قام «نعيم بدوي» (1911- 2002) و«غضبان رومي» (1905ـ 1989) وهما من أعلام «الطّائفة المندائيّة» في العراق وأبرز مثقّفيها بترجمة كتاب الباحثة «إيثل ستيفانا دراور» (Ethel Stefana Drower) (1879-1972) أو «اللّيدي دراور» (Lady Drower) كما اعتاد تسميتها المشتغلون على مبحث الصّابئة وهو بعنوان:«مندائيّو العراق وإيران: عقائدهم وعاداتهم وأساطيرهم وآدابهم»(1)، وقد نشر لأوّل مرّة باللّغة الانكليزيّة سنة 1937.
ظروف كتابة النصّ المترجم
كانت «دراور» قد أقامت بالعراق خلال مرحلة الاحتلال البريطاني له في
الرّبع الأوّل من القرن العشرين، ودرست لغة الصّابئة أي «اللّغة
المندائيّة» وهي من أقدم اللّغات في المنطقة العربيّة إذ هي اللّهجة
الشّرقيّة من اللّغة الآراميّة وأخت للّغة العربيّة. وقد استرعت الدّيانة
الصّابئيّة اهتمامها من حيث قول أتباعها بالاغتسال بالماء «الحيّ»، وهو ما
جعل البعض يصنّفها ضمن طوائف المغتسلة (sectes baptistiques)
التي كانت تتعمّد بالمياه الجارية في نهر الأردنّ، كما أنّ أتباعها ينسبون
أنفسهم إلى «يهيا يوهنّا» أو «يوحنّا المعمدان» عند المسيحيّين والنبيّ
«يحي بن زكريّا» في المأثور الإسلامي. ممّا دعا بعض الباحثين إلى الرّبط
بينهم وبين الطّوائف المسيحيّة الأولى. ويندرج كتاب اللّيدي دراور هذا في
إطار الشّهادات «الاستشراقيّة» عن بعض مكوّنات الثقافة والمجتمع في الشّرق
العربي وكذلك في إطار تيّار نقدي يتناول تاريخ نشأة المسيحيّة بالدّرس
والبحث في جذورها عبر مناهج علميّة تخضع لشروط الموضوعيّة لا للأجوبة
الإيمانيّة أو الميتافيزيقيّة، وهو التيّار الذي عرف أوجه في القرن التّاسع
عشر مع روّاد المدرسة الفيلولوجيّة الألمانيّة.
وقد أوردت اللّيدي دراور بعض أساطير الصّابئة في كتابها نقلا عن شخص صابئيّ مندائيّ يدعى «هرمز بر أنهر» (2)
ينتمي إلى أسرة كهنوتية إذ كان جدّه «كنزفره» وهي أعلى درجة كهنوتية لدى
هذه الملّة. كما كان «هرمز» رغم عدم اشتغاله بالكهانة ممّن يتقن اللغة
المندائيّة ولا يكتب أو يقرأ إلاّ بها، علاوة عن كونه كان متصوّفا وشاعرا
محبّا للحياة ومعظّما لـ «شامش». وقد روت دراور قصصا عن هرمز حفظها عن أبيه
تتعلّق خصوصا بنجمة الشّمال أو الشّعرى العبور والقوى الخفيّة من جنّ
وشياطين وأرواح شرّيرة أو أشباح «شبياحي» باللّغة المندائيّة.
علاقة النصّ بأعمال أخرى حول الصّابئة
يدرج بعض الدّارسين أعمال دراور في إطار توجّه ساع إلى الحفر في
جينيالوجيا الدّين المسيحيّ، أي ضمن التيّار الاستشراقيّ المهتمّ بالنّظر
في الصّابئة باعتبارها «الطّائفة المسيحيّة الأمّ»، ممّا قد يسهم في فهم
جذور نشأة الدّيانة المسيحيّة ذاتها. ولئن سبق للدّمشقي «نقولا السّيوفي» (3)
أن بحث في هذه المسألة منذ سنة 1880 من وجهة نظر وصفيّة ممّا يجعله بحقّ
المرجع الأوّل من حيث الاهتمام بالمسألة الصّابئيّة في العصر الحديث، فإنّ
اعتماد دراور منهجا نقديّا جعلها مثار سخط الشقّ المحافظ في الكنيسة وتسبّب
في ظهور جدل واسع تضمّنته بالخصوص أعمال كلّ من الأب «ألفريد لوازي» (Alfred Loisy) و «روبير ستال» (Robert Stahl) (4).
وينتمي المقتطف الذي نترجم إلى الملحق الذي أسمته الباحثة «الكتاب
الثاني» من عملها المخصّص لعرض أساطير الصّابئة وطقوسهم ومعتقداتهم، وهو
الجزء الذي أحجم «نعيم بدوي» و«غضبان رومي» عن ترجمته بما يجعل عملنا أوّل
نقل له إلى اللّغة العربيّة.
أسباب ترجمة المقتطف
لماذا غضّ بدوي ورومي النّظر عن ترجمة هذا الملحق بينما ترجما كامل القسم الأوّل من الكتاب المخصّص للجانب الوصفي للصّابئة ؟
إنّ تركيز دراور في هذا الفصل على وصف أساطير الخلق والطّوفان عند
الصّابئة بما تضمّنته من إشارات إلى الملائكة بوصفها الأرواح السّاكنة في
الكواكب والنّجوم والمتحكّمة في مصائر العالم، من شأنه تذكير جيرانهم
المسلمين بذاك «الاتّهام» القديم الذي أشارت إليه مصادر التّراث العربيّ
بخصوص رميهم بعبادة الملائكة والتقرّب إلى النّجوم. ومن هنا، فقد يكون
التخوّف من ملاحقتهم بوصفهم طائفة غير مسلمة أحد دوافع سكوت المترجمين رومي
وبدوي عن الملحق، بل وعدم الإشارة إلى وجوده أصلا. و لعل أهميّة ترجمتنا
لهذا الملحق تكمن في كونها ستثري مكتبة تاريخ الأديان وستمنح الباحث العربي
نصّا جديدا لتطبيق منهج الأديان المقارنة، بالإضافة إلى الإسهام في فهم
أفضل للصّابئة الذين ورد ذكرهم في القرآن، واعتبرهم معظم أهل التّأويل من
المفسّرين من «أهل الكتاب». والمترجمان ينوّهان إلى أنّ اهتمامهما بهذا
المقتطف لا يستهدف سوى الاستفادة من التّراث الصّابئي المندائيّ بوصفه أحد
روافد موروثنا الثّقافي، وهو ما لا يمسّ العقيدة المندائيّة في شيء ولا
يقود إلاّ إلى مزيد الاهتمام بها من خلال إبراز دورها في بلورة بقيّة
العقائد التّوحيديّة في المنطقة العربيّة القديمة مع احترام أتباعها
والدّعوة إلى حمايتهم ممّا يتعرضّون له من تعدّ وتهجير قسريّ في ظلّ
الاحتلال الأمريكي للعراق ممّا يهدّد بقصر وجودهم على إيران فحسب حيث يحظون
بوضع أفضل.
************
أساطير الخلق والطوفان
أ- الخلق
في البدء كان «مِلْكَا زِيوا» (ملك الضّياء-م). ولمّا ظهر إلى الوجود،
خلق خمسة كائنات من نور ومثيلاتها من ظلام، فأينما كان الشّكْلُ، وُجِدَت
الأضداد: اليمينُ مقابل اليَسار، والشقّ الأيسر من كلّ شيء هو حصّة
الظّلام، وهو الأضعفُ.
وكما كانت هناك خمس مخلوقات أُولى من نور، كانت هناك خمس مخلوقات من ظلام، وكانت أسماؤها: «أَكْرُونْ» (Akroun)(5) وهو سيّدهم، «أشدوم» (Ashdum)، «غافْ»(Gaf) وغافَانْ» (Gafan)، «هاج» (Hagh) و«ماج» (Magh) (6)، و«زَرْتاي زَرْتَانَا» (Zartai zartana)، وقد كانت «غافان» و«ماج» أنثيان تكمّلان سَيِّدَيْهِما. كما أوجدت الظّلمة الأسياد الثّلاثة لـ«السكَنْدُولا» (Skandola) (7)، وهم الذين خطّت أسماؤهم في المركب الذين يظهرون فيه على «السكَنْدُولا» (1*).
إنّ «ملكا زيوا» هو أصل كلّ شيء، منه تنبع أشعّة النّور والحياة ويمدُّ
بها الشّمس والكواكب من خلال أربعة ملائكة يسكنون نجمة الشّعرى العبور،
وهم: «أَرْحُوم حيّ» و«زِيوْ حيّ» و«عين حيّ» و«شُوْم حيّ» أو «سَامْ حيّ»(2*)، ومن هؤلاء الأربعة جاءت قوّة «شامش» وحياتُه.
هوامش الفقرة (أ) حسب ما يرويه اليالوفا (طالب العلم الذي يتقن اللّغة المندائيّة – م):
(1*) الشّعار.
(2*) أرحوم حيّ (حبّ الحياة)، عين حيّ (منبع الحياة)، زيو حيّ (مجد اللّه)، شوم حيّ (اسم الحياة) أو سام حيّ (خلق الحياة).
***************
ب- الخلق والطّوفان
يؤمِنُ المِندائيُّون بالخالق الأعظم «أَلَهَا» وقد فَوَّضَ حُكْمَ
العالم المادّي، وهو عالم اللاّحقيقة، وجميع ما يتعلّق بمخلوقاته إلى
مساعديه (الملائكة) أي أرواح القوّة والنّقاء الّتي خلقت عندما لفظ القادر
على كلّ شيء أسماءها. أمّا عدد هذه الكائنات(1)، فهو ثلاثمائة وسِتُّونَ، وأهمّها «مارا د ربوثا» (Mara d Rabutha) ربّ العظمة، لكن «هيِبِلْ زِيوَا» هو الكائن الإلهي الأكثر اتّصالا بهذا العالم (2)، فهو خالق هذا العالم الأرضي المظلم المسمّى «أرا د تيوال» (Ara d Tiwel)، كما إنّه أيضا خالق عالم النّور المسمّى «مْشُونِي كُشْطَهْ» (Mshuni Kushta). فقد أحضر «هيِبِلْ زِيوَا» امرأة اسمها «رُوحيّا» (Ruhayya)
أو “الرّوحا” من الأرض السّابعة من عالم الظّلمة السّفلي، وكانت حَامِلاً،
وصعد بها إلى الأرض الأولى حيث تركها عائدا إلى «مْشوني كشطه» ليعلن ما
قام به. وفي أثناء غياب «هيِبِلْ زِيوَا» الذي دام آلاف السّنين، أنجبت
«رُوحيّا» مَسْخا ضخْما اسمه «عُورْ»(3*) (8). وما أن نزل من بطن أمّه حتّى سألها: «لماذا نحن وحدنا في هذا العالم ؟». فأجابته
بأنّ والدهُ كان مَلاكا اسمه «أَشْدُوم» وأنّ له كثير من الأقارب من بين
الملائكة. وقد كَانَ «عُورْ» بالغ الضّخامة، فَصَاحَ صَيْحةً اهتزّت لها
عوالم النُّور، وعندها نزل «هِيبل زيوا» مِنْ «مْشُوني كُشطه» ليجد أنّ
«رُوحيّا» قد أعطت ابنها «عُورْ» منظارا يطالع مِن خلاله أقاربهُ في عالم
النُّور. وبما أنّ «هيِبِلْ زِيوَا» كانَ يَلْبس قناعاً طلسَمِيًّا يخفيه
عن الأنظار، فقد تمكّن من أخذ المنظار من «عُورْ» دون أن يحسّ به، ثمّ قبض
عليه وسَجنه أسفل «أرا د نَحَشَا» أي أرض النّحاس(4*) بحيث
كانت العوالم الطّبيعية السّبعة فَوْقَهُ. وهناك لحقت به أمّه لتصير زوجته
وتنجب منه سبعة أبناء أسكن «هِيبِل زيوَا» كلاّ منهم كوكبا. فالكواكب
السّبعة من خلق الله، وفي كلّ منها روح، وهي تسمّى: «شامش» (الشّمس)، «سين»
(أو «سيرَا») (القمر)، «نِيرَغ» (المرّيخ)، «بِل» (المشتري)، «أَنْوُو»
(عطارد)، «ليبات» (الزُّهَرة)، «كيوان» ؤزحل). ثمّ أنجبت في البطن الثانية
البروج الفلكيّة. إنّ الكواكب هي التي تتحكّم في عالم الظّلمات هذا،
فـ«نيرغ» هو الموكّل بالحرب، و«أَنْووُ» بالمعرفة والحكمة، و«ليبات» بالحبّ
والإبداع. فالكواكب هي بمثابة المراكب الّتي يقودها المَلاَئِكُ. وفي قارب
«شامش» رَايَةٌ يخرج منها نور الإله، لأنّها تعكِس أشعَّتَهُ كي تضيء
العالم. هكذا نشأ عالم النّور وعالم الظُّلمة، عالم الحقيقة وعالم الباطل.
ثمّ شقّ «بْثَاهِيل» بأمر من والده «هيِبل زيوا» السّماء وجعل الأرضَ
رطبة وأجرى فيها العيون والأنهار وأرسى الجبال وخلق الأسماك والعصافير
والأزهار وبذورها وجميع الحيوانات، من أجل «آدم» وذرّيته. وحين نظرت
«أباثُر» وابنها «بَثاهيل» إلى جَسدَيْهما بتفكّر، نشأ جسد «آدم بَغْرَا»
(آدم الطّبيعي)، وخلقت من ضلعه زوجته «حوّاء». ومثلما كان هناك «آدم بغرا»
و«حوّاء بغرا»، كان أيضا «آدم كسيه» و«حوّاء كسيه» (آدم وحوّاء الخفيّان).
هؤلاء
وذريّتهم عمّروا عالم «مشوني كُشْطَهْ»، فقد أنجب «آدم» ستَّة أَبْنَاءٍ،
ثلاثة أولاد وثلاث بنات. وكان اسم الأولاد الثلاثة: «آدم» و«شيثل» و«آنوش».
تزوّج «آدم بن آدم» امرأة من عالم أولاد الظلام، من العالم الذي كان يسكنه
«الشبياحي»(5*) وهم أبناء السّواد
والظّلام قبل خلق «آدم». ومن هذا القران جاء أبناء الظلام، أولئك البشر
الذين ليسوا مندائيّين، لأنّ المندائيّين هم أبناء «آدم بغرا» و«حوّاء
كسيه». أمّا ابنا «آدم» الآخران (شيتل وآنوش) فقد اتّبعا التّعليم الذي
لقّنه «هيبل زيوا» لأبيهما، فقد علّم «هِيبِل زيوا» «آدم» أسرار الحياة
وأعطاه الكتب المقدّسة، كما علّمه الفنون والزّراعة والكِتابة.
هوامش
الفقرة (ب): رواها أحد الكهنة برتبة «كنزفره» في جمع مختلط من الأغيار
ولهذا استخدم لفظ «ألها» اسما للكائن الأعلى والحال أنّ هذا المصطلح يدلّ
على روح الشرّ في الممارسات المندائيّة الرّامية لطرد الشّياطين.
(1*) يعطي
سُيوفي نفس هذا الرّقم. لكن «الكِنْزا ربّا» تقول أنّ المَلاَئِك
والأُثْرِيُّينَ لا يُحْصَى لهم عدد. والرّقم 360 هو عدد الأيّام في
التّقويم السّنوي المندائي.
(2*) هذا تصغير لاسم «الرّوحا» في جنوب العراق (قرب الجزيرة)، وهو الاسم المُفضّل في الاستخدام عندهم.
(3*) «عُور»
هو الثّعبان الضّخم أو تنّين العالم السّفلي الذي يحمل العالم المادّي.
السّماوات السّبع فوقه، وعوالم الظّلمة السّبع تحته. يطلق من فمه ريحا
ناريّة وجوفه مرّة من نار ومرّة من ثلج. وتقيم الأرواح الدّنسة التي تستحقّ
تطهّرا خفيفا في «المطراثة» في القسم الأسفل من بطنه، ومن بين هؤلاء عديمي
الإيمان. وتحيل حكاية زواجه من أمّه والذريّة النّاتجة عن نكاح المحارم
ذاك أي الكواكب ثمّ البروج الفلكيّة على أساطير التّنانين الآسيويّة إذ
تتكرّر بعض الخصائص في جميعها، وهو ما وضعتُ جدولا بشأنه(انظر أسفل هذا).
وقد يكون معنى الاسم «النّور»، إلاّ أنّ ليدزبارسكي يرى في كلّ من «عُورْ»
و«روحا» إلها نورانيّا ساقطا مع أمّه المعشوقة. أمّا «خوالسون» (Chwolson)،
فيقترح اشتقاقات عديدة تقترب من تصوّر المندائيين لـ«عُورْ»، فيشير إلى
أنّ لفظ «Uru» في السّنسكريتيّة مثلا يستخدم بمعنى «عظيم»، كما يقول في
الصّفحة 86 من كتابه (Die Ssabier und der Sabismus, Petersbourg, 1856)
: «نجد لفظ آر (أو: أور) في اللّغات الساميّة بمعنى النّار والقوّة»،
ويظهر «عور» على عدد من الصّور والرّسوم، وقد تضمّن كتابي الحامل لعنوان
«العراق» (الجزء الأوّل، الفصل الثاني) صورة رسم نقلته عن «ديوان أباثر»
يبيّن حجم «عُورْ» لكن دون أن تظهر فيه خصائص التنّين. ويبدو «عُورْ» في
«السَّكَنْ دُولَهْ» في شكل ثعبان (انظر الرّسم المصاحب للمقال – م)، وأنا
أقدّم هنا رسما مندائيّا له لكن ليس في شكل ثعبان دون أيد أو سيقان كما جاء
وصفُه في «الكِنْزَا ربّا»، بل في شكل عِضَاءَةٍ. وجاء التّعليق على
الصّورة كالآتي:
«إنّ
العوالم الّتي تمتدّ في مؤّخرة (العِضَاءة) عَدَدُها سبعة وهي المطراثات
السّبع. إنّ مطراثة شامش هي المكان الّذي يذهب إليه شامش (الشّمس) عندما
يغرب ويحلّ الظلام. أمّا في جوف «عُورْ»، وهو من نار، فهناك ماء أسود، أو
زيت يولّد نارا في شكل لهبٍ. وتحت الماء الأسود سبع طبقات من الأرض الّتي
تشبه النّحاس، وتحتها ذُرِيَّةُ «عُورْ»: سَارْجِي سَارْجَانِي، هَاجْ
ومَاجْ، غاف وَغافان، أَشْدُوم وأعظمهم أَكْرُون».
(4*) أَرْضُ النّحاس: جاء في «ديوان أباثر» أَنَّ طبقات «عَالَمِ الظَّلام» سِتٌّ: «الأولى من نحاس، والثّانية من حديد وأخرى من قصدير، وأخرى من فولاذ، وأخرى من فضّة». ويُفسّر
«الكنز ربّا» أَنَّ المقصود من الطّبقة الأولى هو الطّبقة السُّفْلى،
ويرتّبها على التّوالي: نُحَاس، حديد، نحاس أصفر، فولاذ، ذهب، فضّة، تراب.
(5*) شبياحي
(الجمع: شيبياحيا): مهما كان معنى الكلمة في الأصل فإنّ ليدزبارسكي
يترجمها بلفظ «كواكب» مفترضا أنّها ذاتها عبارة «شبعه أحياء shaba ahia» أو
الإخوة السّبعة وهي عبارة تُستعمل حاليّا لوصف ما يطلق عليه العرب اسم
«الجنّ». وهناك من أخبرني أنّ الكلمة قد تكون مشتقّة من لفظ (شَبِيحَا)
السّريانيّ وجمعه شبيحون (شبيحايَا) أي المُقَدَّسُونَ. وقد يعني ذلك
الأرواح الطاهرة أو الحميدة، وربّما مع الاستعمال تطوّر المعنى ليصبح
الأرواح في كلّ الحالات أي الطيّبة والشرّيرة على حدّ سواء. وقد وجدت في
لُفَافَةٍ طويلة تمكّنت من حيازتها وهي في وصف الكون قبل خلق عالم الأرض: «ومن تلك المياه السّوداء تظهر أشياء سيّئة : منها تأتي آلافُ آلافِ الأسرار، وعشرة آلاف شبيحيا».
وعادة ما يكون الشيبياحي قُوّةً هَدَّامةً تجلب معها الموت، لكنّ بيت
الشيبياحي الذي يظهر للأطفال أو يبحث عن ملاذ عند البشر على شكل أرانب
بيضاء، هو غالبا غير ضارّ بل وقد يكون طَيِّبا.
ومن
المندائيّين من يرى أنّ الدّين ينتمي إلى منطقة الزّيت، وخاصّة مشهد
العالم السُّفلي: القار وهو يُخرج الفقاقيع ويَغْلي، النّار وقد احتدم
سعيرها، الحَمَأَ الأسود، الماء الأسود المتعفّن، (الزّيت أو النّفط
الخام)، والماء الصّافي الّذي لا يمكن أن نشربه (نابثا –naptha ). جاء في الكِنْزَارَبَّا: «كان الماء على السّطح والمياه السّوداء أسفله»، و«القار والزّيت هي جوفُ العالم السُّفلي». انظر: الكِنْزَ اربّا، التّسبيح السّادس، الكتاب الثاني عشر.
*************
ج) خلق الإنسان
حاولت «روحا» أن تصنع مخلوقا بمعيّة «بثاهيل»، وحين انتهيا كان شبيها
بالإنسان، غير أنّه كان يمشي على أربع وله وجه قرد ويُصدر أصواتا كأنّما هو
نعجة. لم يفهما (الأمر)، وذهبا إلى «بيت الحيّ» يشكوان فشلهما، فقال لهما:
«سوف أرسل إليكما هيبل زيوَا»، فجاءهما وكانت الرّوح في يده.
وحين رأت الرّوح «آدم» انزعجت وقالت مذعورة: «كيف ؟ هل سأقيم في هذا اللّحم والدّم، بيت الفساد هذا؟ٍ». فقال «هيبل زيوَا»: «هل ترفضين أمر بيت الحيّ؟ٍ». قالت الرّوح: «لن
أقبل بالأمر إلاّ إذا تحقّق شرطي، وهو أن يوجد في هذا العالم مثيل لجميع
ما في عالم النّور: من أزهار، وأشجار ونور وأيّار(الهواء الصّافي)، وماء
جار (يَرْدَنَا) وتعميد وكهنة، كلّ شيء كما في العالم العلويّ».
وعاد «هيبل زيوَا» فأَبلغَ «بيت الحيّ»... ولم يفتح (باب عالمه)، لكنّه
تكلّم ووعد أنّ «بيت الحيّ» سيمنح الرّوح كلّ ما طلبت. وهكذا دخلت الرّوح
(نيشمته) جسد «آدم»، فقام وتكلّم. ثمّ علّمه «هيبل زيوَا» القراءة والكتابة
وطريقة التّزاوج ودفن الأموات وذبح الأضاحي، ولقِّنه جميع العلوم. وقد
شَهِدَت «الرّوحا» ذلك وتمنّت لو كان لها نسل من صُلبها، لو كان لها ذريّة
وأهل. (لهذا) أخذت «الرّوحا» شاةً فنحرتها وصنعت من جلدها طَبْلاً ومن
عظامها مزمارًا، ثمّ غنّت ورقصت مع أبنائها السّبعة (الكواكب). وذهبت
«الرّوحا» إلى «آدم بن آدم» وقالت له: «تعالَ وسَلِّ نَفْسَكَ معنا» فذهب.
وكان سبق أن جعلت «ليبات» (الزُّهَرة) نفسها تبدو امرأةً جميلة، فأخذها
«آدم بن آدم» وأصبح أباً لِطِفْلٍ. وكذلك فعلت «الرّوحا»، فقد تنكّرت
بدورها في شكل «حَوَّا» وذهبت إلى آدم فذهب معها إلى الماء (أي للاغتسال
بعد المعاشرة). و حين لاموه بعد ذلك قائلين: «ألم تَرَ كيف كانت ضخمة في الماء؟»(1) أجاب
بأنّه لم يفطن لذلك لأنّها سحرته. إنّ اليهود هم أبناء « الرّوحا »
و«آدم». كان رجالهم العِظام أبناء « الرّوحا »، فـ«موسى» هو «كيوان» (زحل)
و«إبراهيم» هو «شامش» (الشّمس)، و لقد سافر اليهود طويلا إلى أن وصلوا إلى
«أُورْشليم» (القدس) وقد سمّوها «أُهور شالام» بمعنى «الطّريق اكتملت». وقد
أرادوا الحصول على كتب فقال «مِلْكَا د نْهُورا»: «يجب أن يُكْتَبَ كِتَابٌ لا يوقِع الشّقاق في صفوف المندائيّين»،
وأرسل مَلَكًا هو «طاوُوس مَلْكَا» لِيَكْتُبَ التّوراة (العهد القديم).
وبما أنّه لم يكن لليهود كهنَةٌ، فقد ألقى «أَنُوشْ أُوْثْرَا» نُطْفةً في
نهر الأردن، وحين شربت منه امرأة يهوديّة حَملَتْ وأنجبت في الحين ثلاثمائة
وخمسة وستّين كاهنا.
كما شربت «إِينوش في» أيضا من ذلك الماء وأنجبت بعدها «يَحْيَ». وقد
عُمِّدَ جميع الرّجال الّذين وُلدوا من تلك البَذْرَةِ الّتي زُرِعَت في
نهر الأردن وغدوا كَهَنَةً.
هوامش الفقرة (ج):
(1) الرّاوي
كاهن، إلاّ أنّ روايته لا تستند إلى أيّ مرجعيّة، فهو يصوّر «حوّاء»، ضخمة
الجسم كما تصوّرها الثقافة العربيّة الشّعبيّة. وتوجد رواية أخرى لقصّة
الرّوح (عن هرمز) جاء فيها: «إنّ أشجار
وثمار عالم النُّور تُشبه تلك الّتي نجدها على الأرض. وعندما أُخِذَت
الرّوح من «مِلْكَا زِيوَا» (مملكة النور) وكانت مثل كرة من نور، حملها
«هيبل زيوا» بين يديه إلى «آدم»، وحينها بَكَت قائلة «لماذا تحملني إلى
مملكة الظُّلمة؟ لن أذهب». فقال: «إنّه أمر اللّه، يجب أن آخذك، ولكن سيكون
على الأرض أشجار وأزهار وثمار كما في عالم النّور».
****************
هوامش المترجمين
1 - Drower (E. Stevens): The Mandaens of Iraq and Iran, Their cults, customs, magic legends and folklore, Oxford: Clarendon Press, 1937.
وحمل كتاب دراور في ترجمته العربيّة عنوان: الصّابئة المندائيّون، ترجمة وتحقيق: نعيم بدوي وغضبان رومي، ط 1، مطبعة الإرشاد، بغداد، 1969.
وقد صنّفت اللّيدي دراور 25 كتابا نشرت تباعا بين سنتي 1909 و1972 كما يلي:
1 - The veil : a romance of Tunis, New York, F.A. Stokes, 1909.
2 - The mountain of God, London : Mills & Boon, 1911.
3. The long engagement, New York: Hodder & Stoughton, 1912.
4. The lure, New York : John Lane company, 1912.
5. Sarah Eden, London: Mills & Boon, 1914.
6. Allward , London : Mills & Boon, 1915.
7. And what happened, London: Mills & Boon, 1916.
8. The safety candle, London : Cassell & company, 1917.
9. Magdalene: a study in methods, London : Cassell & company, 1919.
10. By Tigris and Euphrates, London : Hurst & Blackett, 1923.
11. Sophy: a tale of Baghdad, London : Hurst & Blackett, 1924.
12. Cedars: saints and sinners in Syria, London : Hurst & Blackett, 1926.
13. The losing game, London, Hurst & Blackett,1926.
14. Garden of flames, New York : F.A. Stokes, 1927.
15. Ishtar, London : Hurst & Blackett, 1927.
16. The Mandaeans of Iraq and Iran : their cults, customs, magic, legends, and folklore, Oxford : Clarendon Press, 1937.
17. Peacock angel : being some account of votaries of a secret cult and their sanctuaries, London : J. Murray, 1941.
18. Water into wine : a study of ritual idiom in the Middle East, London : Murray, 1956.
19. The secret Adam: a study of Nasoraean gnosis, Oxford: Clarendon Press, 1960.
20. A Mandaic dictionary, with Rudolf Macuch, Oxford :Clarendon Press, 1963.
21. Folk-tales of Iraq, New York : B. Blom, 1971.
22. The Book of the zodiac (Sfar malwaˆsia), London :Royal Asiatic Society, 1949.
23. The canonical prayerbook of the Mandaeans, Leiden : E. J. Brill, 1959.
24. The Haran Gawaita and the Baptism of Hibil-Ziwa , Città del Vaticano, Biblioteca apostolica vaticana, 1953.
25. Alf trisar ŝuialia (The thousand and twelve questions), Berlin: Akademie-Verlag, 1960.
2 - انظر كتاب دراور ، صص 249- 250 . وقد حقّقنا هذا الإسم فوجدنا أنّ عرب منطقة الموصل كانوا يسمّونه “هرمز بن الملاّ خضر”.
3 - Siouffi (Nicolas) : Etudes sur la Religion des Soubbas ou Sabéens, leurs dogmes, leurs mœurs, Paris : Imprimerie Nationale, 1880.
وقد
ترجمنا مقطعا من هذا الكتاب الذي يعدّ مرجعا هاما لا سيّما وأنّ الصّابئة
لا يتقنون الفرنسيّة عموما مثل أغلب العراقيّين ومن شأن تعريب عمله أن يفيد
القارئ العربيّ ويثري مكتبة تاريخ الأديان المؤلّفة باللّسان العربيّ وهي
مكتبة في حاجة إلى الأعمال العلميّة الجادّة. انظر مقالنا: في تاريخ الصّابئة الأسطوريّ.
4- Loisy (Alfred), le Mandéisme et les Origines Chrétiennes, Paris : Emile &Nourry, 1934.
5 - «أركون» أو «أكرون»: ورد هذا اللّفظ عند ابن النّديم في الفهرست، جمعها «أراكنة» وتعني الّشياطين.
6
- هذا ما يذكّر بـ«ياجُوج وماجوج» القرآن (الكهف، 94؛ الأنبياء، 96) و«جوج
وماجوج» العهد القديم (في عدّة مواضع منها: حزقيال، 38:2).
7
- «السّكَنْدُولاَ» أو «السّكين دولة» كما ورد لدى نعيم بدوي وغضبان رومي
في ترجمتهما لكتاب دراور هو شعار الصّابئة مصّور فيه نحلة وأسد وعقرب
وأفعى، ولكلّ حيوان منها رمز يُستعمل في الطّقوس ويرتبط بأحد عناصر الطبيعة
الأربعة.
8-
تنطق العين في المندائيّة أحيانا همزة، وقد أثبتنا حرف العين لأنّه في أصل
الجذر العربيّ (عَوَرَ) الذي ينطق في المندائيّة (عِوَرْ) بمعنى «عَمِيَ»
خاصّة وأنّ َ«عُورْ» هو إله الظّلام فهو بذلك أعمى أو بالأحرى إله
«العمى/العماء». ولعلّ ما يشفع لهذا التّخريج أنّ اسم التّوراة في
المندائيّة هو «عُورَيْتَا» (تنطق غالبا: «أُورَيّتَا») باعتبار أنّ كاتبها
(موسى) هو رسول إله الظّلام في اعتقاد المندائيّة.
نُشر على موقع الأوان بتاريخ 19 ديسمبر 2009.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire