الفصل الثاني: السنة
{لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} (الأحزاب 21).
“تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله” حديث شريف “أخرجه الموطأ”.
“ألا أني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه” الكتاب والسنة “الرسالة”. “جامع الأصول في أحاديث الرسول ج 1/281”.
“أوتيت القرآن ومثله معه” القرآن والسبع المثاني “النبوة”.
تمهيد:
إن أي بحث جاد في السنة يجب أن ينطلق من سؤال أساسي يكون الجواب عليه بوضوح تام. هذا السؤال يمكن صياغته كما يلي:
هل كلام النبي صلى الله عليه
وسلم وتدابيره وتصرفاته في تلك الأمور التي لا تتعلق بالأصول “الحدود
والعبادات والغيبيات إن صحت” وحي أم اجتهاد؟
قال بعضهم إن ما كان يقوم به النبي صلى الله عليه وسلم هو وحي كله، لقوله تعالى: {وما ينطق عن الهوى * إن هو إلا وحي يوحى}
(النجم 3، 4) والاستناد إلى هذه الآية الكريمة لا مسوغ له البتة هنا،
فالضمير “هو” لا يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يعود بوضوح وحصرا
إلى الكتاب المنزل ولا علاقة للضمير هنا بالضمير قبله المستتر في الفعل
“ينطق” العائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم والذي كان من صفاته عليه
السلام أنه لم يكن ليتحكم فيه وفي أقواله وفي أفعاله الهوى وتقلبات النفس.
الأمر الذي يجعله في مرتبة رفيعة حقا هي مرتبة النبوة، لكن دون أن يجعل
أقوال وأفعال النبي صلى الله عليه وسلم كلها من صنف الوحي على كل حال.
ثم إن هذه الآية: {وما ينطق عن الهوى}.
جاءت في مكة في مرحلة كان العرب يشككون في الوحي نفسه. ولم تكن المشكلة هي
مشكلة أقوال النبي وأفعاله ولكنها كانت مشكلة القرآن نفسه والمشكك فيه من
قبل معظم العرب. أي أن الوحي كان موضوع التساؤل والشك، وليس سلوك النبي
الشخصي. علما بأننا إذا أردنا أن نصنف الحديث النبوي إلى مكي ومدني لوجدنا
أن معظم الحديث إن لم يكن كله مدني وليس مكيا.
وإننا لنضرب مثلا من الكتاب
نفسه فقد خاطب الله عز وجل نبيه الكريم منبها بشكل صريح ولا يحتمل الاجتهاد
في عدة مناسبات فعندما أعرض عن ابن مكتوم، الأعمى الفقير وأقبل على صناديد
قريش يحدثهم آملا في هدايتهم وإسلامهم خاطبه قائلا: {عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى} (عبس 1-3) علما بأن هذه الآيات ليست من القرآن وليس لها علاقة باللوح المحفوظ ولا إمام مبين.
وفي مرة أخرى قال الله عز وجل: {يا أيها النبي لم تحرم /ما أحل الله لك تبتغي مرضات أزواجك والله غفور رحيم} (التحريم 1).
وفي مرة ثالثة قال: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم} (الأنفال 67).
وهكذا فإنه يمكننا القول إن ما
اصطلح على تسميته بالسنة النبوية إنما هو حياة النبي صلى الله عليه وسلم
كنبي وكائن إنساني عاش حياته في الواقع، بل في الصميم منه وليس في عالم
الوهم. فهو عليه الصلاة والسلام إلى جانب عنصر الوحي الذي كرمه الله به،
عاش حياته في القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب بكل ما كان يحيط
بها من ظروف جغرافية وتاريخية وثقافية وسياسية.
لنلاحظ أن الني صلى الله عليه
وسلم والصحابة رضوان الله عليهم لم يعتبروا في وقت من الأوقات أن الأحاديث
النبوية هي وحي. فهو عليه السلام من جهته لم يأمر بجمعها كما فعل مع الوحي
“الكتاب” وكذلك الأمر مع الخلفاء الراشدين فقد فهموا أنها كانت نتيجة تعامل
مع واقع معين في ظروف معينة عاشها النبي صلى الله عليه وسلم وجابه فيها
عالم الحقيقة المكاني والزماني فهي بهذا تشكل منبعا ثريا يستفيد منه
المؤمنون عامة، والعلماء المشرعون خاصة.
ويبرز من هذا الأمر سؤالان:
1 – لماذا لم يأمر النبي صلى
الله عليه وسلم بجمع كلامه، مع أنه أرهم بتدوين الوحي بكل دقة وقال لهم في
الوقت نفسه “لقد تركت فيكم ما إن ابتعتموه فلن تضلوا أبدا ك تاب الله
وسنتي”؟.
تذهب فئة من العلماء إلى أن
النبي لم يأمر بجمع كلامه وتدوينه لتجنب الاختلاط بين الوحي والحديث، وهذه
حجة واهية. فالنبي أول من يعلم بقوله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9). ثم إن ذلك كان سيستبعد بخطوة إجرائية بسيطة وهي تخصيص بعض الكتبة للوحي وبعض آخر للحديث.
2 – بعد أن فرغ الصحابة من جمع
الوحي “الكتاب” وقد بدأ الجمع في أيام أبي بكر الصديق وانتهى تماما في زمن
عثمان بن عفان. وتم نسخ المصحف الموجود بين أيدينا اليوم. وتم إتلاف كل
الصحف التي نسخ عليها الوحي. وقد كان معظم الصحابة أيام عثمان بن عفان على
قيد الحياة. فلماذا لم يجمع الصحابة الحديث كما جمعوا الكتاب بعد أن فرغوا
متن جمع الكتاب وتدوينه؟ علما بأن الأحاديث النبوية حول الحدود والعبادات
والأخلاق “الصراط المستقيم” قد انتقلت إلينا بالتواتر.
فإذا كان النبي صلى الله عليه
وسلم لم يفعل ذلك بنفسه ولم يفعله الصحابة من بعده لسبب واحد وذلك لعلمهم
بأن جمعه ليس ضروريا. وأن الحديث هو مرحلة تاريخية وأن السنة ليست عين كلام
النبي صلى الله عليه وسلم. وإذا لم يكن الأمر كذلك فهناك نتيجة واحدة وهي
أن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة من بعده كانوا يريدون إرباك المسلمين
بعدم تدوين الحديث، وهذا يعني أن آية {اليوم أكملت لكم دينكم} لا معنى لها إذ كيف أكمل الدين والحديث لم يدون؟ وكيف دون الصحابة الكتاب ولم يدونوا الحديث؟ هذه التهمة هم براء منها للسبب التالي:
إن عدم أمر النبي صلى الله عليه
وسلم بجمع كلامه وتدوينه. وأمره بكتابة الوحي وحرصه المطلق على ذلك هو
والصحابة يقود إلى فهم عميق لفرق أساسي بين النبوة والعبقرية: فالعبقري هو
إنسان أنتجه عصره في ظروف معينة مادية ومعنوية يسجل الناس عنه كلامه أو هو
يسجله بنفسه أثناء حياته، ولكن سيكون كلامه وتصرفاته نتاجا تاريخيا يحمل
طابع المرحلية وبالتالي فإن الواقع سيتجاوزه مع تطور الحياة في سياق الزمن.
وبما أن محمدا صلى الله عليه
وسلم هو نبي ولي عبقريا وحسب، فإنه قد علم أن جانب الوحي فيه –النبوة
والرسالة- يتصل بعالم المطلق هو الله سبحانه وتعالى، وقد عبر عن هذا الجانب
بالكتاب الموحي بصياغة الله سبحانه وتعالى المتشابه في النبوة والحدود في
الرسالة. أما الجانب النسبي في الإسلام فهو النبي صلى الله عليه وسلم في
سنته، حيث أخذ المطلق “
الحدود في الرسالة” وحوله إلى
عالم الحقيقة النسبي الذي واجهه هو نفسه ولو لم يكن كذلك فلا يوجد حاجة إلى
تعدد النبوات والرسالات على مر التاريخ. بل كان يكفي نبي ورسول واحد لكل
الناس من نوح إلى أن تقوم الساعة.
ولكن الحقيقة هي عكس ذلك تماما.
فقد سبق محمدا صلى الله عليه وسلم كثير من النبوات والرسالات التي تشكل
كلها حلقات في الإسلام والتي كان محمد صلى الله عليه وسلم آخرها {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا} (المائدة: 3). وقد قلنا في مبحث الحدود إن هذه الآية هي جزء من آية حدودية.
وبهذا كان الإسلام صالحا لكل
زمان ومكان من حيث ذلك الاتصال بالمطلق “الكتاب” ليتفاعل مع الظروف
والمراحل التاريخية المتعاقبة فينتج مجتمعا معينا وحضارة معينة في كل
مرحلة.
فهو والحالة هذه يمكن أن يأخذ
صيغا حضارية تاريخية حسب العالم الموضوعي الذي يتفاعل معه. هذا هو السبب
المحوري للنبي صلى الله عليه وسلم وصحابته في حرصهم على الوحي الذي هو
المبدأ أو المطلق. وأما الباقي فمتروك للإنسان في سياق الزمن. فلا قوالب
جاهزة مسبقا، ولا توقيف لحركة التاريخ في الإسلام. هذا الشيء الذي تفاداه
النبي والصحابة ووقعنا فيه نحن، فجمدنا التاريخ وحنطناه بأنفسنا واتهمنا
النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ونزعنا عن الإسلام أهم صفة من صفاته وهي
الحنيفية، حيث أن الإسلام يشترط الحنيفية في إخلاصا لناس للدين في قوله: {وما أُمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء} (البينة 5).
ثم إن الأحكام “أم الكتاب” جاءت
من الله مباشرة وليست من اللوح المحفوظ أو أمام مبين، وهي التي تمثل
الرسالة وتحتوي على الحدود والعبادات والأخلاق والذي قال عنها: {يمحوا الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب} (الرعد 39). فهي ليست قديمة لأنها ليست كلام الله وإنما هي كتاب الله.
من هنا يأتي التعريف الخاطئ
برأينا للسنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قول
ومن فعل أو أمر أو نهي أو إقرار.
علما بأن هذا التعريف للسنة ليس
تعريف النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وبالتالي فهو قابل للنقاش والأخذ
والرد. هذا التعريف كان سببا في تحنيط الإسلام، علما بأن النبي صلى الله
عليه وسلم وصحابته لم يعرفوا السنة بهذا الشكل وتصرفات عمر بن الخطاب تؤكد
ذلك. مع العلم بأن أسس التشريع الإسلامي هي الكتاب والسنة وهذا صحيح ولكن
ليس الكتاب والحديث. وإذا كان الأمر كذلك فما هو تعريف السنة؟
لنضح الآن تعريفا معاصرا للسنة وهو:
– السنة:
هي منهج في تطبيق أحكام أم
الكتاب بسهولة ويسر دون الخروج عن حدود الله في أمور الحدود أو وضع حدود
عرفية مرحلية في بقية الأمور، مع الأخذ بعين الاعتبار عالم الحقيقة “الزمان
والمكان والشروط الموضوعية التي تطبق فيها هذه الأحكام” معتمدين على قوله
تعالى: {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} (البقرة 185). وقوله: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}
(الحج 78) فالسنة جاءت من “سن” وتعني في اللسان العربي اليسر والجريان
بسهولة كقولنا ماء مسنون أي يجري بسهولة. وهذا ما فعله النبي صلى الله عليه
وسلم تمام إذ أنه مارس تطبيق أحكام أم الكتاب متحركا ضمن حدود الله وواقفا
عليها أحيانا من خلال عالم الحقيقة النسبي الذي عاشه هو –لا نحن- ولم يكن
في يوم من الأيام أو في موقف من المواقف حالما ولا متوهما ولا مطلقا.
لذا فإن الذي فعله النبي صلى
الله عليه وسلم في القرن السابع في شبه جزيرة العرب هو الاحتمال الأول
لتفاعل الإسلام مع مرحلة تاريخية معينة وليس الوحيد وليس الأخير حيث أنه
كان خاتم الأنبياء والمرسلين ولا يمكنه أن يفعل إلا هذا للحفاظ على حيوية
الرسالة والنبوة إلى أن تقوم الساعة. وبما أن رسالته تقوم على الحدود فهو
الرسول الوحيد الذي سمح له بالاجتهاد لأنه الخاتم ولكي يعلم الناس أن
يجتهدوا لوحدهم من بعده حيث أن الإسلام هو تشريع إنساني ضمن حدود الله.
الآن بعد أن عرفنا السنة علينا
تقسيمها إلى فرعين رئيسين وهما سنة الرسالة، وسنة النبوة. وكما قلت فالنبوة
علوم والرسالة أحكام وتعليمات حيث أن الطاعة جاءت للرسالة ولم تأت للنبوة.
وليس في الكتاب أي آية تقول وأطيعوا النبي بل هناك آيات تقول: {وأطيعوا الرسول}. علما بأن المدح العظيم جاء لمقام النبوة في قوله: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} (الأحزاب 56).
سنة الرسالة:
يجب علينا أن نميز في سنة
الرسالة بين الحدود والعبادات والأخلاق والتعليمات. فهناك بعض الأوامر
والتنبيهات جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم تخاطبه بعبارة: {يا أيها النبي}.
فهذه الآيات تحتوي على تعليمات وإرشادات أو حالات خاصة بالنبي حصرا وليس
لها علاقة بالحلال والحرام إطلاقا. حيث أن الطاعة جاءت في مقام الرسالة
بقوله: {وأطيعوا الله والرسول}. وقوله: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} (الأحزاب 21). إذ قال “رسول الله” ولم يقل “نبي الله”. وهنا في سنة الرسالة يجب علينا أن نميز بين نوعين من الطاعة:
1 – الطاعة المتصلة:
وهي الطاعة التي جاءت فيها طاعة الرسول مندمجة مع طاعة الله بقوله: {وأطيعوا الله والرسول لعلكم ترحمون} (آل عمران 132). وقوله: {ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيق}
(النساء 69). وبما أن الله حي باق وقد دمج طاعة الرسول مع طاعة الله في
طاعة واحدة، ففي هذه الحالات تصبح طاعة الرسول مع طاعة الله في حياته وبعد
مماته. هذه الطاعة جاءت حصرا في الحدود والعبادات والأخلاق “الصراط
المستقيم”. ولنورد الأمثلة التالية:
في الحدود:
– لقد وضع الرسول صلى الله عليه
وسلم حدا أعلى لحالات ورد في أم الكتاب كحد أدنى فقط. مثلا على ذلك: لباس
المرأة الوارد في الآية رقم 31 في سورة النور في هذه الآية ورد الحد الأدنى
للباس المرأة وهو ما يقال عنه اليوم اللباس الداخلي. ففي هذه الحالة وضع
الرسول صلى الله عليه وسلم الحد الأعلى للباس المرأة بقوله “كل المرأة عورة
ما عدا وجهها وكفيها” فطاعة هذا الحديث هو كطاعة الآية وليس أقل. أي إذا
خرجت المرأة عارية في الطريق كما خلقها الله فقد تعدت حدود الله في اللباس.
وإذا خرجت مغطاة تماما يدخل في غطائها الوجه والكفان فقد خرجت عن حدود
رسوله. ولباس المرأة المسلمة هو لباس حسب الأعراف ويتراوح بين اللباس
الداخلي وبين تغطية الجسم ما عدا الوجه والكفين. وهكذا نرى أن لباس معظم
نساء أهل الأرض هو ضمن حدود الله ورسوله “انظر مبحث المرأة في الإسلام”.
وكذلك قول الرسول حول الإرث”لا وصية لوارث” “انظر الجامع الصغير ج2 ص 203”
وقوله “لا تعضية في ميراث إلا فيما محل القسمة” “انظر النهاية في غريب
الحديث والأثر لابن الأثير ج3 ص 106”. حيث أن هذه الأحاديث تتعلق بالحدود.
– لقد وردت الزكاة في الكتاب
كحد حيث أن العبادات تنطبق عليها نظرية الحدود وهي حالة خاصة من الحدود حيث
تكمن فيها التقوى الفردية. فقد وضع الرسول صلى لاله عليه وسلم الحد الأدنى
للزكاة وهو 2.5% وطاعة الرسول في ذلك كطاعة الله. وكذلك الصلاة فطاعة
الرسول فيها كطاعة الله بقوله “صلوا كما رأيتموني أصلي” “أخرجه البخاري
–انظر جامع الأصول ج5 ص 576” فإذا أراد الإنسان المسلم أن يصلي لله بغير
الطريقة التي علمنا إياها الرسول صلى الله عليه وسلم فإن صلاته مرفوضة.
وإذا صلى كما صلى الرسول، ولكن لغير الله، فصلاته مرفوضة أيضا. وكذلك الحج
لقوله صلى الله عليه وسلم “خذوا عني مناسككم” “انظر حصيح مسلم ج2 ص943”.
وكذلك الصوم، نصوم كما صام الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن ليس من الضروري
أن نفطر كما أفطر الرسول صلى الله عليه وسلم.
– في الأخلاق: كل أحاديث الرسول
التي جاءت حول الوصايا العشر من أكل مال اليتيم إلى العهد إلى بر الوالدين
وشهادة الزور ما هي إلا أحاديث شارحة للوصايا. فالطاعة فيها طاعة متصلة.
– حدود الله في العقوبات يجب أن
نفهم أن كلام النبي صلى الله عليه وسلم حول تطبيق حدود كتاب الله في
العقوبات هو تهديد بتطبيق الحد الأعلى من العقوبة أي الوقوف على الحد. وقد
أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نتجنب تطبيق الحد الأعلى من العقوبة
“حدود كتاب الله” بقوله “ادرؤوا الحدود بالشبهات وأقيلوا الكرام عثراتهم
إلا في حد من حدود الله تعالى” وقوله “ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما
استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجا فخلوا سبيله، فإن الإمام لأن يخطئ في العفو
خير من أن يخطئ في العقوبة” “انظر الجامع الصغير ج1 ص 13”. ولم يقل ادرؤوا
العقوبات بالشبهات. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كارها لتطبيق حدود
الله في العقوبات وخاصة في الزنا. وكان يلتمس الشبهات بنفسه لتفادي تطبيق
الحد “مثال على ذلك قصة ماعز حيث قال له النبي: لعلك قبلت، أو غمزت أو
نظرت؟” “انظر جامع الأصول لابن الأثير ج3 ص 526-527”.
– لقد وضع النبي صلى الله عليه
وسلم تعريفا وتوصيفا للجرائم ذات الحدود العليا من العقوبات. فهو بهذا
علمنا أن نضع نحن تعريفا وتوصيفا لجرائم الحد الأعلى قبل أن نطبق هذه
الحدود. وهذا التعريف يخضع للظروف الموضوعية لكل بلد حسب الزمان والتطور.
2 – الطاعة المنفصلة:
وهي الطاعة التي وردت في الكتاب في قوله: {يا
أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن
تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر
ذلك خير وأحسن تأويلا} (النساء 59). وقوله: {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول واحذروا فإن توليتم فاعلموا أنما على رسولنا البلاغ المبين}
(المائدة 92). هذه الطاعة للرسول جاءت منفصلة عن طاعة الله، هذه الطاعة
جاءت طاعة للرسول في حياته لا بعد مماته أي في الأمور اليومية والأحكام
المرحلية. وفي الأمور والقرارات التي مارسها كرئيس دولة وكقاض وكقائد
عسكري، وفي أمور الأحكام المعاشية والطعام والشراب واللباس حيث اتبع
الأعراف العربية وكان يتحرك ضمن حدود الله دون أن يخرج عنها وفي الحالات
القصوى للعقوبات يقف عليها.
هذه الأمور تفهم فهما معاصرا
فيا لمضمون لا في الشكل، وإذا كانت هناك أشياء مفيدة لنا في الوقت الحاضر
أخذناها وإذا كانت هناك أشياء غير مفيدة لنا تركناها، ولو كانت هنا طاعة
الرسول مندمجة مع طاعة الله وأتبعها {وأولي الأمر منكم}.
حيث أن أولي الأمر منكم تعني الأحياء من أولي الأمر لا الأموات. في هذه
الحالة تصبح طاعة أولي الأمر كطاعة الله في الصلاة والصوم وأن معصية أولي
الأمر تعني معصية الله ولأصبح أولو الأمر هم ممثلي الله في الأرض وخلفاءه
فعلا، علما بأن الإنسان هو خليفة الله في الأرض وليس الحكام.
فكل شيء قاله النبي صلى الله
عليه وسلم في أمور لم يرد ذكرها في الكتاب بتاتا وقال فيها هذا ممنوع وهذا
مسموح فمعناها أنها أحكام مرحلية وحدود مرحلية لا علاقة لها بحدود الله. أي
أن النبي وضع حدودا لأمور ما وكان من الضروري أن يضع هذه الحدود وذلك وفقا
للشروط الموضوعية التي عاشها وطبقا للمشاكل التي كان بصدد حلها، ولا تحمل
صفة الأبدية كحدود الله، مثل منع التصوير والنحت والرسم والموسيقى والغناء
ولبس الذهب واستلام المرأة لمناصب في الدولة.
فإن منع النبي صلى الله عليه
وسلم للرسم والنحت والتصوير إن صح كان مفهوما في حينه، حيث أن العرب كانوا
حديثي عهد بالوثنية، فمنع ذلك كخطوة وقائية مؤقتة. حيث أن وهذا المنع لم
يرد في الكتاب نهائيا. حيث ورد في الكتاب “اجتناب الرجس من الأوثان” لا
اجتناب الأوثان. حيث أن كل هذه الأحاديث ليس لها علاقة بحدود الله، وقد
علمنا بهذا أن كل التشريعات غير الإلهية تحمل طابع الضرورة المرحلي، وعلمنا
أن نشرع بأنفسنا.
من هذا المنطلق يجب علينا فصل الأحاديث التي تتعلق بالحدود والعبادات والأخلاق على حدة أي أحاديث الصراط المستقيم.
وعلينا هنا أن ننبه بأن الله
سبحانه وتعالى لم يعط لأحد الحق في وضع حدود تشريعية ثابتة إلى أن تقوم
الساعة، حيث سميت الحدود بحدود الله في قوله: {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده}
(النساء 14). هنا الهاء تعود على الله فقط ولو سمح الله بوضع حدود للنبي
صلى الله عليه وسلم كحدوده تماما لقال “ويتعد حدودهما” ولو كان الأمر كذلك
لوجدنا نسخة واحدة من كتب الحديث مضبوطة تماما كآيات الحدود في الكتاب، أي
لاهتم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة بجمعها وضبطها كاهتمامهم بالكتاب.
أما بقية الأحاديث التي تتعلق
بالسلوكيات العامة والاجتماعية فلها أهمية تاريخية فقط وهي غير ملزمة لأحد
وتندرج تحت أحاديث التشريع الخاص والقرارات والأجوبة على أسئلة طرحت عليه
خلال الحياة اليومية التي عاشها صلى الله عليه وسلم.
وهكذا نفهم أن السنة النبوية هي
اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم في تطبيق أحكام الكتاب من حدود وعبادات
وأخلاق آخذا بعين الاعتبار العالم الموضوعي الذي يعيش فيه متحركا بين
الحدود، وواقفا عليها أحيانا، ووضع حدود مرحلية للأمور التي لم ترد في
الكتاب. وفي هذا كانا لرسول الأسوة الحسنة لنا إلى يوم الدين بالحنف ضمن
حدود الله وفي وضع حدود حنيفية لبقية الأمور، وفي هذا قال “ألا أني أوتيت
هذا الكتاب ومثله معه”.
وهكذا أيضا نفهم قول النبي صلى
الله عليه وسلم إن صح “اختلاف أمتي رحمة” “الجامع الصغير ج1/12” أي أن
المسلمين يختلفون في الحركة ضمن حدود الله من مكان لآخر. ومن زمان لآخر
ويختلفون في وضع حدود إنسانية أيضا حسب الزمان والمكان وهذه هي عين الرحمة
وعين السنة. لذا وجب علينا أن نعيد فهم الأحاديث في ضوء فهم الكتاب لا
العكس، حيث أن الأسلوب المتبع التقليدي هو فهم الكتاب في ضوء الحديث.
ويبقى أن أتمنى على القارئ أن يفهمني بدقة ولا يظن أننا نرد الحديث النبوي معاذ الله وكيف نفعل وقد سمعنا قوله صلى الله عليه وسلم: {ألا هل عيسى رجل يبلغه الحديث عني فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله… الخ}. ولكننا ندعو إلى إعادة فهم الحديث وتصنيفه ونقده وقدره حق قدره.
أحاديث النبوة:
وتقسم إلى نوعين:
أ – أحاديث تتعلق بالغيبيات أي
بشرح القرآن وتتعلق بالفهم العام للقرآن وليس التأويل إذ أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان ممتنعا عن التأويل. هذه الأحاديث يجب أن تتطابق مع
المفهوم العام للقرآن حيث أن المفهوم العام يتطابق مع الحقيقة والعقل. وإذا
لم تتطابق فتهمل.
ب – أحاديث تتعلق بشرح تفصيل
الكتاب كقوله “أوتيت القرآن ومثله معه” هنا يشرح أن السبع المثاني هي
كالقرآن وقوله “في ليلة القدر أنزل القرآن إلى السماء الدنيا” هذه الأحاديث
يجب أن تتطابق مع آيات تفصيل الكتاب “لا محكمة ولا متشابهة”.
إن المرحلة المكية في حياة
النبي صلى الله عليه وسلم لم تدرس ولم تلق الاهتمام من قبل الفقهاء وإنما
غطى أحداثها التاريخية كتاّب السيرة وإن الذي تلقى الاهتمام من قبل الفقهاء
النواحي التشريعية والتي كانت معظمها في المدينة حتى النواحي التشريعية تم
فهمها من خلال منهج غير حنيف لتشريع حنيف مما أدى إلى تحنيط الأحكام
وتجميد حركة التاريخ وإخماد الروح الثورية والوطنية لدى العرب والمسلمين.
هنا يجب أن يفهم الإسلام فعلى أنه ثورة عامة شاملة شملت كل نواحي الحياة
الشخصية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية.
قامت هذه الثورة بإمكانات
إنسانية وسلوك إنساني وبمنهاج إلهي واجتهاد إنساني. إذانظرنا الآن إلى
التاريخ القديم في منطقة الشرق الأوسط الذي هو مهد الحضارات الإنسانية
القديمة نرى أن الدول في تلك الحضارات والبلاد كان يقضي عليها أعداء
خارجيون. فعندما حارب الإسكندر الأكبر الفرس استقبله أهل فارس بالترحاب
لأنهم كانوا يعيشون تحت الظلم والكنهم أنفسهم كانوا عاجزين عن القضاء على
حكامهم حيث أن القهر والعبودية أوقعا الشعوب القديمة في حالة عجز. هذه
الظاهرة تفرض علينا دراسة التاريخ القديم بإمعان، أي لماذا لم تقم ثورات من
قبل الشعوب القديمة لتقضي على حكامها وكان القضاء على هذه الدول في معظمها
نتيجة حروب خارجية؟
إذا نظرنا بإمعان نجد أن سبب
غياب الثورات لدى الشعوب القديمة هو أن الشروط الثورية الثلاثة التي لا بد
لأي ثورة أن تستكملها لكي تنجح لم تكن متوفرة، وهذه الشروط هي:
1 – الظروف الموضوعية التي تسمح بتغيير ثوري “القدر”.
2 – وعي هذه الظروف “وعي القدر، المعرفة”.
3 – تشكيل الأداة الثورية “القضاء الواعي”.
لقد كانت الظروف الموضوعية متوفرة ولكن وعي هذه الظروف كان ضعيفا أو وجد عند قلة قليلة من الناس بحيث عجزوا عن تشكيل الأداة الثورية.
لقد حصلت ثورات غير واعية في
التاريخ القديم ولكن لا يمكن أن نسميها ثورة بالمفهوم الحديث بل هي
انتفاضات أوردة فعل عفوية مثل انتفاضة عبيد روما بقيادة سبارتاكوس.
وكما نرى في قصص القرآن أن الله
كان يتدخل مباشرة لنصرة رسله وأنبيائه حيث أن الذين اتبعوهم كانوا قلة
“نوح، هود، صالح، شعيب، لوط، موسى، وهارون”.
لقد كان الإسلام أول ثورة كبرى
شمولية في التاريخ الإنساني تحققت فيها الشروط الثورية الثلاثة حيث كان
للعرب هذا الدور المميز في التاريخ، إذ وقعت على عاتقهم قيادة أول ثورة
كبرى شمولية ضمن أطر ثورية ناضجة أسسوا بعدها دولة ذات علاقات حضارية
وحرروا شعوب المنطقة من نير الاستعباد الرازحين تحته. حتى المسيحية لم
تستطع أن تقضي على الدولة الرومانية، وإنما تبنتها الدولة الرومانية وأعادت
صياغتها ضمن أطرها الوثنية الإمبراطورية. وكانت السنة النبوية هي قاموس
هذه الثورة.
قبل أن نبدأ بشرح مفردات ذا
القاموس سنشرح لماذا العرب وليس غيرهم وقع على عاتقهم ذلك العبء المشرف
لهم. لقد شرحت في الباب الرابع في مبحث فن العمارة عن فن العمارة عند العرب
أنه كان فنا غير متطور وأن النظام العربي قبل الإسلام كان نظاما قبليا
بحتا. ولم يكن هناك أي نظام سياسي يوحد شبه جزيرة العرب. هذه القبائل كانت
تعيش بشكل أساسي على الرعي “حياة البداوة” وكان طعامها الأساسي من نتاج
المواشي “الإبل والغنم” من لحم ولبن وكانت تأمكل التمر حيث النخل من
الأشجار الصحراوية التي لا تحتاج إلى رعاية وخدمة كبيرة من قبل الإنسان.
وكانت الأماكن الرئيسية في الحجاز مكة ويثرب مقرا لعمل آخر هو التجارة.
أما مفهوم الصناعة عند العرب
–حيث أن الصناعة تحتاج إلى عمل يدوي- فقد كان شبه معدوم عندهم، لأن العمل
اليدوي يربط الإنسان بمكان واحد، وقد كان العرب يحتقرون العمل اليدوي للسبب
الموضوعي التالي الذي كان سائدا في ذلك الوقت: لقد كان العرب في شبه
جزيرتهم في القرن السابع على علم تام بأحوال الدول المجاورة لهم وكانوا
يعرفون أن هناك قصورا ومعابد وحلبات سباق ومدرجات رياضية هائلة وعربات،
وكانوا يعلمون أن الذي صنع ونفذ كل هذه المنشآت الضخمة كانوا عبيدا يعملون
بالسخرة، فارتبطت في ذهن العربي هذه المنشآت والعمل اليدوي بشكل خاص
بالعبودية. لذا فقد أنف العربي من العمل اليدوي لارتباطه بالعبودية في ذلك
الوقت، حتى أن الصناع المهرة في مكة كانوا من غير العرب.
وإن أهم منشأة عندهم كانت
الكعبة المشرفة، وإذا تنظرنا إليها اليوم نراها عبارة عن منشأة بسيطة لا
يوجد فيها أي تعقيدات ولا تتطلب مهارات خاصة في إشادتها. لقد ظهرت إيجابية
هذا الموقف في أن العرب في معظمهم كانوا أحرارا لا يخضعون إلى أي نظام
عبودي منظم له مؤسساته ومنشآته الخاصة وجيشه الخاص في حين أن هذا الوضع كان
سائدا في الدول المحيطة بهم وكانوا يعلمون تماما أن هذه الدول كانت متقدمة
عليهم من الناحية المدنية، وأقوى منهم من الناحية العسكرية ولكن كانوا
يعلمون أن سكانها عبيد، والإنسان عندما يولد عبدا ويعيش عبدا ويموت عبدا
وكذلك أبناؤه وأحفاده فإنه يصل إلى نوع من العجز الكامل الذي يعجز فيه عن
تحرير نفسه ويستسلم لقدره ويعتاد على لاطاعة المطلقة دون تفكير “تنفيذ
الأوامر فقط” ويصل إلى وضع غير قادر فيه على إمساك زمام المبادرة والتفكير
حتى بالأوامر الصادرة له بحيث يصبح هذا النمط من العيش هو من سنن الحياة
الأساسية عنده. هذا النوع من الناس غير قادر على قيادة أي ثورة لأنه فقد
ملكة التفكير الحر والمناقشة “وهذه كانت سنة الأولين وليس الآخرين،
والآخرون هنا هم الإنسان العصري بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم”.
هذا المثال واضح في علاقة بني
إسرائيل بموسى. إذ وقع على عاتق موسى فقط تخليص بني إسرائيل من الفراعنة
ولم يقدم بنو إسرائيل أية مساعدة وسند لموسى لتخليصهم من فرعون {قالوا أُوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا}
(الأعراف 129). وذلك لأنهم ظلوا مستعبدين عدة قرون من بعد يوسف حتى موسى.
وعندما خرج بهم موسى من مصر إلى سيناء رفضوا أن يقاتلوا معه وقالوا له: {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون}
(المائدة 24). هذا هو السبب الأول في أن الرسالة والنبوة جاءت إلى العرب
ووقع عليهم هذا العبء المشرف وقد تجلت هذه الحرية في كثرة الشعراء في العصر
الجاهلي والتي كانت تلعب دور الصحافة الحرة.
أما السبب الثاني فهو أصالة
اللسان العربي: لقد شرحنا في مبحث نشأة الإنسان واللغة أصالة اللسان
العربي. إذ أنه حين نزل القرآن كان اللسان العربي قد وصل إلى طور الإبانة
“لسان عربي مبين” وقد كان اللسان العربي هو ذلك الوعاء الإنساني الذي حوى
مطلق الحقيقة ونسبية الفهم.
أما السبب الثالث: فهو أن خاتم الأنبياء والمرسلين يجب أن يكون في أم القرى “مكة”: {وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا} (القصص 59).
ولهذا السبب وضع إبراهيم ابنه إسماعيل في أم القرى لأن خاتم الأنبياء والمرسلين يجب أن يكون من سلالة إبراهيم أيضا: {ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب} (العنكبوت 27).
– مفردات قاموس الثورة النبوية “الأصالة الثورية”:
1 – الطرح الأيديولوجي والفلسفي الشمولي للكون والحياة والإنسان. وهذا الطرح جاء في مكة في القرآن حيث أن معظم الآيات التي تبدأ بـ {يا أيها الناس}. هي مكية وهي من هذا الطرح الشمولي، لذا قال عن القرآن أنه {هدى للناس} وعن الكتاب بأنه {هدى للمتقين}.
حيث غطى هذا الطرح الوجود كله: الله، الكون، الإنسان، ونظرية المعرفة
الإنسانية، أصل الإنسان، الحياة، الموت، الساعة، البعث، اليوم الآخر
والحساب والثواب والعقاب، قوانين جدل الطبيعة وجدل الإنسان، قوانين
التاريخ، حرية الإنسان “القضاء والقدر”، ونظرية الدولة والشعب والأمة
والقومية والأخلاق. لأن أي طرح أيديولوجي وفلسفي لا يمكن أن يكون إلا
إنسانيا {يا أيها الناس}.
2 – هذا الطرح الذي جاء في مكة
والذي جاء بلسان عربي مبين، والذي فهموه فهما نسبيا حسب أرضيتهم المعرفية
واللسانية، وذلك من خلال خاصية التشابه، كان طرحا متقدما على كل ما هو
موجود عند العرب وعند غيرهم وذلك في إطار فهمهم النسبي للقرآن ومقارنته مع
ما هو موجود فعلا في ذلك العصر. وعلينا نحن الآن أن نفهم القرآن ضمن
الأرضية المعرفية السائدة في القرن العشرين ومقارنته مع ما هو موجود وسائد
عندنا، فنراه طرحا متقدما على كل ما هو سائد عند العرب والمسلمين.
3 – لقد كان هذا الطرح قويا في
مضمونه حسب ما فهموه في ذلك الوقت، لكنه كان ضعيفا في مواجهته المادية مع
الخصم إذ كان دون أنصار لأنه كان جديدا كل الجدة على المجتمع السائد.
4 – انطلاقا من هذا الطرح تشكل تنظيم قريب الشبه بما يسمى اليوم بالحزب الطليعي.
5 – كانت بدايات التنظيم الطليعي سرية “مرحلة دار الأرقم بن أبي الأرقم”.
6 – بعد المرحلة السرية انطلق
هذا التنظيم إلى العلنية ملتزما التزاما كليا بالنضال السلبي “السلمي”، أي
أنه كان يطرح الأفكار ويتلقى الصدمات دون أن يرد على العنف بالعنف المضاد.
لذا ففي المواجهات الفكرية العقائيدة كان المشركون يهربون من المسلمين ولا
يحبون موجهتهم حتى أنهم سموا محمدا صلى الله عليه وسلم ساحرا سحر شبابهم.
أما في المواجهات القتالية فقد كان المسلمون يهربون من المشركين لعجزهم عن
المواجهة حتى أنهم كانوا يضطرون للهرب في بعض المواقف “الهجرة إلى الحبشة”
علما بنه كان هناك بعض المسلمين الذين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم
الرد على العنف بعنف مضاد ولكنهم منعوا من ذلك {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم…} (النساء 77) وذلك لأن الشروط الموضوعية لتلك الفترة لم تكن تسمح بذلك.
7 – لقد استعمل أعداء الطرح
الجديد (الملأ) كل أساليب القمع والتعذيب الجسدي والنفسي وكانت قمة
المواجهة السلبية هي الحصار الاقتصادي حيث تم هذا الحصار في شعب أبي طالب
لمدة ثلاث سنوات ولم يستطع المسلمون مواجهته إلا بالصبر والإيمان بقضيتهم
حيث لم يستطيعوا الحصول على الطعام إلا بالمساعدة السرية من بعض أصدقائهم
من مكة. وهذا السلاح مازال موجودا حتى يومنا هذا وفعالا ولا يمكن مواجهته
إلا بالصبر والإيمان بالقضية التي حوصر الناس من أجلها.
8 – لقد استعمل التنظيم الجديد
في دعوته كل الوسائل المتوفرة في عالم الحقيقة آنذاك فكان النبي صلى الله
عليه وسلم والمسلمون يذهبون لدعوة الناس ومجابهتهم ومناقشتهم ضمن كل الأطر
المتوفرة آنذاك مثل “دار الندوة” وأسواق العرب مثل “سوق عكاظ” ومواسم الحج.
كل هذا مع تفادي الصدام العنيف مع أعدائهم. علما بأنه بعد انتصارهم ألغيت
دار الندوة وسوق عكاظ وبقي موسم الحج بعد تعميمه فريضة تعبدية.
9 – اللجوء إلى كل “وسائل الإعلام” الممكنة آنذاك مثل الشعر للرد على وسائل الإعلام المعادية.
10 – اللجوء إلى كل أساليب
الخدعة والهرب والتمويه كي يخففوا عنهم ضربات الأعداء مع كل الحفاظ على
القيم الأخلاقية فلم يمارسوا السبي وقتل النساء والأطفال والسرقة.
11 – المرونة في المناقشة والطرح “التكتيك” “المواقف السياسية” “صلح الحديبية” مع الصلابة في المواقف العقائدية المبدئية {قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون} (الكافرون 1، 2).
12 – البحث عن أرض ضمن شبه
جزيرة العرب يمكن إقامة مجتمع صغير عليها مسيس طبقا للطروحات الجدية، وكانت
هذه هي الغاية الأساسية من الهجرة إلى يثرب إذ كان الحصول على الأرض
الآمنة وإقامة المجتمع المسيس هو نقطة انعطاف كبرى في مسيرة الثورة. حيث
أنه لا ثورة دون أرض ومجتمع مسيس على هذه الأرض.
وفي هذا تكمن نقطة الضعف الكبرى
في الثورة الفلسطينية، إذ هي ثورة وطنية بلا أرض، ونرى دائما أنه عندما
تحصل هذه الثورة على قطعة أرض ولو كيلومتر مربع واحد تقيم عليها قانونها
الخاص نرى أن القوى تتداعى عليها لسلبها هذه القطعة وتقضي على هذا المجتمع
المسيس طبقا لقانون الثورة الفلسيطنية.
13 – بعد الحصول على الأرض
وإقامة المجتمع المسيس انتقلت الثورة من مرحلة النضال السلبي إلى مرحلة
النضال الإيجابي وبدأت الحرب الأ÷لية فعلا وانتشرت حتى سيطرت على شبه جزيرة
العرب كلها لإقامة الدولة الواحدة {إذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير} (الحج: 39).
14 – كذلك في مرحلة النضال
الإيجابي استعملت كل أنواع الخدعة والتمويه مع الحفاظ الكامل على القيم
الثورية الإسلامية فلم يقتلوا امرأة أو طفلا أو أعزل من السلاح وحافظوا على
عهودهم ووعودهم وأحسنوا معاملة الأسرى. و… و….
15 – عدم إغفال العلاقات الدولية بعد إقامة المجتمع المسيس”رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وهرقل والمقوقس”.
16 – الحفاظ على وحدة أرض شبه
جزيرة العرب من الأعداء الخارجيين “غزوة مؤتة، غزوة تبوك” أي بعد انهزام
العرب في معركة مؤتة خشي النبي صلى الله عليه وسلم من هجوم الروم على شبه
جزيرة العرب، فذهب على رأس جيش بنفسه إلى تبوك.
17 – بداية التشريع الاجتماعي
والسياسي والاقتصادي والأحوال الشخصية في المدينة حيث أن الآيات المدنية في
معظمها تشريع وتبدأ بقوله تعالى {يا أيها الذين آمنوا} في حين أن الآيات المكية إنسانية تبدأ في معظمها بقوله تعالى: {يا أيها الناس}.
18 – استثمار كل المزايا
العربية الإيجابية مثل الكرم والشجاعة وإغاثة الملهوف والعفو عند المقدرة
والنزعة إلى الحرية حيث استثمرت إلى أبعد الحدود كل المزايا الإيجابية
للقومية العربية “تجدون الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام
إذا فقهوا” “صحيح مسلم ج4، 1958”.
19 – الاعتماد على أكثر الناس
تحضرا بالنسبة لمجتمع شبه جزيرة العرب “قريش والأنصار” في قيادة العمل
الثوري حيث كان المهاجرون “من قريش” والأنصار من “يثرب” هم النواة الأساسية
للتنظيم الثوري، ولا عجب بأنهم كانوا القادة السياسيين والعسكريين للدولة
وتحت قيادتهم جرت حروب التحرير الكبرى لأنهم كانوا أكفاء عن غيرم فيا
لمناورة والتكتيك واتخاذ القرار ضمن الالتزام العقائدي الكامل، إذ أنهم
عاصروا الرسول صلى الله عليه وسلم من أو الأيام دعوته حتى وفاته وكانوا هم
ذراعه الأيمن ومستشاريه في جميع الأمور التي لا تتعلق بالوحي.
20 – التفريق في القيمة بين القيادات وعامة الناس والتسوية في العاملة {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم}
(الحجرات 14). هذه النقطة الخطيرة التي يمكن أن تقع فيها أكبر الثورات
وتعتبر من نقاط المقتل في العمل لثوري. أي أنا لسابقين في الإسلام والذين
تحملوا أقسى أنواع المشاق والموثوقين في التزامهم العقائدي والذين يقال
عنهم الآن القيادة السياسية هم أعلى في القيمة من الناس العاديين الذين
دخلوا الإسلام بعد فتح مكة {إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا} (النصر 1، 2) ولكنهم متساوون مع الناس العاديين في الحقوق وأحكام القانون.
21 – السلطة السياسية هي على
سلطة في الدولة. فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في الأمور التي لا تتعلق
بالوحي هو القائد السياسي وهو رأس القضاء، ولكنه لم يتول القيادة العسكرية
إلا في الأمور الكبيرة “كقائد أعلى للجيش”. هذه السنة التي سنها النبي صلى
الله عليه وسلم والتي تشربها الصحابة والعرب معهم وهي أن القيادة السياية
هي أعلى سلطة في الدولة وإليها ترجع القرارات الاستراتيجية “العسكرية
والمدنية وتقدير المواقف” كانت هذه السنة واضحة أشد الوضوح بعد وفاة النبي
صلى الله عليه وسلم وهذه السنة تتمثل في الأمور التالية:
أ – إن السلطة السياسية يجب أن
تكون من أناس لهم ماض معروف وملتزمين وليسوا نكرات أي أنهم مارسوا النضال
والقيادة قبل الوصول إلى هرم السلطة وهذا واضح في الخلفاء الراشدين والقواد
العسكريين والمستشارين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم إذ كانوا من
المهاجرين والأنصار.
ب – إن القيادات العسكرية كانت
خاضعة خضوعا كاملا ومطلقا للقيادة السياسية حتى أن هذا الأمر كان طبيعيا
جدا عند العرب بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم. مثال على ذلك عزل عمر بن
الخطاب لخالد بن الوليد عن قيادة الجيش وتولية أبي عبيدة بن الجراح. وأمر
الخليفة أبي بكر لخالد بن الوليد بترك العراق والذهاب إلى الشام. ومحاكمة
خالد بن الوليد من أجل صرف المال دون أن تشفع له كل أمجاده العسكرية.
وقد استمرت هذه الظاهرة حتى
أوائل العهد العباسي حيث كان الخليفة الأموي هو رأس السلطة السياسية الفعلي
وكان القواد العسكريون ملتزمين بكل قراراته دون أي مخالفة “قتيبة بن مسلم
الباهلي” “موسى بن نصير” ولم تضعف الدولة العربية الإسلامية إلا حين انعكس
الأمر أي حين أصبح الخليفة الذي هو رأس السلطة السياسية يعين من قبلا لقادة
العسكريين الذين سيتحكمون بالتالي بجميع القرارات والاتجاهات الكبرى
للدولة.
ج – إن القرارات التكتيكية
متروكة للقادة العسكريين أنفسهم دون تدخل السلطة السياسية بأحداث المعارك
أو توزيع الفرق والألوية ومواضع مبيتها وأوقات تنقلاتها.
22 – بعد وفاة الرسول مباشرة
فصل القضاء عن السلطة السياسية فحتى حين تولى أبو بكر الخلافة كان القضاء
من مهام عمر بن الخطاب. ونلاحظ هنا أن أهمية القضاء تأتي بالمرتبة الثانية
بعد رئاسة الدولة بالنسبة للسلطة السياسية وقد تطور هذا المفهوم بعد ذلك
بظهورا لفقه حيث كان الفقهاء يمثلون السلطة التشريعية “اللوائح القانونية”
ومن هنا نرى أن الأوائل من الفقهاء كان لهم دور رئيسي في قيادة الدولة من
الناحية التشريعية وقد كان الفقهاء الخمسة منارات هدى مضيئة ناصعة عظيمة في
الحضارة العربية الإسلامية ولكنهم اجتهدوا لمجتمعهم ولم يجتهدوا لنا وإنما
تكمن مشكلتنا الآن في استمرارية الاعتماد عليهم.
إلا أنه بعد عصر الفقهاء الخمسة
أدى الفقهاء اللاحقون وخاصة مع بداية عصور الانحطاط دور تحنيط التشريع
ودور تجميد الفكر والحؤول دون تحركه ونشاطه.
23 – وجود المرجع المعرفي
والأخلاقي والجمالي الواحد لكل من السلطة والناس وهذا مما أتاح الجو لبداية
بذور الديموقراطية السياسية حيث كان أي إنسان من الناس ذكرا كان أم أنثى
له الجرأة في سؤال الخليفة عن سلوك ما، ولولا وجود المرجع لما حصل هذا لأن
الديموقراطية لا تقوم دون هذا المرجع.
24 – القضاء قضاء كاملا على نظرية الحق الإلهي للحاكم في الحكم لأن الحاكم ليس خليفة الله المطلق في الأرض وإنما {وأمرهم شورى بينهم}
(الشورى 38). لقد وليت عليكم ولست بخيركم” وإنما الإنسان كإنسان هو خليفة
الله في الأرض وليس الحاكم. وهكذا نرى أنه لا يوجد في الإسلام رجال دين
لتنصيب الملوك والخلفاء لإعطائهم الصفة الشرعية.
25 – مع وجود المرجع المعرفي
والأخلاقي والجمالي كانت الخلافات في الرأي بين القيادات لا تصل إلى حد
اتهام بعضهم لبعض بالخيانة حتى خلاف علي ومعاوية كان دلا بين إسلام وإسلام
وليس بين إسلام وجاهلية حيث كانت تجمعهم القضية العربية الإسلامية.
ولا يهولنك ما كانوا يتنابذون
به من ألفاظ تحس فيها جفاء وغلظة فنحن نسمع اليوم في أبهاء المجالس
النيابية في أرقى دول العالم بل في أبهاء الأمم المتحدة منابذات ومهاترات
أشد وألذع كثيرا.
26 – إعطاء المرأة حقوقها طبقا
للظروف الموضوعية السائدة وسبة إلى العالم المحيط بها وذلك يعتبر بداية
تحرير المرأة حيث ما حصل للمرأة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم هو بداية
التحرير وليس التحرير بكامله.
27 – بداية التغير في العلاقات
الإنتاجية. هذه النقطة من أهم نقاط بحثنا، وتعتبر نقطة حاسمة في السلوك
الاقتصادي الثوري وهو أنه لا يجوز إحداث تغيير مفاجئ في العلاقات الإنتاجية
وفي وسائل الإنتاج. هذه النقطة التي اسغلها اليسار الطفولي وهي: لماذا لم
يأت التشريع الإسلامي في القرن السابع على تحرير كامل ونهائي للرق وإنهاء
هذه المشكلة وإنما بدأ بحلها؟ جواب هذا السؤال تم اكتشافه في القرن العشرين
فقط وهو أن غحداث تغييرات مفاجئة في وسائل الإنتاج والعلاقات الإنتاجية
يؤدي إلى ك وارث قد تقصم ظهر الدولة. وكان الرق هو العمود الفقري للإنتاج.
ثم تأتي العمالة بعد ذلك لتحل
محل الرق. فالحل الأخلاقي فيا لرق كان ضروريا، والاقتصادي كان متدرجا. وقد
حدث الحل الجذري للرق في عام 1860 في أمريكا فنتج عن ذلك حرب أهلية كادت أن
تفتت الدولة علما بأن هذا الحدث حصل بعد ما يزيد على 12 قرنا من ظهور
الإسلام “القرن الثالث عشر الهجري”.
أما الحلول الجذرية فيمكن
اتخاذها فيما يتعلق بينية الدولة وفي إدارتها وفي سياستها بشكل خاص لأن من
مهمات الثورة بعد مرحلة نجاحها وتسييس المجتمع، التنظير لتطوير مفاهيم
المجتمع وفق الظروف الموضوعية المستجدة والتناقضات الجديدة وعلاقات التأثير
والتاثر المتبادل الجديدة وذلك لخلق حركة دفع دائمة التطور حفاظا على عجلة
التقدم في المجتمع، ولتحاشي النكسات والتجمد والتحجر، مما يبرر الضرورة
الدائمة للتغيير فيا لبنية والإدارة والتشريع وحل التناقضات الجديدة التي
لا تنتهي أبدا والشورى “الديموقراطية” وحرية التعبير عن الرأي هي أساس
الأسس في هذا التطور.
28 – الالتزام الكامل بالوعود التي تقطعها الثورة للناس وعدم النكال بها “أي تطابق الأقوال والأفعال”.
29 – إبرام معاهدات مرحلية من
أجل الوصول إلى الهدف الأساسي وخفض عدد الأعداء إلى الحد الأدنى “معاهدة
النبي مع يهود يثرب لأن المعركة الأساسية كانت مع مشركي العرب” “صلح
الحديبية”.
30 – اعتبار القتال آخر حل يمكن اللجوء إليه، وفي حال وجود حلول أخرى لكسب المعركة فإنها هي التي تتبنى “المؤلفة قلوبهم”.
31 – ممارسة الديموقراطية “الشورى” في كل أبعادها الممكنة في ذاك الوقت في الأمور التي لا تتعلق بالوحي {وأمرهم شورى بينهم} (الشورى 38)، {وشاورهم في الأمر}
(آل عمران 159). حيث أن عقيدة التسبيح “التطور” في الوجود والحركة بين
الحدود في التشريع هي أساس الوحدة الوطنية التي تحتمل الديموقراطية في
المعرفة وفي التشريع.
32 – عدم اللجوء إلى الإجراءات الانتقامية عند النصر والتمكن من العدو، لأن الدول لا تبنى على الحقد والانتقام {وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير للصابرين} (النحل 126).
ونرى هذا في أن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عمن آذاه في حال الإمكانية.
33 – صياغة مفاهيم وطنية تأخذ كل إيجابيات القومية العربية في الجاهلية مضافا إليها مفاهيم الإسلام في العقيدة والمعاملة والأخلاق.
34 – إعطاء كل الشخصيات
القيادية أبعادها الكاملة في القيادة والقرار حيث أنه بعد وفاة النبي صلى
الله عليه وسلم كانت القيادات كلها مهيأة للقيادة السياسية والعسكرية.
وهكذا نفهم قوله تعالى: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}
(الأحزاب 21). فالأسوة الحسنة هي اتباع مهج النبي صلى الله عليه وسلم في
تطبيق أحكام الكتاب حسب الزمان والمكان حيث كان هو الأسوة في هذا المنهج
الذي حول التعليمات الإلهية المطلقة إلى واقع موضوعي في عالم النسبية.
لنناقش الآن لماذا تم التأكيد
الكبير على حرفية الحديث حيث أن الفقهاء الأربعة ظهروا في النصف الثاني من
القرن الثاني للهجرة (الشافعي ولد عام 150هـ). والفقهاء الأربعة ظهروا في
أوائل العصر العباسي، وكذلك المحدثون (البخاري ولد عام 196هـ).
إن السبب الأساسي لجمع الحديث
أولا وللتأكيد عليه ثانيا هو سبب سياسي بحت. تولد عنه منطلق فكري عقائدي
بعد سقوط دولة الخلفاء الراشدين وظهور الدولة الأموية، ظهرت فرق في الإسلام
كلها ذات منشأ سياسي، وكان هذا المنشأ بحاجة إلى أرضية أيديولوجية
“الشيعة، الخوارج” وظهرت بداية تيارات فكرية فلسفية مثل الجهمية والقدرية
والمرجئة. هذه التيارات حاولت تبني الفهم الفلسفي للقرآن وللرسالة.
هذا الفهم الذي كان بعيدا عن
العرب في حياتهم البدوية ضمن ظروفهم في شبه جزيرة العرب حيث كانوا أبعد
الناس عن الفلسفة والفهم الفلسفي. وكان الصحابة جزءا من هؤلاء العرب. إن
المشكلة الكبرى التي ما زلنا نعيشها إلى اليوم بسبب تكريس مفهوم الحديث –
أي حديث – والتأكيد عليه، تكمن فيما يلي:
هل نحن أفهم من الصحابة في فهم
الكتاب؟؟ فيا لجواب على هذا السؤال يجب أن نكون جريئين في الحق بدون خوف.
الجواب هو نعم ولا في آن واحد.
فالجواب نعم: نحن على يقين
بأننا في أواخر القرن العشرين في مشاكلنا المعاصرة والتي لا يعرف الصحابة
عنها شيئا. وبوجود الكتاب الذي لا ريب فيه بين أيدينا، قادرون على نقله من
عالم المطلق إلى عالم النسبية الذي نعيشه نحن وقادرون أن نتحرك ضمن الحدود
بشكل يتناسب مع عصرنا، وفي هذا نحن أقدر منهم وليس منا لضروري أبدا
الاعتماد على أقوالهم وتحريها فوضعنا منهم هو: إن كانت أقوالهم تناسبنا
أخذناها، وإن كانت لا تناسبنا تركناها.
والجواب لا: لأنهم فهموا
الإسلام حسب شروطهم وروفهم أفضل من فهمنا التاريخي للإسلام وهو متفاعل مع
ظروف القرن السابع في شبه جزيرة العرب.
إن المغالطة الكبرى هي أننا
نريد أن نفهم الإسلام فنرجع من القرن العشرين إلى القرن السابع في طريقة
تفكيرنا. أي أننا نريد أن نفكر كما فكروا هم وهذا مستحيل. ثم بعد ذلك ننتقل
من القرن السابع إلى القرن العشرين لنقدم إسلام القرن السابع في القرن
العشرين. في هذه العملية يتم تشويه التاريخ والتطور والزمان والمكان. وينتج
لدينا إسلام خيالي يعيش في فراغ خارج التاريخ ودين لا علاقة له بالحياة بل
خارج الحياة. هذه العملية إن لم ننتبه إليها ونصححها فلا أمل في تقدم
المسلمين والخروج من مأزقهم.
والخروج من المأزق هو استيعاب
السنة بمفهومها الحقيقي “الأسوة الحسنة للرسول”: “بعثت بالحنيفية السمحة
ومن خالف سنتي فليس مني” وهو أننا يجب أن نكون واثقين من أنفسنا ونقول إننا
في القرن العشرين قادرون على تحويل القرآن من مطلق إلى نسبي كما فعل النبي
صلى الله عليه وسلم “وليس عين ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم” وكما فعل
أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وليس عين ما فعلاه لأنهما فهما هذه الحقيقة.
وإذا كان هناك أمور في صدر الإسلام نعتبرها مفيدة اليوم أخذناها، وإذا
كانت لا تفيدنا تركناها دون حرج. ونحن قادرون أيضا على أن نتحرك ونجتهد ضمن
حدود الله ورسوله في الأمور التي وردت في الكتاب، وقادرون على أن نضع
حدوداً في الأمور الأخرى كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
هذا الكلام يجب أن لا يفهم على أننا نكيل الاتهامات لهم أو نقلل من قدرهم وعظمتهم “لا سمح الله”.
ولكن يجب علينا أن نعطيهم قيمتهم التاريخية النسبية دون أن نضعهم في المطلق.
فإذا سألني سائل الآن “ألا يسعك
ما وسع الصحابة في فهم الكتاب والقرآن”؟ فجوابي بكل جرأة ويقين هو: كلا لا
يسعني ما وسعهم لأن أرضيتي العلمية تختلف عن أرضيتهم. ومناهج البحث العلمي
عندي تختلف عنهم. وأعيش في عصر مختلف تماما عن عصرهم. والتحديات التي
أواجهها تختلف عن تحدياتهم.
إني أواجه فلسفات قوية ومنيعة
دخلت عقر داري، وأواجه تقدما علميا يؤثر على كل حركة وكل قرار أتخذه في
حياتي، وأكون متوهما إذا قلت أو قبلت أنه يسعني ما وسعهم.
لقد ظهرت أوائل الحركات الفكرية
في العصر الأموي بعد الفتوحات العربية الهائلة حيث تتوجت هذه الحركات في
العصر العباسي بظهور المعتزلة أصحاب الفكر الحر حيث طرحوا مسائل لم يطرحها
الصحابة بشكل مؤكد ففهمها الفقهاء على أنها خروج عن الإسلام. فظهر هناك
تياران أساسيان: التيار الأول ظن أن الإسلام له شكل واحد في فهمه وتطبيقه
هو شكله في شبه جزيرة العرب في صدره فقط وأن الصحابة هم خير من فهموا
القرآن والكتاب بشكل مطلق، لذا كان هذا التيار بحاجة ماسة وملحة لكل كلمة
قالها النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة، لا المنهج أي كانوا بحاجة إلى
عين كلامه. وتبنى عين الكلام لا يعتبر أسوة وذلك لكي يؤكد ويدعم اتجاه هذا
التيار الذي نسميه تيار النقل وقد اعتمد هذا التيار على ناحيتين مهمتين
ومازال يستعملها حتى الآن وهما:
أ – العواطف الجياشة النبيلة
للمسلمين في حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم والصحابة وقد استغلت هذه
العواطف ومازالت تستغل إلى اليوم على صورة لا ترضي النبي صلى الله عليه
وسلم.
ب – انعدام البحث العلمي لدى
هذا الاتجاه حيث كان البحث العلمي عندهم يعتمد على “هكذا قال عمر” والمشكلة
الأساسية عندهم هي قال أم لم يقل أي صدق الرواية. وهكذا ظهر مفهوم علم
الحديث وطبقات المحدثين، علما بأنه علينا أن نعي المقولة الأساسية التالية
وهي “صدق الخبر لا يعني إطلاقه” أي إذا كان الخبر صادقا فلا يعني أنه مطلق.
هذا التيار نتج عنه أمران في منتهى الخطورة:
1 – وضع حياة النبي صلى الله
عليه وسلم في عالم المطلق بينما كانت حياته منسوبة إلى شبه جزيرة العرب في
القرن السابع بكل ما أحاطها من معطيات اقتصادية واجتماعية وسياسية.
2 – الإصرار على أن أوامر النبي
ونواهيه هي وحي، وأن السنة هي وحي، والوحي دائما من الله، والله مطلق.
علما بأن طاعة النبي متصلة بطاعة الله في الحدود “حدود الله” والعبادات
والأخلاق “الصراط المستقيم” فقط.
هذان السببان نتج عنهما أننا
وقعنا في عمق المزلق المسيحي دون أن ندري حيث أن الديانة المسيحية مرتبطة
بشخصية المسيح حصرا. وقد كان كلام المسيح عندهم هو كلام الله، لذا فإننا
نرى أن كل الأناجيل على اختلاف أنواعها عبارة عن السيرة الذاتية للسيد
المسيح.
والأحاديث هي السيرة الذاتية
للنبي صلى الله عليه وسلم، فكما أن هناك عدة أناجيل فهناك عدة كتب للحديث.
فلماذا نعيب على المسيحيين أن لديهم عدة نسخ للأناجيل ولا نعيب هذا على
أنفسنا في الحديث. تقوم المسيحية على تأييد المسيح، فشعائرهم الدينية
مرتبطة بشخصية المسيح: عيد الميلاد، عيد الفصح، حتى القداس هو الحضور الحي
للمسيح. فالمسيح بذاته عند النصارى هو الشهادة الإلهية لا الإنجيل.
أما عندنا نحن المسلمين
فالشهادة الإلهية هي “الكتاب المنزل” وليس شخصية النبي. ولكن بمفهوم السنة
التقليدي الموروث أصبح محمد صلى الله عليه وسلم هو الشهادة الإلهية إلى
جانب الكتاب بل أصبح فعليا الحديث النبوي هو المعتمد عليه أكثر من الكتاب
في بعض الأحيان.
ولو كان الأمر كذلك لنتج عنه
أننا نتهم محمدا صلى الله عليه وسلم دون أن ندري بالتقصير في إبلاغ رسالة
ربه، إذ لو كان حديثه وحيا لوجب عليه أن يأمرهم بكتابته كما أمرهم بكتابة
الوحي. أما وقد نهاهم فلم يبق إلا احتمال واحد وهو ألا يكون كلامه وحيا فلا
حرج عليه في نهيه عن كتابته.
وأما التيار الأساسي الثاني فهو:
تيار العقل:
وقد تمثل في المعتزلة حيث أن الإسلام عندهم تفاعل مع معطيات العصر وتحدياته وأنتج فكرا نيرا حرا نقديا.
وقد انتهت المعركة مع الأسف
بانتصار التيار الأول وما زلنا نعيش مآسيها وخيبتها حتى يومنا هذا، حيث
أصبح التيار الأول يسمى نفسه أهل السنة والجماعة. وانتصار التيار الأول قتل
الفكر الحر النقدي عند الناس مما أدى إلى استسلامهم حيث استلم الفقهاء
قيادة الناس تحت عنوان أهل السنة والجماعة، ومات الفكر النقدي. ومنذ ذلك
الحين أصبح الفقه والسلطة توأمان بغض النظر عن ماهية هذه السلطة، وطنية أم
غير وطنية، عربية أم غير عربية.
هكذا يظهر لماذا كانت الحاجة
الملحة إلى علم الحديث حيث تم ظهور علم الحديث في خضم هذه المعركة حتى
أصبحت السنة بمفهومها وتعريفها التقليدي الفقهي هي السيف المسلط على رأس كل
فكر حر نير ونقدي وأصبح الظن عند المسلمين أن محمد صلى الله عليه وسلم حل
كل مشاكل الناس من وفاته إلى أن تقوم الساعة.
أما السبب السياسي البحت وهو أن
كل حركة سياسية، الشيعة، السنة، الخوارج…الخ كانت بحاجة إلى أرضية فكرية
عقائدية لكي تكسب المؤيدين وتحافظ على استمراريتها مع الزمن، فكان الاعتماد
على الحديث هو المرجع الفكري لهذه الفرق السياسية.
ثم هناك نقطة منهجية حول سند
الحديث يجب أن لا نغفلها وهو أنه من الناحية التاريخية كان أبو بكر الصديق
“رض” أكثر الناس ملازمة للنبي صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم للدعوة وحتى
وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ولا نجد له في كتب الحديث إلا أحاديث قليلة
جدا منسوبة إليه.
في حين نجد العشرات من الأحاديث
منسوبة إلى أبي هريرة، وهذا أمر يدعو إلى التساؤل، علما بأن أبا هريرة قدم
إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة وكان النبي صلى الله عليه وسلم في
خيبر ولبث في المدينة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أي أنه عاش مع
الرسول صلى الله عليه وسلم مدة ثلاث سنوات فقط، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي
عاشوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من ذلك بكثير، هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى كان أبو هريرة يقول “ما كنا نستطيع أن نقول: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم حتى قبض عمر” وكان عمر “
رض” يقول “أقلوا الرواية عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فيما يعمل به” ثم يقول أبو هريرة “أفكنت
محدثكم بهذه الأحاديث وعمر حي؟ أما والله لأيقنت أن المخفقة ستباشر ظهري”
فإن عمر كان يقول “اشتغلوا بالقرآن فإن القرآن كلام الله” ولهذا لما بعث
أبا موسى إلى العراق قال له: “إنك تأتي قوما لهم في مساجدهم دوي بالقرآن
كدوي النحل، فدعهم على ما هم عليه ولا تشغلهم بالأحاديث وأنا شريكك في ذلك”
وهذا معروف عن عمر رضي الله عنه “انظر كتاب البداية والنهاية ص 107 لابن
كثير”.
الآن لنورد بعض الأمثلة على السنن النبوية التي يمكن أن تفهم في المضمون لا في حرفية النص ونفهمها فهما معاصرا:
1 – السواك: لقد كان النبي صلى
الله عليه وسلم يستعمل السواك وسيلة لنظافة الفم والأسنان حيث أن السواك
مأخوذ من شجر الآراك وهو شجر موجود في شبه جزيرة العرب. فإذا أردنا أن نفهم
سنة السواك فهما معاصرا نقول إن السنة النبوية تحض المسلمين على العناية
بنظافة الأسنان والفم ضمن الوسائل المتاحة وكان السواك هو الوسيلة المتاحة
في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فاستعمله. هذه السنة هي درس كبير لنا
للعناية بصحتنا.
2 – سنة اللحية واللباس: لقد
كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبس من لباس العرب حتى إن الذي كان يدخل
عليه من العرب وهو جالس مع الناس لأول مرة كان يسأل من منكم محمد. فهذا
يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتميز بأي شيء في لباسه ولا ليحته
وكان لباسه لباس العرب في حينه، وإطلاق اللحية هو من عادات العرب في حينه.
وهكذا نفهم السنة النبوية في اللحية واللباس هي أن على المسلم أن يلبس
لباسه القومي وأن يكون هندامه قوميا بدون حرج. لأن النبي صلى الله عليه
وسلم كان لباسه وهندامه قوميا وهذه السنة أكبر درس في اشعور القومي.
3 – سنة أكل التمر وشرب الحليب:
لقد كان طعام النبي صلى الله عليه وسلم معظمه من التمر والحليب. فإذا
نظرنا إلى شبه جزيرة العرب رأينا أن الإنتاج الزراعي الأساسي لها هو التمر
وكان العرب يربون الإبل والضأن فكان الحليب هو نتاجها. لذا فإننا نقول ن
السنة النبوية من حيث المأكل هي: أنه على المسلم أن يأكل من الطعام الذي
تنتجه بلده. هذه السنة إذا فمناها هكذا فهي درس في السلوك الوطني. إما إذا
فهمنا السنة على أنها عين التمر والحليب فإنها تصبح شكلا دون مضمون.
4 – {صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته}
إن الأهلة مواقيت للناس، وهي التي تحدد دخول الشهر وانتهاءه ومع تطور علوم
الفلك أصبح تحديد دخول الشهر وانتهائه غاية في السهولة وفقا لمعطيات العلم
الحديث، ولكن النبي عليه السلام لم يكن لديه خيار آخر، إذ لم يكن بالإمكان
معرفة دخول الشهر وانتهائه إلا برؤية العين والخيار الواحد لا يفلسف، ومن
هنا فإنا لا نرى بأسا في أن تصوم لرؤيته بأية وسيلة أخرى مع العين أو
دونها.
إنني أرى أنه يجب إعادة دراسة
سلوك النبي وأقواله في غير الحدود والعبادات على هذا النحو وإعطاؤها
المضامين المعاصرة الصحيحة والوطنية والقومية والاجتماعية.
إن النتائج التي يمكن أن نستنتجها في فصل السنة هي التالية:
1 – إن السنة هي منهج في تطبيق
الكتاب في الحركة بين الحدود أو الوقوف عليها أو وضع الحدود المقابلة لحدود
الله أو وضع حدود مرحلية. حيث أن الكتاب يمثل الجانب المطلق الإلهي من
الإسلام والسنة تمثل الجانب الإنساني من الإسلام “الاجتهاد”.
2 – علينا إعادة النظر في كتب الحديث ضمن النهج التالي:
أ – تقسم الأحاديث الشريفة إلى أحاديث النبوة وأحاديث الرسالة.
ب – تقسيم أحاديث الرسالة إلى
أحاديث ملزمة بالنص والمضمون معا والمتعلق بالعبادات والحدود والأخلاق
“الصراط المستقيم” وأحاديث ملزمة بالمنهج فقط مثل أحاديث التعاريف أي علينا
أن نعرف السارق قبل قطع اليد لأن النبي عرفه، والإلزام علينا هو التعريف
لا عين التعريف.
ت – علينا تبيان أن أحاديث النبوة ليس لها علاقة بالحلال والحرام.
ث – علينا إعادة النظر في تنقيح الأحاديث المتعلقة بالغيبيات على ضوء الفهم الحديث للقرآن.
ج – علينا اعتبار كل الأحاديث
المتعلقة بالحلال والحرام والحدود، التي لم يرد نص فيها في الكتاب على أنها
أحاديث مرحلية مثل الغناء والموسيقى والتصوير واعتبارها أحاديث قيلت في
حينها حسبا لظروف السائدة، وعلينا أيضا اعتبار كل أحاديث الغيبيات التي لا
تنطبق مع القرآن مثل عذاب القبر والروح على أنها سر الحياة على أنها أحاديث
ضعيفة أو موضوعة وعدم الأخذ بها.
3 – علينا أن نعيد النظر في
كيفية حبنا للنبي صلى الله عليه وسلم. إن أكبر حب يمكن أن نحبه للنبي صلى
الله عليه وسلم هو إرجاعه إلى أرض الواقع على أنه إنسان يوحى إليه ولد من
امرأة قرشية كانت تأكل القديد، وأنه عاش حياته في شبه جزيرة العرب بكل
أبعادها بعيدا عن الأوهام والفرضيات.
وعلينا أن نبتعد عن إدخاله في
عالم المطلق كقولنا “أول خلق الله” و”نور عرش الله” “قبض الله قبضة من نوره
وقال لها كوني محمدا” إن كل هذه الأوهام التي نضع من خلالها النبي في عالم
المطلق لا تفيدنا بشيء إلا بالخيبة والتخدير. لقد وضع المتصوفة النبي صلى
الله عليه وسلم في عالم المطلق من حيث الوجود ووضعه الفقهاء في عالم المطلق
من حيث التشريع، فحولوا بذلك الإسلام ورسول الله إلى خرافة من حيث الوجود
وإلى تحجر وتزمت من حيث التشريع.
القرآن (النبوة) هو الموضوعي وأم الكتاب (الرسالة) هو الذاتي
– أم الكتاب هي رسالة محمد (ص) وقد جاء القرآن تصديقاً لها
الفرع الثاني: الفرقان أو الوصايا العشر (الأخلاق)
الفرع الثالث: المعروف والمنكر والتعليمات التي جاءت بقوله (يا أيها النبي)
الفرع الثاني: فلسفة القضاء الإسلامي والعقوبات
الفرع الثالث: نموذج للفقه الجديد في دراسة موضوع المرأة في الإسلام
الفرع الثاني: أسس النظام الاقتصادي في الإسلام
الفرع الثالث: أسس المفاهيم الجمالية في الشهوات الإنسانية
الكتاب والقرآن – قراءة معاصرة محمد شحرور
الباب الأول: الذكر
تمهيد في المصطلحات
قال تعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9).
تصادفنا في المصحف إلى جانب لفظة “الذكر” الألفاظ التالية: “الكتاب” و”القرآن” و”الفرقان”.
فهل هذه الألفاظ كلها تشير إلى معنى واحد لأنها مترادفات؟ أم أنها تشير إلى معان مختلفة؟
وإذا كانت تلك الألفاظ تشير إلى معان متغايرة، فما معنى كل لفظة؟
نبدأ أولاً بتحديد مصطلحي “الكتاب” و”القرآن” ونحدد ثانياً مصطلح “الذكر ثم نبحث ثالثاً في مصطلح “الفرقان”.
الكتاب من “كتب”، والكتاب في
اللسان العربي تعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو لإخراج
موضوع ذي معنى متكامل، وعكس كتب من الناحية الصوتية “بتك” ويمكن قلبها بحيث
تصبح “بكت” وجاء فعل “بتك” في قوله تعالى {فليبتكن آذان الأنعام} (النساء 119). فالكتاب في المعنى عكس البتك أو البكت.
ونقول مكتب هندسي أي هو مكان
تتجمع فيه عناصر إخراج مشروع هندسي من مهندس ورسام وخطاط وآلة سحب، وهي
العناصر اللازمة لإخراج مخططات هندسية. ونقول كتيبة في الجيش، كأن نقول
كتيبة دبابات أو الخيل بعضها إلى بعض في نسق معين. وعندما نجمع أحاديث
الرسول صلى الله عليه وسلم حسب المواضيع، كأن نجمع ما قاله النبي صلى الله
عليه وسلم حول الصلاة، نسميه كتاباً حيث نقول كتاب الصلاة، وإذا جمعنا ما
قاله النبي صلى الله عليه وسلم حول الصوم نقول كتاب الصوم.
عندما نسمي فلاناً كاتباً نقصد
المواضيع وتأليف الجمل ووضع بعضها مع بعض، وربط أحداث بعضها إلى بعض.
وعندما نقول ذلك لا نقصد الخط بتاتاً، وإنما نقصد صياغة الجمل وربطها
لإخراج موضوع ما. فإذا أخذنا أربع كلمات وهي “جاء” و”الرجل” و”إلى”
و”البيت” وضممناها لنخرج منها معنى مفيداً، تصبح الجملة “جاء الرجل إلى
البيت” حيث تأخذ معنى مفيداً يمكن الوقوف عليه. وعندما نقول أصدر رئيس
الوزراء كتاباً نقصد به المعنى “الموضوع” لا الخط حيث يجب علينا متابعة
القول والإخبار بموضوع الكتاب، وإلا يصبح المعنى ناقصاً، كأن نقول: أصدر
رئيس الوزراء كتاباً بشأن كذا وكذا.
وإذا قلنا كلمة كتاب ولم نعطها
إضافة لتوضيح الموضوع يصبح المعنى ناقصاً، وعلينا أن نقول كتاب الفيزياء
للصف العاشر مثلاً. أي هذا الكتاب يجمع مواضيع فيزيائية بعضها إلى بعض وهي
صالحة لطلاب الصف العاشر. وهكذا فعندما نقول الصلاة كتاب فهذا يعني أن
الصلاة هي من المواضيع التعبدية التي وجب على المسلم القيام بها {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} (النساء 103). وبما أنه أوحي إلى محمد صلى الله عليه وسلم عدة مواضيع مختلفة، كل موضوع منها كتاب، قال: {رسول من الله يتلو صحفاً مطهرة * فيها كتب قيمة}
(البينة 2-3) فمن هذه الكتب القيمة “كتاب الخلق، كتاب الساعة، كتاب
الصلاة، كتاب الصوم، كتاب الحج، كتاب المعاملات … الخ” كل هذه المواضيع هي
كتب.
وعندما نقول كتاب البصر فهذا
يعني أننا ندرس العناصر التي إذا ضم بعضها إلى بعض وفق تتالٍ معين ينتج عن
ذلك عملية الإبصار، وهذه العناصر هي الأهداب والجفن والعين والعصب البصري
ومركز الإبصار في الدماغ. وإذا أردنا أن ندرس كتاب العين فهذا يعني أننا
ندرس البؤبؤ والشبكية وكل عناصر العين. وعندما ندرس كتاب الهضم فهذا يعني
أننا ندرس الفم والأسنان، البلعوم، المري، المعدة، الأمعاء الدقيقة،
الأمعاء الغليظة، القولون، هذه العناصر التي تدخل في عملية هضم الطعام.
وعندما جمع الزمخشري قاموسه “أساس البلاغة” جمع الأصول التي تبدأ بحرف
الألف وسماها “كتاب الألف” وجمع الأصول التي تبدأ بحرف الباء وسماها “كتاب
الباء”.. وهكذا دواليك.
فأعمال الإنسان كلها كتب: ككتاب
المشي، وكتاب النوم، وكتاب الزواج، وعباداته كتب: ككتاب الصلاة والحج
والزكاة والصوم، وظواهر الطبيعة كلها كتب ككتاب خلق الكون وكتاب خلق
الإنسان، وكتاب الموت وكتاب الحياة، وكتاب النصر، وكتاب الهزيمة، وكتاب
الزراعة، وكتاب الأنعام … هذه الكتب لا تعد ولا تحصى.
فكتاب الموت هو مجموعة العناصر
التي إذا اجتمعت أدت إلى الموت لا محالة، وكتاب النصر بهو مجموعة العناصر
التي إذا اجتمعت حصل النصر، وكتاب خلق الكون هو مجموعة العناصر التي تركب
منها خلق الكون. فلا يوجد شيء في أعمال الإنسان وفي ظواهر الطبيعة إلا من
خلال الكتب، ولذا قال: {وكل شيء أحصيناه كتابا} (النبأ 29). والإنسانية في نشاطها العلمي تبحث عن هذه الكتب. فعلى الإنسانية أن تدرس أي كتاب لكي تتصرف من خلال عناصر هذا الكتاب.
فإذا أردنا أن تطول الأعمار
فعلينا أن ندرس كتاب الموت وكتاب الحياة، وهذا ما يفعله علم الطب حين يدرس
الظواهر التي تؤدي إلى الموت “كتاب الموت” والظواهر التي تؤدي إلى نشاط
الأعضاء في الإنسان “كتاب الحياة”. وعندما نقول كتاباً ونقف يبقى المعنى
ناقصاً حتى نقول كتاب ماذا؟ وعندما قال تعالى: {كتاب أحكمت آياته} (هود 1) فهذا لا يعني كل آيات المصحف وإنما يعني “مجموعة الآيات المحكمات” وعندما قال {كتاباً متشابهاً} (الزمر 23) فإنه لا يعني كل المصحف وإنما يعني “مجموعة آيات متشابهات”، وعندما قال: {وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتاباً مؤجلاً} (آل عمران 145) فإنه عنى كتاب الموت، أي مجموعة العناصر التي تؤدي إلى الموت في حال توفرها واجتماعها “الشروط الموضوعية للموت”.
وعليه، فمن الخطأ الفاحش أن نظن
عندما ترد كلمة كتاب في المصحف أنها تعني ك المصحف. لأن الآيات الموجودة
بين دفتي المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس تحتوي على عدة كتب
“مواضيع”، وكل كتاب من هذه الكتب يحتوي على عدة كتب: فمثلاً كتاب العبادات
يحتوي على كتاب الصلاة وكتاب الصوم وكتاب الزكاة وكتاب الحج. وكتاب الصلاة
يحتوي على كتاب الوضوء وكتاب الركوع وكتاب السجود.
أما عندما تأتي كلمة كتاب معرفة بـ أل التعريف “الكتاب” فأصبح معرفاً عندا قال {ذلك الكتاب} في ثاني آية في سورة البقرة بعد {الم}
(ذلك الكتاب لا ريب فيه} قالها معرفة ولم يقل: كتاب لا ريب فيه، لأنه لو
قالها لوجب تعريف هذا الكتاب. فمجموعة المواضيع التي أوحيت إلى محمد صلى
الله عليه وسلم هي مجموعة الكتب التي سميت “الكتاب”، ويؤيد ذلك أن سورة
الفاتحة تسمى فاتحة الكتاب.
هذا الكتاب هو مجموعة المواضيع
التي أوحيت إلى محمد صلى الله عليه وسلم من الله في النص والمحتوى، والتي
تؤلف في مجموعها كل آيات المصحف من أول سورة الفاتحة إلى آخر سورة الناس.
هذا الكتاب يحتوي على مواضيع رئيسية هي:
{الذين يؤمنون بالغيب} (البقرة 3) (كتاب الغيب).
{ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} (البقرة 3) (كتاب العبادات والسلوك) (سلوك).
أي أن هناك نوعين من الكتب:
النوع الأول هو الذي يتعلق بسلوك الإنسان، ككتاب الصلاة الذي يتألف من
الوضوء والقيام والركوع والسجود، وهذه الكتب غير مفروضة على الإنسان حتماً،
بل له القدرة على اختيار الالتزام بها أو عدم التقيد بها. ويعني ذلك أن
الإنسان هو الذي يقضي “يختار” موقفه منها. وأطلق على هذا النوع في المصحف
مصطلح “القضاء” والنوع الثاني قوانين الكون وحياة الإنسان ككتاب الموت
وكتاب خلق الكون والتطور والساعة والبعث، وهذه الكتب مفروضة على الإنسان
حتماً، وليست له القدرة على عدم الخضوع لها. وأطلق على هذا النوع في المصحف
مصطلح “القدر”. ويتوجب على الإنسان أن يكتشف هذه القوانين ويتعلمها
ليستفيد من معرفته لها.
وبما أن محمداً صلى الله عليه
وسلم هو رسول الله، وهو نبي، فهذا الكتاب يحتوي على رسالته ونبوته.
فالرسالة هي مجموعة التعليمات التي يجب على الإنسان التقيد بها “عبادات،
معاملات، أخلاق” “الحلال والحرام” وهي مناط التكليف.
والنبوة من “نبأ” هي مجموعة المواضيع التي تحتوي على المعلومات الكونية والتاريخية “الحق والباطل”.
وعليه فالكتاب يحوي كتابين رئيسيين:
الكتاب الأول: كتاب النبوة: ويشتمل على بيان حقيقة الوجود الموضوعي، ويفرق بين الحق والباطل أي الحقيقة والوهم.
الكتاب الثاني: كتاب الرسالة: ويشتمل على قواعد السلوك الإنساني الواعي، ويفرق بين الحلال والحرام.
وقد أوضح في سورة آل عمران أن الكتاب ينقسم إلى موضوعين رئيسيين “كتابين” {هو
الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما
الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا وما يذكر إلا أولو الألباب} (آل عمران 7).
1 – الكتاب المحكم أي مجموعة الآيات المحكمات، وقد أعطاها تعريفاً خاصاً بها هو أم الكتاب. {منه آيات محكمات هن أم الكتاب}
وبما أن الكتاب هو مصطلح فقد عرف بمجموعة الآيات المحكمات، حيث أن هذا
المصطلح جديد على العرب، فالعرب تعرف أم الرأس: “ضربه على أم رأسه” ولكنها
لا تعرف أم الكتاب، لذا فقد عرفه لهم، ولمصطلح “أم الكتاب” معنى واحد أينما
ورد في الكتاب، أي لا يمكن أن يكون لهذا المصطلح معنى حقيقي وآخر مجازي،
بل معناه الوحيد هو ما عرف به، وهو مجموعة الآيات المحكمات. والآيات
المحكمات هن مجموعة الأحكام التي جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والتي
تحتوي على قواعد السلوك الإنساني “الحلال والحرام” أي العبادات والمعاملات
والأخلاق والتي تشكل رسالته.
2 – وإذا فرزنا مجموعة الآيات
المحكمات على حدة، فما تبقى من آيات الكتاب بعد ذلك هو كتابان أيضاً، وهما:
الكتاب المتشابه، وكتاب آخر لا محكم ولا متشابه. وهذا الكتاب الآخر يستنتج
من قوله تعالى (وأخر متشابهات) حيث لم يقل “والآخر متشابهات” فهذا يعني أن
الآيات غير المحكمات فيها متشابهات وفيها آيات من نوع ثالث لا محكم ولا
متشابهٍ، وقد أعطى لهذه الآيات مصطلحاً خاصاً بها في سورة يونس، وهو “تفصيل
الكتاب” وذلك في قوله: {وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين} (يونس 37). فهذه الآية تدلنا على وجود ثلاثة مواضيع هي:
القرآن.
الذي بين يديه.
تفصيل الكتاب.
وقد أكد أن تفصيل الكتاب موحى أيضاً من الله سبحانه وتعالى في قوله: {وتفصيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين}.
فالكتاب بالمتشابه هو كل آيات
الكتاب ما عدا آيات الأحكام “الرسالة” وما عدا آيات تفصيل الكتاب. وهذا
الكتاب المتشابه هو مجموعة الحقائق التي أعطاها الله إلى النبي صلى الله
عليه وسلم، والتي كانت في معظمها غيبيات أي غائبة عن الوعي الإنساني عند
نزول الكتاب والتي تشكل نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، والتي فرقت بين
“الحق والباطل”.
فإذا أخذنا الكتاب المتشابه “أي آيات المصحف ما عدا الأحكام وتفصيل الكتاب” نرى أنها تتألف من كتابين رئيسيين وردا في قوله تعالى {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87):
الكتاب الأول: سبعاً من المثاني.
الكتاب الثاني: القرآن العظيم.
وميزة هذه الآيات أنها إخبارية
ولا يوجد فيها أوامر ونواهٍ، ولكن كلها آيات خبرية “أنباء”. فمثلاً بعد سرد
جزء من قصة نوح في سورة هود قال تعالى (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما
كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين) (هود 49)
لاحظ قوله “أنباء” وقوله “غيب”. ولاحظ حين سرد قصة آدم قوله تعالى (قل هو
نبأ عظيم * أنتم عنه معرضون} (ص67-68) وقوله {ولتعلمن نبأه بعد حين} (ص 88).
أما مصطلح “الذي بين يديه” فيقصد به الرسالة وسنشرح ذلك فيما يلي:
بينا أن الآيات المتشابهات هن
آيات المصحف ما عدا آيات أم الكتاب “الرسالة” وآيات تفصيل الكتاب. ويعني
ذلك أنه تبقى مجموعة الآيات المتشابهات، فما اسم هذه الآيات؟
1 – لنرجع إلى قوله تعالى في أول سورة الحجر {الر تلك آيات الكتاب وقرآنٍ مبين} (الحجر 1).
2 – ولنرجع إلى قوله تعالى في أول سورة الرعد {المر تلك آيات الكتاب والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون} (الرعد 1).
3 – ولنرجع إلى قوله تعالى في أول سورة البقرة {ذلك الكتاب لا ريب فيه هدىً للمتقين} (البقرة 2).
4 – ولنرجع إلى قوله تعالى في سورة البقرة 158 {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبينات من الهدى والفرقان).
هنا نلاحظ كيف عطف القرآن على الكتاب، وفي اللسان العربي لا تعطف إلا المتغايرات، أو الخاص على العام. فهنا لدينا احتمالان:
أ - أن القرآن شيء والكتاب شيء
آخر، وعطفهما للتغاير كأن نقول جاء أحمد وسعيد. حيث أن سعيداً شخص وأحمد
شخص آخر. وعطفهما للتغاير. فإذا كان القرآن شيئاً والكتاب شيئاً آخر
فتجانسهما أنهما من عند الله. ولكن لماذا عطف القرآن على الكتاب في أول
سورة الحجر؟ السبب في ذلك هو الآية 87 في هذه السور حيث ذكر فيها السبع
المثاني في قوله {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} فها هنا واضح تماماً أن القرآن شيء والسبع من المثاني شيء آخر، وهي ليست من القرآن ولكنها من الكتاب.
ب – أن يكون القرآن جزءاً من
الكتاب، وعطفهما من باب عطف الخاص على العام. وفي هذه الحالة يكفي عطف
الخاص على العام للتأكيد وللفت انتباه السامع إلى أهمية الخاص.
فأي الاحتمالين هو المقصود؟!
- نلاحظ أنه عندما ذكر الكتاب قال: {هدى للمتقين} لأن في الكتاب أحكام العبادات والمعاملات والأخلاق، أي فيه التقوى بالإضافة إلى القرآن.
وعندما ذكر القرآن قال: {هدى للناس} ولفظة الناس تشمل المتقين وغير المتقين، فالمتقون من الناس ولكن ليس كل الناس من المتقين.
وهذا وحده يوجب أن نميز بين الكتاب والقرآن.
- ونلاحظ أنه في سورة الرعد عطف
الحق على الكتاب، فهذا يعني أن الحق شيء والكتاب شيء آخر. أو أن الحق هو
جزء من الكتاب وليس كل الكتاب.
- والجواب القاطع على هذا السؤال أعطي في سورة فاطر {والذي أوحينا إليك من الكتاب هو الحق مصدقاً لما بين يديه إن الله بعباده لخبير بصير}
(فاطر 31). هنا أعطى الجواب القاطع بأن الحق هو جزء من الكتاب وليس كل
الكتاب، وأن الحق جاء معرفاً أي أن الحقيقة الموضوعية بأكملها غير منقوصة
“الحقيقة المطلقة” موجودة في الكتاب ولكن ليست كل الكتاب، حيث أنه في
الكتاب توجد الآيات المحكمات “آيات الرسالة” وهي ليست حقاً. والآيات
المتشابهات “آيات النبوة” وآيات تفصيل الكتاب.
ثم أعطى للحق وظيفة ثانية، وهي تصديق الذي بين يديه. فلماذا جاء القرآن كله متشابهاً؟ وما معنى تصديق الذي بين يديه؟؟
هذا السؤال هو من أخطر الأسئلة
التي لا يمكن بدون فهمها فهم نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يمكن فهم
الإعجاز مطلقاً، ولا يمكن فهم كثير من الأحاديث النبوية إن صحت.
إن الله مطلق ومعلوماته مطلقة،
وعند الله توجد الحقيقة الموضوعية بشكل مطلق، والله سبحانه وتعالى ليس
بحاجة إلى أن يعلم نفسه أو يهدي نفسه. وبما أن الناس في فهمهم للحقيقة
يحملون طابع النسبية، أي أنهم لا يفهمون إلا حسب الأرضية المعرفية “مستوى
المعرفة” الموجودة عندهم، فقد أخذ الله تعالى ذلك بالحسبان لدى إعطاء الناس
ما يشاء من علمه.
لنضرب الآن مثالاً على ذلك: إذا
رغب إنسان من كبار علماء الإلكترونيات وعمره خمسون عاماً في أن يعطي
المعلومات المتوفرة عنده لابنه الذي يبلغ من العمر ثلاثة أعوام، فهناك
أمامه طريقتان لا ثالثة لهما للقيام بذلك:
الطريقة الأولى:
أن يعطيه المعلومات بالتدريج
حسب السن وحسب الخبرة المكتسبة، فيعطيه جزءاً بحيث يستطيع استيعابه، ثم
يعطيه جزءاً آخر.. وهكذا دواليك حتى يعطيه المعلومات كاملة، ولكن هذه
الطريقة تتطلب اتصالاً مباشراً دائماً بين الأب وابنه، أي أن الجسر الذي
ينقل المعلومات بين الأب وابنه هو الاتصال المباشر والدائم بحيث تزيد
المعلومات مع نمو الطفل.
الطريقة الثانية:
أن يعطي الأب العالم مجموعة
كاملة من المعلومات الموجودة عنده لابنه وهو في عمر ثلاث سنوات دفعة واحدة،
وبدون أن يكون هناك أي اتصال بعد ذلك. وهذا يتطلب بالضرورة أن يصوغ
المعلومات بطريقة يفهمهما ابن ثلاث سنوات حسب أرضيته المعرفية. ثم عندما
يكبر وتزيد- معلوماته يقرأ هذه الصياغة مرة أخرى فيراها مطابقة لمعلوماته
النامية.. وهكذا دواليك، أي مع نمو المعرفة عند هذا الإنسان يقرأ النص
الثابت فيرى أنه مطابق لمعلوماته. ولكن هذه الطريقة تتطلب صياغة خاصة يجب
أن يتوفر فيها شرطان: الأول ثبات النص والثاني حركة المحتوى وهذا ما يسمى
بالتشابه وهو عين التشابه. ولله المثل الأعلى.
فلنر الآن بأي طريقة اتصل بالله بالناس لإعطائهم المعلومات: اتصل بالطريقتين: بالاتصال الدائم بالناس وبالاتصال دفعة واحدة.
أما الاتصال الدائم فقد حصل عبر
النبوات قبل محمد صلى الله عليه وسلم كالتوراة والإنجيل. فبعد نزول
التوراة كانت هناك رجعة من الله إلى الناس في الإنجيل. وبعد نزول الإنجيل
كان هناك رجعة من الله إلى الناس في القرآن. ولكن بعد نزول الكتاب لم تكن
هناك رجعة من الله إلى الناس حيث أنه لا نبي ولا رسول بعد محمد صلى الله
عليه وسلم. وهكذا نرى أن هناك طريقتين قد استعملتا في نقل المعلومات. ففي
الطريقة الأولى أي في التوراة والإنجيل تم نقل المعلومات فيهما بشكل يفهمه
الناس حسب أرضيتهم المعرفية. أي أنهما كانا يحملان طابع المرحلية بالشرح،
ولذا فعندما نقرأ التوراة الآن ونقارنها مع معلوماتنا الحالية نراها تنسجم
مع أرضيتنا المعرفية، أي أنها كانت تحمل طابع المرحلية، وأنها نزلت بصيغة
كانت مطابقة لمعارف الناس وقت نزول التوراة. ولم ينتبه المفسرون المسلمون
إلى هذه الناحية الخطيرة، فاعتمدوا قليلاً أو كثيراً على التوراة في تفسير
القرآن وهنا كانت الطامة الكبرى! وفي عصر النهضة في أوروبا قال العلماء: إن
العلم قضى على التفسير التوراتي لخلق الكون والإنسان وعمر الكون والإنسان،
وحسناً فعلوا. ولهذا وصف التوراة والإنجيل بأنهما هدى للناس، ولكن من قبل
القرآن {وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدىً للناس} (آل عمران 3-4).
وينطبق الحال كذلك على الإنجيل.
إذ أن التوراة لا يحملان صفة التشابه في الصيغة. وهكذا نرى التوراة
والإنجيل اليوم كتابين يدرسان فقط في الكنائس للعبادة دون أن يكون لهما
علاقة بالحياة. وهذا ما أراد “مشايخنا” أن يفعلوه بالقرآن وذلك بتحويله إلى
كتاب في اللاهوت.
أما الطريقة الثانية، وهي طريقة
الاتصال دفعة واحدة لا رجعة بعدها فهي الطريقة الإسلامية وهذه لا يمكن أن
تكن إلا بثبات النص وحركة المحتوى وهو التشابه الذي يحتاج إلى التأويل
باستمرار، ولهذا فالقرآن لا بد من أن يكون قابلاً للتأويل، وتأويله يجب أن
يكون متحركاً وفق الأرضية العلمية لأمةٍ ما في عصر ما، على الرغم من ثبات
صيغته.
وفي هذا يكمن إعجاز القرآن
للناس جميعاً دون استثناء. إن إعجاز القرآن ليس فقط بجماله البلاغي كما
يقول بعضهم، وليس معجزاً للعرب وحدهم، وإنما للناس جميعاً. وذلك لأن الناس
كلاً بلسانه “الإنكليزي بالإنكليزية والصيني بالصينية والعربي بالعربية
و..” عاجزون أن يعطوا نصاً متشابهاً، كل في لسانه الخاص بحيث يبقى النص
ثابتاً، ويطابق المحتوى الأرضيات المعرفية المتغيرة والمتطورة للناس مع
تطور الزمن إلى أن تقوم الساعة.
إن مثل هذا لا يمكن أن يفعله
إلا من يعلم الحقيقة المطلقة وهذا لا يتوفر للناس لأن معرفتهم وعلمهم
نسبيان. لذا لا يمكن تأويل القرآن كاملاً من قبل واحد فقط إلا الله. أما
الراسخون في العلم فيؤولونه حسب أرضيتهم المعرفية في كل زمان، وكل واحد
منهم حسب اختصاصه الضيق.
من هنا نفهم الحقيقة بالكبيرة
وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤول القرآن، وأن القرآن كان أمانةً
تلقاها وأداها للناس دون تأويل، وإنما أعطاهم مفاتيح عامة للفهم.
أما مقولة: “إن النبي صلى الله عليه وسلم كان قادراً على أن يؤول القرآن” فنقول:
1 – إما أن يكون تأويله صحيحاً
بالنسبة لمعاصريه فقط، أي التأويل الأول فيكون بذلك قد تسبب في تجميد
التأويل، وتجميد حركة العلم والمعرفة، وإلزام الناس بكلامه، ثم تتقدم
المعرفة الإنسانية مع الزمن وتظهر العلوم فتبدأ تأويلاته قاصرة، ويكون بذلك
قد قصم ظهر الإسلام بنفسه.
2 – وإما أن يكون تأويله صحيحاً
بالنسبة لجميع العصور أن النبي كان يستطيع أن يؤول كل آيات القرآن التأويل
الصحيح في جميع الأزمان فيكون بهذا قد تسبب بما يلي:
أ – لا يوجد أحد من العرب الذين عاصروه قادر على فهم التأويل.
ب – لو أن النبي صلى الله عليه
وسلم كان قادراً على التأويل الكامل لكل القرآن لكان ذلك يعني أن النبي صلى
الله عليه وسلم كامل المعرفة، ومعرفته بالحقيقة معرفة مطلقة فيصبح شريكاً
لله في علمه المطلق.
ج – يفقد القرآن إعجازه.
وفي ضوء هذا يجب أن نفهم ما يلي:
قالت العرب في حجة الوداع للنبي
صلى الله عليه وسلم: “نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت” “أخرجه مسلم في
صحيحه، انظر جامع الأصول ج3 ص465″ فأما الرسالة فقد بلغها ووضع منهجاً لها
في السنة، والرسالة كما بينا أعلاه هي أم الكتاب، وأما الأمانة فقد أداها
كما أوحيت إليه وهي النبوة التي تشتمل على القرآن والسبع المثاني وتفصيل
الكتاب. وبذا نفهم لماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم الحديثين التاليين
إن صحا: (ألا إني أوتيت هذا الكتاب ومثله معه) (انظر جامع الأصول في أحاديث
الرسول ج1 ص281) و(أوتيت القرآن ومثله معه)، لقد ظن الكثيرون أن هذين
الحديثين بمعنى واحد، ولهذا في نظرنا تفسير آخر: فعندما قال عن الكتاب:
ومثله معه قد عنى السنة وعندما قال: القرآن ومثله معه فإنه عنى شيئاً آخر
متجانساً مع القرآن أي مثله وهو مجموعة من الحقائق العلمية تساوي القرآن في
قيمتها العلمية لذا جاء القرآن معطوفاً عليها وهي “سبع من المثاني” حيث
عطف القرآن العظيم عليها في قوله {ولقد آتيناك سبعاً من المثاني والقرآن العظيم} (الحجر 87).
ما هو الذكر؟
لنرجع إلى قوله تعالى:
{إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} (الحجر 9).
{وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون} (الحجر 6).
{ص والقرآن ذي الذكر} (ص 1).
فإذا أخذنا لفظة الذكر في
الآيتين 6-9 في سورة الحجر لوجدنا أنها جاءت معرفة بـ “ال التعريف” وإذا
نظرنا إلى لفظة الذكر في الآية رقم 1 في سورة ص لوجدناها أيضاً معرفة بال
التعريف. وإذا نظرنا أيضاً إلى الربط بين القرآن والذكر في سورة ص
لوجدناهما مربوطين بأداة “ذي” وهذه الأداة تستعمل للدلالة على صفة الشيء،
لا على الشيء نفسه كقوله تعالى {وفرعون ذي الأوتاد} (الفجر 10) وقوله {ويسألونك عن ذي القرنين} (الكهف 83) ففرعون شيء والأوتاد شيء آخر، والآية تعني أن فرعون صاحب الأوتاد، وكقوله {أن كان ذا مال وبنين} (القلم 14) أي صاحب مال. فالقرآن هنا هو الموصوف والذكر هو الصفة {والقرآن ذي الذكر} أي القرآن صاحب الذكر. فما هي هذه الصفة الخاصة بالقرآن والتي تسمى “الذكر”؟
إن القرآن مجموعة القوانين الموضوعية الناظمة للوجود ولظواهر الطبيعة والأحداث الإنسانية، وأساسه غير لغوي ثم جعل لغوياً لقوله {إنا جعلناه قرآناً عربياً}
(الزخرف 3). وانتقال القرآن إلى صيغة لغوية إنسانية بلسان عربي تم بصيغة
منطوقة لذا فهو يتلى بصيغة صوتية منطوقة مسموعة أو غي مسموعة أو غير
مسموعة. وهذه هي الصيغة التي أشهر بها القرآن وبها يذكر بين الناس كما جاء
في قوله تعالى {ورفعنا لك ذكرك} (الانشراح 4) وقوله {اذكرني عند ربك} (يوسف 42).
فالذكر هو تحول القرآن إلى صيغة
لغوية إنسانية منطوقة بلسان عربي، وهذه هي الصيغة التي يذكر بها القرآن.
وبما أن هذه الصيغة عربية فقد قال للعرب: {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون}
(الأنبياء 10) أي صيغته اللغوية الصوتية في اللسان العربي المبين لذا قال:
(فيه ذكركم) وهنا جاء أكبر عز للعروبة والقومية العربية. أما بقية الكتاب
فقد تلازم الإنزال والتنزيل فيها بدون “جعل” وكان الإنزال عربياً مباشراً.
وبما أن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجنس فهو ليس عربياً ولا تركياً ولا..
ولكن قد جاء النص من الله سبحانه وتعالى أن الإنزال عربي.
فهذه الصيغة للكتاب التي بين أيدينا وهي صيغة عربية هي صيغة محدثة بلسان إنساني وغير قديمة وذلك ليذكر بها القرآن من الناس لذا قال: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون}
(الأنبياء 2) لاحظ هنا دقة التعبير في الكتاب عندما قال عن الذكر إنه محدث
ولم يقل القرآن، ولا ننسى أن الذكر ليس القرآن نفسه، بل هو أحد صفات
القرآن {ص والقرآن ذي الذكر} (ص 1).
وهذا الفهم يحل المعضلة الكبرى التي نشأت بين المعتزلة وخصومهم حول خلق
القرآن. فإذا عرفنا الآن أن الذكر ليس القرآن نفسه، وإنما هو أحد خواصه وهو
صيغته اللسانية حصراً يزول الالتباس. لذا فقد وضع الكتاب شرطاً لفهم آياته
بقوله: {وما أرسلنا قبلك إلا رجالاً نوحي
إليهم فسئلوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) (الأنبياء 7) هنا يجب أن نفهم
أن أهل الذكر هم أهل اللسان العربي.
هذه الصيغة المحدثة هي التي
أخذت الصيغة التعبدية، فعندما يتلو الإنسان الكتاب “بصيغته اللسانية
الصوتية”، بغض النظر عن فهم المضمون، تكون تلاوته عبادة تساوي الناس فيها
جميعا عرباً أو غير عرب. فإذا وقف في الصلاة مسلمان “عربي وغير عربي”
وكلاهما تلا الذكر بغض النظر عن فهم المضمون فصلاتهما مقبولة، لذا قال {وأقم الصلاة لذكري}
(طه 14) وعندما قال الفقهاء: إن الصلاة لا تجوز إلا باللسان العربي فهذا
صحيح لأن المطلوب في الصلاة التلاوة الصوتية الكتاب لا فهم الكتاب. لذا قيل
عن القرآن: إنه المتعبد بتلاوته، فالقرآن يتلى {وأن أتلوا القرآن} (النمل 92).
ومنه يظهر أن التحويل للقرآن “الجعل” إلى صيغة صوتية لغوية عربية قد أخذ الطابع التعبدي، لذا قال عنه {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر} (القمر 17).
إذاً فصيغة القرآن اللغوية هي الصيغة التعبدية. وكذلك عن صيغة أم الكتاب {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة.. الآية}
(فاطر 29) فيصبح الذكر بذلك هو الصيغة اللغوية الصوتية للكتاب كله وهي
الصيغة التعبدية ويغدو من الصحيح أن نقول عندما تتلى آيات الكتاب “تتلى
آيات الذكر الحكيم”. وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم عربي والذكر هو
الصيغة اللغوية للكتاب كله فقد قال: {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم} (النحل 44) في هذه الآية يوجد إنزال للذكر وتنزيل له.
والإنزال هو بيان التنزيل وهذا
البيان “الإنزال هو الصيغة اللغوية بلسان عربي مبين”. وعليه فإن انزال
الذكر هو إنزال الكتاب كله “الحكم والقرآن” بصيغة لغوية عربية {وكذلك أنزلناه حكماً عربياً}
(يوسف 2) مجتمعين من آيات تفصيل الكتاب والتي هي بالضرورة عربية لأنها
تشرح مفردات الكتاب من قرآن وأم الكتاب وتشرح الإنزال والتنزيل. “انظر فصل
الإنزال والتنزيل”.
وفي سورة يس الآية 69 قال: {وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين} هنا نلاحظ كيف عطف القرآن على لفظ “ذكر” أي ذكر = عبادة، قرآن = علم “استقراء ومقارنة”. وقد استعمل التنزيل للذكر في قوله {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون}
(الحجر 9) وذلك لتبيان أن الذكر جاء وحياً مادياً من خارج إدراك محمد صلى
الله عليه وسلم أي أنه صيغ خارج وعي محمد صلى الله عليه وسلم، وأن التنزيل
عملية مادية حصلت خارج إدراك محمد صلى الله عليه وسلم ودخلت إدراكه
بالإنزال.
وعلينا أن ننوه أن فعل “ذكر” له معان أخرى منها التذكر ضد النسيان كقوله تعالى {وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره} (الكهف 63) ومنه جاءت الذاكرة والمذاكرة.
قال تعالى:
{وإذ آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53).
{شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان.. الآية} (البقرة 185).
{وأنزل التوراة والإنجيل * من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان} (آل عمران 3-4).
{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان وضياء وذكراً للمتقين} (الأنبياء 48).
{تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً} (الفرقان 1).
{وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} (الأنفال 41).
جاء لفظ الفرقان في ستة مواضع
في الكتاب، وفي هذه المواضع الستة جاء معرفاً بأل التعريف، إضافة إلى مرة
وحيدة جاء فيها منوناً، وذلك في الآية 29 من سورة الأنفال، فأول ما جاء لفظ
“الفرقان” لموسى عليه السلام وجاء معه الكتاب، أي أن الفرقان جاء إلى موسى
على حدة وجاء الكتاب على حده، ففرقا عن بعضهما.
وهذا الفرقان قال عنه في سورة
آل عمران: إن الفرقان والتوراة والإنجيل أنزلت قبل أن يأتي الكتاب إلى
النبي صلى الله عليه وسلم ثم إن الفرقان الذي أنزل على موسى هو نفسه الذي
أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدىً للناس وبيناتٍ من الهدى والفرقان}
(البقرة 185) وبما أن الفرقان جاء معطوفاً على القرآن يستنتج أن الفرقان
غير القرآن، وهو جزء من أم الكتاب “الرسالة” وأنزل ونزل في رمضان. وهذا
الجزء أول ما أنزل إلى موسى عليه السلام. فما هو الفرقان الذي جاء إلى موسى
على حدة مفروقاً عن الكتاب؟
لو تأملنا الآيات (151-152-153) من سورة الأنعام وهي:
{قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم
ألا تشركوا به شيئاً.
وبالوالدين إحساناً.
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم.
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} (الأنعام 151).
{ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده.
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفساً إلا وسعها.
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى.
ويعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} (الأنعام 152).
{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الأنعام 153).
أقول: لو تأملنا هذه الآيات لم
يكن من الصعوبة أن نستنتج أن نستنتج أنها هي الوصايا العشر. ولنلاحظ الآية
التي تلت هذه الآيات الثلاث وهي الآية 154 الأنعام:
{ثم آتينا موسى الكتاب تماماً على الذي أحسن وتفصيلاً لكل شيء وهدىً ورحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون}.
هنا نلاحظ بشكل جلي كيف أن هذه الوصايا جاءت لموسى مفصولة عن الكتاب، وأن
الكتاب بالنسبة لموسى وعيسى هو التشريع فقط، وليس التوراة والإنجيل، وذلك
واضح تماماً في قوله تعالى عن عيسى: {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} (آل عمران 48).
لنقارن هذه الوصايا العشر والتي أتى بعدها {ثم آتينا موسى الكتاب} (الأنعام 154) وقوله تعالى: {وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان} (البقرة 53) بقوله {من قبل هدىً للناس وأنزل الفرقان} (آل عمران 4). أي أنها أنزلت قبل محمد صلى الله عليه وسلم، وبقوله: {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده.. الآية}
(الفرقان 1)-أي أنها أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم أيضاً.. نستنتج أن
الفرقان هو الوصايا العشر التي جاءت إلى موسى وثبتت إلى عيسى عليهما
السلام ثم جاءت إلى محمد صلى الله عليه وسلم. وهي رأس الأديان السماوية
الثلاثة وسنامها، لأنها القاسم المشترك بين الأديان الثلاثة. وفيها التقوى
الاجتماعية وهي ما يسمى بالأخلاق، وليست العبادات، وهي تحمل الطابع
الإنساني العام.
ولقد أنزلت هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان، وبما أنها من أم الكتاب فإنها أنزلت ونزلت معاً، ولذا قال {تبارك الذي نزل الفرقان على عبده}
(الفرقان 1). ونحن نعلم أن معركة بدر حصلت في رمضان، وأن آيات الفرقان في
سورة الأنعام ليست مكيةً، فهنا أخبرنا أن الفرقان أنزل على رسول الله صلى
الله عليه وسلم في معركة بدر “في رمضان” لذا سمي بيوم الفرقان بقوله {وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان} (الأنفال 41).
لقد ورد في سورة فاتحة الكتاب الآية {اهدنا الصراط المستقيم} (الفاتحة 4) وحدد هذا الصراط في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم} فمن هؤلاء الذين أنعم عليهم وجاءهم الصراط المستقيم لأول مرة؟
إن
الناس الذين أنعم الله عليهم بالصراط المستقيم لأول مرة هم بنو إسرائيل
الذين عاصروا موسى. وقد فضلهم الله على العالمين به وذلك في قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأني فضلتكم على العالمين}
(البقرة 47) هنا يذكر بني إسرائيل بنعمته التي أنعم عليهم بها والتي فضلهم
على العالمين بها، وهذه النعمة وهذا التفضيل هما الصراط المستقيم الذي
أنزل لأول مرة في تاريخ الرسالات إلى موسى عليه السلام وذلك في قوله: {ولقد
مننا على موسى وهارون * ونجيناهما وقومهما من الكرب العظيم * ونصرناهم
فكانوا هم الغالبين * وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط
المستقيم *} (الصافات 114-118). وقد سميت الوصايا الصراط المستقيم
لأنها لا تتغير أبداً، حيث أن الأخلاق مبادئ إنسانية عامة وهي من ثوابت
الدين الإسلامي ولا تحمل طابع التغير مع الزمن والتطور والمرونة “الحنيفية”
مثلها في ذلك مثل العبادات.
وفي الدين الإسلامي الوصايا والحدود والعبادات هي الصراط المستقيم أي التقوى الاجتماعية في الوصايا، والتقوى الفردية في العبادات.
لنلاحظ التسلسل التالي:
{وإذا آتينا موسى الكتاب والفرقان لعلكم تهتدون} (البقرة 53). بعد الوصايا العشر في سورة الأنعام قال: {ثم آتينا موسى الكتاب} وأن الوصية العاشرة هي اتباع الصراط المستقيم {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه … الآية} (الأنعام 152).
- صراط الذين أنعمت عليهم —> يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم
- ولقد مننا على موسى وهارون —> وآتيناهما الكتاب المستبين * وهديناهما الصراط المستقيم.
{ولقد آتينا موسى وهارون الفرقان} (الأنبياء 48).
وهكذا نرى أن الوصايا العشر هي
الفرقان وهي الصراط المستقيم. وكل من اتبع هذا الصراط إلى يوم الدين هو من
الذي أنعم الله عليهم وهو من المهتدين. وكل من تركه فقد ضل، وكل من عاداه
فقد باء بغضب من الله كائناً من كان، لذا أتبعها بقوله {غير المغضوب عليهم ولا الضالين}. وقد سمى الوصايا الحكمة بالنسبة لعيسى عليه السلام حيث قال {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل}
(آل عمران 48). فالكتاب هو الرسالة، والحكمة هي الوصايا، والتوراة هو نبوة
موسى، والإنجيل هو نبوة عيسى، ومجموعهم هو الكتاب المقدس. وللدلالة على أن
الوصايا هي الحكمة ذكر تسعاً من هذه الوصايا في سورة الإسراء من الآية 23
إلى الآية 39 والتي تقول {ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة … الآية}.
فالوصايا العشر بالنسبة لعيسى وللنبي محمد صلى الله عليه وسلم هي جزء من الحكمة حيث ذكر وصايا غيرها في سورة الإسراء، كقوله: {ولا تمش في الأرض مرحاً} (الإسراء 37) ودمجها تحت عنوان الحكمة وكذلك في سورة لقمان بقوله {ولقد آتينا لقمان الحكمة … الآية} (لقمان 12) وبما أن لقمان ليس نبياً ولا رسولاً فقد ذك أن الحكمة “الأخلاق” يمكن أن تأتي لأي شخص في كل زمان ومكان وذلك في قوله: {ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً}
(البقرة 269) أما بالنسبة لموسى فقد جاءته الوصايا العشر “الفرقان” وسميت
باسمها ولم يقل عن موسى إنه أوتي الحكمة التي تعتبر الوصايا العشر الجزء
الأساسي منها وهي من الصراط المستقيم الذي يجب على كل إنسان ومجتمع إنساني
أن يتبعها.
وبما أن الوصية الأولى في
الفرقان هي التوحيد وقد بعث الله الرسل والأنبياء من أجل التوحيد فعندما
ذكر الأنبياء والرسل في سورة الأنعام قال: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة … الآية} (الأنعام 89) قال: {أولئك الذين آتيناهم الكتاب والحكم والنبوة.. الآية} (الأنعام 89) وقوله {ومن آبائهم وذرياتهم وإخوانهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراطٍ مستقيم}
(الأنعام 87) وهنا ذكر عبارة “صراط مستقيم” غير معرفةٍ لأن الصراط لم يأتي
بكامله إليهم جميعاً بل أتى جزء منه إليهم كلهم وهو التوحيد على الأقل أي {ألان تشركوا به شيئاً} (الأنعام 151) وإلى شعيب جاء التوحيد “الوصية الأولى” والوفاء بالكيل والميزان “الوصية السابعة”.
وللفرقان نوعان، الأول: الفرقان
العام وهو الذي جاء إلى موسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم. والثاني:
الفرقان الخاص الذي جاء إلى محمد صلى الله عليه وسلم وحده، وهو الذي ذكر في
سورة الفرقان “انظر فصل الفرقان”.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire