بيان رأي المعتزلة في مسألة خلق القرآن الكريم
المعتزلة هم أشد خصوم الحنابلة في مسألة خلق القرآن ،
وهم وإنْ قالوا بخلق القرآن ،
ولكنهم لم يبلغ بهم الحد إلى القول بكفر من خالف رأيهم واستباحة دمه كما هو الحال بالنسبة لأحمد بن حنبل وأتباعه ،
واقتصروا على اعتبار الفكرة فكرة خاطئة وغير صحيحة ،
وأنّ الفهم الصحيح للتوحيد يتناقض معها .
ولا بأس بأنْ نعرض بشكل موجز ما ذهب إليه المعتزلة في مسألة خلق القرآن الكريم بالرجوع إلى ما دونه القاضي عبد الجبّار المعتزلي ،
وما كتبه هو أهم ما لدينا من مصنفات المعتزلة في بيان معتقداتهم ، وقد اندثر غالبية تراثهم المدون بهذا الشأنْ .
ولعل من المناسب عرض ما ذهبوا إليه في عدة نقاط :
118 .......................................................... الخلاف في خلق القرآن الكريم
أولاً
: حقيقة الكلام : يذهب المعتزلة إلى أنّ الكلام على وجه الحقيقة ليس له
إلا معنى واحد وهو الحروف المنتظمة الدالة على معنى التي تصدر للتعبير عما
يراد إفهامه .
ووقع الخلاف بين محققيهم في هل أنّ الأولى تعريفه بأنه الحروف والأصوات المنتظمة أو أنه الحروف المنتظمة ،
وقد ذهب القاضي عبد الجبار
إلى أنه عبارة عن الحروف التي تنتظم وإنْ لم تنتظم بالفعل ،
بل
يكفي فيها وجود حيثية الاستعداد للانتظام في نظره ، وأنه لا داعي لتعريفه
بالحروف المنظومة والأصوات المقطعة ، لأنّ الحروف هي نفس الأصوات في الواقع
، فيكون تكراراً ، على أنّ ما يتألف من حرفين أو من حرف لا يكون حروفاً
منظومة .
يقول القاضي عبد الجبار في كتابه المحيط بالتكليف أثناء شرح لحقيقة الكلام : والذي عقلناه في ذلك هو : الحروف التي تنتظم .
إلى
أنْ قال : وهذا الحد أولى وأسلم من قول من قال : هو الحروف المنظومة
والأصوات المقطّعة ، لأنّ في ذلك إخراجاً لما يتألف من حرفين أنْ يكون
كلاماً ، وفيه أيضاً ضرب من التكرار ، فإنّ الأصوات المقطعة هي الحروف لا
غير ... (1)
(1) المحيط بالتكليف ج1 ص 306 ط. المؤسسة المصرية العامة للتأليف والأنباء والنشر – الدار المصرية للتأليف والترجمة / القاهرة .
الإنصاف في مسائل الخلاف ج2 ........................................................ 119
ثانياً
: في معنى كون المتكلم متكلماً : وقد ذهب المعتزلة إلى أنّ المتكلم يكون
متكلماً إذا فعل الكلام ولو لم يكن قائماً به ، فلو فعل الكلام فهو متكلم
وإنْ قام الكلام بغيره ، وليس كل وصف يلزم أنْ يكون قائما في الموصوف ،
فالضارب صفة ولكن قائماً في غير الضارب وإنما في المضروب وإنْ صدر من
الضارب ، وكذا المنعم ، فصفة النعمة صادرة من الباري عز وجل وليست قائمة به
، وهكذا الكلام أيضاً ، وعلى هذا الأساس ذهبوا إلى أنّ الكلام صفة من صفات
الباري عز وجل غير أنه ليس قائماً بذاته عز وجل ، بل يخلقه عز وجل ويجعله
قائماً في مخلوقاته ، يقول القاضي عبد الجبّار المعتزلي : اعلم أنّ المتكلم
عندنا هو فاعل الكلام ، وإنما نعرف أنّ هذه حقيقة بمثل ما نعرف في شيء من
أسماء الفاعلين أنه يُفيد فعلاً من الأفعال ، وهذا نحو الضارب والكاسر
والمنعم وغيرها ، ومعلوم أنّ الطريق الذي به تثبت هذه الأوصاف مفيدة
للفعلية أنك لا تعلم كذلك إلا عند وقوع هذه الأفعال بحسب أحواله ، فإنْ لم
يُعرف ذلك لم يُعرف متكلماً ، ومتى عرفت هكذا عرفت متكلماً ، فجرى مجرى ما
ذكرناه ... (1)
(1) المحيط بالتكليف ج1 ص 309 .
120 .......................................................... الخلاف في خلق القرآن الكريم
ثالثاً
: في معنى الكلام الإلهي : ذهب المعتزلة كما ظهر مما تقدم أنّ الكلام من
صفات الفعل وليس من صفات الذات ، وأنّ معنى كون الباري عز وجل متكلماً أنه
تبارك وتعالى فاعل الكلام وخالقه وإنّ لم يكن قائماً بذاته تبارك وتعالى ،
يقول القاضي عبد الجبار المعتزلي : باب في أنه تعالى متكلم بمثل هذا الكلام
، وأنّ ذلك يصح فيه .
ثم قال :
اعلـم أنه إذا كـان متكلـماً يعني أنه فاعـل الكلام فقـد كفى في صحة كونه
متكلماً كونه قادراً على هذا النوع ، كما أنّ سائر الأوصاف التي تتبع
الفعلية يكفي في صحتها كونه قادراً عليه ، فإذا أحدث الكلام ثبت كونه
متكلماً ، كما إذا أحدث النعمة كان منعماً ، وليس الذي لأجله كان أحدنا
موصوفاً بأنه متكلم إلا فعله للكلام فقط دون أنْ يُقال : إنما وُصف بذلك
لفعله بآلة ولسان ... (1)
(1) المحيط بالتكليف ج1 ص 315 .
الإنصاف في مسائل الخلاف ج2 ........................................................ 121
رابعاً
: خلق القرآن الكريم : اتفقت كلمة المعتزلة على أنّ القرآن الكريم وهو
كلام الله عز وجل مخلوق له عز وجل وليس بقديم ، وأنه صفة غير قائمة بذاته
كما هو الحال بالنسبة للنعمة ، فهو عز وجل منعم باعتبار صدور النعمة منه ،
ونعمه عز وجل كلها حادثة ومخلوقة له عز وجل ، وكذلك كلامه تعالى وإنْ كان
قد صدر منه ولكنه حادث ومخلوق له تبارك وتعالى ، يقول القاضي عبد الجبار
المعتزلي في المحيط بالتكليف : وقد أطلق مشايخنا كلهم في القرآن أنه مخلوق
... (1)
وقال في شرح الأصول الخمسة
أثناء عرضه للآراء في موضوع خلق القرآن الكريم : فقد ذهبت الحشوية النوابت
من الحنابلة إلى أنّ هذا القرآن المتلو في المحاريب والمكتوب في المصاحف
غير مخلوق ولا محدث ، بل قديم مع الله تعالى .
(1) المحيط بالتكليف ج1 ص 331.
122 ......................................................... الخلاف في خلق القرآن الكريم
وذهبت
الكلابية إلى أنّ كلام الله تعالى هو معنى أزلي قائم بذاته تعالى ، مع أنه
شيء واحدٌ توراة وإنجيل وزبور وفرقان ، وأنّ هذا الذي نسمعه ونتلوه حكاية
كلام الله تعالى ، وفرقوا بين الشاهد والغائب ...(1)
إلى
أنْ قال : وأما مذهبنا في ذلك فهو : أنّ القرآن كلام الله ووحيه ، وهو
مخلوق محدث أنزله الله على نبيه (ص) ليكون علماً ودالاً على نبوته ، وجعله
دلالة لنا على الأحكام لنرجع إليه في الحلال والحرام ، واستوجب منا بذلك
الحمد والتقديس ، وإذن هو الذي نسمعه اليوم ونتلوه ... (2)
(1) شرح الأصول الخمسة ص 527 ط. مكتبة وهبة / القاهرة ذو الحجة سنة 1384هـ - أبريل سنة 1965م .
(2) شرح الأصول الخمسة ص 528
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire