاث في السيرورة ذاتها للثورة الاشتراكية العالمية. هذا التوحيد ممكن موضوعيا بفضل كون طبقة اجتماعية واحدة، هي البروليتاريا، قادرة لوحدها على أن تقود إلى الشاطئ الأمين المهام التاريخية المتمايزة للثورة في كل من القطاعات الثلاثة التي أشرنا إليها، وسيصبح هذا التوحيد حقيقيا بفضل التربية والسياسة الأمميتين للطليعة الثورية التي سوف تستخلص من النضالات الجارية يوما بعد يوم تجارب تضامن أممي بين الشغيلة والمضطهدين في كل البلدان، وتقاتل بصورة منهجية كره الأجنبي والعنصرية ومختلف المسبقات القومية، من أجل إدخال هذا الوعي الأممي إلى أعماق الجماهير الواسعة.
5- الديموقراطية العمالية والتنظيم الذاتي للجماهير والثورة الاشتراكية
إن أحد الوجوه الرئيسية لعمل الجماهير المباشرة، لحركات التظاهر أو الإضراب الضخمة التي يقومون بها، إنما هو رفع مستوى وعيهم عن طريق تزايد ثقتهم بأنفسهم.
يعتاد الشغيلة والفلاحون الفقراء وصغار الحرفيين والنساء والشباب والأقليات القومية والعرقية على التعرض خلال الحياة اليومية للانسحاق والاستغلال والاضطهاد من جانب خليط من المالكين والأقوياء. لديهم انطباع أن التمرد مستحيل وغير مجد، وأن قوة خصومهم كبيرة لدرجة ينتهي معها كل شيء إلى «العودة للنظام» على الدوام. إلاّ أن هذا الخوف، هذا الإحباط، هذا الشعور بالدونية والعجز، يذوب فجأة في مصهر التعبئة والمعارك الجماهيرية الكبرى. فالجماهير تكتسب إذ ذاك وعيا عميقا لسلطتها العظيمة الكامنة، منذ تتحرك مجتمعة، بصورة جماعية ومتضامنة، منذ تتنظم وتنظم معركتها بفعالية.
لذا يعلق الماركسيون الثوريون أهمية قصوى على كل ما يضاعف هذا الشعور بالثقة بالذات لدى الجماهير، على كل ما يحررهم من السلوك المطواع والخاضع الذي تشربوه خلال الآلاف من سنوات سيطرة الطبقات المالكة. «لسنا شيئا، فلنكن كل شيء»: إن هذه الكلمات من المقطع الأول في نشيدنا، «نشيد الأممية»، تلخص بصورة مدهشة تلك الثورة النفسية التي لا بد منها لأجل انتصار ثورة اشتراكية.
على طريق التنظيم الذاتي للجماهير، تلعب دورا حيويا جمعيات ديموقراطية للمضربين تنتخب لجان إضراب، وكل آلية مشابهة داخل أشكال أخرى للعمل الجماهيري. في تلك الجمعيات تتمرن الجماهير على حكم ذاتها بذاتها، وبتعلمها قيادة نضالاتها الخاصة بها تتعلم كيف تدير الدولة والاقتصاد غدا. إن أشكال التنظيم التي تعتاد هكذا عليها هي الأشكال الجنينية للمجالس العمالية القادمة، للسوفييتات القادمة، هي أشكال التنظيم الأساسية للدولة العمالية التي ينبغي بناؤها.
إن وحدة العمل التي لا بد منها من أجل جمع قوى الشغيلة المبعثرة، الروح الوحدوية العظيمة التي تجمع عبر حالات التعبئة والأعمال الجماهيرية الكبرى ملايين الأشخاص الذين لم يعتادوا على العمل معا، لا يمكن تحقيقها من دون ممارسة أوسع قدر من الديموقراطية العمالية. ينبغي للجنة إضراب منتخبة ديموقراطيا أن تكون، من حيث تحديدها، منبثقة من كل المضربين في المنشأة، أو في الفرع الصناعي، أو المدينة، أو المنطقة، أو البلد الذي يشهد حالة الإضراب. إن استبعاد ممثلي هذا القطاع أو ذاك من الشغيلة المعنيين، بحجة أن آراءهم السياسية أو الفلسفية لا تناسب قادة الإضراب المؤقتين، هو كسر لوحدة الإضراب، وبالتالي كسر للإضراب.
يطبق المبدأ ذاته على كل أشكال العمل الجماهيري الواسع وعلى أشكال التنظيم التمثيلية التي يتخذها. إن الوحدة التي لا غنى عنها من أجل تحقيق النصر تفترض الديموقراطية العمالية مسبقا، أي مبدأ عدم استبعاد أي تيار من المقاتلين. فللكل الحق في الكلام والتمثيل، وللكل الحق في الدفاع عن اقتراحاتهم الخاصة بهم بغية تتويج النضال بالنصر.
إذا تم احترام تلك الديموقراطية فسوف تحترم الأقليات بدورها قرارات الأكثريات لأنها تحتفظ بإمكانية تعديلها على ضوء التجربة. وبهذا التأكيد للديموقراطية العمالية تبشر أشكال التنظيم الديموقراطية لنضالات الشغيلة بإحدى خصائص الدولة العمالية القادمة، المتمثلة بتوسيع الحريات الديموقراطية لا الحد منها.
*******
مراجع:
ليون تروتسكي، احتضار الرأسمالية ومهام الأممية الرابعة (البرنامج الانتقالي).
مؤتمر إعادة توحيد (المؤتمر العالمي السابع).
الأممية الرابعة: الديالكتيك الحالي للثورة العمالية.
أرنست ماندل، الرقابة العمالية.
أرنست ماندل، الرقابة العمالية، المجالس العمالية، التسيير الذاتي (نصوص مختارة).
العصبة الشيوعية: مشروع برنامج.
وثائق المؤتمرين العالميين التاسع والعاشر للأممية الرابعة.
--------------------------------------------------------------------------------
14/ كسب الثوريين للجماهير
1- التمايز السياسي داخل البروليتاريا
لقد رأينا (الفصل 9، النقطة 5) كيف تولد الحاجة إلى حزب طليعي ثوري من تقطع العمل المباشر لأوسع الجماهير، كما من الطابع العلمي للاستراتيجية الضرورية لقلب سلطة البرجوازية. وعلينا أن نضيف الآن عنصرا إضافيا لهذا التحليل، هو التمايز السياسي داخل البروليتاريا.
تظهر الحركة العمالية في كل بلدان العالم كمجموعة تيارات إيديولوجية مختلفة. ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى التيارات التالية: التيار الاشتراكي-الديموقراطي، وهو إصلاحي تقليدي! تيار الأحزاب الشيوعية الموالية لموسكو، وهي من أصل ستاليني وذات توجه إصلاحي جديد متنام، التيار الفوضوي أو النقابي الثوري! التيار الماوي! التيار الماركسي الثوري (الأممية الرابعة). تضاف إلى ذلك في العديد من البلدان تشكيلات وسيطة (وسطية) بين هذه التيارات الأيديولوجية الرئيسية.
لهذا التمايز الأيديولوجي داخل الحركة العمالية جذور موضوعية عديدة في واقع البروليتاريا وفي تاريخها.
ليست الطبقة العاملة متجانسة كليا من زاوية ظروفها الإجتماعية، فحسبما يكون الشغيلة يعملون في الصناعة الكبرى أو الصغيرة، استقروا في المدينة منذ أجيال عديدة أو فقط منذ زمن قريب، تلقوا تدريبا عاليا أو متوسطا، يؤدي ذلك بهم لفهم أسرع أو أبطأ لصحة بعض الأفكار الأساسية للاشتراكية العلمية. فالعمال المتخصصون يفهمون ضرورة تنظيم نقابي بسرعة أكبر مما يفعل عمال عاطلون عن العمل خلال نصف حياتهم. إلاّ أن تنظيمهم النقابي مهدد أيضا بالوقوع بسرعة أكبر ضحية النزعة الحرفية الضيقة، التي تخضع المصالح العامة للطبقة العاملة إلى المصالح الخاصة لأريستوقراطية عمالية تدافع على وجه الخصوص عن المكاسب المستحصل عليها فيما تحاول منع الوصول إلى مواقعها المهنية - إنه لأسهل لعمال المدن الكبرى والصناعات الكبيرة أن يعوا القوة الكامنة العظيمة لجمهور البروليتاريا الواسع وأن يؤمنوا بإمكانية نضال ظافر للبروليتاريا نحو انتزاع السلطة والمصانع من البرجوازية، بينما الأمر أقل سهولة بالنسبة لعمال يشتغلون في مؤسسات صغيرة ويعيشون في مدن صغيرة.
يضاف إلى انعدام تجانس الطبقة العاملة تنوع التجربة النضالية وتنوع طاقات الشغيلة الفردية. فهذا الفريق العمالي خاض تجربة عشرة إضرابات (معظمها تتوج بالنصر) والعديد من المظاهرات العمالية، وهذه التجربة تحدد لديه جزئيا وعيا مختلفا عن وعي فريق آخر من البروليتاريين لم يخض أكثر من تجربة إضراب واحد (مني بالفشل) خلال عشر سنوات، ولم يشارك ككتلة واحدة في نضال سياسي.
هذا العامل أو المستخدم يندفع بشكل طبيعي إلى الدراسة، يقرأ الكراسات والكتب بالإضافة إلى قراءة صحيفته المفضلة، بينما لا يقرأ عامل آخر على الإطلاق. هذا ذو طبع مشاكس، لا بل يتمتع بمواهب قيادية، بينما ذاك ذو شخصية سلبية ويفضل السكوت خلال الاجتماعات. واحد يعقد صلات بالرفاق دون صعوبة، بينما الآخر مشدود إلى حياة المنزل ويفضل الاهتمام بعائلته. كل ذلك يؤثر جزئيا في سلوك الشغيلة وخيارهم السياسي على المستوى الفردي، كما يؤثر في مستوى وعيهم الطبقي عند لحظة محددة.
ينبغي أن نأخذ بعين الاعتبار أخيرا التاريخ الخاص للحركة العمالية في كل بلد، وتقاليدها القومية. فالطبقة العاملة البريطانية التي كانت الأولى التي تصل إلى تنظيم نفسها تنظيما طبقيا مستقلا عن طريق الحركة الشارتية لم تعرف يوما حزبا جماهيريا مستندا إلى برنامج أو تربية ماركسيين، ولو بدائيين. إن حزبها الجماهيري قائم على النقابية الجماهيرية، ومنبثق عنها، عنينا حزب العمال. أمّا الطبقة العاملة الفرنسية التي وسمتها بعمق تقاليد النصف الأول من القرن 19 (البابوفية والبلانكية والبرودونية) فقد كبح اعتناقها للماركسية ضعف الصناعة الكبرى النسبي وتوزعها النسبي في مدن المقاطعات الصغيرة نسبيا. لقد توجب انتظار ازدهار المصانع الكبرى في ضواحي باريس وليون ومارسيليا والشمال في العشرينات والثلاتينات من هذا القرن، الذي زاد حدة في الخمسينات والستينات ليتمكن الإضراب الجماهيري من التحكم بالمجرى العام للنضال الطبقي (يونيو 1936، إضرابات 1947-1948، ماي 1968) وليصبح الحزب الشيوعي الفرنسي الحزب المهيمن داخل الطبقة العاملة، مضفيا عليها طابعا ينتمي بوضوح إلى الماركسية. ولقد انطبعت الطبقة العاملة والحركة العمالية الإسبانيتان، لمدة طويلة، بتقاليد النقابية الثورية التي تأثرت عميقا بالتخلف الحاد للصناعة الكبرى في شبه الجزيرة الإيبيرية الخ…
نتج تنع التيارات الأيديولوجية للحركة العمالية عن منطقها وتاريخها الخاصين بها، أي عن النقاشات والتعارضات الناجمة عن مجرى النضال الطبقي بالذات. فقد حدثت في البدء القطيعة بين الماركسيين والفوضويين داخل الأممية الأولى انطلاقا من الخلاف حول مسألة ضرورة الاستيلاء على السلطة السياسية، ثم القطيعة بين الثوريين والإصلاحيين داخل الأممية الثانية حول مسألة المشاركة في حكومات بورجوازية، ودعم الدفاع القومي في البلدان الإمبريالية، ودعم النضال الثوري الجماهيري الذي يهدد استمرار الاقتصاد الرأسمالي والدولة البرجوازية المستندة إلى الديموقراطية البرلمانية، أو خنق ذلك النضال! ثم القطيعة بين الستالينيين والتروتسكيين (الماركسيين الثوريين) داخل الأممية الثالثة والحركة الشيوعية الدولية، بين أنصار نظرية الثورة الدائمة وخصومها، وبين أنصار نظرية «الثورة على مراحل» وخصومها، بين أنصار طوبى إنجاز بناء الاشتراكية في بلد واحد وخصومه، وبالتالي أنصار إخضاع مصالح الثورة العالمية للضرورات المزعومة لهذا الإنجاز وخصومه.
إلاّ أن لهذا التنوع في التيارات الأيديولوجية أيضا جذورا موضوعية ومادية أشد عمقا، من مثل تلك التي قمنا إلى الآن بتعريتها.
2- الجبهة العمالية الموحدة ضد العدو الطبقي
قاد تنوع التيارات الأيديولوجية داخل الحركة العمالية إلى تفتيت المنظمات السياسية للطبقة العاملة. ففي حين نجد الوحدة النقابية في العديد من البلدان (بريطانيا، البلدان السكندينافية، ألمانيا الاتحادية، النمسا)، نجد الانقسام الشامل على صعيد المنظمات السياسية. وبوصفنا ماديين، علينا أن نفهم أن وراء ذلك أسبابا موضوعية، وليس ناتجا صدفة عن «جرائم» «الانشقاقيين» أو عن «الدور المشؤوم» لهذا أو ذاك من الأفراد.
وإذا نظرنا إلى هذا الانقسام السياسي بحد ذاته فليس شرا، فالطبقة العاملة حققت العديد من انتصاراتها الأكثر دويا ضمن شروط تعايش أحزاب عدة واتجاهات عدة تنتسب جميعا إلى الحركة العمالية. إن مؤتمر السوفييتات الثاني لعامة روسيا، الذي قرر نقل جميع السلطات إلى السوفييتات، كان يتميز بالتفتت إلى أحزاب واتجاهات سياسية مختلفة على صعيد الطبقة العاملة، تفتت أكثر حدة مما نعرفه الآن في الغرب. إن انقسام الطبقة العاملة الألمانية إلى أحزاب كبيرة ثلاثة (والعديد من الشلل والتيارات الصغيرة) لم يحل دون انتصار الإضراب العام في مارس 1920 الذي خنق في البيضة محاولة الانقلاب الرجعية الفاشية التي قام بها فون كاب، كما أن تنوع المنظمات السياسية والنقابية للبروليتاريا الإسبانية في يوليوز 1936 لم يمنعها من التغلب على الانتفاضة العسكرية-الفاشية في معظم أحواض البلاد الصناعية.
إلاّ أن الشرط المسبق لكيلا يؤدي التبعثر السياسي للحركة العمالية إلى إضعاف قوة الهجوم لدى الطبقة العاملة بمجملها، هو ألاّ يحول دون وحدة عمل الشغيلة ضد العدو الطبقي المتمثل بأرباب العمل والبرجوازية الكبرى والحكومة البرجوازية والدولة البرجوازية. أمّا الشرط المسبق الآخر فهو ألاّ يحول دون النضال السياسي والأيديولوجي من أجل هيمنة الماركسية الثورية داخل الطبقة العاملة بهدف بناء الحزب الثوري الجماهيري وبالتالي إعادة الديموقراطية العمالية إلى عقر دار الحركة العمالية المنظمة.
إن الرد الوحدوي للطبقة العاملة أمر لا غنى عنه على الإطلاق بمواجهة هجمات البرجوازية على وجه الخصوص. ويمكن أن تكون تلك الهجمات اقتصادية، من مثل الصرف من العمل وإقفال المنشآت وخفض الأجور الفعلية، الخ. كما يمكن أن تكون سياسية، كالهجمات ضد حق الإضراب والحريات النقابية، وضد الحريات الديموقراطية للجماهير والحركة العمالية، ومحاولات إرساء أنظمة تسلطية، أو فاشية سافرة، تلغي حرية التنظيم والعمل للحركة العمالية بمجموعها. في هذه الحالات جميعا، يمكن فقط لرد جماهيري وموحد أن يؤدي بالهجوم البرجوازي إلى الفشل. ووحدة العمل الفعلية لدى الطبقة العاملة تمر بالجبهة الواحدة الفعلية لكل المنظمات العمالية، بقدر ما تبقى سطوتها داخل قطاعات مهمة من البروليتاريا واقعا حيا.
لقد كانت إحدى المآسي الكبرى في القرن 20 هزيمة البروليتاريا الألمانية بفعل استيلاء هتلر على السلطة في 30 يناير 1933، كنتيجة لرفض قيادتي الحزب الشيوعي الألماني والحزب الاشتراكي الألماني أن تعقدا في اللحظة المناسبة اتفاقا لإقامة جبهة موحدة ضد الصعود النازي، وعجزهما عن القيام بذلك. إن عواقب تلك المأساة كانت على درجة من الخطورة بحيث على جميع الشغيلة أن يحفظوا عن ظهر قلب الدرس الرئيسي لتلك التجربة: في مواجهة صعود الفاشية، لا غنى عن الجبهة الموحدة لكل المنظمات العمالية، بغية الحيلولة دون ارتقاء القتلة والجلادين سدة السلطة، عن طريق عمل حازم وموحد تضطلع به الجماهير الكادحة.
إن الذرائع والعوائق دون تحقيق الجبهة الموحدة ذات طبيعة أيديولوجية وسياسية قبل كل شيء، فمعظم الشغيلة يؤيدون تلقائيا كل مبادرة وحدوية. بين تلك العوائق ذات الطبيعة السياسية والأيديولوجية ما يلي:
الممارسات القمعية للقادة الاشتراكيين-الديموقراطيين الذين يضطلعون بمسؤوليات داخل الدولة البرجوازية، وللقادة الستالينيين في الظروف ذاتها. إن الشرائح المتجذرة من الطبقة العاملة تشعر بالسخط على هكذا ممارسات تبدأ بكسر الإضرابات وتصل إلى التنظيم المنهجي للتجسس داخل المنظمات العمالية، لا بل إلى تنظيم اغتيال القادة الثوريين أو حتى العمال العاديين (نوسكي!).
الممارسات البيروقراطية للقادة النقابيين الإصلاحيين والستالينيين، ولقادة في الأحزاب الشيوعية وصلوا إلى مواقع قيادية في الحركة العمالية، الخ. هذه الممارسات التي تعتبر امتدادا لممارسات البيروقراطية القمعية حيث تمارس السلطة، تثير كذلك اشمئزازا مبررا لدى العديد من شرائح الشغيلة.
الدور المعادي للثورة بصورة منهجية للقيادات التقليدية للحركة العمالية التي تحول دون نمو الوعي الطبقي وتساعد موضوعيا (لا بل إراديا في الغالب) على تحقيق مشاريع معادية للثورة والعمال يقف وراءها رأس المال، وتنشر الأيديولوجية البورجوازية والبورجوازية الصغيرة في صفوف الطبقة العاملة، الخ.
إلاّ أنه ضروري مكافحة العصبوية والتطرف اليساري تجاه منظمات الطبقة العاملة الجماهيرية التقليدية، اللذين لا يحولان فقط دون تحقيق الجبهة العمالية الموحدة في وجه العدو الطبقي، بل كذلك دون النضال الفعال ضد هيمنة القيادات الإصلاحية والستالينية على أغلبية الطبقة العاملة.
نجد في أساس الأخطاء العصبوية واليسارية المتطرفة انعدام فهم الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للمنظمات الجماهيرية التقليدية والمتبقرطة في الحركة العمالية. فالعصبوية تتميز عموما على الصعيد الفكري بتضخيم وجه خاص للتكتيك أو للاستراتيجية، وبالعجز عن رؤية مشكلة النضال الطبقي والثورة البروليتارية بكل تعقيداتها وبمجملها. وإذا كان صحيحا أن سياسة قيادات تلك المنظمات لصالح البورجوازية إلى حد بعيد، وأن تلك القيادات تمارس التعاون الطبقي وتضعف نضال البروليتاريا الطبقي، وهي بالتالي مسؤولة عن هزائم لا تحصى لحقت بالطبقة العاملة، فصحيح أيضا أن وجود تلك المنظمات يسمح للشغيلة ببلوغ الحد الأدنى من الوعي والقوة الطبقيتين، اللذين بدونهما يصبح تقدم ذلك الوعي أصعب بكثير. إن وجود هذه المنظمات يسمح كذلك بتعديل موازين القوى اليومية بين رأس المال والعمل الذي بدونه تهتز ثقة الطبقة العاملة بنفسها اهتزازا شديدا. وحده استبدالها المباشر بأشكال أعلى من التنظيم الطبقي (سوفييتات) قد يسمح بألاّ ينتهي إضعافها بتراجع الطبقة العاملة أو شللها. بالمقابل فإن إضعافها، لكي لا نقول تدمير الرجعية الرأسمالية لها، يشكل إضعافا وتراجعا خطيرين لمجمل البروليتاريا. هذه هي القاعدة المبدئية التي يركز الماركسيون الثوريون عليها سياستهم المتمثلة بالجبهة العمالية الموحدة ضد الرجعية الرأسمالية.
3- الدينامية الهجومية لجبهة «طبقة ضد طبقة»
بمواجهة أي هجوم رأسمالي ضد الطبقة العاملة، ولا سيما بمواجهة أي تهديد فاشي أو إقامة ديكتاتورية يمينية، يدعو الماركسيون الثوريون إلى تشكيل جبهة موحدة من جميع المنظمات العمالية، من القاعدة إلى القمة، ويجتهدون في أن يدخلوا إلى هذه الجبهة الموحدة كل المنظمات التي تنتسب إلى الحركة العمالية بما فيها الأكثر اعتدالا، التي يقودها أشد الناس انتهازية وأشدهم مراجعة. كما يتوجهون منهجيا إلى قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي والنقابات الإصلاحية والمسيحية لكي يتم إرساء جبهة موحدة بين القيادات القومية، والمنطقية والمحلية، كما بين الفروع داخل المنشآت والأحياء، وذلك لمواجهة الهجوم المعادي بكل الوسائل المتوفرة.
إن رفض توسيع الجبهة الموحدة لتشمل قيادة الاشتراكية-الديموقراطية اوالأحزاب الشيوعية (وهي السياسة المسماة «سياسة المرحلة الثالثة» للكومنترن، التي يستعيدها اليوم العديد من المنظمات الماوية-الستالينية) يقوم على عدم فهم قصوي وطفولي للوظيفة الموضوعية لوحدة الجبهة البروليتارية ولشروطها المسبقة الذاتية. إنه يفترض مسبقا أن يكون جمهور الشغيلة الاشتراكيين (أو التابعين للحزب الشيوعي) مستعدا للانخراط في العمل الموحد مع الشغيلة الثوريين، دون الموافقة المسبقة لقياداته «الاشتراكية-الفاشية» أو «المراجعة». أي أنها تفترض كون المهمة التي ينبغي حلها قد تم حلها، إلاّ وهي مهمة فصل هذا الجمهور عبر تجربته الخاصة عن قياداته الانتهازية. ولكن توجيه الدعوة بالضبط إلى قادة الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي للالتقاء داخل جبهة موحدة في وجه هجوم الرجعية، يسمح للشغيلة الذين يتبعون تلك القيادات بان يعيشوا تجربة ثمينة ولا غنى عنها بما يخص مصداقية اولئك القادة وفعالياتهم وحسن نواياهم.
زد على ذلك أن افتراض عدم ضرورة انخراط قيادات الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي في الجبهة الموحدة العمالية، إنما يختصر هذه الجبهة إلى أقلية داخل الطبقة العاملة، وينشر أوهاما خطيرة حول إمكانية دفع أرباب العمل، أو الدولة البورجوازية، أو التهديد الفاشي، إلى الوراء، تحت ضربات نشاطات أقلية.
هل يعني ذلك أن تكتيك الجبهة الموحدة محدود بأهداف دفاعية؟ كلا بالطبع، فتنظيم كامل الطبقة العاملة كتشكيل مثالي -ولو لأهداف دفاعية في البدء- يعدل موازين القوى بين الطبقات ويقوي إلى حد بعيد قتالية الطبقات الكادحة، وقوتها الضاربة، وقدرتها على العمل السياسي وثقتها بأنفسهما، فيخلق بالتالي احتياطيا عظيما إضافيا للنضال، يمكنه أن يتولى التحويل السريع للنضال الدفاعي إلى نضال هجومي. فأثناء الانقلاب الفاشل الذي نظمه فون كاب في مارس 1920 في ألمانيا، خلق الرد الظافر والموحد للمنظمات العمالية الألمانية، خلال أيام قليلات، وضعا وافق أثناءه مناضلو منظمات عديدة -بما فيها منظمات إصلاحية- على تشكيل ميليشيات عمالية مسلحة في العديد من مدن الرور، لا بل طرح القادة النقابيون الأكثر اتعدالا ضرورة قيام حكومة عمالية. إن الرد الظافر والوحدوي للجماهير الإسبانية ضد الانقلاب الفاشي الفاشل في يوليوز 1936 في معظم المدن الكبرى أدى إلى التسليح الشامل للبروليتاريا وإلى الاستيلاء على المصانع.
إن الماركسيين الثوريين الذين يرمون إلى الاستفادة ما أمكن من هذه الطاقة الهجومية الكامنة للجبهة العمالية الموحدة ينادون بضرورة بناء الجبهة الموحدة في القاعدة كما في القمة، دون أن يشكل هذا البناء إنذارا موجها لأحزاب البروليتاريا أو نقاباتها أو جماهيرها. ويفترض بناء من هذا النوع أن تضم الجبهة الموحدة، بالإضافة إلى الاتفاقات و«الكارتيلات» القومية، والنطقية، الخ.. للمنظمات العمالية، لجانا قاعدية في المنشآت والأحياء والنواحي، لجانا ينبغي أن تكون بأسرع ما يمكن لجانا منتخبة ديموقراطيا، ومنخرطة في حشودات وأعمال جماهيرية منهجية. إن الدينامية الهجومية لبنية من هذا النوع، تفتح الطريق في الواقع أمام وضع ثوري، إنما هي أمر بديهي.
4- الجبهة الموحدة العمالية والجبهة الشعبية
بقدر ما الماركسيون الثوريون هم أنصار الأكثر حزما لسياسة جبهة عمالية موحدة، بقدر ما يرفضون سياسة «الجبهة الشعبية»، التي طرحت من جديد منذ المؤتمر السابع للكومنترن، وهي السياسة الإصلاحية الاشتراكية-الديموقراطية القديمة القاضية بالتحالف بين البرجوازية «الليبرالية» (أو «القومية»، أو «المعادية للفاشية») والحركة العمالية («كارتيل اليسار»).
إن التمييز الجوهري بين الجبهة العمالية الموحدة و«كارتيل اليسار»، أو «الجبهة الشعبية»، يكمن في أن الجبهة العمالية الموحدة تستثير بمنطقها الرافع لشعار «طبقة ضد طبقة» دينامية تصعيدية لنضال البروليتاريا ضد البرجوازية، بينما تستثير سياسة الجبهة الشعبية بالمقابل، انطلاقا من منطقها القائل بالتعاون الطبقي، دينامية كبح للنضالات العمالية، لا بل قمع للشرائح العمالية الأكثر تجذرا. ففي حين لا تنطوي الجبهة العمالية الموحدة في وجه الهجوم الرأسمالي على أي شرط مسبق للدفاع عن النظام البرجوازي والملكية الرأسمالية (مهما يكن تعلق القادة الإصلاحيين بهكذا دفاع)، تقوم الجبهة الشعبية على احترام النظام البورجوازي والملكية، الذي يؤدي انعدامه، كما يقال، إلى استحالة استقبال «البرجوازية التقدمية» في الجبهة، بما «يمكن أن يقوي الرجعية». إن كل منطق الجبهة الشعبية يتجه إذا إلى حرف النضالات الجماهيرية، أو احتوائها، أو تحطيمها، وهو ما ليس واردا في حال اتفاقات الجبهة العمالية الموحدة.
طبعا، إن التمييز بين جبهة عمالية موحدة وجبهة شعبية لا ينطوي على اختلاف «مطلق»، وإن كان يطرح اختلافا ذا شأن، تبعا للطبيعة الطبقية الموضوعية لنوعي الاتفاق. إذ يمكن أن يكون هنالك تطبيقات انتهازية لتكتيك الجبهة العمالية الموحدة يبدأ خلالها قادة المنظمات التي تزعم أنها منظمات ثورية بكبح النضالات الجماهيرية بدورهم، بذريعة «عدم إرعاب القادة الإصلاحيين»، بينما يمكن للجماهير أن تنطلق في بعض الحالات من أوهام وحدوية تبذرها اتفاقات جبهة شعبية من أجل زيادة حدة نضالاتها، لا بل خلق بنى تنظيم ذاتي، وهي مبادرات على الماركسيين الثوريين أن يؤيدوها بالطبع ويدعموها بكل الوسائل.
لكن مهما تكن هذه الحالات الوسيطة، تبقى القضية المبدئية قضية حيوية، إذ علينا من وجهة نظر الصراع الطبقي أن ندعم سياسة الجبهة العمالية الموحدة، وأن نكافح كل اتفاق سياسي مع أحزاب بورجوازية، -حتى لو كانت «يسارية»- يعيد النظر في الاستقلال السياسي الطبقي للبروليتاريا.
5- الاستقلال السياسي الطبقي والتنظيم الموحد للطبقة
هكذا فإن إشكالية الجبهة الموحدة العمالية، كما إشكالية الجبهة الشعبية، تعيدنا في النهاية إلى مسألة حيوية واحدة، هي كيف يمكن للطبقة العاملة أن تنجز تنظيما توحيديا لقوتها، بالاستقلال التام عن البورجوازية، رغم تفتتها إلى تيارات أيديولوجية وأحزاب وشلل وبدع سياسية مختلفة، ورغم النقص في مستوى المتوسط لوعيها الطبقي.
إن الذين يدعون إلى الزوال المسبق لهذا التفتت، كشرط مسبق لتحقيق التنظيم الطبقي الموحد، يلاحقون سرابا لا أكثر، فهذا التفتت موجود منذ قرن، ولا أدنى إشارة إلى أنه سوف يزول قريبا. إن اعتبار هذا الزوال شرطا تمهيديا يشبه القول علميا أن وحدة الجبهة البروليتارية (إذا انتصارها) مستحيلة حتى مستقبل غير منظور.
إن الذين يرون في تحقيق وحدة عمل الطبقة ناتج اتفاقات على صعيد القمة، بالاستقلال عن المضمون الطبقي والدينامية الموضوعية التي تثيرها تلك الاتفاقات -عن طريق المماثلة مثلا بين الجبهة العمالية الموحدة والجبهة الشعبية- ينسون أن الوحدة الحقيقية للجبهة البروليتارية مستحيلة إلاّ على أساس طبقي. ليس معقولا أن تقبل كل قطاعات الطبقة العاملة وشرائحها الكبح الذاتي والبتر الذاتي اللذين تنطوي عليهما اتفاقات تعاون طبقي.
ثمة إذا رابط وثيق بين وحدة عمل الطبقة العاملة بمجملها والأهداف النضالية التي يوافق عليها الجميع، لا بل أشكال النضال التي تتبناها الطبقة. والماركسيون الثوريون يتمسكون بحزم بكل مبادرة وحدوية حقيقية، لأنهم مقتنعون أن هكذا مبادرات تقوي على الدوام كفاحية الشغيلة ووعيهم، باتجاه النضال الطبقي الحازم ضد رأس المال.
إن استقلال البروليتاريا الطبقي، الذي لا يمكن أن تتحقق بدونه وحدتها، يقع حيال أرباب العمل على مستوى المشروع الصناعي والفرع. كما يقع حيال الأحزاب البورجوازية، لا بل حتى حيال الدولة البورجوازية، والدولة الديموقراطية-البورجوازية الأكثر حرية. فالثقة بالنفس التي تكسبها الطبقة العاملة، التي تمر بتجربة وحدوية حقيقية تشمل الطبقة بأكملها، تحفزها للقبض بيديها الاثنتين على ناصية حل مشكلاتها جميعا، بما فيها المشكلات المتروكة عادة للبرلمان، وهذا سبب إضافي لكي يكون الثوريون المحامين الأشد حزما وصلابة عن وحدة عمل الطبقة العاملة كلها.
6- الاستقلال الطبقي والتحالفات بين الطبقات
إن التمييز المبدئي، الذي نقيمه بين الجبهة العمالية الموحدة والجبهة الشعبية، تعرض غالبا للاتهام بأنه «دوغمائي». والناقدون يرون أنه «ينكر ضرورة التحالفات»، وأنه بدون «تحالفات طبقية» لا مجال لانتصار الثورة الاشتراكية. لينين ذاته، ألم يركز كل الاستراتيجية البلشفية على ضرورة قيام تحلف بين البروليتاريا والفلاحين؟
فلنشر أولا إلى أن كل مقارنة بين البلدان الإمبريالية حاليا وروسيا القيصرية مقارنة خادعة. ففي روسيا لم تكن تمثل البروليتاريا أكثر من 20% من السكان العاملين. أمّا في البلدان الإمبريالية -باستثناء البرتغال- فالبروليتاريا، أي جمهور الذين يضطرون لبيع قوة عملهم، تمثل الأغلبية الساحقة داخل الأمة، أو 70% إلى 90% من السكان العاملين في معظم تلك البلدان. إن وحدة الجبهة البروليتارية (التي تضم فيما تضم المستخدمين بالطبع) هي أمر أكثر حيوية بكثير بالنسبة للثورة من التحالف مع الفلاحين.
نضيف إلى ذلك أن الماركسيين الثوريين ليسوا معادين أبدا لتحالف بين البروليتاريا والبورجوازية الصغيرة الكادحة (غير المستغِلة) في المدن والأرياف، حتى في البلدان التي تكون هذه الأخيرة فيها أقلية. ففي العديد من البلدان الإمبريالية، مثل البرتغال وإسبانيا وإيطاليا وفرنسا، ما يزال إرساء التحالف العمالي-الفلاحي ذا أهمية سياسية كبرى، وخصوصا اقتصادية، من أجل انتصار الثورة الاشتراكية وتدعيمها.
أمّا ما نرفضه فهو أن يكون التحالف بين الأحزاب العمالية والأحزاب البورجوازية ضروريا لإقامة تحالف الطبقات الكادحة. على العكس من ذلك، فتحرير الفلاحين وصغار البورجوازيين المدينيين من سيطرة البورجوازية يفترض مسبقا تحريرهم من الدعم الذي يقدمونه للأحزاب السياسية البورجوازية. يمكن للتحالف -لا بل ينبغي- أن يقوم على اساس مصالح مشتركة، وعلى البروليتاريا وأحزابها أن تقدم لهاتين الطبقتين أهدافا اجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية تهمها وتعجز البرجوازية عن تحقيقها لها. وإذا كانت التجربة تثبت إرادة البروليتاريا انتزاع السلطة وتحقيق برنامجها، فيمكنها أن تحوز على دعم جزء مهم من البورجوازية الصغيرة بغية تحقيق تلك الأهداف.
7- حركات تحرر النساء والأقليات القومية المضطهدة في انطلاق النضالات المعادية للرأسمالية
تقليديا، فهمت الحركة العمالية المنظمة مشكلة «التحالفات» كمشكلة انتخابية وسياسية (تحالف بين عدة أحزاب)، أو كتحالف بين الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين الكادحين وشرائح أخرى مستغلة من البورجوازية الصغيرة. إلاّ أنه خلال الثورات البروليتارية الماضية الكبرى، لاسيما الثورة الروسية والثورة الإسبانية، لعب الدمج بين الثورة الاجتماعية وحركات تحرر القوميات المضطهدة دورا مرموقا.
وإذ تغوص الرأسمالية المعاصرة في أزمة اجتماعية أكثر فأكثر تعميما (لا سيما منذ النصف الثاني من الستينات)، تتسم الصراعات الاجتماعية-السياسية في البلدان الإمبريالية بالدمج بين النضالات البروليتارية «الصرفة» وانفجارات استياء وتمرد اجتماعي لقطاعات واسعة من السكان لا تتشكل بكاملها من البروليتاريا: حركة تمرد الشبيبة، حركة تحرر النساء، حركة تمرد القوميات المضطهدة.
حين نقول «لا تتشكل بكاملها من البروليتاريا»، نريد أن نقول ذلك وحسب. إنه لمن العبث أن نعتبر الشبيبة أو النساء أو الأقليات العرقية والسلالية كـ«غير بروليتاري»، لا بل «بورجوازية صغيرة» بمجملها، تبعا لمعايير أيديولوجية نفسية. فجزء متزايد من النساء في البلدان الإمبريالية (أكثر من 50% في بعض البلدان) يتألف من مأجورات وليس من ربات منازل، وجزء مهم من الشباب يتألف من شغيلة شبان ومن متدربين. إن السود البورتوركيين والشيكانو في الولايات المتحدة، والايرلنديين والمهاجرين من آسيا والهند الغربية إلى بريطانيا، والباسكيين والقشتاليين في إسبانيا -ونحن نقتصر على هذه الأمثلة الثلاثة- لم يتبلتروا فقط إلى حد بعيد، بل يشكلون كذلك جزءا مهما من بروليتاريا تلك الدول بصورة إجمالية.
إن شروط حياة كل هذه الشرائح التي في وضع التمرد من نوع خاص -نساء، وشباب وأقليات عرقية وقومية- ومطالبها الخاصة بها، تستحق انتباها خاصا من جانب الحركة العمالية وطليعتها الثورية لأسباب ثلاثة بديهية.
أولا، لأن هذه الشرائح تضم عموما القسم الأكثر تعرضا للاستغلال والأكثر بؤسا من البروليتاريا الذي يتطلب اهتماما خاصا من جانب كل شغيل واع. ثم إن هذه الشرائح هي عموما ضحايا اضطهاد مزدوج، بما هي بروليتاريون ونساء وشبيبة وأقليات ومهاجرون في الوقت ذاته… والحال أن البروليتاريا ليست قادرة على التحرر نهائيا، ولا أن تلغي العمل المأجور وتبني مجتمعا لا طبقيا، من دون أن تصفي جذريا كل أشكال التمييز والاضطهاد واللا مساواة الاجتماعية. أخيرا، تسمح حركة تمرد تلك الشرائح وتحررها بانخراط قطاعات غير بروليتارية، تشكل أجزاء من الشرائح المضطهدة المشار إليها أعلاه، في النضال من أجل الثورة الاشتراكية.
هذا التحالف ليس آليا طبعا، فهو يتوقف على وزن التفاوت الطبقي الذي سيستثيره التقاطب الأقصى للقوى الاجتماعية، خلال السيرورة الثورية، داخل حركة تحرر النساء والشبيبة والقوميات والأعراق المضطهدة. إلاّ أنه يتوقف أيضا على قدرة الحركة العمالية، ولا سيما على قدرة طليعتها الثورية أن تقبض بجرأة على ناصية القضية العادلة التي يقاتل من أجلها المتعرضون للاضطهاد.
إن الماركسيين الثوريين يعترفون بمبررات حركات التحرر المستقلة للنساء والشبيبة والقوميات والأعراق المضطهدة، لا فقط قبل انهيار الرأسمالية، بل حتى بعده، هذا الانهيار الذي لا يمحو بين ليلة وضحاها رواسب آلاف السنين من المسبقات القائمة على التمييز بين الجنسين، أو العرقية أو الشوفينية، أو الحاقدة على الأجانب، داخل الجماهير الكادحة. ولسوف يسعون لكي يكونوا أفضل المكافحين، داخل هذه لحركات الجماهيرية المستقلة، من أجل كل المطالب العادلة والتقدمية، ولكي يكونوا وراء التعبئات والنضال الأكثر اتساعا والأكثر توحيدية.
كما سيكافحون في الوقت ذاته منهجيا لصالح حلول سياسية واجتماعية إجمالية -استيلاء الطبقة العاملة على السلطة وإلغاء النظام الرأسمالي- بدونها يستحيل تقديم حل عام ودائم للتمييز بين الجنسين وللتمييز العرقي والشوفيني. وسيكونون بصورة ليست أقل منهجية المدافعين الأشداء عن تضامن كل المستغَلين (بفتح الغين) وكل البروليتاريين في النضال من أجل مصالحهم الطبقية، بغض النظر عن كل اختلاف في الجنس أو العرق أو القومية. وكلما كانت معركتهم ضد كل أشكال الاضطهاد الخاصة، التي تعاني منها هذه الشرائح المتعرضة لاستغلال مضاعف، معركة أكثر حزما واقناعا، كلما أصبح هذا النضال من أجل التضامن الطبقي العام داخلها أكثر فعالية.
*******
المراجع:
قرارات المؤتمر الثالث للأممية الشيوعية حول التكتيك
لينين، «اليسارية» مرض الشيوعية الطفولي
تروتسكي، إلى أين تتجه فرنسا؟
تروتسكي، كتابات حول إسبانيا.
تروتسكي، كتابات حول ألمانيا.
تروتسكي، الحركة الشيوعية في فرنسا.
ماندل، حول الفاشية.
دانييل غيران، الفاشية ورأس المال الكبير.
هنري فيبر، الماركسية والوعي الطبقي.
ماندل، لينين والوعي الطبقي البروليتاري.
--------------------------------------------------------------------------------
15/ حول المجتمع اللا طبقي
1- الهدف الاشتراكي المقصود
إن الهدف الاشتراكي الذي نرمي إلى بلوغه هو استبدال المجتمع البورجوازي، القائم على نضال الجميع ضد الجميع، بمجتمع جماعي لا طبقي، حيث يحل التضامن الاجتماعي محل الرغبة في الثراء الفردي كمحرك أساسي للنشاط، وحيث يضمن ثراء المجتمع التطور المنسجم لجميع الأفراد.
إن الماركسيين لا يطمحون إلى «جعل الناس جميعا متساوين» كما يزعم كل الخصوم الجاهلين للاشتراكية، بل يودون أن يفسحوا في المجال، للمرة الأولى في التاريخ البشري، أمام تطور السلسلة اللا متناهية من إمكانات الفكر والعمل لدى كل فرد. إلاّ أنهم يفهمون أن المساواة الاقتصادية والاجتماعية، وتحرر الإنسان من ضرورة الكفاح لأجل خبزه اليومي، يمثلان شرطا مسبقا للحصول على هذا التحقيق الفعلي للشخصية الإنسانية لدى كل الأفراد.
إن مجتمعا اشتراكيا يتطلب إذا اقتصادا متطورا إلى حد يلي معه الإنتاج وفقا للحاجات الإنتاج بهدف الربح. فالإنسانية الاشتراكية لن تعود تنتج سلعا معدة للتبادل في السوق لقاء المال، بل ستنتج قيما استعمالية توزع على جميع أعضاء المجتمع بهدف كفاية كل حاجاتهم.
إن مجتمعا من هذا النوع سيحرر الإنسان من قيود التقسيم الاجتماعي والاقتصادي للعمل. فالماركسيون يرفضون الموضوعة التي ترى أن بعض الناس «ولدو للقيادة» والبعض الآخر «ولدوا للطاعة». وليس أي من الناس معدا بطبيعته ليكون طيلة حياته عامل منجم أو فرازا أو سائق حافلة كهربائية. في كل إنسان تهجع رغبة ممارسة عدد كبير من النشاطات المختلفة، ويكفي أن نراقب الشغيلة في أوقات فراغهم لنتأكد من ذلك. وفي المجتمع الاشتراكي، سوف يسمح المستوى الرفيع من التأهيل التقني والثقافي لأي مواطن أن يشغل نفسه بالعديد من المهمات المتنوعة المفيدة للجماعة، ولن يفرض اختيار «المهنة» فرضا على الناس، بفعل قوى أو شروط مادية مستقلة عن إرادتهم، بل سيتوقف ذلك الاختيار على حاجتهم الخاصة بهم، وعلى تطورهم الفردي. سيتوقف العمل عن أن يكون نشاطا مفروضا يتهرب المرء منه، ليصبح تحقيقا للذات وحسب، وسيكون الإنسان حرا بالمعنى الحقيقي للكلمة. إن مجتمعا من هذا النوع سوف يجهد لإزالة كل أسباب النزاعات بين البشر، وسيكرس للنضال ضد الأمراض ولتكوين الطبع لدى الطفل، وللتربية والفنون الجميلة، الموارد الهائلة المبذرة اليوم على أهداف التدمير والقسر. وبإزالة كل التناقضات الاقتصادية والاجتماعية بين الناس تتم إزالة كل أسباب الحرب أو الصراعات العنيفة. إن ارساء مجتمع اشتراكي يشمل العالم بأجمعه هو وحده الكفيلة بتأمين هذا السلم الشامل الذي يصير شرطا لاستمرار الجنس البشري على قيد الحياة في عصر الأسلحة الذرية والنووية الحرارية
2- الشروط الاقتصادية والاجتماعية لبلوغ هذا الهدف
إذا كنا لا نكتفي بالحلم بمستقبل مشرق، وإذا كنا نريد الكفاح من أجل بلوغ هذا المستقبل، علينا أن نفهم أن بناء مجتمع اشتراكي يقلب رأس على عقب تقاليد الناس وعاداتهم التي تبلورت خلال آلاف السنين في مجتمعات منقسمة إلى طبقات، هذا البناء يخضع لتحولات مادية ليست أقل زعزعة ينبغي إنجازها مسبقا.
يتطلب بلوغ الاشتراكية قبل كل شيء إلغاء الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. هذه الملكية تفترض حتما في عصر الصناعة الكبرى والتقنية الحديثة (التي لا يمكن إلغاؤها دون حشر البشرية في زاوية الفقر المعمم) قسمة المجتمع إلى أقلية من الرأسماليين المستغِلين (بكسر الغين) وأكثرية مستغَلة (بفتح الغين) من مأجورين.
إن بلوغ المجتمع الاشتراكي يتطلب إلغاء العمل المأجور وبيع قوة العمل لقاء أجرة ثابت من المال يجعل من المنتج جزءا عاجزا من الحياة الاقتصادية. ينبغي أن يحل محل العمل المأجور تعويض العمل بالحصول الحر على كل الخيرات الضرورية لكفاية حاجات المنتجين، ولا يمكن أن يولد وعي اجتماعي جديد وموقف جديد يتخذه الناس بعضهم تجاه البعض الآخر إلاّ في مجتمع يضمن للإنسان هكذا وفرة في الخيرات.
هكذا وفرة في الخيرات ليست طوباوية إطلاقا، شرط إدخالها تدريجيا والانطلاق من عقلنة تدريجية لحاجات الناس الذين تحرروا من إكراه المنافسة، ومن مطاردة الثراء الفردي، ومن استخدام الإعلان الذي يهتم بخلق حالة عدم اكتفاء دائم لدى الأفراد. هكذا خلقت التطورات في مستوى الحياة حالة إشباع الاستهلاك الخبز والبطاطا والخضار وبعض الفواكه، لا بل منتجات الحليب والسمنة واللحم في الجزء الأقل فقرا من سكان البلدان الإمبريالية. كما أن اتجاها مماثلا يتجلى على صعيد الألبسة الداخلية والأحدية والأثاث المنزلي الأساسي، الخ. فهذه المنتجات جميعا يمكن أن توزع بالتدريج مجانا، دون تدخل المال، ودون أن يؤدي هذا إلى زيادات مهمة في الإنفاقات الجماعية. والإمكانية ذاتها قائمة بالنسبة للخدمات الاجتماعية كالتعليم والعناية بالصحة والنقل المشترك، الخ.
إلاّ أن إلغاء العمل المأجور لا يتطلب تبديل شروط المكافأة وتوزيع الأموال الاستهلاكية وحسب، بل كذلك تبديل بنية المشروع التسلسلية، وإحلال نظام ديموقراطية المنتجين محل نظام الأمر المحصور بالمدير (يساعده رؤساء المشاغل ورؤساء الفرق، الخ.). إن هدف الاشتراكية حكم الناس ذاتهم بذاتهم على كل مستويات الحياة الاجتماعية ابتداء بالحياة الاقتصادية. إنه استبدال كل المندوبين المعينين بقادة منتخبين، كل المندوبين الدائمين بقادة يمارسون وظيفتهم بالتناوب. على هذه الطريق يتم التوصل لخلق شروط مساواة حقيقية.
إن الثروة الاجتماعية التي تسمح بإرساء نظام وفرة، غير ممكن بلوغها إلاّ عن طريق تخطيط الاقتصاد، الذي يسمح بتلافي كل تبذير يتمثل بعدم استخدام وسائل الإنتاج والبطالة، أو باستخدامها لأهداف متعارضة مع مصالح البشرية. ويبقى تحرير العمل خاضعا للتطور العظيم للتقنية الحديثة (التطبيق الإنتاجي للطاقة الذرية بعد استجماع شروط الأمن القصوى، والبحث المكثف عن موارد طاقة بديلة، الإلكترونيك والتوجيه من بعيد اللذان يسمحان بالأتمتة الكلية للإنتاج) الذي يحرر الإنسان أكثر فأكثر من المهام الثقيلة والمحطة. هكذا يجيب التاريخ مقدما على الاعتراض المبتذل القديم على الاشتراكية: «من سيمارس إذا المهمات الدنيا في مجتمع اشتراكي؟»
إن التطور الأقصى للإنتاج ضمن الشروط الأكثر ريعية بالنسبة للبشرية يتطلب الإبقاء على تقسيم دولي للعمل والتوسع به، تقسيم معدل مع ذلك بعمق من أجل إلغاء الانقسام إلى بلدان «متقدمة» وبلدان «تابعة»، وإلغاء الحدود وتخطيط الاقتصاد على المستوى العالمي. إن إلغاء الحدود والتوحيد الفعلي للجنس البشري هو أيضا أمر سيكولوجي من أوامر الاشتراكية، والوسيلة الوحيدة لإلغاء اللاّ مساواة الاقتصادية والاجتماعية بين الأمم. ولا يعني إلغاء الحدود إلغاء الشخصية الثقافية الخاصة بكل أمة، بل يسمح على العكس بتأكيد هذه الشخصية بصورة أكثر سطوعا مما هي الحال اليوم، في الميدان الخاص بها.
إن تسيير الشغيلة للمشاريع، وتسيير مؤتمر مجالس الشغيلة للاقتصاد، وتسيير كل دوائر الحياة الاجتماعية عن طريق التجمعات المعنية، يتطلب هو الآخر شروط تحقيق مادية، إذا شاء ألاّ يكون وهميا. ولا غنى عن الخفض الجذري ليوم العمل -أو اتباع الدوام النصفي- من أجل أن يتوفر للمنتجين الوقت لتسيير المشاريع والكومونات، ولكي لا تتشكل شريحة جديدة من المدراء المحترفين.
لا غنى عن تعميم التعليم العالي -وتوزيع جديد لـ«وقت الدراسة» و«وقت العمل» على امتداد كل حياة الرشد للرجل والمرأة- من أجل أن يزول بالتدريج فصل العمل اليدوي عن العمل الذهني. كما لا غنى عن المساواة الدقيقة في المكافأة وفي التمثيل وفرص التأهيل العالي للنساء من أجل ألاّ تستمر اللا مساواة بين الجنسين بعد زوال اللا مساواة بين الطبقات الاجتماعية.
3- الشروط السياسية، والأيديولوجية، والنفسية والثقافية لبلوغ هذا الهدف
إن الشروط المادية لبلوغ مجتمع لا طبقي هي شروط ضرورية لكنها غير كافية، فالاشتراكية والشيوعية لن تكونا الناتج الآلي لتطور قوى الإنتاج، ولاختفاء النقص في الحاجيات، ولارتفاع مستوى التأهيل التقني والثقافي للبشرية. ينبغي كذلك تبديل العادات والتقاليد والبنى الذهنية التي تنتج عن آلاف السنوات من الاستغلال والقمع وعن الشروط الاجتماعية التي تلائم الرغبة في الإثراء الفردي.
قبل كل شيء، ينبغي انتزاع كل سلطة سياسية من الطبقات المسيطرة ومنعها من استعادة تلك السلطة. إن التسليح العام للشغيلة، الذي يحل محل الجيوش الدائمة، ثم التدمير التدريجي لكل الأسلحة وعجز أنصار محتملين لإعادة حكم الأقلية عن إنتاج تلك الأسلحة، كل ذلك ينبغي أن يسمح ببلوغ الهدف المشار إليه.
إن ما يضمن استمرار الشروط التي يستحيل معها العودة لنظام قمع واستغلال يتلخص بالأمور التالية: ديموقراطية مجالس الشغيلة، ممارسة تلك المجالس لكامل السلطة السياسية، الرقابة العامة على الإنتاج وتوزيع الثروات، تأمين علنية تامة للنقاشات التي تؤدي إلى القرارات السياسية والاقتصادية الكبرى، وصول الشغيلة جميعا إلى وسائل الإعلام وتكوين الرأي العام.
يتعلق الأمر فيما بعد بخلق الشروط الملائمة لكي يعتاد المنتجون على العيش بأمان ويتوقفوا عن قياس جهودهم تبعا للمكافآت التي يتوقعونها لقاءها. ولا يمكن لهذه الثورة النفسية أن تظهر إلاّ حين تعلم التجربة الناس أن المجتمع الاشتراكي يضمن فعليا، وبصورة دائمة، كفاية حاجاتهم الأساسية، دون حساب كل واحد منهم، بالمقابل، في الثروة الاجتماعية.
إن مجانية الغداء واللباس الضروري، والخدمات العامة، والعناية بالصحة، والتعليم، والخدمات الثقافية، سوف تسمح ببلوغ هذا الهدف بعدما يكون قد مر على اعتمادها جيلان أو ثلاثة. فمنذ ذاك لا يعود ينظر إلى العمل كوسيلة «لكسب المعيشة» أو لتأمين الاستهلاك الجاري، بل يصبح حاجة للنشاط الخلاق الذي يساهم كل واحد عبره في رخاء الجميع وتطورهم.
إن التبديل الراديكالي لبنى القمع المتمثلة بالعائلة البطريركية وبالمدرسة المتسلطة المتقوقعة في برجها العاجي، وبالاستهلاك السلبي للأفكار و«الخيرات الثقافية»، سوف يتلازم مع هذه التحولات الاجتماعية والسياسية.
لن تتولى ديكتاتورية البروليتاريا قمع أية فكرة وأي تيار علمي أو أدبي أو ثقافي أو فني، فهي لن تخاف من الأفكار، لقناعتها بتفوق الأفكار الشيوعية. ومع ذلك فلن تكون حيادية إزاء النضال الأيديولوجي الذي يستمر. وسوف تخلق كل الشروط الملائمة من أجل أن تتمثل البروليتاريا المتحررة أفضل منتجات الثقافية القديمة، وتبني بالتدريج عناصر الثقافة الشيوعية الموحدة للبشرية القادمة.
إن الثورة الثقافية التي ستطبع بخاتمها بناء الشيوعية ستكون قبل كل شيء ثورة الشروط التي يخلق الناس من ضمنها ثقافتهم الخاصة بهم، وتحويل جمهور المواطنين من مستهلكين سلبيين إلى منتجين ثقافيين فاعلين وخلاقين.
والعائق الأكبر الذي يبقى على البشرية أن تتخطاه لخلق عالم شيوعي إنما هو المسافة الضخمة التي تفصل الإنتاج ومستوى معيشة الفرد في البلدان المتقدمة صناعيا عنهما في البلدان المتخلفة. فالماركسية تنبذ الطوبى الرجعية لشيوعية قائمة على التقشف والعسر. إن تفتح الحياة الاقتصادية والاجتماعية لشعوب نصف الكرة الجنوبي لا يتطلب فقط تخطيطا اشتراكيا للاقتصاد العالمي، بل كذلك إعادة توزيع جذرية للموارد لصالح تلك الشعوب.
إن تبديل أنماط التفكير الأنانية وقصيرة النظر البورجوازية الصغيرة التي تواصل الحياة اليوم على مستوى جزء مهم من الطبقة العاملة في نصف الكرة الشمالي سيسمح وحده ببلوغ هذا الهدف. وعلى التربية الأممية أن تسير نحو هذا الهدف جنبا إلى جنب مع عادة الوفرة التي ستبرهن أنه يمكن القيام بإعادة التوزيع تلك دون إحداث تراجع في مستوى معيشة الجماهير الشمالية.
4- أطوار المجتمع غير الطبقي
على أساس التجربة الغنية للثورات البروليتارية منذ أكثر من قرن -أي منذ كومونة باريس- يمكن أن نميز ثلاثة أطوار من بناء مجتمع لا طبقي:
- طور الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، وهو طور ديكتاتورية البروليتاريا، واستمرار الرأسمالية في بلدان مهمة، والاستمرار الجزئي للإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، واستمرار العديد من الطبقات والشرائح الاجتماعية داخل البلدان المنخرطة في هذا الطور، وبالتالي ضرورة استمرار الدولة من أجل الدفاع عن مصالح الشغيلة ضد جميع أنصار العودة إلى مملكة رأس المال.
- طور الاشتراكية، التي ينجز بناؤها والتي تتميز بزوال الطبقات الاجتماعية («الاشتراكية هي المجتمع اللا طبقي» حسب تعبير لينين)، وبزوال الاقتصاد البضاعي والنقدي واخفتاء الدولة وانتصار المجتمع الجديد على المستوى العالمي. إلاّ أنّ مكافأة كل شخص في الطور الاشتراكي (بغض النظر عن الكفاية المجانية للحاجات الأساسية) سيستمر قياسها تبعا لكمية العمل الذي يقدمه هذا الشخص للمجتمع.
- طور الشيوعية، الذي يتميز بالتطبيق الكامل لمبدأ «من كل حسب قدرته، ولكل حسب حاجته»، وبزوال التقسيم الاجتماعي للعمل والفصل بين العمل اليدوي والعمل الذهني، وبزوال الفروق بين المدينة والريف. سوف تعيد البشرية تنظيم نفسها بشكل كومونات حرة من المنتجين-المستهلكين، القادرين على إدارة أوضاعهم بأنفسهم دون أي جهاز منفصل، وقد أعيد دمجهم في وسط طبيعي معاد تأهيله، وقدمت لهم الحماية ضد مخاطر تدمير توازن البيئة.
إلا أنه حين نجد أنفسنا أمام مجتمع لاحق للرأسمالية تخلص من احتكار السلطة بين يدي شريحة بيروقراطية -أي إزاء سلطة فعلية للشغيلة- لن تعود هناك حاجة لأية ثورة وأية قطيعة مفاجئة لتسجيل تعاقب هذه الأطوار، فهي ستنتج عن تطور تدريجي لعلاقات الإنتاج والعلاقات الاجتماعية، وستكون تعبيرا عن الاضمحلال التدريجي للمقاولات البضاعية والمال والطبقات الاجتماعية والدولة والتقسيم الاجتماعي للعمل والبنى الذهنية التي نجمت عن كل الماضي القائم على اللا مساواة والصراع الاجتماعيين. إن الجوهري يكمن في الشروع حالا بسيرورات الاضمحلال وعدم تأجيلها لأجيال قادمة.
هذا هو مثلنا الأعلى الشيوعي، وهو يشكل الحل الوحيد للمشكلات الحادة التي تواجهها الإنسانية. وتكريس الحياة لتحقيقه يبرهن عن الجدارة بفطنة أفضل أولاد جنسنا وشهامتهم، بالمفكرين الأكثر جسارة والمقاتلين الأكثر جرأة من أجل تحرير العمل، بالأمس كما اليوم.
*******
المراجع:
كارل ماركس، نقد برنامج غوتا.
فريدريك إنجلز، دحض دوهرينغ، الجزء الثالث: «الاشتراكية».
لينين، الدولة والثورة.
بوخارين وبريو براجنسكي، ألف باء الشيوعية.
ليون تروتسكي، الأدب والثورة -مشكلات الحياة اليومية.
لافارغ، حق الكسل.
--------------------------------------------------------------------------------
16/ الدياليكتيك المادي
1- الحركة الشاملة
إذا عدنا إلى مضمون الفصول الخمسة عشر السابقة وحاولنا أن نختصرها بصيغة واحدة، لا يمكننا أن نجد أفضل من الصيغة التالية: كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.
لقد انتقلت البشرية من المجتمع البدائي غير الطبقي إلى المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي سيكون بدوره منطلقا للمجتمع الاشتراكي اللا طبقي اللاحق. إن أنماط الإنتاج تتعاقب، وحتى قبل أن تزول تخضع لتبدلات متواصلة. تختلف الطبقة المسيطرة اليوم كثيرا عن طبقة مالكي العبيد التي كانت مهيمنة في الإمبراطورية الرومانية، والبروليتاري المعاصر يختلف كليا عن القن في القرون الوسطى. وبين الرأسمالي صاحب المعمل الصغير في بداية القرن التاسع عشر، والسيد روكفلر أو صاحب تروست رون بولنك في أيامنا هذه، بون شاسع. كل شيء يتغير، كل شيء في حركة دائمة.
هذه الحركة الشاملة يمكن أن نجدها على كل مستويات الواقع، وليس فقط مستوى تاريخ المجتمعات البشرية. فالأفراد يتبدلون، خاضعين لقدر محتوم. إنهم يولدون ويكبرون وينضجون ويرشدون، ثم يشرعون بالانحدار وينتهون إلى الموت، وهذا القدر يصيب الأنواع الحية كما يصيب الأفراد. فالجنس البشري لم يكن حيا على الدوام، والعديد من الأنواع التي كانت تقطن في الماضي كوكبنا، من مثل الزواحف العملاقة في العصر الثالث، قد اندثرت، بينما تندثر الآن تحت أعيننا أنواع أخرى نباتية وحيوانية، وذلك جزئيا كنتيجة لأشكال الخلل الفوضوية التي أحدثها نمط الإنتاج الرأسمالي في البيئة الأرضية.
إن كوكبنا بدوره لن يحيا إلى الأبد، ففقدان الطاقة يحكم عليه بالزوال حتما في يوم من الأيام. كما أنه لم يكن موجودا منذ البدء، فقد ولد من مجموعة نجوم ليست بحد ذاتها إلاّ واحدة من مجموعات لا تحصى مشابهة لها في الكون. إن الحركة أو التطور الشامل تتحكم بكل وجود، وهذا الوجود مادي بحت، وفي أساس المادة ذرات تتألف هي الأخرى من دقائق أصغر، وإدغامات الذرات تشكل جزيئات تكوّن فيما بينها العناصر الأساسية المختلفة للقشرة الأرضية والجو. هكذا فإن الأوكسجين والهيدروجين، بعد أن يدخلا في إدغام معيّن، مرموز إليه بـ H2O يؤلفان الماء، بينما تشكل الجزيئات الأسس التي تقود عملية تكوين الحوامض الأمينية.
هكذا نرى أن تطور المادة غير العضوية أدى إلى ولادة المادة العضوية، ضمن شروط محددة. فالحوامض الأمينية تشكل البروتيينات التي تعمل كخلايا، وهذه الأخيرة تستثير تطور الأنواع الحية، أكانت نباتية أو حيوانية. وتولد في مجرى هذا التطور الكائنات الحية العليا، أو الثدييات، وتتفرع عنها القرديات التي تحدر منها النوع البشري.
2-الدياليكتيك، منطق الحركة
بما أن حركة شاملة تميز -كما يبدو- كل وجود، فينبغي أن نستخلص ملامح مشتركة بين حركة المادة (أو الطبيعة) وحركة المجتمع الإنساني وحركة معارفنا (أو العلم، الفكر الإنساني). إن الدياليكتيك المادي الذي بلوره ماركس وإنجلز يؤكد أنه عرّى في الواقع هذه الملامح المشتركة للحركة الشاملة.
يتجلى الدياليكتيك إذا، أو منطق الحركة، على ثلاثة مستويات:
ديالكتيك الطبيعة وهو ديالكتيك موضوعي كليا، أي مستقل عن الوجود الإنساني وعن مشاريع الإنسان ونواياه أو حوافزه، وهو لا يفعل مباشرة في التاريخ البشري. لا يستبعد ذلك أن تتمكن البشرية مع تطور قوى الإنتاج من استخدام قوانين الطبيعة من أجل إعادة تكييف بيئتها الطبيعية.
ديالكتيك التاريخ، وهو ديالكتيك موضوعي إلى حد بعيد أولا، ولكن يشكل اقتحامه من جانب مشروع البروليتاريا، القاضي بإعادة بناء المجتمع وفقا لبرنامج معد مسبقا، إنعطافا ثوريا، حتى لو ارتبط وضع هذا المشروع وتحقيقه بشروط مادية موضوعية موجودة مسبقا ومستقلة عن إرادة البشر.
ديالكتيك المعرفة (الفكر الإنساني) الذي هو ديالكتيك الموضوع-الذات بامتياز، وناتج تفاعل مستمر بين الموضوعات المطلوبة معرفتها (موضوعات كل فرع من العلوم) وعمل الذوات التي تسعى لفهمها والتي يشرطها وضعها الاجتماعي، ووسائل التقصي الموروثة الموضوعة تحت تصرفها -وسائل العمل كما المفاهيم- وتحويل تلك الوسائل عبر النشاط الاجتماعي الجاري، الخ.
بمقدار ما يشكل اكتشاف الديالكتيك الموضوعي طورا من تاريخ المعارف والفكر البشري (بلور الديالكتيك في البدء فلاسفة إغربق مثل هيراقليط، ثم استعاده سبينوزا وطوّره هيغل)، يمكن أن نخضع لإغراء إرجاع كل الديالكتيك إلى ديالكتيك الموضوع-الذات، وهو ما يمكن اعتباره خطأ.
واضح أن كل ما نعرفه، ومن بينه ما له علاقة بديالكتيك الطبيعة، إنما نعرفه بواسطة دماغنا وأفكارنا وممارستنا الاجتماعية، التي تحددها شروط وجودنا الاجتماعي. إلاّ أن هذا الواقع البديهي لا يحول دون أن نتمكن من معرفة أن الحياة أقدم من الفكر الإنساني (ومن التأكيد من صحة ذلك، ورؤية إثبات ذلك عن طريق براهين عملية متعددة)، وأن الأرض أقدم من الحياة، والكون أقدم من الأرض، وأن كل هذه الحركة هي حركة مستقلة عن العمل وعن وجود الإنسان أو فكره، وأنّ الفكر الإنساني ذاته هو ناتج تلك الحركة: فالفكر هو المادة التي تعي ذاتها. ذلكم هو المعنى الدقيق لمفهوم: «الديالكتيك المادي».
أكثر من ذلك، فبقدر ما تتحسن معارفنا وتصبح علمية أكثر فأكثر، وبقدرما تقترب المعرفة من الواقع (إن تطابقا كليا للمعرفة والواقع مستحيل، لا سيما لكون هذا الأخير في حالة تبدل دائم)، بمقدار ما تتابع مسيرة تلك المعرفة الحركة الموضوعية للمادة أكثر فأكثر. إن بوسع ديالكتيك فكرنا العلمي، أو الديالكتيك المادي، أن يقارب الواقع، بالضبط لكون حركته الخاصة تتوافق أكثر فأكثر مع حركة المادة، لا سيما بفضل الممارسة الاجتماعية التي تعبر عن سيطرة متنامية على قوى الطبيعة، لأن قوانين المعرفة والفهم الذهني للواقع الذي تطبقه تتوافق أكثر فأكثر مع القوانين التي تقود الحركة الشاملة للواقع الموضوعي.
ينبغي أن نشير إلى وجود اختلاف كبير بين تطور العلوم الطبيعية وتطور العلوم الاجتماعية أي معارفنا المتعلقة بكل ما يتخذ الحياة الاجتماعية موضوعا للبحث، بما فيها معارفنا حول بدايات تطور العلوم جميعا، ومن بينها العلوم الطبيعية، وحول ديالكتيكها.
إن تطور العلوم الطبيعية محدد هو الآخر تاريخيا واجتماعيا، فالناس، ومن بينهم العباقرة الأكثر جسارة، عاجزون عن أن يطرحوا أكثر من عدد معين من المشكلات العلمية في كل عصر، وعن أن يحلوا أكثر منه. إنهم يخضعون للأفكار والتربية المتلقاة، والإشكاليات الجديدة تولد في هذا السياق، في علاقة مع تبدلات مادية، لا سيما تلك المتعلقة بالعمل وبأدوات العمل وأدوات الاستقصاء العلمية، الخ. إلاّ أن الأمر يتعلق بتحديد غير مباشر، لا تتوسطه بشكل مباشر مصالح مادية طبقية. ولا يمكن دحض نظريات علمية تقوم على براهين اختبارية عن طريق الرجوع إلى الديالكتيك عموما أو إلى الأصل الاجتماعي أو المواقف السياسية لدى العلماء الذين صاغوا تلك النظريات. لا يمكن دحضها إلاّ عبر نظريات علمية أخرى جرى البرهان على صحتها اختباريا، نظريات تحلل بشكل أفضل واقعا أكثر تعقيدا.
يختلف الأمر مع العلوم الاجتماعية، إذ هي تتناول عن كثب أكثر تنظيم المجتمع الطبقي وبنيته. ووزن «الأفكار المتلقاة والموروثة» أكبر فيها، لا سيما أن هذه الأفكار ليست سوى التعبير، على المستوى الإيديولوجي، عن مصالح ترمي للمحافظة على الواقع الاجتماعي أو للثورة الاجتماعية، مصالح يمكن إرجاعها في نهاية المطاف إلى مواقف طبقية متضادة. ودون أن نريد تحويل الفلاسفة والمؤرخين والاقتصاديين وعلماء الاجتماع والأنتبولوجيا إلى «عملاء» واعين لهذه أو تلك من الطبقات الاجتماعية، منخرطين في «مؤامرة» للدفاع عن الوضع القائم أو لـ«تنظيم التخريب»، من البديهي أن التحديد الاجتماعي لتطور العلوم الاجتماعية هو أكثر مباشرة وفورية بكثير من تطور العلوم الطبيعية. وفي الوقت ذاته، فإن موضوع العلوم الاجتماعية يتحدد فورا، وبقوة الأشياء، ببنية المجتمعات التي ترتبط بها الوقائع المدروسة وبتاريخها، وهو ما ليس حال موضوع العلوم الطبيعية.
3- الديالكتيك والمنطق الصوري
يتميز الديالكتيك، أو منطق الحركة، عن المنطق الصوري أو المنطق السكوني. فالمنطق الصوري يقوم على ثلاثة قوانين أساسية:
أ- قانون التماثل: أ = أ. يبقى الشيء مساويا لداته على الدوام.
ب- قانون التضاد: أ، مختلفة عن لا-أ، أ لا يمكن أن تكون مساوية أبدا للا -أ.
ج- قانون الثالث المستبعد: أمّا أ، وأمّا لا-أ. لا يمكن لشيء أن لا يكون أ، وأن لا يكون لا-أ.
تسمح لنا لحظة من التأمل بالاستنتاج أن ما يميز المنطق الصوري هو المسار الذي يكمن في وضع الحركة والتبدل بين هلالين. كل القوانين التي أوردنا صحيحة، إذا لم نأخذ الحركة بالاعتبار. أ تبقى مساوية لذاتها طالما لم تتغير. أ تختلف عن لا-أ طالما لم تتحول إلى نقيضها. هنالك أ، او لا-أ طالما ليست هناك حركة تدغم أ مع لا-أ، الخ، الخ. إزاء لآتحول الشرقنة إلى فراشة والمراهق إلى راشد، يصبح «قانون التماثل» غير كاف، بوضوح.
إن غض النظر عن الحركة والتحول والتبدلات مفيد من زاويتين: أولا للتمكن من دراسة ظاهرات معينة بصورة معزولة ومتواصلة، وهو ما يسمح، دون شك، بتعميق معارفنا حول هذه الظاهرات. وبالتالي، من زاوية عملية، حين تكون التبدلات الحادثة طفيفة للغاية بحيث يمكن تجاهلها عمليا.
فإذا اشتريت كيلو سكر من حانوت السمان، فالمساواة التي يشير إليها الميزان: 1 كغ سكر = 1 كغ، ذات قيمة بالنسبة إلي، نظرا للهدف العملي للشراء. فللتمكن من تحلية قهوتي والإبقاء على توازن موازنتي المنزلية، لا يهم كثيرا ألاّ يكون الوزن الفعلي لهذه الرزمة كيلو غراما، بل فقط 999 غ، وأن يكون وزن تلك الرزمة الأخرى 980 غ (بسبب رطوبة الجو على الأقل)، ففرق صغير جدا يمكن تجاهلها من الزاوية العملية.
هذا هو السبب في أن المنطق الصوري ما يزال يستخدم في النظرية كما في الممارسة، وفي أن الديالكتيك المادي لا «ينكر» المنطق الصوري بل يستوعبه، يعتبره أداة تحليل ومعرفة مقبولة -لكن مقبولة شرط فهم حدودها: أي فهم استحالة تطبيقها على ظاهرات الحركة وسيرورة التبدل. فمذ نصبح إزاء هكذا ظاهرات يفرض اللجوء إلى مقولات الديالكتيك، أو منطق الحركة، نفسه، وهي مقولات مختلفة عن مقولات المنطق الصوري.
4- الحركة، تبعا للتناقض
الحركة بطبيعتها عبور وتخطّ. فمن زاوية سكونية، لا يمكن لشيء محدد أن يكون في مكانين مختلفين في الوقت ذاته (ولو كان هذا الوقت في منتهى القصر). وحركة الشيء، من وجهة النظر الدينامية، هي بالتحديد انتقاله من نقطة إلى أخرى.
يدرس الدياليكتيك أو منطق الحركة إذا قوانين الحركة على وجه الخصوص، والأشكال التي تتبناها. وسوف نتفحص تلك القوانين من وجهتين: الحركة تبعا للتناقض، والحركة تبعا للكلية.
لكل حركة سبب دائما، والسببية واحدة من مقولات الدياليكتيك الأساسية، تماما كما هي مقولة أساسية في كل علم. وإنكار السببية هو إنكار لإمكانية المعرفة، في نهاية المطاف.
إن السبب الأخير لكل حركة، ولكل تبدل، يكمن في التناقضات الداخلية للموضوع المتبدل. كل موضوع، كل ظاهرة، يتغير، يتحرك، يتعدل، ويتحول في التحليل الأخير تحت تأثير تناقضاته الداخلية والتناقضات التي تنتج عن علاقاته بظاهرات أخرى (تناقضات داخلية في «نظام» الموضوعات والظاهرات التي هو جزء منها). بهذا المعنى، غالبا ما سمي الدياليكتيك، بحق، علم التناقضات. إن منطق الحركة ومنطق التناقضات تعريفان متماثلان عمليا للديالكتيك.
ينبغي إذا لتحليل كل موضوع، وكل ظاهرة أو مجموعة من الظاهرات، أن يهدف لتحديد ما هي عناصره المكونة المتناقضة، وما هي الحركة أو الدينامية التي تستثيرها تلك التناقضات.
هكذا رأينا على امتداد عرضنا إلى أي حد يقوم الصراع الطبقي -وهو محصلة وجود طبقات اجتماعية متضادة داخل المجتمع- بتوجيه حركة تاريخ المجتمعات المنقسمة إلى طبقات. يمكننا أن نقول، ونحن نشمل في الوقت ذاته المجتمع البدائي غير الطبقي والمجتمع المنقسم إلى طبقات والمجتمع الاشتراكي القادم، أن التناقض بين المستوى الذي بلغه في بعض العهود تطور قوى الإنتاج (درجة تحكم الإنسان بالطبيعة)، وعلاقات الانتاج (التنظيم الاجتماعي) المنبثقة في التحليل الأخير من مستويات تطور سابقة لقوى الانتاج ذاتها، إنما يوجه كل التطور البشري.
يمكننا ونحن نختصر الأمور إلى درجة لا متناهية أن نشير إلى القوانين التالية للحركة، أو الأشكال الرئيسية التي تتخذها، والتي تقدم مقولات أساسية للمنطق الدياليكتيكي أو منطق الحركة:
أ- وحدة الأضداد وتداخلها وصراعها
من يقل حركة يقل تناقضا، ومن يقل تناقضا يقل تعايشا بين عناصر متعارضة بعضها مع البعض الآخر، تعايشا وصراعا في الوقت ذاته بين تلك العناصر. إذا كان ثمة تجانس كلي وانعدام كامل لعناصر متعارض بعضها عن البعض الآخر، فليس هناك تناقض وليس هناك حركة، لا حياة هنالك ولا وجود. يتشكل الوجود من وحدة عناصر متضادة ومن تداخلها وصراعها، أي من حركتها.
إن وجود عناصر متناقضة يشمل (تعايشها في كلية مبنية totalité structurée، في مجموع لكل من هذه العناصر مكانه ضمنه، وفي الوقت ذاته صراع تلك العناصر لتحطيم هذا المجموع. ليست الرأسمالية ممكنة دون الوجود المتلازم لرأس المال والعمل المأجور، للبورجوازية والبروليتاريا. ولا يمكن للواحد أن يوجد دون الآخر، إلا أن هذا لا يعني أن لا يسعى الواحد باستمرار ليكبت الآخر، وأن لا تسعى البروليتاريا لإلغاء رأس المال والعمل المأجور، إذا لتخطي الرأسمالية.
ب- تحولات كمية وتحولات نوعية
تتخذ الحركة شكل تحولات تبقي على بنية (أو نوعية) الظاهرات، وسوف نتكلم في هذه الحالة على تبدل كمي، غالبا ما يكون غير ملحوظ. منذ بلوغ «عتبة» معينة، يتحول التبدل الكمي إلى تبدل نوعي، ومنذ تلك «العتبة»، بدل أن يحدث التبدل الكمي تدريجيا يتم بـ«قفزة»، وتظهر للحال «نوعية» جديدة. يمكن لقرية صغيرة أن تتحول تدريجيا إلى قرية كبيرة أو دسكرة، لا بل إلى مدينة صغيرة. لكن بين مدينة وقرية، ليس هنالك فرق كمي (عدد السكان والأبنية، الخ) وحسب، بل كذلك فرق نوعي. فالنشاط المهني لاغلبة السكان قد تغير، وحل محل المزارع العامل والمستخدم. لقد ولدت بيئة اجتماعية جديدة تطرح مشكلات اجتماعية لم تكن قائمة في القرية، من مثل مشكلة النقل المشترك، وتظهر طبقات اجتماعية جديدة وتناقضات جديدة فيما بينها.
ج- النفي والتخطي
كل حركة تميل لانتاج نفي لبعض ظاهراتها، ولتحويل موضوعات إلى نقيضها. الحياة تنتج الموت، ولا يمكن الشعور بالحرارة إلاّ تبعا للبرد، والمجتمع اللا طبقي ينتج المجتمع المنقسم إلى طبقات، الذي ينتج بدوره مجتمعا غير طبقي. إلاّ أنه ينبغي التمييز بين النفي «الصرف» و«نفي النفي»، الذي هو تخطي التناقض إلى مستوى أعلى، يستتبع في الوقت ذاته نفيا ومحافظة وارتفاعا إلى مستوى أعلى. لقد كان للمجتمع البدائي اللاطبقي مستوى عال من التماسك الداخلي، تبعا لفقره على وجه التحديد، ولخضوعه شبه الكلي لقوى الطبيعة. إن المجتمع المنقسم إلى طبقات هو مرحلة من السيطرة العليا للإنسان على قوى الطبيعة، ثمنها تمزق أعمق للتنظيم الاجتماعي. أمّا في المجتمع الاشتراكي القادم فهذا التناقض سيتم تخطيه، وسوف يندمج إذاك شكل رفيع من سيطرة الإنسان على الطبيعة بشكل رفيع أيضا من التماسك الاجتماعي والتعاضد، بفضل وجود مجتمع لا طبقي.
5- بعض المشكلات الإضافية بخصوص ديالكتيك المعرفة
أ- المضمون والشكل
كل حركة تتخذ بالضرورة أشكالا متتالية، يمكن أن تتبدل وفقا لعدد كبير من الظروف، وليس بوسعها أن تتخلص آليا من هذا الشكل أو ذاك الذي تم تبنيه من قبل، فهو يقاوم وهذه المقاومة ينبغي تحطيمها. ينبغي أن يتوافق الشكل مع المضمون، وهو يتوافق معه إذا، إلاّ أن ذلك لا يتعدى درجة معينة. فطبيعة الشكل الأكثر تحجرا تتعارض مع كل توافق مطلق ودائم مع حركة هي النقيض بالذات لكل ما هو متحجر.
ب-الأسباب والنتائج
كل حركة تبرز كسلسلة متداخلة من الأسباب والنتائج، يمزجها بعضها ببعض تفاعل معقد جدا، للوهلة الأولى. إن سبب العمل المأجور هو التملك الخاص لوسائل الانتاج التي أصبحت حكرا على طبقة اجتماعية، إلاّ أن هذا الاحتكار يستمر بالضبط كنتيجة للعمل المأجور. فالأجور لا تسمح باكتساب العمال وسائل الإنتاج، والعمل المأجور ينتج فائض قيمة يستملكه الرأسماليون ويتحول إلى ملكية بورجوازية لوسائل إنتاج إضافية، وهكذا دواليك.
لكي لا نقع في انتقائية مبتذلة وعقيمة، علينا تطبيق الطريقة التكونية، أي البحث عن الأصل التاريخي للحركة التي نحن بصددها. هكذا نجد أن رأس المال وفائض القيمة سابقان للعمل المأجور، وأنهما انبثقا من خارج دائرة الإنتاج، وأنه قد حصل تراكم بدائي لرأس المال، يكسر حلقة الأسباب والنتائج، عمل مأجور-رأس المال-عمل مأجور، هذه الحلقة المقفلة في الظاهر.
ج- العام والخاص
لكل حركة وكل ظاهرة ميزات خاصة بها. ورغم هذه الميزات النوعية الخاصة، فكل حركة، كل ظاهرة، لا يمكن فهمها وتفسيرها إلاّ في إطار مجموعات أوسع وأعم، فالرأسمالية البريطانية في القرن التاسع عشر لا تشبه الرأسمالية البريطانية في النصف الثاني من القرن العشرين، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية. كل من هذه الرأسماليات يمثل تكوينا اجتماعيا خاصا، مع الانخراط الخاص في اقتصاد عالمي تغير جدا في ظرف قرن. بيد أنه لا يمكن فهم الرأسمالية البريطانية في العصر الفيكتوري، ولا الرأسمالية البريطانية الآفلة المعاصرة، ولا الرأسمالية الأمريكية الحالية، خارج قوانين التطور العامة التي تطبع الرأسمالية عموما. فالديالكتيك العام والخاص لا يكتفي بـ«دغم» تحليل «العام» و«الخاص». إنه يجتهد في تفسير الخاص تبعا للقوانين العامة، وفي تعديل القوانين العامة تبعا لفعل العديد من العوامل الخاصة.
هـ-النسبي والمطلق
إن فهم الحركة أو التبدل الشامل هو فهم وجود ما لا نهاية له من الحالات الانتقالية. «الحركة هي وحدة التواصل والانقطاع» (هيغل). لذا فإن واحدة من الميزات الأساسية للديالكتيك هي فهم نسبية الأشياء، هي رفض إقامة حواجز مطلقة بين المقولات، السعي وراء توسطات بين العناصر المتعارضة. ويستتبع التطور الشامل وجود ظاهرات هجينة، وجود أوضاع وحالات «انتقالية» بين الحيات والموت، بين الأنواع النباتية والحيوانية، بين العصافير والثيديات، بين القرود والإنسان، تجعل التمايزات بين كل هذه المقولات نسبية.
بيد أن الدياليكتيك قد استخدم مرارا عديدة بصورة ذاتية، كـ«فن خلط المفارقات» أو «فن الدفاع عن المفارقات». ويكمن الفرق بين الدياليكتيك العلمي، أداة معرفة الواقع، والديالكتيك الذاتي أو السفسطائية، في أن نسبية الظاهرات والمقولات تصبح بدورها شيئا مطلقا لدى السفسطائيين. إنهم ينسون (أو يتناسون) أن نسبية المقولات ليست سوى نسبية جزئية، لا نسبية مطلقة، وأنه ينبغي إذا تنسيب النسبية.
يقول الديالكتيك العلمي أن الفرق «المطلق» بين الحياة والموت يحد من إطلاقيته وجود حالات إنتقالية. كل شيء نسبي، فليس الفرق بين الحياة والموت إذا إلا نسبيا، إذا لم يكن معدوما، حسب ادعاء السفسطائي. إلاّ أن الديالبكتيكي يرد عليه بقوله: ثمة شيء مطلق في الفرق بين الحياة والموت، لا نسبي وحسب. يجب ألاّ نخرج بالاستنتاج العبثي الذي يكمن في إنكار أن الموت يبقى نفي الحياة، إنطلاقا من الواقع الثابت أن ثمة العديد من المراحل الوسطية.
6- الحركة، تبعا للكلية-المجردة والملموس
رأينا أن كل حركة ترتبط على الدوام بالتناقضات الداخلية للظاهرة أو لمجموعة الظاهرات المأخوذة بالاعتبار. كل ظاهرة -أكانت خلية حية، أو بيئة طبيعية تتعايش فيها أجناس متنوعة، أو مجتمعا إنسانيا، أو نظاما كواكبيا- تنطوي مع ذلك على ما لا يحصى من الوجوه والعناصر المكونة. ولا تتجمع هذه العناصر بعضها مع بعض بصورة عرضية ومتبدلة باستمرار، بل تشكل مجموعات مبنية، تشكل كلية مركبة بناء على قوانين محددة.
هكذا فالعلاقات المتبادلة والمتضادة، في المجتمع البورجوازي، بين رأس المال والعمل ليست عرضية على الاطلاق، بل يحددها الاضطرار الاقتصادي للعامل المأجور إلى بيع قوة عمله للرأسمالي مالك وسائل الإنتاج ووسائل الاستمرار على قيد الحياة، بشكل بضائع. إن علاقات متبادلة مختلفة نوعيا عن هذه العلاقات أنتجت مجتمعات أخرى قائمة على الاستغلال، إلاّ أنها لم تكن بمجتمعات رأسمالية.
على الدياليكتيك المادي إذا أن يتناول كل ظاهرة، وكل موضوع تحليل ومعرفة، لا فقط ليحدد تناقضاته الداخلية التي تتحكم بتطوره («قوانين تطوره»)، بل عليه أن يسعى كذلك لتناول تلك الظاهرة بصورة اجمالية، وأن يفهمها بكل جوانبها، ويعتبرها بكليتها، ويتحاشى كل مقاربة من جانب واحد، تعزل هذا الوجه الخاص أو ذاك من وجوه الواقع عزلا اعتباطيا، وتلغي بالاعتباط ذاته هذا أو ذاك من وجوه، وتعجز بالتالي عن فهم التناقضات بمجملها، إذا عن فهم الحركة بكليتها.
إن قدرة الدياليكتيك هذه على أن يدمج في تحليله المنهج «الشمولي» (أو Allseitigkeit كما يقول لينين بالألمانية والروسية) هي إحدى جداراته الرئيسية. و«منطق الحركة» و«منطق التناقض» و«منطق الكلية» مرادفات على المستوى العملي. إن بعض المفكرين غير الديالكتيكيين يمضون من الكلي إلى الجزئي، مفرغين التناقض والكلية في الوقت ذاته، وذلك فيما يغمضون الأعين إزاء بعض عناصر الواقع المتناقضة التي تبدو كما لو كانت تجعل التحليل «عظيم التعقيد».
طبعا إن اختزالا ما، «حصرا» لـ«الكلية» بعناصرها المكونة الحاسمة، أمر محتوم كمسعى أول لمقاربة أي تحليل علمي. وهذا الأخير هو في البدء مجرد بالضرورة، فبدون هذا التجريد يستحيل تحليل الظاهرة في حركتها ومع تناقضاتها. كل «تفسير» يبقى متعلقا بالظاهرات الظاهرة هو وصف أكثر منه تفسير علمي لجوهر تلك الظاهرات. إن الأسعار مثلا هي ظاهرات ظاهرة، والقيمة، أو العمل الاجتماعي، هي الجوهر.
إلاّ أنه ينبغي ألاّ ننسى أن سيرورة التجريد المحتومة هذه تفقر الواقع. فكلما اقتربنا أكثر من الواقع كلما اقتربنا من كلية غنية بما لا يحصى من الوجوه التي على التحليل العلمي والمعرفة أن يفسراها في علاقاتها المتبادلة وفي علاقاتها المتناقضة في الوقت ذاته: «الحقيقة دائما ملموسة» (لينين). «الحقيقي هو الكلية» (هيغل). إن الكلية هي مجمل الجوهر، ومظاهره، والتوسطات التي تفسر لماذا يتجلى الجوهر في هذه المظاهر بالضبط لا في مظاهر أخرى.
7- النظرية والممارسة
إن الدياليكتيك نظرية، أو أداة، للمعرفة. يمكن أن نعرف الدياليكتيك المادي، تاريخيا، كنظرية المعرفة لدى البروليتاريا (وهو ما لا ينقص في شيء طابعها العلمي الموضوعي الذي يتطلب تثبتا دائما، وصارما، وموضوعيا، من دون مسبقات أو تحيّزات، في الميدان العلمي أيضا). وكل نظرية للمعرفة تخضع لامتحان صارم هو امتحان الممارسة.
ليست المعرفة ذاتها، في التحليل الأخير، ظاهرة منفصلة عن حياة الناس ومصالحهم. فهي سلاح للمحافظة على النوع، وسلاح يسمح للانسان بالسيطرة على قوى الطبيعة، وسلاح لفهم (لاحق) لجذور «المسألة الاجتماعية» ووسائل حلها. لقد انبثقت المعرفة إذا من الممارسة الاجتماعية لدى الانسان، ووظيفتها تحسين هذه الممارسة. وتقاس فعاليتها في التحليل الأخير بنتائجها العملية، فالتثبت العملي من صحتها أفضل سلاح ضد السفسطائيين والمتشككين.
لا يعني ذلك أن النظرية تذوب في برنامج مبتذل قصير النظر. فغالبا ما لا تظهر فورا الفعالية العملية، والطابع «الصحيح» أو«المغلوط» لفرضية علمية. هنالك حاجة للوقت، للمسافة، لتجارب جديدة، ولسلسلة متتالية من «امتحانات الممارسة» قبل أن يتمكن الطابع العملي لنظرية محددة من فرض نفسه فعليا في الممارسة. يمكن للعديد من الرجال والنساء، أسرى المظاهر، وأسرى رؤية جزئية وسطحية للواقع، رؤية مؤقتة للسيرورة الثورية (التي تحددها بدورها أيديولوجية الطبقات أو الشرائح الاجتماعية غير الثورية)، أن يشكوا، رغم أفضل النوايا والقناعات الاشتراكية، بعضهم بالطابع البورجوازي للديموقراطية البرلمانية، وبعضهم بضرورة ديكتاتورية البروليتاريا، والبعض الآخر بضرورة انتصار الثورة الأممية لاستكمال بناء مجتمع اشتراكي حقا في الاتحاد السوفياتي أو في بلد آخر.
بيد أن الوقائع تنتهي في خاتمة المطاف باثبات أي نظرية كانت علمية حقا، أي قادرة على فهم الواقع بكل تناقضاته، وكل حركته الاجمالية وأي الفرضيات كانت خاطئة، إي قادرة على أن تفهم فقط أجزاء من الواقع، عبر عزلها عن الكلية المبنية، وبالتالي عاجزة عن فهم الحركة على المدى الطويل بالدياليكتيكها الأساسي. إن انتصار الثورة الاشتراكية العالمية، وبلوغ مجتمع لا طبقي، سوف يثبتان عمليا صحة النظرية الماركسية الثورية.
********
المراجع:
فريكريك إنجلز، لودينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
فريكريك إنجلز، دحض دوهرينغ، الجزء الأول.
لينين، دفاتر حول الديالكتيك.
هنري لوفيفر، المنطق الصوري والمنطق الديالكتيكي.
بليخانوف، مسائل أساسية في الماركسية.
جورج نوفاك، مدخل إلى المنطق الماركسي.
بوخارين، المادية التاريخية.
جورج لوكاش، التاريخ والوعي الطبقي (الفصلان الأولان).
-----
17/ المادية التاريخية
نرى في الختام أن نصوغ بصورة أكثر منهجية الموضوعات الأساسية للمادية التاريخية، التي جرى الإلمام بها سريعا في الفصول الأولى من هذا الكتيب
***
1- الإنتاج والتواصلات الإنسانية
المخلوق الذي أصبح إنسانا حيوان خاص من حيث مواصفاته ونقاط ضعفه البدنية. فمن جهة هناك القامة الواقفة، واليد ذات الإبهام الحر والمطواع، والعينان المرتفعتان اللتان تسمحان بالرؤية الناتئة, واللسان والحلق والأوتار الصوتية التي تسمح بالتلفظ بأصوات متقطعة ومدموجة، والفص الجبهي من الدماغ والتلافيف المخية وقشرة الدماغ المتطورة جدا، والتكوير الجمجمي والحد من مساحة الوجه، التي تسمح بهذا التطور: هذه الصفات الجسدية جميعا لا غنى عنها من أجل صنع الأدوات، وهي تتحسن مع تحسن الأدوات والعمل الإنتاجي.
لكن من جهة أخرى، معظم الحواس والأعضاء البشرية أقل تطورا منها لدى أنواع حيوانية متخصصة جدا. فلم يكن بوسع الإنسان البدائي، المضطر تحت وطأة تغيير في المناخ حتما للترجل من الأشجار والعيش في السهول المعشبة على غذاء متنوع، أن يدافع عن نفسه ضد آكلات اللحوم من الحيوانات عن طريق الركض كالضبي، ولا عن طريق التسلق كالشمبانزي، ولا عن طريق الطيران كالعصفور، ولا بالاكتفاء بقوته البدنية كالجاموس أو الغوريلا، ولا بفضل قوقعة كتلك التي لوحيد القرن. لم يكن بوسعه الحصول لوحده على الغداء الأكثر إثارة للقابلية، نظرا لوجود عدد لا يحصى من المجترات التي تعيش معه في السهل المعشب. ثم أن الوليد البشري كان سريع العطب وعاجزا بوجه خاص، وغرائزه قليلة النمو بوضوح، وهو بمثابة جنين حقيقي خارج الرحم محتاج كليا لعناية أمهات الجماعة (إن وضع الوقوف الذي ضيّق حوض النساء ساهم بالتأكيد في هذا الطابع المبكر للوضع لدى أفراد الجنس البشري).
في هذا الخليط من الميزات ونقاط الضعف تمد الجذور إمكانية التنظيم الاجتماعي وضرورته. فالإنسان عاجز عن الحياة منعزلا وعن تأمين معيشته خارج التعاون مع آخرين من نوعه. ولا تسمح له أعضاء جسده غير النامية بالحصول مباشرة على طعامه، إذ عليه أن ينتج هذا الطعام بصورة جماعية، بواسطة أدوات تشكل امتدادا لأعضائه وتحسينا لها. ذلك هو اللعمل المشترك لمجموعة بشرية تؤمن هذا الإنتاج. إن الأطفال البشريين يندمجون بالجماعة عن طريق الكسب التدريجي للطابع الاجتماعي ويتعلمون قواعد الاستمرار في الحياة وتقنيته كأعضاء في الجماعة.
إن التنظيم الاجتماعي للبشر واكتساب الأطفال الطابع الاجتماعي يفرضان مسبقا أشكالا عالية نوعيا من التواصلات بين أعضاء الجماعة البشرية، بالنسبة إلى تلك التي تعرفها أنواع حيوانية أخرى. هذه الأشكال الرفيعة من اللغة، المرتبطة بتطور القشرة الدماغية، تسمح بانطلاق القدرة على التجريد، وعلى التعلم، أي حفظ دروس التجارب ونقلها، كما تسمح بإنتاج المفاهيم والفكر والوعي. بهذا المعنى، ترتبط مواصفات الإنسان المختلفة -«صفتنا الأنتربولوجية»- ارتباطا وثيقا بعضها بالبعض الآخر. فلكون الانسان «قردا عاريا يسير واقفا» ولأنه يبقى بعد ولادته «جنينا خارج الرحم»، عليه أن يصير صانع أدوات، حيوانا اجتماعيا مطورا للغته، يختزن الانطباعات والصور المتتالية، قادرا على استخدامها لغايات التجريد، قادرا على التفكير والتخيل والاختراع.
إن التفاعل بين هذه المواصفات ودغمها أمر حاسم، فثمة قرود متطورة جدا تستخدم أدوات وتستطيع حتى أن تتخطى أحيانا عتبة صناعتها البدائية، وثمة العديد من الأنواع التي تعرف أشكالا غريزية من التعاون الجماعي، لا بل ثمة أنواع كثيرة تعرف أشكالا بدائية من التواصل. إلاّ أن النوع البشري هو الوحيد القادر على صنع الأدوات بصورة واعية أكثر فأكثر، من أجل أن تصير أكثر فأكثر اتقانا، بعد أن تم تصميمها على هذا الحال بشكل واع، على قاعدة التجربة التدريجية، التي يتم نقلها بفضل وسائل اتصال أكثر فأكثر تنوعا وأكثر فأكثر اتقانا. فالأدات تسمح بتحرير الفهم، وهو ما يسمح بتحسين الأداة عن طريق إتقان اللغة والقدرة علىالتجريد. أمّا اليد فتطور الدماغ الذي يخلق شروط تحسين قدراته عن طريق تحسين استخدام اليد.
إذا كان تحويل المقدمات البشرية إلى بشر مشروطا بوجود بنية تحتية تشريحية وعصبية، فهو لا يقتصر على هذه البنية التحتية. فالديالكتيك «إنتاج/ وسائل اتصال» يخلق إمكانية تطور غير محدود لصنع الأدوات، وبالتالي الإنتاج البشري، تطور غير محدود للتجارب وإمكانات التعلم البشرية، إذا مطواعة وقدرة على التكيف غير محدودتين عمليا لدى الجنس البشري. يصبح المجتمع وثقافة الإنسان المادية طبيعته الثانية.
ينتج عن ذلك أنه من العبث إعلان هذه أو تلك من المؤسسات الاجتماعية (الملكية الخاصة، انعدام الملكية الخاصة) «متعارضة مع الطبيعة البشرية»، فالإنسان عاش، ويمكنه أن يعيش، ضمن أقصى الشروط تنوعا، وما من مؤسسة بدت ممتنعة على التحول أو شرطا مسبقا مطلقا لاستمرار الإنسان على قيد الحياة. إن التأكيد أن «الغريزة العدوانية» سوف تهيمن على التطور البشري إنما هو الخلط بين وجود ميل (يتعايش في كل حال مع نفيه، الذي هو غريزة الحس الاجتماعي والتعاون) وتحقيقه. فالتاريخ وما قبل التاريخ يؤكدان وجود مؤسسات وشروط اجتماعية تسمح باحتواء هذا الاتجاه وكبته، بينما ثمة مؤسسات أخرى تشجع على العكس تجليه الأكثر فأكثر إفراطا.
إن ديالكتيك «الإنتاج-التواصل» يتحكم بالشرط الإنساني بكامله. فكل ما يصنعه الإنسان «يمر عبر رأسه»، والإنتاج البشري يتميز عن التملك الحيواني للغذاء بواقع كونه ليس نشاطا غريزيا. إنه يشكل عموما تنفيذا لمشروع يجول أولا في رأسه، إلاّ أن هذا «المشروع» لا يسقط من السماء، وهو ليس سوى عمد دماغ الإنسان إلى إعادة إنتاج، أو تأليف، عناصر نشاطات لا غنى عنها لاستمراره ومشكلاتها، التي اختبرها هذا الدماغ وسجلها مئات المرات على أساس ممارسة فعلية. إن المادية التاريخية هي علم المجتمعات الإنسانية الذي يحاول أن يعطي صورة عن ديالكتيك «الإنتاج-التواصلات البشرية» وأن يشرحه.
2- القاعدة والبنية الفوقية الاجتماعيتان
على كل مجتمع بشري أن ينتج لكي يستمر على قيد الحياة، فإنتاج وسائل العيش -بالمعنى الضيق أو الواسع للكلمة، أي كفاية الحاجات الاستهلاكية- وأدوات العمل ومواده الضرورية لهذا الإنتاج، هو الشرط المسبق لكل تنظيم أو نشاط اجتماعي أكثر تعقيدا.
تعتبر المادية التاريخية أن الطريقة التي ينظم الناس وفقا لها إنتاجهم المادي تشكل أساس كل تنظيم اجتماعي. ويحدد هذا الأساس بدوره كل النشاطات الاجتماعية الأخرى، من مثل إدارة العلاقات بين الجماعات البشرية (لا سيما ظهور الدولة وتطورها)، والإنتاج الفكري، والقانون والأخلاق والدين الخ. وهذه النشاطات العائدة -كما يقال- للبنية الفوقية في المجتمع، يتم ربطها بالأساس دائما، بصورة أو بأخرى.
لقد صدمت هذه الفكرة الكثير من الناس ولا تزال تصدمهم. فهل يمكن للأناجيل، وشعر هوميروس، ومبادئ الحق الروماني، ومسرح شكسبير، ورسم ميكايلانج، وإعلان حقوق الإنسان، والبيان الشيوعي بالذات، أن تتوقف على الطريقة التي كان معاصروها يحرثون حقولهم وفقا لها أو يدعكون الأجواخ؟ إن فهم موضوعة المادية التاريخية يتطلب البدء بصياغتها بشكل صحيح.
لا تؤكد المادية التاريخية أبدا أن الإنتاج المادي («العامل الاقتصادي») يحدد بصورة مباشرة وفورية مضمون كل النشاطات، التي تنسب إلى البنية الفوقية، وشكلها. والأساس الاجتماعي - ليس النشاط الإنتاجي من حيث هو كذلك، كما ليس «الإنتاج المادي» منظورا إليه لوحده، بل هو العلاقات الاجتماعية التي يعقدها الناس فيما ينتجون حياتهم المادية. فالمادية التاريخية ليست إذا حتمية اجتماعية-اقتصادية.
ثم إن النشاطات على مستوى البنية الفوقية لا تنجم مباشرة عن علاقات الإنتاج الاجتماعية هذه، ولا تتحدد بها إلاّ بالدرجة الأخيرة. فبين مستويي النشاط الاجتماعي سلسلة من التوسطات سوف نمر بها بإيجاز في النقطة الثالثة من هذا الفصل.
أخيرا، إذا كان الأساس الاجتماعي يحدد بالتحليل الأخير الظاهرات والنشاطات على مستوى البنية الفوقية، يمكن لهذه الإخيرة أن تبادله الفعل. ونكتفي بمثال في هذا المجال. فللدولة على الدوام طبيعة طبقية محددة، وهي تتناسب ذا مع قاعدة اجتماعية -اقتصادية محددة، إلاّ أنها تستطيع بدورها تعديل تلك القاعدة جزئيا. فدولة الملكية المطلقة (في القرون السادس عشر والسابع عشر والثامن عشر، في أوروبا) التي علمت خلال قرون عديدة على انقاد طبقة النبلاء الإقطاعية من الدمار الاقتصادي عن طريق اقتطاعات من مداخيل طبقة اجتماعية أخرى، كانت إلى حد بعيد وراء إحلال نمط الإنتاج الرأسمالي محل نمط الإنتاج الإقطاعي عبر تطوير المركنتيلية والاستعمار وتشجيع المانيفكتورات والنظام النقدي القومي، الخ
إن كون النشاطات على مستوى البنية الفوقية تتحدد في التحليل الأخير بالقاعدة الاجتماعية يمكن تفسيره بعدة أسباب. فمن يشرفون على الإنتاج المادي وفائض الإنتاج الإجتماعي يشرفون في الوقت ذاته على من يتعيشون على فائض الإنتاج الاجتماعي. وسواء وافق المنظرون والفنانون والعلماء على هذه التبعية أو تمردوا عليها، فهي تحدد مع ذلك إطار نشاطهم. والعلاقات الاجتماعية على صعيد الإنتاج تولد نتائج من حيث أشكال النشاط في دائرة البنية الفوقية، وهذا أيضا من قبيل التكييف لها والتحكم بها. إن علاقات الإنتاج تترافق بأشكال تواصل مسيطرة في كل نموذج من المجتمعات، وهو ما يؤدي إلى ظهور بنى ذهنية مسيطرة تكيّف أشكال الفكر والخلق الفني الخ. الخ.
3- الإنتاج المادي والإنتاج الفكري
إن ديالكتيك الأساس/البنية الفوقية الاجتماعيين يعيدنا إلى العلاقات بين الإنتاج المادي والإنتاج الفكري. ويسمح تفحص أكثر تعمقا لهذه العلاقات بفهم افضل لتعقيد هذا الدياليكتيك، كما يسمح كذلك بإبراز أهمية العنصر الفاعل في هذا الدياليكتيك، وهو عنصر ستتم معالجته في نهاية هذا الفصل.
تعتبر المادية التاريخية أن علاقات الإنتاج تشكل أساس كل مجتمع، الذي تقوم عليه البنية الفوقية: هذان المستويان يتعلقان في الواقع بشكلين متمايزين من النشاط الاجتماعي. فالإنتاج المادي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى الأساس الاجتماعي والإنتاج الأيديولوجي (الفلسفي والديني والقانوني والسياسي، الخ) والإنتاج الفني والعلمي هو الموضوع الأساسي للنشاطات على مستوى البنية الفوقية الاجتماعية. طبعا تشمل هذه الأخيرة أيضا نشاطات جهاز الدولة التي لا تقتصر أبدا على الميدان الإيديولوجي وحده (عالجنا مشكلة الدولة في الفصل الثالث). لكن إذا استثنينا ذلك، يبدو التمييز الذي أدخلناه ملائما.
وتجتهد المادية التاريخية في شرح تطور كل من هاتين الدائرتين، وتداخلهما وعلاقاتهما المتبادلة، هذا الشرح يدمج أربعة مستويات من التحديد:
أ- كل إنتاج فكري مرتبط بصورة أو بأخرى بسيرورات عمل مادي، وهو يعمل على الدوام مع بنية تحتية مادية خاصة به. إن بعض الفنون هي في البدء انبثاق مباشر من العمل المادي (الوظيفة السحرية للرسم البدائي، أصول الرقص في وضع قواعد الحركات الإنتاجية، دمج الأناشيد في الإنتاج، الخ.).
إن الثورات التكنولوجية تؤثر تأثيرا عميقا في الفن والعلم والإنتاج الأيديولوجي، وثمة علوم كالهندسة وعلم الفلك والهيدروغرافيا والبيولوجيا والكيمياء انبثقت في علاقة وثيقة مع الزراعة المروية والتربية المتقدمة للمواشي وعلم التعدين الوليد. أمّا تقنية الطباعة في القرن السادس عشر، والراديو والتلفزيون في القرن العشرين، فهي لم تؤثر فقط تأثيرا عميقا على نشر الأفكار، بل كذلك على شكلها، وبعض مضامينها. ولا جدال في تأثير الآلات الإليكترونية على تطور العلم خلال الثلاثين سنة الأخيرة.
ب- كل إنتاج فكري يتطور تبعا لدياليكتيك داخلي خاص بتاريخه. فكل فيلسوف، أو حقوقي، أو كاهن، أو عالم، يبدأ طالبا، وعبر دراساته يتمثل مفاهيم (أو أنظمة مفاهيم) تم إنتاجها سابقا ونقلها من حيث هي مفاهيم إلى الجيل الحالي. إن المنتجين الفكريين يحفظون هذه المفاهيم، أو فرضيات العمل أو يعدلونها أو يقلبونها رأسا على عقب، وفقا لطرق إنتاج يستعيرونها أو يبتدعونها في إطار الدياليكتيك الخاص لنشاطهم. وكل جيل جديد يعمل على الإحتفاظ بأجوبة على استفهامات ناجمة عن المادة المعالجة، أو على تعميقها، أو نفضها من الأساس. ويمكنه في بعض الأحيان أن يكتشف استفهامات جديدة (تتطلب مذاك أجوبة «ثورية»: الثورات العلمية، والفنية، والفلسفية، الخ.)، أو إعادة اكتشاف استفهامات نحتها جانبا أجيال عديدة سابقة.
ج- إلا أن هذه التعديلات في معالجة المفاهيم الأيديولوجية، والأشكال الفنية، وفرضيات العمل العلمية، لا تحصل بشكل اعتباطي، ولا ضمن أي من الشروط الاجتماعية-التاريخية، بل يكيفها، أو يستثيرها، أو يسمح بها سياق وحاجات اجتماعية-اقتصادية. إن الانتقال من الاروحية animisme [38] إلى الإيمان بالاله الواحد لم يتحقق داخل جماعات بدائية صغيرة متقوقعة في القطاف والصيد، كما لم يظهر المفهوم الثوري للحق الخاص قبل التأسيس الاجتماعي للملكية الخاصة، ولم يمكن للنظرية العلمية حول القيمة-العمل أن تتطور قبل ظهور الرأسمالية الحديثة، كما أن تطور الفيزياء الميكانيكية وثيق الارتباط بتطور الآلات.
هذه التحولات الكبيرة في الإنتاج الفكري مرتبطة ببنى ذهنية خاصة، تحددها مسبقا بنى اجتماعية. فليس صدفة أن كل المحاولات الكبرى للثورة السياسية والاجتماعية من القرن الثالث عشر إلى القرن السابع عشر قد عبرت عن نفسها جميعا بالشكل الأيديولوجي للنضالات الدينية، نظرا للأولوية التي اكتسبها الدين في البنية الفوقية للمجتمع الإقطاعي. كذلك فإن صعود البورجوازية الحديثة خلق ابتداء بالنصف الثاني من القرن السادس عشر بنية ذهنية تنقل الاستقلال والمنافسة لدى مالكي السلع إلى كل حقوق الإنتاج الفكري (الحق الطبيعي، المذاهب التربوية الانسية، الفلسفة المثالية الألمانية، رسوم الأشخاص والطبيعة الميتة في الرسم، الليبرالية السياسية، الاقتصاد السياسي الكلاسيكي الليبرالي، الخ.).
د- يتحدد تطور الإنتاج الفكري أخيرا بالصراعات بين المصالح الاجتماعية. فالكل يعرف أن أعمال الانسيكلوبيديين ومحاجات فولتر وفلسفة جان جاك روسو السياسية أو تحليل ماديي القرن الثامن عشر، كانت جميعها قذائف مدفعية أطلقتها البورجوازية المانيفاكتورية الصاعدة ضد الملكية المطلقة وبقايا المجتمع الإقطاعي. إن الوظيفة التي لعبها الإشتراكيون الطوباويون، ثم ماركس وإنجلز، لتسريع وعي البروليتاريا لطبيعتها الطبقية ولموقعها ومهامها تجاه المجتمع البورجوازي هي كذلك أمر بديهي. واليوم أيضا، لا يمكن الشك بوظيفة التنجيم وبعض البدع الدينية والصوفية، والفلسفات التي تمجد اللاعقلاني ومذاهب «الدم والأرض» (Blut und Boden) من حيث هي أسلحة معادية للعمال ومعادية للثورة تشجع نمو مناخ سابق للفاشية.
لا تستتبع هذه التحديدات فكرة «مؤامرة منظمة» بين طبقات اجتماعية محددة ومنتجين فكريين من حيث هم أفراد، ولا فكرة تواطؤ واع من جانب كل هؤلاء المنتجين مع مشاريع سياسية محددة. إنها تعكس تفاعلا موضوعيا، يمكن أن يتم أحيانا، لكن ليس بالضرورة. فالمنتجون الفكريون يمكن أن تستخدمهم قوى اجتماعية من دون علمهم، لكن ذلك لا يفعل أكثر من تأكيد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي، لا فقط بمعنى تكييفه في التحليل الأخير، بل كذلك بمعنى تعيين وظيفة محددة له في بنية مجتمع معين وفي تطور هذا المجتمع.
4- قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية وأنماط الإنتاج
كل منتَج يصنعه الإنسان هو ناتج دمج عناصر ثلاث هي: موضوع العمل وهو مادة أولية أنتجتها الطبيعة مباشرة أو مداورة، وأداة العمل، وهي وسيلة إنتاج متطورة إلى هذا الحد أو ذاك خلقها الإنسان (من قضبان الخشب الأولى ومضارب الحجر المقطوع إلى الماكينات الآلية الأكثر تطورا حاليا، والذات القائمة بالعمل، أي الشغيل. ولما كان العمل دائما اجتماعيا وغير فردي بالدرجة الأخيرة، فإن الذات العاملة تدخل حتما في علاقة إنتاج اجتماعية.
وحتى لو كان موضوع العمل وأداة العمل عنصرين لا غنى عنهما لكل إنتاج، لا يمكن تصور علاقات الإنتاج الاجتماعي بصورة «مشيأة» أي لا ينبغي النظر إليها كما لو كانت تتعلق بعلاقات بين الأشياء، أو بين ناس وأشياء. إن علاقات الإنتاج الاجتماعية تتعلق بعلاقات بين البشر، وفقط بعلاقات بين البشر. وتشمل مجموع العلاقات التي يعقدها الناس فيما بينهم أثناء إنتاج حياتهم المادية. ولا يعني «مجموع العلاقات» العلاقات في أمكنة العمل بحصر المعنى («at the point of production») وحسب، بل كذلك العلاقات التي تتعلق بتداول مختلف عناصر الناتج الاجتماعي الضرورية لهذا الانتاج المادي، وبتوزيع تلك العناصر، لاسيما الطريقة التي تصل بها موضوعات العمل وأدوات العمل إلى المنتجين المباشرين، والطريقة التي يحصل بها هؤلاء على معاشهم، الخ.
يتوافق عموما مع درجة محددة من تطور قوى الإنتاج، مع مقدار محدد من وسائل إنتاج، ومع تقنية عمل وتنظيم له محددين، علاقات إنتاج تلائمها. فلقد كان صعبا في عصر الحجر المقطوع تخطي الشيوعية البدائية للجماعة أو القبيلة. إن الزراعة على أساس الري أو بواسطة أدوات حديدية تنتج فائض إنتاج دائم مهم يؤدي إلى ولادة مجتمع طبقي (المجتمع العبودي ومجتمع نمط الإنتاج الآسيوي، الخ). وتخلق الزراعة على أساس إراحة الأرض مرة كل ثلاث سنوات أسس المجتمع الإقطاعي المادية. أمّا ولادة استخدام الآلات فكفلت نهائيا صعود الرأسمالية الحديثة. إنه لصعب أن نتصور التأليل المعمم دون زوال الإنتاج البضاعي والاقتصاد النقدي، أي خارج مجتمع اشتراكي مكتمل التطور ومستقر.
لكن إذا كان هنالك توافق عام بين درجة تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية، فهذا التوافق ليس مطلقا ولا دائما. يمكن أن ينتج فيما بينها اختلال مزدوج في التمفصل. فعلاقات إنتاج محددة يمكن أن تصير معيقات لانطلاق قوى الإنتاج، وتلك هي أوضح علامة على أن شكلا اجتماعيا معينا محكوم عليه بالزوال. على عكس ذلك، يمكن لعلاقات انتاج جديدة انبثقت من ثورة اجتماعية ظافرة أن تكون متقدمة على درجة تطور قوى الإنتاج في البلد المعني. تلك كانت حال الثورة البرجوازية الظافرة في هولندا في القرن السادس عشر، والثورة الاشتراكية الظافرة في روسيا في أكتوبر 1917.
ليس صدفة أن تتعلق هاتان الحالتان الرئيسيتان من اختلال التمفصل بفترات تاريخية تشهد هزات اجتماعية عميقة وثورات اجتماعية. ويمكن لاختلال التمفصل أن يحدث كذلك بمعنى تراجع دهري لقوى الإنتاج، كما في عصر انحطاط الإمبراطورية الرومانية في الغرب، أو انحطاط الخلافة المشرقية في الشرق الأوسط.
إن الدياليكتيك بين قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج الاجتماعية هو الذي يحدد في القسم الأكبر توالي العصور الكبرى في التاريخ الإنساني، وهذا أصح من تصور التفاعل فيما بينها كما لو كان توافقا آليا. كل نمط إنتاج يمر بمراحل متتالية من الولادة والصعود والنضج والانحطاط والسقوط والزوال. هذه المراحل تتوقف في التحليل الأخير على الطريقة التي تلائم بها علاقات الإنتاج -التي تكون في البدء جديدة، ثم تتوطد، ثم تدخل في أزمة- إنطلاق قوى الإنتاج، أو تسمح به، أو تعيقه يوما بعد يوم. إن التمفصل بين هذا الدياليكتيك والصراع الطبقي أمر بديهي، فعبر عمل طبقة اجتماعية أو عدة طبقات اجتماعية معينة وحسب، يمكن لعلاقات انتاج محددة أن تُدخل أو يحافظ عليها أو يتم قلبها.
إن كل تشكيل اجتماعي، أي كل مجتمع في بلد محدد وفترة محددة، يتسم دائما بمجموعة علاقات إنتاج، فتشكيل اجتماعي ليس فيه علاقات إنتاج هو بلد لا عمل فيه ولا إنتاج، أي بلد لا سكان فيه ولا مجتمع. إلاّ أن كل مجموعة من علاقات الإنتاج الاجتماعية لا تستتبع بالضرورة وجود نمط إنتاج مستقر، ولا تجانس علاقات الإنتاج المشار إليها.
إن نمط انتاج مستقر هو مجموعة علاقات إنتاج تعيد إنتاج ذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك، عبر سير الاقتصاد بالذات، أو الحركة العادية لإعادة إنتاج قوى الإنتاج، مع وجود دور ملائم، مهم إلى هذا الحد أو ذاك، تتولاه بعض عوامل البنية الفوقية الاجتماعية. كانت تلك هي الحال خلال قرون عديدة، وفي بلدان كثيرة، مع نمط الإنتاج الأسيوي، والعبودي، والإقطاعي، والرأسمالي، كما كانت تلك هي حال نمط إنتاج الشيوعية القبلية، خلال آلاف السنين. إن نمط إنتاج هو بهذا المعنى بنية لا يمكن تعديلها بشكل أساسي عن طريق التطور، أو التوفيق أو الإصلاح الذاتي، إذ لا يمكن تخطي منطقه الداخلي إلاّ عبر قلبه.
بالمقابل، يمكن أن نشهد في فترات تاريخية من الخضات الاجتماعية العميقة مجموعات علاقات إنتاج ليست لها طبيعة نمط إنتاج مستقر، والمثال النموذجي على ذلك هو عصر سيطرة الإنتاج البضاعي الصغير (في القرنين الخامس عشر والسادس عشر في هولندا وإيطاليا الشمالية ثم إنكلترا) حيث لا تتفوق العلاقات بين السادة والأقنان، ولا علاقات الرأسماليين والمنتجين المأجورين، بل علاقات المنتجين الأحرار غير المفصولين عن وسائل إنتاجهم. والأمر ذاته بالنسبة لعلاقات الإنتاج المميزة للدول العمالية المبقرطة اليوم، ففي كلا الحالين لا نجد نمط إنتاج مستقرا. في كل مجتمعات مراحل الانتقال تلك، لا تكون علاقات الإنتاج الهجينة بنى تعيد إنتاج ذاتها بذاتها بصورة آلية إلى هذا الحد أو ذاك. يمكنها أن تقود إما إلى إعادة المجتمع القديم أو إلى قيام نمط إنتاج جديد. هذا الخيار التاريخي تحسمه مجموعة من العوامل التي يدخل فيها على وجه الخصوص الانطلاق الكافي أو غير الكافي لقوى الإنتاج، ونتيجة الصراع الطبقي في البلد المعني وعلى المستوى العالمي، وتأثير عناصر تابعة للبنية الفوقية وذاتية (دور الدولة، دور الحزب، مستوى كفاحية الطبقة الثورية ووعيها، الخ).
من جهة أخرى حتى حين يوجد نمط إنتاج مستقر، لا تكون علاقات الإنتاج متجانسة بالضرورة، لا بل لا تكون كذلك أبدا. ثمة دائما في كل تشكيل اجتماعي ملموس، إدغام بين علاقات إنتاج مميزة لنمط إنتاج قائم، ورواسب لم يتم امتصاصها كليا لعلاقات إنتاج سابقة تم تخطيها تاريخيا منذ زمن طويل. إن كل البلدان الإمبريالية ما تزال تعرف عمليا، على سبيل المثال، رواسب الإنتاج البضاعي الصغير (فلاحون صغار، مالكون يعملون دون اللجوء ليد عالمة مأجورة)، لا بل رواسب علاقات إنتاج إقطاعية (كالمزارعة). إنه لمبرر أن نتكلم في تلك الحالات على نمط إنتاج مستقر حين تكون سيطرة علاقات الإنتاج المميزة له قوية لدرجة إعادة إنتاجها آليا، وفرض سيطرة منطقها الداخلي وقوانين تطورها على مجمل الحياة الاقتصادية.
إن المثل المميز لعلاقات إنتاج هجينة يسيطر فيها نمط إنتاج مهيمنة هو مثل التشكيلات الاجتماعية المسماة «عالمثالثية» (نسبة للعالم الثالث أو البلدان المتخلفة، أنظر الفصل السابع). تتجاور هنا علاقات إنتاج سابقة للرأسمالية، ونصف رأسمالية، ورأسمالية، مندمجة بصورة جامدة تحت ضغط بنى الاقتصاد العالمي الإمبريالية.رغم هيمنة رأس المال، ورغم الانخراط في النظام الامبريالي، لا تتعمم علاقات الإنتاج الرأسمالية (وقبل كل شيء العلاقة «عمل مأجور-رأس مال منتج»)، رغم أنها قائمة وتتمدد ببطء. إلاّ أن هذا الواقع لا يبرر أبدا اعتبار هذه التشكيلات الاجتماعية كما لو كانت «بلدانا إقطاعية» ولا فرضية هيمنة علاقات الإنتاج الإقطاعية أو نصف الإقطاعية داخلها، وهو خطأ نظري يقترفه العديد من المنظرين الستالينيين أو الماويين.
5- الحتمية التاريخية والممارسة الثورية
المادية التاريخية مذهب حتمي. فموضوعته الأساسية تؤكد أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي. وتاريخ المجتمعات الإنسانية قابل للتفسير وليس عرضيا أو اعتباطيا، فمسيرته لا تتوقف على نزوات غير متوقعة للتحولات الوراثية، أو لبعض «الرجال العظام» أو لحشد تعرض للإشعاعات الذرية، وهو يفسر في التحليل الأخير بنية المجتمع الأساسية في كل عصر محدد وبالتناقضات الجوهرية لتلك البنية. وطالما بقي المجتمع منقسما إلى طبقات، فهو يفسر إذا بالصراع الطبقي.
بيد أنه إذا كانت المادية التاريخية مذهبا حتميا، فهي كذلك بالمعنى الديالكتيكي للكلمة لا بالمعنى الميكانيكي، إذ الماركسية تستبعد الجبرية. ولمزيد من الدقة، فإن كل محاولة لتحويل الماركسية إلى جبرية أو إلى تطورية آلية، إنما تزيل منها بعدا أساسيا.
ومع أن خيارات البشرية تحددها مسبقا ضغوطات مادية واجتماعية لا يمكنها أن تتلافاها، فهي قادرة على أن تصنع مصيرها في إطار هذه الضغوطات. إن الناس يصنعون تاريخهم، فإذا كانوا نتاج شروط مادية محددة، فهذه الشروط المادية هي بدورها نتاج ممارسة الناس الاجتماعية.
هذا التخطي للمثالية التاريخية القديمة («الأفكار، أو الرجال العظام، يصنعون التاريخ») وللمادية الميكانيكية القديمة («الناس نتاج الظروف») هو بشكل ما وثيقة ولادة الماركسية. نجده في «الموضوعات حول فيورباخ» التي تشكل خلاصة «الأيديولوجية الألمانية» لماركس وإنجلز.
يعني هذا بين ما يعني أن نتيجة كل عصر كبير من التشنجات الاجتماعية في التاريخ غير أكيدة، فقد تؤدي إلى انتصار الطبقة الثورية، وقد تؤدي إلى الانحلال المتبادل لكل الطبقات الأساسية في المجتمع المعين، كما كانت الحال في نهاية نمط الإنتاج العبودي القديم. فليس التاريخ مجموع تطورات مستقيمة، والكثير من التشكيلات الاجتماعية الماضية زالت دون أن تترك آثارا، لاسيما بفعل غياب طبقة ثورية قادرة على شق الطريق إلى التقدم، أو بفعل ضعفها.
إن الانحطاط الواضح للرأسمالية المعاصرة لا يصب في انتصار الاشتراكية الجبري، بل في الخيار بين الاشتراكية والبربرية. فالاشتراكية ضرورة تاريخية للسماح بانطلاق جديد لقوى الإنتاج موافق لإمكانات العلم والتقنية المعاصرين. وهي ضرورة إنسانية على وجه الخصوص، للسماح بكفاية الحاجات التي أيقضتها تطورات العالم الثقنية لدى الناس، ولكفاية هذه الحاجات ضمن شروط تضمن تفتح كل الطاقات البشرية الكامنة، لدى كل الأفراد، من كل الشعوب، دون تدمير توازن البيئة. إلا أن ما هو ضروري لا يتحقق حتما، فأمل البروليتاريا الثوري والواعي وحده هو الذي يضمن انتصار الاشتراكية، وإلاّ فإن الطاقة الإنتاجية الضخمة الكامنة للعلم والتقنية المعاصرين ستظهر في شكل أكثر فأكثر تدميرا للحضارة والثقافة والانسان والطبيعة، لا بل للحياة على كوكبنا.
إن ممارسة الناس الاجتماعية هي التي تخلق البنى الاجتماعية التي تحتويهم فيما بعد، وبالممارسة الاجتماعية الثورية يمكن قلب هذه البنى بالذات. والماركسية حتمية بقدرما تؤكد أن هذه الخضات لا يمكن أن تحصل في أي من الاتجاهات، فعلى أساس القوى الإنتاجية المعاصرة تستحيل إعادة إدخال الإقطاعية أو شيوعية جماعات صغيرة مكتفية ذاتيا من المنتجين-المستهلكين. إنها حتمية بمعنى أن ثورات اجتماعية تقدمية («fortschrittliche») غير ممكنة إلاّ إذا نضجت داخل المجتمع القديم الشروط المادية المسبقة والقوى الاجتماعية التي تسمح بخلق تنظيم اجتماعي أعلى.
إلاّ أن الماركسية ليست جبرية لأنها لا تفترض أن مجيئ هذا المجتمع الجديد سيكون الناتج الحتمي لنضج الشروط المسبقة المادية والاجتماعية الضرورية لظهوره. فهذا المجيء لا يمكن أن ينجم إلا عن نتيجة الصراعات القوى الاجتماعية الحية. إنه ينتج إذا في التحليل الأخير عن درجة فعالية العمل الثوري. فإذا كان هذا بدوره مشروطا جزئيا بظروف وموازين قوى اجتماعية، يمكن للعمل الثوري أن يقلب بدوره تطور هذه الظروف وموازين القوى أو يكبحه أو يسرّعه. حتى موازين قوى ملائمة للغاية يمكن أن «تخربها» نقاط ضعف ذاتية لدى الطبقة الثورية. بهذا المعنى يلعب «العامل الذاتي التاريخي» (الوعي الطبقي والقيادة الثورية للبروليتاريا)، في عصرنا عصر الثورات والثورات المضادة، دورا رئيسيا في تحديد نتيجة المعارك الطبقية الكبرى، لتقرير مستقبل النوع البشري.
6- الاستلاب والتحرر
لقد عاشت البشرية طوال آلاف السنين حياة التبعية الشديدة لقوى الطبيعة الهوجاء. لم يكن في وسعها إلاّ أن تسعى للتكيف مع بيئة طبيعية معينة، وكل تجمع بشري صغير مع بيئته الخاصة به، وكانت أسيرة أفق ضيق ومحدود حتى ولو استطاعت مجتمعات بدائية عديدة أن تطور بعض الإمكانات البشرية بشكل مرموق (كالرسم الباليوليتي مثلا).
ومع تطور قوى الانتاج تتوصل البشرية شيئا فشيئا إلى قلب علاقة التبعية المطلقة تلك، وتنجح في إخضاع قوى الطبيعة أكثر فأكثر، وفي الإشراف عليها وتدجينها واستخدامها بوعي بهدف زيادة إنتاجها وتنويع حاجاتها وتطوير طاقاتها، وتوسيع علاقاتها الاجتماعية التي تخلص إلى شمول كل كوكبنا وإلى احتمال توحيد البشرية جمعاء.
لكن كلما تحرر الناس حيال قوى الطبيعة كلما استلبهم تنظيمهم الاجتماعي الخاص بهم. فبقدر ما تزيد قوى الإنتاج، ويتقدم الانتاج المادي، وتصبح علاقات الإنتاج علاقات مجتمع منقسم إلى طبقات، لا تعود البشرية تشرف على مجمل إنتاجها ولا على مجمل نشاطها الإنتاجي، ولا تعود تشرف بالتالي على مصيرها الاجتماعي، وفقدان الإشراف هذا في المجتمع الرأسمالي يصبح كليا. إن البشرية التي تتحرر من الخضوع لجبرية الطبيعة، تبدو أكثر فأكثر خضوعا لجبرية تنظيمها الاجتماعي. كما لو أن مصيرا أعمى يحكم عليها بأن تخضع، لا للنتائج الحتمية للفيضانات والزلازل والأوبئة وتموجات الجفاف، بل لنتائج الحروب والأزمات الاقتصادية والديكتاتوريات الدموية والتدمير الإجرامي لقوى الإنتاج، لا بل الإبادة النووية. ويوحي الخوف من هذه الكوارث بقلق أعظم مما كان يوحي به الخوف من الصواعق والمرض والموت.
إلاّ أن التطور الجامح ذاته، على صعيد قوى الإنتاج، الذي يدفع إلى الحدود القصوى استلاب الإنسان حيال إنتاجه ومجتمعه الخاصين به، يخلق في ظل الرأسمالية إمكانية تحرر حقيقي للإنسان، كما سبق وأشرنا في نهاية الفصل الثاني. وينبغي أن نتصور هذه الإمكانية بمعنى مزدوج، فالإنسانية سوف تصبح أكثر فأكثر تمكنا من الإشراف على تطورها الاجتماعي كما على خضات البيئة الطبيعية التي يحدث ضمنها، ومن التحكم بذلك كله ذاتيا. سوف تتمكن أكثر فأكثر من تفجير كل امكانات التطور الفردي والإجتماعي التي يخنقها أو يشوهها إلى الآن تقصيرها في الاشراف على قوى الطبيعة وعلى التنظيم والصيرورة الاجتماعيين.
ويستتبع بناء مجتمع غير طبقي، ثم قيام مجتمع شيوعي، تحرر العمل أو تحرر الانسان من حيث هو منتج. يصبح الشغيلة أسياد منتجاتهم وسيرورات عملهم، فيختارون بحرية سلم الأولويات في توزيع الناتج الاجتماعي، ويقررون جماعيا وديموقراطيا أعباء الإنتاج والتضحيات بأوقات الفراغ وبالاستهلاك الجاري، التي سوف تتحكم بعملية التوزيع.
هذه الخيارات ستظل تتم بالطبع في إطار لا يخلو من الإكراه، فما من مجتمع بشري قادر على أن يستهلك أكثر مما ينتج، من دون أن يحد من احتياطيه ومن موارده الإنتاجية، أو أن يحكم على نفسه بالحد لاحقا من استهلاكه المعتاد، مذ يبلغ نفاد الاحتياطي والحد من الموارد الإنتاجية مستوى معينا. بهذا المعنى فإن عبارة فريديريك إنجلز، التي ترى أن الحرية هي الاعتراف بالضرورة، تبقى صحيحة حتى بالنسبة للإنسانية الشيوعية. وقد يكون استبدال تعبير «الاعتراف بالضرورة» بتعبير «الاضطلاع بأعباء الضرورة» أصح، لأنه كلما زاد إشراف الإنسان على شروط وجوده الطبيعية والاجتماعية كلما زادت أشكال الردود الممكنة على الشروط الاكراهية وكلما تحرر الإنسان من واجب تبني شكل واحد من الرد.
إلاّ أن هنالك بعدا ثانيا لتحرير الإنسان من الاستلاب يوسع بصورة فريدة دائرة الحرية الإنسانية، فعندما تتم كفاية كل حاجات الناس الأساسية، وعندما تتأمن إعادة إنتاج هذه الوفرة، يتوقف حل المشكلات المادية عن أن يكون المهمة الأولى أمام البشرية، ويتحرر الإنسان من استعباد العمل الآلي غير الخلاق، ويتحرر من ضرورة الوزن الوضيع لاستخدام وقته، وتخصيصه للإنتاج المادي على وجه الخصوص. يتفوق إذاك تطوير النشاطات الخلاقة لديه وشخصيته الغنية، وتطوير علاقات إنسانية أوسع فأوسع، على المراكمة المتواصلة لخيرات مادية أقل فأقل نفعا.
إن الممارسة الاجتماعية الثورية سوف لا تكتفي مذاك بقلب علاقات الإنتاج، بل ستقلب كل التنظيم الاجتماعي، وكل العادات التقليدية، كما ستقلب ذهنية الناس ونفسيتهم. وتذبل الأنانية المادية وروح المنافسة بعد أن تكون التجربة اليومية والمصالح العظمى توقفت عن مدهما بالغذاء.
وسوف تخص البشرية بيئتها الجغرافية، وتبدل شكل الكرة وطبيعة المناخ، وتوزيع احتياطات المياه الكبرى، في حين تحفظ التوازن البيئي أو تعيده، لا بل ستهز إلى الأعماق أساساتها البيولوجية الخاصة بها. وهي لن تتمكن من انجاح هذه المراهنات بصورة إرادية مطلقة، بالاستقلال عن شروط مسبقة وبنية تحتية مادية كافية. لكن ما أن تتأمن هذه البنية التحتية حتى تصبح البشرية الفاعلة، والأكثر فأكثر حرية في خياراتها، الرافعة الرئيسية لخلق إنسان جديد، الإنسان الشيوعي الحر والمتخلص من الاستلاب. بهذا المعنى يصح أن نتكلم على أنسية ماركسية وشيوعية.
*********
المراجع:
كارل ماركس، مقدمة «مساهمة في نقد الاقتصاد السياسي».
كارل ماركس - ف. إنجلز، الأيديولوجية الألمانية.
ف. إنجلز، لودينغ فيورباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية.
ف. إنجلز، من الاشتراكية الطوباوية إلى الاشتراكية العلمية.
ف. إنجلز، دور العمل في تحول القرد إلى إنسان.
بوخارين، المادية التاريخية.
مهرينغ، أسطورة لسنغ.
مهرينغ، دراسات حول المادية التاريخية.
كاوتسكي، الأخلاق والفهم المادي للتاريخ.
بليخانوف، الفن والتصور المادي للتاريخ.
غرامشي، المادية التاريخية (مقتطفات من دفاتر السجن).
غورتر، المادية التاريخية.
لوكاش، نقد كتاب السوسيولوجيا لـ ن. بوخارين (مجلة «الإنسان والمجتمع»، العدد الثاني، 1966).
تران-دوك-تو، حول ولادة الوعي واللغة.
ماندل، تكوين الفكر الاقتصادي لدى كارل ماركس (الفصلان الأخيران).
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire