زيارة للمفكر علي شريعتي في غربته الأخيرة
عاش غريبا، ومات غريبا، ودفن ها هنا غريبا، ولكن ربما ما يخفف عليه
غربته الأخيرة أنها تمت استجابة لوصيته بدفنه إلى جوار غريبة أهل البيت في
منفاها ومنفاه الأخير في إحدى ضواحي دمشق الريفية، والتي عاش يتلمس أثر
خطواتها، ويحمل بيرق الثورة والاستنهاض، لعل هذا الشرق الغافي الغافل يفيق
من السبات الشتوي الطويل.
عاش في غربة بين بني قومه، يحمل الفانوس
ويبشر بولادة يوم جديد، لا يعود بلده ذيلا إلى البيت الأبيض أو شرطيا
لحماية المصالح الغربية. فاصطدم بالشاه، واصطدم بالأميركان، واصطدم بـ
"مقلدي" ماركس وعباد لينين، واصطدم بالعمائم الجامدة التي تخاف من ظلها،
وتفضل العيش الذليل على موت الأعزة الشامخين.
على بعد كيلومترات عدة
من العاصمة السورية، يمكنك أن تستقل سيارة أجرة إلى حي السيدة زينب، إذ
تنتصب منارتاها وقبتها الذهبية، وسط بيوت متواضعة، لو زرتها قبل سبعة
وعشرين عاما "بداية دفنه هنا"، لرأيت شارعها الرئيسي الطيني من دون أرصفة،
ومن حوله عدد من الدكاكين الصغيرة المبعثرة، ومحطة باصات صغيرة، وعليك أن
تنتظر طويلا حتى يأتي الباص الذي سيقلك إلى الشام "دمشق". وعندما ينزل
المطر تتحول هذه الشوارع إلى مستنقعات.
اليوم تغيرت الصورة في بعض
تفاصيلها، فيما ظلت الشوارع تتحول إلى مستنقعات كلما نزل المطر. هناك أرصفة
على جانبي الطريق، وفي وسطه حاجز حديد، وكثرة من الدكاكين التي تبيع
الملابس ومواد التموين والحلويات والمطاعم و... وهناك أحياء كاملة
للعراقيين الذي شرد صدام حسين نصفهم على مدار ثلاثين عاما، وشرد نصفهم
الآخر الأميركان على مدى خمسة عشر عاما، ما بين حربي الخليج الثانية
والثالثة، فاستقروا في هذ الحي الفقير واتخذوه ملجأ وموطنا للغرباء. في
مقابل الحرم الزينبي، هناك سور وراءه حديقة، في آخرها من جهة اليمين باب
أشبه بمدخل مرآب السيارات، وعلى الجدار كتبت عبارة "قبر الدكتر علي
شريعتي".
قبل عامين كنت أحاول البحث عن هذا القبر بعد عشرين عاما من
الزيارة الاولى، لعلمي بوجوده في هذه البقعة من الأرض، ولكن أين هو الآن
بعد أن تبدلت المعالم؟ ولم أعثر عليه إلا في اليوم الأخير من الرحلة، وكنا
على وشك المغادرة. أما اليوم فقصدته حاملا معي مصورتي لأحتفظ بتسجيل وصفي
لهذا المأوى الأخير، الذي استقر فيه هذا المفكر العملاق، بعد رحلة مطاردة
من قبل السافاك الايراني، لم يتركه فيها إلا قتيلا في عاصمة الضباب لندن،
في حادث مشبوه. ونقل إلى دمشق إذ شارك في تأبينه آنذاك الإمام موسى الصدر،
وياسر عرفات، ليدفن إلى جوار من اتخذها قدوة في طريق النضال، في زمن لم يكن
يلد الثورات حتى تلك اللحظة: "الذين قاموا بالثورة فهم حسينيون، وعلى
الباقين أن يقوموا بعمل زينبي، وإلا فهم يزيديون"... وكان مقتله من بين
الأسباب التي تداخلت في إثارة الشارع الايراني ضد حكم محمد رضا بهلوي الى
درجة اللاعودة.
عندما تتجاوز باب "المرآب" ستكتشف أن وراءه مقبرة
واسعة، تلقاك في أولها الشواهد الرخامية العالية، أكثرها لقبور متوفين من
عوائل لبنانية "ثرية" من الجنوب. وفي أقصى الركن الأيمن هناك حجرة صغيرة
مستطيلة بها شبكان، وفي طرف الغرفة قبر تغطيه قطع من الرخام، ينام تحتها
علي شريعتي في هدوء وسكينة لم يعرفهما في حياته قط، بين السجن والمنفى وحمل
الفانوس الزينبي يوم كان يبشر بولادة اليوم الجديد.
على أرض الغرفة
هناك بعض الورود الجافة التي ألقاها بعض محبيه، وعلى الجدار الخارجي أسماء
وتواقيع وعبارات بالفارسية، يتركها بعض زائريه ليقرأها الزوار الجدد. وعلى
الجدار المقابل هناك رف خشبي فارغ، لا أدري من الذي صنعه، كأنه أعد للكتب
التي ما عاد شريعتي بحاجة إليها بعد اليوم. فقط هناك لوحة صغيرة كتب عليها
عبارة "السلام عليك يا علي بن موسى الرضا"، وهو غريب آخر، شرده ظلم
العباسيين من مدينة جده محمد "ص" إلى الأقاصي في شمال خراسان، ليبقى اسمه
مرتبطا بالغربة في الوجدان الشعبي. وحول القبر هناك ثلاث صور مختلفة للمفكر
الشهيد، وهناك بعض الاوراق البيضاء التي كتبت عليها بعض الأشعار، إلى جانب
ورقة أخرى كتبت عليها كلمة أخرى يصعب قراءتها، ولكن لا تخطئ العين اسم
صاحب القبر أدناها.
الإيرانيون لم ينسوا مفكرهم الكبير. وعلى رغم ما
لحق باسمه من تشويه، وعلى رغم ما ألصق بفكره من ارتباط مزعوم من جانب بعض
الأطراف المناهضة للثورة في بدايتها، فانه جرى ما يشبه إعادة الاعتبار إليه
أيام رفسنجاني، مع الحاجة الماسة في تلك الفترة للخروج من مرحلة ما بعد
الحرب العراقية الإيرانية.
إذا تطلعت في وجه زوار شريعتي في غربته
الأخيرة، ستلاحظ أن الأعمار تتدرج فوق الثلاثين. فقليلا ما ستجد من بينهم
شبابا أقل من العشرين، بينما أكثرهم من عمر الأربعين، الذين كانوا شبابا
يوم مقتله وعاصروا ثورته الفكرية، وما بين الخمسين والستين عاما، ممن عرفوه
وتابعوه طويلا، في حسينية جمران يعيد للإيرانيين اكتشاف مفاهيم الثورة
والجهاد. وتأتي زيارتهم اليوم عرفانا لدوره الكبير في التمهيد للثورة التي
أطاحت بعرش الشاهنشاه الكبير. وقد يدهشك أن تجد من بين الزوار نساء عجائز،
بالكاد يسعين على أرجلهن قصدا لزيارة قبر الشهيد. ملابس هؤلاء النسوة تكشف
أنهن من غير نساء المدينة "العصريات"، يأتين ملتفات بالشادور الأسود وسط
هذا الجو الدمشقي البارد تكريما لهذا النائم منذ 27 عاما في هذه الغرفة
الباردة، تحت هذه الرخامة البيضاء. هل هو مجرد "وفاء" اعتاده الشرقيون
أصحاب القلوب الرقيقة، أم أن الرجل أعطاهم أعظم هدية: "الفانوس" الذي أضاء
لهم الدرب وأذاقهم طعم الحرية لأول مرة منذ خمسة وعشرين قرنا من الاستبداد،
وخلص بلادهم من السجن في إحدى غرف البيت الأبيض على مدار ستين عاما؟
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 855 - السبت 08 يناير 2005م الموافق 27 ذي القعدة 1425هـ
دمشق - قاسم حسين
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire