mardi 26 juillet 2016

المختار اللغماني : أقسمت على انتصار الشمس




دراسات: نثر - شعر: المختار اللغماني الشاعر الثائر بقلم/ المختار الأحولي
(الذي أقسم على انتصار الشمس)



عصر يوم غائم حزين من شهر جانفي.كان الجمع يتابع تطورات الوضع الصحّي لشاب في الخامسة والعشرين من ربيع عمر الكلمات.متمنين أن تكون تطمينات الأطباء على غموضها بشارة خير.ونسترق السمع من حجب روحه ألتي تتردد في صدى الصوته المحزون يودّع الشوارع قائلا:*(الموت مساء أمام رفات مهرة الريح).

ـ أكركر رجليّ في شوارعها.....يا مدينة..

سلّمت مفاتيحها للمشترين.....وفتّحت فخذيها لبائعها..

يا مومسا حزينة مصابة بالشذوذ وبكلّ أمراض النساء....يا أمّا قاسية ولدتني ذات صباح

وتقتلني كلّ مساء.../... 

لكن في هذه العصريّة الغائمة.التي يبللها رذاذ الحزن.المتقاطر على جمع من الرفاق والأتراب والأحبة والأهل.زفّ الشاعر إلى عروسه في فرح محزون.بزغردات معبوداته.من صبايا الطين الحيّ واللحم الناريّ لزارات القصيدة.بفعل بركان قلبه الشمسي الصحراويّ.وبآيات من وصايا البحر والنخلات.وميراث الأغاني. التي تعمّر ليل العاشقين.لانتصار شمس الإنسان الشاق الباني. الكادح المتعب المنهك بأوجاع فقره.رغم ما اقترفه من تشييد لصروح وقصور حفنة من المحسوبين على خدمته.وإعلائه لراية بلاد مازلت تحاول الفكاك من المستعمر الراكض اللاهث خلف دمها السحريّ الخرافيّ والحضاريّ التاريخيّ.من موقعه الذي فرضته عليه قلّة علمه وتمدرسه(والحال على أيام الشاعر غالبة وعامة.على النسبة الكبيرة من أبناء الشعب.وبقيّة العرب.وبنسبة هامة حتى في العالم الذي نتصوره متقدّما ومتطورا ساعتها)لذلك نذر هذا العصيّ على حياة الذلّ بشموخ روحه الجنوبيّة المجنونة.وأصرّ على أن تكون أيامه القصيرة بيننا.هي لحظة انتشاء الانسان أينما كان.وعلى الأخصّ الثوري منهم.كما سنقرأ من وحي روحه ما تيسّر من أغاني الشمس.

لكن قبل ذلك.وحتى يكون سفرنا قانونيا.في زمن القصيدة.سنبدأ من حيث ركب الشاعر درب الذهاب إلى غيابه دما حارا حيّا ليعيش ذكرى وذاكرة.

كان أوّل الواثبين في قافلة المودّعين (على اختلاف السبل في نهج الحياة الشعريّة والسياسيّة)ابن دمه وجدول من جداول القبيلة:الشاعر العربي بإشعاعه أحمد اللغماني.حيث راسل روح المختار قائلا في وداع الأخ الأكبر الحنون:

(قصيدة:فظيع...أفول الأهلّة"إلى روح الشاعر الشاب المختار اللغماني"جريدة "الصباح"الخميس 20/01/1977)

...فظيع أفول الأهلّة

........................فظيع...

توارى الهلال ولم يتبرّج سوى بعض ليله..

على مطلع شفقيّ البساط

تنفست اللمحات المطلّة...

فكانت عبيرا مشعّ

وكانت ضياء يضوع

وكانت على الأفق شعلة.../... 

أمّا صديقه ورفيق دربه الناقد المشهور بجديته وصرامته وسخريته اللاذعة.أحمد حاذق العرف.فكتب في مقال تأبينيّ (بجريدة "الصباح" 1977)

(...كان أحد الشموع التي خسرها الشعر التونسي الجديد.المليء بالوعود والعطاءات.كان أحد الشموع التي فقدتها الطليعة الأدبيّة ببلادنا وهي تدخل منعرجها الجديد...كان أحد الشموع التي خسرتها الثقافة الوطنيّة المطلّة من وراء الأفق والتي نسعى جميعا إلى توفير مناخها...)

ولم يكن كلام الناقد مجازفة أو تجديف...بل من نظرة عارف بالدورين اللذين كان المختار يقوم بهما على المستويين الابداعي الشعري والتأسيسي الباني لفضاء الشمس المنتصرة..من خلال مساهمته في تأسيس النوادي الأدبية والثقافية



والشعريّة..مع حضوره التوعوي كمساهم فيما يجب أن تكون عليه التحولات الشعريّة.(حسب رؤيته النابعة من ثقافته المكتسبة في زمنه ومعايشته لتنظير الأفكار التي تهم الشعر خصوصا كأداة لنصرة الشمس الحارقة بحقيقة وضعها والفعل الفكريّ السياسي عموما)

ـ ولنا أن نذكر صريح قوله سنة 1977.(...إننا كنّا ومازلنا نؤمن بطليعة أدبيّة مبدأ وموقفا ولم نؤمن بها أشخاصا.وبعيدا عن كلّ الخلفيات والعلاقات وتأثيراتها...) وبرؤية حداثية تحريريّة للشعر ودوره فحال الشعر والشعراء كما رآها ووصفها في قوله: قصيدة*(الشعراء):

ـ خززت أفكارنا...ركدت

أضحت مستنقعات...عشش فيها البعوض...

باض في القذرات.../...

ويواصل فاتحا أفق البناء لقصيده وهو يخاطب روحه الفاعلة قائلا *(سأعرف كيف أبني أفكاري...أبنيها...أنا الباني...أعجنها بأحزاني.../...)

وهنا وجب أن أنبّه إلى أنّي لا أدّعي عظمة وهميّة للشاعر.ولا أأسطره بقدر ما أتوخّى موضوعيّة المستقرأ،لكنه ولبّ شاعر أسهم في ما بلغنا من خلال حلقات الاستمرارية والتواصل.للمشهد الشعريّ في تونس.وأخضع من خلاله المنعطف السبعيني للشعر التونسي وخياراته ومواقفه لبصيرة المكتشف.من خلال نموذجه الذي كان ومازال عند الكثيرون ذاكرة وذكرى وشهادة شاهد على مشهد شعريّ حقيقي.لتونس السبعينات بحراكها الثقافي وكلّ المؤثرات فيه وعلى رأسها العامل السياسيّ الذي كان سند كلّ مبدعي وفناني تلط المرحلة بالفكرة والنظرة ورسم الطريق.وهنا أجدني أتفق مع كلام الدكتور الذي رافق ولازم كنوز وشعلة الأدب السبعيني وعلى رأسهم شاعرنا المختار(وما يسمى بحركة الطليعة الأدبية في تونس) في قوله عند تأبين الشاعر في جلسة بنادي الشعر بدار الثقافة إبن خلدون الذي كان الشاعر من بين مؤسسيه صحبة كلّ من المتكلّم ذاته الدكتور هشام بوقمرة.والشاعر أحمد اللغماني والشاعر عبد الحميد خريف والأديب محي الدين خريف والشاعرة فاطمة الدريدي والشاعرنورالدين صمود ومحمد أحمد القابسي والميداني بن صالح وغيرهم...وذلك خلال سنة 1976.

ـ حيث قال :(...لم يكن صوتا فريدا،ولكنّه كان صوتا داخل رافد أصيل،ساهم في حركة شعريّة إبداعيّة في صدق وإخلاص...)

وهو الذي حدد دوره الشعريّ بقوله *(عن الشعر):

الشعر لا يبيعه البائع

ولا يشتريه زبون

مطعون أنا............مطعون

ككلّ جياع الأرض

محتاج إلى الصياح

محتاج إلى الرفض

محتاج إلى حمل السلاح.................إلى استعمال اللفظ.../...

ـ المختار اللغماني شاعر هموم زمانه:

كان عرس مواراته الثرى في منبته "قرية الزارات" وترجّله راحلة الأيام.رجّة لهيكل كلماته التي سكنت لسان وقلوب ثوار أيامه في تونس.التي كان صورتها وصوتها الواقعي الحقيقي.على بساطة كلماته وعمق معانيها الانسانيّة وبروحه الجنوبية البسيطة المحافظة على الودّ والحبّ والتآزر والتآخي التي كان حريصا على إشاعتها بين رفقائه وأصحابه وكانت دليل ونهج محبّته للشعب بأسره الذي تكلّم بلسانه وببساطة مفرداته اللغوية الشعبيّة.وهو ذاته من يوصّفها بصراحته الجنوبيّة المكشوفة،في قصيدة(عبارتي شعبيّة)ـ

عبارتي شعبيّة

عاملة ساعية

وواعية...................اضربت على الاعمال الفنية.

عبارتي شعبيّة

قبيحة كالجوع

ولا تصف الربيع....................فهي ليست شعريّة؟

عبارتي شعبية....تجوع كالفلاّحين.....تعطش كالعمّال......وتحبس كالثوريين..

لكنها تبقى مثلهم حيّة.../...

إنّ تأثيرا الواقعيّة الاشتراكيّة بجميع مفرداتها واضحة في أثر شعراء السبعينات في تونس وليس ذلك بالغريب إذا ما أخضعنا هذا النهج المتبع لمتغيرات دولية وإقليمية ووطنيّة خصوصا.إذ كانت تلك الفترة هي ذروة الصراع والصدام مع سلطة قامعة بوليسيّة استندت إلى قوّة البوليس لترسي الأمن السياسي.ووظفت القانون لتنشئ محكمة خاصة "محكمة



أمن الدولة"قدّام المدّ الثوري الشيوعي.الذي فضحها على أنها سلطة عميلة تكرّس ليس سلطة المستعمر القديم بل وفتحت البلاد لسلطة مستعمر أخطر الإمبرياليّة والصهيونيّة العالميّة وعلى رأسها أمريكا.

وكانت الطليعة الأدبيّة هي رؤية ثوريّة وطنيّة تونسيّة.ثقافيّة.شعريّة.وأدبيّة عموما.تحاور الأفكار العربيّة.والإنسانية الثوريّة في حينه.وتحدد مجال تحرك المبدع والمثقف العضويّ في صميم هموم شعبه ووطنه وهو النموذج العربي والإنساني.لمعاناة وشقاء هذا الانسان الذي ينشد الحرّية وحقّه الشرعيّ والقانونيّ والطبيعيّ في الرغيف بعزّة وكرامة.منها يبني عزّة وكرامة وطن برمّته.وشاعرنا لم يكن سوى حلقة من سلسلة يتواصل صهرها حتى الآن وحتى غد الانسانيّة.فلا أدب ولا فنّ ولا إبداع بلا قضيّة ولا وجهة نظر تنتمي اليه معنى ومبنى.وما مقولة الفنّ للفنّ سوى مقولة هارب من ساحة المعركة.متغطّي برداء برجوازي.نسجه الخوف من قمع السلطة من جهة والاسترزاق من فتات القصور من جهة أخرى.

لكنّ شاعرنا بمعيّة رفاق دربه كوّنوا سلطة معنويّة لمن يدعوهم "بورقيبة (بالأفاقين)" القادمين من ريفهم بغبار هذا الريف ناشدين موقعا في المشهد الوطني.وهنا نورد إجابة الشاعر الصريحة متغنّيا بخصال منبته الريفيّ الذي أنشأه كغيره من الريفيين بلا زيف أو أقنعة المدينة التي اكتشفوا أمراضها تلك زمن قدومهم طالبين العلم من مناراتها التي تعجّ بالريفيين.

وبسخرية مبطنة واعتزاز واضح يقول:في قصيد(ريفي)

ـ ريفي.كأن تقول "جبري" غريب عن الحضارة

ومن الحفاة العراة المعفسين على الحجارة

ريفي كأن تقول "غبيّ" في مسرحيات الإذاعة

يهدي الدجاج والبيض...في سنوات المجاعة..............................

...ريفي..كأن يقول للدجاج ..دجاجة

ويعطش.....ويعرى................................ولا تحنيه الحاجة.../...

وهنا أجدني مجبرا على أن أمرّ من ثنايا النخل والتين والزيتون.ومسارب الواحة...وملح البحر..حرارة ماء العين..في (زارات) جنّة الشاعر..وملهمته الأولى..ومن رزقته الخمسة والعشرين ربيعا من الحبّ المحزون...والشدو الحنون..وروح الجنون...التي زاوجته ونصرة شعبه المفقّر...ليدفعهم في فخر وانتشاء وهو صارخا:

*ـ ارتفعي يا أيدي...يا أيدي ارتفعي شددي القبضات...

أصافحكم...أصافحكم...يا حاملين في قبضاتكم هدير البحر الآتي.............../...فمن هي معبودته التي تمتلك ناصية وجوده وغيابه؟

ـ المختار اللغماني شاعر الزارات:

فمن هي هذه المعبودة؟التي ترسم حدودها الواحات الشاسعة جنوبا.وشرقا البحر.وشمالا طريق الميناء الآن.هي قرية موجودة من *(الزمن البونيقي "على أقلّ تقدير" استنادا على يوجد من آثار راجعة لهذا العصر الراجع إلى 111 ق م تقريبا.وهي آثار موجودة بمنطقتي المعمورة وشطّ العوامر وغيرهما.كما أثبتت عمليات المسح الأثري وجود أكثر من 150 موقعا أثريا بالجهة يدلّ نمطها المعماري وحجارتها الضخمة على انتمائها لحضارات مختلفة منها البونيقيّة التي ارتبطت بالسواحل والحضارة الرومانيّة التي ارتبطت بالسهول والأراضي الخصبة.) كما نلاحظ وجود بعض الآثار الرومانية وأنت مار من جهة الزارات (ومنها ما يوجد جنوب الواحة قرب سبخة).وهي تنتمي الى مركز عمراني غابر.يوافق موقعها واحة الزارات fulgurita فإنها هنالك محطة رومانية قديمة تسمى نسبة إلى peutingerحسب دليل العالم الأثري للآثار الرومانيّة ويحدد الموقع الأثري للمدينة الحقيقية المعروفة antonin والتي تربطها بمدينة تكابيس."قابس".

وكتب عنها العديد من الرحالة عربا وإفرنج ومنها ما كتبه الرحّالة التيجاني ص 119 من كتاب رحلته قائلا: (الزارات قرية ذات نخيل كثير وماء غزير ينبع من عين حمئة وقد اجتمعت لدى منبعها بركة ماء متسعة القطر بعيدة القعر.وأهلها من البربر والمتمسكين بمذهب الخوارج وهذا المذهب هو الغالب آنذاك على جميع البقاع التي بين قابس وطرابلس وخصوصا أهل الساحل البحري منهم).

أمّا الكاتبان فقد دوّنا سنة 1888 .fernand lafitte وjean servonnet في كتابهما خليج قابس "ص131 و 132" فهما يذكران الزارات (قرية يسكنها قرابة 400 أو 500 نسمة من أصل بربري وتشبه حدائقها في اخضرارها حدائق قابس وبها نخيل كثير واشجار مثمرة تسقيها مياه متدفقة من عين سخية تصب في بركة كبيرة قبل أن تتفرغ إلى سواقي



باتجاه الواحة ولما يأتي زائر بين العصر والمغرب في فصل الصيف خصوصا يشاهد مظاهر الحياة اليومية فريدة لهذي القرية عند نقطة الماء هذه.). 

ـ ولم يبقى الأصل الدم الساري في عروق أهلها بربريّا. منذ زمن بعيد في القدم.بعد اعتناق بعضهم للإسلام وهجرة من خالفهم إلى مواضع آمنة من جيش المسلمين القادمين من مشرق وفيه خليط أعراق تركت بصمتها في الإرث العام للقرية.منذ فجر جيوش حسّان ابن ثابت ومن تلاه التي مرّت من مدخلها وترابها أو على مقربة كبيرة منها أي على طريق القرى المجاورة لها أيضا.فتمازج الدمّ وتدرّج في اختلاطه حتى أصبح عربيّا خالصا.نقيّا عرقا وطبعا وطابعا وإرث ونسب لا شائبة فيه. ولم يبقى من العرق البربري سوى بعض ذكر في كتب الرحّالة فقط لا غير.

ـ وهي قرية صغيرة على أيّام الشاعر.أهلها من البساطة والأريحيّة وصدق المشاعر. بحيث لازالوا في إكرام الغريب والإحاطة بالحبيب على قلّة المورد وقسوة الطبيعة التي زادت في شحه الرزق. مما دفع بأبنائها في وقت مبكر إلى الهجرة إلى فرنسا بالأساس وهذا العنصر مسّ شاعرنا بحيث حرمه لفترة غير قصيرة من التواصل المباشر وحضور الأبّ في حياته. فكانت الأمّ التي هي الملهمة والمعبودة رمز وروح المكان وآيات الزمان.التي ريح الحياة التي تقذفه إلى عوالم الحبّ.مرتكبا بما يدفعه من حبّ محزون أجمل الآثام (الشعر).

وللشعر في حياته مرحلتين رئيسيّتين ـ مرحلة القلب العاشق للحياة.الرافض لطقوس القديم البالي.الباحث عنها في جمال الصبايا وروعة الغزل ـ ومرحلة ثانية كانت هي عنوان الشاعر في دفتر تاريخ الشعراء ـ مرحلة العقل الثائر الذي يراكم فكرا ورؤية.بأسس القلب الريفيّ بفطرته وسليقته.وحبّه الصاخب الغاضب أبدا.للناس الكادحين .والفقراء المحرومين المظلومين.

ومرحلتي بنائه الشعريّ يشتركان في الرفض والثورة كعنصر أساس في وجدانه وما الاختلاف سوى بين منطق القلب ومتن العقل وهما مفصولتان بالرحلة فالمرحلة الأولى كانت في أرض معركته الأولى المنبت.أمّا المرحلة الثانية فكانت صدمة واقع تلك العاصمة التي كان في تصوره "كعامة ساكني الريف والمدن البعيدة"جنّة الحضارة ومعلم التحرر والإعتاق من التخلّف.لكن كانت صدمته كبيرة حين رأى أن ما في الريف من رزق على قلّته وطمأنينة وراحة روح وبال.لا توجد في عاصمة الجوع والفقر حتى أنّه اعترف لحلمه أنه حلم (خلواض)في قصيدة: *(حلم رجل "خلواض")..

ـ حلمت الملاّسين في الفجر..تهاجم باب البحر...

كالريح في هبوطها..تملّس بطوبها وتضربه بالمطر

وتصعد القربيات إلى أفريكا....وتسقط لباس المغازات....في يد الخردة

والروبافيكا...

ـ حلمت:العاصمة وكانت نائمة..وحالمة

تزخر بالناس والدخان..رأيت بعض الحيطان في شارع الحرية

تبدّل لغتها الرسميّة...وبعض الأوثان...في شارع روما

تسقط مكتومة...

ـ حلمت حلمت...حكيت حلمي للجيران قالوا..يا فلان "حلمك حلم رجل خلواض وفي الحكمة قانون

يفرض عليه الإجهاض"...

ويحمله العقل إلى تأبّط الفكرة.باقتناص ذاكرة المتلقي ومرجعياته الشرعيّة إلى محاورة الرمز.والتلاعب بصوره المحفورة في روح الناس حين يقول:* (أفعال بين فاعل ومفعول)

ـ "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"؟...

الذين يعشقون ويغضبون ويقولون...والذين هم سكوت..

الذين يأكلون الدنيا وتسحرون بالآخرة...والذين يأكلون الموت..

وينتظرون القوت...وخلاصة الدنيا إذا وصفناها...

الذين يحكمون فهم "حاكمون"...والذين محكومون فهم محكوم عليهم.../...

وكان الشاعر قد التزم وألزم قلمه على الإنتماء للشعب حتى في انتقاء العبارة واللفظ الذي يصل بسهولة وسلاسة إلى روح الناس البسطاء.بدون تعقيدات لغوية وبلاغيّة ومحاسن لفظيّة تركها إلى حينها وسنورد هذا التحوّل في الشكل والبنية لاحقا وفي حينه.فهو وبحكم انتمائه للشعب المفقّر والمجوّع.يلتحم معهم في *(تقديمات للعبارة الشعريّة): حيث يقول:

ـ أحبها بسيطة كمنازل الطوب..

كلباس ريفيّ من الجنوب..كحديث عامل من بلادي

كفطور الخمّاس في فصل الحصاد..

أحبها شقية كصندوق شيات..كبرويطة حمّال



كحديث بلا بروتوكول..وبلا مقدمات.../...

وكان محرّضا لاذعا وساخر في بعض الأحيان حدّ البكاء من واقع يسير نحو مجهول تأكّد فيما تلاه من أحداث تاريخ البلاد وتطورات مساره بلوغا حدّ انتفاضة(17ديسمبر/14 جانفي) صحّة رؤيته وتوجهه وانتمائه للقاعدة الأصليّة للشاعر والمبدع عموما أي الشعب المحكوم.ولم يساوم أو يهادن ويخدم بلاط الحكّام ولو لبعض غفلة زمنيّة. 

ففي قصيدة.جعلت فرقة موسيقى ملتزمة في أربعينية وفات شاعرنا من عنوانها اسما لها (الحمائم البيض).

وهي*(أحزان الحمائم البيض)يقول محرّضا:

ـ لا تستلقي..تململ في البيضة...

حطّم القشرة..

أزح عن صدرك هذي الصخرة

وصفّق بجناحيك في الهواء الطلق.../...

ولم يكن يحصر همومه في بعدها الوطني فقط.وإنما أيضا إلتزم بالبعد الإنساني وتمازج مع هموم الثوريين في العالم خصوصا منهم من كان سندا لقضايا العرب والمتطوعين بدمهم وحياتهم لنصرتهم.أمثال قائد عمليّة مطار اللدّ: الرفيق أوكاموتو.الذي خصّه ب:*(رسالة حبّ إلى أوكاموتو) يقول فيها.

ـ أوكاموتو...أحبك يا أخي الإنسان

ولست أخي في الدين...ولست بقارئ القرآن...

ولست من "خير أمّة قد أخرجت للناس"

فحين حبول البركان...تذوب جميع الأجناس...وتسقط كلّ الأديان.../...

وفي اطار ذكرنا للقضية المركزية العربيّة فلن نزيد على ما قاله في:*(الحديث عن فلسطين)

يتعمّق جرحك إثر كلّ هزيمة...

يتكشّف عن سحر الأجداد...وشعر الأسياد

وإذا أنت...كما كنت...وليمة.../...

لكن حدث طارئ على الشاعر في جزء أخير من مرحلة العاصمة(أي المرحلة الثانية والأخيرة من حياته)حيث برز تطور في الشكل والأفق لقصيده وكان إيذانا بميلاد جديد لم يسعفه الزمن ليتمّه ويخلّد منه سوى نزر و دفتر صغير لكن على صغره نستشفّ منه محاورة جميلة للشعر العربي الملتزم عموما.ذلك النهج الشعريّ الثوريّ الذي حمل بصمة رواد القصيدة الحديثة المنمقة والمزينة بسحر الحياة العربية البسيطة والريفية أيضا.من أمثال محمود درويش ومظفّر النواب والبياتي وانس الحاج والخال ورواد قصيد لبنان الجديد.فكان المختار مزيج سحريّ لم ينفصل فيه عن وطنه وبلاده بل كرّسه للغرض ذاته.لكن بوعاء جديد.سيبرز بعده وحتى يومنا هذا على أنه الشكل الأرقى للشعر العربي الحديث.

وهنا أجدني منبهرا ومجذوبا لقصيده الرائع الذي حفر فينا مسافة بين درس شعري وآخر.بين نمط ومدرسة وأخرى نابعة من واقع المدرسة الأولى كفرع أصبح بمرور الزمن هو الأصل المعتمد.والمسمى في بعده الإنساني بالواقعيّة السحريّة.

وأعني قصيد*(حفريات في جسد عربي) والذي يستهله بروحه الثائرة دوما قائلا:

لا تقتل حلمي...باسم الله..وباسم الدين..وباسم القانون..

ولا تذبح قلمي....

كلماتك حمرا قال فما لون دمي ...

إنّي أشهد بحمام العالم...بالزيتون المطعون...بالبحر المسجون...وبالدنيا..

وأنا أعرف ليس في الدنيا أحلى أو أغلى من هذي الدنيا...

أشهد أنّي عربيّ حتى آخر نبض في عرقي...عربيّ صوتي...عربيّ عشقي...عربيّ ضحكي وبكائي..

عربيّ في رغباتي الممنوعة...في أهوائي...عربيّ فيما أشعر...عربيّ فيما أكتب..

لكنّ العالم أرحب.........................................................لكن العالم أرحب.../...

ورغم أنني لا يمكن أن يوقفني تصفحي لعالم المختار اللغماني عند هذا الحدّ لكن لضرورة الصمت في زمن يركبه منتحلي التقوّل فإنني سأصمت لأترك لمن يريد الغوص في هذا العالم الرائع لشاعر أعاد للزمن بريقه وهو يرقد في آخر لحظة من حياته على سرير الختام وهو يقول:*(التعبير عن الغربة)وهي آخر ما كتب.



عيناي بؤرتان منفيتان في المدينة المنفى...عيناي نائمتان على دائي...معلقتان على أهوائي...

مصلوبتان على سرير عمري المستشفى........يا مستنقعات الأيام...يا مزابل منتصف الليل....يا عمري..

مالي ولهذا الزمان......المجدب القفر..........................................مالي ولعصري.../...

وكان عصر يوم غائم حزين من مستهلّ شهر جانفي شهر كان ولا يزال شهر ميلاد الثورة في تونس وآخرها وليس آخرا...(14 جانفي 2010)الذي أقسم فيه الشاعر آخر أيمانه الغليظة...حين أقسم على انتصار الشمس.
http://herufmansoura.blogspot.fr/2014/06/blog-post_5563.html 





المختار اللغماني بين العبارة الشعبية والعبارة الشعرية


بقلم احميده الصولي
كانت الحركية الثقافية التي عرفتها سنوات الستينيات بتونس متنوعة، في مستوى النشاطين الثقافي والأدبي، وخاصة من حيث ظهور التجارب الأدبية والنوادي، وحتى في مستوى الصحافة والنشر، تلك الحركية قابلتها حالة سكون وجمود وربما تهميش ولا مبالاة في أواسط السبعينيات، بحيث تركز الاهتمام العام على المظهر اللائق” والانكباب على كسب المال والتنافس – غير الشريف أحيانا- للوصول إلى مواقع السيطرة على مصادر الثروة ومصائر البشر، الأمر الذي أصبح معه الباحث عن القيم والتأصيل في عداد الشواذ. وحصلت تبعا لذلك القطيعة بين القيم الخالدة وإنسان “المظهر اللائق”. هذا الواقع ولد ردة فعل عنيفة عكستها ألوان الإبداع في كل المجالات، وكان المبدعون في مواجهة تطورات تراجعية في مستوى الإعلام والنشر ومحاولات احتواء الفضاءات الثقافية وتحويلها إلى خلايا شبه سياسية، وغالبا ما يجد المثقف الرافض التقوقع داخل هذه الفئة أو تلك، يجد نفسه يعمل في إطار سياسي لم يختره بل لعله يتناقض مع ميولاته طولا وعرضا.
في هذا الجو الغائم بِمدِّه وجزره نشأت البذور الأساسية لشعر المختار اللغماني الذي كان موزعا بين ممارسة العمل السياسي في الجامعة والكبت الفكري في الشارع ؛ فكان ككل أبناء جيله يبحث عن الفضاء الذي يستطيع أن يتنفس فيه هواء نقيا. ولان الفضاءات كانت جميعها مُسَيَّجة والهواء لا يحصل عليه المرء إلا بمقدار، وتحت شروط لا يرتضيها أحيانا، فان ذلك انعكس على الإبداع، وأصبحت الحالات الإبداعية تُهَرًبُ مثلما يُهرًبُ الحشيش أحيانا. وصارت الرقابة الذاتية تمارس مسبقا على الأعمال الإبداعية عند كتابتها حينا، وعند نشرها غالبا ؛ والاقتصار على قراءات محدودة لبعض الأصدقاء أو نواد لا تضم غير القليل من الرواد. وكثيرا ما توجه ملاحظات حول ما يقرا فيها، بل لعله يوصى أحيانا بعدم السماح لهذا الاسم أو ذاك بالقراءة أيضا.
كان المبدعون – لحسن الحظ – واعين بهذا الأمر، وكان من بينهم من يتعرض إلى مضايقات. ولكن ذلك لم يمنعهم من مواصلة الكتابة والانتشار، مما سبب ألوانا أخرى من المضايقات التي بلغ بعضها حد المس من القوت. فهناك من فرً إلى خارج البلاد، وهناك من زج به في السجن بتعلات غير فكرية تغطي هذه الأخيرة. المهم أن كثيرا ممن تحملوا مسؤولية المستقبل، صمدوا في وجه كل العواصف وتحدوا إحباطات الانتقاص من قدراتهم والإهمال لما يبدعون. وهناك من تم استيعابهم فسكتوا، إلى جانب من تكيفوا حسب التلقين وانخرطوا في العكاضيات، ولكن كثيرا منهم تمردوا على ذلك كله.
كان المختار أحد الذين تمردوا على تلك الإحباطات ولم يعبأْ بها. كتب في الأشكال التي ارتآها، ومارس بِحُرية ذاتية إبداعه الشعري. وشارك في نحت شخصية وطنه بعيدا عن المصلحية والوصولية وغيرها. وانتج لنا عددا من القصائد جمع بعضها في كتاب اصدرته الدار التونسية للنشر اثر وفاته تحت عنوان : “أقسمت على انتصار الشمس” في 114 صفحة من الحجم المتوسط ويضم 33 نصا تمثل بعض مراحل تجربته القصيرة زمنيا.
ولقد قسمت في موضوع سابق تجربة اللغماني الشعرية إلى مرحلتين ؛ ارتبطت الأولى بتوزعه بين الإيديولوجيات مما احدث فيها شيئا من التذبذب واللاَّ استقرار في حين ارتبطت الثانية باكتشافه ذاتَه وإدراكه من يكون. وهذه النتيجة كانت متزامنة مع توقف هذه التجربة مما جعلني أطلق استفهامات حول الهدف الذي من اجله وجد المختار. هل جاء ليعيش 25 سنة في البحث عن هويته، ولما عرف انه عربـيٌّ غادر الحياة؟ وهل من الطبيعي ان يقضي العربـيٌّ عمرا كاملا في الشك واعتناق الإيديولوجيات مجربا وممارسا وملاحظا حتى يصل إلى إدراك انه عربـيٌّ؟ في تصوري انه توصل إلى قناعة حاسمة اوقفت كل مسلسل البحث اللامجدي في حياته. تلك القناعة التي جاءت واضحة جلية ومبررة في قصيدته التي اعتبرها شخصيا من روائع شعرنا العربـيٌّ في تونس وهي : “حفريات في جسد عربـيٌّ” علما بان هذه القصيدة قد تمت دراستها اكثر من مرة وقد قال عنها حافظ قويعة مثلا : “حفريات في جسد عربـيٌّ “أُوبرا” ثورية معاصرة يمكن استغلالها مسرحيات” ضمن الدراسة التي خصصها لها ونشرت بجريدة الشعب الملحق الثقافي (15 جانفي1982) ونلاحظ أيضا إن عددا آخر من قصائد اللغماني قد تمت دراستها، في حين بقي عدد منها طي الصمت حنى الآن. خاصة تلك التي لم تصدر في مجموعته، والموجودة بأرشيف الدار التونسية للنشر المجمدة حاضرا.
سأنطلق في هذه المحاولة الدراسية من مجموعته الشعرية المذكورة معتمدا نفس التقسيم الأول المذكور، في عملية تحديد – عبر نماذج- للاستعمالات اللغوية التي توخاها أدوات تعبير وتوصيل في كلتا المرحلتين. ففي المرحلة الأولى اعتمد المختار على العبارة الشعبية التي يَنحتُ منها صوره وإشاراته الدالة على مواقفه. في حين اعتمد في المرحلة الثانية الصور الشعرية العربية ذات البعد الإيحائي والموظّفة لرموز الحضارة العربية عموما.
وحريٌَ بالتذكير هنا أن الشاعر قد مرّ في تجربته الحياتية بحالات انتماء إيديولوجي كان لها تأثير واضح على توجيه استعمالاته وربما ساهمت في اختيار اللغة التي أراد التعبير بها. وقد أفرزت إشكالا متجانسة في المرحلة الأولى، ثم حدث نوع من القطيعة مع هذه الأشكال في المرحلة الثانية. وكان تحوله من توظيف عبارات الواقع اليومي الشعبي التونسي حيث البدلات الزرقاء والعرق والروبافيكا وغيرها إلى واقع اوسع وأعمَّ، حيث الانتهاكات والخطر المدمر الذي يترصد المصير العربـيٌّ ؛ والذي يسهم فيه العرب بممارسات عددها في قصائده. وهذا السياق يمكن ملاحظته ببساطة في قراءة اشعاره . لذلك، سأمرّ مباشرة إلى دراسة نماذج من استعمالاته في قسمي تجربته :
-القسم الأول :
لعل قصيدته بعنوان “عبارتي شعبية” تقوم خير شاهد على هذه المرحلة التي تعكس توجهه الفكري والفني والايديولوجي أيضا. يقول:
عبارتي شعبيه
عاملة ساعيه
وواعيه
اضربت عن الاعمال الفنية !
***
عبارتي شعبيه
قبيحة كالجوع
لا تصف الربيع
فهي ليست شعريه
***
عبارتي شعبية
تلبس لباس العمال
فليس لها جمال
ولا تحسينات بلاغيه
***
عبارتي شعبيه
يرفضها ارباب الجرائد
ولا يمنحونها حق لجوء القصائد
لانها حمالة سوء،شقيه
***
عبارتي شعبيه
تحارب العملاء
ولها سوابق عدليه
***
عبارتي شعبيه
تجوع كالفلاحين
تعطش كالعمال
وتحبس كالثوريين
لكن تبقى مثلهم حيه !
(ص ص31-32 الديوان)
وكأن ذلك الموقف رد استباقي على من كانوا يحاولون رفعه إلى مستوى اللا نقد من جهة وعلى الذين يتحاملون عليه من جهة ثانية. فمنذ المقطع الأول يوجه المختار قارئ شعره أو سامعه إلى عدم اعتبار ما يكتبه عملا فنيا. ولعله بذلك يؤسس دون قصد لونا من الكتابة الفنية. وفي المقطع الثاني يدعي أن عبارته ليست شعرية وأنها قبيحة كالجوع. فهي هنا في مواجهة قبح محاولات التجويع إذن هي مثلها في القبح. في المقطع الثالث يشير إلى بساطتها ووضوحها فهي لا تعتمد الُمحسنات البلاغية. ولعل في بساطتها جمالا. المقطع الرابع يرفع الشاعر احتجاج الشعب ضد قلة من مصاصي الدماء ؛ ولا يعقل ان يتحدث المضطهد لغة الرضى ما دام يعرف مضطهده. إذن فعبارة المختار حمالة سوء شقية في مفهوم رؤوس الأموال. في المقطع الخامس يعلن عن إدانتها مسبقا لان من تُقال لهم حاكَموها في مناسبات سابقة وأعلنوا إدانتها. ولكنها في المقطع السادس تتساوى بالفلاحين والعمال الثوريين، فتبقى في سجل الخلود حية. ويشير إلى جوع الفلاح الذي ينتج غذاء للجميع. وإلى عطش العامل الذي يسيل عرقا في خدمة الحياة والأحياء.
بهذا الوعي جابه ابن الريف المختار اللغماني، حالات انسانية لا تتحدد بمكان معين. وانعكس ذلك على حسه ونبضه فأصبحت العبارة عنده أَلَمًا يسًاقط على الورق. ولأنّ الذي يحترق هو المختار فان الورق بقي وعاء يحفظ أَلمه. ولأنه ارتبط – واعيا – بحالات التعفن التي تصيب المدينة في كل مستويات الحياة فيها، فلم يستطع التخلص من ضرورة تحديد الأمكنة فيها، وحتى استعمالاته بهذا الخصوص كانت مهذبة. يقول:
رأسي محطة قطار المرسى
وعلى رجلي المربوطتين إلى قيد الألم
يركب قوس باب فرنسا
وتنصب ثياب الروبافيكا
وعلى أذنـيَّ المنتصبتين في زمن الصمم
يصيح إنسان :
يا ربي راني جيعان
(ص 11 الديوان)
في هذا المقطع نلاحظ شريط أحداث ووقائع عايشناها ولا نزال. فعند قراءته تبرز إلى أذهاننا وذاكرتنا صورة ذلك الذي يصيح : “يا ربي راني جيعان” ؛ لكأنها تقع الآن ؛ إذ ما زال يعترضنا في اكثر من موقع رغم مرور السنين. ونلاحظ بانه لم يستعمل العبارة الرائجة “(Port de France) بل قال : “باب فرنسا” رغم ان الترجمة مختلفة. وفي هذا التحريف قصد عميق الصلة بالواقع الذي كانت عليه بلادنا في السبعينات وما قبلها خاصة.
في هذا المقطع افتك المختار العبارة من أفواه أصحابها ليحوِّلها إعلان احتجاج ضد مدعيي الرقي الحضاري، والخروج بالإنسان من مرحلة البداوة او الحيوانية. فحتى الحيوانات تجد ما تأكل. ولكن مازال الإنسان بلا مأكل في بعض المواقع. وتصبح بناء على ذلك كل الشعارات المرفوعة في هذا الخصوص مراوغة حضارية. ويؤكد المقطع نفسه مع غيره ان المختار اللغماني يحمل هموم الإنسانية كلها. ومن استعمالاته أيضا ان حاول اصطياد عبارات تقع بين الفصحى والدارجة. وهو يعكس في مختلف هذه الاستعمالات الحالات النفسية التي يكون عليها. فتارة تتأزم حالته وأفكاره، فإذا هو يصرخ :
مصلوب أنا على الكأس
مضروب على الرأس
ومخبوط في الدماغ
(ص14 الديوان)
ولعله هنا يعتمد على الدلالات المباشرة للكلمات المستعملة دون مراعاة الناحية اللغوية التي تحدد موقعها وكيفية رسمها والاداة التي تربط بينها. ويمكن ان نشير إلى بعض الاستعمالات التي تفتح نافذة على أعماقه في فترة تقلبه بين الأفكار والجاذبيات السياسية يقول :
لاني لا أَرضَى لأفكاري أن تجهض
لان كلمة الحرية ليست للتمضمض
وليست لمن يخلوض
سأعرف كيف ابني أفكاري
ابنيها، ابنيها، انا الباني
اعجنها بأحزاني
أُنـَجِّرُها بأسناني
وارفض ، ارفض ، ارفض
ص 19
وفي ذلك ما يدل على حصول اختلافات مع بعض هذه الحساسيات. يقول أيضا:
ريفي، كأَنْ تقول “جبري
غريب عن الحضارة
……………
ريفي كأَنْ تقول غبي
في مسرحيات الاذاعه
ويهدي الدجاج والبيض
في سنوات المجاعه
ص24
وهنا ينقل المختار بلغته الفاضحة بعض السلوكات المتخلفة، بأساليب تستهدف الانتقاص من بعض البشر أو احتقارهم، دون أن تتعرض للظروف التي أوصلتهم إلى تلك الحال، وبالتالي هل هو الغباء ؟ ام هي التقية؟ ولعل المختار أحس بمرض العنصرية التي تعاني منها بعض العناصر في مجتمعنا. فمازلنا نطلق كلمة النـزوح” وكلمة “ولد بلاد” للتدليل على ان الآخر ليس له علاقة بالمتكلم. وكاني بالمختار يحتج على هذه الصور المشوهة للواقع والقيم الحضارية والإنسانية، مؤكدا ان من يتمتعون بهذه العقلية لا يمكن بحال ان يتقدموا حضاريا وبالتالي فانهم مرضى. وخطر عدواهم غير مأمون العواقب على البلاد والعباد. يقول أيضا:
تخشبت عقولنا
تشققت تحت الشموس
سوست
نخرها السوس
ص33
وهذه صيحة يطلقها نيابة عن جيله الذي تغذى بنوعية جديدة من التفكير والرؤى ولكنها حبست ؛ فكان يعاني من البطالة الفكرية والجسدية معا. إلى أن يصل إلى حالة كهذه :
وسقوطي الذبابي على الخبزة اليومية
ص41
وهي الحال التي يقع فيها من يصادف شغلا بعد طول البطالة. وينغرس فيه حتى الاشراف على الهلاك. هذا إذا لم تسلب من أجله إرادته وانسانيته. فيتحول إلى حيوان غذائي منتج بمقابل هو الاكل فقط.
اكتفي بهذ النماذج القليلة من المرحلة الأولى واشير إلى انها غنية بمستويات متعددة ومتفاوتة من الاستعمالات الشعبية المعبرة عن هموم الشعب اليومية والمستمرة. وهذه النماذج أَذكرها للتاكيد على ان هذه المرحلة، بكل تقلباتها وتحولات الرؤى الفكرية عنده كان المختار فيها مشدودا إلى همٍّ وحيد هو الحياة اليومية بكل شعوره إزاء ما تلاقيه الطبقات الشعبية من الحيف والحرمان والتذبذب.
-القسم الثاني
تتسع دائرة الادراك الواعي عند المختار، فتنمو حالة الوعي هذه، وينتقل الاهتمام إلى حالات اخرى اشمل والصق بمصير المجموعة التي يعايشها. ويتجلى له الموقف الذي طالما تعذب لاكتشافه بين اشكال التهميش والذبذبة. ويدرك الحقيقة النهائية. فإذا هو مواطن عربـيٌّ. وسيترتب على هذا الموقف الجديد شعور أوسع واعمق، اعتبارا للمصير العربـيٌّ المشترك بين اجزاء الوطن الكبير. تكون نتيجة ذلك بحثا في مقومات القصيدة العربية. فإذا هي كائن حي له شخصيته ومميزاته. وما دامت العروبة قدر المختار الذي أفنى عمره في البحث والتمحيص، هدفه التعرف من يكون، فلا مناص من تأكيد انتمائه إلى هذه الأمة /القدر. ولا بد من كتابة القصيدة المؤكدة هذا التوجه الجديد. وهو ما يبرز في القصائد الأخيرة من الديوان التي تمثل المرحلة الثانية في رحلته الحياتية القصيرة.
ولا بد من التاكيد هنا على ان انتقال المختار إلى التعابير الأدبية ،لم يكن انقطاعا عن الحالات اليومية التي كان ممتزجا بها، حيث انه ما زال يفعل ذلك اراديا ؛ انما جاء التحول في شكل انتشار الضوء الذي ينطلق من موقع ولكنه يملأ الفضاء والكون كله. فحين انفتحت عيناه على قدره، على الحقيقة التي اضاع عمره كله في البحث عنها، اعلن في اخر العمر القصير جدا :
اشهد اني عربـيٌّ حتى آخر نبض في عرقي ص99
وباعلانه ذاك اختطفه الموت. وفي هذا الحادث دلالات عدة. فالمختار مغروس في الواقع العربـيٌّ سواء بين مساكين باب البحر في تونس او عبر إدانة بطولات الخمر والجنس في كهوف الليل بباريس ولندن وغيرهما. أو كشاهد على أرصدة الشعوب التي يبذرها تجار وسماسرة النفط في العواصم العالمية. ولعل الأهمّ من كل ذلك الرغبة العارمة في الدفاع عن الأرض والعرض، ولكن حراس الحدود لا يرضون بأَقل من أرواح الراغبين في ذلك ؛ بحجة الأمن الداخلي، والأمن الخارجي، والمصالح المشتركة، وما إلى ذلك من الذرائع.
في هذا السياق يعتبر المختار آستشهاد “هاني جوهرية” وثيقة إدانة ضد كل العرب. فهم الذين يقتلون الواحد بعد الآخر من الوطنيين الأفذاذ، بواسطة العملاء والأعداء. لذلك، فإن المؤامرة تحاصر كل نبضات الوعي. اسمعه يقول:
يتدفَّأُ قلب الثلج الآن
ويفاخر هذا الجبل الأبيض – اذ يحمر – جميع جبالك يا لبنان ص87
وفي الاجساد العرببية مواقع سيبيرية عديدة لا تعبأُ بتوالي الفصول وتغيرات الطقس. وعندما تُسفح الدماء البريئة فوارةً يشعرون بالدفء. لذلك يربط المختار الجغرافيا العربية من خلال جبالها.
علمني أن جبالك يا لبنان تعانق في الحضن “الأوراس
ترتاح صباحا في الربع الخالي وتبيت الليل “بفاس
وأنا يا هاني في تونس تحت الجبل الأبيض اذ يحمرَُ
وقفت اراقب عينك تغمر قلب الجبل وكل الوديان
ونهار سقطت وجدت فراشك أجفان، ووجدتك أجفاني
ووجدتك في الأحضان
وأرى الآن الجبل الأبيض – إذ يحمرُّ- تململ في عينيك
صار له قلب، نبض، شريان، صار له رجلان ويدان
أضحى أحلى العشاق أقوى الفرسان ص87
لعل في هذا المقطع تلوح اهتمامات الشاعر واضحة، فلم تعد مسالة الخبز وحدها او الجوع والتعب وحدهما هي المسيطرة. فها هو يحمل مأساة شعب أنهكته الخيانات والعمالات ودمرت مبادراته التراجعات والطعن في الظهر والأحابيل. هنا صارت عبارته شعرية ودخلت فيها المحسنات البلاغية ؛ لكن في نحت مختلف للصورة. فالمختار فيما ارى لم يكن عاجزا عن كتابة القصيدة العربية المتميزة من قبل، لكنه كان ماخوذا بالموجات المتلاطمة على الساحة التونسية ومنها حركات التجديد او تلك التي تدعيه. وحين كتب قصيدته جاءت رائعة في شعريتها رغم حاجتها إلى مزيد الدقة في بنائها العروضي، والايقاعي، الذي ليس موضوعنا الآن.
ونشير إلى بعض الاستعمالات التي برزت في مرحلته الثانية هذه ومنها:
تقول رمال الصحاري بان انتماء إلى الريح خير من النوم
في الانتظار وكبت الجماح ص92
ثم :
سالتك يا أُم
أنت التي تلدين صغارك كل صباح
وأنت التي ترضعين الصغار حليب المحبة والكبرياء
وأنت التي تقرئين عليهم كتاب العطاء
وحين يصيرون اجمل فرسانك الأوفياء
تصيرين غولا يمزقهم في المساء . ص93
فأية أُمٍّ هذه التي تفتك بأبنائها على هذه الصورة ؟ لعل المختار يقصد أولائك الذين أوكلوا إلى أنفسهم بآسم الأم – عن حق أو عن غيره – مهمة رعاية الأبناء فكان ذلك منهم ويكون.
في قصيدة “حفريات في جسد عربـيٌّ” تعترضنا تضمينات كثيرة لوقائع وشخصيات تاريخية وبطولات ومناف وحالات إعدام القيم، أسقطها الشاعر على وقائع وممارسات عصره العربـيٌّ. من ذلك ما حدث لكل من :
-أبو ذر الغفاري والربذة منفاه
-الحلاج وعملية إحراقه
ابو نواس ورفضه الوقوف على الأطلال، والإيحاء بشخصيته الحقيقية
إلى جانب غيفارا وهوشي منه ولوممبا والأهرام والنيل وغيرها. وتأكيدا للتحول المومإ إليه، وحالة أمته العربية بين أيدي من نصبوا أنفسهن حماتها، يقول المختار:
عربـيٌّ، عربـيٌّ، اشهد بالصفعة احملها كل صباح
من نشرات الأخبار
عربـيٌّ، عربـيٌّ، اشهد بالخجل المر يحاصرني من
شك في بعض رجولتنا، من رؤية سواح غرباء،
ألقاهم كل مساء في عش المحبوبة حين أعود إلى الدار
عربـيٌّ، عربـيٌّ، عربـيٌّ،
أشهد، أَشهد، أَشهد بالعار
ص110
لكن المختار لم يكن في كل مراحل قصيدته متشائما حد اليأس، فهو يحس ان امرا ما سيحدث، وان مبادرات ستتم، وان التقاء عربـيٌّا لا بد له ان يكون :
عربـيٌّ، والليلة يغمرني عشقك ايتها المعبوده
يا كل نجوم سماوات الكون أضيئي
ما عدت بعيده
أضيئي يا كل كواكبنا في الأرض .
فهذي الليلة مشهوده ص110-111
هذا هو المختار، لقد اصبح مقتنعا بأن وحدة الأمة العربية هي الطريق إلى الخلاص، وأنها البوابة المفضية إلى خلاص كل العرب :
آه يا منقذة النفط من السراق، ومنقذة الصحراء
آه يا منقذة الفقراء
أَشهدُ انك آتية ذات ربيع أو ذات شتاء
وسيكنس نورك وجه الأرض الشرقية
وتكونين لنا مِنَّا والجنسية عربـيٌّه.
هذه بإيجاز شديد بعض استعمالات المختار الشعبية منها والشعرية، للتعبير عن رؤيته وتحولاته واستقراره المتحفّز. فقد انطلق من ألَمِ الغربة ووحشة المكان، وانتهى إلى التأهب لاستقبال الربيع بكل أمل وثقة. ولكن، ولكن رحلة العمر توقفت عند الأمل فكأني به استعجل الأمر، إذ بدا له أن ليس للعرب من أَمل في وحدتهم، فقرّر مغادرة حياتهم تاركا لهم حلما كبيرا. أن تكون أمة واحدة، وأن يكون المصير مشتركا وواحدا ؛ بحيث يستطيع العربـيٌّ أن يشعر من خلاله بانسانيته حتى يتسنى له معانقة العالم بروح تطفح سلاما ومحبة، فهل يتحقق له ذلك ؟ أما المختار اللغماني فكان رحيله يوم التاسع من جانفي 1979 بمستشفى شارل نيكول بالعاصمة.
 


https://soulihmida.wordpress.com/2014/12/10/%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AE%D8%AA%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A8%D8%A7%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B9%D8%A8%D9%8A%D8%A9/ 

Aucun commentaire: