بؤس الفلسفة ...... (1)
كارل ماركس
لإنزال الكتاب-البحث نرجو النقر على الرابط أدناه:
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid= 158063
كتب-ابحاث من نفس المحور:
الارشيف الماركسي
ستالين و بلشفة فروع الأممية الشيوعية - فيلي كوسينن- ترجمة معز الراجحي
معز الراجحي
لينين: الرأسمال المالي والطغمة المالية
محمد عادل زكى
في سبيل تكوين بلشفي
جوزيف ستالين
الماركسية والإصلاحية
فلاديمير لينين
موضوعات عن فورباخ
كارل ماركس
المجالس العمالية والجمعية التأسيسية
ليون تروتسكي
لمناسبة الذكرى الرابعة لثورة أكتوبر
فلاديمير لينين
كلمة الرفيق ستالين في حفل استقبال العاملات الطليعيات من المزارع الجماعية للشمندر السكري - ترجمه : عبد المطلب العلمي و عليه الاخرس
جوزيف ستالين
هل يجب الاشتراك في البرلمانات البرجوازية؟
فلاديمير لينين
شروط قبول العضوية للأممية الشيوعية - ترجمة: عقيل صالح
فلاديمير لينين
النظام الداخلي لمؤقت لجمعية الشغيلة الأممية كارل ماركس 1864 - ترجمة معز الرا جحي و عبد المطلب العلمي
كارل ماركس
وضع البوند داخل الحزب - ترجمة :عليه الاخرس و عبد المطلب العلمي
فلاديمير لينين
نصوص حول أشكال الإنتاج ما قبل الرأسمالية
كارل ماركس
في ذكرى رحيل كارل ماركس - خطاب على قبر كارل ماركس
فريدريك انجلز
العمل المغترب
كارل ماركس
رسالة فريدريك انجلز إلى بيبل
فريدريك انجلز
النقابات في عصر الانحطاط الإمبريالي
ليون تروتسكي
تطبيق قانون نسبية القيمة أ – النقد
كارل ماركس
محاكمة اللجنة الديمقراطية لمنطقة الراين - مرافعة كارل ماركس
كارل ماركس
من أعمال المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي _خطاب الرفيق ستالين
جزريف ستالين
بؤس الفلسفة ...... (1) كارل ماركس
1/ اكتشاف علمي
تناقض معنى قيمة الانتفاع وقيمة التبادل
« إن مقدرة كل المنتوجات، المنتوجات الطبيعية أو الصناعية، التي لها علاقة والتي هي ذات نفع عام لوجود الإنسان تحدد بقيمة الانتفاع، ومقدرة هذه المنتوجات أن تتبادل مع بعضها تتحدد بقيمة التبادل... وكيف تصبح قيمة الانتفاع قيمة تبادل ؟ إن تكوين فكرة قيمة التبادل، لم تلق عناية كافية من الاقتصاديين فمن الضروري إذن أن ندرسها وبما أن عددا كبيرا من الأشياء التي احتاجها موجود في الطبيعة بكميات معتدلة أو بكميات قليلة جدا أو أنها غير موجودة إطلاقا، فأنا مجبر أن أعمل لإنتاج ما أحتاجه. وبما أنني لا أقدر على إنتاج أشياء كثيرة، فإنني أعرض على أناس غيري – أناس هم مساعدون لي في عوامل كثيرة ومتنوعة – أن يسلموني قسما من إنتاجهم وأسلمهم قسما من إنتاجي نتيجة للتبادل » برودون المجلد 1، الفصل 11.
يتعهد برودون أن يشرح لنا قبل كل شيء طبيعة القيمة الازدواجية أي « التمييز في القيمة » ويتعهد أن يشرح لنا عملية تحويل قيمة الانتفاع إلى قيمة تبادل، فمن المهم إذن أن نشارك برودون في هذا التحويل. وما سيكتسب الآن هو كيفية تكميل هذا العمل بالنسبة لمؤلفنا.
إن عددا كبيرا من المنتوجات لا توجد في الطبيعة، بل هي منتوجات الصناعة وإذا كانت حاجيات الإنسان تتطلب أكثر من إنتاج الطبيعة لذلك فهو مجبر أن ينتج بواسطة الصناعة. وما هي هذه الصناعة بنظر برودون ؟ وما هو أصلها ؟ إن شخصا واحدا يشعر أنه بحاجة أن يحصل على أشياء كثيرة « لا يقدر أن ينتج أو يحصل على هذه الأشياء الكثيرة ». ولكي نشبع حاجات كثيرة يعني افتراض أشياء كثيرة للإنتاج – ولا توجد منتوجات بدون إنتاج. ولا نتاج أشياء كثيرة يعني افتراض وجود أكثر من يد رجل واحد لتساعد على إنتاجها، لا بد أن يُفرض حالا إنتاج كامل قائم على تقسيم العمل، وهكذا فالحاجة كما يفترضها برودون تفترض التقسيم الكلي للعمل. ولدى افتراضك تقسيم العمل فإنك تحصل على التبادل. وكنتيجة تحصل على قيمة التبادل فالمرء يمكنه أن يكون قد افترض قيمة الانتفاع في البداية.
لكن برودون يفضل أن يدور حول الموضوع، والآن لنتبعه في كل دوراته التي ترجعه دوما إلى النقطة التي ابتدأ منها.
حتى أستطيع أن أتخلص من الحالة التي ينتج فيها كل شخص بمفرده لأصل إلى التبادل « على أن أدعو رفاقي ومساعديّ لأعمال متنوعة » هذا ما يقوله برودون فأنا إذن عندي مساعدين يقومون بأعمال مختلفة. ورغم كل هذا، فأنا وكل الآخرين، بالنسبة لافتراضات برودون، لا نكون قد كونّا إلا اشتراكية روبنسون كروزوإن وجود مساعدين غيري، ووجود الأعمال المتنوعة، ووجود تقسيم العمل والتبادل، يمكن الحصول عليها.
ولنستخلص ما قيل: أنا عندي بعض الحاجات التي تقوم على تقسيم العمل وعلى التبادل، وعندما اسبق وافترض هذه الحاجات يكون برودون قد سبق وافتراض التبادل، وهذا هو ما يهدف إليه « أن يلاحظ تكوين هذه الفكرة باعتناء أكثر مما اعتنى بها الاقتصاديون ».
كان يقدر برودون أن يحول ويقلب نظام الأشياء دون أن يبدل ويغير دقة نتائجه. فلكي نشرح قيمة التبادل يجب أن يكون عندما تبادل. ولنشرح التبادل يجب أن يكون عندنا تقسيم العمل، ولنشرح تقسيم العمل يجب أن يكون عندنا حاجات تجعل تقسيم العمل ضروريا. ولنشرح هذه الحاجات يجب أن نسبق ونفترضها، إننا لا ننكرها – وهذا التحليل يناقض القاعدة الأولى في مقدمة برودون والتي تقول « لكي نسبق ونفترض وجود الله يعني نكرانه » المقدمة صفحة 1.
فكيف يقدر برودون وهو يقر بتقسيم العمل وكأنه شيء معروف أن يشرح قيمته التبادلية، هذه القيمة التي هي مجهولة دائما بالنسبة له ؟
« إن رجل » يبتدئ « ويقترح على الرجال الآخرين أي مساعديه في أمور وأعمال أخرى » بأن يؤسسوا التبادل، أن يميزوا بين القيمة العادية وقيمة التبادل، ولدى قبول هذا التمييز المقترح نرى أن المساعدين الآخرين لم يتركوا لبرودون إلا أن يسجل الواقع وأن يؤكد ملاحظته في بحثه للاقتصاد السياسي « تكون فكرة القيمة ». ولكن عليه أن يشرح لنا « تكوين » اقتراحه ويخبرنا أخيرا كيف يقدر الفرد وحده (روبنسون كروزو) أن يقترح فجأة على مساعديه ورفاقه ما مر معنا وكيف قبل هؤلاء المساعدون الفكرة بدون أي احتجاج ؟
إن برودون لا يدخل في صلب هذه التفاصيل، ولكن ما يعمله هو أن يضع طابعا تاريخيا على واقع التبادل ليضعه بشكل حركة يقوم بها فريق ثالث لكي يتم تأسيس التبادل.
إن هذا نموذج عن « الطريقة التاريخية والوضعية » عند برودون الذي يعلم ويبشر باحتقار « الطرق التاريخية » عند ريكاردو وآدم سميث.
إن التبادل له تاريخ خاص به ولقد مر بأطوار مختلفة.
لقد مر وقت كالعصور الوسطى مثلا، عندما كان يتم التبادل نتيجة للزيادة التافهة التي كانت تطرأ لجهة الإنتاج على الاستهلاك.
وقد مر وقت أيضا عندما أصبح التبادل – كل المنتوجات وكل الوجود الصناعي – تحت تصرف التجارة أو كان الإنتاج تعتمد على التبادل. فكيف نقدر أن نفسر هده الخطوة الثانية للتبادل – القيمة الموجودة في السوق مرفوعة للقوة الثانية ؟
لقد أجاب برودون بسرعة على كل هذا: لنفترض أن رجلا « اقترح على رجال آخرين مساعديه في أعمال متنوعة » أن يرفعوا القيمة الكائنة في السوق إلى القوة الثانية.
وأخيرا أتى وقت نرى فيه كل شيء كان يحسبه المرء غريبا قد أصبح يخضع للتبادل وأصبح واسطة للنقل أو أصبح غريبا عليه. وهذا هو الوقت الذي كانت فيه كل الأشياء تخضع للانتقال من شخص لشخص ولكنها لا تخضع للتبادل وكانت تعطى ولا تباع. وكان يحصل عليها ولكن لا تشترى وهذه الأشياء كانت الفضيلة والمحبة والمعرفة والضمير الخ.. وكان الوقت عندما أصبح كل شيء يخضع للتجارة، أنه وقت الفوضى العامة ووقت التأخير، إنه الوقت عندما أصبح لكل شيء – أخلاقي أو مادي – قيمة تخضع لعوامل السوق. فأصبحت هذه المفاهيم الجميلة تخضع لتأثيرات السوق وتنال قيمتها في السوق.
فكيف نقدر أن نشرح هذه الفكرة الجديدة والأخيرة للتبادل – أي القيمة الخاضعة للسوق ومرفوعة للقوة الثالثة.
يجيب برودون بسرعة على هذا: لنفترض أن شخصا اقترح على أشخاص آخرين، إلى مساعديه في أعمال متنوعة، أن يجعلوا من المحبة والفضيلة الخ... قيمة سوق أي قيمة تخضع لتقلبات السوق وأن يرفعوا قيمة التبادل للقوة الثالثة أي القوة الأخيرة.
نحن نرى أن « طريقة برودون التاريخية والوصفية » تطبق على كل شيء وتجيب على كل شرح وتشرح كل شيء، فإذا كانت طريقه، علاوة على كل شيء، تستعمل لشرح « تكوين الفكرة الاقتصادية » تاريخيا فهي تقول أن الرجل الذي يقترح على رجال آخرين « مساعديه في أعمال متنوعة » أن يكملوا هذا التكوين، ولدى تكميله يحققون هدف العمل.
نحن علينا أن نقبل « تكوين » فكرة قيمة التبادل كعمل تام وكامل، ويبقى علينا الآن أن نعرض العلاقة بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولنستمع لما يقوله برودون:
« لقد بحث الاقتصاديون جيدا المفهوم الازدواجي للقيمة، لكنهم لم يشيروا بدقة إلى طبيعة القيمة المتناقضة، ومن هنا يبتدئ نقدنا.. إن المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل شيء بسيط، ولم ير الاقتصاديون بهذه المقابلة إلا عملية بسيطة: لكن نحن نظهر أن هذه البساطة تطوى في ثناياها عجيبة عميقة من واجبنا أن نتعمق ونخترقها... ولكي نضع الكلام بأشكال علمية نقول أن قيمة التبادل وقيمة الانتفاع هما في نسبة معاكسة الواحدة للأخرى ».
فإذا كنا قد تفهمنا فكرة برودون نجد أنه يحاول أن يظهر أربع نقاط:
1- أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل يشكلان « مقارنة عجيبة » إنهما تناقضان بعضهما.
2- أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل تتناقضان بنسبة معاكسة لبعضهما.
3- لم يذكر الاقتصاديون ولم يلاحظوا هذا التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل.
4-إن نقد برودون يبتدئ في نهايته.
ونحن سنبتدئ في النهاية، ولكي نبرر موقف الاقتصاديين من اتهامات برودون سنستمع لكلام اقتصاديين معروفين جيدا.
سيسموندي Sismondi: إن التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل هو الذي نقـّص قيمة كل شيء، (كتابه: دراسات). Etudes، Vol 2، P. 162. Brussels Edition
لوردردال Laurderdale: نرى نسبيا أن غنى الأفراد يزداد بزيادة قيمة السلع وتنخفض ثروة المجتمع وعندما تنقص نسبيا مجموعة الثروات الفردية، ولدى تخفيض وتنقيض قيمة السلعة يزداد الغنى « يكثر ». كتابه: دراسات عن أصل وطبيعة الثروة العامة. Recherches sur la nature et L origine de la richesse publique. Paris 1808 P. 33.
يعترف سيسموندي من جراء بحثه للتناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع أن انخفاض الواردات يتناسب مع زيادة الإنتاج.
لقد أسس لودرال طريقته على التعاكس النسبي بين نوعي القيمة. وكان مبدؤه شعبيا زمن ريكاردو حتى أن ريكاردو نفسه استطاع أن يتكلم عن هذا المبدأ وكأنه شيء معروف. تزيد الثروة في التفريق بين القيمة والثروة وبتنقيص كمية السلع أي الأشياء الضرورية والمناسبة والممتعة لحياة البشر، ريكاردو في كتابه: مبادئ الاقتصاد السياسي. Recardo, Principes de l économie politique, Paris 1835 Vol
لقد رأينا الآن أن الاقتصاد قبل برودون يتكلمون عن التناقص بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولننظر الآن كيف يشرح برودون هذا التناقض.
إن قيمة التبادل لمنتوج تنخفض عندما يزداد العرض وعندما يبقى الطلب كما كان، أي أنه كلما كان الإنتاج غزيرا بالنسبة للعرض كلما انخفضت قيمته التبادلية أي كلما انخفض سعره. والعكس بالعكس. وكلما قل العرض بالنسبة للطلب كلما ارتفعت قيمة التبادل أو المنتوج المعروض: أي كلما قل عرض المنتوجات بالنسبة للطلب كلما ارتفعت الأسعار. إن قيمة التبادل لإنتاج معين يعتمد على كثرته أو قلته ويكون دوما متعلقا بالنسبة للطلب. خذ منتوجا ليس كثيرا ولا قليلا واجعله فريدا من نوعه، تجد أن هذا المنتوج يكون أغزر وأكثر إذا لم يكن هناك طلب عليه. ومن الناحية الأخرى، خذ منتوجا ينتج بالملايين، فإنك ستعده نادرا وقليلا إذا لم يكن كافيا لإشباع الطلب أي إذا كان الطلب كثيرا عليه.
هذه كلها تعد حقائق ثابتة، ورغم هذا نعيدها حتى نسهل فهم أعاجيب وأسرار ألغاز برودون.
« وهكذا إذا تبعنا المبدأ حتى نتائجه الأخيرة فإننا سنصل إلى النتيجة المنطقية وهي، أن الأشياء التي لا يستغنى عن استعمالها والتي لا تحد كمياتها يمكن الحصول عليها بلا شيء، والأشياء ذات النفع القليل والتي تمتاز بندرتها وقلتها تكون ذات قيمة لا تعد ولا تحصى. ولكي تتغلب على الصعوبات نقول أن هذه الأقوال المتطرفة ليست واقعية: فمن جهة لا نجد إنتاجا بشريا يمكن أن يكون غير محدود الطاقة ومن جهة ثانية نجد أن أقل الأشياء ندرة يجب أن تكون نافعة لدرجة ما وإلا لكانت عديمة النفع. قيمة الانتفاع وقيمة التبادل مرتبطتان ببعضهم ». المجلد الأول صفحة 93
ماذا نفعل بالصعوبات التي تتعلق ببرودون ؟ لقد نسي كل ما يتعلق بالطلب وأن الشيء يكون نادرا أو عزيزا إذا كان مطلوبا. وعندما يترك فكرة الطلب يقول أن قيمة التبادل تعني الندرة أو القلة، ونراه يقول أن قيمة الانتفاع تعني الغزارة أو الكثرة. وفي الواقع عندما نقول أن الأشياء « التي منفعتها عدم وقليلة تمتاز بقيمة لا تحصى » نصرح أن قيمة التبادل تكون نادرة. « الندرة والقلة القصوى ينقصها لا شيء » تعني الندرة أو القلة. « القيمة التي لا تعد » هي أعلى من قيمة التبادل، وهي قيمة تبادل. وهو يعادل بين هاتين الحالتين. وهكذا نرى أن قيمة التبادل والندرة هي شروط واحدة متعادلة، وعندما نصل لهذه النتائج المتطرفة نجد برودون يحمل هذه التعابير إلى أقصاها ولكنه لا يحمل الحقائق إلى أقصاها، وهكذا يبرهن على بلاغته ولكنه لا يبرهن عن منطقه. إنه يكتشف من جديد اقتراحاته الأولى مجردة عن الواقع بينما يفكر أنه قد اكتشف نتائج جديدة. ونحن نشكره لأنه عني بقيمة التبادل ما عناه بالغزارة أو بالكثرة.
بعد أن رأينا قيمة التبادل والندرة متعادلتين في المعنى، وأن قيمة الانتفاع والغزارة متعادلين في المعنى، نجد أن برودون يدهش لأنه لا يجد أن قيمة الانتفاع تعادل الندرة وقيمة التبادل ولا يجد أن قيمة التبادل تعني الغزارة وقيمة الانتفاع، وإذ يرى أن هذه الأضداد يستحيل تطبيقها لذلك لا يجد مفرا إلا الالتجاء للألغاز. إن القيمة التي لا تحد موجودة بالنسبة له، وهذا لأن الشارين غير موجودين ولأنه لا يجد شارين طالما أنه لا يهتم ولا يأخذ الطلب بعين الاعتبار.
ونجد من جهة أخرى أن الغزارة في نظر برودون تبدو كأنها شيء داخلي. فهو ينسى أنه يوجد أناس ينتجونها ومن مصلحتهم ألا يهملوا الطلب، وإلا فكيف يستطيع برودون أن يقول أن الأشياء التي هي نافعة جدا يجب أن يكون لها سعر منخفض جدا أو أنها لا تكلف شيئا ؟ فعلى العكس، عليه أن يستنتج أن الغزارة أي أن إنتاج الأشياء النافعة جدا يجب أن ترتبط بأسعارها، ولذلك يجب رفع قيمتها التبادلية.
كان زارعو الكرمة الفرنسيون يطلبون قانونا يمنع غرس الكرمة الجديدة. وكان الهولنديون يطلبون أن يحرقوا التوابل الآسيوية ! إن هؤلاء كانوا يحاولون أن يقللوا الغزارة أي الكثرة حتى يرفعوا قيمة التبادل. وكان يعمل بهذا المبدأ طوال القرون الوسطى، هذا المبدأ الذي كان يحدد بواسطة القوانين عدد الشغيلة المياومة، الذين كان المعلم يشغلهم وكان يحدد عدد الآلات التي يمكن استعمالها (راجع اندرسون، تاريخ التجارة).
بعد أن مثلنا الغزارة بقيمة الانتفاع والندورة بقيمة التبادل – ولا شيء أسهل من البرهان على أن الغزارة والقلة هما نسبتان متعاكستان – نجد برودون يعني أن قيمة الانتفاع هي العرض وأن قيمة التبادل هي الطلب. ولكي يظهر وجه التعاكس بصورة أوضح فإنه يستعيض عنها بتعبير جديد، يستعمل « قيمة التقدير » Estimation Value عوضا من قيمة التبادل. لقد انتقلت المعركة الآن من موضعها وأصبح عندنا من جهة المنفعة (قيمة الانتفاع، والعرض) ومن جهة ثانية عندنا التقدير (قيمة التبادل والطلب).
ومن يقدر أن يصالح هاتين القوتين المتناقضتين ؟ وماذا نقدر أن نعمل ليتفقا ؟ وهل نقدر أن نجد فيهما ولو نقطة للمقابلة ؟
« بالتأكيد » يصرخ برودون « توجد طريقة واحدة وهي، (الإرادة الحرة) والسعر الذي نستخلصه من المعركة بين العرض والطلب، بين المنفعة والتقدير ليس إلا تعبيرا للعدالة الأبدية ».
ويتابع برودون ليكمل تعاكساته:
« بمقدرتي كتاجر أن أكون قاضيا لحاجاتي، قاضيا لاختار الشيء، قاضيا للسعر الذي أريد أن أدفعه ومن جهة ثانية، بمقدرتك كمنتج حر أن تكون سيد وسائل التنفيذ وكنتيجة تحصل على السلطة التي تساعدك على تخفيف مصاريفك » المجلد 1، صفحة 41.
وبما أن الطلب أو قيمة التبادل تعني التقدير نجد برودون يقول:
« من المبرهن أن حرية الإرادة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. فكيف نقدر أن نقضي على هذا التناقض طالما أن الإرادة الحرة موجودة وكائنة ؟ وكيف نضحي بالأخيرة (أي الإرادة الحرة) دون أن نضحي بالإنسانية ». المجلد 1، صفحة 41.
وهكذا لا نجد منفذا. يوجد صراع بين قوتين لا تتعادلان صراع بين المنفعة والتقدير. بين الشاري الحر والمنتج الحر.
والآن لننظر إلى الأشياء بإمعان أكثر.
إن العرض لا يمثل المنفعة تماما، والطلب لا يمثل التقدير تماما، ألا يعرض الطالب أيضا منتوجا هو النقد وكعارض لا يمثل بالنسبة لبرودون، المنفعة أو قيمة الانتفاع !
ألا يطلب العارض منتوجا، ألا يطلب العلامة التي تمثل كل المنتوجات وهي النقود ؟ ألا يصبح عندئذ ممثل التقدير أي قيمة التقدير وقيمة التبادل ؟
إن الطلب هو بحد ذاته العرض، والعرض بحد ذاته الطلب، وهكذا فإن تعاكس نظرية برودون – عندما يقارن العرض بالمنفعة والطلب بالتقدير – ليس إلا فكرة مجردة ضارة.
إن ما يدعوه برودون « قيمة الانتفاع » يدعوه الاقتصاديون « قيمة التقدير » وهم على حق بهذه التسمية. ونحن الآن نعود إلى ما يقوله ستورش Storch في كتابه دراسة الاقتصاد السياسي صفحة 48 و49.
تكون الحاجات بالنسبة لستورش أشياء نشعر أننا نحتاجها، وتكون أشياء تنسب لها القيمة أي أنها ذات قيمة. وهناك كثير من الأشياء التي لها قيم لأنها تشبع حاجات يخلقها التقدير. وتقدير حاجاتنا يمكن أن يتبدل، إذن منفعة الأشياء التي تعبر عن النسبة بين الأشياء يمكن أن تتبدل. إن الحاجات الطبيعية تتغير باستمرار والواقع أن الأشياء التي يحتاجها الشعب والتي يعدها مهمة تتغير دوما.
إن النزاع هنا لا يقوم بين المنفعة والتقدير بل يقوم بين القيمة في السوق التي يطلبها العارض وبين القيمة في السوق التي يعرضها الطالب. فقيمة المنتوج التبادلية تكون كل مرة حاصل هذه المتناقضات.
وفي تحليلنا الأخير نقول أن الطلب والعرض يخلقان الإنتاج والاستهلاك – الإنتاج والاستهلاك المبنيين على التبادل الفردي.
إن المنتوج المعروض لا يكون نافعا بحد ذاته، فالمستهلك هوالذي يحدد منفعته. وحتى لو كانت منفعة المنتوج قائمة فليس من الضروري أن تتمثله المنفعة ولقد تبدلت هذه المنفعة خلال الإنتاج بتكاليف الإنتاج، فالمواد الأولية وأجور العمال وهذه كلها تؤلف قيم السوق. فالإنتاج إذن يمثل في نظر المنتج مجموع القيم التي ستعرض في السوق. وما يعرضه المنتج لا يكون شيئا نافعا بل يكون فوق كل شيء قيمة تفرض في السوق.
وفيما يتعلق بالطلب، يكون الطلب ذا تأثير في الأحوال التي تتم فيها وسائل التبادل. وتؤلف هذه الوسائل بحد ذاتها المنتوجات نفسها، وقيمة السوق.
وفيما يتعلق بالطلب والعرض، نجد من جهة منتوجا له تكاليف قيمة قيم السوق والحاجات لبيعه ومن جهة ثانية نجد الوسائل التي خلقت تكاليف قيم السوق، والرغبة في الشراء.
إن برودون يضع الشاري الحر أمام المنتج الحر، ويطبق عليهما أوصافا ميتافيزيقية. وهذا ما يجعله يقول: « من الواضح والمعروف أن الإرادة الحرة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل » المجلد 1، صفحة 41.
عندما ينتج المنتج في مجتمع قائم على تقسيم العمل وعلى التبادل (وهذا هو افتراض برودون) يجد نفسه مجبرا على البيع. إن برودون يجعل المنتج سيدا لوسائل الإنتاج، لكنه يوافق معنا أن وسائل الإنتاج هي منتوجات يحصل عليها من الخارج، وبالنسبة للإنتاج الحاضر لا يكون المنتج حرا في إنتاج الكمية التي يريدها. إن درجة تطور ونمو القوى الإنتاجية تجبره أن ينتج بالنسبة لمقياس معين.
والمستهلك لا يملك حرية أكثر من المنتج. وحكمه هذا يعتمد على وسائله وحاجاته – ووسائله وحاجاته تعتمد على مركزه الاجتماعي، ومركزه الاجتماعي يعتمد على التنظيم الاجتماعي الكامل. والواقع أن العامل الذي يشتري بطاطا والمرأة التي تشتري خيوطا يتبعان كلاهما حكمهما على الأشياء. لكن الاختلاف في مقدار حكمهما يتوقف على المراكز التي يشغلانها في العالم، وهذه المراكز هي نتاج التنظيم الاجتماعي.
هل أن كل الحاجات قائمة على التقدير أو على التنظيم العام للإنتاج ؟ إن الحاجات غالبا تقوم مباشرة نتيجة للإنتاج أو من حالة الأعمال القائمة على الإنتاج. فالتجارة العالمية تقوم تقريبا على الحاجات ولا تقوم على الاستهلاك الفردي بل على الإنتاج. ولنختار مثالا آخر، ألا تكون الحاجة للمحامين نتيجة لوجود القانون المدني الذي يعبر عن تطور الملكية أو تطور الإنتاج.
لم يكن هذا حلا كافيا لبرودون أن يقلل من العوامل المذكورة بالنسبة لعلاقة العرض والطلب. إنه يحمل الفكر المجرد إلى أبعد حدوده عندما يُذيب المنتجين بشكل منتج واحد، وعندما يذيب كل المستهلكين في مستهلك واحد، وعندما يتم صراعا بين هذه الشخصيات الوهمية. ففي العالم الواقعي تحدث الأشياء ولكن بشكل آخر. فالمنافسة بين العارضين والمنافسة بين الطالبين تشكل قسما ضروريا من الصراع بين الشارين والبائعين، وتكون قيمة السوق نتيجة لهذا الصراع.
وبعد أن يكون برودون قد خفف من قيمة المنافسة وتكاليف الإنتاج يقدم لنا قاعدته الفارغة عن العرض والطلب:
يقول « العرض والطلب هما أشكال احتفالية Ceremonial forms تعمل على وضع قيمة الانتفاع وقيمة التبادل وجها لوجه، وتحاول أن تصلح بينهما، إنهما – أي العرض والطلب – قطبا الكهرباء اللذان عندما يتصلان، يجب أن ينتجا المظهر الذي ندعوه التبادل ». المجلد 1 صفحة 49 و50.
ويقدر كل شخص أن يقول أن التبادل هو شكل احتفالي يعمل على تعريف وتقديم المستهلك الشيء المعد للاستهلاك. ويستطيع كل فرد أن يقول أيضا أن كل العلاقات الاقتصادية هي أشكال احتفالية تخدم مصلحة الاستهلاك، وليس العرض والطلب علاقات بين منتوج معطى أكثر مما هما تبادلات بين أفراد.
فماذا يتضمن، ديالكتيك برودون بعد هذا البحث ؟ إن هذا ديالكتيك يبحث في المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل، والمقارنة بين العرض والطلب، والمقارنة بين المجرد والأفكار المتناقضة (مثل الندرة والغزارة أي القلة والكثرة) والمقارنة بين المنفعة والتقدير، والمقارنات بين مستهلك ومنتج وكلاهما فرسا الإرادة الحرة.
إلام كان يهدف برودون ؟
كان يظن أنه يعرف ويدخل عاملا هاما في أبحاثه وهو تكاليف الإنتاج ويعني بها نتيجة تناقض Synthesis قيمة الانتفاع وقيمة التبادل. وبنظره إن تكاليف الإنتاج تؤلف وتشكل القيمة الناتجة Synthetic أو القيمة المشكلة Constituted.
تطبيق قانون نسبية القيمة
أ – النقد
« كان الذهب والفضة أول السلع التي نالت قيمة مشكلة »
وهكذا فالذهب والفضة كانا أول التطبيقات « للقيمة المشلكة » هذا ما يقوله برودون، وبما أن برودون يشكل قيمة المنتوجات إذ يحددها بكمية العمل المقارن المتضمن بها، لذلك كان عليه أن يبرهن أن التغييرات في قيمة الذهب والفضة تفسر دوما بتغييرات في وقت العمل المأخوذ لإنتاجها لذلك لا يتكلم برودون عن الذهب والفضة كسلع بل كنقود.
إن منطقه الوحيد – إن كان عنده منطق – يقوم على الخلط بين مقدرة الذهب والفضة لاستعمالها كنقد لصالح ككل السلع التي تخضع لخصائص التقييم بوقت العمل. في الواقع نجد بساطة أكثر مما نجد خبثا في هذا القول.
إن سلعة نافعة – عندما توضع لها قيمة بالنسبة لوقت العمل الذي يحتاج لإنتاجها – تقبل دائما في التبادل، لكن برودون لا يقول هذا إلا عن الذهب والفضة إذ يتكلم عنهما بشروطه كما يرغب بها بالنسبة للتبادل. فالذهب والفضة هما قيمة وصلت حالة التشكيل: إنهما متضامنان في فكر برودون. إن الذهب والفضة رغم مقدرة كونهما سلعا ورغم أنهما تخضعان للتقييم كأية سلعة أخرى بالنسبة لوقت العمل، فإن لهما مقدرة كونهما الوسطاء العامين للتبادل، وأيضا مقدرة كونهما نقود، والآن يعتبر الذهب والفضة بتطبيق « القيمة المشكلة » بوقت العمل، إذ لا شيء أسهل من البرهان على أن كل السلع التي تشكل قيمتها بوقت العمل تخضع للتبادل، فهي تعد إذن.
إن برودون يتعرض لسؤال بسيط جدا. لماذا يمتاز الذهب والفضة بإعطائهم « القيمة المشكلة » ؟
« إن الواجب الذي جعل المواد الثمينة تمتاز بالاستعمال، وتستعمل كوسيط في التجارة، هذه الرسوم التي هي محض اتفاق وأن بمقدرة أية سلعة أخرى – ولو بدرجة أقل – أن تقوم بهذا الواجب، يذكر الاقتصاديون هذا ويقدمون أكثر من مثال واحد، فما هو السبب الذي يجعل العالم يفضل هذه المعادن كنقود ؟ وكيف يشرح الاختصاص لخواص النقود – هذا الاختصاص الذي ليس لها مثلها في الاقتصاد السياسي ؟ أ من الممكن أن نعيد بناء الحلقات التي مر بها النقد واجتازها، وأن نقتفي أثره لنصل إلى المبدأ الحقيقي ؟ » المجلد 1، صفحة 68، 69.
وبما أن برودون قد وضع السؤال بهذا الشكل نجد أنه يفترض مسبقا وجود النقد، كان يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال وهو لماذا – في التبادلات كما هي موضوعة – من الضروري أن تخضع قيمة التبادل للتبادل الفردي أي بخلق عميل خاص للتبادل. ليس النقد شيئا بل هو عبارة عن علاقة اجتماعية. لماذا تكون علاقة إنتاج مثل أية علاقة تجارية كتقسيم العمل مثلا ؟ إذا كان برودون قد أخذ هذه العلاقة بعين الاعتبار كما رأى في النقد استثناء، ولما رأى به عاملا لا يتعلق بمجموعة حوادث أو أنها تحتاج لإعادة بنائها.
كان على برودون أن يتحقق من أن هذه العلاقة هي حلقة كاملة الاتصال مؤلفة من العلاقات الاقتصادية، وأن هذه العلاقة تقابل شكلا معينا من الإنتاج كمثل لا أكثر ولا أقل للتبادل الفردي. فماذا يفعل هو ؟ إنه يبدأ بتجريد النقد من الشكل الواقعي للإنتاج كمجموعة ومن ثم يجعل منه العضو الأول بمجموعة خيالية. بمجموعة يجب إعادة بنائها.
وعندما يكون من الضروري إيجاد عميل خاص للتبادل أي للنقد، يتبقى أن نشرح سبب إعطاء ميزة خاصة للذهب والفضة بينما لا نعطيها لأية سلعة أخرى. إن هذا السؤال يبقى ثانويا لأنه يفسر بسلسلة علاقات الإنتاج وبالنوع والكيفية الخاصة الموجودة في الذهب والفضة كمواد. وإذا كان هذا الذي جعل الاقتصاديين يخرجون عن حدود علمهم الخاص وينخرطون في الفيزياء والميكانيك والتاريخ الخ. (كما يوبخهم برودون) فإنهم يعملون ما أجبروا على عمله، لأن السؤال لم يكن بعد محسوبا ضمن حدود الاقتصاد السياسي.
يقول برودون « إن الذي لم يفهمه أي اقتصادي هو المنطق الاقتصادي الذي حدد – لصالح المعادن الثمينة – القيمة التي تتمتع بها هذه المعادن » المجلد 1، صفحة 69.
إن هذا السبب الذي لم يفهمه أحد – فهمه برودون وقدمه للأجيال القادمة.
« إن الشيء الذي لم يلاحظه أحد هو أنه من كل السلع – الذهب والفضة كانا أول سلع تحصل على قيمتها المشكلة. ففي الزمن البطريركي كان الذهب والفضة لا يزالان يخضعان للمقايضة وكانا يتبادلان بكميات من المعادن ولكن رغم هذا فقد أظهرا ميلا منظورا ليصبحا ذات مقدرة فعالة ونالا درجة مرموقة عن غيرهما فملكها الحكام رويدا رويدا وختموها بأختامهم، ووُلد النقد عندما قام الحاكم بهذا العمل، هذا النقد أي السلعة المفضلة التي رغم كل صدمات التجارة يحتفظ بقيمة نسبية محدودة ويجعل ذاته مقبولا في كل المدفوعات. تعود الصفة المميزة للذهب والفضة في الواقع – لنشكر خواصهم المعدنية لصعوبة إنتاجهما، وإلى تدخل سلطة الدولة، ولقد نالا الاستقرار والموافقة لاعتباريهما سلع ».
إذا قلنا أن الذهب والفضة كانا من بين السلع الأولين اللذين نالا قيمتها المشكلة فهذا يعني أن الذهب والفضة كانا من أول من حقق حالة النقد. وهذا هو وحي برودون الأكبر، وهذه هي الحقيقة التي لم يكتشفها أحد قبله.
إذا كان يعني برودون أن الذهب والفضة كانا من بين السلع التي عُرفت وقت إنتاجها، فإن هذا يعني غير ما أراد أن يقدمه لقرائه وإذا أردنا أن نمضي في هذه الأخطاء البطريركية علينا أن نخبر برودون أن الحديد كان أول معدن عرف لأنه كان من الأشياء الضرورية للإنتاج. ونحن نوفر عليه قوس آدم سميث الكلاسيكي.
ولكن، بعد كل هذا، كيف يقدر برودون أن يستمر في الكلام عن تشكيل القيمة، بينما لا تتشكل القيمة من ذاتها ؟ إنها تتشكل، لا بالوقت الذي يحتاج إنتاجها بذاتها، ولكن بالعلاقة للكوتا لكل منتوج آخر يمكن خلقه في نفس الوقت. وهكذا فتشكيل قيمة الذهب والفضة تفترض مسبقا تشكيلا كاملا لعدد من المنتجات الأخرى.
ليست السلعة إذن هي التي حققت في الذهب والفضة – حالة القيمة المشكلة – إنها القيمة المشكلة عند برودون التي حققت في الذهب والفضة حالة النقد.
والآن دعنا نفحص بإمعان هذه الأسباب الاقتصادية التي بالنسبة لبرودون – أكسبت الذهب والفضة حسنة إذ رُفعت لحالة النقد بسرعة أكبر من المنتجات الأخرى – لنشكر الذهب والفضة لإنهما مرَّا بطور تشكيل القيمة –.
إن هذه الأسباب الاقتصادية هي: الميل المتطور لتصبح « مفهوما مشكل » هي « تفضيل السوق » حتى في « الزمن البطريركي »، وأحوال أخرى تتعلق بالواقع الحقيقي – الذي يزيد الصعوبة، طالما أنها تزيد الحقائق بزيادة الحوادث التي يحاول برودون إدخالها ليشرح الواقع. لم يستنفذ برودون كل هذه الأسباب الاقتصادية. وهنا نورد أحد عوامل القوة التي تتمتع بها السلطة:
« ولد النقد من رغبة السلطة: يمتلك أصحاب السلطة الذهب والفضة ويضعون ختمهم عليه » المجلد 1، صفحة 69.
وهكذا فإن أهواء أصحاب السلطة هي بالنسبة لبرودون السبب الأول والأعلى في الاقتصاد السياسي.
الواقع، يجب على الشخص أن يكون قليل المعرفة بالتاريخ لكي يعرف أن السلطة هي التي كانت خاضعة في كل العصور للأحوال الاقتصادية، ولكنهم لم يضعوا قوانين لها. إن التشريع – إن كان سياسيا أو مدنيا – لا يكون أكثر من أن يعبر عنه في كلمات – إرادة العلاقات الاقتصادية.
أهو الحاكم الذي امتلك الذهب والفضة ليجعل منهما وسطاء عامين للتبادل بتثبيت ختمه عليها ؟ إذا لم يكن هؤلاء الوسطاء العامون للتبادل هم الذين امتلكوا الحاكم وأجبروه أن يضع ختمه عليها ليعطيها قيمة سياسية !
إن التأثير الذي كان ولا يزال يُعطى للنقود لا يعود لقيمته لكن لوزنه، هذا الاستقرار والسيطرة التي يتكلم عنها برودون تنطبق فقط على مقياس النقد، ويشير هذا المقياس إلى مقدار المادة المدنية الموجودة في قطعة النقد. يقول فولتير « إن القيمة الأصلية لقطعة فضة هي قطعة فضة، نصف باوند تزن 8 أونس ». إن الوزن والمقياس وحدهما يشكلان هذه القيمة الأصلية. فالسؤال: كم يستحق أونس من الفضة أو الذهب، ليبقى كما هو. إذا كان نوعٌ من الصوف من مستودعات « كولبير البطة » وسيط ماركة تجارية – صوف نقي – إن هذه الماركة لا تُخبرك عن قيمة هذا النوع من الصوف. ويجب فقط أم نعتبر السؤال: كم يُساوي الصوف ؟ « إن فيليب الأول ملك فرنسا » يقول برودون « يصدر شارلمان الذهبية ثلثاً بثلثين، مُتخيِّلاً أنه يحتكر صناعة النقد، وهطذا يقدر كل تاجر أن يعمل إذا احتكر منتوجاً ما. وماذا كان سبب تخفيض قيمة الصرف التي يقوم لأجلها فيليب الأول ومن تبعه ؟ كان عمله المنطق الصادر عن وجهة نظر الواقع التجاري، لكن كل علم اقتصادي غير منطقي يفترض أن – كما أن العرض والطلب ينظِّمان القيمة إمَّا بإنتاج قلةٍ مُصطنعةٍ أو باحتكار الأشياء المصنوعة – يزاد تقدير قيمة الأشياء، وهذا شيءٌ ينطبق على الذهب والفضة كما ينطبق على القمح والخمر والزيت والتبغ. لكن خِداع فيليب لم يشك به حالاً إلا عندما انخفضت القيمة الواقعية لنقده، وخسر هو نفسه ما طن أنه سيربحه من أتباعه. وقد حدث نفس الشيء نتيجة لكل محاولة مُشابهة » المجلد 1، صفحة 70 – 71.
لقد برهن عدة مرات أنه إذا أراد أمير أن يخفض من قيمة الصرف فإنه سيخسر. فما يربحه لدى أول إصدار يخسره كل مرة تعود إليه القطع النقدية الزائفة بشكل ضرائب الخ. لكن فيليب وأتباعه كانوا قادرين أن يحموا أنفسهم من هذه الخسارة لأنهم عندما وضعوا القطع النقدية للتداول، فإنهم كانوا يأمرون بجمع المال كما كانوا يفعلون سابقا.
وعلاوة على ذلك لو أستطاع فيليب الأول أن يكون منطقيا مثل برودون لما كان منطقيا ممتازا « من الوجهة التجارية » لم يبرهن لا برودون ولا فيليب الأول عن أية عبقرية تجارية عندما تصوروا إمكانية تغيير قيمة الذهب كإمكانية تغيير أية سلعة أخرى: وهذا فقط لأن سعرها محدد بالعلاقة بين العرض والطلب.
لو أمر الملك فيليب أن يصبح مكيال من الحنطة في المستقبل مكيالين من الحنطة. لكان في عمله هذا مخادعا، ولخدع كل الذين يحصلون على دخل، ولخدع الناس الذين كانوا يحصلون على مائة مكيال من الحنطة. ولكان سبب تخفيض مائة مكيال ينالها البعض إلى خمسين مكيال فقط. ولنفترض أن الملك كان مديونا بمائة مكيال حنطة فكان عليه أن يدفع خمسين فقط. لكن في التجارة نرى أن المائة لا تساوي أكثر من الخمسين، ففي تغييرنا للاسم لا نغير شيء. إن كمية الحنطة، معروضة أو مطلوبة، لا تزداد أو تنقص بتغيير الاسم فقط. وهكذا فالعلاقة بين العرض والطلب يبقى نفس الشيء رغم هذا تغيير في الاسم وسعر الحنطة لا يتأثر بأي تغيير حقيقي. عندما نتكلم عن عرض وطلب الأشياء لا نتكلم عن عرض وطلب أسماء الأشياء.
لم يكن فيليب الأول صانع ذهب أو فضة كما يقول برودون، لقد كان صانع أسماء القطع النقدية. اجعل نوع الصوف الفرنسي نوعاً من الصوف الآسيوي فتستطيع أن تخدع شارياً أو شاريين، ولكن عندما تُكتشف الخدعة، فإن ما تدعوه صوفاً آسيوياً يهبط سعره إلى سعر الصوف الفرنسي. عندما وضع الملك فيليب قاعدة عامة للذهب والفضة استطاع أن يخدم غيره طالما أن الخدعة لم تكن معروفة. وكأي صاحب خدع فإنه خدع زبائنه عندما وصف لهم مستودعاته وصفاً كاذباً، لكن هذا الكذب لم يدم طويلاً. لقد أُجبر أخيراً أن يقاسي مرارة القوانين التجارية. وهل هذا هو ما أراد برودون أن يبرهنه ؟ كلا، بالنسبة له. يحصل النقد على قيمته من السلطة وليس من التجارة ولكن ماذا يبرهن حقاً أن التجارة لها سلطة أكثر من السلطة. دع قرارات السلطة تجد أن ماركاً واحداً سيكون في المستقبل ماركين، وتستمر التجارة تقول إن هذين الماركين لا يساويان أكثر من ماركٍ سابقاً.
ولكن علاوةً على كل هذا نجد أن مسألة القيمة المحددة بكمية العمل لم تتقدم خطوة واحدة ولا نزال في حيرةٍ لنُقرر إن كانت قيمة الماركين (اللذين أصبحا بقيمة مارك واحد) تُحدد بتكاليف الإنتاج أو بقانون العرض والطلب.
يُتابع برودون « يجب أن نثبت في عقولنا – عوضاً أن نُنقص من قيمة الصرف أنه كان بمقدور الملك أن يُضاعف حجمه – أن تبادل قيمة الذهب والفضة كان سيسقط إلى النصف وهذا يعود دوماً لأسباب النسبة والتساوي ». المجلد 1، الصفحة 71.
لو كانت هذه الفكرة شرعية (وهو يُشارك غيره من الاقتصاديين) – فستناقش فقط فكرة العرض والطلب وتحبذ فكرة النسبة عند برودون. فمهما تكن كمية العمل المضمنة في حجم مضاعف للذهب والفضة، فإن قيمتها ستسقط للنصف، لأن الطلب يبقى نفس الشيء بينما العرض قد تضاعف. أيمكن أن نخلط قانون النسبة بقانون العرض والطلب ؟ إن قانون النسبة هذا الذي يتكلم عنه برودون يظهر أنه مطاط جدا وقادر على التغييرات وقابل للاتحاد والذوبان بقوانين غير، حتى أنه يطابق ولو مرة واحدة، قانون الطلب.
لكي نجعل « كل سلعة قابلة للتبادل، إذا تم هذا التبادل فأنه يتم بحق ». لنطبق هذا الحق على قاعدة الدور الذي يلعبه الذهب والفضة، يعني عدم فهم هذا الدور. يقبل الذهب والفضة بحق لأنهما يقبلان واقعيا، ويقبلان واقعيا لأن التنظيم الحاضر للإنتاج يحتاج لوسيط عام يقوم بدور التبادل. فالحق هو التعريف الرسمي للواقع.
لقد رأينا أن مثال النقد كتطبيق للقيمة – هذه القيمة التي حققت دور التشكيل – إن برودون قد أختار هذا المثال ليتهرب من مبدئه الكلي في التبادل، يعني لكي يبرهن أن كل سلعة تعطي قيمتها على أساس تكليف إنتاجها يجب أن تصل لحالة النقد. كل هذا يمكن أن يكون جميلا لولا الاعتراف بالواقع أن الذهب والفضة – كنقود – هي الوحيدة بين السلع التي لا تتحدد بتكاليف إنتاجها ودليل على هذا هو أنه يمكن أن نستعيض عنها بالنقد الورقي أثناء التداول. وطالما أنه توجد نسبة معينة وملحوظة بين متطلبات التداول بين كمية النقود المطروحة، ولو كانت ورقا أو ذهبا أو بلاتين أو نقود ا نحاسية، فلا يمكن أن نلاحظ وجود نسبة بين القيمة الداخلية المخلوقة « تكاليف الإنتاج » وبين قيمة النقود المسماة. بلا شك، في التجارة العالمية، يحدد النقد كأية سلعة أخرى أي بوقت العمل. ولكن في الواقع إن الذهب والفضة في التجارة الدولية هي وسائل المنتوجات وليست كنقود. وهذا يعني أن النقود تفقد « صفتها العامة والمستقرة » وتفقد « موافقة السلطة » التي – بالنسبة لبرودون – تُشكِّل مميزاتها الخاصة. لقد فهم ريكاردو هذه الحقيقة جيداً حتى بعد أن أسس طريقته على القيمة المحدودة بوقت العمل، وبعد أن قال: « إن الذهب والفضة ككل السلع الأخرى، لها قيمة فقط بالنسبة لكمية العمل الضروري لإنتاجها والتي تأتي بها للسوق » فإنه يُضيف أن قيمة النقد لا تُحدد بوقت العمل المتضمن بمادته بل بقانون العرض والطلب فقط.
« ورغم أن النقد الورقي ليس له قيمة داخلية، ولكن لدى تحديد كميته، نرى أن قيمته في التبادل عظيمة كمقدار قطعة النقود (أي أن الورق يحل محل قطعة النقد المعدنية). وبنفس المبدأ لدى تحديد كميته, فإن قطعة نقد مُخفَّضٌ وزنها تُتداول بالنسبة للقيمة التي تحملها، ولو لم تكن في وزنها الشرعي وقيمتها الأصلية لتم تبادلها كما كان سابقاً. نجد في تاريخ النقد الإنكليزي أن قيمة الصرف لم تنخفض بنفس النسبة التي تخفض به قطعة النقد وسبب هذا هو أن النقد لم يزدد أبداً كمياً بالنسبة لقيمته المنخفضة » ريكاردو.
والآن نُورد ما يلاحطه ساي بالنسبة لقول ريكاردو:
يكفي هذا المثال، كما أظن لِيَقنع المؤلف أن أساس كل قيمة ليست كمية العمل الذي يحتاج له لعمل السلعة، لكن الحاجة لتلك السلعة إذا قوبلت بِقلَّتها وندرتها.
وهكذا فالنقد – الذي ليس هو بالنسبة لريكاردو قيمة يُحدِّدُها وقت العمل، والذي يتَّخذه ساي كمثالٍ ليُقنِع ريكاردو أن القِيم الأخرى لا يمكن تحديدها أيضاً بوقت العمل، هذا النقد، الذي يتَّخذه ساي كمثال لقيمة تحدد بالعرض والطلب، يصبح بالنسبة لبرودون المثال الممتاز لتطبيق القيمة المشكلة بوقت العمل.
ولكي نستنتج – إذا لم يكن النقد قيمة « مشكلة » بوقت العمل – إذن له علاقة بفكرة النسبة عند برودون. إن الذهب والفضة يخضعان للتبادل دوما لأن لهما ميزات خصوصية للخدمة كوسيط عام التبادل وليس لأنها موجودة بكمية نسبية لحاصل مجموع الثروة، ولنضع الاستنتاج بقالب أحسن: إنهما – الذهب والفضة – نسبيتان لأنهما – وهما وحدهما نسبيتان بين كل السلع – تخدمان كنقد، وكوسيط عام التبادل مهما كانت كميتهما بالنسبة لحاصل مجموع الثروة. « لا يمكن أن يكون التبادل غزيرا حتى يطوف، لأنه لدى تنقيص قيمته – وبنفس النسبة أنت تزيد كميته – ولدى زيادة قيمته، فإنك تقدر أن تنقص كميته » ريكاردو.
« ما هو هذا التعقيد في الاقتصاد السياسي » يصرخ برودون.
« ملعون هو الذهب » يصرخ شيوعي بفم برودون. إنك تقدر أن تقول: ملعون هو القمح، ملعونة هي الكرمة، ملعونة هي الخراف !.. لأنها مثل الذهب والفضة، فنرى أن كل قيمة تجارية يجب أن تنال تحديداتها الصحيحة ». المجلد 1، صفحة73.
إن فكرة جعل الخراف والكرمة تصل لحالة النقد ليست جديدة ففي فرنسا، في عصر لويس الرابع عشر، ففي ذلك الزمن، عندما ابتدأ النقد في فرض سيطرته، أخذ الناس يتذمرون من انخفاض كل السلع الأخرى، وكان يرجى أن يكون ذلك الوقت الذي يمكن تنال فيه « كل قيمة تجارية » تحديدا صحيحا وأن تنال حالة النقد أي أن تحقق كونها نقدا. وحتى في كتاب بواغيبر Boisguillebert وهو أحد الاقتصاديين الفرنسيين القدماء، نجد هذا القول« النقد إذن – لدى وجود مُنافسين عديدين بشكل سلع، وهذه السلع وهي حاصلة على قيمتها الحقيقية – سيعود مرة أخرى لحدوده الطبيعية ». كتابه « الاقتصاديون ورجال المال في القرن الثاني عشر ».
Economists, Financiers de Dix – Huitième Siècle
كلُّ واحدٍ يرى أن أول أوهام البورجوازية هو آخر أوهامها.
تطبيق قانون نسبية القيمة
ب – العمل الفائض
« في بعض كتب الاقتصاد السياسي نقرأ هذه الفرضية: لو تضاعف سعر كل الأشياء ... كان سعر كل شيء لن يكون النسبة بين الأشياء – إذ أن كل واحد يقدر أن يُضاعف العلاقة والنسبة أو القانون » المجلد 1، صفحة 81.
لقد سقط الاقتصاديون في هذه الفرضية البالية لأنهم لك يعرفوا كيفية تطبيق « قانون النسبة » وقانون « القيمة المُشكَّلة ».
ولسوء الحظ نقرأ في نفس كتاب برودون « المجلد 1، صفحة 110 » « لو ارتفعت الأجور ارتفاعاً عاماً، فإن سعر كل شيء سيرتفع ». وعلاوة على هذا. لو وجدنا هذا السؤال في كتب الاقتصاد السياسي لوجدنا شرحاً له: « عندما يتكلم شخصٌ عن سعر كل السلع عندما ترتفع أو تهبط، فإنه يُجرد عنها سلعةً ما. وهذه السلعة التي لا تخضع لهذ الفرضية هي النقد والعمل ».
John Stuart Mill: Essays on Some UnsettledQuestions of Political Economy.
لِنأت الآن إلى التطبيق الثاني « للقيمة المُشكَّلة » ولنأت إلى نسبٍ أخرى – هذه النسب ينقصها نسب حقة – ولننظر إن كان برودون أكثر سعادةً هنا من المكان الذي يُحاول فيه أن يجعل الخراف والكرمة نقوداً.
« قبِل الاقتصاديون فرضيَّة ما وهي أن كلَّ عملٍ يجب أن يترك فائضاً. ففي نظري هذه الفرضية حقيقة مطلقة وعامة .. إنها تابع لقانون النسبة التي يمكن أن نعتبرها كخلاصة لعلم الاقتصاد كله. ولكن إذا سمح لي الاقتصاديون أن أقول أن المبدأ القائل أن كل عملٍ يجب أن يترك فائضاً، فإن هذا المبدأ لا معنى له ولا يخضع لأي برهان أو دليل » المجلد 1، صفحة 73.
ولكي يُبرهن أن كلَّ عملٍ يترك فائضاً نرى برودون يُعطي شخصيَّةً للمجتمع. إنه يلتفت إلى شخص – المجتمع – أنه ليس مجتمعاً من الأشخاص وليس له مفهوم عام مع الأشخاص الذين يؤلفونه: وذكاؤه (أي ذكاء المجتمع) ليس هو ذكاء الناس الذين به لكنه مجتمعٌ خالٍ من كلِّ شعورٍ بالذوق والحساسية. إن برودون يوبِّخ الاقتصاديين لأنه لم يفهم تضامن المخلوقات. ونحن نفرح أن نجابهه بهذا القول الذي اقتبسناه عن اقتصاديٍ أمريكيٍ؛ إذ يتهم الاقتصاديين بعكس ما اتهمهم برودون: « إن الوحدة الأخلاقية – الكائن النحوي الذي تدعوه الأمة، وُصف دوماً كشيءٍ موجودٍ حقاً، لكنه ليس موجوداً إلا بمخيلة هؤلاء الذين يخلقون شيئاً من كلمة .. لقد سبب هذا متاعب كثيرة وسبب كثيراً من الاضطراب وعدم الفهم في الاقتصاد السياسي.
Cooper, « Lectures on The Elements of Political Economy ».
يُتابع برودون ويقول: « إن هذا المبدأ المُتعلِّق بفائض العمل هو حقيقةٌ بالنسبة للأفراد لأنه يصدر عن المجتمع الذي يُطبِّق عليهم منفعةَ قوانينه » المجلد 1، صفحة 75.
هل يعني برودون أن إنتاج الفرد الإجتماعي يفوق إنتاج الفرد وحده ؟ هل يُشير برودون إلى أن إنتاج الأفراد المجتمعين يزيد على إنتاج الأفراد غير المجتمعين ؟ وإذا كان هذا، فنحن نقدِر أن نُقدِّم له مئات الاقتصاديين الذين تكلموا في هذا الحقل البسيط بدون أي تصوفٍ يُحيط به برودون نفسه. وهذا ما يقوله سادلر:
« إن العمل المُتحد يُعطي نتائج أحسن بكثير من العمل الذي يقوم به الفرد. وبما أن البشر يزداد عددهم فإن إنتاج عملهم المتحد سيزيد بكثير كمية أية إضافة حسابية على أي عملٍ فردي .. ففي الفنون الميكانيكية كما في الأبحاث العلمية، يمكن للرجل أن يُنتج أكثر في اليوم وهو يعمل مع غيره .. أكثر مما لو كان يعمل منفرداً طول حياته .. والهندسة تقول: إن الكل يُساوي مجموع الأجزاء، فإذا طبَّقنا هذا القول على هذا الموضوع فإن هذه الفرضية تكون خطأً ولدى اعتبارنا للعمل – وهو العمود الفقري العظيم للوجود الإنساني يمكن أن يُقالأن الإنتاج الكلي للعمل المتحد يزيد إلى ما لا نهاية كل الجهود التي يقوم بها الفرد » ..
T. Sadler « The Law of Papulation »
ولنعود الآن لبرودون، إن العمل الفائض – يقول برودون – يشرحه الشخص – المجتمع – إن حياة هذا الشخص (المجتمع) تقودها القوانين التي تحكم نشاطات الإنسان كفرد. وبرودون يرغب أن يُبرهن هذا بالوقائع.
إن اكتشاف عملية اقتصادية لا يُقدِّم للمخترع ربحاً مُساوياً للمنفعة التي يُقدِّمها للمجتمع .. ولقد شُوهد أن مشاريع السكك الحديدية هي مصدر ثروةٍ أقل للمتعهدين .. إن معدَّل تكاليف نقل السلع على الطرق هو 18 سنتيم للطن في الكيلومتر؛ وهذا السعر ينطبق على البضائع من مكان تحميلها لمكان تسليمها. ولقد حسب أنه بناءً على هذه النسبة إن مشروع سكةٍ حديديةٍ لا يربح 10 سنتيم بالنسبة للنقل على الطرقات. ولكن لنفترض أن سرعة النقل بواسطة سكة الحديد بالمقابلة مع سرعة النقل على الطرقات هي 4 – 1. وبما أن الوقت في المجتمع هو القيمة نفسها، فإن سكك الحديد – الأسعار كونها مُتساوية – تُمثِّل تقدُّماً بـ 400 % على النقل عل الطرقات، ومع ذلك فإن هذه الحسنة الكبيرة – وهي حسنةٌ للمجتمع لا تتحقق بنفس النسبة للناقل، هذا الناقل الذي يُقدِّم للمجتمع قيمةً إضافيَّةً مؤلَّفةً من 400 % لا يقدر من جهة أن يسحب 10 بالمائة. ولكي نوضح الموضوع أكثر نقول: دعنا نفترض، كواقع، أن سكة الحديد تضع معدَّلاً قدره 25 غرشاً بينما يبقى النقل على الطرقات 18 قرشاً، ففي هذه الحالة تخسر الخطوط الحديدية كل زبائنها. فمرسلو البضائع ومستلموها، وكل واحد يعود إلى النقل بالعربات القديمة إذا رأى ذلك ضرورياً. وحينئذٍ تُهجر عربات القطار. إن التقدم أو ميزة 400 % ستُضحي لخسارةٍ خاصةٍ مقدارها 35 بالمائة. وسبب هذا نعرفه بسهولة: إن التقدم الحاصل من سرعة القطار هو تقدمٌ اجتماعي وكل فردٍ يُشارك بهذا التقدم بنسبة دقيقة بينما تقع الخسارة على المستهلك مباشرةً وشخصياً. إن ربحاً اجتماعياً قدره 400 % لا يُمثِّل بالنسبة للفرد – إذا كان المجتمع مليون فرد – 4 من عشرة آلاف، بينما نجد أن خسارة 33 % للمستهلك تفترض تراجعاً اجتماعياً مؤلفاً من 33 مليوناً ». المجلد 1، صفحة 75 و76.
والآن لننظر لماذا عبَّر برودون عن سرعة أربع مرات (400) أكثر من السرعة الأصلية. لكنه يُريد أن يخلق علاقةً بين نسبة السرعة المئوية ونسبة الربح المئوية ويقيم عندئذٍ نسبةً بين هاتين العلاقتين اللتين – رغم أن كلَّ واحدةٍ تُقاس على حِدة بالنسة المئوية – لا يُمكن قياسها مع بعضها ! وهكذا يعمل على أن يظهر نسبة بين النسب المئوية بدون الإشارة إلى مخرجٍ لهما.
إن النسب المئوية تبقى دوماً نسباً مئوية، 10 بالمائة و400 % يمكن قياسهما، إنهما لبعضهما بنسبة 10 إلى 400، وهكذا يستنتج برودون أن ربح 10 % يُعادل 40 مرة أقل من سرعة أربع مرات أكثر. ولكي يخدع غيره بالمظاهر يقول إن الوقت بالنسبة للمجتمع، هو نقود. يعود هذا الخطأ لأنه لم يفهم جيداً وجود صلة بين القيمة ووقت العمل، فهو يسرع أن يُقارن ويُشبِّه وقت العمل بوقت النقل، يعني أنه يعين السواقين وغيرهم الذين وقتهم يُمثِّل وقت نقل، إنه يمثل عمل هؤلاء بالمجتمع كلِّه. وبضربةٍ قاضيةٍ واحدةٍ، تُصبح السرعة رأسمالاً، وفي هذه الحالة يعتقد حقاً إذ يقول: « إن ربح 400 % ستضحي لخسارة 34 % ». وبعد أن يُؤسس هذه الفرضية الغريبة كرياضياتي يعتقد أنه عليه أن يشرحها لنا كاقتصادي.
« إن ربحاً اجتماعياً يُعادل 400 % يُمثِّل بالنسبة للفرد – في مجتمعٍ مؤلفٍ من مليون شخص – أربعةً من عشرة آلاف ». اتفقنا: لكنن هنا لا نبحث في 400 % لا أكثر ولا أقل. ومهما يكن رأس المال فإن الأشخاص الذين ستُقسم بينهم النسبة سينالون دوماً 400 % وماذا يعمل برودون ؟ إنه يتكلم عن النسبة المئوية كأنها رأسمال، ونراه خائفاً من اضطرابه لأنه لم يشرح قوله، ويُتابع:
« وإن خسارة 33 % بالنسبة للمستهلك تفترض تأخراً اجتماعياً من 33 مليوناً ». إن خسارة 33 % بالنسبة للمستهلك تبقى خسارة 33 % لمليون مستهلك، وكيف يقدر برودون أن يقول إن التأخر الاجتماعي في حالة خسارة 33 % تُعادل 33 مليوناً عندما لا يعلم هو الرأسمال الاجتماعي والرأسمال العائد لكل فرد من الأفراد الذين تتعلق بهم المسألة ؟ وهكذا لم يكن كافياً لبرودون أب يخلط بين رأسمال ونسبةٍ مئويةٍ، إنه يفوق نفسه عندما يعرف أن رأس المال قد غرق في مشروع مع عدد الفرقاء المهتمين.
« ولكي يوضح المسألة أكثر دعنا نفترض أن الواقع » رأسمالاً مُعطى. إن ربحاً اجتماعياً من 400 % يُقسم على مليون مشترك أو مُساهم – وكل واحد من المُساهمين يهتم بربحِ وفرنكٍ واحدٍ – يُعطي نتيجة 4 فرنكات لكل شخص وليس 0.0004 كما يقول برودون وهطذا فخسارة 34 % لكل من المشتركين تُمثِّل تأخراً اجتماعياً من 330000 ألفاً وليس 33 مليوناً (330:100 = 300000:1000000).
إن برودون، بما أنه كان مشغولاً بنظريته في الشخص (المجتمع) ينسى أن يُقسِّم على 100 لكي يحصل على خسارة 330000 فرنكاً، لكن ربح فرنكات لكل فرد يؤدي لربح 4 ملايين فرنكاً ربحاً للمجتمع، ويبقى للمجتمع ربحٌ صافٍ من 3670000 فرنكاً. وهذا الحساب الدقيق يُبرهن بدقة التناقض فيما أراد برودون قوله: وهو أن أرباح وخسائر المجتمع ليست في نسبةٍ معكوسةٍ لأرباح وخسار الأفراد.
وبما أننا قد قدمنا هذه الأخطاء البسيطة العائدة لحساباتٍ دقيقةٍ، لنلق الآن نظرةً على النتائج التي نصلها إذا نحن قبِلنا هذه العلاقة بين السرعة ورأس المال في حالة الخطوط الحديدية – كما يُقدِّمها برودون – دعنا نفترض أن نقل أربعَ مراتٍ أسرع يُلكِّف أربع مراتٍ أكثر ! إن هذه النقل لا يُعطي ربحاً أقل مما يُعطيه النقل بالعربة التي هي أبطأ أربع مرات أقل وتُكلِّف ربع الكمية. فإذا كانت العربة تتقاضى 18 غرشاً فإن خط الحديد يتقاضى 72 غرشاً. وهذا يكون بالنسبة للحسابات نتيجةً للفرضيَّة التي عرضها برودون – ودائماً تنقص أخطاؤه – وهنا فجأةً نراه يقول لنا أنه عوضاً عن 72 غرشاً، فإن الخطوط الحديدية تتقاضى 25 غرشاً لأنها تخسر كلَّ زبائنها. وبالنتيجة علينا أن نعود إلى العربة القديمة. فإذا كان علينا أن ننصج برودون يجب أن لا ننسى في برنامجه للمجتمع المُتزايد أن تقسِّم على 100، لكن مع الأسف نرى أنَّه لا يأخذ بنصيحتنا لأن برودون مبتهجٌ بحساباته التقدميَّة التي تُقابل وتُشبه المجتمع التقدَّمي، حتى أنَّه يصرخ مؤكِّداً: « لقد أظهرتُ في الفصل الثاني عندما حللت مفهوم تناقض القيمة، أن الحسنة التي يُقدِّمها كل امتشاف جديد هي قليلة بالنسبة لمخترع مهما عمل هذا المخترع للمجتمع. ولذلك قمت بالبرهان الثابت حتى توصَّلت لهذا النقطة واعتمدت على نشاطي الحسابي ».
ولنرجع إلى خُرافة الشخص (المجتمع)، هذه الخُرافة التي ينحصر هدفها بالبرهان على هذه الحقيقة البسيطة – وهي أنَّ اختراعاً جديداً يُساعد أن يُقدِّم كميةً من العمل ليُنتج عدداً أكبر من السلع، إن هذه الاختراع يُخفِّض قيمة الإنتاج، فالمجتمع إذاً ينال ربحاً، ليس في حصوله على قيم تبادل أكثر، بل في الحصول على سلعٍ أكثر بنفس القيمة.
وبما يتعلَّق بالمخترع، فإن المُنافسة تجعل ربحه يسقط إلى المستوى العادي للأرباح. هل برهن برودون هذه الفرضيَّة كما أراد هو ؟ كلا. إن هذا لم يمنعه أن يوبِّخ الاقتصاديين عندما فشل برهانه. وإذا برهنا له على العكس أنَّهم برهنوها فإننا نُقدِّم له – ريكاردو ولوردال – ريكاردو زعيم المدرسة التي تُحدِّد القيمة بوقت العمل، ولوردال أحد المُدافعين الكِبار عن تحديد القيمة بالعرض والطلب. وكلاهما عرضا الفرضيَّة نفسها.
« عندما نُسهِّل الإنتاج فإننا ننقص قيمة بعض السلع قبل الإنتاج، رغم أنه بنفس العوامل لا نزيد فقط الثروات الوطنية بل نزيد قوة الإنتاج في المستقبل – ... إنَّك بمساعدة الآلة وبمعرفتك للفلسفة الطبيعية، فإنَّك تُجبر العُملاء الطبيعيين أن يعملوا العمل الذي قام به الإنسان قبلاً، وقيمة التبادل لمثل هذا العمل تسقط وتنقص. فإذا كا عشرة رجال يديرون طاحونة قمح، وبعد الاكتشاف وُجد أنَّه بمساعدة الهواء أو بمساعدة الماء نقدر أن نوفِّر هؤلاء الرجال العشرة، فالدقيق الذي هو نتيجة قسم من العمل الذي قدمته الطاحونة سيهبط سعره بالنسبة لكمية العمل المُوفَّر، ويكون المجتمع أغنى بالسلع التي هي نِتاج عمل عشرة رجال » (ريكاردو) المجلد 2، صفحة 59.
وجاء دور لوردال ليقول:
« وفي كل وقت يُوظَّف به رأس المال ليُنتج ربحاً فإنه يرتفع إما – لأنه يؤلِّف قسماً من العمل الذي كانت يد الإنسان تقوم به – أو لأنه يؤلِّف قمساً من العمل الذي هو أبعد من أن يقوم به جُهد الإنسان. فالربح الصغير الذي يناله عادةً أصحاب الآلات عندما تقيسها بأجور العمل التي تُساعد الآة على خلقه، يمكن أن يخلق شيئاً بالنسبة لصحة هذه النظرة. إن بعض الآلات التي على النار تستهلك ماءً من الآلة التي تعمل على الفحم الحجري أكثر من الماء الذي يمكن حمله على أكتاف الرجال، فإذا جهزنا هذه الآلة بمرجل ماءٍ كبيرٍ فإنها تُنجز عملها بمصروفٍ أقل بكثير من كمية الأجور التي تُقدَّم لهؤلاء الذين كانوا يعملون لو كانوا يقومون بتجهيز ونقل الماء. وهذه الحقيقة تنطبق على كل أنواع الآلات. يجب أن تُنفِّذ كلُّ الآلات العمل الذي كان يُقام قبلاً، يجب أن تُنفِّذ هذا العمل بنسبةٍ أرخص مما لو كانت يد الإنسان تُقدِّمه ... فإذا كان هذا هو الامتياز الذي يُقدَّم لدى اختراع آلة – هذه الآلة التي بواسطة عمل شخصٍ واحدٍ، تُنجز كميةً من العمل كان يحتاج لأربع رجالٍ يقومون به، وبما أن ملكية هذا الامتياز يمنع المنافسة أن تعمل العمل – إلا ما كان يَنتج من عمل العمال وعن أجورهم طالما أن هذه الآلة تُخفِّض الأجور. ولكن عندما يوجد هذا الامتياز فإن آلاتٍ أخرى من نفس النوع تقوم وتُنافس، وحينئذٍ نرى أن كلَّ الآلات تعمل على نفس المبدأ لكثرة الآلات ... لربح الناتج عن الرأسمال المستثمر .. رغم أنه يأتي عمل مساعد، ولكن هذا الربح لا يأتي فقط عن العمل المساعد الذي تُقدِّمه الآلة بل عن المنافسة بين أصحاب رأس المال، يكون هذا الربح كثيراً بالنسبة لكمية رأس المال الذي يُمثل في إنجاز العمل وإنجاز الطلب ». (لودرال، صفحة 119، 123، 124، 125، 134).
وأخيراً طالما أن الربح هنا أكثر من الربح في الصناعات الأخرى، فإن رأس المال يوظَّف في الصناعة الجديدة حتى تهبط نسبة الربح للمستوى العام.
لقد رأينا أن مَثله للخطوط الحديدية لم يُساعده على إلقاء نورٍ على خُرافته – الشخص (المجتمع) – ومع ذلك فبرودونيختصر خطابه:« وبما أنني أوضحت هذه النقط، لا شيء أسهل من أن أشرح كيف أن العمل يترك فائضاً لكل منتج ». (المجلد 1، صفحة 77).
إن كلَّ ما سنراه يعود للآثار الكلاسيكية. إنها قصةٌ شعرية وُضعت لنفس القارئ بعد أن ألمَّ به تعب الحلول الحسابية التي مرت معنا. إن برودون يُطلق على الشخص (المجتمع) اسم بروميثوس ويُمجِّد برودون أعمال بروميثوس عندما يقول:
« قبل كل شيء، استيقظ بروميثوس من صدر الطبيعة وأتى إلى الحياة بقوَّةٍ جبَّارةٍ مُفرحةٍ إلخ... يبتدئ بروميثوس بعمل وفي اليوم الأول أي ثاني يوم بعد ولادته الثانية – يكون إنتاج بروميثوس الثروة أي ليكون في حالةٍ حسنةٍ، وثروته هذه تُعادل عشرة. وفي اليوم الثاني يَقسِم بروميثوس عمله فيصبح إنتاجه مساوياً لمئة. وفي اليوم الثالث وفي كل يوم يتبع يخترع بروميثوس الآلات ويكتشف منافع كثيرة في الأجسام ويكتشف قوى جديدة في الطبيعة –. وفي كل خطوةٍ يخطوها نشاطه الصناعي تنتج زيادةٌ في عدد منتوجاته، هذه الزيادة تُسبب له سعادةً كُبرى. وبعد كلِّ هذا تُصبح كلمة ”أن يستهلك“ تعني ”أن يُنتج“ ومن الواضح أن استهلاك كلِّ يومٍ – مستعملاً إنتاج اليوم السابق – يترك فائضاً في الإنتاج لليوم الثاني » (المجلد 1، صفحة 77 – 78).
إن بروميثوس الذي يتكلَّم عنه برودون لَهو شخصيةٌ غريبةٌ، يُعبِّر عن ضعفه في المنطق كضعفه في الإقتصاد السياسي. وطالما أن بروميثوس يُعلِّمنا تقسيم العمل واستعمال الآلة، والانتفاع من القوى الطبيعية والقوى العلمية، وزيادة القوى الإنتاجية في الإنسان لإعطاء فائض تقابلبانتاج العمل الفردي، إن بروميثوس هذا الجديد يمتاز بحظه السيِّء لأنه أتى مُتأخِّراً جداً. ولكن حين يبتدئ بروميثوس ويتكلَّم عن الإنتاج والإستهلاك يُصبح مُضحكاً. ليستهلك – كما يظن – يعني ليُنتج ! إنه يستهلك في اليوم الثاني ما أنتجه في اليوم السابق، وهكذا يبقى عنده زيادة يوم إلى الأمام، وزيادة هذا اليوم هو ”فائض عمله“. لكن إن كان يستهلك ثاني يوم ما أنتجه في اليوم السابق فيجب وهو في اليوم الأول – إذ لا يوجد يومٌ قبله ليكون له فائض – أن يكون قد قام بعمل يومين حتى يعمل يوماً واحداً حتى يبقى عنده زائد. وكيف ربح بروميثوس هذا الفائض في اليوم الأول – ذلك اليوم حيث لم يوجد تقسيم عمل ولم توجد آلة حتى أنه لم توجد معرفة عن القوى الطبيعية غير قوة النار ؟ فالسؤال إذن يعود ”لأول يوم بعد الخلق“ إذ إنه لم يتقدَّم خُطوةً واحدةً إلى الأمام. إن هذه الطريقة التي يستعملها برودون لشرح الأشياء مأخوذةٌ عن اليوناني وعن العبري لأنها تمتاز بصفتها الصوفية. هذه الطريقة تُعطي الحق لبرودون فيقول: « لقد برهنت نظرياً وعملياً المبدأ القائل أن كلَّ عملٍ يجب أن يكون له فائض ».
”الواقع“ الذي يُظهره هو حساباته التقدُّمية، ”والنظري“ هو أسطورة بروميثوس. يُتابع برودون قائلاً: « لكن هذا المبدأ – بما أنه حقيقي وقائم على افتراضٍ حسابي – لا يزال بعيداً أن يُحققه كل شخص. وبتقدُّم الصناعة الجماعية، فسينتج كل يوم عمل لفردٍ إنتاجاً أكبر، وعندئذٍ يُصبح العامل الذي يتقاضى الأجرة نفسها أغنى وأغنى: هناك حالات تزدهر بينما حالات غيرها تتقهقر ». (المجلد1، صفحة 79 – 80).
لقد كان عدد سكان المملكة المتحدة سنة 1770 خمسة عشر مليون نسمة، أما السكان المُنتجون فكانوا ثلاثة ملايين. والقوى العلمية للإنتاج كانت تساوي سكان بلدٍ مؤلَّفٍ من اثني عشر مليون فرد. وهكذا كان يوجد 15 مليوناً من القوى الإنتاجية. وهكذا كانت القوى الإنتاجية في السكان بنسبة واحد إلى واحد، أما القوى العلمية فكانت بالنسبة للقوى اليدوية أربعة إلى واحد.
ففي سنة 1840 زاد عدد السكان إلى 30 مليون شخص، وكان السكان المنتجون ستة ملايين. لكن القوى العلمية ارتفعت إلى 650 مليوناً، وكان هذا لكل السكان بنسبة 21 إلى واحد أو بالنسبة للقوى اليدوية 108 إلى واحد.
وكان يوم العمل في المجتمع الإنكليزي يتطلَّب في مدة 70 سنةً فائضاً 2700 % قوة إنتاجية، وهذا يعني أن سنة 1840 أنتجت 27 مرة أكثر من 1770. وبالنسبة لبرودون يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا لم يُصبح العامل الإنكليزي سنة 1840 أغنى 27 مرةً من العامل سنة 1770 ؟ ولدى سؤاله هكذا فإن الشخص يفترض طبيعياً أن الإنكليزي كان يقدر أن يُنتج هذه الثروة بدون الأحوال االتاريخية التي تم الإنتاج بها، مثلاً ! إن التجمُّع الخاص لرأس المال، والتقسيم الحاضر للعمل، والمصانع الأوتوماتيكية، أو المنافسة الفوضوية، وطريقة الأجور – وباختصار كلُّ شيءٍ كان مبنيَّاً على صراع الطبقات. والآن، كانت هذه الأجور بالضبط الحالات الضرورية لنمو القوى الإنتاجية، كان يجب أن تكون طبقاتٌ تستفيد وتربح وطبقاتٌ تتقهقر وتخسر.
وماذا يعني برودن بروميثوس ؟ إنه مجتمع، والعلاقات الإجتماعية قائمةٌ على صراع الطبقات. هذه العلاقات ليست علاقاتٍ بين فردٍ وفردٍ بل بين عاملٍ ورأسمال، بين فلاحٍ وملَّاكٍ.. إلخ. فإذا محوت هذه العلاقات فإنك تُنهي المجتمع، ولا يكون بروميثوس إلا شبحاً بدون ذراع أو أرجل، أي بدون مصانع أوتوماتيكية وبدون تقسيم عمل – وباختصار – بدون أي شيءٍ تكون قد أعطيته له تجعله يحصل على فائض العمل.
فإذا كان برودونقد اكتفى أن يشرح نظرية قاعدة فائض العمل بشعوره للتعادل بدون أن يأخذ بعين الاعتبار أحوال الإنتاج الوقعية، يجب أن يكفي في الواقع أن يجعل كل العمال يشتركون في بالثروة، وبدو أن يُغيِّر أي شرطٍ من شروط الإنتاج. وإن توزيعاً كهذا لا يؤكد أبداً درجةً عاليةً من السرور والراحة للأفراد المشتركين.
لكن برودون ليس متشائماً كما يمكن أن يظن أحدنا. وبما أن كل شيءٍ نسبة، فعليه أن برميثوس الذي جهَّزه تجهيزاً جيداً، أن يرى في مجتمعنا الحاضر، بداية تحقيق رأيه الذي حبَّذه.
« لكن في كل مكان نجد أن نقدم الثروة أي نسبية القيم، هي القاعدة المطلقة، وعندما وقف الاقتصاديون ضد تذمُّر الفريق الإجتماعي أي ضد النمو المُطَّرد للثروة العامة، وضع تحسين أحوال الطبقات الفقيرة، نجدهم يُنادجون بحقيقة كانت كافيةً أن تقضي على نظرياتهم (المجلد 1، صفحة 80).
ما هي في الواقع الثروة الجماعية والغنى الجماعي ؟ إنها ثروة البورجوازي – وليس كلُّ برجوازي. حسناً ان الاقتصاديين لم يفعلوا شيئاً إلا أن يُظهروا كيف أن – علاقات الإناتج الموجودة – ثروة البورجوازي نمت ويجب أن تنمو. وفيما يتعلق بالطبقات العاملة، لا نزال نجد سؤالاً لم يُناقش بعد: كانت أحوالهم قد تحسَّنت لدى زيادة الثروة العامة. فلو قدَّم الاقتصاديون مثال العمال الإنكليز المستخدمين في صناعة القطن، فإنهم يون بؤس هؤلاء في ظل ازدهار التجارة. إن هذه اللحظات من الازدهار هي نسبياً لازمةٌ للأزمات ولازمةٌ للركود ”بنسبةٍ حقيقيةٍ“ 3 إلى 10. لكن ربما، عندما نتكلم عن التحسينات، كان الاقتصاديون يُفكِّرون بملايين العمال الذين كانوا يموتون ويتحطَّمون في جزر الهند الشرقية حتى يُنتجوا شيئاً ما لمليون ونصف عامل مستخدمين في انكلترا في نفس الصناعة، ثلاث سنوات ازدهار من عشر سنوات.
وبالنسبة للاشتراك المؤقت في زيادة الثروة العامة. فإن هذه مسألةٌ مختلفةٌ. إن واقع الاشتراك المؤقت يشرحه الاقتصاديون، في نظرياتهم. إنه تأكيدُ هذه النظرية وليس الحُكم عليها، كما يدعوها برودون. إذا كان يجب أن يُحكم على شيء فيجب أن يكون الحُكم على غِرار منهاج برودون الذي نقص وحقَّر العامل إلى أقل نسبةٍ للأجور، رغم زيادة الثروة العامة: إنه لم يقدر أن يُخفِّض ويُحقِّر العامل لأقل نسبةٍ للأجور إلا بإدخال النسبة الحقيقية للقيم و”القيمة المُشكَّلة“ بوقت العمل. إن الأجور، كنتيجةٍ للمنافسة، تتراوح مرةً إلى الأعلى ومرَّةً إلى الأسفل، وتؤثر علر سعر الطعام الضروري لانعاش العامل، هذا العامل يقدر أن يُشارك لحدٍ ما في تنمية الثروة العامة، ويقدر أيضاً أن يتهدَّم ويفنى من العَوَز والفقر. هذه هي نظرية الاقتصاديين الذين لم يكونوا خياليين بالنسبة للموضوع.
وبعد انحرافاته الطويلة عن موضوع الخطوط الحديدية، وعن بروميثوس وعن المجتمع الجديد الذي يجب إعادة بنائه على ”القيمة المشكلة“ نرى برودون يجمع نفسه لأن العاطفة تعصف به فيصرخ:
« إنني أرجو الاقتصاديين أن يسألوا أنفسهم للحظةٍ واحدةٍ، في هدوء قلوبهم – وأن يبتعدوا عن أحكامهم غير العادلة، هذه الأحكام التي تجعلهم يضطربون، ويجب أن يتجرَّدوا عن أهوائهم وأن لا يتأثروا بالوظيفة التي يأملون أن ينالوها، وبالفوائد التي يَجرون وراءها، وبالاستحسان الذي يتعلقون به، وبمراكز الشرف التي تُبهج كبرياءهم – دعهم يقولوا إن كان هذا المبدأ – أن كلَّ عملٍ يجب أن يترك فائضاً – قد خطر لهم أو ظهر لهم بمثل هذه النتائج التي أظهرتها وقمت بها ». المجلد 1، صفحة 80.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
تناقض معنى قيمة الانتفاع وقيمة التبادل
« إن مقدرة كل المنتوجات، المنتوجات الطبيعية أو الصناعية، التي لها علاقة والتي هي ذات نفع عام لوجود الإنسان تحدد بقيمة الانتفاع، ومقدرة هذه المنتوجات أن تتبادل مع بعضها تتحدد بقيمة التبادل... وكيف تصبح قيمة الانتفاع قيمة تبادل ؟ إن تكوين فكرة قيمة التبادل، لم تلق عناية كافية من الاقتصاديين فمن الضروري إذن أن ندرسها وبما أن عددا كبيرا من الأشياء التي احتاجها موجود في الطبيعة بكميات معتدلة أو بكميات قليلة جدا أو أنها غير موجودة إطلاقا، فأنا مجبر أن أعمل لإنتاج ما أحتاجه. وبما أنني لا أقدر على إنتاج أشياء كثيرة، فإنني أعرض على أناس غيري – أناس هم مساعدون لي في عوامل كثيرة ومتنوعة – أن يسلموني قسما من إنتاجهم وأسلمهم قسما من إنتاجي نتيجة للتبادل » برودون المجلد 1، الفصل 11.
يتعهد برودون أن يشرح لنا قبل كل شيء طبيعة القيمة الازدواجية أي « التمييز في القيمة » ويتعهد أن يشرح لنا عملية تحويل قيمة الانتفاع إلى قيمة تبادل، فمن المهم إذن أن نشارك برودون في هذا التحويل. وما سيكتسب الآن هو كيفية تكميل هذا العمل بالنسبة لمؤلفنا.
إن عددا كبيرا من المنتوجات لا توجد في الطبيعة، بل هي منتوجات الصناعة وإذا كانت حاجيات الإنسان تتطلب أكثر من إنتاج الطبيعة لذلك فهو مجبر أن ينتج بواسطة الصناعة. وما هي هذه الصناعة بنظر برودون ؟ وما هو أصلها ؟ إن شخصا واحدا يشعر أنه بحاجة أن يحصل على أشياء كثيرة « لا يقدر أن ينتج أو يحصل على هذه الأشياء الكثيرة ». ولكي نشبع حاجات كثيرة يعني افتراض أشياء كثيرة للإنتاج – ولا توجد منتوجات بدون إنتاج. ولا نتاج أشياء كثيرة يعني افتراض وجود أكثر من يد رجل واحد لتساعد على إنتاجها، لا بد أن يُفرض حالا إنتاج كامل قائم على تقسيم العمل، وهكذا فالحاجة كما يفترضها برودون تفترض التقسيم الكلي للعمل. ولدى افتراضك تقسيم العمل فإنك تحصل على التبادل. وكنتيجة تحصل على قيمة التبادل فالمرء يمكنه أن يكون قد افترض قيمة الانتفاع في البداية.
لكن برودون يفضل أن يدور حول الموضوع، والآن لنتبعه في كل دوراته التي ترجعه دوما إلى النقطة التي ابتدأ منها.
حتى أستطيع أن أتخلص من الحالة التي ينتج فيها كل شخص بمفرده لأصل إلى التبادل « على أن أدعو رفاقي ومساعديّ لأعمال متنوعة » هذا ما يقوله برودون فأنا إذن عندي مساعدين يقومون بأعمال مختلفة. ورغم كل هذا، فأنا وكل الآخرين، بالنسبة لافتراضات برودون، لا نكون قد كونّا إلا اشتراكية روبنسون كروزوإن وجود مساعدين غيري، ووجود الأعمال المتنوعة، ووجود تقسيم العمل والتبادل، يمكن الحصول عليها.
ولنستخلص ما قيل: أنا عندي بعض الحاجات التي تقوم على تقسيم العمل وعلى التبادل، وعندما اسبق وافترض هذه الحاجات يكون برودون قد سبق وافتراض التبادل، وهذا هو ما يهدف إليه « أن يلاحظ تكوين هذه الفكرة باعتناء أكثر مما اعتنى بها الاقتصاديون ».
كان يقدر برودون أن يحول ويقلب نظام الأشياء دون أن يبدل ويغير دقة نتائجه. فلكي نشرح قيمة التبادل يجب أن يكون عندما تبادل. ولنشرح التبادل يجب أن يكون عندنا تقسيم العمل، ولنشرح تقسيم العمل يجب أن يكون عندنا حاجات تجعل تقسيم العمل ضروريا. ولنشرح هذه الحاجات يجب أن نسبق ونفترضها، إننا لا ننكرها – وهذا التحليل يناقض القاعدة الأولى في مقدمة برودون والتي تقول « لكي نسبق ونفترض وجود الله يعني نكرانه » المقدمة صفحة 1.
فكيف يقدر برودون وهو يقر بتقسيم العمل وكأنه شيء معروف أن يشرح قيمته التبادلية، هذه القيمة التي هي مجهولة دائما بالنسبة له ؟
« إن رجل » يبتدئ « ويقترح على الرجال الآخرين أي مساعديه في أمور وأعمال أخرى » بأن يؤسسوا التبادل، أن يميزوا بين القيمة العادية وقيمة التبادل، ولدى قبول هذا التمييز المقترح نرى أن المساعدين الآخرين لم يتركوا لبرودون إلا أن يسجل الواقع وأن يؤكد ملاحظته في بحثه للاقتصاد السياسي « تكون فكرة القيمة ». ولكن عليه أن يشرح لنا « تكوين » اقتراحه ويخبرنا أخيرا كيف يقدر الفرد وحده (روبنسون كروزو) أن يقترح فجأة على مساعديه ورفاقه ما مر معنا وكيف قبل هؤلاء المساعدون الفكرة بدون أي احتجاج ؟
إن برودون لا يدخل في صلب هذه التفاصيل، ولكن ما يعمله هو أن يضع طابعا تاريخيا على واقع التبادل ليضعه بشكل حركة يقوم بها فريق ثالث لكي يتم تأسيس التبادل.
إن هذا نموذج عن « الطريقة التاريخية والوضعية » عند برودون الذي يعلم ويبشر باحتقار « الطرق التاريخية » عند ريكاردو وآدم سميث.
إن التبادل له تاريخ خاص به ولقد مر بأطوار مختلفة.
لقد مر وقت كالعصور الوسطى مثلا، عندما كان يتم التبادل نتيجة للزيادة التافهة التي كانت تطرأ لجهة الإنتاج على الاستهلاك.
وقد مر وقت أيضا عندما أصبح التبادل – كل المنتوجات وكل الوجود الصناعي – تحت تصرف التجارة أو كان الإنتاج تعتمد على التبادل. فكيف نقدر أن نفسر هده الخطوة الثانية للتبادل – القيمة الموجودة في السوق مرفوعة للقوة الثانية ؟
لقد أجاب برودون بسرعة على كل هذا: لنفترض أن رجلا « اقترح على رجال آخرين مساعديه في أعمال متنوعة » أن يرفعوا القيمة الكائنة في السوق إلى القوة الثانية.
وأخيرا أتى وقت نرى فيه كل شيء كان يحسبه المرء غريبا قد أصبح يخضع للتبادل وأصبح واسطة للنقل أو أصبح غريبا عليه. وهذا هو الوقت الذي كانت فيه كل الأشياء تخضع للانتقال من شخص لشخص ولكنها لا تخضع للتبادل وكانت تعطى ولا تباع. وكان يحصل عليها ولكن لا تشترى وهذه الأشياء كانت الفضيلة والمحبة والمعرفة والضمير الخ.. وكان الوقت عندما أصبح كل شيء يخضع للتجارة، أنه وقت الفوضى العامة ووقت التأخير، إنه الوقت عندما أصبح لكل شيء – أخلاقي أو مادي – قيمة تخضع لعوامل السوق. فأصبحت هذه المفاهيم الجميلة تخضع لتأثيرات السوق وتنال قيمتها في السوق.
فكيف نقدر أن نشرح هذه الفكرة الجديدة والأخيرة للتبادل – أي القيمة الخاضعة للسوق ومرفوعة للقوة الثالثة.
يجيب برودون بسرعة على هذا: لنفترض أن شخصا اقترح على أشخاص آخرين، إلى مساعديه في أعمال متنوعة، أن يجعلوا من المحبة والفضيلة الخ... قيمة سوق أي قيمة تخضع لتقلبات السوق وأن يرفعوا قيمة التبادل للقوة الثالثة أي القوة الأخيرة.
نحن نرى أن « طريقة برودون التاريخية والوصفية » تطبق على كل شيء وتجيب على كل شرح وتشرح كل شيء، فإذا كانت طريقه، علاوة على كل شيء، تستعمل لشرح « تكوين الفكرة الاقتصادية » تاريخيا فهي تقول أن الرجل الذي يقترح على رجال آخرين « مساعديه في أعمال متنوعة » أن يكملوا هذا التكوين، ولدى تكميله يحققون هدف العمل.
نحن علينا أن نقبل « تكوين » فكرة قيمة التبادل كعمل تام وكامل، ويبقى علينا الآن أن نعرض العلاقة بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولنستمع لما يقوله برودون:
« لقد بحث الاقتصاديون جيدا المفهوم الازدواجي للقيمة، لكنهم لم يشيروا بدقة إلى طبيعة القيمة المتناقضة، ومن هنا يبتدئ نقدنا.. إن المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل شيء بسيط، ولم ير الاقتصاديون بهذه المقابلة إلا عملية بسيطة: لكن نحن نظهر أن هذه البساطة تطوى في ثناياها عجيبة عميقة من واجبنا أن نتعمق ونخترقها... ولكي نضع الكلام بأشكال علمية نقول أن قيمة التبادل وقيمة الانتفاع هما في نسبة معاكسة الواحدة للأخرى ».
فإذا كنا قد تفهمنا فكرة برودون نجد أنه يحاول أن يظهر أربع نقاط:
1- أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل يشكلان « مقارنة عجيبة » إنهما تناقضان بعضهما.
2- أن قيمة الانتفاع وقيمة التبادل تتناقضان بنسبة معاكسة لبعضهما.
3- لم يذكر الاقتصاديون ولم يلاحظوا هذا التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل.
4-إن نقد برودون يبتدئ في نهايته.
ونحن سنبتدئ في النهاية، ولكي نبرر موقف الاقتصاديين من اتهامات برودون سنستمع لكلام اقتصاديين معروفين جيدا.
سيسموندي Sismondi: إن التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل هو الذي نقـّص قيمة كل شيء، (كتابه: دراسات). Etudes، Vol 2، P. 162. Brussels Edition
لوردردال Laurderdale: نرى نسبيا أن غنى الأفراد يزداد بزيادة قيمة السلع وتنخفض ثروة المجتمع وعندما تنقص نسبيا مجموعة الثروات الفردية، ولدى تخفيض وتنقيض قيمة السلعة يزداد الغنى « يكثر ». كتابه: دراسات عن أصل وطبيعة الثروة العامة. Recherches sur la nature et L origine de la richesse publique. Paris 1808 P. 33.
يعترف سيسموندي من جراء بحثه للتناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع أن انخفاض الواردات يتناسب مع زيادة الإنتاج.
لقد أسس لودرال طريقته على التعاكس النسبي بين نوعي القيمة. وكان مبدؤه شعبيا زمن ريكاردو حتى أن ريكاردو نفسه استطاع أن يتكلم عن هذا المبدأ وكأنه شيء معروف. تزيد الثروة في التفريق بين القيمة والثروة وبتنقيص كمية السلع أي الأشياء الضرورية والمناسبة والممتعة لحياة البشر، ريكاردو في كتابه: مبادئ الاقتصاد السياسي. Recardo, Principes de l économie politique, Paris 1835 Vol
لقد رأينا الآن أن الاقتصاد قبل برودون يتكلمون عن التناقص بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. ولننظر الآن كيف يشرح برودون هذا التناقض.
إن قيمة التبادل لمنتوج تنخفض عندما يزداد العرض وعندما يبقى الطلب كما كان، أي أنه كلما كان الإنتاج غزيرا بالنسبة للعرض كلما انخفضت قيمته التبادلية أي كلما انخفض سعره. والعكس بالعكس. وكلما قل العرض بالنسبة للطلب كلما ارتفعت قيمة التبادل أو المنتوج المعروض: أي كلما قل عرض المنتوجات بالنسبة للطلب كلما ارتفعت الأسعار. إن قيمة التبادل لإنتاج معين يعتمد على كثرته أو قلته ويكون دوما متعلقا بالنسبة للطلب. خذ منتوجا ليس كثيرا ولا قليلا واجعله فريدا من نوعه، تجد أن هذا المنتوج يكون أغزر وأكثر إذا لم يكن هناك طلب عليه. ومن الناحية الأخرى، خذ منتوجا ينتج بالملايين، فإنك ستعده نادرا وقليلا إذا لم يكن كافيا لإشباع الطلب أي إذا كان الطلب كثيرا عليه.
هذه كلها تعد حقائق ثابتة، ورغم هذا نعيدها حتى نسهل فهم أعاجيب وأسرار ألغاز برودون.
« وهكذا إذا تبعنا المبدأ حتى نتائجه الأخيرة فإننا سنصل إلى النتيجة المنطقية وهي، أن الأشياء التي لا يستغنى عن استعمالها والتي لا تحد كمياتها يمكن الحصول عليها بلا شيء، والأشياء ذات النفع القليل والتي تمتاز بندرتها وقلتها تكون ذات قيمة لا تعد ولا تحصى. ولكي تتغلب على الصعوبات نقول أن هذه الأقوال المتطرفة ليست واقعية: فمن جهة لا نجد إنتاجا بشريا يمكن أن يكون غير محدود الطاقة ومن جهة ثانية نجد أن أقل الأشياء ندرة يجب أن تكون نافعة لدرجة ما وإلا لكانت عديمة النفع. قيمة الانتفاع وقيمة التبادل مرتبطتان ببعضهم ». المجلد الأول صفحة 93
ماذا نفعل بالصعوبات التي تتعلق ببرودون ؟ لقد نسي كل ما يتعلق بالطلب وأن الشيء يكون نادرا أو عزيزا إذا كان مطلوبا. وعندما يترك فكرة الطلب يقول أن قيمة التبادل تعني الندرة أو القلة، ونراه يقول أن قيمة الانتفاع تعني الغزارة أو الكثرة. وفي الواقع عندما نقول أن الأشياء « التي منفعتها عدم وقليلة تمتاز بقيمة لا تحصى » نصرح أن قيمة التبادل تكون نادرة. « الندرة والقلة القصوى ينقصها لا شيء » تعني الندرة أو القلة. « القيمة التي لا تعد » هي أعلى من قيمة التبادل، وهي قيمة تبادل. وهو يعادل بين هاتين الحالتين. وهكذا نرى أن قيمة التبادل والندرة هي شروط واحدة متعادلة، وعندما نصل لهذه النتائج المتطرفة نجد برودون يحمل هذه التعابير إلى أقصاها ولكنه لا يحمل الحقائق إلى أقصاها، وهكذا يبرهن على بلاغته ولكنه لا يبرهن عن منطقه. إنه يكتشف من جديد اقتراحاته الأولى مجردة عن الواقع بينما يفكر أنه قد اكتشف نتائج جديدة. ونحن نشكره لأنه عني بقيمة التبادل ما عناه بالغزارة أو بالكثرة.
بعد أن رأينا قيمة التبادل والندرة متعادلتين في المعنى، وأن قيمة الانتفاع والغزارة متعادلين في المعنى، نجد أن برودون يدهش لأنه لا يجد أن قيمة الانتفاع تعادل الندرة وقيمة التبادل ولا يجد أن قيمة التبادل تعني الغزارة وقيمة الانتفاع، وإذ يرى أن هذه الأضداد يستحيل تطبيقها لذلك لا يجد مفرا إلا الالتجاء للألغاز. إن القيمة التي لا تحد موجودة بالنسبة له، وهذا لأن الشارين غير موجودين ولأنه لا يجد شارين طالما أنه لا يهتم ولا يأخذ الطلب بعين الاعتبار.
ونجد من جهة أخرى أن الغزارة في نظر برودون تبدو كأنها شيء داخلي. فهو ينسى أنه يوجد أناس ينتجونها ومن مصلحتهم ألا يهملوا الطلب، وإلا فكيف يستطيع برودون أن يقول أن الأشياء التي هي نافعة جدا يجب أن يكون لها سعر منخفض جدا أو أنها لا تكلف شيئا ؟ فعلى العكس، عليه أن يستنتج أن الغزارة أي أن إنتاج الأشياء النافعة جدا يجب أن ترتبط بأسعارها، ولذلك يجب رفع قيمتها التبادلية.
كان زارعو الكرمة الفرنسيون يطلبون قانونا يمنع غرس الكرمة الجديدة. وكان الهولنديون يطلبون أن يحرقوا التوابل الآسيوية ! إن هؤلاء كانوا يحاولون أن يقللوا الغزارة أي الكثرة حتى يرفعوا قيمة التبادل. وكان يعمل بهذا المبدأ طوال القرون الوسطى، هذا المبدأ الذي كان يحدد بواسطة القوانين عدد الشغيلة المياومة، الذين كان المعلم يشغلهم وكان يحدد عدد الآلات التي يمكن استعمالها (راجع اندرسون، تاريخ التجارة).
بعد أن مثلنا الغزارة بقيمة الانتفاع والندورة بقيمة التبادل – ولا شيء أسهل من البرهان على أن الغزارة والقلة هما نسبتان متعاكستان – نجد برودون يعني أن قيمة الانتفاع هي العرض وأن قيمة التبادل هي الطلب. ولكي يظهر وجه التعاكس بصورة أوضح فإنه يستعيض عنها بتعبير جديد، يستعمل « قيمة التقدير » Estimation Value عوضا من قيمة التبادل. لقد انتقلت المعركة الآن من موضعها وأصبح عندنا من جهة المنفعة (قيمة الانتفاع، والعرض) ومن جهة ثانية عندنا التقدير (قيمة التبادل والطلب).
ومن يقدر أن يصالح هاتين القوتين المتناقضتين ؟ وماذا نقدر أن نعمل ليتفقا ؟ وهل نقدر أن نجد فيهما ولو نقطة للمقابلة ؟
« بالتأكيد » يصرخ برودون « توجد طريقة واحدة وهي، (الإرادة الحرة) والسعر الذي نستخلصه من المعركة بين العرض والطلب، بين المنفعة والتقدير ليس إلا تعبيرا للعدالة الأبدية ».
ويتابع برودون ليكمل تعاكساته:
« بمقدرتي كتاجر أن أكون قاضيا لحاجاتي، قاضيا لاختار الشيء، قاضيا للسعر الذي أريد أن أدفعه ومن جهة ثانية، بمقدرتك كمنتج حر أن تكون سيد وسائل التنفيذ وكنتيجة تحصل على السلطة التي تساعدك على تخفيف مصاريفك » المجلد 1، صفحة 41.
وبما أن الطلب أو قيمة التبادل تعني التقدير نجد برودون يقول:
« من المبرهن أن حرية الإرادة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة التبادل وقيمة الانتفاع. فكيف نقدر أن نقضي على هذا التناقض طالما أن الإرادة الحرة موجودة وكائنة ؟ وكيف نضحي بالأخيرة (أي الإرادة الحرة) دون أن نضحي بالإنسانية ». المجلد 1، صفحة 41.
وهكذا لا نجد منفذا. يوجد صراع بين قوتين لا تتعادلان صراع بين المنفعة والتقدير. بين الشاري الحر والمنتج الحر.
والآن لننظر إلى الأشياء بإمعان أكثر.
إن العرض لا يمثل المنفعة تماما، والطلب لا يمثل التقدير تماما، ألا يعرض الطالب أيضا منتوجا هو النقد وكعارض لا يمثل بالنسبة لبرودون، المنفعة أو قيمة الانتفاع !
ألا يطلب العارض منتوجا، ألا يطلب العلامة التي تمثل كل المنتوجات وهي النقود ؟ ألا يصبح عندئذ ممثل التقدير أي قيمة التقدير وقيمة التبادل ؟
إن الطلب هو بحد ذاته العرض، والعرض بحد ذاته الطلب، وهكذا فإن تعاكس نظرية برودون – عندما يقارن العرض بالمنفعة والطلب بالتقدير – ليس إلا فكرة مجردة ضارة.
إن ما يدعوه برودون « قيمة الانتفاع » يدعوه الاقتصاديون « قيمة التقدير » وهم على حق بهذه التسمية. ونحن الآن نعود إلى ما يقوله ستورش Storch في كتابه دراسة الاقتصاد السياسي صفحة 48 و49.
تكون الحاجات بالنسبة لستورش أشياء نشعر أننا نحتاجها، وتكون أشياء تنسب لها القيمة أي أنها ذات قيمة. وهناك كثير من الأشياء التي لها قيم لأنها تشبع حاجات يخلقها التقدير. وتقدير حاجاتنا يمكن أن يتبدل، إذن منفعة الأشياء التي تعبر عن النسبة بين الأشياء يمكن أن تتبدل. إن الحاجات الطبيعية تتغير باستمرار والواقع أن الأشياء التي يحتاجها الشعب والتي يعدها مهمة تتغير دوما.
إن النزاع هنا لا يقوم بين المنفعة والتقدير بل يقوم بين القيمة في السوق التي يطلبها العارض وبين القيمة في السوق التي يعرضها الطالب. فقيمة المنتوج التبادلية تكون كل مرة حاصل هذه المتناقضات.
وفي تحليلنا الأخير نقول أن الطلب والعرض يخلقان الإنتاج والاستهلاك – الإنتاج والاستهلاك المبنيين على التبادل الفردي.
إن المنتوج المعروض لا يكون نافعا بحد ذاته، فالمستهلك هوالذي يحدد منفعته. وحتى لو كانت منفعة المنتوج قائمة فليس من الضروري أن تتمثله المنفعة ولقد تبدلت هذه المنفعة خلال الإنتاج بتكاليف الإنتاج، فالمواد الأولية وأجور العمال وهذه كلها تؤلف قيم السوق. فالإنتاج إذن يمثل في نظر المنتج مجموع القيم التي ستعرض في السوق. وما يعرضه المنتج لا يكون شيئا نافعا بل يكون فوق كل شيء قيمة تفرض في السوق.
وفيما يتعلق بالطلب، يكون الطلب ذا تأثير في الأحوال التي تتم فيها وسائل التبادل. وتؤلف هذه الوسائل بحد ذاتها المنتوجات نفسها، وقيمة السوق.
وفيما يتعلق بالطلب والعرض، نجد من جهة منتوجا له تكاليف قيمة قيم السوق والحاجات لبيعه ومن جهة ثانية نجد الوسائل التي خلقت تكاليف قيم السوق، والرغبة في الشراء.
إن برودون يضع الشاري الحر أمام المنتج الحر، ويطبق عليهما أوصافا ميتافيزيقية. وهذا ما يجعله يقول: « من الواضح والمعروف أن الإرادة الحرة عند الإنسان هي التي تخلق التناقض بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل » المجلد 1، صفحة 41.
عندما ينتج المنتج في مجتمع قائم على تقسيم العمل وعلى التبادل (وهذا هو افتراض برودون) يجد نفسه مجبرا على البيع. إن برودون يجعل المنتج سيدا لوسائل الإنتاج، لكنه يوافق معنا أن وسائل الإنتاج هي منتوجات يحصل عليها من الخارج، وبالنسبة للإنتاج الحاضر لا يكون المنتج حرا في إنتاج الكمية التي يريدها. إن درجة تطور ونمو القوى الإنتاجية تجبره أن ينتج بالنسبة لمقياس معين.
والمستهلك لا يملك حرية أكثر من المنتج. وحكمه هذا يعتمد على وسائله وحاجاته – ووسائله وحاجاته تعتمد على مركزه الاجتماعي، ومركزه الاجتماعي يعتمد على التنظيم الاجتماعي الكامل. والواقع أن العامل الذي يشتري بطاطا والمرأة التي تشتري خيوطا يتبعان كلاهما حكمهما على الأشياء. لكن الاختلاف في مقدار حكمهما يتوقف على المراكز التي يشغلانها في العالم، وهذه المراكز هي نتاج التنظيم الاجتماعي.
هل أن كل الحاجات قائمة على التقدير أو على التنظيم العام للإنتاج ؟ إن الحاجات غالبا تقوم مباشرة نتيجة للإنتاج أو من حالة الأعمال القائمة على الإنتاج. فالتجارة العالمية تقوم تقريبا على الحاجات ولا تقوم على الاستهلاك الفردي بل على الإنتاج. ولنختار مثالا آخر، ألا تكون الحاجة للمحامين نتيجة لوجود القانون المدني الذي يعبر عن تطور الملكية أو تطور الإنتاج.
لم يكن هذا حلا كافيا لبرودون أن يقلل من العوامل المذكورة بالنسبة لعلاقة العرض والطلب. إنه يحمل الفكر المجرد إلى أبعد حدوده عندما يُذيب المنتجين بشكل منتج واحد، وعندما يذيب كل المستهلكين في مستهلك واحد، وعندما يتم صراعا بين هذه الشخصيات الوهمية. ففي العالم الواقعي تحدث الأشياء ولكن بشكل آخر. فالمنافسة بين العارضين والمنافسة بين الطالبين تشكل قسما ضروريا من الصراع بين الشارين والبائعين، وتكون قيمة السوق نتيجة لهذا الصراع.
وبعد أن يكون برودون قد خفف من قيمة المنافسة وتكاليف الإنتاج يقدم لنا قاعدته الفارغة عن العرض والطلب:
يقول « العرض والطلب هما أشكال احتفالية Ceremonial forms تعمل على وضع قيمة الانتفاع وقيمة التبادل وجها لوجه، وتحاول أن تصلح بينهما، إنهما – أي العرض والطلب – قطبا الكهرباء اللذان عندما يتصلان، يجب أن ينتجا المظهر الذي ندعوه التبادل ». المجلد 1 صفحة 49 و50.
ويقدر كل شخص أن يقول أن التبادل هو شكل احتفالي يعمل على تعريف وتقديم المستهلك الشيء المعد للاستهلاك. ويستطيع كل فرد أن يقول أيضا أن كل العلاقات الاقتصادية هي أشكال احتفالية تخدم مصلحة الاستهلاك، وليس العرض والطلب علاقات بين منتوج معطى أكثر مما هما تبادلات بين أفراد.
فماذا يتضمن، ديالكتيك برودون بعد هذا البحث ؟ إن هذا ديالكتيك يبحث في المقارنة بين قيمة الانتفاع وقيمة التبادل، والمقارنة بين العرض والطلب، والمقارنة بين المجرد والأفكار المتناقضة (مثل الندرة والغزارة أي القلة والكثرة) والمقارنة بين المنفعة والتقدير، والمقارنات بين مستهلك ومنتج وكلاهما فرسا الإرادة الحرة.
إلام كان يهدف برودون ؟
كان يظن أنه يعرف ويدخل عاملا هاما في أبحاثه وهو تكاليف الإنتاج ويعني بها نتيجة تناقض Synthesis قيمة الانتفاع وقيمة التبادل. وبنظره إن تكاليف الإنتاج تؤلف وتشكل القيمة الناتجة Synthetic أو القيمة المشكلة Constituted.
تطبيق قانون نسبية القيمة
أ – النقد
« كان الذهب والفضة أول السلع التي نالت قيمة مشكلة »
وهكذا فالذهب والفضة كانا أول التطبيقات « للقيمة المشلكة » هذا ما يقوله برودون، وبما أن برودون يشكل قيمة المنتوجات إذ يحددها بكمية العمل المقارن المتضمن بها، لذلك كان عليه أن يبرهن أن التغييرات في قيمة الذهب والفضة تفسر دوما بتغييرات في وقت العمل المأخوذ لإنتاجها لذلك لا يتكلم برودون عن الذهب والفضة كسلع بل كنقود.
إن منطقه الوحيد – إن كان عنده منطق – يقوم على الخلط بين مقدرة الذهب والفضة لاستعمالها كنقد لصالح ككل السلع التي تخضع لخصائص التقييم بوقت العمل. في الواقع نجد بساطة أكثر مما نجد خبثا في هذا القول.
إن سلعة نافعة – عندما توضع لها قيمة بالنسبة لوقت العمل الذي يحتاج لإنتاجها – تقبل دائما في التبادل، لكن برودون لا يقول هذا إلا عن الذهب والفضة إذ يتكلم عنهما بشروطه كما يرغب بها بالنسبة للتبادل. فالذهب والفضة هما قيمة وصلت حالة التشكيل: إنهما متضامنان في فكر برودون. إن الذهب والفضة رغم مقدرة كونهما سلعا ورغم أنهما تخضعان للتقييم كأية سلعة أخرى بالنسبة لوقت العمل، فإن لهما مقدرة كونهما الوسطاء العامين للتبادل، وأيضا مقدرة كونهما نقود، والآن يعتبر الذهب والفضة بتطبيق « القيمة المشكلة » بوقت العمل، إذ لا شيء أسهل من البرهان على أن كل السلع التي تشكل قيمتها بوقت العمل تخضع للتبادل، فهي تعد إذن.
إن برودون يتعرض لسؤال بسيط جدا. لماذا يمتاز الذهب والفضة بإعطائهم « القيمة المشكلة » ؟
« إن الواجب الذي جعل المواد الثمينة تمتاز بالاستعمال، وتستعمل كوسيط في التجارة، هذه الرسوم التي هي محض اتفاق وأن بمقدرة أية سلعة أخرى – ولو بدرجة أقل – أن تقوم بهذا الواجب، يذكر الاقتصاديون هذا ويقدمون أكثر من مثال واحد، فما هو السبب الذي يجعل العالم يفضل هذه المعادن كنقود ؟ وكيف يشرح الاختصاص لخواص النقود – هذا الاختصاص الذي ليس لها مثلها في الاقتصاد السياسي ؟ أ من الممكن أن نعيد بناء الحلقات التي مر بها النقد واجتازها، وأن نقتفي أثره لنصل إلى المبدأ الحقيقي ؟ » المجلد 1، صفحة 68، 69.
وبما أن برودون قد وضع السؤال بهذا الشكل نجد أنه يفترض مسبقا وجود النقد، كان يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال وهو لماذا – في التبادلات كما هي موضوعة – من الضروري أن تخضع قيمة التبادل للتبادل الفردي أي بخلق عميل خاص للتبادل. ليس النقد شيئا بل هو عبارة عن علاقة اجتماعية. لماذا تكون علاقة إنتاج مثل أية علاقة تجارية كتقسيم العمل مثلا ؟ إذا كان برودون قد أخذ هذه العلاقة بعين الاعتبار كما رأى في النقد استثناء، ولما رأى به عاملا لا يتعلق بمجموعة حوادث أو أنها تحتاج لإعادة بنائها.
كان على برودون أن يتحقق من أن هذه العلاقة هي حلقة كاملة الاتصال مؤلفة من العلاقات الاقتصادية، وأن هذه العلاقة تقابل شكلا معينا من الإنتاج كمثل لا أكثر ولا أقل للتبادل الفردي. فماذا يفعل هو ؟ إنه يبدأ بتجريد النقد من الشكل الواقعي للإنتاج كمجموعة ومن ثم يجعل منه العضو الأول بمجموعة خيالية. بمجموعة يجب إعادة بنائها.
وعندما يكون من الضروري إيجاد عميل خاص للتبادل أي للنقد، يتبقى أن نشرح سبب إعطاء ميزة خاصة للذهب والفضة بينما لا نعطيها لأية سلعة أخرى. إن هذا السؤال يبقى ثانويا لأنه يفسر بسلسلة علاقات الإنتاج وبالنوع والكيفية الخاصة الموجودة في الذهب والفضة كمواد. وإذا كان هذا الذي جعل الاقتصاديين يخرجون عن حدود علمهم الخاص وينخرطون في الفيزياء والميكانيك والتاريخ الخ. (كما يوبخهم برودون) فإنهم يعملون ما أجبروا على عمله، لأن السؤال لم يكن بعد محسوبا ضمن حدود الاقتصاد السياسي.
يقول برودون « إن الذي لم يفهمه أي اقتصادي هو المنطق الاقتصادي الذي حدد – لصالح المعادن الثمينة – القيمة التي تتمتع بها هذه المعادن » المجلد 1، صفحة 69.
إن هذا السبب الذي لم يفهمه أحد – فهمه برودون وقدمه للأجيال القادمة.
« إن الشيء الذي لم يلاحظه أحد هو أنه من كل السلع – الذهب والفضة كانا أول سلع تحصل على قيمتها المشكلة. ففي الزمن البطريركي كان الذهب والفضة لا يزالان يخضعان للمقايضة وكانا يتبادلان بكميات من المعادن ولكن رغم هذا فقد أظهرا ميلا منظورا ليصبحا ذات مقدرة فعالة ونالا درجة مرموقة عن غيرهما فملكها الحكام رويدا رويدا وختموها بأختامهم، ووُلد النقد عندما قام الحاكم بهذا العمل، هذا النقد أي السلعة المفضلة التي رغم كل صدمات التجارة يحتفظ بقيمة نسبية محدودة ويجعل ذاته مقبولا في كل المدفوعات. تعود الصفة المميزة للذهب والفضة في الواقع – لنشكر خواصهم المعدنية لصعوبة إنتاجهما، وإلى تدخل سلطة الدولة، ولقد نالا الاستقرار والموافقة لاعتباريهما سلع ».
إذا قلنا أن الذهب والفضة كانا من بين السلع الأولين اللذين نالا قيمتها المشكلة فهذا يعني أن الذهب والفضة كانا من أول من حقق حالة النقد. وهذا هو وحي برودون الأكبر، وهذه هي الحقيقة التي لم يكتشفها أحد قبله.
إذا كان يعني برودون أن الذهب والفضة كانا من بين السلع التي عُرفت وقت إنتاجها، فإن هذا يعني غير ما أراد أن يقدمه لقرائه وإذا أردنا أن نمضي في هذه الأخطاء البطريركية علينا أن نخبر برودون أن الحديد كان أول معدن عرف لأنه كان من الأشياء الضرورية للإنتاج. ونحن نوفر عليه قوس آدم سميث الكلاسيكي.
ولكن، بعد كل هذا، كيف يقدر برودون أن يستمر في الكلام عن تشكيل القيمة، بينما لا تتشكل القيمة من ذاتها ؟ إنها تتشكل، لا بالوقت الذي يحتاج إنتاجها بذاتها، ولكن بالعلاقة للكوتا لكل منتوج آخر يمكن خلقه في نفس الوقت. وهكذا فتشكيل قيمة الذهب والفضة تفترض مسبقا تشكيلا كاملا لعدد من المنتجات الأخرى.
ليست السلعة إذن هي التي حققت في الذهب والفضة – حالة القيمة المشكلة – إنها القيمة المشكلة عند برودون التي حققت في الذهب والفضة حالة النقد.
والآن دعنا نفحص بإمعان هذه الأسباب الاقتصادية التي بالنسبة لبرودون – أكسبت الذهب والفضة حسنة إذ رُفعت لحالة النقد بسرعة أكبر من المنتجات الأخرى – لنشكر الذهب والفضة لإنهما مرَّا بطور تشكيل القيمة –.
إن هذه الأسباب الاقتصادية هي: الميل المتطور لتصبح « مفهوما مشكل » هي « تفضيل السوق » حتى في « الزمن البطريركي »، وأحوال أخرى تتعلق بالواقع الحقيقي – الذي يزيد الصعوبة، طالما أنها تزيد الحقائق بزيادة الحوادث التي يحاول برودون إدخالها ليشرح الواقع. لم يستنفذ برودون كل هذه الأسباب الاقتصادية. وهنا نورد أحد عوامل القوة التي تتمتع بها السلطة:
« ولد النقد من رغبة السلطة: يمتلك أصحاب السلطة الذهب والفضة ويضعون ختمهم عليه » المجلد 1، صفحة 69.
وهكذا فإن أهواء أصحاب السلطة هي بالنسبة لبرودون السبب الأول والأعلى في الاقتصاد السياسي.
الواقع، يجب على الشخص أن يكون قليل المعرفة بالتاريخ لكي يعرف أن السلطة هي التي كانت خاضعة في كل العصور للأحوال الاقتصادية، ولكنهم لم يضعوا قوانين لها. إن التشريع – إن كان سياسيا أو مدنيا – لا يكون أكثر من أن يعبر عنه في كلمات – إرادة العلاقات الاقتصادية.
أهو الحاكم الذي امتلك الذهب والفضة ليجعل منهما وسطاء عامين للتبادل بتثبيت ختمه عليها ؟ إذا لم يكن هؤلاء الوسطاء العامون للتبادل هم الذين امتلكوا الحاكم وأجبروه أن يضع ختمه عليها ليعطيها قيمة سياسية !
إن التأثير الذي كان ولا يزال يُعطى للنقود لا يعود لقيمته لكن لوزنه، هذا الاستقرار والسيطرة التي يتكلم عنها برودون تنطبق فقط على مقياس النقد، ويشير هذا المقياس إلى مقدار المادة المدنية الموجودة في قطعة النقد. يقول فولتير « إن القيمة الأصلية لقطعة فضة هي قطعة فضة، نصف باوند تزن 8 أونس ». إن الوزن والمقياس وحدهما يشكلان هذه القيمة الأصلية. فالسؤال: كم يستحق أونس من الفضة أو الذهب، ليبقى كما هو. إذا كان نوعٌ من الصوف من مستودعات « كولبير البطة » وسيط ماركة تجارية – صوف نقي – إن هذه الماركة لا تُخبرك عن قيمة هذا النوع من الصوف. ويجب فقط أم نعتبر السؤال: كم يُساوي الصوف ؟ « إن فيليب الأول ملك فرنسا » يقول برودون « يصدر شارلمان الذهبية ثلثاً بثلثين، مُتخيِّلاً أنه يحتكر صناعة النقد، وهطذا يقدر كل تاجر أن يعمل إذا احتكر منتوجاً ما. وماذا كان سبب تخفيض قيمة الصرف التي يقوم لأجلها فيليب الأول ومن تبعه ؟ كان عمله المنطق الصادر عن وجهة نظر الواقع التجاري، لكن كل علم اقتصادي غير منطقي يفترض أن – كما أن العرض والطلب ينظِّمان القيمة إمَّا بإنتاج قلةٍ مُصطنعةٍ أو باحتكار الأشياء المصنوعة – يزاد تقدير قيمة الأشياء، وهذا شيءٌ ينطبق على الذهب والفضة كما ينطبق على القمح والخمر والزيت والتبغ. لكن خِداع فيليب لم يشك به حالاً إلا عندما انخفضت القيمة الواقعية لنقده، وخسر هو نفسه ما طن أنه سيربحه من أتباعه. وقد حدث نفس الشيء نتيجة لكل محاولة مُشابهة » المجلد 1، صفحة 70 – 71.
لقد برهن عدة مرات أنه إذا أراد أمير أن يخفض من قيمة الصرف فإنه سيخسر. فما يربحه لدى أول إصدار يخسره كل مرة تعود إليه القطع النقدية الزائفة بشكل ضرائب الخ. لكن فيليب وأتباعه كانوا قادرين أن يحموا أنفسهم من هذه الخسارة لأنهم عندما وضعوا القطع النقدية للتداول، فإنهم كانوا يأمرون بجمع المال كما كانوا يفعلون سابقا.
وعلاوة على ذلك لو أستطاع فيليب الأول أن يكون منطقيا مثل برودون لما كان منطقيا ممتازا « من الوجهة التجارية » لم يبرهن لا برودون ولا فيليب الأول عن أية عبقرية تجارية عندما تصوروا إمكانية تغيير قيمة الذهب كإمكانية تغيير أية سلعة أخرى: وهذا فقط لأن سعرها محدد بالعلاقة بين العرض والطلب.
لو أمر الملك فيليب أن يصبح مكيال من الحنطة في المستقبل مكيالين من الحنطة. لكان في عمله هذا مخادعا، ولخدع كل الذين يحصلون على دخل، ولخدع الناس الذين كانوا يحصلون على مائة مكيال من الحنطة. ولكان سبب تخفيض مائة مكيال ينالها البعض إلى خمسين مكيال فقط. ولنفترض أن الملك كان مديونا بمائة مكيال حنطة فكان عليه أن يدفع خمسين فقط. لكن في التجارة نرى أن المائة لا تساوي أكثر من الخمسين، ففي تغييرنا للاسم لا نغير شيء. إن كمية الحنطة، معروضة أو مطلوبة، لا تزداد أو تنقص بتغيير الاسم فقط. وهكذا فالعلاقة بين العرض والطلب يبقى نفس الشيء رغم هذا تغيير في الاسم وسعر الحنطة لا يتأثر بأي تغيير حقيقي. عندما نتكلم عن عرض وطلب الأشياء لا نتكلم عن عرض وطلب أسماء الأشياء.
لم يكن فيليب الأول صانع ذهب أو فضة كما يقول برودون، لقد كان صانع أسماء القطع النقدية. اجعل نوع الصوف الفرنسي نوعاً من الصوف الآسيوي فتستطيع أن تخدع شارياً أو شاريين، ولكن عندما تُكتشف الخدعة، فإن ما تدعوه صوفاً آسيوياً يهبط سعره إلى سعر الصوف الفرنسي. عندما وضع الملك فيليب قاعدة عامة للذهب والفضة استطاع أن يخدم غيره طالما أن الخدعة لم تكن معروفة. وكأي صاحب خدع فإنه خدع زبائنه عندما وصف لهم مستودعاته وصفاً كاذباً، لكن هذا الكذب لم يدم طويلاً. لقد أُجبر أخيراً أن يقاسي مرارة القوانين التجارية. وهل هذا هو ما أراد برودون أن يبرهنه ؟ كلا، بالنسبة له. يحصل النقد على قيمته من السلطة وليس من التجارة ولكن ماذا يبرهن حقاً أن التجارة لها سلطة أكثر من السلطة. دع قرارات السلطة تجد أن ماركاً واحداً سيكون في المستقبل ماركين، وتستمر التجارة تقول إن هذين الماركين لا يساويان أكثر من ماركٍ سابقاً.
ولكن علاوةً على كل هذا نجد أن مسألة القيمة المحددة بكمية العمل لم تتقدم خطوة واحدة ولا نزال في حيرةٍ لنُقرر إن كانت قيمة الماركين (اللذين أصبحا بقيمة مارك واحد) تُحدد بتكاليف الإنتاج أو بقانون العرض والطلب.
يُتابع برودون « يجب أن نثبت في عقولنا – عوضاً أن نُنقص من قيمة الصرف أنه كان بمقدور الملك أن يُضاعف حجمه – أن تبادل قيمة الذهب والفضة كان سيسقط إلى النصف وهذا يعود دوماً لأسباب النسبة والتساوي ». المجلد 1، الصفحة 71.
لو كانت هذه الفكرة شرعية (وهو يُشارك غيره من الاقتصاديين) – فستناقش فقط فكرة العرض والطلب وتحبذ فكرة النسبة عند برودون. فمهما تكن كمية العمل المضمنة في حجم مضاعف للذهب والفضة، فإن قيمتها ستسقط للنصف، لأن الطلب يبقى نفس الشيء بينما العرض قد تضاعف. أيمكن أن نخلط قانون النسبة بقانون العرض والطلب ؟ إن قانون النسبة هذا الذي يتكلم عنه برودون يظهر أنه مطاط جدا وقادر على التغييرات وقابل للاتحاد والذوبان بقوانين غير، حتى أنه يطابق ولو مرة واحدة، قانون الطلب.
لكي نجعل « كل سلعة قابلة للتبادل، إذا تم هذا التبادل فأنه يتم بحق ». لنطبق هذا الحق على قاعدة الدور الذي يلعبه الذهب والفضة، يعني عدم فهم هذا الدور. يقبل الذهب والفضة بحق لأنهما يقبلان واقعيا، ويقبلان واقعيا لأن التنظيم الحاضر للإنتاج يحتاج لوسيط عام يقوم بدور التبادل. فالحق هو التعريف الرسمي للواقع.
لقد رأينا أن مثال النقد كتطبيق للقيمة – هذه القيمة التي حققت دور التشكيل – إن برودون قد أختار هذا المثال ليتهرب من مبدئه الكلي في التبادل، يعني لكي يبرهن أن كل سلعة تعطي قيمتها على أساس تكليف إنتاجها يجب أن تصل لحالة النقد. كل هذا يمكن أن يكون جميلا لولا الاعتراف بالواقع أن الذهب والفضة – كنقود – هي الوحيدة بين السلع التي لا تتحدد بتكاليف إنتاجها ودليل على هذا هو أنه يمكن أن نستعيض عنها بالنقد الورقي أثناء التداول. وطالما أنه توجد نسبة معينة وملحوظة بين متطلبات التداول بين كمية النقود المطروحة، ولو كانت ورقا أو ذهبا أو بلاتين أو نقود ا نحاسية، فلا يمكن أن نلاحظ وجود نسبة بين القيمة الداخلية المخلوقة « تكاليف الإنتاج » وبين قيمة النقود المسماة. بلا شك، في التجارة العالمية، يحدد النقد كأية سلعة أخرى أي بوقت العمل. ولكن في الواقع إن الذهب والفضة في التجارة الدولية هي وسائل المنتوجات وليست كنقود. وهذا يعني أن النقود تفقد « صفتها العامة والمستقرة » وتفقد « موافقة السلطة » التي – بالنسبة لبرودون – تُشكِّل مميزاتها الخاصة. لقد فهم ريكاردو هذه الحقيقة جيداً حتى بعد أن أسس طريقته على القيمة المحدودة بوقت العمل، وبعد أن قال: « إن الذهب والفضة ككل السلع الأخرى، لها قيمة فقط بالنسبة لكمية العمل الضروري لإنتاجها والتي تأتي بها للسوق » فإنه يُضيف أن قيمة النقد لا تُحدد بوقت العمل المتضمن بمادته بل بقانون العرض والطلب فقط.
« ورغم أن النقد الورقي ليس له قيمة داخلية، ولكن لدى تحديد كميته، نرى أن قيمته في التبادل عظيمة كمقدار قطعة النقود (أي أن الورق يحل محل قطعة النقد المعدنية). وبنفس المبدأ لدى تحديد كميته, فإن قطعة نقد مُخفَّضٌ وزنها تُتداول بالنسبة للقيمة التي تحملها، ولو لم تكن في وزنها الشرعي وقيمتها الأصلية لتم تبادلها كما كان سابقاً. نجد في تاريخ النقد الإنكليزي أن قيمة الصرف لم تنخفض بنفس النسبة التي تخفض به قطعة النقد وسبب هذا هو أن النقد لم يزدد أبداً كمياً بالنسبة لقيمته المنخفضة » ريكاردو.
والآن نُورد ما يلاحطه ساي بالنسبة لقول ريكاردو:
يكفي هذا المثال، كما أظن لِيَقنع المؤلف أن أساس كل قيمة ليست كمية العمل الذي يحتاج له لعمل السلعة، لكن الحاجة لتلك السلعة إذا قوبلت بِقلَّتها وندرتها.
وهكذا فالنقد – الذي ليس هو بالنسبة لريكاردو قيمة يُحدِّدُها وقت العمل، والذي يتَّخذه ساي كمثالٍ ليُقنِع ريكاردو أن القِيم الأخرى لا يمكن تحديدها أيضاً بوقت العمل، هذا النقد، الذي يتَّخذه ساي كمثال لقيمة تحدد بالعرض والطلب، يصبح بالنسبة لبرودون المثال الممتاز لتطبيق القيمة المشكلة بوقت العمل.
ولكي نستنتج – إذا لم يكن النقد قيمة « مشكلة » بوقت العمل – إذن له علاقة بفكرة النسبة عند برودون. إن الذهب والفضة يخضعان للتبادل دوما لأن لهما ميزات خصوصية للخدمة كوسيط عام التبادل وليس لأنها موجودة بكمية نسبية لحاصل مجموع الثروة، ولنضع الاستنتاج بقالب أحسن: إنهما – الذهب والفضة – نسبيتان لأنهما – وهما وحدهما نسبيتان بين كل السلع – تخدمان كنقد، وكوسيط عام التبادل مهما كانت كميتهما بالنسبة لحاصل مجموع الثروة. « لا يمكن أن يكون التبادل غزيرا حتى يطوف، لأنه لدى تنقيص قيمته – وبنفس النسبة أنت تزيد كميته – ولدى زيادة قيمته، فإنك تقدر أن تنقص كميته » ريكاردو.
« ما هو هذا التعقيد في الاقتصاد السياسي » يصرخ برودون.
« ملعون هو الذهب » يصرخ شيوعي بفم برودون. إنك تقدر أن تقول: ملعون هو القمح، ملعونة هي الكرمة، ملعونة هي الخراف !.. لأنها مثل الذهب والفضة، فنرى أن كل قيمة تجارية يجب أن تنال تحديداتها الصحيحة ». المجلد 1، صفحة73.
إن فكرة جعل الخراف والكرمة تصل لحالة النقد ليست جديدة ففي فرنسا، في عصر لويس الرابع عشر، ففي ذلك الزمن، عندما ابتدأ النقد في فرض سيطرته، أخذ الناس يتذمرون من انخفاض كل السلع الأخرى، وكان يرجى أن يكون ذلك الوقت الذي يمكن تنال فيه « كل قيمة تجارية » تحديدا صحيحا وأن تنال حالة النقد أي أن تحقق كونها نقدا. وحتى في كتاب بواغيبر Boisguillebert وهو أحد الاقتصاديين الفرنسيين القدماء، نجد هذا القول« النقد إذن – لدى وجود مُنافسين عديدين بشكل سلع، وهذه السلع وهي حاصلة على قيمتها الحقيقية – سيعود مرة أخرى لحدوده الطبيعية ». كتابه « الاقتصاديون ورجال المال في القرن الثاني عشر ».
Economists, Financiers de Dix – Huitième Siècle
كلُّ واحدٍ يرى أن أول أوهام البورجوازية هو آخر أوهامها.
تطبيق قانون نسبية القيمة
ب – العمل الفائض
« في بعض كتب الاقتصاد السياسي نقرأ هذه الفرضية: لو تضاعف سعر كل الأشياء ... كان سعر كل شيء لن يكون النسبة بين الأشياء – إذ أن كل واحد يقدر أن يُضاعف العلاقة والنسبة أو القانون » المجلد 1، صفحة 81.
لقد سقط الاقتصاديون في هذه الفرضية البالية لأنهم لك يعرفوا كيفية تطبيق « قانون النسبة » وقانون « القيمة المُشكَّلة ».
ولسوء الحظ نقرأ في نفس كتاب برودون « المجلد 1، صفحة 110 » « لو ارتفعت الأجور ارتفاعاً عاماً، فإن سعر كل شيء سيرتفع ». وعلاوة على هذا. لو وجدنا هذا السؤال في كتب الاقتصاد السياسي لوجدنا شرحاً له: « عندما يتكلم شخصٌ عن سعر كل السلع عندما ترتفع أو تهبط، فإنه يُجرد عنها سلعةً ما. وهذه السلعة التي لا تخضع لهذ الفرضية هي النقد والعمل ».
John Stuart Mill: Essays on Some UnsettledQuestions of Political Economy.
لِنأت الآن إلى التطبيق الثاني « للقيمة المُشكَّلة » ولنأت إلى نسبٍ أخرى – هذه النسب ينقصها نسب حقة – ولننظر إن كان برودون أكثر سعادةً هنا من المكان الذي يُحاول فيه أن يجعل الخراف والكرمة نقوداً.
« قبِل الاقتصاديون فرضيَّة ما وهي أن كلَّ عملٍ يجب أن يترك فائضاً. ففي نظري هذه الفرضية حقيقة مطلقة وعامة .. إنها تابع لقانون النسبة التي يمكن أن نعتبرها كخلاصة لعلم الاقتصاد كله. ولكن إذا سمح لي الاقتصاديون أن أقول أن المبدأ القائل أن كل عملٍ يجب أن يترك فائضاً، فإن هذا المبدأ لا معنى له ولا يخضع لأي برهان أو دليل » المجلد 1، صفحة 73.
ولكي يُبرهن أن كلَّ عملٍ يترك فائضاً نرى برودون يُعطي شخصيَّةً للمجتمع. إنه يلتفت إلى شخص – المجتمع – أنه ليس مجتمعاً من الأشخاص وليس له مفهوم عام مع الأشخاص الذين يؤلفونه: وذكاؤه (أي ذكاء المجتمع) ليس هو ذكاء الناس الذين به لكنه مجتمعٌ خالٍ من كلِّ شعورٍ بالذوق والحساسية. إن برودون يوبِّخ الاقتصاديين لأنه لم يفهم تضامن المخلوقات. ونحن نفرح أن نجابهه بهذا القول الذي اقتبسناه عن اقتصاديٍ أمريكيٍ؛ إذ يتهم الاقتصاديين بعكس ما اتهمهم برودون: « إن الوحدة الأخلاقية – الكائن النحوي الذي تدعوه الأمة، وُصف دوماً كشيءٍ موجودٍ حقاً، لكنه ليس موجوداً إلا بمخيلة هؤلاء الذين يخلقون شيئاً من كلمة .. لقد سبب هذا متاعب كثيرة وسبب كثيراً من الاضطراب وعدم الفهم في الاقتصاد السياسي.
Cooper, « Lectures on The Elements of Political Economy ».
يُتابع برودون ويقول: « إن هذا المبدأ المُتعلِّق بفائض العمل هو حقيقةٌ بالنسبة للأفراد لأنه يصدر عن المجتمع الذي يُطبِّق عليهم منفعةَ قوانينه » المجلد 1، صفحة 75.
هل يعني برودون أن إنتاج الفرد الإجتماعي يفوق إنتاج الفرد وحده ؟ هل يُشير برودون إلى أن إنتاج الأفراد المجتمعين يزيد على إنتاج الأفراد غير المجتمعين ؟ وإذا كان هذا، فنحن نقدِر أن نُقدِّم له مئات الاقتصاديين الذين تكلموا في هذا الحقل البسيط بدون أي تصوفٍ يُحيط به برودون نفسه. وهذا ما يقوله سادلر:
« إن العمل المُتحد يُعطي نتائج أحسن بكثير من العمل الذي يقوم به الفرد. وبما أن البشر يزداد عددهم فإن إنتاج عملهم المتحد سيزيد بكثير كمية أية إضافة حسابية على أي عملٍ فردي .. ففي الفنون الميكانيكية كما في الأبحاث العلمية، يمكن للرجل أن يُنتج أكثر في اليوم وهو يعمل مع غيره .. أكثر مما لو كان يعمل منفرداً طول حياته .. والهندسة تقول: إن الكل يُساوي مجموع الأجزاء، فإذا طبَّقنا هذا القول على هذا الموضوع فإن هذه الفرضية تكون خطأً ولدى اعتبارنا للعمل – وهو العمود الفقري العظيم للوجود الإنساني يمكن أن يُقالأن الإنتاج الكلي للعمل المتحد يزيد إلى ما لا نهاية كل الجهود التي يقوم بها الفرد » ..
T. Sadler « The Law of Papulation »
ولنعود الآن لبرودون، إن العمل الفائض – يقول برودون – يشرحه الشخص – المجتمع – إن حياة هذا الشخص (المجتمع) تقودها القوانين التي تحكم نشاطات الإنسان كفرد. وبرودون يرغب أن يُبرهن هذا بالوقائع.
إن اكتشاف عملية اقتصادية لا يُقدِّم للمخترع ربحاً مُساوياً للمنفعة التي يُقدِّمها للمجتمع .. ولقد شُوهد أن مشاريع السكك الحديدية هي مصدر ثروةٍ أقل للمتعهدين .. إن معدَّل تكاليف نقل السلع على الطرق هو 18 سنتيم للطن في الكيلومتر؛ وهذا السعر ينطبق على البضائع من مكان تحميلها لمكان تسليمها. ولقد حسب أنه بناءً على هذه النسبة إن مشروع سكةٍ حديديةٍ لا يربح 10 سنتيم بالنسبة للنقل على الطرقات. ولكن لنفترض أن سرعة النقل بواسطة سكة الحديد بالمقابلة مع سرعة النقل على الطرقات هي 4 – 1. وبما أن الوقت في المجتمع هو القيمة نفسها، فإن سكك الحديد – الأسعار كونها مُتساوية – تُمثِّل تقدُّماً بـ 400 % على النقل عل الطرقات، ومع ذلك فإن هذه الحسنة الكبيرة – وهي حسنةٌ للمجتمع لا تتحقق بنفس النسبة للناقل، هذا الناقل الذي يُقدِّم للمجتمع قيمةً إضافيَّةً مؤلَّفةً من 400 % لا يقدر من جهة أن يسحب 10 بالمائة. ولكي نوضح الموضوع أكثر نقول: دعنا نفترض، كواقع، أن سكة الحديد تضع معدَّلاً قدره 25 غرشاً بينما يبقى النقل على الطرقات 18 قرشاً، ففي هذه الحالة تخسر الخطوط الحديدية كل زبائنها. فمرسلو البضائع ومستلموها، وكل واحد يعود إلى النقل بالعربات القديمة إذا رأى ذلك ضرورياً. وحينئذٍ تُهجر عربات القطار. إن التقدم أو ميزة 400 % ستُضحي لخسارةٍ خاصةٍ مقدارها 35 بالمائة. وسبب هذا نعرفه بسهولة: إن التقدم الحاصل من سرعة القطار هو تقدمٌ اجتماعي وكل فردٍ يُشارك بهذا التقدم بنسبة دقيقة بينما تقع الخسارة على المستهلك مباشرةً وشخصياً. إن ربحاً اجتماعياً قدره 400 % لا يُمثِّل بالنسبة للفرد – إذا كان المجتمع مليون فرد – 4 من عشرة آلاف، بينما نجد أن خسارة 33 % للمستهلك تفترض تراجعاً اجتماعياً مؤلفاً من 33 مليوناً ». المجلد 1، صفحة 75 و76.
والآن لننظر لماذا عبَّر برودون عن سرعة أربع مرات (400) أكثر من السرعة الأصلية. لكنه يُريد أن يخلق علاقةً بين نسبة السرعة المئوية ونسبة الربح المئوية ويقيم عندئذٍ نسبةً بين هاتين العلاقتين اللتين – رغم أن كلَّ واحدةٍ تُقاس على حِدة بالنسة المئوية – لا يُمكن قياسها مع بعضها ! وهكذا يعمل على أن يظهر نسبة بين النسب المئوية بدون الإشارة إلى مخرجٍ لهما.
إن النسب المئوية تبقى دوماً نسباً مئوية، 10 بالمائة و400 % يمكن قياسهما، إنهما لبعضهما بنسبة 10 إلى 400، وهكذا يستنتج برودون أن ربح 10 % يُعادل 40 مرة أقل من سرعة أربع مرات أكثر. ولكي يخدع غيره بالمظاهر يقول إن الوقت بالنسبة للمجتمع، هو نقود. يعود هذا الخطأ لأنه لم يفهم جيداً وجود صلة بين القيمة ووقت العمل، فهو يسرع أن يُقارن ويُشبِّه وقت العمل بوقت النقل، يعني أنه يعين السواقين وغيرهم الذين وقتهم يُمثِّل وقت نقل، إنه يمثل عمل هؤلاء بالمجتمع كلِّه. وبضربةٍ قاضيةٍ واحدةٍ، تُصبح السرعة رأسمالاً، وفي هذه الحالة يعتقد حقاً إذ يقول: « إن ربح 400 % ستضحي لخسارة 34 % ». وبعد أن يُؤسس هذه الفرضية الغريبة كرياضياتي يعتقد أنه عليه أن يشرحها لنا كاقتصادي.
« إن ربحاً اجتماعياً يُعادل 400 % يُمثِّل بالنسبة للفرد – في مجتمعٍ مؤلفٍ من مليون شخص – أربعةً من عشرة آلاف ». اتفقنا: لكنن هنا لا نبحث في 400 % لا أكثر ولا أقل. ومهما يكن رأس المال فإن الأشخاص الذين ستُقسم بينهم النسبة سينالون دوماً 400 % وماذا يعمل برودون ؟ إنه يتكلم عن النسبة المئوية كأنها رأسمال، ونراه خائفاً من اضطرابه لأنه لم يشرح قوله، ويُتابع:
« وإن خسارة 33 % بالنسبة للمستهلك تفترض تأخراً اجتماعياً من 33 مليوناً ». إن خسارة 33 % بالنسبة للمستهلك تبقى خسارة 33 % لمليون مستهلك، وكيف يقدر برودون أن يقول إن التأخر الاجتماعي في حالة خسارة 33 % تُعادل 33 مليوناً عندما لا يعلم هو الرأسمال الاجتماعي والرأسمال العائد لكل فرد من الأفراد الذين تتعلق بهم المسألة ؟ وهكذا لم يكن كافياً لبرودون أب يخلط بين رأسمال ونسبةٍ مئويةٍ، إنه يفوق نفسه عندما يعرف أن رأس المال قد غرق في مشروع مع عدد الفرقاء المهتمين.
« ولكي يوضح المسألة أكثر دعنا نفترض أن الواقع » رأسمالاً مُعطى. إن ربحاً اجتماعياً من 400 % يُقسم على مليون مشترك أو مُساهم – وكل واحد من المُساهمين يهتم بربحِ وفرنكٍ واحدٍ – يُعطي نتيجة 4 فرنكات لكل شخص وليس 0.0004 كما يقول برودون وهطذا فخسارة 34 % لكل من المشتركين تُمثِّل تأخراً اجتماعياً من 330000 ألفاً وليس 33 مليوناً (330:100 = 300000:1000000).
إن برودون، بما أنه كان مشغولاً بنظريته في الشخص (المجتمع) ينسى أن يُقسِّم على 100 لكي يحصل على خسارة 330000 فرنكاً، لكن ربح فرنكات لكل فرد يؤدي لربح 4 ملايين فرنكاً ربحاً للمجتمع، ويبقى للمجتمع ربحٌ صافٍ من 3670000 فرنكاً. وهذا الحساب الدقيق يُبرهن بدقة التناقض فيما أراد برودون قوله: وهو أن أرباح وخسائر المجتمع ليست في نسبةٍ معكوسةٍ لأرباح وخسار الأفراد.
وبما أننا قد قدمنا هذه الأخطاء البسيطة العائدة لحساباتٍ دقيقةٍ، لنلق الآن نظرةً على النتائج التي نصلها إذا نحن قبِلنا هذه العلاقة بين السرعة ورأس المال في حالة الخطوط الحديدية – كما يُقدِّمها برودون – دعنا نفترض أن نقل أربعَ مراتٍ أسرع يُلكِّف أربع مراتٍ أكثر ! إن هذه النقل لا يُعطي ربحاً أقل مما يُعطيه النقل بالعربة التي هي أبطأ أربع مرات أقل وتُكلِّف ربع الكمية. فإذا كانت العربة تتقاضى 18 غرشاً فإن خط الحديد يتقاضى 72 غرشاً. وهذا يكون بالنسبة للحسابات نتيجةً للفرضيَّة التي عرضها برودون – ودائماً تنقص أخطاؤه – وهنا فجأةً نراه يقول لنا أنه عوضاً عن 72 غرشاً، فإن الخطوط الحديدية تتقاضى 25 غرشاً لأنها تخسر كلَّ زبائنها. وبالنتيجة علينا أن نعود إلى العربة القديمة. فإذا كان علينا أن ننصج برودون يجب أن لا ننسى في برنامجه للمجتمع المُتزايد أن تقسِّم على 100، لكن مع الأسف نرى أنَّه لا يأخذ بنصيحتنا لأن برودون مبتهجٌ بحساباته التقدميَّة التي تُقابل وتُشبه المجتمع التقدَّمي، حتى أنَّه يصرخ مؤكِّداً: « لقد أظهرتُ في الفصل الثاني عندما حللت مفهوم تناقض القيمة، أن الحسنة التي يُقدِّمها كل امتشاف جديد هي قليلة بالنسبة لمخترع مهما عمل هذا المخترع للمجتمع. ولذلك قمت بالبرهان الثابت حتى توصَّلت لهذا النقطة واعتمدت على نشاطي الحسابي ».
ولنرجع إلى خُرافة الشخص (المجتمع)، هذه الخُرافة التي ينحصر هدفها بالبرهان على هذه الحقيقة البسيطة – وهي أنَّ اختراعاً جديداً يُساعد أن يُقدِّم كميةً من العمل ليُنتج عدداً أكبر من السلع، إن هذه الاختراع يُخفِّض قيمة الإنتاج، فالمجتمع إذاً ينال ربحاً، ليس في حصوله على قيم تبادل أكثر، بل في الحصول على سلعٍ أكثر بنفس القيمة.
وبما يتعلَّق بالمخترع، فإن المُنافسة تجعل ربحه يسقط إلى المستوى العادي للأرباح. هل برهن برودون هذه الفرضيَّة كما أراد هو ؟ كلا. إن هذا لم يمنعه أن يوبِّخ الاقتصاديين عندما فشل برهانه. وإذا برهنا له على العكس أنَّهم برهنوها فإننا نُقدِّم له – ريكاردو ولوردال – ريكاردو زعيم المدرسة التي تُحدِّد القيمة بوقت العمل، ولوردال أحد المُدافعين الكِبار عن تحديد القيمة بالعرض والطلب. وكلاهما عرضا الفرضيَّة نفسها.
« عندما نُسهِّل الإنتاج فإننا ننقص قيمة بعض السلع قبل الإنتاج، رغم أنه بنفس العوامل لا نزيد فقط الثروات الوطنية بل نزيد قوة الإنتاج في المستقبل – ... إنَّك بمساعدة الآلة وبمعرفتك للفلسفة الطبيعية، فإنَّك تُجبر العُملاء الطبيعيين أن يعملوا العمل الذي قام به الإنسان قبلاً، وقيمة التبادل لمثل هذا العمل تسقط وتنقص. فإذا كا عشرة رجال يديرون طاحونة قمح، وبعد الاكتشاف وُجد أنَّه بمساعدة الهواء أو بمساعدة الماء نقدر أن نوفِّر هؤلاء الرجال العشرة، فالدقيق الذي هو نتيجة قسم من العمل الذي قدمته الطاحونة سيهبط سعره بالنسبة لكمية العمل المُوفَّر، ويكون المجتمع أغنى بالسلع التي هي نِتاج عمل عشرة رجال » (ريكاردو) المجلد 2، صفحة 59.
وجاء دور لوردال ليقول:
« وفي كل وقت يُوظَّف به رأس المال ليُنتج ربحاً فإنه يرتفع إما – لأنه يؤلِّف قسماً من العمل الذي كانت يد الإنسان تقوم به – أو لأنه يؤلِّف قمساً من العمل الذي هو أبعد من أن يقوم به جُهد الإنسان. فالربح الصغير الذي يناله عادةً أصحاب الآلات عندما تقيسها بأجور العمل التي تُساعد الآة على خلقه، يمكن أن يخلق شيئاً بالنسبة لصحة هذه النظرة. إن بعض الآلات التي على النار تستهلك ماءً من الآلة التي تعمل على الفحم الحجري أكثر من الماء الذي يمكن حمله على أكتاف الرجال، فإذا جهزنا هذه الآلة بمرجل ماءٍ كبيرٍ فإنها تُنجز عملها بمصروفٍ أقل بكثير من كمية الأجور التي تُقدَّم لهؤلاء الذين كانوا يعملون لو كانوا يقومون بتجهيز ونقل الماء. وهذه الحقيقة تنطبق على كل أنواع الآلات. يجب أن تُنفِّذ كلُّ الآلات العمل الذي كان يُقام قبلاً، يجب أن تُنفِّذ هذا العمل بنسبةٍ أرخص مما لو كانت يد الإنسان تُقدِّمه ... فإذا كان هذا هو الامتياز الذي يُقدَّم لدى اختراع آلة – هذه الآلة التي بواسطة عمل شخصٍ واحدٍ، تُنجز كميةً من العمل كان يحتاج لأربع رجالٍ يقومون به، وبما أن ملكية هذا الامتياز يمنع المنافسة أن تعمل العمل – إلا ما كان يَنتج من عمل العمال وعن أجورهم طالما أن هذه الآلة تُخفِّض الأجور. ولكن عندما يوجد هذا الامتياز فإن آلاتٍ أخرى من نفس النوع تقوم وتُنافس، وحينئذٍ نرى أن كلَّ الآلات تعمل على نفس المبدأ لكثرة الآلات ... لربح الناتج عن الرأسمال المستثمر .. رغم أنه يأتي عمل مساعد، ولكن هذا الربح لا يأتي فقط عن العمل المساعد الذي تُقدِّمه الآلة بل عن المنافسة بين أصحاب رأس المال، يكون هذا الربح كثيراً بالنسبة لكمية رأس المال الذي يُمثل في إنجاز العمل وإنجاز الطلب ». (لودرال، صفحة 119، 123، 124، 125، 134).
وأخيراً طالما أن الربح هنا أكثر من الربح في الصناعات الأخرى، فإن رأس المال يوظَّف في الصناعة الجديدة حتى تهبط نسبة الربح للمستوى العام.
لقد رأينا أن مَثله للخطوط الحديدية لم يُساعده على إلقاء نورٍ على خُرافته – الشخص (المجتمع) – ومع ذلك فبرودونيختصر خطابه:« وبما أنني أوضحت هذه النقط، لا شيء أسهل من أن أشرح كيف أن العمل يترك فائضاً لكل منتج ». (المجلد 1، صفحة 77).
إن كلَّ ما سنراه يعود للآثار الكلاسيكية. إنها قصةٌ شعرية وُضعت لنفس القارئ بعد أن ألمَّ به تعب الحلول الحسابية التي مرت معنا. إن برودون يُطلق على الشخص (المجتمع) اسم بروميثوس ويُمجِّد برودون أعمال بروميثوس عندما يقول:
« قبل كل شيء، استيقظ بروميثوس من صدر الطبيعة وأتى إلى الحياة بقوَّةٍ جبَّارةٍ مُفرحةٍ إلخ... يبتدئ بروميثوس بعمل وفي اليوم الأول أي ثاني يوم بعد ولادته الثانية – يكون إنتاج بروميثوس الثروة أي ليكون في حالةٍ حسنةٍ، وثروته هذه تُعادل عشرة. وفي اليوم الثاني يَقسِم بروميثوس عمله فيصبح إنتاجه مساوياً لمئة. وفي اليوم الثالث وفي كل يوم يتبع يخترع بروميثوس الآلات ويكتشف منافع كثيرة في الأجسام ويكتشف قوى جديدة في الطبيعة –. وفي كل خطوةٍ يخطوها نشاطه الصناعي تنتج زيادةٌ في عدد منتوجاته، هذه الزيادة تُسبب له سعادةً كُبرى. وبعد كلِّ هذا تُصبح كلمة ”أن يستهلك“ تعني ”أن يُنتج“ ومن الواضح أن استهلاك كلِّ يومٍ – مستعملاً إنتاج اليوم السابق – يترك فائضاً في الإنتاج لليوم الثاني » (المجلد 1، صفحة 77 – 78).
إن بروميثوس الذي يتكلَّم عنه برودون لَهو شخصيةٌ غريبةٌ، يُعبِّر عن ضعفه في المنطق كضعفه في الإقتصاد السياسي. وطالما أن بروميثوس يُعلِّمنا تقسيم العمل واستعمال الآلة، والانتفاع من القوى الطبيعية والقوى العلمية، وزيادة القوى الإنتاجية في الإنسان لإعطاء فائض تقابلبانتاج العمل الفردي، إن بروميثوس هذا الجديد يمتاز بحظه السيِّء لأنه أتى مُتأخِّراً جداً. ولكن حين يبتدئ بروميثوس ويتكلَّم عن الإنتاج والإستهلاك يُصبح مُضحكاً. ليستهلك – كما يظن – يعني ليُنتج ! إنه يستهلك في اليوم الثاني ما أنتجه في اليوم السابق، وهكذا يبقى عنده زيادة يوم إلى الأمام، وزيادة هذا اليوم هو ”فائض عمله“. لكن إن كان يستهلك ثاني يوم ما أنتجه في اليوم السابق فيجب وهو في اليوم الأول – إذ لا يوجد يومٌ قبله ليكون له فائض – أن يكون قد قام بعمل يومين حتى يعمل يوماً واحداً حتى يبقى عنده زائد. وكيف ربح بروميثوس هذا الفائض في اليوم الأول – ذلك اليوم حيث لم يوجد تقسيم عمل ولم توجد آلة حتى أنه لم توجد معرفة عن القوى الطبيعية غير قوة النار ؟ فالسؤال إذن يعود ”لأول يوم بعد الخلق“ إذ إنه لم يتقدَّم خُطوةً واحدةً إلى الأمام. إن هذه الطريقة التي يستعملها برودون لشرح الأشياء مأخوذةٌ عن اليوناني وعن العبري لأنها تمتاز بصفتها الصوفية. هذه الطريقة تُعطي الحق لبرودون فيقول: « لقد برهنت نظرياً وعملياً المبدأ القائل أن كلَّ عملٍ يجب أن يكون له فائض ».
”الواقع“ الذي يُظهره هو حساباته التقدُّمية، ”والنظري“ هو أسطورة بروميثوس. يُتابع برودون قائلاً: « لكن هذا المبدأ – بما أنه حقيقي وقائم على افتراضٍ حسابي – لا يزال بعيداً أن يُحققه كل شخص. وبتقدُّم الصناعة الجماعية، فسينتج كل يوم عمل لفردٍ إنتاجاً أكبر، وعندئذٍ يُصبح العامل الذي يتقاضى الأجرة نفسها أغنى وأغنى: هناك حالات تزدهر بينما حالات غيرها تتقهقر ». (المجلد1، صفحة 79 – 80).
لقد كان عدد سكان المملكة المتحدة سنة 1770 خمسة عشر مليون نسمة، أما السكان المُنتجون فكانوا ثلاثة ملايين. والقوى العلمية للإنتاج كانت تساوي سكان بلدٍ مؤلَّفٍ من اثني عشر مليون فرد. وهكذا كان يوجد 15 مليوناً من القوى الإنتاجية. وهكذا كانت القوى الإنتاجية في السكان بنسبة واحد إلى واحد، أما القوى العلمية فكانت بالنسبة للقوى اليدوية أربعة إلى واحد.
ففي سنة 1840 زاد عدد السكان إلى 30 مليون شخص، وكان السكان المنتجون ستة ملايين. لكن القوى العلمية ارتفعت إلى 650 مليوناً، وكان هذا لكل السكان بنسبة 21 إلى واحد أو بالنسبة للقوى اليدوية 108 إلى واحد.
وكان يوم العمل في المجتمع الإنكليزي يتطلَّب في مدة 70 سنةً فائضاً 2700 % قوة إنتاجية، وهذا يعني أن سنة 1840 أنتجت 27 مرة أكثر من 1770. وبالنسبة لبرودون يجب أن يسأل نفسه هذا السؤال: لماذا لم يُصبح العامل الإنكليزي سنة 1840 أغنى 27 مرةً من العامل سنة 1770 ؟ ولدى سؤاله هكذا فإن الشخص يفترض طبيعياً أن الإنكليزي كان يقدر أن يُنتج هذه الثروة بدون الأحوال االتاريخية التي تم الإنتاج بها، مثلاً ! إن التجمُّع الخاص لرأس المال، والتقسيم الحاضر للعمل، والمصانع الأوتوماتيكية، أو المنافسة الفوضوية، وطريقة الأجور – وباختصار كلُّ شيءٍ كان مبنيَّاً على صراع الطبقات. والآن، كانت هذه الأجور بالضبط الحالات الضرورية لنمو القوى الإنتاجية، كان يجب أن تكون طبقاتٌ تستفيد وتربح وطبقاتٌ تتقهقر وتخسر.
وماذا يعني برودن بروميثوس ؟ إنه مجتمع، والعلاقات الإجتماعية قائمةٌ على صراع الطبقات. هذه العلاقات ليست علاقاتٍ بين فردٍ وفردٍ بل بين عاملٍ ورأسمال، بين فلاحٍ وملَّاكٍ.. إلخ. فإذا محوت هذه العلاقات فإنك تُنهي المجتمع، ولا يكون بروميثوس إلا شبحاً بدون ذراع أو أرجل، أي بدون مصانع أوتوماتيكية وبدون تقسيم عمل – وباختصار – بدون أي شيءٍ تكون قد أعطيته له تجعله يحصل على فائض العمل.
فإذا كان برودونقد اكتفى أن يشرح نظرية قاعدة فائض العمل بشعوره للتعادل بدون أن يأخذ بعين الاعتبار أحوال الإنتاج الوقعية، يجب أن يكفي في الواقع أن يجعل كل العمال يشتركون في بالثروة، وبدو أن يُغيِّر أي شرطٍ من شروط الإنتاج. وإن توزيعاً كهذا لا يؤكد أبداً درجةً عاليةً من السرور والراحة للأفراد المشتركين.
لكن برودون ليس متشائماً كما يمكن أن يظن أحدنا. وبما أن كل شيءٍ نسبة، فعليه أن برميثوس الذي جهَّزه تجهيزاً جيداً، أن يرى في مجتمعنا الحاضر، بداية تحقيق رأيه الذي حبَّذه.
« لكن في كل مكان نجد أن نقدم الثروة أي نسبية القيم، هي القاعدة المطلقة، وعندما وقف الاقتصاديون ضد تذمُّر الفريق الإجتماعي أي ضد النمو المُطَّرد للثروة العامة، وضع تحسين أحوال الطبقات الفقيرة، نجدهم يُنادجون بحقيقة كانت كافيةً أن تقضي على نظرياتهم (المجلد 1، صفحة 80).
ما هي في الواقع الثروة الجماعية والغنى الجماعي ؟ إنها ثروة البورجوازي – وليس كلُّ برجوازي. حسناً ان الاقتصاديين لم يفعلوا شيئاً إلا أن يُظهروا كيف أن – علاقات الإناتج الموجودة – ثروة البورجوازي نمت ويجب أن تنمو. وفيما يتعلق بالطبقات العاملة، لا نزال نجد سؤالاً لم يُناقش بعد: كانت أحوالهم قد تحسَّنت لدى زيادة الثروة العامة. فلو قدَّم الاقتصاديون مثال العمال الإنكليز المستخدمين في صناعة القطن، فإنهم يون بؤس هؤلاء في ظل ازدهار التجارة. إن هذه اللحظات من الازدهار هي نسبياً لازمةٌ للأزمات ولازمةٌ للركود ”بنسبةٍ حقيقيةٍ“ 3 إلى 10. لكن ربما، عندما نتكلم عن التحسينات، كان الاقتصاديون يُفكِّرون بملايين العمال الذين كانوا يموتون ويتحطَّمون في جزر الهند الشرقية حتى يُنتجوا شيئاً ما لمليون ونصف عامل مستخدمين في انكلترا في نفس الصناعة، ثلاث سنوات ازدهار من عشر سنوات.
وبالنسبة للاشتراك المؤقت في زيادة الثروة العامة. فإن هذه مسألةٌ مختلفةٌ. إن واقع الاشتراك المؤقت يشرحه الاقتصاديون، في نظرياتهم. إنه تأكيدُ هذه النظرية وليس الحُكم عليها، كما يدعوها برودون. إذا كان يجب أن يُحكم على شيء فيجب أن يكون الحُكم على غِرار منهاج برودون الذي نقص وحقَّر العامل إلى أقل نسبةٍ للأجور، رغم زيادة الثروة العامة: إنه لم يقدر أن يُخفِّض ويُحقِّر العامل لأقل نسبةٍ للأجور إلا بإدخال النسبة الحقيقية للقيم و”القيمة المُشكَّلة“ بوقت العمل. إن الأجور، كنتيجةٍ للمنافسة، تتراوح مرةً إلى الأعلى ومرَّةً إلى الأسفل، وتؤثر علر سعر الطعام الضروري لانعاش العامل، هذا العامل يقدر أن يُشارك لحدٍ ما في تنمية الثروة العامة، ويقدر أيضاً أن يتهدَّم ويفنى من العَوَز والفقر. هذه هي نظرية الاقتصاديين الذين لم يكونوا خياليين بالنسبة للموضوع.
وبعد انحرافاته الطويلة عن موضوع الخطوط الحديدية، وعن بروميثوس وعن المجتمع الجديد الذي يجب إعادة بنائه على ”القيمة المشكلة“ نرى برودون يجمع نفسه لأن العاطفة تعصف به فيصرخ:
« إنني أرجو الاقتصاديين أن يسألوا أنفسهم للحظةٍ واحدةٍ، في هدوء قلوبهم – وأن يبتعدوا عن أحكامهم غير العادلة، هذه الأحكام التي تجعلهم يضطربون، ويجب أن يتجرَّدوا عن أهوائهم وأن لا يتأثروا بالوظيفة التي يأملون أن ينالوها، وبالفوائد التي يَجرون وراءها، وبالاستحسان الذي يتعلقون به، وبمراكز الشرف التي تُبهج كبرياءهم – دعهم يقولوا إن كان هذا المبدأ – أن كلَّ عملٍ يجب أن يترك فائضاً – قد خطر لهم أو ظهر لهم بمثل هذه النتائج التي أظهرتها وقمت بها ». المجلد 1، صفحة 80.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
بؤس الفلسفة ...... (2) كارل ماركس
كارل ماركس: بؤس الفلسفة، بؤس المنطق والديالكتيك
(2)
"لم نشرح لحد الآن سوى ديالكتيك هيغل. وسنرى كيف نجح برودون في تخفيضه إلى النسب المحقرة. وهكذا بالنسبة لهيغل، كل ما حدث ولا يزال يحدث هو الشيء الذي يحدث في عقله. وهكذا فلسفة فلسفة التاريخ ليست إلا تاريخ الفلسفة، فلسفته الخاصة".
"وهكذا لكي نصل إلى تشكيل القيمة – التي هي بالنسبة له أساس التطورات الاقتصادية – نراه لا يستطيع أن يقوم بالبحث دون أن يعود إلى تقسيم العمل وإلى المنافسة الخ... ورغم هذا نجد في لوائحه وفي التتابع والترتيب المنطقي، إن هذه العلاقات لم توجد بعد".
"فكيف قدرت القاعدة المنطقية الواحدة للحركة وحركة التتابع والترتيب وحركة الوقت أن تشرح بنيان وهيكل المجتمع حيث توجد كل العلاقات إزاء بعضها لتساند بعضها؟"
"لننظر الآن ما هي الأوصاف التي يخضع بواسطتها برودون ديالكتيك هيغل عندما يطبقها على الاقتصاد السياسي.
يرى برودون أن كل لائحة اقتصادية لها جانبان – جانب خير وجانب شر. وهو ينظر إلى هذه اللوائح كما ينظر البورجوازي إلى العظماء في التاريخ: كان نابليون رجلاً عظيماً، قد فعل كثيراً من الحسنات وفعل كثيراً من السيئات.
عندما نأخذ هذه المتناقضات معاً، جانب الخير وجانب الشر، الحسنات والسيئات، فإنها تشكل – بالنسبة لبرودون – التناقض في كل لائحة اقتصادية.
فالموضوع الذي يجب حله: الاحتفاظ بالجهة الخيرة والتضييق على الجهة الشريرة.
إن العبودية لائحة اقتصادية كأية لائحة أخرى. وهكذا لها جانبان. ودعنا نترك الآن الناحية الشريرة لنتكلم عن الناحية الخيرة لهذه العبودية. لا حاجة لأن نقول إننا نتكلم عن العبودية المباشرة، ونتكلم عن عبودية العبيد في سرينام Surinam وفي البرازيل وفي الولايات الجنوبية في أمريكا الشمالية.إن العبودية المباشرة هي تماما محور الصناعة البورجوازية كالآلة الخ... التي هي محور الصناعة أيضاً. وبدون عبودية لا تحصل على صناعة حاضرة. هي العبودية التي أعطت المستعمرات قيمتها، وهي المستعمرات التي خلقت التجارة الدولية، وهي التجارة الدولية التي نعدها الشرط السابق للصناعة ذات الانتاج الضخم. وهكذا فالعبودية هي لائحة اقتصادية ذات أهمية كبرى".
"فماذا يفعل برودون لتخليص العبودية؟ إنه يضع المسألة كقاعدة هكذا: احتفظ بالجهة الصالحة لهذه اللائحة، وخفف أو ضيق الخناق على الجهة الشريرة.
لم يكن لدى هيغل مسائل ليضعها في قواعد. كان عنده ديالكتيك فقط. ولم يأخذ برودون من ديالكتيك هيغل إلا اللغة. وبالنسبة له فإن حركة الديالكتيك هي التفريق المبدئي بين الخير والشر.
ودعنا لدقيقة واحدة نعتبر برودون لائحة. ولنفحص جهة الخير والشر عنده ولنفحص حسناته وسيئاته.
لو كان يمتاز بحسنة على هيغل لأنه وضع مسائل جعل من حقه الوحيد أن يحللها لخير البشرية، فإن له سيئة أنه عُرف بالعقم عوضاً أن يخلق لائحة ديالكتيكية جديدة. إن ما يشكل حركة الديالكتيك هو وجود جهتين متناقضتين وصراع هاتين الجهتين المتناقضتين وادغامهما في لائحة جديدة".
"وهنا فجأة يصبح ميتافيزيك الاقتصاد السياسي خيالاً ووهماً! لم يتكلم برودون بحق أكثر من هذه المرة. ومن اللحظة التي تصغر حركة الديالكتيك إلى عملية مقابلة أو مضادة بين الخير والشر، وفي اللحظة التي تضع مسائل لتخفيف الناحية الشريرة، ومن اللحظة التي تعمل على إدارة وتسيير لائحة كدواء للائحة أخرى، عندئذ نرى أن هذه اللوائح تتجرد عن كل حقائقها، وتبطل الفكرة أن تنتج وتعمل، ولا تبقى حياة بها. وهكذا لا توضع الفكرة ولا تتشكل لتصبح لوائح. وإن تتابع اللوائح أصبح نوعاً من البنيان. ويقف الديالكتيك حتى يصبح حركة الحقيقة المطلقة. ولا يوجد بعد ديالكتيك على الأكثر إلا ديالكتيك الأخلاق المطلقة الصافية".
"وهكذا فكل شيء بالنسبة له حدث تاريخي في أثير الحقيقة الصافية. وكل شيء ينتج هذا الأثير بواسطة الديالكتيك. وبما أنه كان عليه الآن أن يظهر هذا الديالكتيك كواقع، كانت الحقيقة هي التي أخطأته".
"لكل مبدأ كان له عصره الذي أظهر ذاته به. إن مبدأ السلطة مثلا ظهر في القرن الحادي عشر كما أن عصر الفردية ظهر في القرن الثامن عشر. ففي التتابع المنطقي نجد أن العصر هو الذي كان يتبع المبدأ وليس المبدأ هو الذي كان يخص العصر. وهكذا يكون أن المبدأ هو الذي صنع التاريخ وليس التاريخ هو الذي صنع المبدأ. وحتى نخلص المبدأ ونخلص التاريخ، علينا أن نسأل أنفسنا لماذا نرى مبدأ ما ظهر في القرن الحادي عشر أو في القرن الثامن عشر ولم يظهر في عصر آخر، لذلك نحن مجبرون أن نفحص بدقة كيف كان الناس في القرن الحادي عشر وكيف كانوا في القرن الثامن عشر، وماذا كانت حاجياتهم الضرورية وقواهم الإنتاجية ونوع إنتاجهم والمواد الأولية التي تستعمل للمواد الأولية – وبكلمة واحدة، نسأل ماذا كانت العلاقات التي حصلت بين الإنسان والإنسان من جراء هذه الأحوال الموجودة. ولكي نصل إلى أعماق هذه الأسئلة – أي لكي نعرف تاريخ الناس المدنس الحقيقي في كل عصر ولكي نظهر هؤلاء الناس أنفسهم كحكام وممثلين لهذه المسرحية؟".
"دعنا نعبر ملتقى الطرق مع برودون.
نحن نوافق على أن العلاقات الاقتصادية – كما ينظر لها بأنها قواعد ثابتة غير متبدلة وبأنها مبادئ أبدية ولوائح مثالية – وجدت قبل وجود أناس أذكياء، ونحن نوافق أن هذه القوانين والمبادئ واللوائح كانت – منذ ابتداء الزمن – نائمة في « الحقيقة الانسانية غير الشخصية ». ورأينا مع كل هذه القيم الأبدية الثابتة والتي لا تتبدل أن التاريخ معكوس في الحقيقة الصافية لحركة الديالكتيك. إن برودون بقوله هذا – في حركة الديالكتيك أن الأفكار لا تختلف – يكون قد حطم ظل الحركة وحركة الظلال، إذ أن كل شخص كان يقدر أن يخلق من هذه الحركة تشبيها للتاريخ. وعوضاً عن ذلك نراه يريد أن يصبغ التاريخ بصيغة تفكيره. إنه يضع اللوم على كل شيء حتى على اللغة الفرنسية، فيقول برودون الفيلسوف: « ليس صحيحاً أن نقول أن شيئاً ما يظهر وأن شيئاً ما ينتج: ففي الحضارة كما في الكون نرى أن كل شيء وجد وصنع في الوجود منذ الأبدية »المجلد 2، صفحة 102.
إن قوة المتناقضات الإنتاجية التي تعمل والتي تجعل برودون يعمل هي كبيرة، ولدى محاولته أن يشرح التاريخ نراه مجبراً أن ينكره ولدى محاولته أن يشرح ظهور العلاقات الاجتماعية المتتابعة نراه ينكر أي شيء يقدر أن يظهر، ولدى محاولته شرح الإنتاج بكل تطوراته نراه يتساءل إن كان يمكن إنتاج أي شيء.
وهكذا لا يوجد تاريخ بالنسبة لبرودون، وهكذا لا يوجد تتابع للأفكار".
كارل ماركس، بؤس الفلسفة
"ان العنصر الأهم في كتاب برودون في خلق النظام في الانسانية هي جدليته التسلسلية، محاولة انشاء منهج في الفكر يستعاض فيه بعملية التفكير نفسها عن الأفكار المأخوذة على أنها وحدات مستقلة. ان برودون يبحث، من وجهة النظر الفرنسية، عن نظام جدلي كذلك الذي زودنا به هيغل فعلاً. وبالتالي فان ثمة قرابة فعلية بهيغل هنا، لا مجرد التشابه الوهمي الخالص. وبالتالي فقد كان من اليسير القيام هنا بنقد جدلية برودون لو أنه تحقق بعض النجاح في نقد الجدلية الهيغلية".
كارل ماركس، الأيديولوجية الألمانية
_____________________________________________________________________________________
"(الروح) التي ترى في الواقع مقولات، من الطبيعي أن ترجع كل الممارسة والنشاط البشري إلى عملية التفكير الدياليكتيكي"، "هذه الطريقة، مثل كل طرافات النقد المطلق، هي تكرار لطرفة تأملية. يجب على الفلسفة التأملية، وإن شئت الدقة فقل فلسفة هيغل، ان تحول كل المسائل من الحس الانساني العام إلى شكل الفكر التأملي، وان تغير المسألة الحقيقية إلى مسألة تأملية لتكون قادرة على الإجابة عنها – كارل ماركس، العائلة المقدسة ".
يتبع
بؤس الفلسفة ...... (3) كارل ماركس
ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
تقسيم العمل واستعمال الآلة
إن تقسيم العلم بالنسبة لبرودون يفتح الباب لمجموعات التطورات الاقتصادية :
الجانب الصالح لتقسيم العمل
« إن تقسيم العمل هو الطريقة التي تحقق مساواة الأحوال والذكاء » (المجلد 1، صفحة 93).
« أصبح تقسيم العمل بالنسبة لنا آلة الفقر » (المجلد 1، صفحة 94).
الجانب الشرير لتقسيم العمل
« إن العمل، لدى تقسيم ذاته وفقا للقانون الخاص به، ينتهي إلى نفي أهدافه ويحطم ذاته » (المجلد 1، صفحة 94)
حل المسألة
« لكي تجد الحل الذي يقضي على مساوئ تقسيم العمل وفي نفس الوقت تحتفظ بتأثيراته النافعة ». (المجلد 1، صفحة 97(.
إن تقسيم العمل بالنسبة لبرودون قانون أبدي ولائحة بسيطة مجردة. إذن فالتجريد أو الفكرة يجب أن تكفي ليشرح تقسيم العمل وفقا لأزمنة تاريخية مختلفة. إن المذاهب، والشركات التضامنية، ذات الانتاج الضخم يجب أن تفسرها الكلمة الوحيدة « التقسيم » وأول ما يجب أن تعمله هو أن تدرس بإمعان معنى كلمة « تقسيم » ولا تحتاج بعدئذ أن تدرس العوامل المؤثرة العديدة التي تعطي تقسيم ا لعمل صفة محددة في كل عصر.
نجد بالتأكيد، أن الأشياء تصبح أسهل بكثير لو أننا أخفضناها للوائح برودون. والتاريخ لا يتابع مجراه بتنظيم التام كاللائحة. لقد أخذت ألمانيا ثلاث سنوات كاملة لكي تؤسس أول تقسيم للعمل ولفصل المدن عن الضواحي. وبنسبة علاقة المدينة والقرية نجد أن كل المجتمع قد نال أوصافه. وإذا أخذنا هذا المظهر من مظاهر تقسيم العمل، يحصل لدينا الجمهوريات القديمة، ويحصل لديك الاقطاعية المسيحية، وتحصل على انكلترا القديمة بباروناتها وتحصل على انكلترا الجديدة بأسياد القطن فيها.
ففي القرن الرابع والخامس عشر، عندما لم توجد مستعمرات بعد، وعندما لم يمكن لأمريكا تأثيرها على أوروبا ولم تكن معروفة جيدا، وعندما كانت آسيا توجد وتعيش بظل القسطنطينية، وعندما كان المتوسط محور النشاط التجاري، وعندما كان الاسبانيون والبرتغاليون والهولانديون والانكليز والفرنسيون، عندما كان لهم مستعمرات مؤسسة في كل أقسام العالم، إن اتساع السوق وهيكله الخارجي يعطي تقسيم العمل في أزمنة مختلفة شكلا خارجيا يعطيه صفته التي كان من الصعب الوصول إليها من كلمة تقسيم، من الفكرة، من اللائحة.
يقول برودون « إن كل الاقتصاديين منذ آدم سميث أشاروا إلى حسنات ومساوئ قانون التقسيم ولكنهم أصروا على الحسنات أكثر مما أصروا على السيئات لأن الحسنات كانت ذات خدمات أكثر لتفاؤلهم، ولم يعذب أحد بينهم نفسه ليعرف ما هي مساوئ القانون.. فكيف نرى نفس المبدأ يقود إلى نتائج معاكسة ؟ لم يوحد اقتصادي قبل أو بعد آدم سميث قدر أن يدرك أية مسألة يجب حلها. فساي يعترف أنه بتقسيم العمل نجد أن نفس السبب الذي يخلق الصالح يخلق الرديء أيضا ». (المجلد 1، صفحة 95-96).
يذهب آدم سميث أبعد مما يظن برودون. لقد رأى بوضوح « إن الفرق في المواهب الطبيعية عند رجال مختلفين، يقود إلى تقسيم العمل ». وكمبدأ، نجد أن الحمال يختلف عن الفيلسوف أقل مما يختلف كلب كبير عن كلب كبير آخر أصغر بقليل. إنه تقسيم العمل الذي أوجد خليجا بين الاثنين. وكل هذا لم يمنع برودون أن يقول في مكان ما أن آدم سميث لم تكن عنده أقل فكرة عن المساوئ التي يخلقها تقسيم العمل. وهذا ما يجعله يقول مرة أخرى أن ج. ب. ساي كان أول من اعترف أن تقسيم العمل يسبب « إنتاج الصالح وإنتاج الردئ ».
والآن لنستمع إلى لومونتي Lemontey « لكل واحد حاجته ».
« لقد شرفني ج. ب. ساي عندما تبنى في كتابه عن الاقتصاد السياسي المبدأ الذي أخرجته للنور، في المقطع الذي يتحدث به عن تقسيم العمل. وقد اقنع أن يعود إلى كتابي ويقول أنه أخذ المبدأ عني. هذا هو الدافع الوحيد الذي أقدر أن أصف به سكوت كاتب غني في مجموعاته أن يتنكر لدين صغير ». لومونتي، « الأعمال الكاملة ».
ولنقدم هذا المعروف له : لقد عرض لومونتي نتائج تقسيم العمل غير المسرة كما هي معروفة اليوم ولم يجد برودون شيئا ليضيفه عليه. والآن بسبب خطيئة برودون، نعود إلى هذا السؤال، من سبق الآخرين في عرض فكرته. ونقول مرة أخرى أنه قبل لومونتي، وقبل آدم سميث (كان آدم سميث تلميذا لفرجسون Fergson. لقد قدم فرجسون عرضا واضحا عن الموضوع في الفصل الذي يبحث بصورة خاصة تقسيم العمل).
« يشك بعض الأحيان أن كانت مقدرة الأمة تزداد بتقدم الفنون. إن كثيرا من الفنون الميكانيكية.. تنجح كثيرا تحت ضغط الشعور والمنطق، والجهل هو أم الصناعة والخرافة، والانعكاس والخطأ يخضعان للخطأ، ولكن عادة تحريك اليد أو القدم مستقلة عن المنطق والجهل. والصناعات نسبيا، تزدهر حيث لا يستشار العقل وحيث يمكن المعمل – دون جهد كثير وتفكير – أن يعتبر كآلة، والناس هم أقسام هذه الآلة... إن المدير العام يقدر أن يكون ماهرا في معرفة الحرب، بينما مهارة الجندي يمكن أن تنحصر بحركات قليلة باليد والرجل. فالأول يمكن أن يربح ما خسره الثاني.. والتفكير في هذا العصر، عصر التفرقة يمكن أن يصبح مهنة خاصة ». فرجسون، « بحث في تاريخ المجتمع المدني ».
ولكي نضع حدا لهذا الوصف الأدبي نفكر أن « كل الاقتصاديين أصروا على حسنات تقسيم العمل أكثر مما أصروا على سيئاته ». يكفي القول عندما نذكر سيسموندي.
وهكذا طالما أن حسنات تقسيم العمل تهمنا، فما كان من برودون إلا أن يقتطع الجمل والعبارات التي يعرفها.
ودعنا ننظر كيف يستنتج من تقسيم العمل – ويأخذ التقسيم كقاعدة عامة وكلائحة وكفكرة – السيئات المتعلقة به. وكيف يمكن أن هذه اللائحة أو هذا القانون أن يدعو إلى توزيع غير عادل للعمل فيدمر طريقة التعامل لبرودون ؟
« وفي هذه الساعة الرهيبة لدى تقسيم العمل تبتدئ العواطف تعصف بالانسانية. إن النجاح لا يكون في حالة متساوية وعلى نمط واحد... إنه يبتدئ بامتلاك عدد صغير من ذوي الامتيازات... إنه تفصيل الأشخاص في مجرى التقدم الذي حفظ لنا الاعتقاد في لامساواة الأحوال الطبيعية والالهية، وهذا هو سبب وجود المذاهب، إذ تعم الفوضى كل المجتمع » برودون، المجلد، صفحة 94.
إن تقسيم العمل خلق المذاهب. وأصبحت المذاهب الآن تشكل سيئات تقسيم العمل. وهكذا يكون تقسيم العمل هو الذي خلق السيئات. هل تريد أن تنقص الحقيقة وتسأل ما الذي جعل تقسيم العمل يخلق المذاهب والمؤسسات الفوضوية والأشخاص ذوي الامتيازات؟ سيخبرك برودون : إنه التقدم والنجاح. وما الذي خلق التقدم ؟ إنه التحديد. والتحديد بالنسبة لبرودون هو قبول الأشخاص في مجرى التقدم.
وبعد الفلسفة يأتي التاريخ. وليس التاريخ الوضعي أو التاريخ الديالكتيكي بل هو التاريخ المقارن. يقدم برودون برهانا عن عامل مطبعة في الزمن الحديث وعامل مطبعة في القرون الوسطى، وبين رجل العلم الحديث ورجل العلم في القرون الوسطى، وهو يرجح الميزان لكفة هؤلاء الذين يخلصون قليلا أو كثيرا لتقسيم العمل كما كان مفهوم في القرون الوسطى. إنه يقارن تقسيم العمل في زمن تاريخي معين بتقسيم العمل لزمن تاريخي آخر. أكان هذا ما أراد برودون أن يبرهن عليه ؟ كلا. كان يجب أن يرينا سيئات العمل عامة وسيئات تقسيم العمل كلائحة. وعلاوة على ذلك لماذا نعلق كثيرا على برودون، طالما أننا بعد قليل سنراه يقوم ضد هذه التطورات ؟
يتابع برودون ويقول : إن أول تأثير للعمل الجزئي بعد تحطيم الروح هو تطويل نقط التحول التي تكون في نسب معاكسة لحاصل مجموع الذكاء ... ولكن بما أن طول مدة نقط التحول لا يمكن أن تزيد على 16 إلى 18 ساعة في اليوم – وفي الوقت الذي لا يمكننا أن نأخذ مكافأة من الوقت فإننا نأخذها من السعر فتهبط الأجور. والمؤكد – وهو الشيء الوحيد الذي يجب ملاحظته – أن الضمير العالمي لا يتحدد بنفس النسبة التي نحدد فيها عمل رئيس الورشة وعمل مساعد ميكانيكي. فمن الضروري إذن أن ننقص يوم العمل حتى لا يتأثر العامل – بعد أن يكون قد تأثر بروحه لهذا العمل التأخيري – من الضربة التي أصابت جسده من جراء اضعاف مكافأته ». (المجلد 1، صفحة 97-98).
نحن نمر مرور الكرام على القيمة المنطقية لهذا الاستقرار، هذا الاستقرار الذي يدرسونه كان استقرارا كاذبا يقود للضلال.
وهذا هو صلب وماهية هذا الاستقرار :
إن تقسيم العمل يحقر العامل إلى درجة متأخرة، وبهذه الدرجة المتأخرة تتعلق روح تعيسة، والروح التعيسة بنقصان مستمر لهبوط الأجور ولكي يبرهن أن هذا التنقيص مؤلم لروح تعيسة يقول برودون – وهو يحاول أن يخفف ألم ضميره – هذا هو ما يريد الضمير العالمي. وهل نقدر أن نعد روح برودون في عداد الضمير العالمي؟
إن الاعتماد على الآلة هو بالنسبة لبرودون « تعاكس الفكرة Antithesis المنطقي لتقسيم العمل » وبمساعدة ديالكتيكية يبتدئ بتحويل استعمال الآلة إلى المعمل.
وبعد أن يكون قد افترض مسبقا المصنع الحديث – حتى يجعل الفقر نتيجة تقسيم العمل – يفترض برودون مسبقا أن تقسيم العمل أوجد الفقر، ولكي يأتي إلى المصنع ويكون قادرا أن يمثله ويقدمه كديالكتيك النفي لذلك الفقر. وبعد أن يقضي على العامل أخلاقيا بعملية التأخير والتنقيص التي قام بها، وبعد أن يقضي عليه جسديا بواسطة قلة الأجور، وبعد أن يضع العامل تحت رحمة رئيس العمل، وبعد أن يخفض من قيمة عمله حتى يقارنه بعمل مساعد ميكانيكي، نراه يلقي اللوم مرة أخرى على المصنع وعلى استعمال الآلة لأنها كانت سبب تأخر العامل « لأنها أصبحت سيدا له »، ويكمل تنقيصه وتحقيره إذ يجعل العامل يسقط من درجة عامل إلى درجة عامل بسيط ». يا له من ديالكتيك ممتاز ! ولو كان قد توقف هنا ! لكن كلا، كان عليه أن يوجد تاريخا جديدا لتقسيم العمل، وليس عليه أن يستنبط المتناقضات منه، بل أن يبني المصنع بالنسبة لذوقه. وليصل لهذا الهدف يجد نفسه مجبرا أن ينسى كل ما قاله عن تقسيم العمل.
ينظم العمل ويقسم بطرق مختلفة بناء على العوامل التي تقوم عليها، إن طاحونة اليد تفترض مسبقا تقسيم عمل مختلف عن تقسيم العمل لطاحونة بخارية. وهكذا فهو يصنع التاريخ بهذا الوجه لأنه يريده أن يبتدئ بتقسيم العمل عامة حتى يحصل على آلة خاصة للإنتاج، أي الآلة.
إن استعمال الآلة لم يعد لائحة اقتصادية أكثر مما هي محراث يسحب سكة الفلاحة. إن الآلة هي قوة إنتاجية. والمصنع الحديث – إذ يعتمد على استعمال الآلة – يكون علاقة اقتصادية، ولائحة اقتصادية.
ولننظر كيف تحدث الأشياء في خيال برودون.
« نجد في المجتمع أن المظهر الدائم للآلة هو الفكرة العكسية Antithesis أي القاعدة المعكوسة لتقسيم العمل، إنها احتجاج العبقرية الصناعة على العمل الجزئي. وما هي الآلة؟ إنها طريقة لتوحيد عدة أجزاء من العمل تفرقت من جراء تقسيم العمل. ويمكن تحديد كل آلة كأنها خلاصة لعمليات عديدة... وهكذا بواسطة الآلة يمكن إعادة سيطرة العمل ... واستعمال الآلة – الذي هو في الاقتصاد السياسي مناقض لتقسيم العمل – يمثل نتيجة الفكرة Synthesis والتي يجدها في العقل الإنساني معاكسة للتحليل. لقد فرق التقسيم اقتسام العمل المختلفة وترك كل قسم أن يكرس ذاته للتخصيص الذي يناسبه أكثر من غيره، فالمصنع يجمع العمال وفقا لعلاقة كل جزء بالكل ... إنه يدخل مبدأ السلطة في العمل... ولكن ليس هذا كل ما في الأمر : فالآلة أو المصنع – بعد أن يحقر أو يؤخر العامل لأنه أوجد سيدا له (الآلة) – يكمل تحقيره إذ يجعله يهبط من درجة عامل مهني إلى درجة عامل بسيط ... والفترة التي نمر بها الآن – فترة استعمال آلة – تمتاز بصفة خاصة هي العامل الذي يتقاضى أجرة. إن عامل الأجرة نتيجة لتقسيم العمل واللتبادل » (المجلد 1، صفحة 135، 136، 161).
ولنقدم ملاحظة بسيطة لبرودون. إن تفريق أقسام العمل المختلفة – تاركا كل قسم نوع اختصاصه الذي يناسبه – يعد تفرقة يضع لها برودون تاريخا يعود إلى بداية العالم – ويوجد هذا التفريق اليوم في الصناعة الحديثة في ظل نظام المنافسة.
يستمر برودون ليعطي « تسلسا مهما » ليظهر كيف أن المصنع قام من جراء تقسيم العمل وأن عامل الأجرة قام من جراء وجود المصنع.
1- إنه يفترض رجلا « لاحظ أنه إذا قسم الإنتاج إلى أقسام مختلفة وجعل عاملا يقوم بكل قسم على حدة » فإن قوى الانتاج تتضاعف.
2- هذا الرجل « وهو ماسك بخيط الفكرة يخبر نفسه أنه عندما يشكل جماعة دائمة من العمال يختارهم لهدف خاص يحصل على انتاج أحسن ».
3- يقدم هذا الرجل اقتراحا أو عرضا للرجال الآخرين ليجعلهم أن يعقلوا فكرته وخيط فكرته.
4- هذا الرجل، عند بدء الصناعة، يطبق شروط المساواة مع رفاقه الذين يصبحون بعدئذ عماله.
5- كل واحد يتحقق، بالواقع، أن هذه المساواة الأصلية يجب أن تختفي بسرعة وفقا لمركز السيد واعتمادا عامل الأجرة عليه.
هذا هو مثال طريقة التاريخ الوضعي.
ودعنا الآن نفحص – من الناحية التاريخية والاقتصادية – إن كان المصنع أو الآلة قد أدخلت مبدأ السلطة في المجتمع نتيجة لتقسيم العمل، فيما إذا عوضت للعامل من جهة بينما اخضعته للسلطة من جهة ثانية، وفيما إذا كانت الآلة عبارة عن إعادة تشكيل تقسيم العمل.
إن المجتمع كله يمثل المصنع بداخله وله أيضا تقسيم العمل. وإذا أخذ شخص تقسيم العمل في معمل ما حتى يطبقه على المجتمع كله، نجد أن المجتمع الذي ينظم جيدا لانتاج الثروة يجب أن يكون له رئيس، مستخدم واحد. ويوزع هذا الرئيس الواجبات على أعضاء الجماعة العديدين بناء على قاعدة ثابتة ولكن ليست هذه هي الحالة. بينما نجد داخل المصنع الحديث أن تقسيم العمل ينظم برداءة بواسطة المستخدم، نجد أن المجتمع الحديث لا يملك قاعدة أخرى ولا سلطة أخرى لأجل توزيع العمل إلا المنافسة الحرة.
كان تقسيم العمل في النظام البطريكي وفي نظام المذاهب وفي النظام الاقطاعي والنظام التضامني موجودا في المجتمع كله وفقا لقواعد ثابتة. هل هو المشروع الذي وضع هذه القواعد؟ كلا. لقد انبثقت في الأصل عن أحوال الانتاج المادي، وأصبحت قوانين بعد ذلك. ونجد بهذه الطريقة أن أشكال تقسيم العمل المختلفة أصبحت قواعد كثيرة للتنظيم الاجتماعي. وبما يتعلق بتقسيم العمل في المعمل فإن تطورة ونموه كان قليلا كما كان في المجتمع.
ونقدر أن نقول كقاعدة عامة أنه كلما قلت السلطة القائمة على تقسيم العمل داخل المجتمع كلما زاد نمو تقسيم العمل في المعمل، وكلما خضع العمال في المعمل لسلطة شخص واحد. وهكذا نجد السلطة في المعمل والسلطة في المجتمع – بالنسبة لتقسيم العمل – بنسبة معاكسة لبعضها.
والسؤال الذي يطرح الآن ! ما هو هذا المصنع الذي تجد فيه الأعمال متفرقة عن بعضها، وتجد عمل كل عامل مصغرا لعملية بسيطة، وتجد السلطة ورأس المال يجتمعان ليوجها ويقودا العمل، وكيف وجد هذا العمل ؟ وحتى نجيب على هذا السؤال علينا أن نفحص كيفية نمو الصناعة المنتجة، وإني لا أتكلم هنا عن تلك الصناعة التي لا نسميها صناعة حديثة بآلاتها، ولا نسميها صناعة مهنيي القرون الوسطى ولا نسيمها صناعة وطنية. وسوف لن نتطرق لذكر تفاصيل عديدة : بل سنقدم عدة نقط رئيسية لنظهر أن التاريخ لا يضيع بالقواعد والمعادلات.
إن الشروط الرئيسية لتشكيل الصناعة المنتجة كانت : تجمع رأس المال واكتشاف أمريكا واستيراد معادنها الثمينة، هو الذي سهل تجمع رأس المال.
لقد برهن أن زيادة وسائل التبادل أدت إلى تخفيض الأجور وتخفيض ريع الأرض. هذا من جهة، ومن جهة ثانية أدت إلى نمو الأرباح الصناعية. وبشكل آخر : أدت إلى الحد الذي غرقت إليه الطبقة الحاكمة وطبقة العمال، السيد الاقطاعي والشعب الفقير، لقد أدى هذا التناقض إلى قيام الرأسمالي « البورجوازي ».
كانت توجد ظروف أخرى ساعدت على نمو الصناعة المنتجة : إن زيادة السلع الموضوعة للتداول من اللحظة التي اخترقت فيها التجارة الهند الشرقية عن طريق رأس الرجاء الصالح، أدت إلى طرق باب الاستعمار وإلى نمو التجارة البحرية.
وهناك نقطة أخرى لم تبرهن بكفاية لدى دراستنا لتاريخ الصناعة المنتجة وهي تحطيم اتباع وضحايا الأسياد الاقطاعيين الذين أصبحوا متجولين فقراء قبل أن يدخلوا المعمل. إن خلق المعمل سبقته بطالة وفقر شديد في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر.
وقد وجد المعمل مساعدا قويا في الفلاحين العديدين الذين كانوا يطردون باستمرار من القرى وسبب هذا الطرد كان من جراء تحويل الحقول إلى مراع ومن جراء التقدم في الزراعة التي أصبحت تحتاج لعمال قليلين لفلاحة الأرض، لقد تجمهر هؤلاء الفلاحون في المدن أثناء القرن كله.
فنمو السوق وتجمع رأس المال وتكييف الوضع الاجتماعي للطبقات، ولوجود عدد كبير من الأشخاص مجردين عن دخلهم، هذه كلها هي الأحوال التاريخية التي أدت لتشكيل الصناعة. ولم تكن الأسباب، كما يقول برودون، عبارة عن اتفاقات ودية بين أفراد متساوين أدت إلى جذب الناس للمعمل. ولم يكن السبب الذي أدى لخلق الصناعة نائما في صدور النقابات القديمة، لقد كان التاجر الذي أصبح رئيس المصنع الحديث، ولم يكن رئيس النقابة القديمة هو الذي أصبح رئيس المصنع. وتقريبا في كل مكان كنا نجد صراعا هائلا بين الصناعة وبين أرباب المهن.
إن تجمع وحصر الوسائل والعمال سبق نمو تقسيم العمل داخل المصنع. وكانت الصناعة عبارة عن تجمع كثير من العمال وكثير من المهنيين في مكان واحد وفي غرفة واحدة ليكونوا تحت أمر الرأسمالي أكثر مما كانت نتيجة العمل وتقسيمه أو لتعرض عامل مختص لعمل بسيط جدا.
وكانت منفعة المعمل لا تقوم إلا قليلا على تقسيم العمل ولم تقم على أن المعمل كان على نطاق واسع أو أن المصاريف غير الضرورية يجب أن توفر الخ.. وفي نهاية القرن السادس عشر وفي بداية القرن السابع عشر : كنا نجد الصناعة الهولندية لا تعرف شيئا عن تقسيم العمل.
إن نمو تقسيم العمل يفترض تجميع العمال في المصنع. ولم يكن هناك برهان واحد – في القرن السادس عشر والسابع عشر – يدلنا على وجود فروع مختلفة لمهنة عمل واحد أو أن الصناعة كانت تحتاج لتجميع عدد من العمال ليختصوا في عمال ما، ليقوموا بالعمل. ولكن حالما وُجد الناس ووُجدت الآلام معهم نجد عندئذ أن تقسيم العمل – كالتقسيم الذي كان موجودا بشكل نقابات – كان نتيجة لوجود الناس والآلات بجانبهم، وعكست هذه النتيجة تقسيم العمل داخل المعمل.
ولنقل لبرودون الذي يرى الأشياء عاليها سافلها – إن كان يراها – أن تقسيم العمل – بنظر آدم سميث – يسبق المعمل الذي هو شرط لوجوده.
واستعمال الآلة – كما ندعوها – تعود لأواخر القرن الثامن عشر ولا تعد شيئا أكثر حقا من أن نرى أن الآلة، الفكرة المعاكسة Antithesis، لتقسيم العمل، ونتيجة الفكرة Synthesis تعيد وحدة تقسيم العمل.
إن الآلة هي توحيد وسائل العمل، وهي أيضا توحيد عدة عمليات للعامل نفسه « وعندما، لدى تقسيم العمل، تكون كل عملية خاصة مبسطة وسهلة لاستعمال أداة واحدة، فإن اتحاد هذه الأدوات لكل عملية خاصة، وعندما نضعها لتقوم بحركة واحدة في الجرك، هذا العمل يشكل مفهوم – الآلة ». إن الأدوات البسيطة وتجميع الأدوات البسيطة، والأداة المركبة، لدى وضع هذه الأدوات لتحريك الأداة المركبة بيد واحدة بواسطة الرجل، ولدى تحريك هذه الأدوات بالقوى الطبيعية بالآلات، وطريقة الآلات التي لها محرك واحد، وطريقة الآلات التي لها محرك أوماتيكي – هذا هو تقدم الآلة.
إن تجمع وسائل الانتاج وتقسيم العمل وعدم تفريقهما عن بعضهما يشبه في الحقل السياسي، تجمع السلطة العامة وتقسيم المصالح الفردية. فانكلترا – وهي بحالة تجمع الأرض، والأرض هي أداة العمل الزراعي – كان لها في نفس الوقت تقسيم الوقت للعمل الزراعي وتطبيق الآلة لاستثمار التربة. وفرنسا التي كانت معروفة بتقسيم الوسائل أي طريقة الممتلكات – لم يكن لها لا تقسيم عمل زراعي ولا تطبيق الآلة لاستثمار التربة.
إن تجمع وسائل العمل بالنسبة لبرودون هو نفي تقسيم العمل. وفي الواقع نجد العكس. وبما أن تجمع الوسائل ينمو فإن التقسيم ينمو أيضا، والعكس بالعكس. وهذا هو السبب أن كل كل اختراع ميكانيكي كبير يتبعه تقسيم عمل أكبر، وكل زيادة في تقسيم العمل يخلق بدوره اختراعات ميكانيكية جديدة.
لا نريد أن نذكر أن التقدم العظيم لتقسيم العمل ابتدأ في انكلترا بعد اختراع الآلة. وهكذا فالحياكيون والغزالون كانوا بأكثريتهم فلاحين مثل الفلاحين والحياكين الذين لا نزال نجدهم في الدول المتخلفة. إن اختراع الآلة سبب تفريق الصناعة المنتجة عن الصناعة الزراعية. لقد مزقت الآلة بين النساج والغزّال وقد كانوا متسلسلين من نفس العائلة أي من نفس نوع العمل. وشكرا للآلة، فالغزال أصبح يعيش في انكلترا بينما النساج أصبح يعيش في جزر الهند الشرقية – وقبل اختراع الآلة كانت صناعة بلاد تقوم بالدرجة الأولى على المواد الأولية التي كانت من منتوجات ترابها : ففي انكترا – الصوف، وفي ألمانيا – الغزل، وفي فرنسا – الحرير، وفي جزر الهند الشرقية وفي الشرق – القطن الخ.. وشكرا لادخال الآلة والبخار لأن تقسيم العمل أصبح قادرا أن يخلق هذه المقاييس التي تعتمد عليها الصناعة ذات الانتاج الضخم في السوق العالمي وفي التبادل العالمي – في تقسيم العمل العالمي. وباختصار – نقول أن الآلة لها تأثير كبير على تقسيم العمل لأنه لدى صناعة شيء ما نقدر أن نجد وسيلة لتنتج أقسامه ميكانيكيا : والشيء المصنوع ينقسم إلى عملين مستقلين عن بعضهما.
وهل نحتاج أن نتكلم عن الهدف الإنساني والهدف الإلهي الذي يكتشفه برودون في اكتشاف واستعمال أول آلة؟
عندما نما السوق في انكلترا نموا كبيرا حتى أن الصناعة اليدوية لم يعد لها مكان، نجد أن الحاجة للآلة أصبحت مهمة. وبعدئذ أتت فكرة تطبيق العلم الميكانيكي الذي ابتدأ ينمو في القرن الثامن عشر.
لقد ابتدأ المعمل الأوتوماتيكي عمله ببعض الأعمال الصغيرة التي كانت تحسب أعمالا إنسانية. لقد كان الأولاد يعملون تحت ضربات السوط، وجعل الأولاد مسألة مصلحة حتى أن المعامل أخذت تفتش عن الأيتام لتشغيلهم. وكانت كل القوانين المطبقة على تعليم المهن قد أعيدت لأنه – لنستعمل جملة برودون – لم يعد أحد بحاجة للعمال كنتيجة للفكرة Synthesis. وأخيرا من سنة 1825 أو ما بعدها كانت تقريبا كل الاختراعات الجديدة نتيحة لاصطدامات بين العامل ورب العمل، لأنه رب العمل كان يحاول مهما كلفه الأمر أن ينقص ويحقر مقدرة الاختصاص عند العامل، وبعد كل اضراب مهما كانت أهميته كانت تظهر آلة جديدة، وقليلا ما كان العامل يرى في الآلة نوعا من استعاضة عمله لكنه في القرن الثامن عشر وقف موقفا لسلطة الآلة.
يقول الدكتور أور « لقد اخترع هوايت الآلة التي تدور ... (وأصابع الغزل اخترعها اركرايت)... ولم تكن الصعوبة الوحيدة في اختراع الآلة لذاتها ... بل الصعوبة في تثقيف الناس ليستلموا عادات العمل غير المنظمة وأن تجعلهم يخضعون أنفسهم لنظام الآلة المتغير. ولوضع شريعة ناجحة لنظام المعمل (تناسب حاجيات ومتطلبات آداب المعمل) كان مشروع اركرايت ».
ونقول باختصار أن ادخال الآلة سبب نمو تقسيم العمل ضمن المجتمع، وسهل عمل العامل ضمن المعمل، وسبب تجمع رأس المال وسبب أيضا تقسيم الناس.
وعندما يريد برودون أن يكون اقتصاديا وأن يهمل لزمن ما « تطور الأفكار في فهم علاقة اللوائح » فإنه يتخذ أقواله من آدم سميث ولكي نشرح هذا جيدا علينا أن نقرأ هذه المقاطع من كتاب الدكتور أور ( كتابه « فلسفة الصناعيين » ).
« عندما كتب آدم سميث آراءه الإقتصادية الخالدة – وكانت الآلة الأوتوماتيكية تكاد أن تكون مجهولة – أعتـُبر تقسيم العمل المبدأ الأول لتحسين الصناعة وبرهن في مثاله عن صناعة الدبُّوس – كيف أن كل صاحب مهنة وهو قادر على أن يتمرن ليتخصص في نقطة واحدة يصبح عاملا أرخص وأسرع. ورأى في في كل فرع من فروع الصناعة أن بعض الأقسام – بناءاً على مثال صناعة الدبوس – سهلة مثل قطع دبابيس من الأسلاك بأطوال متناسبة وبعضها صعب مثل تشكيل وتثبيت الرؤوس (أي رؤوس الدبابيس) ! واستنتجَ أن لكل قسم من أقسام صناعة الدبوس يجب تعيين عامل ذي قيمة مناسبة، وهذه القيمة المناسبة تشكل جوهر تقسيم العمل.. ولكن الشيء الذي كان على أيام الدكتور سميث موضوعاً مهماً، لا يمكن أن يُعدَّ اليوم هاماً ؛ لكي لا نقود الشعب إلى الخطأ، ولكي لا يكون مبدءاً للصناعة. وفي الواقع أن التقسيم، أو بالأحرى تكييف العمل لذكاء الناس المختلف لا يفكر به المعمل. وعلى العكس عندما تحتاج عملية ما مهارة خاصة وثبات يد، فإن هذه العملية لا تطبق على العامل الماهر؛ لأن عملاً آخر لايناسبه يُعطى له، ويقوم بعمل ميكانيكي آخر يقوم به طفل صغير.
« إن مبدأ نهج المصنع هو – استبدال مهارة اليد بالعلم الميكانيكي – تفريق عملية لأقسامها الضرورية، بالنسبة لتقسيم وإعطاء درجات العمل للعمال والمهنيين. ففي أيام الصناعة اليدوية كان الإنتاج يكلف كثيراً، ولكن بالطريقة الأوتوماتيكية (أي الآلة) نجد أن المهارة في العمل تتفوق ويستعاض عنها بأناس ينظرون إلى الآلات فقط ولا يعملون شيئاً بأيديهم. »
« ونرى أنه كلما كان العامل ماهراً، ورغم أنه قادر على أن يبدع في عمله، فإنه لن ينفع شيئاً طالما أن الآلة هي التي تقوم بالعمل عنه، ولذلك فهو يسبب خسارةً لكل المصنع إن عمل بمهارته. فالشيء المهم بالنسبة للصناعة الحديثة هو– إتحاد رأس المال والعلم – تخفيف مهارة العمال. »
« وبالنسبة لإيجاد درجات العمل نجد أن الرجل عليه أن يخدم في مهنته سنين عديدة قبل أن تصبح يده أو عينه ماهرة لكي تقوم بالعمل الآلي، ولكن لدى تقسيم العمل إلى أعمال صغيرة جداً، أو لدى قيام الآلات بهذه الأعمال الصغيرة، نرى أنه لا يمكن تسليم هذه الآلة لشخص معتدل في مهارته ويمكن مدير العمل استبداله متى شاء.أن هذا لا يتفق مع مبدأ تقسيم العمل في الماضي؛ إذ كان يوضع رجل لتهيئة رأس الدبوس وآخر لتنعيمه، هذا العمل البسيط المزعج طول الحياة... ولكن لدى تساوي العمال كلهم بوجود آلات تعمل بذاتها، فإن فن الشخص ومهارته يجب أن تخضع لتمرين خاص يناسب عمل الآلة.. وبما أن العمل هو الوقوف على آلة منظمة بذاتها فإنه يقدر أن يستلم عمله بمدة قصيرة، وعندئذ ينتقل من العمل على آلة للعمل على آلة أخرى، فإنه يبدل عمله ويوسع آراءه لأنه يفكر بهذه الأقسام المختلفة تنتج عن عمله وعمل رفاقه العمال. إذاً لنتخلص من النظرة الضيقة التي وصفت بها تقسيم العمل أنها تضيق أقف العامل،إن هذه النظرة الضيقة لا توجد بعد في حالة التوزيع العادل للصناعة... »
« إن هدف تحسين كل صناعة حتى تتفوق على العمل البشري، أو لكي تنقص من قيمته ولكي يستعيض تحسين الصناعة بعمل الرجال عن عمل النساء والأولاد أو بالأستغناء عن عمل المهنيين... وهذا الميل الذي يهدف لخلق أولاد بعيون يقظة، وبأصابع ماهرة عوضاً عن عمال مياومة ولهم إختبارات كبيرة يظهر لنا كيف أن الصناعيين المتنورين لم يطبقوا نظرية تقسيم العمل بالنسبة لدرجات المهارة ».
يقول لومتني « إننا نُعجب ونُدهش عندما نرى بين الأقدمين شخصاً يميزه عن غيره بأنه فيلسوف، وشاعر، وخطيب، ومؤرخ، وكاهن، وإداري وقائد جيش من الدرجة الأولى. إن أرواحنا تتألم لمثل هذا الحكم. وكل واحد منا يحصر نفسه في دائرة صغيرة، ويطلق النار على نفسه، ولا أدري إن كان هذا العمل يوسع العلم أو ينقصه ».
والصفة التي نطلقها على تقسيم العمل في المصنع الأوتوماتيكي هي أن العمل هناك فقد صفته في الإختصاص. ولكن عندما يقف كل نمو خاص فالحاجة للتعليم والميل لوجود نمو جديد للفردية يقود الثورة. إن المصنع الأوتوماتيكي يقضي على الإختصاصيين والمهنيين المجانين.
إن برودون – وهو لم يفهم هذه الناحية الثورية في المصنع الأوتوماتيكي – يأخذ خطوة للوراء ويقترح على العامل أنه لا يقوم فقط بالقسم الثاني عشر من صناعة الدبوس، لكنه يجب أن يعمل كل الأقسام الثانية عشرة. والعامل عندئذ يصل إلى فهم وإدراك صناعة الدبوس. وهذه هي نتيجة فكرة برودون – ولا أحد يعارض أنه لدى القيام بحركة للأمام وحركة للوراء، يعني القيام بحركة نتيجة فكرة.
ولنقل خلاصة، نقول أن برودون لم يكن إلا بورجوازياً صغيراً مثاليا. ولكي يحقق مثاليته ما كان يفكر إلا أن يرجعنا إلى العامل اليومي، وإلى المهنيين الإختصاصيين في القرون الوسطى. هذا ما يقوله في مكان ما في كتابه أنه يكفي أن يخلق عملاً عظيما مرة في الحياة، وأنه يشعر أنه كان رجلا ولو مرة واحدة ! ليس هذا العمل العظيم هو الشيء الذي كانت تطلبه النقابات التجاريه في القرون الوسطى.
تقسيم العمل واستعمال الآلة
إن تقسيم العلم بالنسبة لبرودون يفتح الباب لمجموعات التطورات الاقتصادية :
الجانب الصالح لتقسيم العمل
« إن تقسيم العمل هو الطريقة التي تحقق مساواة الأحوال والذكاء » (المجلد 1، صفحة 93).
« أصبح تقسيم العمل بالنسبة لنا آلة الفقر » (المجلد 1، صفحة 94).
الجانب الشرير لتقسيم العمل
« إن العمل، لدى تقسيم ذاته وفقا للقانون الخاص به، ينتهي إلى نفي أهدافه ويحطم ذاته » (المجلد 1، صفحة 94)
حل المسألة
« لكي تجد الحل الذي يقضي على مساوئ تقسيم العمل وفي نفس الوقت تحتفظ بتأثيراته النافعة ». (المجلد 1، صفحة 97(.
إن تقسيم العمل بالنسبة لبرودون قانون أبدي ولائحة بسيطة مجردة. إذن فالتجريد أو الفكرة يجب أن تكفي ليشرح تقسيم العمل وفقا لأزمنة تاريخية مختلفة. إن المذاهب، والشركات التضامنية، ذات الانتاج الضخم يجب أن تفسرها الكلمة الوحيدة « التقسيم » وأول ما يجب أن تعمله هو أن تدرس بإمعان معنى كلمة « تقسيم » ولا تحتاج بعدئذ أن تدرس العوامل المؤثرة العديدة التي تعطي تقسيم ا لعمل صفة محددة في كل عصر.
نجد بالتأكيد، أن الأشياء تصبح أسهل بكثير لو أننا أخفضناها للوائح برودون. والتاريخ لا يتابع مجراه بتنظيم التام كاللائحة. لقد أخذت ألمانيا ثلاث سنوات كاملة لكي تؤسس أول تقسيم للعمل ولفصل المدن عن الضواحي. وبنسبة علاقة المدينة والقرية نجد أن كل المجتمع قد نال أوصافه. وإذا أخذنا هذا المظهر من مظاهر تقسيم العمل، يحصل لدينا الجمهوريات القديمة، ويحصل لديك الاقطاعية المسيحية، وتحصل على انكلترا القديمة بباروناتها وتحصل على انكلترا الجديدة بأسياد القطن فيها.
ففي القرن الرابع والخامس عشر، عندما لم توجد مستعمرات بعد، وعندما لم يمكن لأمريكا تأثيرها على أوروبا ولم تكن معروفة جيدا، وعندما كانت آسيا توجد وتعيش بظل القسطنطينية، وعندما كان المتوسط محور النشاط التجاري، وعندما كان الاسبانيون والبرتغاليون والهولانديون والانكليز والفرنسيون، عندما كان لهم مستعمرات مؤسسة في كل أقسام العالم، إن اتساع السوق وهيكله الخارجي يعطي تقسيم العمل في أزمنة مختلفة شكلا خارجيا يعطيه صفته التي كان من الصعب الوصول إليها من كلمة تقسيم، من الفكرة، من اللائحة.
يقول برودون « إن كل الاقتصاديين منذ آدم سميث أشاروا إلى حسنات ومساوئ قانون التقسيم ولكنهم أصروا على الحسنات أكثر مما أصروا على السيئات لأن الحسنات كانت ذات خدمات أكثر لتفاؤلهم، ولم يعذب أحد بينهم نفسه ليعرف ما هي مساوئ القانون.. فكيف نرى نفس المبدأ يقود إلى نتائج معاكسة ؟ لم يوحد اقتصادي قبل أو بعد آدم سميث قدر أن يدرك أية مسألة يجب حلها. فساي يعترف أنه بتقسيم العمل نجد أن نفس السبب الذي يخلق الصالح يخلق الرديء أيضا ». (المجلد 1، صفحة 95-96).
يذهب آدم سميث أبعد مما يظن برودون. لقد رأى بوضوح « إن الفرق في المواهب الطبيعية عند رجال مختلفين، يقود إلى تقسيم العمل ». وكمبدأ، نجد أن الحمال يختلف عن الفيلسوف أقل مما يختلف كلب كبير عن كلب كبير آخر أصغر بقليل. إنه تقسيم العمل الذي أوجد خليجا بين الاثنين. وكل هذا لم يمنع برودون أن يقول في مكان ما أن آدم سميث لم تكن عنده أقل فكرة عن المساوئ التي يخلقها تقسيم العمل. وهذا ما يجعله يقول مرة أخرى أن ج. ب. ساي كان أول من اعترف أن تقسيم العمل يسبب « إنتاج الصالح وإنتاج الردئ ».
والآن لنستمع إلى لومونتي Lemontey « لكل واحد حاجته ».
« لقد شرفني ج. ب. ساي عندما تبنى في كتابه عن الاقتصاد السياسي المبدأ الذي أخرجته للنور، في المقطع الذي يتحدث به عن تقسيم العمل. وقد اقنع أن يعود إلى كتابي ويقول أنه أخذ المبدأ عني. هذا هو الدافع الوحيد الذي أقدر أن أصف به سكوت كاتب غني في مجموعاته أن يتنكر لدين صغير ». لومونتي، « الأعمال الكاملة ».
ولنقدم هذا المعروف له : لقد عرض لومونتي نتائج تقسيم العمل غير المسرة كما هي معروفة اليوم ولم يجد برودون شيئا ليضيفه عليه. والآن بسبب خطيئة برودون، نعود إلى هذا السؤال، من سبق الآخرين في عرض فكرته. ونقول مرة أخرى أنه قبل لومونتي، وقبل آدم سميث (كان آدم سميث تلميذا لفرجسون Fergson. لقد قدم فرجسون عرضا واضحا عن الموضوع في الفصل الذي يبحث بصورة خاصة تقسيم العمل).
« يشك بعض الأحيان أن كانت مقدرة الأمة تزداد بتقدم الفنون. إن كثيرا من الفنون الميكانيكية.. تنجح كثيرا تحت ضغط الشعور والمنطق، والجهل هو أم الصناعة والخرافة، والانعكاس والخطأ يخضعان للخطأ، ولكن عادة تحريك اليد أو القدم مستقلة عن المنطق والجهل. والصناعات نسبيا، تزدهر حيث لا يستشار العقل وحيث يمكن المعمل – دون جهد كثير وتفكير – أن يعتبر كآلة، والناس هم أقسام هذه الآلة... إن المدير العام يقدر أن يكون ماهرا في معرفة الحرب، بينما مهارة الجندي يمكن أن تنحصر بحركات قليلة باليد والرجل. فالأول يمكن أن يربح ما خسره الثاني.. والتفكير في هذا العصر، عصر التفرقة يمكن أن يصبح مهنة خاصة ». فرجسون، « بحث في تاريخ المجتمع المدني ».
ولكي نضع حدا لهذا الوصف الأدبي نفكر أن « كل الاقتصاديين أصروا على حسنات تقسيم العمل أكثر مما أصروا على سيئاته ». يكفي القول عندما نذكر سيسموندي.
وهكذا طالما أن حسنات تقسيم العمل تهمنا، فما كان من برودون إلا أن يقتطع الجمل والعبارات التي يعرفها.
ودعنا ننظر كيف يستنتج من تقسيم العمل – ويأخذ التقسيم كقاعدة عامة وكلائحة وكفكرة – السيئات المتعلقة به. وكيف يمكن أن هذه اللائحة أو هذا القانون أن يدعو إلى توزيع غير عادل للعمل فيدمر طريقة التعامل لبرودون ؟
« وفي هذه الساعة الرهيبة لدى تقسيم العمل تبتدئ العواطف تعصف بالانسانية. إن النجاح لا يكون في حالة متساوية وعلى نمط واحد... إنه يبتدئ بامتلاك عدد صغير من ذوي الامتيازات... إنه تفصيل الأشخاص في مجرى التقدم الذي حفظ لنا الاعتقاد في لامساواة الأحوال الطبيعية والالهية، وهذا هو سبب وجود المذاهب، إذ تعم الفوضى كل المجتمع » برودون، المجلد، صفحة 94.
إن تقسيم العمل خلق المذاهب. وأصبحت المذاهب الآن تشكل سيئات تقسيم العمل. وهكذا يكون تقسيم العمل هو الذي خلق السيئات. هل تريد أن تنقص الحقيقة وتسأل ما الذي جعل تقسيم العمل يخلق المذاهب والمؤسسات الفوضوية والأشخاص ذوي الامتيازات؟ سيخبرك برودون : إنه التقدم والنجاح. وما الذي خلق التقدم ؟ إنه التحديد. والتحديد بالنسبة لبرودون هو قبول الأشخاص في مجرى التقدم.
وبعد الفلسفة يأتي التاريخ. وليس التاريخ الوضعي أو التاريخ الديالكتيكي بل هو التاريخ المقارن. يقدم برودون برهانا عن عامل مطبعة في الزمن الحديث وعامل مطبعة في القرون الوسطى، وبين رجل العلم الحديث ورجل العلم في القرون الوسطى، وهو يرجح الميزان لكفة هؤلاء الذين يخلصون قليلا أو كثيرا لتقسيم العمل كما كان مفهوم في القرون الوسطى. إنه يقارن تقسيم العمل في زمن تاريخي معين بتقسيم العمل لزمن تاريخي آخر. أكان هذا ما أراد برودون أن يبرهن عليه ؟ كلا. كان يجب أن يرينا سيئات العمل عامة وسيئات تقسيم العمل كلائحة. وعلاوة على ذلك لماذا نعلق كثيرا على برودون، طالما أننا بعد قليل سنراه يقوم ضد هذه التطورات ؟
يتابع برودون ويقول : إن أول تأثير للعمل الجزئي بعد تحطيم الروح هو تطويل نقط التحول التي تكون في نسب معاكسة لحاصل مجموع الذكاء ... ولكن بما أن طول مدة نقط التحول لا يمكن أن تزيد على 16 إلى 18 ساعة في اليوم – وفي الوقت الذي لا يمكننا أن نأخذ مكافأة من الوقت فإننا نأخذها من السعر فتهبط الأجور. والمؤكد – وهو الشيء الوحيد الذي يجب ملاحظته – أن الضمير العالمي لا يتحدد بنفس النسبة التي نحدد فيها عمل رئيس الورشة وعمل مساعد ميكانيكي. فمن الضروري إذن أن ننقص يوم العمل حتى لا يتأثر العامل – بعد أن يكون قد تأثر بروحه لهذا العمل التأخيري – من الضربة التي أصابت جسده من جراء اضعاف مكافأته ». (المجلد 1، صفحة 97-98).
نحن نمر مرور الكرام على القيمة المنطقية لهذا الاستقرار، هذا الاستقرار الذي يدرسونه كان استقرارا كاذبا يقود للضلال.
وهذا هو صلب وماهية هذا الاستقرار :
إن تقسيم العمل يحقر العامل إلى درجة متأخرة، وبهذه الدرجة المتأخرة تتعلق روح تعيسة، والروح التعيسة بنقصان مستمر لهبوط الأجور ولكي يبرهن أن هذا التنقيص مؤلم لروح تعيسة يقول برودون – وهو يحاول أن يخفف ألم ضميره – هذا هو ما يريد الضمير العالمي. وهل نقدر أن نعد روح برودون في عداد الضمير العالمي؟
إن الاعتماد على الآلة هو بالنسبة لبرودون « تعاكس الفكرة Antithesis المنطقي لتقسيم العمل » وبمساعدة ديالكتيكية يبتدئ بتحويل استعمال الآلة إلى المعمل.
وبعد أن يكون قد افترض مسبقا المصنع الحديث – حتى يجعل الفقر نتيجة تقسيم العمل – يفترض برودون مسبقا أن تقسيم العمل أوجد الفقر، ولكي يأتي إلى المصنع ويكون قادرا أن يمثله ويقدمه كديالكتيك النفي لذلك الفقر. وبعد أن يقضي على العامل أخلاقيا بعملية التأخير والتنقيص التي قام بها، وبعد أن يقضي عليه جسديا بواسطة قلة الأجور، وبعد أن يضع العامل تحت رحمة رئيس العمل، وبعد أن يخفض من قيمة عمله حتى يقارنه بعمل مساعد ميكانيكي، نراه يلقي اللوم مرة أخرى على المصنع وعلى استعمال الآلة لأنها كانت سبب تأخر العامل « لأنها أصبحت سيدا له »، ويكمل تنقيصه وتحقيره إذ يجعل العامل يسقط من درجة عامل إلى درجة عامل بسيط ». يا له من ديالكتيك ممتاز ! ولو كان قد توقف هنا ! لكن كلا، كان عليه أن يوجد تاريخا جديدا لتقسيم العمل، وليس عليه أن يستنبط المتناقضات منه، بل أن يبني المصنع بالنسبة لذوقه. وليصل لهذا الهدف يجد نفسه مجبرا أن ينسى كل ما قاله عن تقسيم العمل.
ينظم العمل ويقسم بطرق مختلفة بناء على العوامل التي تقوم عليها، إن طاحونة اليد تفترض مسبقا تقسيم عمل مختلف عن تقسيم العمل لطاحونة بخارية. وهكذا فهو يصنع التاريخ بهذا الوجه لأنه يريده أن يبتدئ بتقسيم العمل عامة حتى يحصل على آلة خاصة للإنتاج، أي الآلة.
إن استعمال الآلة لم يعد لائحة اقتصادية أكثر مما هي محراث يسحب سكة الفلاحة. إن الآلة هي قوة إنتاجية. والمصنع الحديث – إذ يعتمد على استعمال الآلة – يكون علاقة اقتصادية، ولائحة اقتصادية.
ولننظر كيف تحدث الأشياء في خيال برودون.
« نجد في المجتمع أن المظهر الدائم للآلة هو الفكرة العكسية Antithesis أي القاعدة المعكوسة لتقسيم العمل، إنها احتجاج العبقرية الصناعة على العمل الجزئي. وما هي الآلة؟ إنها طريقة لتوحيد عدة أجزاء من العمل تفرقت من جراء تقسيم العمل. ويمكن تحديد كل آلة كأنها خلاصة لعمليات عديدة... وهكذا بواسطة الآلة يمكن إعادة سيطرة العمل ... واستعمال الآلة – الذي هو في الاقتصاد السياسي مناقض لتقسيم العمل – يمثل نتيجة الفكرة Synthesis والتي يجدها في العقل الإنساني معاكسة للتحليل. لقد فرق التقسيم اقتسام العمل المختلفة وترك كل قسم أن يكرس ذاته للتخصيص الذي يناسبه أكثر من غيره، فالمصنع يجمع العمال وفقا لعلاقة كل جزء بالكل ... إنه يدخل مبدأ السلطة في العمل... ولكن ليس هذا كل ما في الأمر : فالآلة أو المصنع – بعد أن يحقر أو يؤخر العامل لأنه أوجد سيدا له (الآلة) – يكمل تحقيره إذ يجعله يهبط من درجة عامل مهني إلى درجة عامل بسيط ... والفترة التي نمر بها الآن – فترة استعمال آلة – تمتاز بصفة خاصة هي العامل الذي يتقاضى أجرة. إن عامل الأجرة نتيجة لتقسيم العمل واللتبادل » (المجلد 1، صفحة 135، 136، 161).
ولنقدم ملاحظة بسيطة لبرودون. إن تفريق أقسام العمل المختلفة – تاركا كل قسم نوع اختصاصه الذي يناسبه – يعد تفرقة يضع لها برودون تاريخا يعود إلى بداية العالم – ويوجد هذا التفريق اليوم في الصناعة الحديثة في ظل نظام المنافسة.
يستمر برودون ليعطي « تسلسا مهما » ليظهر كيف أن المصنع قام من جراء تقسيم العمل وأن عامل الأجرة قام من جراء وجود المصنع.
1- إنه يفترض رجلا « لاحظ أنه إذا قسم الإنتاج إلى أقسام مختلفة وجعل عاملا يقوم بكل قسم على حدة » فإن قوى الانتاج تتضاعف.
2- هذا الرجل « وهو ماسك بخيط الفكرة يخبر نفسه أنه عندما يشكل جماعة دائمة من العمال يختارهم لهدف خاص يحصل على انتاج أحسن ».
3- يقدم هذا الرجل اقتراحا أو عرضا للرجال الآخرين ليجعلهم أن يعقلوا فكرته وخيط فكرته.
4- هذا الرجل، عند بدء الصناعة، يطبق شروط المساواة مع رفاقه الذين يصبحون بعدئذ عماله.
5- كل واحد يتحقق، بالواقع، أن هذه المساواة الأصلية يجب أن تختفي بسرعة وفقا لمركز السيد واعتمادا عامل الأجرة عليه.
هذا هو مثال طريقة التاريخ الوضعي.
ودعنا الآن نفحص – من الناحية التاريخية والاقتصادية – إن كان المصنع أو الآلة قد أدخلت مبدأ السلطة في المجتمع نتيجة لتقسيم العمل، فيما إذا عوضت للعامل من جهة بينما اخضعته للسلطة من جهة ثانية، وفيما إذا كانت الآلة عبارة عن إعادة تشكيل تقسيم العمل.
إن المجتمع كله يمثل المصنع بداخله وله أيضا تقسيم العمل. وإذا أخذ شخص تقسيم العمل في معمل ما حتى يطبقه على المجتمع كله، نجد أن المجتمع الذي ينظم جيدا لانتاج الثروة يجب أن يكون له رئيس، مستخدم واحد. ويوزع هذا الرئيس الواجبات على أعضاء الجماعة العديدين بناء على قاعدة ثابتة ولكن ليست هذه هي الحالة. بينما نجد داخل المصنع الحديث أن تقسيم العمل ينظم برداءة بواسطة المستخدم، نجد أن المجتمع الحديث لا يملك قاعدة أخرى ولا سلطة أخرى لأجل توزيع العمل إلا المنافسة الحرة.
كان تقسيم العمل في النظام البطريكي وفي نظام المذاهب وفي النظام الاقطاعي والنظام التضامني موجودا في المجتمع كله وفقا لقواعد ثابتة. هل هو المشروع الذي وضع هذه القواعد؟ كلا. لقد انبثقت في الأصل عن أحوال الانتاج المادي، وأصبحت قوانين بعد ذلك. ونجد بهذه الطريقة أن أشكال تقسيم العمل المختلفة أصبحت قواعد كثيرة للتنظيم الاجتماعي. وبما يتعلق بتقسيم العمل في المعمل فإن تطورة ونموه كان قليلا كما كان في المجتمع.
ونقدر أن نقول كقاعدة عامة أنه كلما قلت السلطة القائمة على تقسيم العمل داخل المجتمع كلما زاد نمو تقسيم العمل في المعمل، وكلما خضع العمال في المعمل لسلطة شخص واحد. وهكذا نجد السلطة في المعمل والسلطة في المجتمع – بالنسبة لتقسيم العمل – بنسبة معاكسة لبعضها.
والسؤال الذي يطرح الآن ! ما هو هذا المصنع الذي تجد فيه الأعمال متفرقة عن بعضها، وتجد عمل كل عامل مصغرا لعملية بسيطة، وتجد السلطة ورأس المال يجتمعان ليوجها ويقودا العمل، وكيف وجد هذا العمل ؟ وحتى نجيب على هذا السؤال علينا أن نفحص كيفية نمو الصناعة المنتجة، وإني لا أتكلم هنا عن تلك الصناعة التي لا نسميها صناعة حديثة بآلاتها، ولا نسميها صناعة مهنيي القرون الوسطى ولا نسيمها صناعة وطنية. وسوف لن نتطرق لذكر تفاصيل عديدة : بل سنقدم عدة نقط رئيسية لنظهر أن التاريخ لا يضيع بالقواعد والمعادلات.
إن الشروط الرئيسية لتشكيل الصناعة المنتجة كانت : تجمع رأس المال واكتشاف أمريكا واستيراد معادنها الثمينة، هو الذي سهل تجمع رأس المال.
لقد برهن أن زيادة وسائل التبادل أدت إلى تخفيض الأجور وتخفيض ريع الأرض. هذا من جهة، ومن جهة ثانية أدت إلى نمو الأرباح الصناعية. وبشكل آخر : أدت إلى الحد الذي غرقت إليه الطبقة الحاكمة وطبقة العمال، السيد الاقطاعي والشعب الفقير، لقد أدى هذا التناقض إلى قيام الرأسمالي « البورجوازي ».
كانت توجد ظروف أخرى ساعدت على نمو الصناعة المنتجة : إن زيادة السلع الموضوعة للتداول من اللحظة التي اخترقت فيها التجارة الهند الشرقية عن طريق رأس الرجاء الصالح، أدت إلى طرق باب الاستعمار وإلى نمو التجارة البحرية.
وهناك نقطة أخرى لم تبرهن بكفاية لدى دراستنا لتاريخ الصناعة المنتجة وهي تحطيم اتباع وضحايا الأسياد الاقطاعيين الذين أصبحوا متجولين فقراء قبل أن يدخلوا المعمل. إن خلق المعمل سبقته بطالة وفقر شديد في القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر.
وقد وجد المعمل مساعدا قويا في الفلاحين العديدين الذين كانوا يطردون باستمرار من القرى وسبب هذا الطرد كان من جراء تحويل الحقول إلى مراع ومن جراء التقدم في الزراعة التي أصبحت تحتاج لعمال قليلين لفلاحة الأرض، لقد تجمهر هؤلاء الفلاحون في المدن أثناء القرن كله.
فنمو السوق وتجمع رأس المال وتكييف الوضع الاجتماعي للطبقات، ولوجود عدد كبير من الأشخاص مجردين عن دخلهم، هذه كلها هي الأحوال التاريخية التي أدت لتشكيل الصناعة. ولم تكن الأسباب، كما يقول برودون، عبارة عن اتفاقات ودية بين أفراد متساوين أدت إلى جذب الناس للمعمل. ولم يكن السبب الذي أدى لخلق الصناعة نائما في صدور النقابات القديمة، لقد كان التاجر الذي أصبح رئيس المصنع الحديث، ولم يكن رئيس النقابة القديمة هو الذي أصبح رئيس المصنع. وتقريبا في كل مكان كنا نجد صراعا هائلا بين الصناعة وبين أرباب المهن.
إن تجمع وحصر الوسائل والعمال سبق نمو تقسيم العمل داخل المصنع. وكانت الصناعة عبارة عن تجمع كثير من العمال وكثير من المهنيين في مكان واحد وفي غرفة واحدة ليكونوا تحت أمر الرأسمالي أكثر مما كانت نتيجة العمل وتقسيمه أو لتعرض عامل مختص لعمل بسيط جدا.
وكانت منفعة المعمل لا تقوم إلا قليلا على تقسيم العمل ولم تقم على أن المعمل كان على نطاق واسع أو أن المصاريف غير الضرورية يجب أن توفر الخ.. وفي نهاية القرن السادس عشر وفي بداية القرن السابع عشر : كنا نجد الصناعة الهولندية لا تعرف شيئا عن تقسيم العمل.
إن نمو تقسيم العمل يفترض تجميع العمال في المصنع. ولم يكن هناك برهان واحد – في القرن السادس عشر والسابع عشر – يدلنا على وجود فروع مختلفة لمهنة عمل واحد أو أن الصناعة كانت تحتاج لتجميع عدد من العمال ليختصوا في عمال ما، ليقوموا بالعمل. ولكن حالما وُجد الناس ووُجدت الآلام معهم نجد عندئذ أن تقسيم العمل – كالتقسيم الذي كان موجودا بشكل نقابات – كان نتيجة لوجود الناس والآلات بجانبهم، وعكست هذه النتيجة تقسيم العمل داخل المعمل.
ولنقل لبرودون الذي يرى الأشياء عاليها سافلها – إن كان يراها – أن تقسيم العمل – بنظر آدم سميث – يسبق المعمل الذي هو شرط لوجوده.
واستعمال الآلة – كما ندعوها – تعود لأواخر القرن الثامن عشر ولا تعد شيئا أكثر حقا من أن نرى أن الآلة، الفكرة المعاكسة Antithesis، لتقسيم العمل، ونتيجة الفكرة Synthesis تعيد وحدة تقسيم العمل.
إن الآلة هي توحيد وسائل العمل، وهي أيضا توحيد عدة عمليات للعامل نفسه « وعندما، لدى تقسيم العمل، تكون كل عملية خاصة مبسطة وسهلة لاستعمال أداة واحدة، فإن اتحاد هذه الأدوات لكل عملية خاصة، وعندما نضعها لتقوم بحركة واحدة في الجرك، هذا العمل يشكل مفهوم – الآلة ». إن الأدوات البسيطة وتجميع الأدوات البسيطة، والأداة المركبة، لدى وضع هذه الأدوات لتحريك الأداة المركبة بيد واحدة بواسطة الرجل، ولدى تحريك هذه الأدوات بالقوى الطبيعية بالآلات، وطريقة الآلات التي لها محرك واحد، وطريقة الآلات التي لها محرك أوماتيكي – هذا هو تقدم الآلة.
إن تجمع وسائل الانتاج وتقسيم العمل وعدم تفريقهما عن بعضهما يشبه في الحقل السياسي، تجمع السلطة العامة وتقسيم المصالح الفردية. فانكلترا – وهي بحالة تجمع الأرض، والأرض هي أداة العمل الزراعي – كان لها في نفس الوقت تقسيم الوقت للعمل الزراعي وتطبيق الآلة لاستثمار التربة. وفرنسا التي كانت معروفة بتقسيم الوسائل أي طريقة الممتلكات – لم يكن لها لا تقسيم عمل زراعي ولا تطبيق الآلة لاستثمار التربة.
إن تجمع وسائل العمل بالنسبة لبرودون هو نفي تقسيم العمل. وفي الواقع نجد العكس. وبما أن تجمع الوسائل ينمو فإن التقسيم ينمو أيضا، والعكس بالعكس. وهذا هو السبب أن كل كل اختراع ميكانيكي كبير يتبعه تقسيم عمل أكبر، وكل زيادة في تقسيم العمل يخلق بدوره اختراعات ميكانيكية جديدة.
لا نريد أن نذكر أن التقدم العظيم لتقسيم العمل ابتدأ في انكلترا بعد اختراع الآلة. وهكذا فالحياكيون والغزالون كانوا بأكثريتهم فلاحين مثل الفلاحين والحياكين الذين لا نزال نجدهم في الدول المتخلفة. إن اختراع الآلة سبب تفريق الصناعة المنتجة عن الصناعة الزراعية. لقد مزقت الآلة بين النساج والغزّال وقد كانوا متسلسلين من نفس العائلة أي من نفس نوع العمل. وشكرا للآلة، فالغزال أصبح يعيش في انكلترا بينما النساج أصبح يعيش في جزر الهند الشرقية – وقبل اختراع الآلة كانت صناعة بلاد تقوم بالدرجة الأولى على المواد الأولية التي كانت من منتوجات ترابها : ففي انكترا – الصوف، وفي ألمانيا – الغزل، وفي فرنسا – الحرير، وفي جزر الهند الشرقية وفي الشرق – القطن الخ.. وشكرا لادخال الآلة والبخار لأن تقسيم العمل أصبح قادرا أن يخلق هذه المقاييس التي تعتمد عليها الصناعة ذات الانتاج الضخم في السوق العالمي وفي التبادل العالمي – في تقسيم العمل العالمي. وباختصار – نقول أن الآلة لها تأثير كبير على تقسيم العمل لأنه لدى صناعة شيء ما نقدر أن نجد وسيلة لتنتج أقسامه ميكانيكيا : والشيء المصنوع ينقسم إلى عملين مستقلين عن بعضهما.
وهل نحتاج أن نتكلم عن الهدف الإنساني والهدف الإلهي الذي يكتشفه برودون في اكتشاف واستعمال أول آلة؟
عندما نما السوق في انكلترا نموا كبيرا حتى أن الصناعة اليدوية لم يعد لها مكان، نجد أن الحاجة للآلة أصبحت مهمة. وبعدئذ أتت فكرة تطبيق العلم الميكانيكي الذي ابتدأ ينمو في القرن الثامن عشر.
لقد ابتدأ المعمل الأوتوماتيكي عمله ببعض الأعمال الصغيرة التي كانت تحسب أعمالا إنسانية. لقد كان الأولاد يعملون تحت ضربات السوط، وجعل الأولاد مسألة مصلحة حتى أن المعامل أخذت تفتش عن الأيتام لتشغيلهم. وكانت كل القوانين المطبقة على تعليم المهن قد أعيدت لأنه – لنستعمل جملة برودون – لم يعد أحد بحاجة للعمال كنتيجة للفكرة Synthesis. وأخيرا من سنة 1825 أو ما بعدها كانت تقريبا كل الاختراعات الجديدة نتيحة لاصطدامات بين العامل ورب العمل، لأنه رب العمل كان يحاول مهما كلفه الأمر أن ينقص ويحقر مقدرة الاختصاص عند العامل، وبعد كل اضراب مهما كانت أهميته كانت تظهر آلة جديدة، وقليلا ما كان العامل يرى في الآلة نوعا من استعاضة عمله لكنه في القرن الثامن عشر وقف موقفا لسلطة الآلة.
يقول الدكتور أور « لقد اخترع هوايت الآلة التي تدور ... (وأصابع الغزل اخترعها اركرايت)... ولم تكن الصعوبة الوحيدة في اختراع الآلة لذاتها ... بل الصعوبة في تثقيف الناس ليستلموا عادات العمل غير المنظمة وأن تجعلهم يخضعون أنفسهم لنظام الآلة المتغير. ولوضع شريعة ناجحة لنظام المعمل (تناسب حاجيات ومتطلبات آداب المعمل) كان مشروع اركرايت ».
ونقول باختصار أن ادخال الآلة سبب نمو تقسيم العمل ضمن المجتمع، وسهل عمل العامل ضمن المعمل، وسبب تجمع رأس المال وسبب أيضا تقسيم الناس.
وعندما يريد برودون أن يكون اقتصاديا وأن يهمل لزمن ما « تطور الأفكار في فهم علاقة اللوائح » فإنه يتخذ أقواله من آدم سميث ولكي نشرح هذا جيدا علينا أن نقرأ هذه المقاطع من كتاب الدكتور أور ( كتابه « فلسفة الصناعيين » ).
« عندما كتب آدم سميث آراءه الإقتصادية الخالدة – وكانت الآلة الأوتوماتيكية تكاد أن تكون مجهولة – أعتـُبر تقسيم العمل المبدأ الأول لتحسين الصناعة وبرهن في مثاله عن صناعة الدبُّوس – كيف أن كل صاحب مهنة وهو قادر على أن يتمرن ليتخصص في نقطة واحدة يصبح عاملا أرخص وأسرع. ورأى في في كل فرع من فروع الصناعة أن بعض الأقسام – بناءاً على مثال صناعة الدبوس – سهلة مثل قطع دبابيس من الأسلاك بأطوال متناسبة وبعضها صعب مثل تشكيل وتثبيت الرؤوس (أي رؤوس الدبابيس) ! واستنتجَ أن لكل قسم من أقسام صناعة الدبوس يجب تعيين عامل ذي قيمة مناسبة، وهذه القيمة المناسبة تشكل جوهر تقسيم العمل.. ولكن الشيء الذي كان على أيام الدكتور سميث موضوعاً مهماً، لا يمكن أن يُعدَّ اليوم هاماً ؛ لكي لا نقود الشعب إلى الخطأ، ولكي لا يكون مبدءاً للصناعة. وفي الواقع أن التقسيم، أو بالأحرى تكييف العمل لذكاء الناس المختلف لا يفكر به المعمل. وعلى العكس عندما تحتاج عملية ما مهارة خاصة وثبات يد، فإن هذه العملية لا تطبق على العامل الماهر؛ لأن عملاً آخر لايناسبه يُعطى له، ويقوم بعمل ميكانيكي آخر يقوم به طفل صغير.
« إن مبدأ نهج المصنع هو – استبدال مهارة اليد بالعلم الميكانيكي – تفريق عملية لأقسامها الضرورية، بالنسبة لتقسيم وإعطاء درجات العمل للعمال والمهنيين. ففي أيام الصناعة اليدوية كان الإنتاج يكلف كثيراً، ولكن بالطريقة الأوتوماتيكية (أي الآلة) نجد أن المهارة في العمل تتفوق ويستعاض عنها بأناس ينظرون إلى الآلات فقط ولا يعملون شيئاً بأيديهم. »
« ونرى أنه كلما كان العامل ماهراً، ورغم أنه قادر على أن يبدع في عمله، فإنه لن ينفع شيئاً طالما أن الآلة هي التي تقوم بالعمل عنه، ولذلك فهو يسبب خسارةً لكل المصنع إن عمل بمهارته. فالشيء المهم بالنسبة للصناعة الحديثة هو– إتحاد رأس المال والعلم – تخفيف مهارة العمال. »
« وبالنسبة لإيجاد درجات العمل نجد أن الرجل عليه أن يخدم في مهنته سنين عديدة قبل أن تصبح يده أو عينه ماهرة لكي تقوم بالعمل الآلي، ولكن لدى تقسيم العمل إلى أعمال صغيرة جداً، أو لدى قيام الآلات بهذه الأعمال الصغيرة، نرى أنه لا يمكن تسليم هذه الآلة لشخص معتدل في مهارته ويمكن مدير العمل استبداله متى شاء.أن هذا لا يتفق مع مبدأ تقسيم العمل في الماضي؛ إذ كان يوضع رجل لتهيئة رأس الدبوس وآخر لتنعيمه، هذا العمل البسيط المزعج طول الحياة... ولكن لدى تساوي العمال كلهم بوجود آلات تعمل بذاتها، فإن فن الشخص ومهارته يجب أن تخضع لتمرين خاص يناسب عمل الآلة.. وبما أن العمل هو الوقوف على آلة منظمة بذاتها فإنه يقدر أن يستلم عمله بمدة قصيرة، وعندئذ ينتقل من العمل على آلة للعمل على آلة أخرى، فإنه يبدل عمله ويوسع آراءه لأنه يفكر بهذه الأقسام المختلفة تنتج عن عمله وعمل رفاقه العمال. إذاً لنتخلص من النظرة الضيقة التي وصفت بها تقسيم العمل أنها تضيق أقف العامل،إن هذه النظرة الضيقة لا توجد بعد في حالة التوزيع العادل للصناعة... »
« إن هدف تحسين كل صناعة حتى تتفوق على العمل البشري، أو لكي تنقص من قيمته ولكي يستعيض تحسين الصناعة بعمل الرجال عن عمل النساء والأولاد أو بالأستغناء عن عمل المهنيين... وهذا الميل الذي يهدف لخلق أولاد بعيون يقظة، وبأصابع ماهرة عوضاً عن عمال مياومة ولهم إختبارات كبيرة يظهر لنا كيف أن الصناعيين المتنورين لم يطبقوا نظرية تقسيم العمل بالنسبة لدرجات المهارة ».
يقول لومتني « إننا نُعجب ونُدهش عندما نرى بين الأقدمين شخصاً يميزه عن غيره بأنه فيلسوف، وشاعر، وخطيب، ومؤرخ، وكاهن، وإداري وقائد جيش من الدرجة الأولى. إن أرواحنا تتألم لمثل هذا الحكم. وكل واحد منا يحصر نفسه في دائرة صغيرة، ويطلق النار على نفسه، ولا أدري إن كان هذا العمل يوسع العلم أو ينقصه ».
والصفة التي نطلقها على تقسيم العمل في المصنع الأوتوماتيكي هي أن العمل هناك فقد صفته في الإختصاص. ولكن عندما يقف كل نمو خاص فالحاجة للتعليم والميل لوجود نمو جديد للفردية يقود الثورة. إن المصنع الأوتوماتيكي يقضي على الإختصاصيين والمهنيين المجانين.
إن برودون – وهو لم يفهم هذه الناحية الثورية في المصنع الأوتوماتيكي – يأخذ خطوة للوراء ويقترح على العامل أنه لا يقوم فقط بالقسم الثاني عشر من صناعة الدبوس، لكنه يجب أن يعمل كل الأقسام الثانية عشرة. والعامل عندئذ يصل إلى فهم وإدراك صناعة الدبوس. وهذه هي نتيجة فكرة برودون – ولا أحد يعارض أنه لدى القيام بحركة للأمام وحركة للوراء، يعني القيام بحركة نتيجة فكرة.
ولنقل خلاصة، نقول أن برودون لم يكن إلا بورجوازياً صغيراً مثاليا. ولكي يحقق مثاليته ما كان يفكر إلا أن يرجعنا إلى العامل اليومي، وإلى المهنيين الإختصاصيين في القرون الوسطى. هذا ما يقوله في مكان ما في كتابه أنه يكفي أن يخلق عملاً عظيما مرة في الحياة، وأنه يشعر أنه كان رجلا ولو مرة واحدة ! ليس هذا العمل العظيم هو الشيء الذي كانت تطلبه النقابات التجاريه في القرون الوسطى.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
بؤس الفلسفة ...... (4) كارل ماركس
ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
المنافسة والاحتكار
الناحية الصالحة للمنافسة: « المنافسة ضرورية للعمل، كتقسيم العمل، وضروريه لتقدم المساواة ».
الناحية الشريرة للمنافسة: « المبدأ هو نفي ذاته. ونتيجته الكبرى هي أنها تسبب خراب كل من يجري ورائه ».
الإنعكاس العام: « إن المساوىء التي تظهر عند بدء المنافسة كالناحيه الصالحة... وكلا الحالتين (الصالحة والشريرة) تصدر عن نفس المبدأ ».
الموضوع الذي يجب حله: « لكي نطبق مبدأ التناسب يجب أن نقتبسه عن قانون أعلى من الحرية ذاتها ».
« لا يمكن أن نوجد سؤالا ليهدم المنافسة، وهذا شيء مستحيل، إذ لا يمكن تهديم النافسة كما لا يمكن تهديم الحرية، علينا فقط أن نوجد تساوياً ».
يبتديء برودون ويدافع عن الضرورة الأبدية للمنافسة ضد هؤلاء الذين يريدون أن يستعيضوا عنها بالتناحر(وهؤلاء هم أتباع فورييه).
لا توجد « منافسة لا هدف لها ». وربما أن موضوع كل شعور وميل يشبه الشعور نفسه، مثلاً – امرأة بالنسبة للحب، القوة بالنسبة للطموح، الذهب بالنسبة للرجل الذي ينكر نفسه ويتعلق بشهواته ولذاته، والكيل الزهر بالنسبة للشاعر – إن موضوع التناحر الصناعي يعني بالضرورة الربح، والتناحر ليس إلا المنافسة ذاتها ». المجلد 1، صفحة 187.
إن المنافسة هي التناحر بالنسبة للربح. وهل التناحر الصناعي بالضروره تناحر بالنسبة للربح، أي المنافسة ؟ يبرهن برودون هذا القول لدى تأكيده. ونحن رأينا بالنسبة له أن التثبيت في القول هو البرهان، كما أن الإفتراض هو النكران.
إن كانت المرأة موضوع أو هدف المحب، فإن الإنتاج وليس الربح هو هدف التناحر الصناعي.
ليست المنافسة تناحرا صناعيا، إنها تناحر تجاري. ويوجد في وقتنا تناحر صناعي فقط في نظر التجارة. وتوجد أوقات في التاريخ الإقتصادي للأمم نجد كلاً يحاول أن يربح دون أن ينتج. إن هذه المحاولة لأجل الربح إذ تحدث في أوقات معينة، تحمل في ثناياها شخصية المنافسة، هذه المنافسة التي تحاول أن تتهرب من حاجة التناحر الإقتصادي.
لو أخبرت مهنياً في القرن الرابع عشر أن الإمتيازات، وأن التنظيم الإقطاعي الصناعي سيقضى عليهما، وسيستعاض عنهما بالتناحر الصناعي، الذي يدعى المنافسه، لأجابك أن إمتيازات الإتحادات التجارية العديدة والنقابات والجمعيات الأخوية، كانت عبارة عن منافسة منظمة. يبرهن برودون أنه يحسن هذا القول عندما يثبت أن التناحر ليس إلا المنافسة ذاتها.
« صدر مرسوم في كانون الثاني سنة 1847 يؤكد أنه سيضمن العمل والأجور للجميع، وحالاً بعد هذا سيتبع ركود هائل للصناعة » (المجلد 1، صفحة 189).
وعوض الإفتراض والنفي، حصل عندنا مرسوم وهو أن برودون سيبرهن عن ضرورة المنافسة، وخلودها كلائحة، إلخ.
إننا لن نخفف شيئاً من المصيبة إذا اعتقدنا أن المراسيم هي كل ما نحتاجه لكي نقضي علة المنافسة. وإذا كنا نتخيل كثيراً، ونقترح أن نقضي على المنافسة بينما نضيف على الأجور، فنكون كأننا نقترح لا شيء لدى استعمال مرسوم ملكي. لكن الأمم لا تقوم على المراسيم الملكية. وقبل تهيئة هذه المراسيم، يجب أن تكون قد حوت وتضمنت من عاليها لسافلها شروط وجودها الصناعي والسياسي، وبالنتيجة يجب أن تبدل كيانها الملكي.
يجيب برودون – بتأكيده الثابت – إن هذه ليست إلا فرضية « تحويل طبيعتنا دون مقدمات تاريخية »، وأنه محق « عندما يبعدنا ويجردنا عن النقاش »؛ لأننا لا نعرف شيئا عن المراسيم.
لا يعرف برودون أن التاريخ كله ليس إلا تحويلاً مستمراً للطبيعة البشرية.
« دعنا نتعلق بالواقع. قامت الثورة الفرنسية لأجل الحرية الصناعية، كما أنها قامت لأجل الحرية السياسية، رغم أن فرنسا سنة 1789، لم تدرك – لنقل هذه الكلمة بصراحة – كل نتائج البدأ الذي طلبت تطبيقه. ولن أنازع أبدا من يقوم ضدي ويقول أن مبدأ 25 مليوناًً من الناس كان مبدأ خاطئاً... لماذا إذن المنافسة مبدأ للإقتصاد الإجتماعي مرسوما للمصير، وحاجة للروح البشرية، لماذا عوضاً أن نقضي على الإعتمادات الكبرى والنقابات والأخويات، لماذا لا يفكر كل واحد أن يصلح الجميع ؟ (المجلد 1، صفحة 191-192(.
وهكذا، بما أن فرنسا القرن الثامن عشر قضت على الأتحادات الكبرى، والنقابات والأخويات عوضاً عن إصلاحها وتكييفها، فإن فرنسا القرن التاسع عشر يجب أن تكيف المنافسة وتصلحها عوضاً عن القضاء عليها. وبما أن المنافسة تأسست في فرنسا، في القرن الثامن عشر كنتيجة للحاجات التاريخية ،فيجب أن لا تهدم هذه المنافسة في القرن التاسع عشر من جراء وجود حاجات تاريخية أخرى. إن برودون – وهو يعرف أن تأسيس المنافسة كان مرتبطاً بتطور الناس في القرن الثامن عشر– يجعل المنافسة ضرورة للروح البشرية في Partilus infidelium (أرض ناكري الجميل) وماذا كان يريد أن يصنع بكولبرت القرن السابع عشر العظيم ؟
إن مشاريع وأعمال الدولة الحاضرة تأتي بعد الثورة. ويستنتج برودون وقائع منها ليظهر خلود المنافسة، ببرهانه إن كل الصناعات هي في حالة انحطاط وتقهقر.
ولنقل أنه توجد صناعات لم تصل بعد درجة المنافسة، وأن بعض الصناعات لا تزال تحت مستوى الإنتاج البورجوازي. إن هذا القول ليس إلا مقدرا لا يقدم لنا ولو برهانا صغيراً على خلود المنافسة.
إن منطق برودون يقود إلى هذا: المنافسة هي علاقة إجتماعية نطور بها قوانا الإنتاجية. إنه لا يعطي لهذا الحق نمواً وتطوراً منطقياً، بل يعطي اشكالاً – غالبا تكون نامية ومتطورة – عندما يقول أن المنافسة هي احتكار صناعي وهي حرية العصر الحاضر، وهي مسؤولية في العمل، وهي تشكل القيمة، وشرط من شروط تقدم المساواة ومبدأالإقتصاد الإجتماعي، ومرسوم يقرر المصير، وضرورة للروح اليشرية، وإلهام العدل الأبدي، والحرية في التقسيم والتقسيم في الحرية، وهي لائحة إقتصادية.
« إن المنافسة والتجمع لا تساند الواحدة الأخرى، وليستا مفترقتين، وكل من يتكلم عن المنافسة يفترض حالا هدفاً عامَاً. فالمنافسة إذن ليست أنانية. وخطيئة الإشتراكية الكبرى هي افتراضها أن المنافسة تهدم الجميع ». (المجلد 1، صفحة 223).
كل واحد يتكلم عن المنافسة يقصد هدفا عاماً، وهذا يبرهن أن المنافسة هي التجمع، وأنها ليست أنانية. ومن يتكلم عن الأنانية،الا يقصد هدفا عاماً ؟ إن كل أنانية تعمل في المجتمع وبواقع المجتمع. وهي تفترض مسبقاً المجتمع؛ أي تفترض أهدافاً عامة، وحاجات عامة، ووسائل إنتاج عامة إلخ... ألا يكون عندئذ أن المنافسة والتجمع – الذي يتكلم عنه الإشتراكيون – غير مفترقين.
يعرف الإشتراكيون جيدا أن مجتمع الوقت الحاضرمبني على المنافسة. فكيف يقدرون اتهام المنافسة أنها تهدد المجتمع الحاضر، بينما يعمل الإثنان على تهديم يعضهما ؟ وكيف يقدرون أن يتهموا المنافسة أنها تهدم المجتمع الذي سيأتي ؟ إذ يرون في هذا المستقبل – على العكس – أنه يهدد المنافسة.
يقول برودون أن المنافسة معاكسة للإحتكار، وهكذا لا تكون ضد المجتمع.
كانت الإقطاعية – من أصلها – مناقضة للملكية البطريركية، وهكذا لم تكن تناقض المنافسة التي لم تكن موجودة بعد. فهل من هذا أن النافسة لا تناقض الإقطاعية ؟
في الواقع أن المجتمع – والتجمع – هما مخارج تمثل كل مجتمع آخر، تمثل المجتمع الإقطاعي، كما تمثل المجتمع البورجوازي الذي هو تجمع قائم على المنافسة. فكيف يمكن أن يكون هناك إشتراكيون – فقط بوجود كلمة تجمع – يعتقدون أنهم يقدرون أن يدحضوا المنافسة ؟ وكيف يقدر برودون نفسه أن يدافع عن المنافسة الإشتراكيين، إذ يصف المنافسة بكلمة تجمع ؟
إن كل ما قلناه يشكل الناحية الجميلة للمنافسة، كما يراها برودون. فكيف ننتقل إلى الناحية الشريرة – الناحية السلبية – للمنافسة، ولمساوئها ولناحيتها الهدامة، ولصفاتها المؤذية ؟
إن الصورة التي يراها برودون هي صورة قاتمة.
إن المنافسة تخلق التعاسة والشقاء، وتسبب الحرب المدنية، إنها« تغيرالمناطق والطبيعة »، وتمذج القوميات، إنها تسبب المشاكل عند العائلات وتخرب الرأي العام، إنها « تقلب أفكار الحرية والمساواة » والأخلاق وتهدم التجارة الحرة الشريفة ولا تقدم عوضا عنها قيمة ناتجة، وسعراً ثابتا وشريفا. إنها تخدع نظر كل شخص، حتى أنها تخدع الإقتصاديين. إنها تدفع الأشياء بعيدا حتى تهدم ذاتها.
إن برودون بعد كل ما يقول عنها من شر، أيمكن أن يكون هناك شيء أكثر ضررا وتخريبا من المنافسة على علاقات التجمع البورجوازي وعلى مبادئه وخيالاته ؟
يجب أن يلاحظ جيداً أن المنافسة تصبح دوماً المهدمة الكبرى لعلاقات البورجوازية؛ لأنها تشجع على خلق قوى إنتاجية جديدة؛ أي خلق أحوال مادية لتجمع جديد. وفي هذا المجال على الأقل، نجد أن الناحية السيئة للمنافسة لها نقاطها المفيدة.
« إن المنافسة كنقطة إقتصادية هي نتيجة ضرورية لنظرية نتقيص وتخفيض المصاريف العامة ». (المجلد الأول، صفحة 235(.
إن دوران الدم يجب أن يكون بالنسبة لبرودون نتيجة لنظرية هارفي.
« الإحتكار هو النهاية المتوقعة للمنافسة، والمنافسة تخلق الإحتكار بنفي مستمر لذاتها، إن خلق هذا الإحتكار هو بحد ذاته تبرير له... إن الإحتكار هو التناقض الطبيعي للمنافسة، ولكن بما أن المنافسة ضرورية، فأنها تنطبق وتستعمل فكرة الإحتكار بما أن الإحتكار مقعد كل فردية منافسة ». (المجلد الأول، صفحة 236-237(
نحن نفرح مع برودون إذ يقدر ولو مرة على الأقل أن قاعدته بخصوص الفكرة Thesis والفكرة المناقضة Antithesis وكل واحد يعرف أن الإحتكار الحديث يتكون يواسطة المنافسة ذاتها.
إن برودون يتمسك بصورة شعرية، إن المنافسة المصنوعة « من كل تقسيم صغير للعمل هي نوع من السلطة، إذ يتمسك بها كل فرد بقوته واستقلاله ». والإحتكار هو « مقعد كل فردية منافسة »، والسلطة تستحق هذا المقعد أكثر من غيرها.
إن برودون لا يتكلم عن شيء إلا عن الإحتكار الحديث الذي توجده المنافسة. ولكن كلنا يعلم أن المنافسة قد أوجدها الاحتكار الاقطاعي وهكذا فالمنافسة كانت في الأصل مناقضة للاحتكار وليس الاحتكار هو الذي كان مناقضا لها. وهكذا ليس الاحتكار الحديث فكرة بسيطة معاكسة، بل على العكس هو نتيجة الفكرة الحقة.
الفكرة: الاحتكار القطاعي قبل المنافسة.
الفكرة المعاكسة: المنافسة.
نتيجة الفكرة: إن الاحتكار الحديث هو نفي الاحتكار الاقطاعي طالما أنه يطبق قاعدة المنافسة ونفي المنافسة طالما أنه احتكار.
وهكذا فالاحتكار الحديث، الاحتكار البرجوازي هو احتكار نتيجة الفكرة أي نفي النفي أي اتحاد المتناقضات، إنه الاحتكار في الحالة المنطقية والطبيعية والصافية.
يناقض برودون فلسفته عندما يقلب الاحتكار البرجوازي إلى احتكار بدائي ومتناقض. إن السيد روسي الذي يعود إليه برودون مرات في موضوع الاحتكار – يظهر أنه يفهم أكثر نتيجة الفكرة للاحتكار البرجوازي –. وفي كتابه « بحث الاقتصاد السياسي » يميز بين الاحتكار الصناعي والاحتكار الطبيعي. ويقول إن الاحتكار الاقطاعي اصطناعي والاحتكار البرجوازي طبيعي منطقي.
إن الاحتكار شيء جيد – يحلل برودون – طالما أنه لائحة اقتصادية أو أنه انبثاق « عن الحقيقة الانسانية غير الشخصية ». والمنافسة مرة أخرى، شيء جيد طالما أنها أيضا لائحة اقتصادية. لكن الحقيقة هو أن المنافسة والاحتكار هما شيئان عاطلان. والأسوأ هو أن المنافسة والاحتكار يبتلعان بعضهما. فماذا يجب ان نفعل ؟ فتش عن نتيجة الفكرة لهاتين الفكرتين الخالدتين وانتزعهما من صدر الله إذ أنها بقيت هناك من زمان لا يحد.
لا نجد في الحياة الواقعية التناقض بين المنافسة والاحتكار بل نجد نتيجة تناقض الاثنين، وليس هذا التناقض قاعدة لكنه حركة، الاحتكار ينتج المنافسة، والمنافسة تنتج الاحتكار. الاحتكارات تصنعها المنافسة، والمنافسون يصبحون محتكرين، وإذا ضيق المحتكرون على منافستهم الودية بوسائل تجمعات جزئية، فإن المنافسة تزداد بين العمال، وكلما نمت جماعة البروليتاريا ضد الاحتكارات في أمة كلما رأينا أن المنافسة تصبح بائسة وضعيفة بين المحتكرين في أمم مختلفة. إن نتيجة الفكرة تقول إن الاحتكار يقدر أن يظهر ذاته فقط عندما يدخل في صراع مع المنافسة.
ولكي نسهل انتقال ديالكتيك للضرائب التي تأتي بعد الاحتكار، يكلمنا برودون عن العبقرية الاجتماعية التي تمشي وهي تتخبط لتصل زاوية الاحتكار، وتلقي ورائها نظرة بؤس وحزن وتهاجم بعد تفكير عميق كل المنتوجات إذ تفرض ضرائب وتخلق منظمة إدارية كاملة حتى تقدم كل الخدمات للبروليتاريا ولتدفع حقوق رجال الاحتكار. (المجلد الأول، صفحة 284-285(.
وماذا نقدر أن نقول عن هذه العبقرية التي تسير بسرعة وتميل لليمين والشمال ؟ وماذا نقدر أن نقول عن هذا السير الذي لايهدف إلا للقضاء على البرجوازي بفرض الضرائب بينما الضرائب هي الوسائل الوحيدة الحقة التي تعطي البرجوازي لحظة من الوقت ليحتفظ بنفسه كطبقة حاكمة ؟
ومجرد إلقاء نظرة على الطريقة التي يصف بها برودون التفاصيل الاقتصادية يكفينا أن نقول – بالنسبة له – أن الضريبة على الاستهلاك تأسست بالنسبة للمساواة لكي تخفف الظلم الملقي على البروليتاريا.
لقد حققت الضريبة على الاستهلاك نموها الحقيقي منذ قيام البرجوازية وهي في يد الرأسمالي الصناعي، أي وهي كثروة اقتصادية تنتج وتزيد ذاتها باستغلال مباشر للعمل فإن الضريبة على الاستهلاك كانت وسيلة لاستغلال ثروة الأسياد الذين لم يفعلوا شيئا إلا الاستهلاك، ولقد حقق جيمس ستيوارت هذا الهدف الرئيسي للضريبة على الاستهلاك في كتابه « بحث مبادئ الاقتصاد السياسي » الذي نشره عشر سنوات قبل آدم سميث.
« في نظام الملكية المطلقة تجد الامير حسوداً من الثروة النامية وهكذا يضع الضرائب على الناس الذين تزداد ثروتهم. وفي نظام الحكومة المقيدة تحسب الضرائب على على هؤلاء الذين يصبحون فقراء بعد ان كانو اغنياء وهكذا فالملك المطلق يضع ضريبة على الصناعة وتوضع هذه الضرائب على نسبة أرباح كل شخص يفترض انه يربحها بمهنته وعمله. فالضريبة اذن تناسبية ال تصاعدية... أما في الحكومات المقيدة، نجد ان فرض الضريبة تكون عاى الاستهلاك ». (المجلد 22 صفحة 190-191).
وبالنسبة للنتيجة المنطقية للضرائب ولميزان اتجارة والرصيد، حسب مفهوم برودون – نلاحظ أن البرجوازي الانكليزي عندما حصل على دستوره أيام حكم وليام أورانج، خلق طريقة جديدة للضريبة – ضريبة الرصيد العام وطريقة الجمارك المانعة – حالما استطاع البرجوازي أن يحقق هذا الهدف.
تكفي هذه الخلاصة القصيرة أن نقدم للقارئ فكرة حقة، فيما يتعلق بالضريبة وميزان التجارة، وبالرصيد وبالشيوعية والسكان، ونحن نتحدى النقد لكي ندرس هذه الفصول برزانة.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
المنافسة والاحتكار
الناحية الصالحة للمنافسة: « المنافسة ضرورية للعمل، كتقسيم العمل، وضروريه لتقدم المساواة ».
الناحية الشريرة للمنافسة: « المبدأ هو نفي ذاته. ونتيجته الكبرى هي أنها تسبب خراب كل من يجري ورائه ».
الإنعكاس العام: « إن المساوىء التي تظهر عند بدء المنافسة كالناحيه الصالحة... وكلا الحالتين (الصالحة والشريرة) تصدر عن نفس المبدأ ».
الموضوع الذي يجب حله: « لكي نطبق مبدأ التناسب يجب أن نقتبسه عن قانون أعلى من الحرية ذاتها ».
« لا يمكن أن نوجد سؤالا ليهدم المنافسة، وهذا شيء مستحيل، إذ لا يمكن تهديم النافسة كما لا يمكن تهديم الحرية، علينا فقط أن نوجد تساوياً ».
يبتديء برودون ويدافع عن الضرورة الأبدية للمنافسة ضد هؤلاء الذين يريدون أن يستعيضوا عنها بالتناحر(وهؤلاء هم أتباع فورييه).
لا توجد « منافسة لا هدف لها ». وربما أن موضوع كل شعور وميل يشبه الشعور نفسه، مثلاً – امرأة بالنسبة للحب، القوة بالنسبة للطموح، الذهب بالنسبة للرجل الذي ينكر نفسه ويتعلق بشهواته ولذاته، والكيل الزهر بالنسبة للشاعر – إن موضوع التناحر الصناعي يعني بالضرورة الربح، والتناحر ليس إلا المنافسة ذاتها ». المجلد 1، صفحة 187.
إن المنافسة هي التناحر بالنسبة للربح. وهل التناحر الصناعي بالضروره تناحر بالنسبة للربح، أي المنافسة ؟ يبرهن برودون هذا القول لدى تأكيده. ونحن رأينا بالنسبة له أن التثبيت في القول هو البرهان، كما أن الإفتراض هو النكران.
إن كانت المرأة موضوع أو هدف المحب، فإن الإنتاج وليس الربح هو هدف التناحر الصناعي.
ليست المنافسة تناحرا صناعيا، إنها تناحر تجاري. ويوجد في وقتنا تناحر صناعي فقط في نظر التجارة. وتوجد أوقات في التاريخ الإقتصادي للأمم نجد كلاً يحاول أن يربح دون أن ينتج. إن هذه المحاولة لأجل الربح إذ تحدث في أوقات معينة، تحمل في ثناياها شخصية المنافسة، هذه المنافسة التي تحاول أن تتهرب من حاجة التناحر الإقتصادي.
لو أخبرت مهنياً في القرن الرابع عشر أن الإمتيازات، وأن التنظيم الإقطاعي الصناعي سيقضى عليهما، وسيستعاض عنهما بالتناحر الصناعي، الذي يدعى المنافسه، لأجابك أن إمتيازات الإتحادات التجارية العديدة والنقابات والجمعيات الأخوية، كانت عبارة عن منافسة منظمة. يبرهن برودون أنه يحسن هذا القول عندما يثبت أن التناحر ليس إلا المنافسة ذاتها.
« صدر مرسوم في كانون الثاني سنة 1847 يؤكد أنه سيضمن العمل والأجور للجميع، وحالاً بعد هذا سيتبع ركود هائل للصناعة » (المجلد 1، صفحة 189).
وعوض الإفتراض والنفي، حصل عندنا مرسوم وهو أن برودون سيبرهن عن ضرورة المنافسة، وخلودها كلائحة، إلخ.
إننا لن نخفف شيئاً من المصيبة إذا اعتقدنا أن المراسيم هي كل ما نحتاجه لكي نقضي علة المنافسة. وإذا كنا نتخيل كثيراً، ونقترح أن نقضي على المنافسة بينما نضيف على الأجور، فنكون كأننا نقترح لا شيء لدى استعمال مرسوم ملكي. لكن الأمم لا تقوم على المراسيم الملكية. وقبل تهيئة هذه المراسيم، يجب أن تكون قد حوت وتضمنت من عاليها لسافلها شروط وجودها الصناعي والسياسي، وبالنتيجة يجب أن تبدل كيانها الملكي.
يجيب برودون – بتأكيده الثابت – إن هذه ليست إلا فرضية « تحويل طبيعتنا دون مقدمات تاريخية »، وأنه محق « عندما يبعدنا ويجردنا عن النقاش »؛ لأننا لا نعرف شيئا عن المراسيم.
لا يعرف برودون أن التاريخ كله ليس إلا تحويلاً مستمراً للطبيعة البشرية.
« دعنا نتعلق بالواقع. قامت الثورة الفرنسية لأجل الحرية الصناعية، كما أنها قامت لأجل الحرية السياسية، رغم أن فرنسا سنة 1789، لم تدرك – لنقل هذه الكلمة بصراحة – كل نتائج البدأ الذي طلبت تطبيقه. ولن أنازع أبدا من يقوم ضدي ويقول أن مبدأ 25 مليوناًً من الناس كان مبدأ خاطئاً... لماذا إذن المنافسة مبدأ للإقتصاد الإجتماعي مرسوما للمصير، وحاجة للروح البشرية، لماذا عوضاً أن نقضي على الإعتمادات الكبرى والنقابات والأخويات، لماذا لا يفكر كل واحد أن يصلح الجميع ؟ (المجلد 1، صفحة 191-192(.
وهكذا، بما أن فرنسا القرن الثامن عشر قضت على الأتحادات الكبرى، والنقابات والأخويات عوضاً عن إصلاحها وتكييفها، فإن فرنسا القرن التاسع عشر يجب أن تكيف المنافسة وتصلحها عوضاً عن القضاء عليها. وبما أن المنافسة تأسست في فرنسا، في القرن الثامن عشر كنتيجة للحاجات التاريخية ،فيجب أن لا تهدم هذه المنافسة في القرن التاسع عشر من جراء وجود حاجات تاريخية أخرى. إن برودون – وهو يعرف أن تأسيس المنافسة كان مرتبطاً بتطور الناس في القرن الثامن عشر– يجعل المنافسة ضرورة للروح البشرية في Partilus infidelium (أرض ناكري الجميل) وماذا كان يريد أن يصنع بكولبرت القرن السابع عشر العظيم ؟
إن مشاريع وأعمال الدولة الحاضرة تأتي بعد الثورة. ويستنتج برودون وقائع منها ليظهر خلود المنافسة، ببرهانه إن كل الصناعات هي في حالة انحطاط وتقهقر.
ولنقل أنه توجد صناعات لم تصل بعد درجة المنافسة، وأن بعض الصناعات لا تزال تحت مستوى الإنتاج البورجوازي. إن هذا القول ليس إلا مقدرا لا يقدم لنا ولو برهانا صغيراً على خلود المنافسة.
إن منطق برودون يقود إلى هذا: المنافسة هي علاقة إجتماعية نطور بها قوانا الإنتاجية. إنه لا يعطي لهذا الحق نمواً وتطوراً منطقياً، بل يعطي اشكالاً – غالبا تكون نامية ومتطورة – عندما يقول أن المنافسة هي احتكار صناعي وهي حرية العصر الحاضر، وهي مسؤولية في العمل، وهي تشكل القيمة، وشرط من شروط تقدم المساواة ومبدأالإقتصاد الإجتماعي، ومرسوم يقرر المصير، وضرورة للروح اليشرية، وإلهام العدل الأبدي، والحرية في التقسيم والتقسيم في الحرية، وهي لائحة إقتصادية.
« إن المنافسة والتجمع لا تساند الواحدة الأخرى، وليستا مفترقتين، وكل من يتكلم عن المنافسة يفترض حالا هدفاً عامَاً. فالمنافسة إذن ليست أنانية. وخطيئة الإشتراكية الكبرى هي افتراضها أن المنافسة تهدم الجميع ». (المجلد 1، صفحة 223).
كل واحد يتكلم عن المنافسة يقصد هدفا عاماً، وهذا يبرهن أن المنافسة هي التجمع، وأنها ليست أنانية. ومن يتكلم عن الأنانية،الا يقصد هدفا عاماً ؟ إن كل أنانية تعمل في المجتمع وبواقع المجتمع. وهي تفترض مسبقاً المجتمع؛ أي تفترض أهدافاً عامة، وحاجات عامة، ووسائل إنتاج عامة إلخ... ألا يكون عندئذ أن المنافسة والتجمع – الذي يتكلم عنه الإشتراكيون – غير مفترقين.
يعرف الإشتراكيون جيدا أن مجتمع الوقت الحاضرمبني على المنافسة. فكيف يقدرون اتهام المنافسة أنها تهدد المجتمع الحاضر، بينما يعمل الإثنان على تهديم يعضهما ؟ وكيف يقدرون أن يتهموا المنافسة أنها تهدم المجتمع الذي سيأتي ؟ إذ يرون في هذا المستقبل – على العكس – أنه يهدد المنافسة.
يقول برودون أن المنافسة معاكسة للإحتكار، وهكذا لا تكون ضد المجتمع.
كانت الإقطاعية – من أصلها – مناقضة للملكية البطريركية، وهكذا لم تكن تناقض المنافسة التي لم تكن موجودة بعد. فهل من هذا أن النافسة لا تناقض الإقطاعية ؟
في الواقع أن المجتمع – والتجمع – هما مخارج تمثل كل مجتمع آخر، تمثل المجتمع الإقطاعي، كما تمثل المجتمع البورجوازي الذي هو تجمع قائم على المنافسة. فكيف يمكن أن يكون هناك إشتراكيون – فقط بوجود كلمة تجمع – يعتقدون أنهم يقدرون أن يدحضوا المنافسة ؟ وكيف يقدر برودون نفسه أن يدافع عن المنافسة الإشتراكيين، إذ يصف المنافسة بكلمة تجمع ؟
إن كل ما قلناه يشكل الناحية الجميلة للمنافسة، كما يراها برودون. فكيف ننتقل إلى الناحية الشريرة – الناحية السلبية – للمنافسة، ولمساوئها ولناحيتها الهدامة، ولصفاتها المؤذية ؟
إن الصورة التي يراها برودون هي صورة قاتمة.
إن المنافسة تخلق التعاسة والشقاء، وتسبب الحرب المدنية، إنها« تغيرالمناطق والطبيعة »، وتمذج القوميات، إنها تسبب المشاكل عند العائلات وتخرب الرأي العام، إنها « تقلب أفكار الحرية والمساواة » والأخلاق وتهدم التجارة الحرة الشريفة ولا تقدم عوضا عنها قيمة ناتجة، وسعراً ثابتا وشريفا. إنها تخدع نظر كل شخص، حتى أنها تخدع الإقتصاديين. إنها تدفع الأشياء بعيدا حتى تهدم ذاتها.
إن برودون بعد كل ما يقول عنها من شر، أيمكن أن يكون هناك شيء أكثر ضررا وتخريبا من المنافسة على علاقات التجمع البورجوازي وعلى مبادئه وخيالاته ؟
يجب أن يلاحظ جيداً أن المنافسة تصبح دوماً المهدمة الكبرى لعلاقات البورجوازية؛ لأنها تشجع على خلق قوى إنتاجية جديدة؛ أي خلق أحوال مادية لتجمع جديد. وفي هذا المجال على الأقل، نجد أن الناحية السيئة للمنافسة لها نقاطها المفيدة.
« إن المنافسة كنقطة إقتصادية هي نتيجة ضرورية لنظرية نتقيص وتخفيض المصاريف العامة ». (المجلد الأول، صفحة 235(.
إن دوران الدم يجب أن يكون بالنسبة لبرودون نتيجة لنظرية هارفي.
« الإحتكار هو النهاية المتوقعة للمنافسة، والمنافسة تخلق الإحتكار بنفي مستمر لذاتها، إن خلق هذا الإحتكار هو بحد ذاته تبرير له... إن الإحتكار هو التناقض الطبيعي للمنافسة، ولكن بما أن المنافسة ضرورية، فأنها تنطبق وتستعمل فكرة الإحتكار بما أن الإحتكار مقعد كل فردية منافسة ». (المجلد الأول، صفحة 236-237(
نحن نفرح مع برودون إذ يقدر ولو مرة على الأقل أن قاعدته بخصوص الفكرة Thesis والفكرة المناقضة Antithesis وكل واحد يعرف أن الإحتكار الحديث يتكون يواسطة المنافسة ذاتها.
إن برودون يتمسك بصورة شعرية، إن المنافسة المصنوعة « من كل تقسيم صغير للعمل هي نوع من السلطة، إذ يتمسك بها كل فرد بقوته واستقلاله ». والإحتكار هو « مقعد كل فردية منافسة »، والسلطة تستحق هذا المقعد أكثر من غيرها.
إن برودون لا يتكلم عن شيء إلا عن الإحتكار الحديث الذي توجده المنافسة. ولكن كلنا يعلم أن المنافسة قد أوجدها الاحتكار الاقطاعي وهكذا فالمنافسة كانت في الأصل مناقضة للاحتكار وليس الاحتكار هو الذي كان مناقضا لها. وهكذا ليس الاحتكار الحديث فكرة بسيطة معاكسة، بل على العكس هو نتيجة الفكرة الحقة.
الفكرة: الاحتكار القطاعي قبل المنافسة.
الفكرة المعاكسة: المنافسة.
نتيجة الفكرة: إن الاحتكار الحديث هو نفي الاحتكار الاقطاعي طالما أنه يطبق قاعدة المنافسة ونفي المنافسة طالما أنه احتكار.
وهكذا فالاحتكار الحديث، الاحتكار البرجوازي هو احتكار نتيجة الفكرة أي نفي النفي أي اتحاد المتناقضات، إنه الاحتكار في الحالة المنطقية والطبيعية والصافية.
يناقض برودون فلسفته عندما يقلب الاحتكار البرجوازي إلى احتكار بدائي ومتناقض. إن السيد روسي الذي يعود إليه برودون مرات في موضوع الاحتكار – يظهر أنه يفهم أكثر نتيجة الفكرة للاحتكار البرجوازي –. وفي كتابه « بحث الاقتصاد السياسي » يميز بين الاحتكار الصناعي والاحتكار الطبيعي. ويقول إن الاحتكار الاقطاعي اصطناعي والاحتكار البرجوازي طبيعي منطقي.
إن الاحتكار شيء جيد – يحلل برودون – طالما أنه لائحة اقتصادية أو أنه انبثاق « عن الحقيقة الانسانية غير الشخصية ». والمنافسة مرة أخرى، شيء جيد طالما أنها أيضا لائحة اقتصادية. لكن الحقيقة هو أن المنافسة والاحتكار هما شيئان عاطلان. والأسوأ هو أن المنافسة والاحتكار يبتلعان بعضهما. فماذا يجب ان نفعل ؟ فتش عن نتيجة الفكرة لهاتين الفكرتين الخالدتين وانتزعهما من صدر الله إذ أنها بقيت هناك من زمان لا يحد.
لا نجد في الحياة الواقعية التناقض بين المنافسة والاحتكار بل نجد نتيجة تناقض الاثنين، وليس هذا التناقض قاعدة لكنه حركة، الاحتكار ينتج المنافسة، والمنافسة تنتج الاحتكار. الاحتكارات تصنعها المنافسة، والمنافسون يصبحون محتكرين، وإذا ضيق المحتكرون على منافستهم الودية بوسائل تجمعات جزئية، فإن المنافسة تزداد بين العمال، وكلما نمت جماعة البروليتاريا ضد الاحتكارات في أمة كلما رأينا أن المنافسة تصبح بائسة وضعيفة بين المحتكرين في أمم مختلفة. إن نتيجة الفكرة تقول إن الاحتكار يقدر أن يظهر ذاته فقط عندما يدخل في صراع مع المنافسة.
ولكي نسهل انتقال ديالكتيك للضرائب التي تأتي بعد الاحتكار، يكلمنا برودون عن العبقرية الاجتماعية التي تمشي وهي تتخبط لتصل زاوية الاحتكار، وتلقي ورائها نظرة بؤس وحزن وتهاجم بعد تفكير عميق كل المنتوجات إذ تفرض ضرائب وتخلق منظمة إدارية كاملة حتى تقدم كل الخدمات للبروليتاريا ولتدفع حقوق رجال الاحتكار. (المجلد الأول، صفحة 284-285(.
وماذا نقدر أن نقول عن هذه العبقرية التي تسير بسرعة وتميل لليمين والشمال ؟ وماذا نقدر أن نقول عن هذا السير الذي لايهدف إلا للقضاء على البرجوازي بفرض الضرائب بينما الضرائب هي الوسائل الوحيدة الحقة التي تعطي البرجوازي لحظة من الوقت ليحتفظ بنفسه كطبقة حاكمة ؟
ومجرد إلقاء نظرة على الطريقة التي يصف بها برودون التفاصيل الاقتصادية يكفينا أن نقول – بالنسبة له – أن الضريبة على الاستهلاك تأسست بالنسبة للمساواة لكي تخفف الظلم الملقي على البروليتاريا.
لقد حققت الضريبة على الاستهلاك نموها الحقيقي منذ قيام البرجوازية وهي في يد الرأسمالي الصناعي، أي وهي كثروة اقتصادية تنتج وتزيد ذاتها باستغلال مباشر للعمل فإن الضريبة على الاستهلاك كانت وسيلة لاستغلال ثروة الأسياد الذين لم يفعلوا شيئا إلا الاستهلاك، ولقد حقق جيمس ستيوارت هذا الهدف الرئيسي للضريبة على الاستهلاك في كتابه « بحث مبادئ الاقتصاد السياسي » الذي نشره عشر سنوات قبل آدم سميث.
« في نظام الملكية المطلقة تجد الامير حسوداً من الثروة النامية وهكذا يضع الضرائب على الناس الذين تزداد ثروتهم. وفي نظام الحكومة المقيدة تحسب الضرائب على على هؤلاء الذين يصبحون فقراء بعد ان كانو اغنياء وهكذا فالملك المطلق يضع ضريبة على الصناعة وتوضع هذه الضرائب على نسبة أرباح كل شخص يفترض انه يربحها بمهنته وعمله. فالضريبة اذن تناسبية ال تصاعدية... أما في الحكومات المقيدة، نجد ان فرض الضريبة تكون عاى الاستهلاك ». (المجلد 22 صفحة 190-191).
وبالنسبة للنتيجة المنطقية للضرائب ولميزان اتجارة والرصيد، حسب مفهوم برودون – نلاحظ أن البرجوازي الانكليزي عندما حصل على دستوره أيام حكم وليام أورانج، خلق طريقة جديدة للضريبة – ضريبة الرصيد العام وطريقة الجمارك المانعة – حالما استطاع البرجوازي أن يحقق هذا الهدف.
تكفي هذه الخلاصة القصيرة أن نقدم للقارئ فكرة حقة، فيما يتعلق بالضريبة وميزان التجارة، وبالرصيد وبالشيوعية والسكان، ونحن نتحدى النقد لكي ندرس هذه الفصول برزانة.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
بؤس الفلسفة ...... (5) كارل ماركس
ميتافيزيك الاقتصاد السياسي
الملكية أو ريع الأرض
في كل حقبة تاريخية تطورت الملكية ونمت حسب مفهوم علاقات اجتماعية مختلفة، وهكذا لكي نعدد الملكية البرجوازية ماعلينا إلا أن نقدم عرضا عن كل العلاقات الاجتماعية للانتاج البرجوازي.
ولكي نحاول أن نحدد الملكية بأنها علاقات مستقلة أو لائحة مستقلة أو فكرة خالدة ومثالية، لا يكون هذا إلا خيالياً يمتطيه الميتافيزيك والفقه.
إن برودون – وهو يظهر أنه يتكلم عن الملكية عامة – يتكلم فقط عن ملكية الأرض أو ريع الأرض.
« إن أصل الريع، الملكية، هو شيء فوق الاقتصاد: إنه يوجد بوجود اعتبارات نفسية وأخلاقية وهذه الاعتبارات بعيدة الاتصال عن إنتاج الثروة » (المجلد ٢، صفحة ٢٦٥).
وهكذا يعني برودون أنه غير قادر أن يفهم الأصل الاقتصادي للريع والملكية، ويقول أن مقدرته تجبره أن ينسبها إلى اعتبارات أخلاقية ونفسية بعيدة الاتصال بانتاج الثروة، ولكن لها علاقة بضيق أفقه التاريخي. يؤكد برودون أنه يوجد شيء صوفي وعجيب فيما يتعلق بأصل الملكية. والآن – لننظر أعجوبة في أصل الملكية – أو لنعجل علاقة سرية بين الانتاج ذاته وتوزيع أدوات الانتاج. أليس هذا – لنستعمل لغة برودون – رفض أكيد لكل ادعاءات علم الاقتصاد ؟
إن برودون يضيف على نفسه قوله إنه في الحقيقة السابقة للتطور الاقتصادي – أي الرصيد – عندما كانت الاسطورة سبباً لاختفاء الحقيقة، وعندما هدد النشاط الانساني بفقدان ذاته، أضحى ضرورياً أن يرتبط الإنسان بقوة أكثر بالطبيعة، والآن كان الريع سعر هذا العقد أو الرباط. (المجلد ٢، صفحة ٢٦٩).
L’homme aux quarante écus تنبأ به برودون للمستقبل: « السيد الخالق. كل فرد سيد في عالمه، ولكن، ليس ممكناً أن تجعلني أعتقد ان العالم الذي يعيش به مصنوع من البذور ». في عالمك – حيث الرصيد النقدي كان وسيلة لفقدان الشخص في فراغ عميق، من الممكن أن تصبح الملكية ضرورية حتى تعمي إنسان الطبيعة. وفي عالم الانتاج الحقيقي حيث كانت ملكية اﻷرض دوماً تسبق الرصيد النقدي، نجد أن خوف برودون لم يكن موجوداً.
ولدى قبول فكرة الريع ولو مرة – مهما كان أصلها – تصبح موضوع مفاوضات مضادة بين المزارع ومالك الأرض. وماهي النتائج القصوى لهذه المفاوضات، أي ما هو المعدل العام للريع ؟ هذا ما يقوله برودون:
« ﺇن نظرية ريكاردو لاتجيب هذا السؤال. عندما ابتدأت المجتمعات، عندما كان الإنسان جديداً على الأرض، لم تكن أمامه إلا الغابات الواسعة الضخمة، عندما كانت الأرض واسعة وعندما كانت الصناعة مبتدئة، عندما كان كل هذا الريع لا يزال عدماً. واﻷرض – ولم تكن بعد نتيجة تشكيل العمل – كانت موضوع منفعة ولم تكن قيمة تبادل، كانت الأرض عامة ولم تكن اجتماعية، ورويداً رويداً نرى أن تكاثر العائلات وتقدم الزراعة أظهر قيمة الأرض وأصبح العمل يعطي الأرض قيمتها أي ما تستحقه: ومن هذا وجد الريع، فكلما أعطى الحقل ثماراً أكثر بنفس كمية العمل كلما كانت قيمته ترتفع ! وبما أن هدف المالكين كان الحصول على كل ما تنتجه الأرض لذلك أصبحت أجور المزارع أقل – يعني أقل من تكاليف الانتاج – وهكذا تبعث الملكية آثار العمل لكي تأخذ كل الانتاج الذي يزيد المصاريف الحقيقية. وبما أن المالك كان يحقق عملاً خارقاً، فالمزارع إذاً ليس إلا عاملاً مسؤولاً – هكذا تريد العزة الالهية – وعليه أن يؤدي للمجتمع كل زيادة عن أجرة المشروع... فالريع بجوهره هو وسيلة لتوزيع العدل وهو وسيلة من ألوف الوسائل التي تستخدمها عبقرية الاقتصاد لتحقق المساواة – لقد حصل تناقض عظيم بين المزارعين والملاكين من جراء تقدير الأرض – ولكن بدون وقوع اصطدام – وكان هذا التناقض يهدف إلى تسوية ملكيات الأرض بين مستغليها وصانعيها... وما كانت هذه الملكية السحرية تحتاج ﺇلا أن تنزع من المستغل فائض الانتاج الذي كان يعتبره ملكاً وحقاً له. فالريع أو باﻷحرى الملكية، حطم الأنانية الزراعية وأوجد واقعاً لايمكن أن تخلفه لاقوة ولا تقسيم الأرض... والتأثير الأخلاقي الذي تركته الملكية في الوقت الحاضر هو العمل على توزيع الريع » (المجلد ٢، صفحة ٢٧٠، ٢٧٢).
يمكن اختصار كل هذا المزيج من الكلام هكذا: يقول ريكاردو أن زيادة سعر المنتوجات الزراعية عن تكاليف إنتاجها – متضمناً الربح العادي والفائدة على رأس المال – يعطينا مقياس الريع. إن برودون يصيب أكثر ﺇذ يجعل المالك يتدخل وينتزع من المستغل كل فائض انتاجه الذي يزيد عن تكاليف الانتاج. إنه ينتفغ من تدخل المالك لكي يشرح الريع، إنه يجيب على السؤال عندما يصيغ قاعدة لنفس المسألة ويضيف عليها مقطعاً.
ولنلاحظ أنه لدى تحديد الريع من جراء اختلاف خصوبة الأرض، نجد برودون يعني أصلاً جديداً له – بما أن الأرض قبل وجودها تشكل درجات متفاوتة الخصوبة – لم تكن في نظره قيمة التبادل بل كانت عامة، ماذا حدث ﺇذاً لأسطورة الريع التي وجدت من ضرورة ﺇرجاع إنسان للأرض كاد أن يفقد نفسه في أبدية فراغ هائل ؟
والآن لنحرر نظرية ريكاردو من سيطرة القوة الالهية ومن القالب الذي صاغها به برودون ؟
ﺇن الريع – حسب نظرية ريكاردو – هو ملكية الأرض في حالتها البرجوازية، أي ملكية الاقطاع التي أصبحت خاضعة لشروط الانتاج البرجوازي.
لقد رأينا – بالنسبة لنظرية برودون – أن سعر كل الأشياء يتحدد بتكاليف إنتاجها، بالاضافة للربح الصناعي، أي وقت العمل المستخدم. ففي الصناعة الآلية نجد سعر المنتوج المحصول بأقل كمية عمل ممكن ينظم سعر كل السلع الاخرى التي هي من نفس النوع، أخذه بعين الاعتبار أن أرخص أدوات الانتاج وأكثرها انتاجية يمكن إكثارها للانهاية وأن المنافسة تخلق سعر السوق، أي تخلق سعراً عاماً لكل المنتوجات من نفس النوع.
وفي الصناعة الزراعية على العكس، نجد أن سعر المنتوج المحصول عليه بأكبر كمية عمل ينظم سعر المنتوجات الأخرى التي هي من نفس النوع. ففي الدرجة لا يقدر أحد – كما هو المثال في الصناعة الآلية أن يكثر كما يريد أدوات الانتاج التي لها نفس درجة الانتاج، أي إيجاد أراضي لها نفس درجة الخصوبة. وهكذا، لدى زيادة السكان – نجد أن الأرضي ذات القيمة المنخفضة، يوظف فيها رأسمال قليل. وفي كلا الحالتين تتطلب كمية أكبر من العمل للحصول على إنتاج أقل. وبما أن حاجات السكان تطلبت ضرورة زيادة العمل، فإن منتوج الأرض الذي يكلف استغلالها أكثر يكون كبيع أرض استغلالها أرخص. وبما أن المنافسة تخلق سعر منتوج الأرض، فإن زيادة سعر المنتوجات – الذي يعود لتربة أحسن يزيد على تكاليف انتاجها – هذا الانتاج الذي يشكل الريع. ولو كان يقدر شخص أن يجد أراضي بنفس درجة الخصوبة ولو كان يقدر – في الصناعة الآلية – أن يؤدي باستمرار إنتاج الأشياء وبشكل أرخص وتقديم آلات إنتاج أكثر وأرخص، وأن توظيف رأس المال الاضافي كان يعطي نتيجة كاﻷول، لكان سعر المنتوجات الزراعية يتحدد بسعر السلع المنتوجة بأحسن وسائل الانتاج – كما رأينا بمثل سعر المنتوجات المصنوعة. ولكن الريع يختفي منذ هذه اللحظة.
ولو كانت نظرية ريكاردو كلها حقيقة، لكان من الضروري لرأس المال أن يستعمل بحريته في فروع الصناعة المختلفة، لكننا نجد منافسة قديمة بين الرأسماليين تحصر الأرباح في مستوى واحد متساو، ولكنا نجد المزارع رأسمالياً صناعياً يطلب توظيف رأسماله في أرض ثانوية لينال ربحاً مساوياً ﻷي ربح في أي صناعة، ولو كان هذا لكان الاستقلال الزراعي يخضع للصناعة ذات الانتاج الضخم، وأخيراً لكان مالك الأرض نفسه لايهدف ﺇلا لارجاع دراهمه.
لا يمكن أن يحدث – كما حدث في ايرلندا – أن الريع لا يوجد رغم أن تطور الأرض ونموها وصل درجة قسوى. والريع، بما أنه زيادة عن الأجور وعن الربح الصناعي لا يمكن أن يوجد حيث لا تكون واردات مالك الأرض شيئاً.
وهكذا، بعد أن تتصور تحويل مستغل اﻷرض أو المزارع إلى عامل بسيط، وأن ننتزع من المستغل فائض انتاجه الذي لا يتنازل عنه ﻷنه يعده خاصاً به، فإن الريع يقف مانعاً لصاحب اﻷرض ليس بواسطة الخادم بل بواسطة من يجعل صاحب الأرض أن يقف مضاداً للرأسمالي الصناعي وليس مع الخادم أو مع العبد أو مع دافع الفريضة أو مع عامل الاجرة.
إذا اعتبرنا ولو مرة ريع الأرض، فإن ملكية الأرض لاتعود تملك فائض تكاليف الانتاج التي تتحدد بالأجور وبأرباح الصناعة. لذلك نجد أن ريع اﻷرض انتزع من مالك اﻷرض قسماً من دخله. وهكذا مر وقت طويل قبل أن يحل الرأسمالي الصناعي محل المزارع الاقطاعي. ففي ألمانيا مثلاً، ابتدأ هذا التحويل قي آخر القسم الثالث من القرن الثامن عشر. وفي انكلترا فقط كانت هذه العلاقة قائمة بين الرأسمالي الصناعي ومالك الأرض.
وطالما أن مستغل الأرض الذي قال عنه برودون، موجود فلا وجود للريع. وفي الوقت الذي يوجد فيه الريع، فإن مستغل الأرض لا يبقى المزارع بل يكون العامل أي مزارع مستغل الأرض. إن تحقير العامل وجعله بمثابة شغيل بسيط، أي شغيل يومي، وجعله يعمل للرأسمالي الصناعي، وتدخل الرأسمالي الصناعي – وهو يستغل اﻷرض كأنه يستغل مصنعاً – وتمويل مالك اﻷرض من حاكم مطلق صغير إلى مرابي فظيع، هذه كلها هي العلاقات المختلفة التي يعبر عنها الريع.
ﺇن الريع – في نظرية ريكاردو – هو الزراعة البطريركية المتحولة لصناعة تجارية وهو الرأسمال الصناعي الذي يستعمل لاستثمار الأرض وهو برجوازية المدنية المطبقة في القرية. والريع – عوضاً ان يوجد الانسان بالطبيعة. قد ربط استغلال الأرض بالمنافسة. وعندما تعد ملكية اﻷرض ريعاً فان ملكية اﻷرض ذاتها تصبح نتيجة للمنافسة ولذلك فهي من ذلك الوقت تعتمد على قيمة السوق للانتاج الزراعي. وكريع، تصبح ملكية الأرض مادة للتجارة. ان الريع ممكن تحقيقه فقط من لحظة تطور الصناعة القعرية ومن لحظة ما ينتج عنها تنظيم اجتماعي، وهذا م اجبر مالك الأرض ان يحصر هدفه في الارباح النقدية. وان ينظر ال العلاقة النقدية لمنتوجاته الزراعية – وفي الواقع ينتظر من ملكيته للاْرض ان تكون تربة آلة لتحصيل النقد. لقد جعل الريع مالك ﻷرض ان يطلق التربة، وان يطلق الطبيعة حتى انه لا يحتاج ان يعرف ملكياته، وهذا ما حدث في انكلترا. فيما يتعلق بالمزارع وبالرأسمالي الصناعي والشغيل الزراعي، فانهم لايرتبطون باﻷرض التي يستغلونها اكثر من المستخدم والشغيل في المصانع بالنسبة للقطن والصوف الذي يصنعونه، انهم يسعرون برباط فقط لانتاجهم النقدي. وهناك بعض الذين يعدون أنفسهم تقدميين تقدمون صلواتهم لاعادة الاقطاعية والحياة البطريركية الصالحة وعادات آبائنا وأجدادنا الصالحين. ان اخضاع التربة للقوانين التي تحكم كل الصناعات اﻷخرى يخضع دائماً للمصالحة.وهكذا يمكن القول أن يقال ان الريع أصبح دافع القوة التي ادخلت الشعر إلى حركة التاريخ.
ﺇن ريكاردو بعد ان جعل الانتاج البرجوازي ضرورياً لتحديد الريع – يطبق فكرة الريع بالنسبة لملكية اﻷرض في كل العصور وفي كل البلدان. وهذا خطأ تجده عند كل الاقتصاديين الذين يمثلون علاقات الانتاج البرجوازية كلوائح أبدية.
يستنتج من الهدف اﻹلهي للريع الذي هو بالنسبة لبرودون تحويل المستغل إلى شغيل مسؤول ليحصل على مكافأة الريع المتساوية.
ﺇن الريع، كما رأينا، يشكل بالسعر المتساوي لكل منتوجات اﻷراضي ذات الخصوبة غير المتساوية حتى أن هكتوليتر القمح الذي كلف 10 فرنكات يباع ﺑ 20 فرنكاً إذ أن تكاليف الانتاج ترتفع إلى 20 فرنكاً زيادة عن خصوبة تربة من نوع أدنى.
وطالما أن الحاجة تجبر شراء كل المنتوجات الزراعية التي تأتي للسوق، فإن سعر السوق يتحدد بتكاليغ أغلى منتوج. وهكذا نرى أن هذا التساوي في السعر – الناتج عن المنافسة وليس عن اختلاف خصوبة الأرضي – هو الذي يحفظ لصاحب أحسن تربة ريعاً من 10 فرنكات لكل هكتوليتر يبيعه الرجل الذي يشتغل بأرضه.
لنفترض أن سعر القمح يحدد بوقت العمل الذي تحتاج لانتاجه، فنجد أن هكتوليتر القمح الذي نحصل عليه من تربة أحسن يباع ﺑ 10 فرنكات، بينما هكتوليتر القمح الذي يحصل عليه من نوع أقل يكلف 20 فرنكاً. لدى قبوانا بهذا نرى أن معدل سعر السوق يكون 15 فرنكاً. وبما أن سعر السوق يتبع قانون المنافسة فانه يصبح 20 فرنكاً. وإذا كان معدل السوق 15 فرنكاً فعندئذ لا تسنح فرصة لأي موزع أن يكون له ريع. يوجد الريع فقط عندما يستطيع شخص أن يبيع ﺑ 20 فرنكاً هكتوليتر القمح الذي يكلف المنتج 10 فرنكات. ويفترض برودون تساوي سعر السوق بتكاليف إنتاج غير متساوية لكي يصل إلى مشاركة متساوية لانتاج غير متساو.
نحن نفهم اقتصاديين مثل: هيدلتش، وتربليو، وميل، وآخرين يقولون أن الريع يجب أن يعطي للدولة لكي تقوم مقام الضرائب. ﺇن هذا التعبير صريح لكره الرأسمالي الصناعي وهذا العمل يحمل لمالك الأرض لنفس النتيجة.
ولكن لنجعل أولاً سعر هكتوليتر القمح 20 فرنكاً حتى نجعل توزيعاً عاماً ﻟ 10 فرنكات أتعاب اضافية على المستهلك، وهذا يكفي لجعل العبقرية الاجتماعية أن تتبع طريقها الملتوي بحزن – وتطرق برأسها خجلاً.
يصبح الريع – حسب تعبير برودون « تقسيم أرض كبيرة متناقضة بنظر المزارع ومالك الأرض... تكون نتيجتها الكلية مساوية لملكية الأرض لمصلحة المستغلين للتربة والصناعيين » (المجلد 2، صفحة 27).
ﺇن تقييم أية قطعة أرض قائمة على الريع لتكون ذات قيمة واقعية، وشروط المجتمع الحاضر يجب أن يكون مختلفاً عن التقييم.
والآن أظهرنا أن ريع المزرعة الذي يدفعه المزارع لسيده يعبر عن الريع بالضبط في البلدان المتقدمة في الصناعة والتجارة. حتى أن هذا الريع لا يتضمن الفائدة المدفوعة لصاحب الأرض على رأس المال المستثمر في الأرض. إن مركز الأرض وجوارها من المدن وعوامل أخرى تؤثر على ريع المزرعة وبشكل ريع الأرض. هذه الاسباب تعد كافية لتبرهن عن عدم دقة تقييم الأرض القائم على الريع.
ومن جهة ثانية، يمكن للريع أن لا يكون الدليل الثابت عن وجه خصوبة قطعة الأرض بما أن كل تغيير في تطبيق علم الكيمياء الحديث يغير التربة، والمعرفة الجيولوجية تبدل اليوم كل تقديرات الخصوبة النسبية. لقد كان منذ 20 سنة حتى تم استعمال الأرضي في قرى انكلترا الشرقية. لقد تركت غير مفلوحة نتيجة للجهل.
وهكذا فالتاريخ وهو قاصر على أن يجد في الريع تقييماً حاضراً للأرض، لا يعمل شيئاً ﺇلا أنه يغير ويقلب تقييمات الأرض الحاضرة.
ونقول أخيراً إن الخصوبة ليست صفة طبيعية كما يظن، إنها مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية للوقت السائد. يمكن أن تكون قطعة أرض خصبة جداً لزراعة القمح، ولكن السعر المحدود يجعل الفلاح يفلبها إلى مرعى طبيعي ويجعلها غير خصبة.
لقد فرض برودون تقييمه للأرض – هذا التقييم الذي ليس له قيمة لتقييم أرض عادية – ليبرهن فقط عن هدف العزة الالهية للريع.
يتابع برودون قائلاً « إن الريع هو الفائدة المدفوعة على رأسمال لايغنى – وهو الأرض. وبما أن رأس المال قادر أن لا يزيد في مادته لكن في تحسين طريقة استعماله، نستنتج أنه بينما نرى فائدة أو ربح قرض يميل للنقصان تدريجياُ بواسطة غزارة رأس المال، فإن الريع يميل دوماً للزيادة بواسطة تكميا الصناعة. ومن هذا ينتج تحسين في استعمال الأرض... وهذا هو الريع في جوهره ». ( المجلد 2، صفحة 265).
يرى برودون هذه المرة في الريع كل أوصاف الفائدة ما عدا أنه ينبثق من رأسمال له طبيعته الخاصة. هذا الرأسمال هو الأرض، رأسمال أبدي « غير قادر ان يزداد في مادته لكن بتحسين طريقة استعماله ». ونجد في تقدم المدنية أن الفائدة تميل باستمرار للهبوط، بينما يميل الريع للارتفاع دوماً. تهبط الفائدة بسبب غزارة رأس المال، ويرتفع الريع بسبب التحسين الذي يدخل على الصناعة والتي تنتج إذ تنتفع دوماً من الأرض.
وهذه هي نظرية برودون في جوهرها.
دعنا بادىْ الاْمر نفحص إلى أي حد نعتبرها حقيقة عندما نقول أن الريع هو فائدة على رأس المال.
إن الريع بالنسبة لمالك الأرض نفسه يمثل فائدة على رأس المال الذي كلفته ﺇياه الأرض، أو الرأسمال الذي حصل عليه من بيع الأرض ولكنه في بيع وشراء الأرض فإنه يبيع أو يشتري ريعاً. والسعر الذي يدفعه ليجعل من نفسه قابضاً للريع ينظم عامة بنسبة الفائدة وليس له علاقة بطبيعة الريع. إن الفائدة على الرأسمال الموظف في الصناعة أو في التجارة. وهكذا بالنسبة الذين لايميزون بين الفائدة التي تمثلها الأرض لصاحبها وبين الريع ذاته فان فائدة رأس مال الأرض تنقص أكثر من رأس مال يوظف في أي عمل آخر. ولكن السؤال ليس مجرد مسألة بيع أو شراء سعر الريع أو قيمة السوق للريع أو ريع الرأسمال، إنه سؤال عن الريع ذاته.
ﺇن ريع المزرعة يمكن أن يطبق ثانية – ليس كريع صاف – الفائدة على رأسمال موظف في الأرض. وفي هذه اللحظة يستلم السيد هذا القسم من ريع المزرعة، ليس كصاحب أرض بل كرأسمالي ! ولكن ليس هذا هو الريع الصافي الذي نتكلم عنه.
الأرض طالما أنها لا تستغل كوسيلة إنتاج لا تكون رأسمالاً. والأرض كرأسمال يمكن أن يزداد كما تزداد كل وسائل الانتاج. ولا شيء يضاف لمادتها لنستعمل لغة برودون – لكن الأرضي التي تخدم كوسائل إنتاج تتكاثر. وإذا كنا نستعمل رؤوس أموال إضافية لاْرض تحولت إلى وسيلة إنتاج فإن الأرض تزداد بزيادة رأس المال بدون إضافة أي شيء على الأرض كمادة، يعني لا نضيف شيئاً لامتداد الأرض... إن أرض برودون كمادة هي التراب وتحديداته. وفيما يتعلق بالأبدية التي يصف بها الأرض فإن لها صفة مادة. الأرض كرأسمال ليست خالدة أكثر من أي رأسمال آخر.
إن الذهب والفضة اللذين يعطيان فائدة، هما دائمان وأبديان كالأرض. وإذا هبط سعر الذهب أو الفضة – بينما يبقى سعر الأرض في ارتفاع – فإن هذا الهبوط لا لكثرة أو قلة طبيعته الأبدية.
إن الأرض كرأسمال هي رأسمال ثابت، لكن الرأسمال الثابت يستعمل كرأسمال متداول. إن التحسينات التي تطرأ على الأرض تحتاج لتجديد الانتاج، وهذا يثبت تحويل المادة إلى وسيلة انتاج. ولو كانت الأرض كرأسماية أبدية، لكانت بعض الأرضي تمثل مظهراً مختلفاً عن المظاهر التي هي اليوم، ونلقي نظرة على الكمبانيا الرومانية وسيسلي كما كانت في ازدهارهما الماضي.
توجد أوقات تختفي الأرض كرأسمال رغم أن التحسينات تبقى في الأرض.
ففي الدرجة الأولى، يحدث هذا كل وقت يقضي على الريع الصافي بمناسبة أراض جديدة وأكثر خصوبة، وفي الدرجة الثانية، إن التحسينات التي يمكن أن تكون ذات قيمة في وقت ما تبطل أن تكون ذات قيمة عندما تصبح عامة وفقاً لتطور الزراعة العلمية.
ﺇن ممثل الأرض كرأسمال لا يكون صاحب الأرض بل هو المزارع. والنتائج التي تقدمها الأرض كرأسمال هي الفائدة والربح الصناعي وليس الريع. توجد أراضي تعطي فائدة وربحاَ لكنها لاتعطي ريعاً.
وباختصار، فالأرض طالما أنها تعطي فائدة فهي أرض رأسمال. بما أن أرض رأسمال لاتعطي ريعاً، اذن ليست هي ملكية أرض. إن الريع يحصل على العلاقات الاجتماعية حيث يحصل استغلال الأرض. ولا يمكن أن يكون الريع نتيجة لطبيعة الأرض. إن الريع هو نتاج اجتماع وليس نتيجة للتربة.
« ﺇن التحسينات في استعمال الأرض » نتيجة « لتكميل الصناعة » تسبب – بالنسبة لبرودون – ارتفاعاً مستمراً للريع. يسبب هذا التحسين هبوطه الزمني المؤقت.
وأين نضمن أي تحسين زراعي أو صناعي ؟ عندما نجعل العامل ينتج أكثر وعندما نجعل العامل ينتج أقل، شكراً لهذه التحسينات – فالعامل يتخلص من استعمال كمية عمل أكبر لانتاج أصغر نسبياً، ولا يحتاج أن يعود للتربة الثانوية وأن يوظف رأسمالاً لنفس الأرض التي تبقى منتجة بالتساوي مع غيرها.
وهكذا فإن هذه التحسينات، وهي أبعد من أن تحقق ريعاً كما يقول برودون تصبح على العكس صعوبات تمنع تحقيقها.
ﺇن ملاكي الأرض الانكليز في القرن السابع عشر لم يكونوا يتعلقون بهذه الحقيقة كي يعارضوا تقدم الزراعة لانهم يخافون ان تنقص مداخيلهم.
......................................................................................................................
1) الرجل الذي ينال ٤۰ اكو – هو بطل قصة فولتير لنفس العنوان: هو رجل متواضع وفلاح يعمل بكد ونشاط وينال دخلاً سنويا مقداره ٤۰ اكو.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
الملكية أو ريع الأرض
في كل حقبة تاريخية تطورت الملكية ونمت حسب مفهوم علاقات اجتماعية مختلفة، وهكذا لكي نعدد الملكية البرجوازية ماعلينا إلا أن نقدم عرضا عن كل العلاقات الاجتماعية للانتاج البرجوازي.
ولكي نحاول أن نحدد الملكية بأنها علاقات مستقلة أو لائحة مستقلة أو فكرة خالدة ومثالية، لا يكون هذا إلا خيالياً يمتطيه الميتافيزيك والفقه.
إن برودون – وهو يظهر أنه يتكلم عن الملكية عامة – يتكلم فقط عن ملكية الأرض أو ريع الأرض.
« إن أصل الريع، الملكية، هو شيء فوق الاقتصاد: إنه يوجد بوجود اعتبارات نفسية وأخلاقية وهذه الاعتبارات بعيدة الاتصال عن إنتاج الثروة » (المجلد ٢، صفحة ٢٦٥).
وهكذا يعني برودون أنه غير قادر أن يفهم الأصل الاقتصادي للريع والملكية، ويقول أن مقدرته تجبره أن ينسبها إلى اعتبارات أخلاقية ونفسية بعيدة الاتصال بانتاج الثروة، ولكن لها علاقة بضيق أفقه التاريخي. يؤكد برودون أنه يوجد شيء صوفي وعجيب فيما يتعلق بأصل الملكية. والآن – لننظر أعجوبة في أصل الملكية – أو لنعجل علاقة سرية بين الانتاج ذاته وتوزيع أدوات الانتاج. أليس هذا – لنستعمل لغة برودون – رفض أكيد لكل ادعاءات علم الاقتصاد ؟
إن برودون يضيف على نفسه قوله إنه في الحقيقة السابقة للتطور الاقتصادي – أي الرصيد – عندما كانت الاسطورة سبباً لاختفاء الحقيقة، وعندما هدد النشاط الانساني بفقدان ذاته، أضحى ضرورياً أن يرتبط الإنسان بقوة أكثر بالطبيعة، والآن كان الريع سعر هذا العقد أو الرباط. (المجلد ٢، صفحة ٢٦٩).
L’homme aux quarante écus تنبأ به برودون للمستقبل: « السيد الخالق. كل فرد سيد في عالمه، ولكن، ليس ممكناً أن تجعلني أعتقد ان العالم الذي يعيش به مصنوع من البذور ». في عالمك – حيث الرصيد النقدي كان وسيلة لفقدان الشخص في فراغ عميق، من الممكن أن تصبح الملكية ضرورية حتى تعمي إنسان الطبيعة. وفي عالم الانتاج الحقيقي حيث كانت ملكية اﻷرض دوماً تسبق الرصيد النقدي، نجد أن خوف برودون لم يكن موجوداً.
ولدى قبول فكرة الريع ولو مرة – مهما كان أصلها – تصبح موضوع مفاوضات مضادة بين المزارع ومالك الأرض. وماهي النتائج القصوى لهذه المفاوضات، أي ما هو المعدل العام للريع ؟ هذا ما يقوله برودون:
« ﺇن نظرية ريكاردو لاتجيب هذا السؤال. عندما ابتدأت المجتمعات، عندما كان الإنسان جديداً على الأرض، لم تكن أمامه إلا الغابات الواسعة الضخمة، عندما كانت الأرض واسعة وعندما كانت الصناعة مبتدئة، عندما كان كل هذا الريع لا يزال عدماً. واﻷرض – ولم تكن بعد نتيجة تشكيل العمل – كانت موضوع منفعة ولم تكن قيمة تبادل، كانت الأرض عامة ولم تكن اجتماعية، ورويداً رويداً نرى أن تكاثر العائلات وتقدم الزراعة أظهر قيمة الأرض وأصبح العمل يعطي الأرض قيمتها أي ما تستحقه: ومن هذا وجد الريع، فكلما أعطى الحقل ثماراً أكثر بنفس كمية العمل كلما كانت قيمته ترتفع ! وبما أن هدف المالكين كان الحصول على كل ما تنتجه الأرض لذلك أصبحت أجور المزارع أقل – يعني أقل من تكاليف الانتاج – وهكذا تبعث الملكية آثار العمل لكي تأخذ كل الانتاج الذي يزيد المصاريف الحقيقية. وبما أن المالك كان يحقق عملاً خارقاً، فالمزارع إذاً ليس إلا عاملاً مسؤولاً – هكذا تريد العزة الالهية – وعليه أن يؤدي للمجتمع كل زيادة عن أجرة المشروع... فالريع بجوهره هو وسيلة لتوزيع العدل وهو وسيلة من ألوف الوسائل التي تستخدمها عبقرية الاقتصاد لتحقق المساواة – لقد حصل تناقض عظيم بين المزارعين والملاكين من جراء تقدير الأرض – ولكن بدون وقوع اصطدام – وكان هذا التناقض يهدف إلى تسوية ملكيات الأرض بين مستغليها وصانعيها... وما كانت هذه الملكية السحرية تحتاج ﺇلا أن تنزع من المستغل فائض الانتاج الذي كان يعتبره ملكاً وحقاً له. فالريع أو باﻷحرى الملكية، حطم الأنانية الزراعية وأوجد واقعاً لايمكن أن تخلفه لاقوة ولا تقسيم الأرض... والتأثير الأخلاقي الذي تركته الملكية في الوقت الحاضر هو العمل على توزيع الريع » (المجلد ٢، صفحة ٢٧٠، ٢٧٢).
يمكن اختصار كل هذا المزيج من الكلام هكذا: يقول ريكاردو أن زيادة سعر المنتوجات الزراعية عن تكاليف إنتاجها – متضمناً الربح العادي والفائدة على رأس المال – يعطينا مقياس الريع. إن برودون يصيب أكثر ﺇذ يجعل المالك يتدخل وينتزع من المستغل كل فائض انتاجه الذي يزيد عن تكاليف الانتاج. إنه ينتفغ من تدخل المالك لكي يشرح الريع، إنه يجيب على السؤال عندما يصيغ قاعدة لنفس المسألة ويضيف عليها مقطعاً.
ولنلاحظ أنه لدى تحديد الريع من جراء اختلاف خصوبة الأرض، نجد برودون يعني أصلاً جديداً له – بما أن الأرض قبل وجودها تشكل درجات متفاوتة الخصوبة – لم تكن في نظره قيمة التبادل بل كانت عامة، ماذا حدث ﺇذاً لأسطورة الريع التي وجدت من ضرورة ﺇرجاع إنسان للأرض كاد أن يفقد نفسه في أبدية فراغ هائل ؟
والآن لنحرر نظرية ريكاردو من سيطرة القوة الالهية ومن القالب الذي صاغها به برودون ؟
ﺇن الريع – حسب نظرية ريكاردو – هو ملكية الأرض في حالتها البرجوازية، أي ملكية الاقطاع التي أصبحت خاضعة لشروط الانتاج البرجوازي.
لقد رأينا – بالنسبة لنظرية برودون – أن سعر كل الأشياء يتحدد بتكاليف إنتاجها، بالاضافة للربح الصناعي، أي وقت العمل المستخدم. ففي الصناعة الآلية نجد سعر المنتوج المحصول بأقل كمية عمل ممكن ينظم سعر كل السلع الاخرى التي هي من نفس النوع، أخذه بعين الاعتبار أن أرخص أدوات الانتاج وأكثرها انتاجية يمكن إكثارها للانهاية وأن المنافسة تخلق سعر السوق، أي تخلق سعراً عاماً لكل المنتوجات من نفس النوع.
وفي الصناعة الزراعية على العكس، نجد أن سعر المنتوج المحصول عليه بأكبر كمية عمل ينظم سعر المنتوجات الأخرى التي هي من نفس النوع. ففي الدرجة لا يقدر أحد – كما هو المثال في الصناعة الآلية أن يكثر كما يريد أدوات الانتاج التي لها نفس درجة الانتاج، أي إيجاد أراضي لها نفس درجة الخصوبة. وهكذا، لدى زيادة السكان – نجد أن الأرضي ذات القيمة المنخفضة، يوظف فيها رأسمال قليل. وفي كلا الحالتين تتطلب كمية أكبر من العمل للحصول على إنتاج أقل. وبما أن حاجات السكان تطلبت ضرورة زيادة العمل، فإن منتوج الأرض الذي يكلف استغلالها أكثر يكون كبيع أرض استغلالها أرخص. وبما أن المنافسة تخلق سعر منتوج الأرض، فإن زيادة سعر المنتوجات – الذي يعود لتربة أحسن يزيد على تكاليف انتاجها – هذا الانتاج الذي يشكل الريع. ولو كان يقدر شخص أن يجد أراضي بنفس درجة الخصوبة ولو كان يقدر – في الصناعة الآلية – أن يؤدي باستمرار إنتاج الأشياء وبشكل أرخص وتقديم آلات إنتاج أكثر وأرخص، وأن توظيف رأس المال الاضافي كان يعطي نتيجة كاﻷول، لكان سعر المنتوجات الزراعية يتحدد بسعر السلع المنتوجة بأحسن وسائل الانتاج – كما رأينا بمثل سعر المنتوجات المصنوعة. ولكن الريع يختفي منذ هذه اللحظة.
ولو كانت نظرية ريكاردو كلها حقيقة، لكان من الضروري لرأس المال أن يستعمل بحريته في فروع الصناعة المختلفة، لكننا نجد منافسة قديمة بين الرأسماليين تحصر الأرباح في مستوى واحد متساو، ولكنا نجد المزارع رأسمالياً صناعياً يطلب توظيف رأسماله في أرض ثانوية لينال ربحاً مساوياً ﻷي ربح في أي صناعة، ولو كان هذا لكان الاستقلال الزراعي يخضع للصناعة ذات الانتاج الضخم، وأخيراً لكان مالك الأرض نفسه لايهدف ﺇلا لارجاع دراهمه.
لا يمكن أن يحدث – كما حدث في ايرلندا – أن الريع لا يوجد رغم أن تطور الأرض ونموها وصل درجة قسوى. والريع، بما أنه زيادة عن الأجور وعن الربح الصناعي لا يمكن أن يوجد حيث لا تكون واردات مالك الأرض شيئاً.
وهكذا، بعد أن تتصور تحويل مستغل اﻷرض أو المزارع إلى عامل بسيط، وأن ننتزع من المستغل فائض انتاجه الذي لا يتنازل عنه ﻷنه يعده خاصاً به، فإن الريع يقف مانعاً لصاحب اﻷرض ليس بواسطة الخادم بل بواسطة من يجعل صاحب الأرض أن يقف مضاداً للرأسمالي الصناعي وليس مع الخادم أو مع العبد أو مع دافع الفريضة أو مع عامل الاجرة.
إذا اعتبرنا ولو مرة ريع الأرض، فإن ملكية الأرض لاتعود تملك فائض تكاليف الانتاج التي تتحدد بالأجور وبأرباح الصناعة. لذلك نجد أن ريع اﻷرض انتزع من مالك اﻷرض قسماً من دخله. وهكذا مر وقت طويل قبل أن يحل الرأسمالي الصناعي محل المزارع الاقطاعي. ففي ألمانيا مثلاً، ابتدأ هذا التحويل قي آخر القسم الثالث من القرن الثامن عشر. وفي انكلترا فقط كانت هذه العلاقة قائمة بين الرأسمالي الصناعي ومالك الأرض.
وطالما أن مستغل الأرض الذي قال عنه برودون، موجود فلا وجود للريع. وفي الوقت الذي يوجد فيه الريع، فإن مستغل الأرض لا يبقى المزارع بل يكون العامل أي مزارع مستغل الأرض. إن تحقير العامل وجعله بمثابة شغيل بسيط، أي شغيل يومي، وجعله يعمل للرأسمالي الصناعي، وتدخل الرأسمالي الصناعي – وهو يستغل اﻷرض كأنه يستغل مصنعاً – وتمويل مالك اﻷرض من حاكم مطلق صغير إلى مرابي فظيع، هذه كلها هي العلاقات المختلفة التي يعبر عنها الريع.
ﺇن الريع – في نظرية ريكاردو – هو الزراعة البطريركية المتحولة لصناعة تجارية وهو الرأسمال الصناعي الذي يستعمل لاستثمار الأرض وهو برجوازية المدنية المطبقة في القرية. والريع – عوضاً ان يوجد الانسان بالطبيعة. قد ربط استغلال الأرض بالمنافسة. وعندما تعد ملكية اﻷرض ريعاً فان ملكية اﻷرض ذاتها تصبح نتيجة للمنافسة ولذلك فهي من ذلك الوقت تعتمد على قيمة السوق للانتاج الزراعي. وكريع، تصبح ملكية الأرض مادة للتجارة. ان الريع ممكن تحقيقه فقط من لحظة تطور الصناعة القعرية ومن لحظة ما ينتج عنها تنظيم اجتماعي، وهذا م اجبر مالك الأرض ان يحصر هدفه في الارباح النقدية. وان ينظر ال العلاقة النقدية لمنتوجاته الزراعية – وفي الواقع ينتظر من ملكيته للاْرض ان تكون تربة آلة لتحصيل النقد. لقد جعل الريع مالك ﻷرض ان يطلق التربة، وان يطلق الطبيعة حتى انه لا يحتاج ان يعرف ملكياته، وهذا ما حدث في انكلترا. فيما يتعلق بالمزارع وبالرأسمالي الصناعي والشغيل الزراعي، فانهم لايرتبطون باﻷرض التي يستغلونها اكثر من المستخدم والشغيل في المصانع بالنسبة للقطن والصوف الذي يصنعونه، انهم يسعرون برباط فقط لانتاجهم النقدي. وهناك بعض الذين يعدون أنفسهم تقدميين تقدمون صلواتهم لاعادة الاقطاعية والحياة البطريركية الصالحة وعادات آبائنا وأجدادنا الصالحين. ان اخضاع التربة للقوانين التي تحكم كل الصناعات اﻷخرى يخضع دائماً للمصالحة.وهكذا يمكن القول أن يقال ان الريع أصبح دافع القوة التي ادخلت الشعر إلى حركة التاريخ.
ﺇن ريكاردو بعد ان جعل الانتاج البرجوازي ضرورياً لتحديد الريع – يطبق فكرة الريع بالنسبة لملكية اﻷرض في كل العصور وفي كل البلدان. وهذا خطأ تجده عند كل الاقتصاديين الذين يمثلون علاقات الانتاج البرجوازية كلوائح أبدية.
يستنتج من الهدف اﻹلهي للريع الذي هو بالنسبة لبرودون تحويل المستغل إلى شغيل مسؤول ليحصل على مكافأة الريع المتساوية.
ﺇن الريع، كما رأينا، يشكل بالسعر المتساوي لكل منتوجات اﻷراضي ذات الخصوبة غير المتساوية حتى أن هكتوليتر القمح الذي كلف 10 فرنكات يباع ﺑ 20 فرنكاً إذ أن تكاليف الانتاج ترتفع إلى 20 فرنكاً زيادة عن خصوبة تربة من نوع أدنى.
وطالما أن الحاجة تجبر شراء كل المنتوجات الزراعية التي تأتي للسوق، فإن سعر السوق يتحدد بتكاليغ أغلى منتوج. وهكذا نرى أن هذا التساوي في السعر – الناتج عن المنافسة وليس عن اختلاف خصوبة الأرضي – هو الذي يحفظ لصاحب أحسن تربة ريعاً من 10 فرنكات لكل هكتوليتر يبيعه الرجل الذي يشتغل بأرضه.
لنفترض أن سعر القمح يحدد بوقت العمل الذي تحتاج لانتاجه، فنجد أن هكتوليتر القمح الذي نحصل عليه من تربة أحسن يباع ﺑ 10 فرنكات، بينما هكتوليتر القمح الذي يحصل عليه من نوع أقل يكلف 20 فرنكاً. لدى قبوانا بهذا نرى أن معدل سعر السوق يكون 15 فرنكاً. وبما أن سعر السوق يتبع قانون المنافسة فانه يصبح 20 فرنكاً. وإذا كان معدل السوق 15 فرنكاً فعندئذ لا تسنح فرصة لأي موزع أن يكون له ريع. يوجد الريع فقط عندما يستطيع شخص أن يبيع ﺑ 20 فرنكاً هكتوليتر القمح الذي يكلف المنتج 10 فرنكات. ويفترض برودون تساوي سعر السوق بتكاليف إنتاج غير متساوية لكي يصل إلى مشاركة متساوية لانتاج غير متساو.
نحن نفهم اقتصاديين مثل: هيدلتش، وتربليو، وميل، وآخرين يقولون أن الريع يجب أن يعطي للدولة لكي تقوم مقام الضرائب. ﺇن هذا التعبير صريح لكره الرأسمالي الصناعي وهذا العمل يحمل لمالك الأرض لنفس النتيجة.
ولكن لنجعل أولاً سعر هكتوليتر القمح 20 فرنكاً حتى نجعل توزيعاً عاماً ﻟ 10 فرنكات أتعاب اضافية على المستهلك، وهذا يكفي لجعل العبقرية الاجتماعية أن تتبع طريقها الملتوي بحزن – وتطرق برأسها خجلاً.
يصبح الريع – حسب تعبير برودون « تقسيم أرض كبيرة متناقضة بنظر المزارع ومالك الأرض... تكون نتيجتها الكلية مساوية لملكية الأرض لمصلحة المستغلين للتربة والصناعيين » (المجلد 2، صفحة 27).
ﺇن تقييم أية قطعة أرض قائمة على الريع لتكون ذات قيمة واقعية، وشروط المجتمع الحاضر يجب أن يكون مختلفاً عن التقييم.
والآن أظهرنا أن ريع المزرعة الذي يدفعه المزارع لسيده يعبر عن الريع بالضبط في البلدان المتقدمة في الصناعة والتجارة. حتى أن هذا الريع لا يتضمن الفائدة المدفوعة لصاحب الأرض على رأس المال المستثمر في الأرض. إن مركز الأرض وجوارها من المدن وعوامل أخرى تؤثر على ريع المزرعة وبشكل ريع الأرض. هذه الاسباب تعد كافية لتبرهن عن عدم دقة تقييم الأرض القائم على الريع.
ومن جهة ثانية، يمكن للريع أن لا يكون الدليل الثابت عن وجه خصوبة قطعة الأرض بما أن كل تغيير في تطبيق علم الكيمياء الحديث يغير التربة، والمعرفة الجيولوجية تبدل اليوم كل تقديرات الخصوبة النسبية. لقد كان منذ 20 سنة حتى تم استعمال الأرضي في قرى انكلترا الشرقية. لقد تركت غير مفلوحة نتيجة للجهل.
وهكذا فالتاريخ وهو قاصر على أن يجد في الريع تقييماً حاضراً للأرض، لا يعمل شيئاً ﺇلا أنه يغير ويقلب تقييمات الأرض الحاضرة.
ونقول أخيراً إن الخصوبة ليست صفة طبيعية كما يظن، إنها مرتبطة بالعلاقات الاجتماعية للوقت السائد. يمكن أن تكون قطعة أرض خصبة جداً لزراعة القمح، ولكن السعر المحدود يجعل الفلاح يفلبها إلى مرعى طبيعي ويجعلها غير خصبة.
لقد فرض برودون تقييمه للأرض – هذا التقييم الذي ليس له قيمة لتقييم أرض عادية – ليبرهن فقط عن هدف العزة الالهية للريع.
يتابع برودون قائلاً « إن الريع هو الفائدة المدفوعة على رأسمال لايغنى – وهو الأرض. وبما أن رأس المال قادر أن لا يزيد في مادته لكن في تحسين طريقة استعماله، نستنتج أنه بينما نرى فائدة أو ربح قرض يميل للنقصان تدريجياُ بواسطة غزارة رأس المال، فإن الريع يميل دوماً للزيادة بواسطة تكميا الصناعة. ومن هذا ينتج تحسين في استعمال الأرض... وهذا هو الريع في جوهره ». ( المجلد 2، صفحة 265).
يرى برودون هذه المرة في الريع كل أوصاف الفائدة ما عدا أنه ينبثق من رأسمال له طبيعته الخاصة. هذا الرأسمال هو الأرض، رأسمال أبدي « غير قادر ان يزداد في مادته لكن بتحسين طريقة استعماله ». ونجد في تقدم المدنية أن الفائدة تميل باستمرار للهبوط، بينما يميل الريع للارتفاع دوماً. تهبط الفائدة بسبب غزارة رأس المال، ويرتفع الريع بسبب التحسين الذي يدخل على الصناعة والتي تنتج إذ تنتفع دوماً من الأرض.
وهذه هي نظرية برودون في جوهرها.
دعنا بادىْ الاْمر نفحص إلى أي حد نعتبرها حقيقة عندما نقول أن الريع هو فائدة على رأس المال.
إن الريع بالنسبة لمالك الأرض نفسه يمثل فائدة على رأس المال الذي كلفته ﺇياه الأرض، أو الرأسمال الذي حصل عليه من بيع الأرض ولكنه في بيع وشراء الأرض فإنه يبيع أو يشتري ريعاً. والسعر الذي يدفعه ليجعل من نفسه قابضاً للريع ينظم عامة بنسبة الفائدة وليس له علاقة بطبيعة الريع. إن الفائدة على الرأسمال الموظف في الصناعة أو في التجارة. وهكذا بالنسبة الذين لايميزون بين الفائدة التي تمثلها الأرض لصاحبها وبين الريع ذاته فان فائدة رأس مال الأرض تنقص أكثر من رأس مال يوظف في أي عمل آخر. ولكن السؤال ليس مجرد مسألة بيع أو شراء سعر الريع أو قيمة السوق للريع أو ريع الرأسمال، إنه سؤال عن الريع ذاته.
ﺇن ريع المزرعة يمكن أن يطبق ثانية – ليس كريع صاف – الفائدة على رأسمال موظف في الأرض. وفي هذه اللحظة يستلم السيد هذا القسم من ريع المزرعة، ليس كصاحب أرض بل كرأسمالي ! ولكن ليس هذا هو الريع الصافي الذي نتكلم عنه.
الأرض طالما أنها لا تستغل كوسيلة إنتاج لا تكون رأسمالاً. والأرض كرأسمال يمكن أن يزداد كما تزداد كل وسائل الانتاج. ولا شيء يضاف لمادتها لنستعمل لغة برودون – لكن الأرضي التي تخدم كوسائل إنتاج تتكاثر. وإذا كنا نستعمل رؤوس أموال إضافية لاْرض تحولت إلى وسيلة إنتاج فإن الأرض تزداد بزيادة رأس المال بدون إضافة أي شيء على الأرض كمادة، يعني لا نضيف شيئاً لامتداد الأرض... إن أرض برودون كمادة هي التراب وتحديداته. وفيما يتعلق بالأبدية التي يصف بها الأرض فإن لها صفة مادة. الأرض كرأسمال ليست خالدة أكثر من أي رأسمال آخر.
إن الذهب والفضة اللذين يعطيان فائدة، هما دائمان وأبديان كالأرض. وإذا هبط سعر الذهب أو الفضة – بينما يبقى سعر الأرض في ارتفاع – فإن هذا الهبوط لا لكثرة أو قلة طبيعته الأبدية.
إن الأرض كرأسمال هي رأسمال ثابت، لكن الرأسمال الثابت يستعمل كرأسمال متداول. إن التحسينات التي تطرأ على الأرض تحتاج لتجديد الانتاج، وهذا يثبت تحويل المادة إلى وسيلة انتاج. ولو كانت الأرض كرأسماية أبدية، لكانت بعض الأرضي تمثل مظهراً مختلفاً عن المظاهر التي هي اليوم، ونلقي نظرة على الكمبانيا الرومانية وسيسلي كما كانت في ازدهارهما الماضي.
توجد أوقات تختفي الأرض كرأسمال رغم أن التحسينات تبقى في الأرض.
ففي الدرجة الأولى، يحدث هذا كل وقت يقضي على الريع الصافي بمناسبة أراض جديدة وأكثر خصوبة، وفي الدرجة الثانية، إن التحسينات التي يمكن أن تكون ذات قيمة في وقت ما تبطل أن تكون ذات قيمة عندما تصبح عامة وفقاً لتطور الزراعة العلمية.
ﺇن ممثل الأرض كرأسمال لا يكون صاحب الأرض بل هو المزارع. والنتائج التي تقدمها الأرض كرأسمال هي الفائدة والربح الصناعي وليس الريع. توجد أراضي تعطي فائدة وربحاَ لكنها لاتعطي ريعاً.
وباختصار، فالأرض طالما أنها تعطي فائدة فهي أرض رأسمال. بما أن أرض رأسمال لاتعطي ريعاً، اذن ليست هي ملكية أرض. إن الريع يحصل على العلاقات الاجتماعية حيث يحصل استغلال الأرض. ولا يمكن أن يكون الريع نتيجة لطبيعة الأرض. إن الريع هو نتاج اجتماع وليس نتيجة للتربة.
« ﺇن التحسينات في استعمال الأرض » نتيجة « لتكميل الصناعة » تسبب – بالنسبة لبرودون – ارتفاعاً مستمراً للريع. يسبب هذا التحسين هبوطه الزمني المؤقت.
وأين نضمن أي تحسين زراعي أو صناعي ؟ عندما نجعل العامل ينتج أكثر وعندما نجعل العامل ينتج أقل، شكراً لهذه التحسينات – فالعامل يتخلص من استعمال كمية عمل أكبر لانتاج أصغر نسبياً، ولا يحتاج أن يعود للتربة الثانوية وأن يوظف رأسمالاً لنفس الأرض التي تبقى منتجة بالتساوي مع غيرها.
وهكذا فإن هذه التحسينات، وهي أبعد من أن تحقق ريعاً كما يقول برودون تصبح على العكس صعوبات تمنع تحقيقها.
ﺇن ملاكي الأرض الانكليز في القرن السابع عشر لم يكونوا يتعلقون بهذه الحقيقة كي يعارضوا تقدم الزراعة لانهم يخافون ان تنقص مداخيلهم.
......................................................................................................................
1) الرجل الذي ينال ٤۰ اكو – هو بطل قصة فولتير لنفس العنوان: هو رجل متواضع وفلاح يعمل بكد ونشاط وينال دخلاً سنويا مقداره ٤۰ اكو.
النشرالكتروني: عبد الرحمن أرموسى
كارل ماركس
1818-1883
مؤسس الشيوعية العلمية و فلسفة المادية الجدلية و المادية التاريخية و الاقتصاد السياسي العلمي, و زعيم و معلم البروليتاريا العالمية. ولد في ترييف حيث أنهى المدرسة الثانوية في عام 1830, و بعد ذلك التحق بجامعة بون ثم جامعة برلين. و في ذلك الوقت كانت نظرته العامة للعالم قد بدأت تتـشكل. و قد ترك الاتجاه اليساري في فلسفة هيغل أثره على تطور ماركس الروحي. لقد تمسك ماركس بالأفكار الديمقراطية الثورية فاتخذ موقفا يسارياً متطرفاً بين الهيغليين الشبان. و في مؤلفه الأول الذي كان رسالته في نيل درجة دكتوراه في الفلسفة «الاختلاف بين فلسفة ديموقريطس الطبيعية و فلسفة أبيقور الطبيعية» (1841), يخرج ماركس من فلسفة هيغل – رغم مثاليته – بنتائج جذرية و الحادية للغاية. و في عام 1842 أصبح ماركس عضواً في هيئة تحرير صحيفة «راينيش تسايتونغ» ثم أصبح فيما بعد رئيس تحريرها. و قد حول ماركس الصحيفة إلى أداة للديمقراطية الثورية. و خلال نشاطه العلمي و أبحاثه النظرية, اصطدم ماركس مباشرة بالفلسفة الهيغلية, بسبب اتجاهاتها التوفيقية و نتائجها السياسية المحافظة, و لسبب التفاوت بين مبادئها و العلاقات الاجتماعية الفعلية, و مهام تحويل هذه العلاقات. و في هذا الصدام مع هيغل و الهيغليين الشبان تحول ماركس إلى الموقف المادي, و لعبت معرفته بالتطورات الاقتصادية الحقيقية و فلسفة فيورباخ الدور الحاسم في عملية تحوله. و حدثت ثورة نهائية في نظرة ماركس العامة للعالم نتيجة لتغير في موقفه الطبقي, و انتقاله من الديمقراطية الثورية إلى الشيوعية الثورية (1844). و قد نتج هذا الانتقال عن تطور الصراع الطبقي في أوربا (و قد تأثر ماركس تأثراً كبيراً بالثورة السيليزية التي وقعت في ألمانيا عام 1844), و عن اشتراكه في الصراع الثوري في باريس التي كان قد هاجر إليها بعد أن أغلقت صحيفته «راينيش تسايتونغ» (1843), و عن دراسته للاقتصاد السياسي و الاشتراكية الخيالية و التاريخ. و قد عبر عن موقفه الجديد في مقالين نشرا (1844) بعنوان «في نقد فلسفة الحقوق عند هيغل» هنا يكشف ماركس لأول مرة الدور التاريخي للبروليتاريا و يصل إلى النتيجة القائلة بحتمية الثورة الاجتماعية, و ضرورة توحيد حركة الطبقة العاملة مع نظرة عامة علمية إلى العالم. و في ذلك الوقت كان التقى ماركس و انجلز و بدآ يصوغان بطريقة منهجية نظرة جديدة للعالم. و قد عممت نتائج البحث العلمي و المبادئ الأساسية للنظرة الجديدة في المؤلفات التالية «المخطوطات الاقتصادية و الفلسفية» (1844) – «العائلة المقدسة» (1845) – «الإيديولوجيا الألمانية» (1845-1846) و قد كتبه ماركس بالاشتراك مع انجلز – «أطروحات حول فيورباخ» (1845). و أول كتاب في الماركسية الناضجة «بؤس الفلسفة» (1847) و تشكلت الماركسية كعلم متكامل يعكس وحدة كل الأجزاء المكونة لها. و في عام 1847 كان ماركس يعيش في بروكسل حيث انضم إلى جمعية دعائية سرية كانت تسمى عصبة الشيوعيين, و قام بدور نشط في المؤتمر الثاني للعصبة. و وضع ماركس و انجلز –بناء على طلب المؤتمر– «بيان الحزب الشيوعي» (1848) و فيه استكمالا توضيح الماركسية. إن هذا المؤلف «يضع الخطوط العريضة لتصور جديد للعالم, هو المادية المتماسكة, و هو تصور يضم أيضاً مجال الحياة الاجتماعية و الجدل, باعتباره أكثر نظريات التطور شمولاً و عمقاً, و نظرية صراع الطبقات, و نظرية الدور الثوري التاريخي العالمي للبروليتاريا – خالقة المجتمع الشيوعي الجديد» (لينين). إن المادية الجدلية و التاريخية فلسفة علمية على الحقيقة – تمتزج فيها امتزاجا عضويا المادية و الجدل, الفهم التاريخي للطبيعة و المجتمع, التعاليم عن الوجود و المعرفة النظرية و الممارسة. و قد جعل هذا في الإمكان التغلب على الطبيعة الميتافيزيقية لمادية ما قبل الماركسية و التأمل الملازم لها, و اعتبارها الانسان مركزا للكون و فهمها المثالي للتاريخ. و فلسفة ماركس هي أكثر المناهج كغاية لإدراك العالم و تغييره. و قد أثبت تطور التطبيق و العلم في القرنين التاسع عشر و العشرين – بطريقة مقنعة – تفوق الماركسية على كل أشكال المثالية و المادية الميتافيزيقية. و قد زاد مذهب ماركس قوة باعتباره الشكل الوحيد للايديولوجية البروليتارية خلال النضال ضد جميع أنواع التيارات غير العلمية المناهضة للبروليتاريا, و البورجوازية الصغيرة. و يتميز نشاط ماركس بالتشيع (للطبقة العملة), و عدم الاستعداد للمصالحة مع أي انحراف عن النظرية العلمية. و قد اشترك ماركس بدور فعال في النضال التحرري للبروليتاريا. فخلال ثورة 1848-1849 في ألمانيا كان في مقدمة النضال السياسي, و دافع دفاعا حازما عن موقف البروليتاريا بصفته رئيسا لتحرير الصحيفة التي أسسها. و عندما نفي من ألمانيا في عام 1849 استقر مؤقتا في لندن. و بعد حل عصبة الشيوعيين (1852) واصل ماركس نشاطه في الحركة البروليتارية عاملا من أجل خلق «الأممية الأولى» (1864) و كان نشيطا في هذا التنظيم, و كان يتابع عن كثب تقدم الحركة الثورية في جميع البلدان, و أبدى اهتماما خاصا بروسيا. و قد ظل ماركس حتى آخر يوم من أيام حياته يعيش في خضم الأحداث المعاصرة. و أتاح له هذا المعلومات التي لا غنى عنها لتطوير نظريته. و كانت تجربة الثورات البرجوازية في أوروبا في 1848-1849 ذات أهمية كبرى في تطوير ماركس لنظرية الثورة الاشتراكية و صراع الطبقات, و لفكرة دكتاتورية البروليتاريا, و تكتيكات البروليتاريا في الثورة البرجوازية, و ضرورة تحالف العمال و الفلاحين «الصراعات الطبقية في فرنسا» (1850) و التدمير الحتمي لأداة الدولة البورجوازية («الثامن عشر من برومير لويس بونابرت» 1852). و عندما درس ماركس تجربة كومونة باريس («الحرب الأهلية في فرنسا» 1871) اكتشف شكلا لدولة دكتاتورية البروليتاريا, و حلل بعمق الإجراءات التي اتخذتها سلطة أول دولة لدكتاتورية البروليتاريا. و في كتابه «نقد برنامج غوتا» (1875) أحدث ماركس مزيدا من التطور في نظريته في الشيوعية العلمية. كتابه الرئيسي هو «رأس المال»: نشر المجلد الأول منه عام 1867, و الثاني نشره انجلز عام 1885 و الثالث في عام 1894, و قد وضع خلق الاقتصاد السياسي العلمي للشيوعية. أما الأهمية الفلسفية لكتاب «رأس المال» فلا مثيل لها. فهو يجسد المنهج الجدلي في البحث بصورة رائعة. و قد وضع ماركس في صورة موجزة في مقدمته لكتاب «نقد الاقتصاد السياسي» (1859) – و هو واحد من أوائل مؤلفاته في الاقتصاد – جوهر الفهم المادي من فرض إلى علم. و تحتوي مراسلات ماركس على الكثير مما يميز فلسفته. و لم يسبق قط أن تأكد مذهب على هذا النحو في التطبيق, كالمذهب الذي وضعه ماركس. و قد طور لينين – إلى جانب تلاميذه و أتباعه – الماركسية في ظل ظروف تاريخية جديدة.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire