تتعدّد الإشكالات التي طرحها الدّكتور أحمد صبحي منصور من خلال كلّ
المواضيع التي تناولها في نقاشاته أو كتاباته؛ لكنّها تنتظم في محور رئيس
هو مقاربة الموروث الدِّيني من زاوية قرآنية. لهذا أسَّس التيَّار القرآني،
ودافع عن أطروحاته إلى الحدّ الذي عرّضه للاضطهاد والاعتقال. فمقاربته
للموروث الديني هي تفعيل لقواعد نقد المتن الحديثي أو الرِّوائي الذي
يعتبره المدخل الأساس للإصلاح الديني والثّقافي. لم يقف اهتمام منصور عند
الجانب الرّوائي، بل تعدّاه إلى التّاريخ. فالرّواية جزء منه لا تنفصل عنه،
وضمن هذا الإطار يندرج موضوع الكتاب قيد التقديم.
نُشِر كتاب "جذور الإرهاب في العقيدة الوهّابية" في طبعته الأولى سنة
(1429هـ / 2008 م) عن دار الميزان، بإشراف السيّد والي الزّاملي، وتكوَّن
من 214 صفحة. وقد قسّمه الكاتب إلى ثلاثة فصول رئيسة، إضافة إلى تقديم
واستهلال يشرح فيهما دوافع الاهتمام بهذا النّوع من البحوث والدِّراسات.
فالكثيرون يعتبرونه متمكناً من علوم القرآن والسُّنّة، وخصومه يروْنه من
المهتمِّين بالتّاريخ والحضارة.
كان هذا الإلمام بالتاريخ دافعاً حقيقياً لمحاولة دراسة تاريخ الجماعات
المتطرفة. فكثيراً ما كان يُسأل عن الإخوان المسلمين والتّنظيمات
الإرهابية، فيعتذر بأنّ هذا خارج مجال تخصُّصه، إلى أنْ قرّر خوض هذه
المغامرة بدراسة الجذور التّاريخية والفكرية لبعض هذه التّنظيمات، وعلى
رأسها العقيدة التي تشكِّل موضوع تقديمنا، وهي العقيدة الوهّابية نسبة إلى
محمد بن عبد الوهاب. فليس في الإسلام مقولة الوهّابية التي تقسِّم العالم
إلى معسكرين (دار حرب ودار الإسلام)، والإسلام ليس سوى السّلام في
السُّلوك، وفي العقيدة الاستسلام.
يبتدئ منصور كتابه بلمحة تاريخية عن نَجْد، والصّراع التّاريخي بين نجد
والحجاز، والدّولة السّعوديّة وحركتها الوهّابيّة التي حقَّقت الانتصار على
الحجاز ـ نَجْد منطقة متطرِّفة في مناخها، شحِيحة في مواردها، كان أهلها
يعيشون على قطع الطُّرُق ـ في مسار تاريخي طويل، وصولاً إلى التّحالف الذي
أفضى إلى قيام الدولة السّعوديّة الأولى بين ابن سعود ومحمد بن عبد
الوهّاب، وكان أهم بند في التحالف بينهم كما يقول منصور "الدّم الدّم،
الهدم الهدم". ص37
بدأت الدّولة السّعوديّة الأولى (1818/1745م) بالتّحالف الشّهير ـ كما
أشرنا سابقاً ـ بين محمّد بن سعود ومحمّد بن عبد الوهاب. ولم تكن هذه
الانطلاقة إلاّ واحدة من التّاريخ الدّموي لهذه العقيدة السّياسية في
نشأتها، الدّينية في امتداداتها. أمّا الدولة السّعودية الثانية
(1889/1821م)، فقامت على أنقاض الدولة الأولى، إذ ظنّ الكثيرون أنّ القضاء
على الدولة السعودية الأولى عسكرياً سيُرِيحُهم من هذا المدّ، لكنْ "مواجهة
الدّولة الأيديولوجية لا يتمُّ بمجرد القضاء عليها عسكرياً، إذ لا بدَّ من
مواجهتها فكرياً من داخل الدين نفسه، وهذا ما لم يفعله محمد علي باشا
والدولة العثمانية" ص42. عمَّرَتْ الدولة السعودية الثانية إلى
أنْ تمَّ القضاء عليها بسبب تصارع أمراء آل سعود. وقد ظلّ الوضع على تلك
الحال إلى أنْ تمّ تأسيس الدولة السعوديّة الثالثة من طرف عبد العزيز بن
عبد الرحمن بن فيصل آل سعود بمساعدة إخوان نجد المتطرّفين، والذين اختزل
فكرهم المتطرّف في ثلاثة عناصر أساسية: كراهية الآخر، وتكفيره، واستحلال
دمه وماله. وهذه هي جذور الإرهاب في فكر إخوان نجد.
في الفصل الثاني من الكتاب، يُعمِّق أحمد صبحي منصور تحليله، فيتحدَّث عن
حاجة عبد العزيز مؤسِّس الدولة السعودية الثالثة لضمِّ مصر إلى الوهّابية،
وذلك من خلال رؤية تتمسَّك بالأيديولوجية الوهّابية، والتسلّل من خلالها
إلى مِصْر، لتكون مصر عمْقاً استراتيجياً للسعودية، وتستطيع من خلالها
السيطرة على العالم الإسلامي ص81. هذا التحوّل بدأ لمّا فشلت حركة محمد
عبده الإصلاحية في القيام بدورها الإصلاحي، بعد أن أجهضها تلميذه محمد رشيد
رضا الذي كان عميلاً، بحسب صبحي منصور، للدولة السعودية. أثْمَرَ التّحالف
بين محمد رشيد رضا والملك عبد العزيز في نشر المذهب الوهابي بعد أنْ سيطر
عبد العزيز على الحجاز، وجعل من مناسبة الحجّ منبراً لنشر الدعوة وتجميع
الأنصار، وإعداد الكوادر وإعداد الخطط وتنفيذها. ص85
يعزُو أحمد صبحي منصور نشأة الإخوان المسلمين في مصر، إلى الثنائي حافظ
وهبة ومحمد رشيد رضا؛ فالأول كان وسيطاً وراسماً لسياسات عبد العزيز، ومن
هنا كان لا بدّ من اختراق العمق المصري، عن طريق تحويل التديُّن المصري
الشعبي، من تدين سُنِّي صوفي إلى تديُّن سُنِّي وهّابي، ليكُون العمق
المصري امتداداً لسياسات الدولة السعودية الثالثة. وعن طريق محمد رشيد رضا
تسلَّلَتْ الوهابيّة إلى مصر عبر الطرق التالية:
-الجمعية الشرعيّة: أسَّسَها الشيخ محمود خطاب السبكي
-جمعية أنصار السُنّة: أقامها الشيخ حامد الفقي
-جمعية الشبّان المسلمين: أنشئت بتخطيط من محب الدين الخطيب
-جماعة الإخوان المسلمين: أنشئت من طرف حسن البنا الذي اعترف في مذكراته
"الدعوة والداعية" بعلاقته بحافظ وهبة، والدوائر السياسية السعودية. وبفضل
هذه العلاقة، استطاع البنا أنْ ينشئ خمسين ألف شعبة في العمران المصري من
مصر إلى أسوان، وأنشأ التنظيم الدولي للإخوان عن طريق الفضيل الروتلاني
الجزائري.
إنّ الاستراتيجية التي قام بها عبد العزيز بن سعود، هي استبدال إخوان نجد
المشاكسين، بإخوان مصريين يدينون له بالولاء، ويعملون على نشر الإيديولوجية
الوهابيّة في أكبر عمق عربي وإسلامي يلاصقه. ص96
وعن طريق مصر انتقلت الوهابيّة والنفوذ السعودي إلى شمال إفريقيا والشام
واليمن والهند، معتمدين على حجَّة التخلّص من مظاهر الشِّرك و"القُبورية"
والصّوفية والابتداع في الدِّين. وبذلك، يمكنُ إيجاز ملامح الحركة
الوهابيّة في كلمتين: "حركة ثورية معصومة"، فهي معصومة بمعنى أنّها ترسُم
إطاراً تعاقب بالقتل من يخرج عليه أو يناقشه. وهذا الإطار هو تجليّات الفقه
الحنبلي الذي تنهل منه الدعوة الوهابية، مضافاً إليه تراث ابن تيمية.
إنّ هذا التراث الفكري والعقدي والمذهبي هو ما تبنَّته جماعة الإخوان
المسلمين في مصر، حيث إنّ إنكار فكرة من أفكار الجماعة، أو إنكار شعار من
شعاراتها جزاؤه القتل دُون استتابة. فنفْيُ الآخر غير الإخواني وغير
الوهابي يأتي ضمنياً في تسميتهم بالإخوان المسلمين. وحتى في عملهم السياسي،
فهم معروفون بالتآمر على الخصم والحليف معاً، كما فعلوا مع السعودية نفسها
يوم آوت قياداتهم إثر أحداث 1954 في مصر.
الفصل الثالث من الكتاب، خصّصه منصور لمجموعة من الملاحق. يبتدئها بعلاقة
الإخوان المسلمين بـ"أهل القرآن" التي أسَّس حركتها الكاتب نفسه. فيؤكِّد
في هذا الملحق أنّ الإخوان جزءٌ من الاضطهاد الذي تعرّض له، فهُمْ من
حرّضوا على قتله، وهم من استعْدَواْ النظام ضدّه في العديد من المحطّات.
فما كانوا يقومون به ضدّ جماعة أهل القرآن هو اضطهاد واغتيال معنوي يمهِّد
للتصفية الجسدية.
وفي الملحق الثاني، يتحدّث الكاتب عن التّشابه بين حركة البدوي وحركة
الإخوان المسلمين؛ فالإخوان ليسوا مجرّد تنظيم سياسي، بل هم ثقافة دينية
يجري إعداد المجتمع على مهل للإيمان بها، والتضحية في سبيلها باسم الإسلام.
وبها يتمّ تقسيم المجتمع العربي إلى معسكرين: معسكر الإسلام ومعسكر الكفر،
لتتحوّل الحرب المحليّة إلى حرب عالمية. ص120
في الملحق الثالث، يتحدث الكاتب عن خطأ شائع بين الناس، هو أنّ الإسلام
دين ودولة، والإخوان، والوهابيون من قبلهم، سعوا ويسعون إلى إقامة دولة
دينية على أنقاض أنظمة عسكرية وحزبية لا تقيم شرع الله في الأرض.
إنّ ما أتى به الإسلام هو القضاء على الدّولة الدينية وليس تثبيتها
وإقامتها. لذلك، كانت دولة محمد دولة علمانية ديمقراطية، لا تزال ملامحُها
في القرآن الكريم واضحة. فليس في الإسلام كهنوت أو مؤسسة دينية أو رجل دين.
هذا مع أنّ المسلمين أقاموا كهنوتاً ومؤسسات دينية ودولاً دينية ص: 147.
وبالرغم من أنّ هناك اختلافاً بين علمانية الإسلام وعلمانية الغرب، فكذلك
هناك فوارق كثيرة بين العلمانيات الغربية نفسها، كالعلمانية الشيوعية التي
تنكِر الدين جملة وتفصيلاً، وتعتبر الدين أفيون الشعوب، وبين العلمانية
الرأسمالية المنفتحة على المسيحية. فهذا يبرّر بالضرورة وجود اختلاف بين
علمانية الإسلام وعلمانية الغرب، ما دام الخلاف حاصلاً داخل العلمانيات
الغربية نفسها. فالتحوّل الذي حصل في بنية العلمانية الإسلامية، حدث أيّام
الصحابة بعد وفاة الرسول الكريم، وتأسيس الدولة الأموية التي أرست معالم
الحكم الاستبدادي القبلي.
في الملحق الرابع، يبحث الكاتب في الإخوان والاستبداد والديمقراطية،
ويؤكّد على أنّ التحليل السياسي للحركة الدينية يكون قاصراً حين لا ينفذ
إلى الجذور؛ فالحركات الدينية المنتمية للإسلام كلّها حركات تراثية، ولا
بدّ في بحثها من العودة إلى الجذور العقدية والتاريخية. ص173
في الملحق الخامس، يتحدث الكاتب عن إصلاح الإخوان المسلمين في مصر، فيقول
إنّ الإخوان يعانون من ضغط أمني من طرف الدولة، إضافة إلى عدم اعتراف
أمريكا بهم، مع أنهم يمثِّلون قاعدة شعبية كبيرة. ويقترح علاجاً لأزمة
الإخوان، وذلك بتحوّلها إلى حزب سياسي مدني، يتبنّى النّفَس الديمقراطي
ومبادئ حقوق الإنسان، ويحترم المواثيق الدولية، ولكنْ بمرجعية قرآنية
أصيلة؛ فالمعارضون لحكم الإخوان لهم مخاوف مشروعة، وهواجس لا بدّ أنْ يضعها
الإخوان أو الحركة موضع التساؤل، ليبدِّدوا بها كل هذه المخاوف والهواجس.
في المحلق السادس، يتحدث نجل أحمد صبحي منصور عن الإخوان والأقباط، وهو
الذي يدين لوالده والدكتور سعد الدين إبراهيم، ويتخوّف كوالده ممّا ينتظر
الأقباط في ظلِّ فكر ظلامي حسب تعبيره، يحملُه الإخواني الذي يسعى لتملّك
السلطة وأدوات الحكم. فلا يمكن أنْ تطمئِنَّ لحكم تقُودُه قيادات تُؤمِن
باستحلال الدماء والأموال، وتُكفِّر الخارج عن نسقها، وهذا كلّه مبثوث في
فتاواهم. فعبد الناصر كان يسمِّي السيد سابق "شيخ الدم". إنّ ما يمكن أنْ
يتعرّض له القبطي بوصول الإخواني إلى مقاليد السلطة هو ما يلي:
-عودة المحاكم الشرعية، وإن تنكَّرت بثياب مدنية
-عودة حكم الردّة
-تعرّض معابد ومزارات الأقباط إلى الهدم والإحراق والتفجير
-تعرّض الآثار القبطية والفرعونية إلى الهدم، باعتبارها مظاهر شرك بالله
ويختتم الكتاب بملحق سابع، وهو عبارة عن حوار مع أحمد صبحي منصور أجراه سامح سامي لموقع "الأقباط متحدون".
يُعدّ كتاب جذور الإرهاب في العقيدة الوهابيّة، من الكتب التاريخية
والفكرية التي تبحث في الفكر الوهابي وامتداداته تاريخياً، وتنظر في
تجليّات هذا الفكر على الواقع المعاصر. فلم تكتف العقيدة الوهابيّة
بالمساهمة في تشكيل الدولة السعودية الثالثة فقط، بل تعدَّت ذلك إلى العمق
المصري، من خلال تأسِيس جماعة الإخوان المسلمين. وهذه الأخيرة حسب الكاتب
هي التّجسيد العملي للعقيدة الوهابيّة، من خلال الأُسُس والركائز والبُنى
الفكرية والعقدية. والنّاظر في الواقع يتبيّن له صدق هذا الطرح التاريخي،
والرؤية الفكرية التي انطلق منها الكاتب في التأسيس لنظرته.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire