الإسلام والإيمان – منظومة القيم
توطئة
القسم الأول: الإسلام والإيمان
الإسلام والمسلمون / الإجرام والمجرمون الإيمان والمؤمنون الإحسان والعمل الصالح الكتاب، الفريضة، الوصية، الموعظة أركان الإسلام أركان الإيمان
القسم الثاني: منظومة القيم
الفصل الأول: العباد والعبيد
العبد والعباد والعبادة العبد والعبيد والعبودية الميثاق أين يعبد الله؟
الفصل الثاني: الشهادة والشهيد
تمهيد الشهيد والشهادة الحضورية الشاهد والشهادة المعرفية جدل الشاهد والشهيد الشاهد والشهيد عند المتصوفة والفقهاء
الفصل الثالث: الأبوان والوالدان
التبني واتخاذ الولد النكاح والالقاح الأخ والأخت الزواج وملك اليمين
الفصل الرابع: الذنب والسيئة الذنب والمغفرة السيئة والتكفير الحسنات يذهبن السيئات شرك التجسيد ذنب لا يغتفر
الفصل الخامس: قول في الإسلام والسياسة
القسم الأول: الإسلام والإيمان
ثمة العديد من آيات التنزيل
الحكيم، تجدنا فيها أمام مصطلحات هي: الإسلام / المسلمون، والإيمان /
المؤمنون، والتقوى / المتقون، تقابلها في جانب آخر مصطلحات هي: الإجرام /
المجرمون، والكفار / الكافرون، والشرك / المشركون، ونفتح المعاجم والتفاسير
وكتب الأصول، فتجدنا أمام خلط واضح بين الشرك والكفر والإجرام، وأمام
ثنائية غائمة لا تفرق بين المسلم والمؤمن، والإسلام والإيمان، وتجعل
المسلمين مؤمنين والمؤمنين مسلمين والجميع أتباع محمد (ص)،
1 – الإسلام والمسلمون
نعود إلى التنزيل الحكيم، ونحن متفقون على أنه صادق خال من الحشو، لنقرأ فيه:
- {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات …} الأحزاب 35،
- {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات …} التحريم 5،
- {قالت الأعراب آمناً قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم …} الحجرات 14،
ونفهم من الآيات أمرين، الأول
أن المسلمين والمسلمات شيء والمؤمنين والمؤمنات شيء آخر، والثاني أن
الإسلام يتقدم دائماً على الإيمان ويسبقه،
ونقرأ قوله تعالى:
- الجن – {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً} الجن 14،
- إبراهيم – {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما …} آل عمران 67،
- يعقوب – {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} البقرة 132،
- يوسف – {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} يوسف 101،
- سحرة فرعون – {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين} الأعراف 126،
- فرعون – {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90،
- الحواريون – {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) آل عمران 52،
- نوح – {فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجري إلا على الله، وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن، معه في الفلك …} يونس 72، 73،
- لوط – {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات 35، 36،
ونفهم من الآيات في تسلسلها
أعلاه، أن الجن وإبراهيم ويعقوب والأسباط ويوسف وسحرة فرعون والحواريون
ونوحاً ولوطاً، كانوا من المسلمين، وأن فرعون حين أدركه الغرق نادى بأنه
منهم، وهؤلاء جميعاً لم يكونوا من أتباع محمد (ص)، فالحواريون من أتباع
عيسى (ع) وسحرة فرعون من أبتاع موسى (ع)، ونفهم من هذا كله أن الإسلام شيء
والإيمان شيء آخر، وأن الإسلام متقدم على الإيمان سابق له، وأن المسلمين
ليسوا أتباع محمد (ص) حصراً، ونصل أخيراً إلى السؤال الكبير: إن كانت
الشهادة برسالة محمد (ص)، والشعائر من أركان الإسلام، فكيف يصح إسلام فرعون
وهو لم يلتق إلا بموسى (ع)، وإسلام الحواريين وهم لم يعرفوا سوى المسيح
عيسى بن مريم، وإسلام غيرهم ممن أثبت التنزيل الحكيم إسلامهم فيما ذكرنا من
آيات، وهم جميعاً لم يسمعوا بالرسول الأعظم، ولم يصوموا رمضان، ولم يحجوا
البيت؟
لقد أقامت كتب الأصول والأدبيات
الإسلامية أركاناً للإسلام من عندها، حصرتها في خمس، هي التوحيد والتصديق
برسالة محمد (ص) والشعائر، مستبعدة العمل الصالح والإحسان والأخلاق من هذه
الأركان، فالتقت، دون أن تقصد، بالعلمانيين والماركسيين من أصحاب مشاريع
الحداثة والتجديد، كما أسلفنا، ووقعت دون أن تقصد أيضاً، فيما وقع فيه
اليهود والنصارى!!
يقول تعالى في محكم تنزيله:
- {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة، 111، 112، فاليهود يحصرون الجنة باليهود، وما عداهم في النار، والنصارى يحصرون الجنة بالنصارى وما عداهم في النار، والتنزيل يعتبر ذلك كله أوهاماً منهم لا برهان عليها، ويصحح لهم أوهامهم بصراحة لا لبس فيها، قائلاً أن الجنة يدخلها كل من {أسلم وجهه لله وهو محسن}، وتأتي أركان الإسلام الموضوعة لتقول: لا يقوم إٍلام إلا على التصديق برسالة محمد (ص)، وعلى الصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله، في زعمهم، غيره، ولا يدخل الجنة إلا أصحابه، ونسأل نحن: أليس هذا بالضبط ما قالته اليهود والنصارى، فتصدى لهم سبحانه في التنزيل؟
لقد تم اعتبار الصلاة والزكاة
وصيام رمضان وحج البيع من أركان الإسلام، فإذا ما فتحنا التنزيل الحكيم،
وجدناه يكلف المؤمنين بهذه الشعائر، وليس المسلمين، واقرأ معي قوله تعالى:
- {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} النساء 103،
- {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، إن الله بما تعملون بصير} البقرة 110،
- {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} النور 56،
- {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} البقرة 183،
إلى قوله تعالى:
- {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} البقرة 185،
ونجد أنفسنا أمام سؤال كبير:
لماذا تم استبعاد الجهاد، والقتال، والقصاص، والشورى، والوفاء بالعقود
والعهود، والعديد العديد من الأوامر والتكاليف، من أركان الإسلام، مع أن
حكمها واحد في الآيات كحكم الصلاة والزكاة والصيام والحج؟
ونقرأ قوله تعالى:
- {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم} الأنفال 74،
- {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} الحجرات 15،
- {كتب عليكم القتال وهو كره لكم .. والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة 216،
- {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى …} البقرة 178،
- {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} الشورى 38،
- {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود …} المائدة 1،
- {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} الإٍسراء 34،
- {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده …} الإسراء 34،
- {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم …} الإسراء 35،
- {ولا تقف ما ليس لك به علم …} الإسراء 36،
- {ولا تمش في الأرض مرحاً …} الإسراء 37،
- {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها …} النور 27،
كما نجد أنفسنا، مع أركان
الإسلام المزعومة التي تضم الشعائر فقط، أمام تحريف خطير لما ورد في
التنزيل الحكيم، فالدين عند الله الإسلام، لا يقبل ديناً غيره .. ولكن
الدين الإسلامي عند الله دين الفطرة الإنسانية التي فطر سبحانه الخلق
عليها، بدليل قوله تعالى:
- {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم 30، ولا بد أن تكون أركان هذا الإسلام، بدليل قوله تعالى، فطرية مقبولة، تتماشى بشكل طبيعي مع ميول الخلق، فهل الشعائر (إقامة الصلاة – الصوم – حج البيت – الزكاة) التي افترضوا أنها من أركان الإسلام، فطرية؟ تتجه إليها النفوس والأرواح والعقول مدفوعة بفطرة الخلق؟
لنأخذ الزكاة مثلاً، لنجدها ضد
الفطرة الإنسانية تماماً!! فالزكاة إخراج للمال وإنفاق له، بينما جبل الله
خلقه على كنز المال وحبه، كجزء من أجزاء غريزة حب البقاء، يقول تعالى:
- {وتحبون المال حباً جماً} الفجر 20،
- {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه …} البقرة 177،
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد …} الحديد 20،
- {إن الإنسان خلق هلوعا * إذ مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} المعارج 19-20.
ولننظر إلى الصوم كمثل آخر،
لنجده يتعارض مع الفطرة، ومع غريزة حب البقاء، تعارضاً عمودياً!! فالأصل في
الفطرة أن يأكل المرء حين يجوع، ويشرب حين يعطش، ويطلق للسانه العنان سباً
وشتماً حين يغضب، أما الصوم فهو تهذيب لهذه الوجوه الوحشية البهيمية من
الفطرة، وقمع لهذه الغرائز التي أوجدها الخالق في الخلق لحماية النوع
والحفاظ على البقاء، ثمة مثال ثالث، لم يرد عند واضعي أركان الإسلام، رغم
أنه تكليف أمر الله به المؤمنين، هو القتال، في هذا المثال يوضح سبحانه {كتب عليكم القتال وهو كره لكم …}
البقرة 216، أن القتال كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم، مما
يذكرنا بآية الصوم (البقرة 183) التي تنص على أن الصيام كتب على المؤمنين
كما كتب على الذين من قبلهم، ويذكرنا بأن الصلاة {كتاباً موقوتاً}،
لكن البقرة 216 تزيد فتوضح بما لا يقبل الشك بأن الله يأمر المؤمنين
بالقتال وهو كره لهم، صدق الله العظيم، فالقتال ضد الفطرة، والزكاة ضد
الفطرة، والصيام ضد الفطرة .. وباختصار، الشعائر كلها ضد الفطرة .. ولو
كانت من الفطرة لما أنزلها تعالى في محكم كتابه، وكلف المؤمنين بها
تكليفاً، ولترك الخلق يؤدونها بفطرتهم دون أمر منه، تماماً كما تمتنع
البقرة عن أكل اللحم، بفطرتها التي فطرها الله عليها، لقد اقتصرنا حتى هذه
لسطور، على دحض مزاعم واضعي أركان الإسلام الخمس، وعلى تنبيه القائلين بها
إلى مخالفة ذلك للتنزيل الحكيم .. ولكن هل وضع التنزيل أركاناً للإسلام؟ ..
وما هي؟
ونقرأ قوله تعالى:
- {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة 62،
- {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} فصلت 33،
- {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره …} البقرة 112،
- {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون} الأنبياء 108،
- {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90،
- {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك …} البقرة 128،
- {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن …} النساء 125،
- {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا …} المائدة 44،
ومن هذه الآيات وغيرها كثير،
نفهم أن الإسلام هو التسليم بوجود الله، وباليوم الآخر، فإذا اقترن هذا
التسليم بالإحسان والعمل الصالح، كان صاحبه مسلماً، سواء أكان من أتباع
محمد (الذين آمنوا) أو من أتباع موسى (الذين هادوا) أو من أنصار عيسى
(النصارى) أو من أي ملة أخرى غير هذه الملل الثلاث كالمجوسية والشيفية
والبوذية (الصابئين)، فإذا قرأنا في ضوء ما تقدم قوله تعالى في أول سورة
البقرة: {ألم * ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
نفهم أن الغيب هنا هو الله واليوم والآخر، وأن العمل الصالح والإحسان هو
أركان الإسلام، فإذا فهمنا ذلك كله، رأينا منطقياً وطبيعياً أن يقول سبحانه
إن الدين عنده هو الإسلام، وأنه لا يقبل ديناً غيره، إذ كيف يقبل الخالق
من عباده ديناً هو غير موجود فيه بالأصل، وإذا فهمنا ذلك، ورأينا هذا،
انتبهنا إلى أن التنزيل الحكيم حين يتكل عن الإيمان، وعن الذين آمنوا، فهو
يتحدث عن نوعين من الناس، أو لنقل نوعين من الإيمان، أولهما الإيمان بالله
واليوم الآخر، وهو الإسلام، ثانيهما الإيمان بمحمد (ص) ورسالته، ويدلنا على
ذلك بشكل لا يقبل اللبس ما ورد في التنزيل الحكيم، وما سنعود إليه تفصيلاً
مع القول في الإيمان، رأينا حتى الآن أن التنزيل يضع للإسلام أركاناً
ثلاثة هي:
- الإيمان تسليماً بوجود الله،
- الإيمان تسليماً باليوم الآخر (ولاحظ معي هنا أن التسليم باليوم الآخر يعني ضمناً التسليم بالبعث)، أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر هي المسلمة التي لا تقبل النقاش عند المسلم، وهذه هي تذكرة الدخول إلى الإسلام،
- العمل الصالح والأحسان، (انظر فصل الذنوب والسيئات)،
ونتبين في هذه الأركان الثلاثة
جانبين: جانب نظري بحت هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وجانب منطقي عملي هو
العمل الصالح والإحسان، إذ لا معنى للإيمان النظري دون سلوك عملي ينعكس
فيه ويتجلى من خلاله، ومن هنا نفهم قول الرسول الأعظم إن صح: الخلق عيال
الله، أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله،
- الإجرام والمجرمون
فإذا أردنا تعميق فهمنا للإسلام
والمسلمين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في تعريف المصطلح
المضاد للإسلام وهو الإجرام، والمصطلح المضاد للمسلمين وهو المجرمين في
قوله تعالى:
- {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون} القلم 35، 36،
لقد ورد الأصل “جرم” ومشتقاته
67 مرة في التنزيل الحكيم، وهو أصل واحد في اللسان العربي يعني القطع، ومنه
سميت الأجرام السماوية أجراماً لأنها منفصلة مقطوع بعضها عن بعض، ومنه جاء
قوله تعالى: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون}
النحل 109، أي أن خسارتهم في الآخرة أمر مقطوع مبتوت به، وإذا كان المصطلح
القانوني المتداول اليوم، يسمي السارق والقاتل والغاضب مجرماً، فإن الأصل
في ذلك أن المجرم هو الذي قطع صلته بالمجتمع وقوانينه وانطلق يجري على
هواه، تماماً كالمجرم في التنزيل الحكيم، الذي قطع صلته بالله، فأنكر
وجوده، وكفر باليوم الآخر، وكذب بالبعث والحساب، وهو ما نطلق عليه بمصطلحنا
المعاصر اسم “الملحد”، ونقرأ قوله تعالى:
- {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} القصص 78،
- {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} يس 59،
- {ويوم تقول الساعة يبلس المجرمون} الروم 12،
- {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون} الرحمن 41، 42، 43،
- {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} النمل 69،
- {كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يؤمئذ للمكذبين} المرسلات 18، 19،
ونحن هنا مع الآيات أمام صور
تصف مجرمين ينكرون البعث، ويكفرون بوجود الله، ويكذبون باليوم الآخر، قاموا
من أجداثهم بعد نفخة الصور الثانية، فرأوا رأي العين ما كانوا يكذبون
بوجوده، فبهتوا دهشة، وبأن ذلك على وجوههم، إلى حد لا يحتاجون معه إلى سؤال
وجواب، فهم يؤخذون بدلالة ما ارتسم على وجوههم، ليصلوا النار التي كانوا
بها يكذبون، أما لماذا لا يسأل المجرمون عن ذنوبهم، فسببه واضح تماماً،
أولاً لأن المجرم إنسان ملحد لا يؤمن بوجود الله، وهذا وحده كاف لأن يعطيه
تذكرة مرور إلى جهنم دونما حاجة إلى ميزان أو حساب، إذ ليس له بالأصل أي
حساب مفتوح عند الله بحكم قطعة لصلته به، ثانياً لأن الذنوب مع الله كترك
الصلاة وإفطار رمضان وإخسار الكيل وتطفيف الميزان، ذنوب قابلة للأخذ والرد
والتكفير والمغفرة، لو أن صاحبها آمن مبدئياً بالله واليوم الآخر، أما مع
المجرم فلا حاجة للسؤال عن الذنوب، وقد تحقق الاجرام بالله والتكذيب بيوم
الدين، وقطع الصلة مع الله واليوم الآخر، ومن هنا، من قولنا بقطع الصلة،
نفهم قوله تعالى:
- {إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين} المدثر 39-46،
الصورة هنا لأصحاب اليمين في
الجنة، يسألون المجرمين ماذا أوصلكم إلى النار؟ فيجيب المجرمون: لأننا لم
نعتنق الإسلام نظرياً وعملياً، لم نسلّم بوجود الله فقطعنا صلتنا به {لم نك من المصلين} ولم نسلّم باليوم الآخر {وكنا نكذب بيوم الدين}، ولم نقدم عملاً ينفع الخلق {لم نك نطعم المسكين} بل علمنا ما يسيء ويضر {وكنا نخوض مع الخائضين}،
إلى أن رأينا يقيناً كل ذلك حاضراً، فانتهينا إلى ما ترون، ولقد ذهب بعض
المفسرين إلى أن المصلين في الآية هم مقيمو الصلاة، إلا أننا حين رجعنا إلى
آيات التنزيل الحكيم، لم نجده يطلق اسم المصلين على القائمين بالصلاة هذا
من جهة، من جهة أخرى ترك الصلاة أو الصيام لا علاقة له بالإيمان بالله
واليوم الآخر، ومرتكبوها ليسوا مجرمين، بحيث ينطبق عليهم وصف التنزيل
الحكيم، نقول هذا ونحن نستذكر قوله تعالى: {أرأيت
الذي يكذب بالدين * فذلك الذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين *
فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * ويمنعون
الماعون} سورة الماعون، فالشبه كبير بين سورة المدثر وسورة الماعون،
لأن التكذيب بيوم الدين كالكفر بوجود الله، يخرج الإنسان من دائرة الإسلام
إلى دائرة الإجرام، ولهذا فنحن أميل إلى أن المقصود في السورتين بالمصلين،
هو الصلة وليس الصلوة، وأميل في فهم الآيات على النحو الذي أسلفناه، لأن
لنا في الصلاة (بالألف) والصلوة (بالواو) قولاً نفصله ثم نعود إلى ما كنا
فيه(1)،
ونعود إلى سورة المدثر وإلى قوله تعالى: {قالوا لم نك من المصلين}،
لقد قلنا إننا نميل إلى اعتبار المصلين في الآية من الصلاة الصلة وليس من
الصلوة الركوع والسجود، وذلك بدلالة ما سلف قوله، مضافاً إليه أمرين:
1 – يقول تعالى في سورة المدثر الآية 26: {سأصليه صقر}،
والمقصود هو الوليد ابن المغيرة، الذي أدبر واستكبر حين سمع التنزيل
الحكيم، وقال إنه سحر من قول البشر، والوليد بن المغيرة بحسب المصطلح
القرآني مجرم كافر بوجود الله منكر ليوم القيامة مكذب بالبعث، والله سبحانه
سيصليه سقر لهذا السبب، فحين يسأل أصحاب اليمين المجرمين ما سلككم في سقر
.. فإن الوليد من بين هؤلاء المجرمين الكافرين بوجود الله المكذبين بيوم
الدين!! ونرى من السطحية بمكان أن يجيب الوليد بأن سبب دخوله النار، هو أنه
لم يكن من مقيمي الصلوة .. إذ لا تعد الصلوة بجانب الإجرام شيئاً مذكوراً،
2 – لا خلاف في أن سورة المدثر
وسورة الماعون من السور المكية، بينما نزلت الصلوة في المدينة المنورة،
فكيف يعقل أن يعتبر الوليد نفسه تاركاً لأمر لم يعاصر التكليف به، بل
والأكثر من ذلك، أن يعتبرها أحد أسباب دخوله النار، علماً أن ذلك الوقت لم
يكن الصحابة أنفسهم قد أقاموا الصلوة، إن للمجرمين في التنزيل الحكيم صفات
مميزة يعرفون بها:
1 – فهم لا يخفون أنفسهم {لا يعرف المجرمون بسيماهم …} الرحمن 41،
2 – ويضحكون من المسلمين المؤمنين بالله واليوم الآخر ويستهزئون بهم {إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون} المطففين 29،
3 – وقطعوا كل صلة لهم بالله، بدلالة تسميتهم مجرمين،
4 – ليس لهم وقفة أمام الله في الآخرة، وليس لهم حساب مفتوح عنده، إذ ليس مع الإجرام ذنب {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} القصص 78،
5 – المجرمون المكذبون المستهزئون حصة الله تعالى في الحياة الدنيا، لقوله:
- {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} القلم 44،
- {إنا كفيناك المستهزئين} الحجر 95،
وهذه الصفات التي اختاروها
لأنفسهم، هي التي تدخل بهم إلى أعمق وديان جهنم، وتميزهم عن المسلمين
المؤمنين الذين شاب صلوتهم المكتوبة سهو أو غفلة لسبب أو لآخر، ونختم
مقالنا بقولنا إن الإسلام لا يتم إلا بالصلة بالله (الإيمان بالله واليوم
الآخر) وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له، وبذلك أموت وأنا أول المسلمين} الأنعام 162، 163، نلاحظ في آيتي الأنعام أن الصلاة جاءت من الصلة وجاء في آخر الآية ذكر المسلمين، أما قوله: {وأنا أول المسلمين}
فتعني أن الإسلام الذي بدأ بنوح آل إلي أي انتهى بي وإلا فكيف يكون نوح من
المسلمين وإبراهيم أبا المسلمين ثم يصبح محمد أول المسلمين؟ هنا الأول
بمعنى النهاية والمآل، وهذا ينطبق مع قوله تعالى:
وأنا أول المسلمين ===> اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا،
وأنا أول المسلمين ==> ولكن رسول الله وخاتم النبيين،
كما ورد في سورة المعارج وهي مكية قوله تعالى:
- {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون} المعارج 19-23،
وكذلك قوله تعالى:
- {والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك في جنات مكرمون} المعارج 33-35.
ونلاحظ أن الصلاة جاءت في
الحالتين من الصلة وليس من الصلوة، لأن سورة المعارج من السور المكية،
ونعود لنختم قولنا في الإسلام وأركانه، بوقفه لا بد منها، تبين أسباب
اختلاف ما وصلنا إليه من أركان للإسلام، عما هي عليه في كتب الأصول
والأدبيات الإسلامية التراثية، فلقد انطلقنا منذ كتابنا الأول(2)
، من منطلق إنكار الترادف في اللغة، فإذا كان الكتاب عندنا غير القرآن،
والبعد غير النأي، والذهاب غير المضي، فالأحرى أن يكون الإسلام غير
الإيمان، ورغم أن الناقدين اللغويين-غفر الله لهم- وهموا فيما ذهبنا إليه،
وبالغوا في سحب ما قلناه سحباً فاحشاً على ما لم نقله، وحسبوا أننا حين
ننكر الترادف ونفرق بين الكذب والافك والافتراء، فنحن نقول ضمناً بالتعارض
العمودي بين هذه الألفاظ، وفاتهم أن نفي الترادف يقوم على الفروقات بين
الألفاظ وليس على تعارضها وتضادها، فالجزم والجرم، والجز والحز، والبت
والقط، والبتر والشطر، ألفاظ من خندق واحد، هو القطع، إلا أن بينها فروقات،
إذا جاز لنا أن نغفلها أو نتغافل عنها في صحفنا ومجلاتنا فلا يجوز ذلك
البتة ونحن نتدبر التنزيل الحكيم، وإذا كان غادر وبارح وترك، في مقام واحد
متماثل، وكان أنبأ مثل أخبر، فلماذا نسمي محمداً (ص) نبياً ولا نسميه
مخبراً؟
لكن كتب الأصول كلها ترسخ الترادف وتنطلق منه، فالإمام البخاري يستهل “كتاب الإيمان” في صحيحه بقوله:
1 – باب الإيمان، وقول النبي
صلى الله عليه وسلم (بني الإسلام على خمس)، وتابعه من جعل للإسلام خمسة
أركان، معتمداً على ما ورد في هذا الحديث بالذات (رقم 8 عند البخاري و16
عند مسلم)، تاركاً جملة من أركانه أخرى، وردت في أحاديث أخرى نسوق أمثلة
منها،
- إطعام الطعام خير أعمال الإسلام (رقم 12 البخاري)،
- إفشاء السلام خير أعمال الإسلام (رقم 28 البخاري)،
- النصح من الإسلام (رقم 58 البخاري)،
وليس هذا فقط، بل تم ترك جملة من الأحاديث، تباينت فيها أركان الإسلام فزادت في أحاديث ونقصت في أحاديث، نسوق أمثلة منها:
- بايع جرير بن عبد الله الرسول (ص) على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، (رقم 57 البخاري)،
- الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، (رقم 50 البخاري)،
- دنا رجل يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله (ص): خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، وذكر له الزكاة، (رقم 46 البخاري} (رقم 8 مسلم)،
- قال رسول الله (ص): بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، (رقم 21 مسلم)،
- ثم تابعه من جعل للإيمان خمسة أركان معتمداً على ما ورد في الحديث (رقم 7 مسلم):
- قال رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله، قال: صدقت،
تاركاً جملة من الأحاديث التي زادت في الأركان حيناً وأنقصت منها حيناً آخر، وفي مقدمتها الحديث (رقم 5 مسلم):
- قال رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر،
وليس هذا فقط، بل ترك جملة من أركان الإيمان الأخرى وردت في أحاديث أخرى، نسوق أمثلة منها:
- الإيمان بضع وستون شعبة، (رقم 9 البخاري)،
- حب الرسول من الإيمان، (رقم 14 البخاري)،
- الحياء من الإيمان، (رقم 24 البخاري)،
- الإيمان هو العمل، وأفضل العمل: إيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وحج مبرور، (رقم 26 البخاري) وانظر (رقم 36 البخاري)،
- صوم رمضان من الإيمان، (رقم 38 البخاري)،
- قيام رمضان من الإيمان، (رقم 37 البخاري)،
- الصلاة من الإيمان، (رقم 40 البخاري)،
- اتباع الجنائز من الإيمان، (رقم 47 البخاري)،
- أداء الخمس من الإيمان، (رقم 73 البخاري)،
وانطلقنا في كتابنا المشار
إليه، من منطلق أن التراث البشري الإنساني يبقى تراثاً خاضعاً لما يخضع له
التراث من عاديات التلف والضياع، واحتمال الغلط والسهو والنقص، والتأثر
بالأهواء السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن منطلق أن التنزيل الحكيم ليس
تراثاً، ولا يخضع لما يخضع له التراث، فهو باق ثابت على مدار العصور، يحمل
في داخله ما يجعله صالحاً لكل زمان ومكان، لكن القائلين بتقديس التراث
وأصحاب التراث، يصرون على أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويصرون
على أن ينظروا في قصص الأنبياء والكتب التوراتية ليعرفوا كيف بدأ الخلق،
بدلاً من أن يسيروا في الأرض كما أمرهم التنزيل الحكيم، وانطلقنا من منطلق
أن التنزيل الحكيم هو أساس الأسس، وأصل الأصول، وأنه المحك المعياري الذي
يجب أن تقاس عليه كل النصوص الأخرى، ودعونا إلى إعادة قراءته وتدبره وفهمه،
قراءة معاصرة حديثة بعيدة عن كل قراءة مسبقة، ومرة أخرى وهم ناقدونا،
فحسبوا أننا ندعو إلى نبذ التراث، وإلى رفض السيرة النبوية، وإلى الإقلال
من قدر الأئمة السابقين، ولم يفهموا-غفر الله لهم- أن مجرد دعوتنا إلى
التمسك بالتنزيل وفهمه وإعادة قراءته، تعظيم وتمجيد للرسول الأعظم الذي جاء
به، صلى الله عليه وعلى آله وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
نبدأ القول في الإيمان، فقرأ قوله تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل …} النساء 136،
- {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته …} الحديد 28،
- {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد …} محمد 2،
- {هو الذين أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم …} الفتح 4،
- {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} التوبة 124، 125،
ونلاحظ في الآيات الثلاث الأولى
أن فعل آمنوا يتكرر مرتين في كل آية، فلماذا؟ ما معنى أن يخاطب تعالى
الذين آمنوا، فيأمرهم بأن يؤمنوا بالله ورسوله، إلا إذا كان هؤلاء لم
يؤمنوا بعد برسوله، والكتاب الذي نزل على رسوله؟ وما معنى أن يأمر تعالى
الذين آمنوا بأن يتقوا الله ويؤمنون برسوله .. إلا إذا كان المخاطبون ليسوا
من المتقين، ولم يؤمنوا بعد برسوله؟ وما معنى أن يأمر الذين آمنوا وعملوا
الصالحات أن يؤمنوا بما نزل على محمد .. إلا إذا كمان هؤلاء لم يصدقوا
بالرسالة المحمدية بعد؟
ولا نحتاج مع هذه الآيات إلى
تأمل كثير، لربط دلالاتها مع ما قلناه عن الإسلام والمسلمين، فإذا فهمنا أن
الإسلام هو الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فهمنا أن المقصود
بالذين آمنوا في الآيات الثلاث هم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والعمل
الصالح، وأن الله يطلب منهم أن يؤمنوا برسوله محمد وما نزل على محمد، هنا
يتضح ما قلناه من أن التنزيل إيمانين، ونوعين من المؤمنين، وأن في التنزيل
كفرين مقابلين لهما وردا في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا}
النساء 137، ونفهم أن المسلم قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، أي أن المؤمن
بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، قد يكون مؤمناً بالرسالة المحمدية وقد
لا يكون، لكن لا بد للمؤمن من أن يكون مسلماً أولاً، ونأتي إلى الآيتين
الرابعة والخامسة، لنجد أنهما تتحدثان أيضاً عن إيمانين، وليس عن إيمان
واحد يزيد وينقص كما وهم البعض، حين فهموا من {فزادتهم إيمانا} و {فزادتهم رجسا}
أنها زيادة انصبت في إناء واحد هو الإيمان، ولم يروا بأساً لتدعيم فهمهم
هذا، بالاستشهاد بقول هرقل ملك الروم يرويه ابن عباس (رقم 51 البخاري)، أما
نحن فنرى الإيمان إناءين، لا يحتمل كل منهما بذاته الزيادة أو النقص،
وشاهدنا في ذلك الآية الخامسة، التي تشبه الكفر بالمرض والإيمان بالصحة،
والصحة كالمرض لا تتجزأ ولا تزيد ولا تنقص، ونفهم من الآية الرابعة أن
السكينة هي التنزيل الحكيم، وأن المؤمنين هم المؤمنون بالله واليوم الآخر
والعمل الصالح الذين امتلأ إناؤهم الأول بهذا الإيمان، ثم نزلت هذه السكينة
لتضيف (مع) إنائهم الأول إناء مترعاً آخر بإيمان آخر هو الإيمان بمحمد (ص)
وكتابه، فإذا ما عدنا إلى قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم …} الحجرات 14، وإلى قوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا، قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين}
الحجرات 17، رأينا الربط واضحاً في الآية الأولى بين الإسلام والإيمان،
ورأينا الربط واضحاً في الآية الثانية بين الإسلام كإيمان أولي بالله
واليوم الآخر والعمل الصالح، والإيمان كإيمان ثان بالهدى والحق والرسل
والكتب السماوية، وفي الآية الثانية يمن الأعراب على الرسول الأعظم أن
أسلموا، فيأمره ربه أن يقول لهم: لا تمنوا علي إسلامكم، لماذا؟
لأن الإسلام هو الفطرة، والفطرة
هي الإسلام، فالفطرة التي توحي للنمل أن يدخل مساكنه كيلاً تدوسه الأقدام،
وتوحي للسلاحف أن تحفر على السواحل لتضع بيوضها، هي ذاتها التي توحي
للإنسان أنما إلهه إله واحد، ونقرؤ قوله تعالى:
- {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف 110،
- {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً …} النحل 68،
ولما كانت الفطرة من صنع الله الذي فطر الناس عليها، فلا منة لأحد غيره فيها، وذلك واضح في قوله تعالى:
- {ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى} طه 37، 38،
والفطرة لا تحتاج إلى رسالة
سماوية ولا إلى تعليم، لكن الإيمان من حيث هو شعائر، ومن حيث هو سلوك وعمل،
يحتاج إلى هداية وتعليم، والفضل فيه لله الذي أرسل الرسل بالهدى ونور
الحق، يعلمون الناس الشعائر التي تقرب العباد من ربهم، وهكذا نفهم أيضاً
قوله تعالى عن الذين كفروا بمحمد (ص) بأن الإسلام هو الحد الأدنى المطلوب
من الناس، وذلك في قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين}
الحجر 2، من هنا نرى أن أركان الإيمان لا تتضمن التسليم بوجود الله واليوم
الآخر والعمل الصالح، فتلك أركان الإسلام كما أسلفنا التي يجب أن تتوفر في
الإنسان المتقدم من دائرة الإسلام إلى دائرة الإيمان، يقول تعالى:
- {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن اعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين} الأحقاف 15.
ونرى أن الإنسان يتجه بفطرته
بادئ ذي بدء إلى وجود الله الخالق، فيقوده ذلك إلى الاعتقاد بأن لهذا الكون
المخلوق نهاية، بعد ذلك يبحث عن الطريق إلى الله، للتعرف على ما يريده ربه
منه، فيصدق بكتبه ورسله التي ترسم له هذا الطريق، ويبدأ بتطبيق الوارد
فيها، وعلى هذا تصبح أركان الإيمان بمحمد (ص) ورسالته تقوم على محاور،
نلاحظ أنها توجهت جميعاً في التنزيل الحكيم إلى المؤمنين بالله واليوم
الآخر والعمل الصالح:
- الإيمان بمحمد (ص) وبما أنزل عليه، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد …} محمد 2،
- إقام الصلاة، {إن الصلوة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} النساء 103،
- إيتاء الزكاة، {قد أفلح المؤمنون * .. * والذين هم للزكوة فاعلون} المؤمنون 1، 4،
- صوم رمضان، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام …} البقرة 183،
- حج البيت، {.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا …} آل عمران 97،
- الشورى، {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم …} الشورى 38،
- القتال في سبيل الحرية ورفع الظلم ولا إكراه في الدين، {كتب عليكم القتال وهو كره لكم …} البقرة 216،
بعد هذا كله نخلص إلى أن
الإسلام أعم من الإيمان، فهو دين عام إنساني لكل أهل الأرض، ولهذا سمي
الدين الإسلامي وليس الدين الإيماني، ولهذا أيضاً قال تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} وقال: {ومن يبتغ غير الإٍسلام ديناً فلن يقبل منه}،
أما الإيمان فخاض باتباع محمد (ص)، ولهذا سماهم التنزيل المؤمنين، ولهذا
أيضاً سمي عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ولم يسم أمير المسلمين، وسميت زوجات
الرسول أمهات المؤمنين وليس أمهات المسلمين، ونخلص إلى أن أركان الإسلام
هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (الأخلاق والمعاملات) وأن
أركان الإيمان هي التصديق بالرسل والرسالات والشعائر والشورى والقتال، وأن
الله أخبر رسوله في التنزيل الحكيم بأن كل أهل الأرض لن يكونوا مؤمنين أي
من أتباعه، ولا يجوز إكراههم على ذلك بقوله تعالى: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} يونس 99، ومن هنا نفهم الآية التي زعموا أنها تحوي أركان الإيمان وهي قوله تعالى: {آمن
الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله وملائكته وكتبه
ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا وإليك
المصير} البقرة 285، هنا نلاحظ قوله المؤمنون جاءت بعد الرسول، وبما أن أتباع محمد (ص) هم المؤمنون قال: {والمؤمنون كل آمن …} وبما أن أركان الإيمان تكاليف ضد الفطرة جاءت الآية التي تليها تقول {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها …} البقرة 286، وننتقل بعد أن تبين أمامنا الفرق بين الإسلام والإيمان، لإزالة التناقض بين قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}، وقوله تعالى: واتقوا الله ما استطعتم، يقول تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران 102،
- {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم …} التغابن 16،
- {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها …} البقرة 286،
ونفهم أن تكليف، ونفهم أن
التكليف يتناسب مع الوسع والاستطاعة ولكن بما أن الاستطاعات تتفاوت من
إنسان لآخر، فستأتي التقوى متفاوتة من إنسان إلى آخر، وهذا يتعارض مع الآية
الأولى التي تأمر الذين آمنوا بأن يتقوا الله حق تقاته، أي بغض النظر عن
الوسع والاستطاعة .. فما المخرج هنا؟
والحل ببساطة يكمن في نهاية
الآية الأولى وفي أولها، فهي تبدأ الخطاب موجهاً إلى الذين آمنوا، ولما كنا
قد أسلفنا بوجود إيمانين في التنزيل، فأيهما المقصود هنا؟
وتأتي نهاية الآية لتوضيح أن
المقصود هم المؤمنون بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، أي المسلمون، أما
الآية الثانية فموجهة إلى المؤمنين بمحمد (ص) ورسالته بما فيها من تكاليف،
إن المطلوب في تعاليم الإسلام أن تطبق حق تطبيقها كاملة:
أ- فليس هناك إيمان بوجود الله ما استطعنا،
ب- وليس هناك إيمان نبذل فيه كل جهدنا بأن الساعة آتية،
جـ- وليس هناك اجتناب لشهادة
الزور وللغش في المواصفات على قدر الاستطاعة والوسع، كأن يأتينا من يقول
إنه بذل جهده بألا يزني فلم يستطع، أو أنه حاول وسعه بألا يقتل فلم يقدر،
فنقول له نحن أحسنت، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها،
من هنا نفهم أننا في القانون الفطري الأخلاقي (أركان الإسلام)، نتقي الله حق تقاته، ولهذا ختم تعالى الآية بقوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، أما في أركان الإيمان، فنتقي الله ما استطعنا {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}، لاحظ الآية قبلها كيف ذكرت (المؤمنون) {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون}، فالمريض يعفى من الصوم لأنه لا يستطيعه، والحج مربوط أساساً بالاستطاعة {من استطاع إليه سبيلا}،
والقتال يسقط عمن لا يستطيعه، والزكاة تسقط عمن لا مال لديه، والشورى تطبق
بحسب الإمكانيات والتطور التاريخي الموجود إذ ليس ثمة شورى مطلقة، إنما
هناك شورى الإيمان بما مطلق والقتال من أجلها نسبي تاريخي، لأن أركان
الإيمان تكاليف غير فطرية، لذا فهي تؤدي حسب الاستطاعة والوسع(3)،
نعود إلى ثالث أركان الإسلام،
العمل الصالح، الذي أغفلته كتب الأصول، وأدبيات التراث، فلا هو عندها في
أركان الإسلام، ولا هو عندها في أركان الإيمان ونبدأ بقوله تعالى:
- {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} الشورى 13.
ونفهم أن الدين هنا هو دين
الإسلام، المعتمد عند الله، والذي لا يقبل ديناً غيره، وهو دين غيره، وهو
دين الهدى ودين الحق ودين القيمة، الموحى إلى محمد (ص)، والذي بدأ بنوح
وتراكم وتطور حتى آل إليه (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ونفهم أن هذا
الدين هو الدين الذي وصى الله به نوحاً، وإبراهيم وموسى وعيسى، وطلب منهم
إقامته، ونفهم أن ثمة وصية أو وصايا مشتركة، ابتدأت من نوح وإبراهيم وموسى
وعيسى وحتى محمد وأخذت صيغة التراكم والتطور التاريخي، بدلالة قوله في مطلع
الآية (شرع لكم) فما هي هذه الوصايا؟
لقد شرحت في كتابي(4)
هذه الوصايا، وأطلقت عليها اسم الفرقان (الأخلاق)، وأشرت إلى تراكمها حتى
أصبحت عشر وصايا من نوح إلى موسى وسميتها الفرقان العام، وهي أسس الإسلام،
ثم أشرت إلى ما زاد عليها في رسالة محمد (ص) وسميتها الفرقان الخاص، لعل
البعض بعد أن يقرأ كتابنا هذا، يميل إلى تسميتها بالفرقان الإسلامي
الإيماني، ونوجز ما كتبناه فيما يلي، مستهلين بقوله تعالى:
- {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} الأنعام 151،
- {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} الأنعام 152،
- {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام 153،
1- التوحيد لا إله إلا الله: وهو أهم ركن من أركان الإسلام، لأن الإنسان قد يؤمن بالله وباليوم الآخر، ومع ذلك يقع في الشرك {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف 106، وهذا الركن الذي يبدأ بنوح، هو الذي وصى به إبراهيم بنيه ووصى به يعقوب بنيه في قوله تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون}
البقرة 132، والكفر بهذا الركن ذنب لا يغتفر، ويجعل من الإنسان مجرماً
كافراً بالله وبالبعث وبالحساب وبالعمل الصالح، والاشراك بالله في هذا
الركن أيضاً ذنب لا يغتفر لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء …}
النساء 48 و116، ونفهم أن كل ذنوب من آمن بالله واليوم الآخر قابلة
للمغفرة إلا الشرك بالألوهية (التجسيد) فغير قابل للمغفرة، وهذا الركن هو
الذي جداً بنوح واشترك فيه جميع الرسل حتى محمد (ص)، وهو الذي لا إكراه
فيه.
2 – وبالوالدين إحسانا: وهو القانون الأخلاقي الفطري رقم (1)، الذي وصى الله به نوحاً في قوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمناً …} نوح 28، ثم زاد عليه في الرسالة المحمدية بند التبني(5) بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} لقمان 14، {ووصينا
الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله
ثلاثون شهراً، حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن اشكر
نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي،
إني تبت إليك وإني من المسلمين} الأحقاف 15، {وقضى
ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما
أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما} الإسراء 23، ونلاحظ أن الخطاب في لقمان والأحقاف، موجه للإنسان عموماً، بفطرته الإنسانية.
3 – ولا تقتلوا أولادكم من
إملاق نحن نرزقكم وإياها: وهو القانون الأخلاقي الفطري رقم (2)، وهو قتل
الأولاد لأسباب اقتصادية، وقد كرر هذه الوصية كفرقان إيماني أخلاقي خاص
بمحمد (ص) في الإسراء 31 بقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأً كبيراً}
ونرى الفرق واضحاً بين الفرقانين العام والخاص، وبين مكارم الأخلاق قبل
الرسول الأعظم وبعده، فالنهي عن قتل الأولاد جاء في حالة الضائقة فعلاً: {من إملاق}،
ثم جاء النهي شاملاً حتى حالات العسر والخوف من ضائقة قادمة (خشية إملاق)،
واقتصر تطمين الوالدين أولاً بأن أخذ الله على عاتقه رزق الأولاد، إضافة
إلى رزق الوالدين الأساسي، ثم جاء التطمين فجعل رزق الأولاد هو الأساس، وأن
الله سيرزق الوالدين كرامة للأولاد، وأن قتل الأولاد سيقطع عنهم هذا الرزق
ويعرضهم للوقوع في خطيئة كبيرة، ويجب أن لا نفهم من هذا أن الله يأمر بعدم
تحديد النسل وعدم تنظيم الأسرة، لأن الله لم يشترط على الناس عدد الأولاد
حتى يرزقهم، أي لم يربط الرزق بعد الأولاد.
4 – ولا تقربوا الفواحش ما ظهر
منها وما بطن: وهو القانون الأخلاقي رقم (3)، ولعل هذا القانون من أهم ما
يبرز التطور التراكمي في المثل العليا والأخلاق، فقد بدأ بتحريم اللواط عند
لوط، تلاه تحريم الزنا عند موسى، وختمه بتحريم السحاق عند محمد (ص)،
وتطورت عقوبته من الإعدام إلى الجلد، وتغلب الشكل على المضمون في الزنا
والسحاق، وترك الشكل والمضمون مفتوحين في اللواط، ونفهم هنا أن العفة من
المثل العليا والأخلاق، وأن الأصل في فطرة الإنسان العفة، 5 – ولا تقتلوا
النفس التي حرم الله إلا بالحق: وهو القانون الأخلاقي رقم (4)، ولعلنا
نلاحظ أن الفطرة بالأساس تنفر من القتل وتعافه، وهذا سر العقد النفسية التي
يعود بها المحاربون إلى حياتهم اليومية بعد انتهاء الحروب.
6 – ولا تقربوا مال اليتيم إلا
بالتي هي أحسن: وهو القانون الأخلاقي رقم (5)، الذي أضيفت إليه تعليمات
كثيرة في سورة النساء، منها السماح بتعدد الزوجات بغرض رعاية الأيتام.
7 – وأوفوا الكيل والميزان
بالقسط: وهو القانون الأخلاقي رقم (6)، ويهدف إلى التقيد بالمواصفات
والأوزان والأحجام، وزاد عليها تهديد المخالفين لهذه الوصية في قوله تعالى:
{ويل للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} المطففين 1، 2، 3،
8 – وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان
ذا قربى: وهو القانون الأخلاقي رقم (7)، ويعني الشهادة الصادقة، ولقد جاءت
الرسالة المحمدية في سورة النساء بخير منها في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين …} النساء 135،: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط …} المائدة 8.
9 – وبعهد الله أوفوا: وهو القانون الأخلاقي رقم (8)، ويعني عدم الحنث بالعهود والإيمان (المواثيق)،: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} الرعد 20.
10 – وأن هذا صراطي مستقيماً
فاتبعوه ولا تتبعوا السبل: وهو القانون الأخلاقي رقم (9)، ويعني الأخذ بما
سبق كوحدة واحدة غير منقوصة، والاشتراك مع باقي الناس يداً واحدة في
أتباعها، لأنها قوانين فطرية تحكم أساس التعامل بين أهل الأرض بغض النظر عن
دينهم أو مذهبهم وأن الكبائر هي مخالفة هذه الوصايا، ولمزيد من التفصيل
حول مفهوم (عهد الله) والعهود والإيمان، انظر بحث العباد والعبيد في هذا
الكتاب، هذه الوصايا / القوانين الأخلاقية / الفرقان العام التي كانت منزلة
قبل محمد (ص) وجاء برسالته ليكملها، فما هي المثل العليا والفرقان الخاص
الذي جاء به خاتم الرسل، ليتم بها الدين والإيمان والعمل الصالح؟
ونفتح التنزيل الحكيم، لنجد
العشرات من هذه المثل والقوانين مبثوثة في الآيات، ترسم للإنسان صراط لله
المستقيم، وفي مقدمتها إفشاء السلام، واللين في القول، على أن نفهم أن
السلام هنا، هو من السلم وترك الحرب وليس التحية كما تذهب الأدبيات
الإسلامية، يقول تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب …} الحجرات 11.
- {يا أيها الذين آموا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضهم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه …} الحجرات 12.
ومن الواضح أن التنزيل يطلب من
المؤمنين أتباع محمد (ص) أن يلتزموا بهذه القوانين الأخلاقية الفطرية،
بدليل أنه يأتي بتشبيه فطري لمن يرتكب ذلك فكأنه يأكل لحم أخيه ميتاً، وهذا
ما تنفر منه النفس الإنسانية بطبعها وبفطرتها الأولى، وانظر إلى أمثال ذلك
وهو كثير في قوله تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي …} الحجرات 2،
- {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام …} البقرة 188،
- {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها …} البقرة 189،
- {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى …} البقرة 264،
- {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه …} البقرة 282،
- {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود …} المائدة 1،
- {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها …} النور 27،
- {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا …} المجادلة 11،
- {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} الصف 2،
- {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولا يقتروا وكان بين ذلك قواما} الفرقان 67،
ونلاحظ أن لهذه المثل العليا والقوانين الأخلاقية المواصفات التالية:
1 – تمثل الوازع الذاتي للإنسان (الضمير) ويتم الالتزام بها من خلال التربية،
2 – هي قيم ذاتية ليس لها وجود
خارج الوعي الإنساني، يمكن خرقها بسهولة لأنها ضعيفة بذاتها، لذا يجب
تحويلها إلى قيم اجتماعية راسخة، بحيث يتعرض مخالفها أو مرتكبها لنبذ
المجتمع واحتقاره،
3 – لا تحتاج إلى بينات في
الدعوة إليها، لكونها فطرية تقبل بذاتها ولذاتها، فالصدق والأمانة فضيلة،
والغش والكذب رذيلة دونما حاجة لبينات.
4 – لا تخضع للتصويت، ولا تخضع
للرأي والرأي الآخر، بمعنى أنه لا يجوز لي اعتناق الكذب وعقوق الوالدين،
لمجرد أن الآخر يرى القول بالصدق وبر الوالدين، ولا ننسى أبداً أن العمل
على ترسيخ هذه القيم وتعميقها لا يعني البتة نفي نقيضها من الوجود،
فالإسلام دين واقعي لا مكان فيه للوهم الطوباوي، ربط الخير والشر في هذا
الوجود بظاهرة الموت في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا ترجعون} الأنبياء 35، بمعنى أن مثل الطامع بإلغاء الشر كمثل الذي يطمع بإلغاء قانون الموت وهذا محال.
5 – هي قيم تحمل الطابع الكوني
الشمولي، تكمن حنيفتها في طريقة التعبير عنها لا في محتواها، وتخضع
للإضافات تحت باب الحكمة التي لا تحتاج إلى وحي، ولا تنقطع على ألسن
الحكماء، فهي محصلة خبرات الشعوب المتراكمة على مدى مسيرة التاريخ، إذ أن
التاريخ أكبر حكيم واعظ يمثل خبرات الشعوب.
هكذا نخلص إلى تلخيص ما فعلته الأدبيات الإسلامية بالثقافة العربية الإسلامية وبالفكر الإسلامي اليوم:
حين ربطت مفهوم الدين والتدين
بشعائر الإيمان باعتبارها من أركان الإسلام بعيداً عن المعيار الأخلاقي
الذي ينطبق على معظم سكان الأرض، فأصبح الحكم على دين الإنسان يتم بدلالة
صلاته وصيامه، مهما كان شكل تعامله مع الناس اقتصادياً واجتماعياً.
وحين خلطت الحلال والحرام (وهو
شرع إلهي) بالمسموح والممنوع (وهو قانون وضعي) بالمعروف والمنكر (وهو أعراف
وتقاليد اجتماعية) بالحسن والقبيح (وهو ذوق فردي)، حتى صار وجه المرأة
حراماً .. وصوتها حراماً .. والموسيقى والنحت والتصوير حراماً .. والتثاؤب
بفم فاغر حراماً لأنه يدخل الشيطان .. وقص الأظافر في الليل حراماً ..
وحين ألفت العديد من المجلدات
في فقه الشعائر التي سمتها عبادات، ثم اختصرتها، ثم شرحت مختصرها، ثم أوجزت
شرح المختصر، مع أن شعائر الإيمان بمجموعها من الوضوء إلى الصلاة والزكاة
والصيام والحج سهلة بسيطة، جاءت إلى العالم والجاهل والكبير والصغير، بينما
لم يحظ الجانب الأخلاقي بمثل هذا الحيز والتفصيل، فأخذ الوجه الشعائري من
الدين: (أركان الإيمان) الأولوية المطلقة على الوجه الأخلاقي (أركان
الإسلام)، حتى انعكس ذلك في التربية المنزلية التي هي الأساس في تنشئة
الطفل، فأصبح إفطار يوم من رمضان، أكبر كثيراً من الكذب.
لقد أوردنا في كتابنا المشار إليه سطوراً عن الأخلاق، رأينا من المفيد أن نختم بها بحثنا هذا:
الأخلاق: هي قانون روحي اجتماعي
يربط أفراد بني الإنسان بعضهم إلى بعض لكونهم مجموعة إنسانية لا حيوانية،
بغض النظر عن البنية الاقتصادية للمجتمع الإنساني، لذا تحمل الأخلاق الصفة
العالمية الشمولية، وبما أن الأخلاق تأخذ الطابع الشمولي الكوني “كونية
الأخلاق”، فقد جاءت وحياً من الله تعالى، أما الأعراف فقد ذكرها الله في
الكتاب دون أن يفصلها لأنها متغيرة، وقد جاءت الأخلاق الاجتماعية في
الوصايا “الفرقان” من زمن موسى وإلى عيسى وإلى محمد (ص) وهي ما زالت سارية
المفعول إلى يومنا هذا عند شعوب الأرض بغض النظر عن بنيتها الاقتصادية
وبيئتها وأعرافها، لذا فإن الأخلاق هي القاسم المشترك في العلاقة بين
الإنسان وأخيه الإنسان ولها صفة التأثير في السلوك الإنساني حيث أنها تؤثر
في شكل الأعراف.
هذا ما يجب أن يعرفه الإنسان
العربي المسلم عن البنية الأخلاقية للمجتمع الذي يعيش فيه حيث أن التزامه
الاجتماعي تجاه مجتمعه خاصة وتجاه الإنسانية عامة هو التزام أخلاقي قبل أن
يكون التزاماً قانونياً.
هناك من يخلط عن عمد أو غير عمد
بين الأخلاق وبين الأعراف، حيث يقول إن الأخلاق هي بنية فوقية لبنية تحتية
هي العلاقات الاقتصادية، فالأخلاق “الوصايا” التي جاءت بها الأديان
الثلاثة هي بنية لعلاقات اقتصادية خاصة، وعندما تتغير هذه البنية تتغير
الأخلاق، هذا الكلام لم نجن منه إلا خيبة الأمل لأن هذا الصرح ينتج عنه أن
يتحلل الإنسان من الوصايا.
فالسؤال الذي يطرح نفسه: أين
البديل؟ البديل هو نبذ الأخلاق والوصايا فينتج عن ذلك إباحة قتل النفس
وعقوق الوالدين والإخلال بالمواصفات وشهادة الزور وانتشار الفاحشة، حيث أن
هذه الأحداث والوقائع بينت أن هذا البديل الذي يؤدي إلى أن يقع المجتمع في
أزمة أخلاقية تعصف به وتحطمه، وعليه يتوجب على العربي المسلم أن يعلم أن
الالتزام بالوصايا هو التزام أخلاقي إنساني لا علاقة له البتة بالنظام
الاقتصادي والبيئة لأنه لا بديل لهذه الوصايا، لذا أعطاها الله سبحانه
وتعالى هذه الأهمية ووضعها تحت عنوان خاص هو “الفرقان” وجاءت في سورتين من
السور المكية سورة الأنعام وسورة الإسراء، وأضاف إليهما تعليمات أخلاقية
جاءت إلى محمد (ص) ولم تأت إلى رسول قبله، حيث أضاف لها تشريعات جديدة،
وعدل تشريعات قديمة، أي أن هناك دين واحد جاء لأهل الأرض هو الإسلام، بدأ
بنوح وتراكم وتطور إلى محمد (ص)، وفي هذا المفهوم يوجد في الإسلام (نوح –
محمد) ناسخ ومنسوخ، أما القول بأن الإسلام بدأ بمحمد وختم بمحمد (ص)، فهو
عندنا ليس بشيء، وأنه بالرسالة المحمدية بالذات لا يوجد ناسخ ومنسوخ، وكذلك
في أية رسالة جاءت إلى رسل قبله، أي أن الناسخ والمنسوخ يأتي على سلم
الرسالات المتعاقبة كلها.
(1) لقد رأينا أن من الضروري توضيح معنى الصلاة، جرياً وراء التوفيق ورفع اللبس بين قوله تعالى في سورة الماعون {فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون} واعتبار هذا القول موجهاً للمتقاعس عن أداء الصلاة بأوقاتها، كما ترى كتب التفسير، وبين قوله تعالى في سورة المرسلات: {ويل يؤمئذ للمكذبين * … * كذلك نفعل بالمجرمين}،
واللبس يتلخص في أن الله سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصلاة بالويل
(وهو واد سحيق من وديان دهنم)، ويتوعد به في ذات الوقت المجرمين المكذبين،
ومن المستحيل أن يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء
الشعائر، والمكذب المجرم الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر،
وهو الذي يقول في محكم تنزيله:
- {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون} القلم 35، 36،
والحل
في رأينا، يكمن في مفهوم الصلاة ذاتها، فقد وردت الصلاة في التنزيل الحكيم
بمعنيين محددين يختلف أحدهما عن الآخر في الشكل، ويلتقي معه في المضمون،
فالصلاة في الحالتين صلة بين العبد وربه أساسها الدعاء، ولكن هذه الصلة
أخذت منذ إبراهيم شكلين هما:
1
– صلة بين العبد وربه قالبها الدعاء، لا تحتاج إلى إقامة وطقوس، يؤديها كل
إنسان له بالله صلة على طريقته الخاصة، (وقد وردت في التنزيل الحكيم
“الصلاة” بالألف)،
2
– صلة بين العبد وربه، لها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع
والسجود والقراءة، وتحتاج إلى إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها، (وقد
وردت في التنزيل الحكيم “الصلوة” بالواو)، وهي من شعائر الإيمان.
فإذا أردنا أن نفرق بين كل من هذين المعنيين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في قوله تعالى:
- {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والإبصار} النور 37، هنا الصلوة: (بالواو)،
وفي قوله تعالى:
- {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون} النور 41، هنا الصلاة: (بالألف).
ونلاحظ
أن الصلوة وردت في الآية الأولى بالواو، وبعد فعل الإقامة، ونفهم هنا أنها
بمعنى القيام والركوع والسجود، أما في الآية الثانية، فقد وردت الصلاة
بالألف (صلاته)، والحديث فيها عن الطيور، ولما كنا نعلم أن الطيور لا تقيم
الصلوة الطقسية المحددة بالركوع والسجود والقيام والقعود، فإننا نفهم أنها
هنا بمعنى الصلة مع الله، وهي صلة تسبيح ودعاء يعلمها الطير ولا نعلمها
نحن، لولا أن أخبرنا تعالى بها وبوجودها.
نخلص
إلى أن التنزيل الحكيم قد ميز في النطق سماعاً من جبريل وفي الخط كتابة
بعد التدوين، بين الصلوة والصلاة، ليدلنا على وجوب تمييز المعنى المقصود من
الأولى وأنها القيام والقعود والركوع والسجود، والمعنى المقصود من الثانية
وأنها صلة تسبيح ودعاء تنبع من إقرار بوجود صلة بين العبد وربه، فإذا
وقفنا أمام قوله تعالى:
- {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب 56.
وفهمنا
أن فعل “يصلون” وفعل “صلوا” هو من الصلوة، يصير معنى الآية أن الله
وملائكته يقومون ويقعدون ويركعون ويسجدون على النبي، سبحانه وتعالى علواً
كبيراً، وأن على الذين آمنوا أن يركعوا ويسجدوا أيضاً على النبي، ولكن
الفعلين في الآية من الصلاة، أي الصلة، فيصبح معنى الآية أن هناك صلة بين
الله وملائكته من جهة، وبين النبي من جهة ثانية، وأن الله يطلب من المؤمنين
أن يقيموا صلة بينهم وبين النبي، قال بعضهم إنها الدعاء، وأنا أرى أنها
أكثر من ذلك، ففي أذان الصلوة ذكر لله والرسول، وفي القعود الأوسط والأخير
ذكر للنبي ولإبراهيم، ذكر النبي لأنه أبو المؤمنين، وذكر إبراهيم لأنه أبو
المسلمين.
وأرى
أن الله وملائكته يصلون على النبي، والمطلوب منا نحن أن نصلي عليه ونسلم،
ومن هنا فإن من الخطأ الفاحش أن نقول “اللهم صل وسلم على محمد” أو أن نقول
“صلى الله عليه وسلم” لأن الله يصلي على النبي ولا يسلم، والمطلوب منا نحن
أن نصلي ونسلم، فالقاسم المشترك بين الله وملائكته من جهة، والمؤمنين من
جهة أخرى هو الصلاة على النبي، إلا أن ثمة خصوصية للمؤمنين فقط هي التسليم،
ولهذا قال: {وسلموا تسليما} ولم
يقل (وسلموا سلاما)، أي أن علينا نحن المؤمنين أن نسلم بوجود هذه الصلة
بين الله وملائكته والنبي، وبيننا نحن وبين النبي فالتسليم هو الإذعان
والقبول بلا قيد ولا شرط، كما في قوله تعالى:
- {يا أيها الذين آموا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما} الأحزاب 41، 42، 43.
الله وملائكته هنا يصلون على المؤمنين .. فهي ليست صلوة، بل صلة وصلاة عمودها الهدى وقائمها الرحمة، ونتابع قوله تعالى:
- {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب 56،
الله
وملائكته هنا يصلون على النبي، باعتبار النبي من المؤمنين الذين خاطبتهم
الآية 43، ثم يأتي أمر الله للذين آمنوا أن يصلوا هم أيضاً عليه ويسلموا
تسليما، ويقف المؤمنون حائرين .. لأن صلاة الله وملائكته على النبي هدى
ورحمة، وهم لا يملكون للنبي هدى ولا يملكون له رحمة .. فكيف يصلون عليه؟ ..
وتنزل الآيتان بعدها مباشرة:
- {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوه فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا} الأحزاب 57، 58،
هنا
اتضحت الصورة وتلاشت الحيرة وانكشف اللبس، فالله وملائكته يصلون على
المؤمنين رحمة وهدى، ويصلون على النبي باعتباره من المؤمنين أيضاً رحمة
وهدى، وهذا كله منسوباً إلى الله ومن زاويته، أما من زاوية المؤمنين، فهم
مأمورون بالصلاة على النبي، لكن النبي بالنسبة إليهم رسول، وإذا ما أمرت
الآية 58 بكف الأذى مطلقاً وبكل أنواعه عن المؤمنين والمؤمنات والنبي من
بينهم، فإن الآية 57 تشير إلى أن إيذاءه كرسول أبلغ أثراً، وأشد عند الله
عقاباً، فالذي يؤذي الرسول يطرد من الرحمة (التي وردت في الآية 43) في
الدنيا والآخرة، ويتعرض لما أعده الله له من عذاب مهين.
أما
ما تورده كتب الأخبار من أن بعض الصحابة سأل رسول الله (ص) حين نزلت
الآية، وتوهم أن المؤمنين مأمورون بصلوة الركوع والسجود على النبي، فليس
عندنا بشيء.
لقد
ورد الأصل (صلو) ومشتقاته في التنزيل الحكيم 99 مرة، جاء لفظ (الصلوة)
بالواو في 67 موضعاً منها، ونلاحظ في هذه المواضع أن الصلاة ارتبطت
بالإقامة حيناً وبالزكاة حيناً أو دل سياق الآية بمعناها العام أن المقصود
هو القيام والقعود والركوع والسجود، وليس الصلة، واقرأ معي قوله تعالى:
- {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون} البقرة 3،
- {وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلوة والزكاة ما دمت حيا} مريم 31،
- {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون} المائدة 91،
أما حين تأتي مضافة فنجدها حيناً بالواو وحيناً بالألف،
- {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلوتك سكن لهم، والله سميع عليم} التوبة 103،
- {قل ادعوا الله وادعوا الرحمن، أيا ما تدعون فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} الإسراء 110،
لكنها في الحالتين لا تخرج عما ذكرنا، فالصلوة في التوبة، والصلاة في الإسراء هي الصلة بالدعاء، كما هو واضح،
وكما
أن فعل الصلاة والصلوة واحد، صلى / يصلي / صل / يصلون، فكذلك الجمع منهما
واحد، فالصلوات جمع الصلاة بمعنى الصلة، والصلوات جمع الصلوة بمعنى الركوع
والسجود، يقول تعالى:
- {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون} البقرة 157،
- {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول …} التوبة 99،
وهي هنا جمع الصلاة بمعنى الصلة،
- {حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين} البقرة 238،
وهي
هنا جمع الصلوة وهي الركوع والسجود، ومن المفيد أن نشير استطراداً إلى أن
المقصود بالصلوة الوسطى في الآية، هي الصلوة المعتدلة الخاشعة المطمئنة
التي تكاملت أركانها بلا إفراط ولا تفريط، وليست صلوة العصر كما يحلو لبعض
المفسرين أن يزعموا، فإذا سأل سائل عن قوله تعالى:
- {قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا …} هود 87،
- {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق، إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء} إبراهيم 39، 40،
وهذا
يعني أن الصلوة بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها كانت معروفة منذ إبراهيم
.. فأين ضاعت هذه الصلوة ولم تصل إلى عهد النبي (ص)؟ نقول، لقد جاء جواب
ذلك في صورة مريم بقوله تعالى:
- {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا، إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا} مريم 58، 59،
ونفهم
هنا ان صلوة الركوع والسجود التي كانت عند إبراهيم وإسماعيل وشعيب وعيسى
وزكريا قد ضاعت عند الخلف من بعدهم، لكن صلاة الصلة بالله بقيت موجودة ولم
تنقطع، بدليل قوله تعالى عن مشركي العرب:
- {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله …} لقمان 25،
فالمشركون
يعرفون أن الخالق هو الله، وعلى هذا فقد سماهم التنزيل مشركين ولم يسمهم
مجرمين، واعتبروا عبادتهم للأصنام نوعاً من الصلة مع الله في زعمهم، لقوله
تعالى:
- {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى …} الزمر 3 ،
(2) “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة”، دار الأهالي، دمشق 1990،
(3)
لعل من المفيد أن نشير إلى أمر قد يقف قارئ التنزيل الحكيم عنده، يخص
الاستطاعة، هو هذه التاء التي نجدها أحياناً في فعل استطاع، ولا نجدها
أحياناً أخرى في فعل استطاع.
إذا
نظرنا في كتب تدريس اللغة العربية لأطفالنا في المرحلة الابتدائية
والإعدادية والثانوية، وجدناها تتحدث عن أحرف زائدة، فهناك (من) زائدة، و
(لا) زائدة، و(ما) زائدة و(باء) زائدة، ووجدناها تطلب من الطالب في بحثه عن
الكلمة بالمعاجم أن يجردها أولاً من أحرف الزيادة، وإذا نظرنا في المعاجم،
رأيناها تقول مثلاً: استطاع الشيء واسطاعه: أطاقه وقدر عليه وأمكنه، أي
أنها تعطي الفعلين معنى واحداً إلا أن علماء فقه اللغة قالوا بأن الألف
والسين والتاء تعني الطلب (طلب الشيء)، ويفتح الطالب التنزيل الحكيم ليقرأ
.. وهو يحمل في رأسه سلفاً قاعدة تقول إن ثمة حروفاً زائدة في العربية، لا
يتغير معنى الكلمة بوجودها أو نحذفها، وأن استطاع واسطاع فعلان، لهما دلالة
واحدة .. فلا يستطيع أن يتصور كيف يكون التنزيل الحكيم خالياً من الحشوية،
وفيه هذه الحروف الزائدة!!
يقول تعالى:
- {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا} الكهف 97،
- {وما فعلته عن أمري، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} الكهف 82،
- {قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} الكهف 75،
فما
هو حكم التاء هنا؟ وإذا كانت ثمة حروف زائدة في علم التقعيد، فهال هي
زائدة في علم الدلالة وعلم المعاني؟ وهل هناك فرق بين اسطاعوا واستطاعوا،
وبين تسطع وتستطيع، في الآيات الثلاث، يمكننا أن نقول معه: صدق الله وكذبت
المعاجم؟ فإذا عرفنا الفرق أيقنا بعد أن نتبينه أن التنزيل خال من الحشو
فعلاً وحقاً؟
ونعود
إلى الآية الأولى، لنرى أن قوم ذي القرنين، بعد أن بنى لهم السد، لم
يتمكنوا من اعتلاء ظهره (بظهروه)، ولم يقدروا على خرقه: (نقبا)، وننظر في
الفرق بين عملية اعتلاء ظهر جبل أو سد وعملية نقبه وخرقه، فنجد أن القدرة
التي يجب بذلها في النقب أكثر كثيراً من تلك التي تبذل في التسلق، فالتسلق
على ظهر جبل هملايا مثلاً أهون كثيراً من حفر نفق فيه لنقبه من طرف إلى
طرف، ونفهم أن التاء في استطاعوا، إنما جاءت للدلالة على الجهد والطاقة
المبذولة في هذا الفعل، التي هي أكثر من الطاقة المبذولة في فعل اسطاعوا،
بهذا الفهم، وعلى هذا الأساس نعود لنقرأ الحوار بين موسى والعبد الصالح،
كما ورد في سورة الكهف، يقابل موسى العبد الصالح عند الصخرة، ويطلب مرافقته
ليتعلم، فيجيب العبد الصالح: إنك لن تستطيع معي صبرا، أي مهما بذلت من جهد
وعناء، فلن تقدر على احتمال مرافقتي، ثم يمضي الاثنان .. وبعد أن يخرق
العبد الصالح السفينة ويقتل الغلام ويقيم الجدار .. وموسى يحتج في كل مرة،
يحسم العبد الصالح الصحبة قائلاً: {هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}،
أي بتفسير ما لم تقدر على احتماله رغم ما بذلت من جهد، ويمضي العبد الصالح
في تبيين أسباب خرق السفينة وقتل الغلام وإقامة الجدار، وأن ما فعله كان
بأمر الله، ثم يختم حديثه مودعاً: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}!! فما الذي حدث؟
لقد
قرر العبد الصالح في الآية 78، أن موسى لم يستطع الصبر رغم كل ما بذله من
جهد في مغالبة نفسه، بدليل ثبوت التاء في الفعل .. ثم عاد في الآية 82
ليقول إنه لم يبذل أي جهد، أو على الأقل بذل جهداً متواضعاً، في توطين نفسه
على الصبر، بدليل حذف التاء من الفعل، وكأن ثمة تعارضاً في القولين، ونحن
نقول ليس ثمة أي تعارض أو تضاد، فموسى بذل كل ما بوسعه فعلاً وحقاً في
الصبر على ما يرى من أفعال العبد الصالح قبل أن يعرف تأويلها، أما بعد أن
عرف، فقد بدا وكأنه كان متسرعاً بالاحتجاج، ولو أنه بذل مزيداً من الجهد في
الصبر، لجاءه التأويل، والأمر كما نراه أشبه بمتسابق معصوب العينين، طلب
منه السير في ممر لا يعرف طوله، ينتهي بجائزة قيمة، فيبذل المتسابق ما
بوسعه وهو يمشي ويبحث ثم يسقط إعياء، ليكتشف بعد أن يرفع العصابة عن عينيه
أنه على بعد خطوة واحدة من النهاية والجائزة فيصيح آسفاً: لو أنني بذلت من
الجهد شعرة إضافية لفزت!! ولكن السؤال الأبدي الخالد يبقى قائماً: كان بوسع
وباستطاعة وبمقدور هذا المتسابق أن يخطو خطوته الأخيرة، وهو لا يعرف أنها
الأخيرة؟
نستعرض
الآن بعض الأمثلة من الأفعال في اللغة، وندخل عليها هذه التاء التي
سميناها تاء الجهد تاء الاستطاعة، ونرى إن كانت تؤدي المعنى الذي أشرنا
إليه.
1
– خرج .. تخرج واستخرج، فنحن نقول خرج زيد من الجامعة ونعني غادرها، أما
قولنا تخرج من الجامعة، فهذا يعني أنه درس فيها وأدى الامتحانات ونال
الشهادة، ونقول أخرجت الأرض غلتها، فالجهد في الاخراج عادي، أما حين نقول
استخرجنا المعادن من المنجم، فالجهد المبذول في الاستخراج أكبر لأنه يحتاج
إلى حفارات ومكاسر وأفران ووسائط ومن ذلك قوله تعالى: {وتستخرجون حلية تلبسونها …} فاطر 12، فنحن نحتاج ليضع على اللؤلؤ وعلى الأحجار الكريمة من البحر إلى شباك ومعدات وأجهزة غوص وسفن وقوارب.
2
– عرف .. تعرف، فالمجرمون يعرفون يوم الساعة بسيماهم دون جهد، أو بجهد
قليل، لكن السلطات تتعرف على المجرمين في الدنيا بكثير من الجهد، الذي
تحتاج معه إلى أرشيف وإلى بصمات وإلى مخابر تحليل.
3
– يقول الرسول الأعظم: اختلاف أمتي رحمة، صدق الله، إذا لم يقل خلاف مني
جمع والفرق بين الخلاف والاختلاف واضح، فالخلاف انفعال عاطفي فوري، يصدر
دون تفكر وبعد أما الاختلاف فهو عدم التقاء في الرأي قائم على الدراسة
والتدبر وتقليب الأمور على كل وجوهها، يتم بعدها تقديم رأي مختلف وليس
بالمخالف، فما أروع وأسمى الاختلاف، وما أسوأ الخلاف.
4 – وكذلك حمل .. تحمل، بعد .. ابتعد، حل .. احتل، ذكر .. تذكر، سل .. استل.
5
– هنا نفهم أن التاء حين تدخل على الفعل، تعني أن جهداً اضافياً بذل فيه،
ومن هنا أيضاً نفهم فعل تجر، فهو بالأساس جر، والجر نقل الشيء من مكان إلى
آخر، فإذا أضفنا إليه التاء دلت على جهد إضافي بذل في الجر، وهذه هي
التجارة والمتاجرة، فالتاجر هو الذي ينقل البضائع من مكان إلى آخر (يجرها)،
ثم يفتح دكاناً، وينظم حملات دعاية، ويستخدم البائعين والكتبة فيه، ويرصد
لذلك كله رؤوس أموال، وكلما زاد الجهد المبذول في التجارة زاد مردودها،
(4) “الكتاب والقرآن / قراءة معاصرة”، ص491-523،
(5) انظر “الفصل الثالث: الوالدان والأبوان”،
الإسلام والإيمان – منظومة القيم محمد شحرور
http://www.shahrour.org/?page_id=749
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire