أحمد القبانجي إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
هنالك إشكالية كبير ترد في قصّة محاولة إبراهيم (عليه السلام) ذبح ابنه وتقديمه قرباناً لله تعالى، فبالرغم من أنّ النتيجة انتهت بخير ولم يذبح إبراهيم (عليه السلام) ابنه ووقع الذبح على الكبش (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْح عَظِيم).
إلاّ أنّ السؤال الذي
يثور في الذهن أنّ إبراهيم قد سعى لارتكاب جريمة قتل النفس بريئة بحجّة أنّ الله
أمره بذلك لرؤيا رآها في المنام (قَالَ يَا بُنَىَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ...)، فكيف أقدم هذا النبي العظيم على
قتل طفل بريء وكأنّه لا يعلم بأنّ الله لا يأمر بالفحشاء والمنكر: (إِنَّ اللهَ
يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ
الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْىِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
إننا عندما نطرح هذه الاشكالية الأخلاقية والحقوقية على هذه القصّة لأننا ندرك جيداً أنّ الكثير من حالات الارهاب وقتل الأبرياء التي يرتكبها المتشددون الإسلاميون وجماعات التكفير تستقي مبرراتها من مثل هذه الآيات القرآنية بحجّة أنّ الله أمرنا بقتل المخالفين وحتى الأبرياء من النساء والرجال والأطفال كما أمر الله إبراهيم بذبح ابنه البريء وأمر الخضر بقتل الغلام!!
إننا عندما نطرح هذه الاشكالية الأخلاقية والحقوقية على هذه القصّة لأننا ندرك جيداً أنّ الكثير من حالات الارهاب وقتل الأبرياء التي يرتكبها المتشددون الإسلاميون وجماعات التكفير تستقي مبرراتها من مثل هذه الآيات القرآنية بحجّة أنّ الله أمرنا بقتل المخالفين وحتى الأبرياء من النساء والرجال والأطفال كما أمر الله إبراهيم بذبح ابنه البريء وأمر الخضر بقتل الغلام!!
ولا فرق في أن يصل الأمر الإلهي للإنسان
بطريق مباشر، وهو الوحي، أو بطريق غير مباشر، المهم أنّ هذا الإنسان الملتزم
بتعاليم الدين يتحرك في قتله للأبرياء من منطلقات القناعة واليقين بأنّه سائر في
خط الوحي والطاعة لتعاليم السماء.
ومن هنا نرى ضرورة كشف اللثام عن هذه المسألة ووضعها على مشرحة النقد والتحقيق وعدم الاستسلام لظاهر النص حتى لو كان يستبطن مخالفة للقيم أو يفرض تداعيات خطيرة على الإنسان والمجتمع في حركة الواقع والحياة.
لا يقال: إنّ الأمر الإلهي المذكور كان لمجرّد الامتحان ولم يقصد به الطلب الجدّي على المستوى الممارسة والتطبيق، لأنّ الإشكال ليس هو في وقوع القتل أو عدم وقوعه، بل في إقدام إبراهيم (عليه السلام) على قتل بريء وهو لا يعلم بأنّ هذا الأمر امتحاني، أي كان يعتقد بأنّ الله تعالى يمكن أن يأمر بقتل البريء، وبعبارة أخرى، كان يعتقد بأنّ الله يأمر بالظلم! فهل يصدّق مؤمن ـ فضلاً عن نبي ـ بأنّ الله يأمر بالظلم؟ ألا يخدش هذا التصور في إيمانه بالله وبصفاته الكريمة؟
وللأسف فإنّ المفسّرين وعلماء الإسلام أخذوا من هذه القصّة البعد الإيماني فقط وركزوا على عمق إيمان إبراهيم وحبّه لله واستعداده المطلق للتضحية في سبيله مهما بلغ الثمن غافلين عن ملازمات هذه التضحية وهذا الإيمان.
ومن المناسب استعراض ما ذكره ابن عربي من تفسير معقول لهذه المسألة إلى حدّ ما
ـ حسبما
نقله الدكتور نصر حامد أبو زيد عن الفتوحات المكية
ـ فقد تجاوز هذه الإشكالية
بأنّ قرر بأنّ الخطأ في هذه العملية كان من إبراهيم لا من الله، فالله تعالى لم
يأمره بذبح ابنه بل وقع الأمر الإلهي منذ البداية على ذبح الكبش، إلاّ أنّ إبراهيم تصور أنّ الأمر
تعلق بالابن، لأنّ الكبش ظهر له في المنام على هيئة ابنه ولعل ذلك لشدّة علاقة
الراعي إبراهيم بغنمه بحيث أنّه رآها كولده!!
وطبعاً فإنّ مثل هذه المقولة تتخطى دائرة العصمة للأنبياء وتجيز عليهم وقوع في
الخطأ، إلاّ أنّها مع ذلك تخلصنا من العويصة التي نحن بصدد حلّها وهي كيفية تعلق
الأمر الإلهي بالظلم والجريمة وتحرك إبراهيم في خط ارتكاب جريمة قتل طفل بريء.
ويقول صاحب التفسير الصوفي:
«وولد إبراهيم إشارة إلى ولادة معنوية لإبراهيم، وولادة بعثية جديدة، من قائمة بالله، ويرى بها ما رأى نوح قبل وكان على إبراهيم أن يضحي بنفسه التي لم تعد له، والتي وهبها الله إيّاه على سبيل الاستعارة، فعرض إبراهيم على نفسه ما رآه في منامه أن يذبح ولده، فقالت النفس التي رجعت
إلى ربّها راضية مرضية: إفعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين».
(وربّما كان إبراهيم أشعرياً يؤمن بأنّ الحسن ما حسنه ا لشارع وأمر به والقبيح ما قبحه الشارع ونهى عنه لا أنّ قتل البريء قبيح بحدّ ذاته، فعندما يأمر الشارع بقتل البريء يصبح حسناً ويجب امتثاله!! وهو أيضاً وجه آخر لحلّ هذه الإشكالية).
وهناك وجوه أخرى يطرحها أنصار الحداثة في قراءتهم للنصوص الدينية من خلال علم الألسنيات والهرمنيوطيقا وعلم الكلام الجديد، تقوم على أساس التفسير الرمزي للنص أو التفسير الاسطوري ويقترب من التفسير الصوفي من تأويل لمفردات النص تأويلاً يخرجها عن معناها الظاهري، ونستوحي من هذه الوجوه والاطروحات الجديدة أنّ النص لا يهدف إلى ذكر واقعة تاريخية من موقع الرد التاريخي والإخبار المحض عن وقوع الحادثة، فربّما تكون الواقعة اسطورة متداولة على ألسن الناس فيأتي النص الديني ليوظفها في هداية الأفراد إلى الحق ويستخلص منها العبرة والدرس، وما نحن فيه من هذا القبيل، فربّما كانت قصّة ذبح إبراهيم لولده اسطورة يهودية ذكرها أحبار اليهود في التوراة وتناقلها الأوساط الدينية، وجاء القرآن وطرحها كقصة إيمان راسخ وتوكل عميق من نبي من الأنبياء ليوحي للناس والمسلمين كيف تكون الطاعة المطلقة لله تعالى وكيف تكون التضحية في سبيله في وقت كان النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في أمسّ الحاجة لتعميق الإيمان بالله والطاعة المطلقة له في قلوب أتباعه.
ولا يسعنا المقام لمناقشة مثل هذه الاطروحات واستعراض الأدلة والشواهد التي يذكرها المحدثون ومخالفوهم في هذا الموضوع، فلهذا الحديث وقت آخر، والمقصود هو إثارة بعض الأسئلة وعلامات استفهام حول بعض النصوص القرآنية لئلا يقنع علماء الدين بما يفهمونه من ظاهر النص ويتركون العمل بالآية الشريفة: (أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوب أَقْفَالُهَا).
ويمكن تقرير وجه آخر للمسألة ربّما يكون أكثر معقولية واعتدالاً في تفسير الواقعة وإن كان من جهة أخرى ينزع إلى توكيد البعد البشري لإبراهيم(عليه السلام) وينزع عنه تلك الهالة الملكوتية فوق البشرية، وهو أن يقال إنّ إبراهيم عندما حلّ في بلاد الكنعانيين في فلسطين وعاش معهم فترة من الزمان اطلع عن كثب على معتقداتهم وطقوسهم الدينية ومنها تقديم القربان، والشواهد التاريخية، وعلى أساس ما ذكره بعض علماء الآثار، تقرر أنّ الكنعانيين كانوا أحياناً يقدّمون أطفالهم كقرابين للآلهة، ومن جهة أخرى كان عشق إبراهيم لله تعالى وإيمانه العميق يدعوانه لتقديم أعزّ وأغلى ما لديه لله كاعلان عن هذا الحبّ والولاء وخاصّة بعد ما رزقه الله الولد على كبر سنه، فكان هذا الهاجس يراوده دائماً في تقديم مثل هذا القربان، لأنّه من جهة لا ينبغي له أن يكون أقل حبّاً لله من حبّ المشركين لآلهتهم، ومن جهة أخرى كان يعيش التردد من الاقدام على مثل هذا العمل لمخالفته للقيم الإلهيّة والأخلاقية التي يؤمن بها.
واستمر هذا الحال مدّة من الزمان، والمعروف ـ كما يذكر علماء النفس ـ أنّ النفس الإنسانية قد تواجه بعض الموانع العرفية والدينية في اشباع رغباتها في عالم اليقظة فتقوم بالتنفيس عنها في عالم الرؤيا واشباع تلك الرغبات والميول الممنوعة (كما في مقاربة المحارم في المنام)، وهكذا كان حال إبراهيم(عليه السلام) فقد رأى في المنام ـ وللتنفيس عن تلك الرغبة المكبوتة والخلاص من المعاناة ـ أنّه يقدم ولده قرباناً لله تعالى.
ولكن المسألة لم تنته عند هذا الحدّ، فبعد أن استيقظ إبراهيم وأخذ يفكر فيما رآه من الحلم تصور أنّ الله يأمره بذلك، في حين أنّ الحلم لم يكن يحمل في طياته مثل هذا الأمر الإلهي، وهنا حسم إبراهيم أمره وأخذ الطفل واتجه به إلى ربوة لتقديمه قرباناً لله تعالى.
وغني عن البيان ما كان يعتلج في قلب هذا الأب وهو يقود ولده وفلذة كبده إلى المسلخ من اضطراب عظيم وتجاذبات شديدة حتى رأى أحد الشياه يرعى في تلك المنطقة ـ ولعله كان من أغنامه ـ فقفز إلى ذهنه فجأة طريق الخلاص وأنّ الله هو الذي أرسل إليه هذا الكبش ليذبحه بدلاً من ابنه، فما أن تبادرت إلى ذهنه هذه الفكرة حتى أسرع لتسريح ابنه وأخذ يقود الكبش ليذبحه قرباناً لله... ومن الطبيعي أن يرى كل مؤمن راسخ الإيمان أن كل ظاهرة وحركة في العالم وكل صغيرة وكبيرة فهي من الله تعالى، فعندما يتبادر إلى ذهن إبراهيم أنّ الله قد أرسل له هذا الكبش ليضحي به بدلاً من ابنه، فهذا لا يعني أنّه متوهم في ذلك، وبكلمة أخرى أنّه يمكن تفسير الواقعة تفسيراً طبيعياً ودينياً في ذات الوقت دون أي منافاة بينهما.
والذي يدعونا إلى تمحلّ هذه الآراء والحلول والابتعاد عن الصيغة السائدة في تفسير القصّة حسب ظاهر النص، أنّ مثل هذا التفسير يوقعنا بمحاذير عدّة منها:
1 ـ إنّ الله تعالى ـ وفقاً للتفسير المتداول ـ يأمر بالظلم ويدعو نبيّه إلى ارتكاب جريمة قتل طفل بريء، والتفسير المقترح ينزه الله عن الأمر بالظلم .
2 ـ إنّ إبراهيم إلى درجة من السذاجة وقلّة معرفته بالله وأسمائه الحسنى أنّه كان يعتقد أنّ الله يمكن أن يأمر بقتل بريء، أو أن يأمر بالمنكرات وينهي عن مكارم الأخلاق.
3 ـ التداعيات الخطيرة والآثار المدمّرة لمثل هذه العقيدة وهذا السلوك في طاعة الله، فكل مؤمن يمكنه ويجوز له شرعاً أن يعتدي على نفوس
وحرمات الآخرين وممتلكاتهم وأعراضهم إذا اعتقد جازماً أنّ الله أمره بذلك، وهذا هو ما نراه في سلوك التكفيريين والارهابيين الذين يهلكون الحرث والنسل باسم الدين والجهاد في سبيل الله!!
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire