vendredi 28 octobre 2016

كتاب عبيد بلا أغلال – للدكتور حاكم المطيري





عبيدٌ بلا أغلال

“لقد كان ومايزال القصور في تصور الواقع السياسي سمة رئيسة لدى العلماء وخصوصًا في الجزيرة العربية، بالإضافة إلى عامة الناس، ولمعالجة أزمة الهوية لدى الإنسان في الخليج، ألفتُ هذا الكتاب”.
هكذا أفادنا الشيخ الدكتور حاكم المطيري، عن ظروف وأسباب تأليفه لهذا الكتاب، وذلك في لقاء معه بمنزله يوم الثلاثاء الموافق 27 ديسمبر.
كتاب الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربي
للدكتور/ حاكم عبيسان المطيري
عدد الصفحات: 387
الكتاب مازال إلكترونيًا، وموجود بصيغة PDF
يطرقُ الدكتور حاكم المطيري في كتابه هذا موضوعًا حساسًا لم يتم التطرق إليه من قبل، إنها أزمة الهوية التي يُعاني منها الإنسان في الخليج والجزيرة العربية منذ تقريبًا 90 عامًا.
عبر 30 مقال اختصر فيها الدكتور العبيسان كتابه هذا، ليخرجَ لنا بكتاب “عبيد بلا أغلال“، وهو كتاب دسم سواء على مستوى الموضوع، أو على مستوى الصدمات التاريخية الوارِدة في الكتاب، حيث يستعرض جذور أزمة الهوية في الجزيرة العربية، وأسبابها، وتجلياتها.
لقد تم طمس هوية الإنسان الخليجي وتاريخه وتراثه، واختُزِلَ كل ذلك في تاريخ وهوية وتراث الأنظمة الحاكمة، والتي هي بالأساس مجرد استثناء طارئ على تاريخ ومسيرة الخليج والجزيرة العربية.
وتعرضت “هوية” الإنسان هنا إلى التشظي لهويات متعددة مُصطنعَة، رُغمَ أنها بالأساس هوية واحدة دينيًا وقوميًا وتاريخيًا وجغرافيًا وثقافيًا.
ولم تستطع الهوية “القُطرية” المُستحدثة أن تُمثّل هذا المجتمع الصغير، أو تملأ الفراغ الناتِج عن عملية التجزئة….فالهوية “الوطنية” لا تُعبرُ إلا عن فئة محدودة من مكونات كل بلد خليجي، وهي الفئة الحاكمة وحاشيتها.
وعبر المقالات التاريخية السياسية، وبمعالجة موضوعية، يُفند الدكتور العبيسان، ذلك الزيف التاريخي الذي نُلقّنه في المدارس عن تاريخ منطقتنا، وهويتها، وتُراثها….لقد كنا نتعرض للخديعة الكبرى.
لقد كان واقعًا سياسيًا غير الذي نُقِل إلينا، لقد كنا أمة واحدة، شعبًا واحدًا، بلدًا واحدًا، تاريخًا واحدًا، إلا أن مشروع التجزئة الذي نفذته القوى الاستعمارية عبر عملاءها في المنطقة، الذين تحولوا لاحقًا ليُصبحوا سادة وشرفاء في التاريخ “المزيف”، جعل المنطقة تدخل في مسار تاريخي جديد، مسار مازلنا ضائعين فيه، ونتلقى الصدمات والهزائم مرة تلو مرة.
لعل من أبرز تجليات أزمة الهوية هو ضعف هذه الأنظمة، وعدم اعتمادها على نفسها في الحماية، ولعل ذلك يفيدُ حقًا في نفي أي مبرر لقيامها من الأساس، فهذه الكيانات تحكم شعوبًا، دينها واحد، وقوميتها واحدة، وتاريخها واحد، ولم تكن هناك حدود في تاريخ هذه المنطقة من آلاف السنين، بل كانت “بدعة” أتى بها المستعمر ليُجزئ المنطقة، وبناء على ذلك، ينتفي أي سبب موضوعي منطقي لقيام هذه الدول الآيلة للسقوط في أي لحظة عند انعدام الحليف أو لنقل الحاضن الغربي الآمر والناهي لها.
لقد تم تعليمنا في المدارس أن الكويت-مثلاً- لم تكن تابعة للدولة العثمانية، إلا أن هذا الكتاب يدحض هذه المغالطات التاريخية، ويؤكد أن الكويت كانت قائمقامية تابعة لقضاء البصرة، وكان حكام الكويت منذ منتصف القرن التاسع عشر موظفين لدى الدولة العثمانية برتبة “قائمقام”، وكانوا يتقاضون راتبًا شهريًا، بل وأكثر من ذلك مساندة الكويت للحملة العثمانية على الإحساء واستخدام سفن أهل الكويت لنقل العتاد والسلاح، بل ومساهمة الكويتيين الشخصية في تلك الحملة، أيضًا رفض أهل الكويت لأوامر مبارك الكبير لمساندة صديقه الشيخ خزعل ضد الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى.
وفي الأدبيات التاريخية، بل وبالممارسات السياسية، يتم تصوير أبناء القبائل على أنهم عنصر “دخيل” على هذه الكيانات، ونُفاجَأ بالكتاب هذا ينفي لنا هذه التهمة، ويُبين لنا امتداد أراضي القبائل التاريخية منذ مئات السنين، والتي تم اقتطاعها وسرقتها منهم بالقوة، لبناء هذه الكيانات المصطنعة على يد الإنجليز.
ولم يقتصر الأمر على استخدام السلاح أو المال في تنفيذ مشروع التجزئة، والذي أفضى لقضية الحرية وأزمة الهوية، بل تعدى الأمر ليخترق جدار الدين، حيث تم استخدام فتاوى وآراء فقهية معينة، لتبرير قيام هذه الأنظمة، وحمايتها من أي مشروع وحدوي يعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، ووضعها السليم.
لقد كانت ومازالت مأساة أمة قُطِّعَت، وجُزّئت، في ثنايا المقالات أدركت مقدار جناية هذه الأنظمة على هوية الإنسان الخليجي، وبالذات البدوي، الذي فصلته عن سياقه التاريخي والجغرافي، وأسبغت عليه وصفًا شاذًا جديدًا، فليس هو بابن البلد-الكيان المصطنَع- وليس هو مواطن له ما للحاكم من حقوق، وعليه ما على الحاكم من واجبات، بل هو مجرد عنصر دخيل، وبكرمٍ من الأمير هنا أو هناك… أصبح تابِعًا، بل وعبدًا مقيدًا بلا أغلال مادية ظاهرة، بل أغلال فكرية وثقافية…. ودينية، تقعدُ به عن كل عمل، وتعجزه عن كل نشاط ليصلِحَ واقعه، ويبني مستقبله، ولذلك جاء هذا الكتاب، مساهمة من العبيسان لتصحيح ومعالجة أزمة الهوية.
باختصار، هذا الكتاب-وهو مجرد اختصار- يكشف الزيف التاريخي الممنهج الذي تتبعه الأنظمة في الخليج، ويؤكد على وحدة شعوب وأراضي الخليج والجزيرة العربية، وأننا مازلنا في غياهب أزمة الهوية التي وجدَت من رحم كيانات غير شرعية.
إشارة أخيرة:
أشكر الدكتور حاكم المطيري على استضافته لنا، وإكرامنا بوجبة العشاء، وسعة صدره لاستفساراتنا.


بسم الله الرحمن الرحيم

عبيد بلا أغلال
بقلم أ.د. حاكم عبيسان المطيري

لقراءة الكتاب بصيغة pdf


لقراءة الكتاب بصورة مقالات

الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية

الخليجيون واستلاب الهوية

الخليجيون بين احتلالين

الحملات الصليبية على الخليج والجزيرة العربية

مشروع حكومة الهند البريطانية للسيطرة على الجزيرة العربية وتقسيمها


احتلال بريطانيا للخليج وتوقيع معاهدات الحماية وفتاوى علماء نجد

المخطط البريطاني لاحتلال الكويت ثم الرياض

(عبيد بلا أغلال)
(١)
الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية
أ.د.حاكم المطيري
٢٠١١/٢/١٨
الحمد لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعده، وبعد..
يواجه شعب الخليج والجزيرة العربية اليوم تحديات كبيرة، وإشكالات خطيرة، تنذر بأن الأزمة قد تتفجر في أي لحظة ما لم يتم تداركها، وهي أزمة عميقة تضرب جذورها في صميم الهوية لشعب الخليج والجزيرة العربية، وحقه في المواطنة والحرية على أرضه وأرض آبائه وأجداده، حيث بات العرب في جزيرتهم وخليجهم يعيشون أزمة (الهنود الحمر)، تحت ظل الاستعمار الأمريكي، وقبله البريطاني لأرضهم، وتصرفه في شئونهم، وفرضه حلفاءه على المنطقة وشعوبها بقوة الحديد والنار، منذ سنة 1900م، وما زال المشهد كما هو منذ ذلك التاريخ إلى اليوم، حيث تفاجأ الخليجيون حين استفاقوا بأنهم (عبيد بلا أغلال)، فهم مواطنون بلا حرية، وشعب بلا هوية، وهو ما يوجب فتح ملف هذه القضية:
فما هي هوية شعب الخليج والجزيرة العربية؟
ومن الذي يشكّل هذه الهوية اليوم؟
وما مظاهر الأزمة والإشكالية التي يعيشها؟
وما أثر أزمة الهوية على الحرية السياسية وحقوق المواطنة؟
وما طبيعة العلاقة بين شعب الخليج والجزيرة العربية والأنظمة الحاكمة؟
وكيف قامت هذه العلاقة؟ ومتى قامت؟ ومن الذي أقامها؟ ومن الذي يحميها؟
ولم قامت على أساس التبعية والرعوية للحاكم، لا على أساس المواطنة للدولة؟
وعلى أي أساس كسبت الحكومات في دول الخليج العربي مشروعيتها؟
وهل هي تمثل الشعوب أم تمثل الأسر الحاكمة؟
وبأي حق دستوري أو شرعي يتمتع الآلاف من أفراد هذه الأسر والعشائر الحاكمة بكل الامتيازات بينما تحرم منها شعوبها؟
وعلى أي أساس يتم ارتهان حاضر شعب الجزيرة والخليج ومستقبله ومصالحه وثرواته وأوطانه للقوى الاستعمارية بقرار فردي، دون أن يكون لشعبها أي حق في تقرير مصيره؟
ومن الذي يسوس شئون المنطقة منذ سنة 1900م إلى اليوم؟
وما هو دور الحكومات الخليجية في تنفيذ ما يرسم لها؟
ولم تجمد الحراك السياسي في الخليج والجزيرة العربية حتى كاد يحتضر؟
ولم تعطل النمو الاقتصادي والنشاط المالي حتى كاد يختنق؟
ومن الذي يتحكم في الحراك السياسي والاجتماعي والاقتصادي؟
وكيف استطاعت بعض دول الخليج وضع دساتير صورية، وبرلمانات شكلية، وصناعة معارضة وهمية، لإضفاء الشرعية الدستورية على الحكم الأسري العشائري باسم الديمقراطية؟!
هذه بعض الأسئلة التي تحاول هذه الدراسة الإجابة عنها، بعد أن عالجت في كتابي (الحرية أو الطوفان)، وكتابي (تحرير الإنسان)، إشكالية الخطاب السياسي التاريخية والعقائدية، والأزمة التي تعيشها الأمة اليوم فكريا وثقافيا ودينيا حتى صارت من أكثر الأمم قابلية للاستعمار الخارجي، وخضوعا للاستبداد الداخلي، فرأيت أن الواقع السياسي أيضا يحتاج هو إلى دراسة تحليلية، إذ الخطاب السياسي الديني والثقافي السائد في المنطقة اليوم ما هو إلا استجابة ونتاج لهذا الواقع السياسي، فللأنظمة الحاكمة اليد الطولى في تشكيله وصناعته وتسويقه وترويجه، لترسيخ هذا الواقع باسم الدين، وليتم إضفاء الشرعية عليه، من خلال تحالفها مع حركات دينية باتت جزءا من هذه الأنظمة، تعمل لحسابها، وبدعمها المالي والسياسي، على حساب الشعوب وحقوقها وحريتها واستقلالها التي ما تزال ترزح تحت أبشع صور العبودية والطغيان السياسي الخارجي والداخلي؟
فكان هذا الكتاب الذي يكشف أبعاد أزمة الهوية، وأثرها على الحرية السياسية، وغياب حقوق المواطنة، ويعالج هذه الإشكالية، التي تتجلى في أوضح صورها في العبودية المطلقة التي يعيشها ويخضع لها الملايين من العرب الأقحاح على أرضهم وأرض أجدادهم في الخليج والجزيرة العربية، وفي الأغلال التي وضعت في أعناقهم منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم، وفي التغيير الديمغرافي السكاني الذي تعرضت وتتعرض له جزيرتهم لتكريس هذا الواقع السياسي، ليكتشفوا بعد ثمانين سنة أنهم ليسوا مواطنين في دولهم، وليسوا شعوبا كباقي شعوب العالم، بل هم رقيق يعيشون في إقطاعيات أقامها الاستعمار الغربي، يعيشون فيها عبيدا على أرضهم، ويتم بيعهم وشراؤهم والتصرف فيهم في أسواق النخاسة العالمية، دون الرجوع إليهم، حتى غدا أفقر شعوب العالم العربي وأضعفها أقدر على التأثير في واقعه السياسي، وأقدر على المدافعة والممانعة للتدخل الأجنبي في شئونه، من ثلاثين مليون عربي خليجي، في جزيرة العرب، ليس لهم في تقرير مصيرهم أدنى رأي!
فكانوا كما قال الأول:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم
ولا يستأذنون وهو شهود !
فهم عبيد من حيث لا يشعرون، بعد أن اعتادوا على العبودية وأشربوها، وهم الشعوب الوحيدة في العالم كله التي لا تشارك - بل ولا يُرى لها حق - في اختيار حكوماتها ولو اختيارا صوريا، لأنه لا حق أصلا لها - في نظر الأنظمة الحاكمة - في الأرض فضلا عن السلطة والثروة والحرية وكافة حقوق المواطنة؟
وهي الشعوب الوحيدة في العالم التي ما تزال تُحكم بأنظمة أسرية حكما شموليا مطلقا، في بلدان هي أشبه بالإقطاعيات والعبيد منها بالدول والشعوب؟
وهي الشعوب الوحيدة التي تُمنح وتُحرم من حقوق المواطنة بجرة قلم دون أي ضمانات دستورية وقانونية - ولا حتى حق اللجوء للقضاء - تحمي هذه الشعوب من طغيان الأنظمة الحاكمة؟
وهي الشعوب الوحيدة في العالم التي ترتبط بالأنظمة الحاكمة، لا بالأرض والدول التي تعيش عليه؟
وهي الشعوب الوحيدة في العالم كله التي تشكل الأسر الحاكمة ثلث أو نصف الوزراء في حكوماتها، وتستأثر بكل وزارات السيادة دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض؟
وهي الشعوب الوحيدة في العالم التي تستأثر الأنظمة الحاكمة لها بما يقارب ثلث دخل النفط كحق طبيعي، دون أن يجرؤ أحد على محاسبتها، حتى بلغت ثرواتها الخاصة أكثر من (2ترليون) ألفي مليار دولار في الداخل والخارج؟
وهي الدول الوحيدة في العالم التي يحصل فيها أبناء العشائر الحاكمة - ويبلغون الآلاف - على مخصصات مالية منذ الولادة إلى الوفاة كحق مشروع من الثروة دون أي عمل أو جهد؟
هذا مع العلم بأن عامة الخليجيين مدينون للبنوك بالقروض الربوية المملوك أكثرها للأسر الحاكمة نفسها، حيث بلغت نسبة المدينين من الشعب الكويتي وحده 97 % كما تؤكده الإحصائيات والدراسات!
وهي الشعوب الوحيدة في العالم التي لم تعرف في تاريخها مشكلة الاستعمار ولا مفهوم التحرير والاستقلال؟
وهي الشعوب الوحيدة في العالم التي احتلها الاستعمار البريطاني مدة قرن كامل وحكمها بخمسة موظفين، وخرج منها دون أن يواجه حرب تحرير شعبية أو ثورة استقلالية، ولا تختزن ذاكرتها الجماعية أي بطولات أو أبطال للتحرير والاستقلال؟
وهي الشعوب الوحيدة في العالم التي تخضع اليوم للاستعمار العسكري الأمريكي المباشر، والذي يتخذ منها قاعدة لاحتلال الدول الأخرى والسيطرة عليها، دون أن تشعر هذه الشعوب بمشكلة أو تعيش إشكالية؟
كل هذه الأسئلة المطروحة لا يمكن معرفة أجوبتها، ولا اكتشاف أسبابها وعللها، إلا بقراءة واعية لتاريخ المنطقة وتاريخ شعوبها، لمعرفة كيف قامت دولها، وما دور الحملة الصليبية الغربية الثامنة منذ الحرب العالمية الأولى في تشكيلها، ورسم حدودها، وفرض هذا الواقع عليها، وكيف نجحت حكوماتها بتوجيه من القوى الاستعمارية في خلق ثقافة دينية إسلامية تدافع عنها وتتعايش معها، وتقبل هذا الواقع بكل ما فيه من إشكاليات وتناقضات لتقف حاجزا منيعا أمام كل قوى التغيير الوطني والقومي والإسلامي لصالح الاستعمار الأجنبي والاستبداد الداخلي، ولتظل شعوب المنطقة منذ الحرب العالمية الأولى إلى اليوم تعيش حالة (فقدان الذاكرة)، وتتداولها أيدي الدول الغربية الصليبية الاستعمارية وحملاتها العسكرية البريطانية ثم الأمريكية بمباركة من الثقافة الدينية؟!
هذا وقد قمت بتقسيم الدراسة إلى :
1- الباب الأول: إطلالة تاريخية ومقدمات ضرورية عن إشكالية الهوية ومفهوم الحرية.
الفصل الأول: تاريخ الخليج والجزيرة منذ ظهور الإسلام إلى العهد العثماني.
الفصل الثاني: قيام الدويلات المذهبية في الخليج والجزيرة العربية.
الفصل الثالث: الحملات الصليبية على الخليج والجزيرة العربية.
الفصل الرابع: الأوضاع السياسية والإدارية للخليج والجزيرة العربية في الدولة العثمانية.
الفصل الخامس: المكونات الاجتماعية الرئيسية ونفوذها ومناطق وجودها.
2- الباب الثاني: تاريخ دويلات الطوائف في الخليج والجزيرة العربية:
الفصل الأول: ظهور دويلات الطوائف في الخليج والجزيرة العربية.
الفصل الثاني: الحرب العالمية الأولى مقدماتها وتداعياتها.
الفصل الثالث: مشروع الثورة العربية والمملكة العربية المتحدة.
الفصل الرابع: مؤتمر القاهرة سنة 1920م وتأسيس دويلات الطوائف.
الفصل الخامس: تجليات أزمة الهوية.
وقد التزمت في هذا الدراسة أن لا أورد فيها من الأحداث إلا ما ثبت وقوعه ثبوتا قطعيا بالأدلة التاريخية الموثوقة كتابيا، وأن أتجنب التحليل والاستنتاج، قدر الإمكان، وأن أقتصر على الربط بين الحوادث كما هي، وذلك بالرجوع إلى عشرات المصادر التي ذكرتها، خاصة الوثائق البريطانية والعثمانية ووثائق حكومة الهند البريطانية، وحيث تواتر ذكر الحادثة في أكثر من وثيقة مختلفة المصدر والجهة، فلا أطمئن لذكر حادثة ما لم تؤكدها جهات عدة مختلفة، كالوثائق العثمانية والبريطانية إذا ذكرتا أو أشارتا إلى حادثة معينة.
ولا يتصور واهمٌ أن حجية الوثائق البريطانية مطعون فيها، إذ تلك الوثائق إنما كان يكتبها المسئولون البريطانيون لحكومتهم، ويرصدون فيها أحداث المنطقة التي احتلوها وأصبحوا يديرونها مدة قرن تقريبا، وكانوا يرونها جزءا من مستعمراتهم التابعة لهم، فهم أدرى بمجريات حوادثها، ولا يوجد ما يحملهم على تزييف الحقائق، إذ سبب نجاحهم في السيطرة عليها هو عنايتهم بتدوين كل حدث يجري بموضوعية وعلمية ليساعدهم ذلك على اتخاذ القرار الصحيح لبسط نفوذهم على المنطقة، فهم حين كتبوا تاريخ المنطقة لم يكتبوه كمؤرخين، وإنما كتبوه لرؤسائهم كمسئولين يديرون شؤون مناطق خاضعة لهم، وأكثرها ظلت وثائق سرية لديهم حتى مضى زمنها الذي يخشى من الإعلان عنها فيه!
وإنما المقصود عندي هو عرض تاريخ المنطقة كما هو، لا كما زيفته الثقافة الرسمية التي اصطنعها الاستعمار الغربي للمنطقة، في حملته الصليبية الثامنة على العالم الإسلامي منذ الحرب العالمية الأولى، وقد ترتب على هذا التزييف تداعيات سياسية خطيرة ما زالت شعوب المنطقة تدفع ثمنها إلى اليوم، ولعل من أشدها خطرا أزمة الهوية التي يعيشها (الهنود السمر) اليوم في جزيرة العرب، ليصبحوا اليوم غرباء على أرضهم وأرض أجدادهم وموطنهم منذ عدنان وقحطان، لا لشيء إلا لأنهم فقدوا الذاكرة الجماعية، بعد عقود من الطغيان والتضليل الثقافي والإعلامي الذي مارسه كبار دهاقنة السياسة والثقافة المأجورين باسم الوطنية تارة، والديمقراطية تارة أخرى، والدين تارة ثالثة!
هذا وأسأل الله أن يعجل بفرجه لهذه الأمة المنكوبة، والشعوب المنهوبة، وحقوقها المسلوبة، كما أسأله سبحانه التوفيق والسداد في القول والعمل، وأن يجعل عملي هذا خالصا لوجهه الكريم، وهو سبحانه ولي التوفيق.
ملحوظة : هذه المقالات مختصرة من كتابي (عبيد بلا أغلال) بما يناسب عامة القراء، أما تفصيل الأحداث فإلى حين صدور الكتاب مطبوعا كاملا، وإلى صدور أيضا كتابي الموسوعي الوثائقي (الدويلات الصليبية في الخليج والجزيرة العربية)!



(عبيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (2)
(تزييف الوعي الخليجي)
أ.د.حاكم المطيري
٢٠١١/٢/٢٢
ولعل أبرز مظاهر أزمة الهوية التي يعيشها الخليجيون تتمثل في :
· طمس الهوية :
وهو مظهر خطير من مظاهر أزمة الهوية التي يعيشها الخليجيون، فالتاريخ والثقافة والعلم والمعرفة كلها عوامل رئيسة في صياغة هوية المجتمع، وهذه العوامل تتعرض منذ عقود للتزييف والاختزال والنحت والعبث من خلال مؤسسات الدولة القطرية التعليمية والإعلامية والثقافية، حيث تقوم تلك المؤسسات بممارسة دور خطير في تضليل النشء وتزييف الوعي الجمعي، لخلق هوية وطنية جديدة يكون الولاء فيها للأنظمة الحاكمة، لا للدولة بمفهومها الشامل الذي يعني الأرض والشعب والسلطة، ولتكريس الطبقية والفئوية باسم الوطنية المزعومة، لإضفاء الشرعية على كل ممارساتها غير المشروعة!
فتاريخ دول الخليج العربي اليوم لا يمت لتاريخ شعب الخليج وجزيرة العرب بصلة، فهو يحكي فقط تاريخ الأسر الحاكمة – ودون مصداقية أيضا - أكثر مما يحكي تاريخ شعوبها، حتى أصبحت شعوب الخليج تعيش حالة أشبه بفقدان الذاكرة، فتاريخها يبدأ من تاريخ الأسر الحاكمة وتدور أحداثه كلها حولها، فهي التاريخ والشعب والوطن والدولة، وهي قطب الرحى ولا شيء غيرها!
و كل ذلك من أجل ترسيخ هوية ترضى بالخضوع المطلق لسلطة هذه الأسر، والاعتراف بمشروعية استفرادها بالسلطة والثروة، بناء على حقها التاريخي المزعوم في الأرض كما تروجه الثقافة الوطنية الجديدة!
وقد عبر عن هذه الأزمة الثقافية السياسي الكويتي المخضرم الدكتور أحمد الخطيب بقوله (فتاريخ الكويت تعرض للتزوير والتدجيل وألغي دور الشعب الكويتي كليا، وأصبحت الكويت كلها وتاريخها تاريخ عائلة الصباح). [1]
وما ذكره الأستاذ الخطيب هو نصف الحقيقة أيضا وليس كل الحقيقة التي غاب نصفها في كتاب الخطيب نفسه، إذ تحدث في كتابه عن تاريخ الكويت المدينة فقط، لا تاريخ الكويت الدولة التي اتسعت لتشمل مناطق واسعة من الصحراء وقبائلها التي كان لها أكبر الأثر السياسي في أحداث المنطقة وفي تشكل كيان دويلاتها المعاصرة، كما سيأتي معنا في الوثائق التاريخية، ومن يقرأ مثلا تاريخ الكويت الذي يدرس في المدارس والمعاهد بل وفي الجامعة يجد أنه يقتصر فقط على تاريخ مدينة الكويت التي يحيطها السور، التي لم تكن مساحتها تتجاوز ميل في ميل إلى ما قبل الاستقلال بمدة قصيرة، بينما يتم - عن قصد - طمس تاريخ سكانها الذين كانوا فيها منذ مئات السنين وما زالوا يعيشون على أرضها حسب حدودها الدولية التي تبلغ نحو 18000ك م، أي ثمانية عشر ألف ضعف مساحة المدينة!
فالقبائل التي تجوب صحراءها، وتاريخها، ومنازلها، وآبارها، وحروبها، كل ذلك ليس من تاريخ الكويت الرسمي، فعندما نتحدث عن شخصية تاريخية مشهورة كراكان بن حثلين مثلا وعن تاريخه - وهو الذي خاض أشهر معاركه على أرض الكويت وفي صحرائها كملح والمطلاع والوفرة والصبيحية – نجد أن كل ذلك ليس جزءا من تاريخ الكويت الدولة!
بينما يحدثنا التاريخ عن أحداث سياسية كبرى جرت في صحراء الكويت ومنها :
(وقد نزل العجمان بقيادة راكان بن حثلين على الوفرة، ثم على الصبيحية قرب الكويت سنة 1261هـ ـ 1845م، ودارت بينهم وبين عبد الله بن فيصل بن تركي بن سعود، ومعه مطير، عدة حروب).[2]
وقد أغار عبد الله بن فيصل سنة 1276هـ ـ 1859م، على العجمان وكانوا قد(نزلوا الصبيحية، الماء المعروف بقرب الكويت، فوجد عبد الله بن فيصل العجمان متفرقين على الصبيحية، والجهراء، والوفرة، فأغار على من كان نازلا على الوفرة ليلا فاكتسحهم، ثم أغار على من كان نازلا على الصبيحية وأخذ أموالهم، وكان راكان بن فلاح رئيس العجمان نازلا على ملح، ولم يعلم بما كان على قومه إلا بعد الغارة عليهم، والتحم الفريقان وانهزم راكان ببقية العجمان)[3].
وكان شيخ الكويت آنذاك صباح الثاني بن جابر الأول، فلجأ العجمان إلى مدينة الكويت[4]، ولما رجع عبد الله بن فيصل خرج رؤساء العجمان من مدينة الكويت وتوجهوا إلى كاظمة - قرب الجهراء - حيث كانت تنزل قبيلة الظفير وقبيلة المنتفق ونزلوا معهم، وتحالفوا على التعاون ضد كل من يقصدهم بسوء، وأخذوا يغيرون على نجد والبصرة وحدثت بينهم وبين والي البصرة حرب شديدة كانت الهزيمة فيها على العجمان والمنتفق.[5]
وقد نزل العجمان والمنتفق بعدها على الجهراء بعد أن تحالفوا، وتوجه إليهم عبد الله بن فيصل بجيوشه والتقوا في المطلاع وحصل بين الفريقين قتال شديد وغرق منهم في البحر خلق كثير، وأقام عبد الله بن فيصل في الجهراء مدة ثم ارتحل[6]، وقد قيل بأنه أطلق على المطلاع - اسم مكان مشهور قرب الجهراء - هذا الاسم لطلوع ابن حثلين منه حين حوصر، وقال أبياته المشهورة:
يالله يا وين المطير جمعين والثالث بحر
وفي السنة التي بعدها نزل العجمان على ماء كبد، وعلى الجهراء، ومعهم المرة، ونزلت مطير، وبني هاجر، وبني خالد، وقحطان، وسبيع، على ماء الوفرة، وقدم عبد الله بن فيصل، وأغار على العجمان، وذلك في سنة 1277هــ 1860م، وأقام عبد الله على الجهراء يقسم الغنائم[7].
وفي هذه المعركة يقول العلامة أحمد بن مشرف الإحسائي يمدح عبد الله بن فيصل:
فوافق في (الجهرا) جموعا توافرت
من البدو أمثال البحار الزواخر
(سبيعا) وجيشا من (مطير) عرمرم
ومن آل قحطان جموع الهواجر
ولا تنس جمع (الخالدي) ففيهـم
قبائل شتى من عقيل وعامـر
فصبح قوما(بالصبيحية)اعتدوا
بسمر القنا والمرهفات البواتر
بكاظمة حيث التقى جيش خالد
بهرمز نقلا جاءنا بالـتواتر
فلما أتى الجهراء ضاقت بجيشه
وجالت به الفرسان بين العساكر
وقد كان مع العجمان بعض من قبيلة المرة في إحدى معاركهم مع عبد الله بن فيصل على ماء الصبيحية، وفيها يقول العلامة أحمد بن مشرف الإحسائي :
فصبح قوما في الصبيحية اعتدوا
وقادهم والبغي من شأنه غدر
قبائل عجمان ومنهم شـوامـر
ومن لحسين ينتمون وما بروا
وطائفة (مريـة) غير عـذبة
خلائقها بل كل أفـعالها مر
كما لجأ عبد الله بن فيصل بعد خروج أخيه سعود عليه في الرياض إلى قبيلة قحطان(الهواجر)، وكانوا على آبار الصبيحية بقرب الكويت، وذلك سنة1290هــ1873م[8]!
فهذه بعض الحوادث التاريخية - وسيأتي تفصيلها لاحقا – التي وقعت في صحراء الكويت وسكانها الموجودين فيها قبل وجود مدينة الكويت نفسها!
بل وتم تصوير الحروب التي حدثت بين المدينة والقبائل المجاورة لها الموجودة على أرض الكويت ضمن حدودها الدولية - فيما بعد - على أنها حروب بين الكويت الدولة وأعدائها الخارجيين، لا على أنها حروب أهلية داخلية بين سكان المدينة وسكان الصحراء الذين يعيشون جميعا ضمن حدود الكويت الدولة، عندما كانت المنطقة كلها تتبع دولة واحدة وشعبا واحدا ووطنا واحدا هي الخلافة العثمانية!
ووصل الأمر بالتضليل الإعلامي وتزييف الوعي وتحريف التاريخ بأن يقوم بعض كبار أساتذة علم الاجتماع بإضفاء الشرعية الأكاديمية على هذا التضليل والتزييف، بادعاء أن القبائل التي تمثل اليوم أكثر من نصف المجتمع هي عنصر دخيل على سكان الكويت، وأنها تشكل خطرا على قيمه وثقافته المدنية الحضرية بقيمها الصحراوية القبلية، دون تفريق بين الكويت المدينة بسورها، والكويت الدولة بحدودها، التي أصبحت تضم ضمن حدودها أراضي القبائل العربية الموجودة في صحرائها قبل قيام المدينة نفسها، وقبل هجرة آل صباح، كما سيأتي بالوثائق، وقد أدى هذا الاختزال والتزييف والطمس المقصود إلى نتائج خطيرة تمثلت في مصادرة حقوق هذه الفئات وانتقاص حريتها وعدها عنصرا دخيلا طارئا لا يحق له ما يحق لغيره من المشاركة في السلطة والثروة والوظائف العامة بدعوى أنهم مواطنون من درجة ثانية وثالثة، مع أنهم هم السكان الأصليون للأرض، لتنشأ أزمة شبيهة بأزمة الهنود الحمر، الذي جاءهم الأوربيون المهاجرون، ليصبحوا السكان الأصليين، والهنود غرباء على أرضهم وأرض أجدادهم!
هذا في الوقت الذي تؤكد كل الوثائق - وسيأتي كشفها بالتفصيل - أن من أقدم القبائل التي استقرت في كاظمة قبيلة مطير فقد جاء إلى كاظمة - كما يؤكد ذلك والي بغداد مدحت باشا في مذكراته - (قبل خمسمائة سنة جماعة من قبيلة مطير) وقد كان مدحت والي بغداد سنة 1870م[9].
ويتألف سكان مدينة الكويت الأصليون من القبائل العربية، كبني خالد، والدواسر، والعجمان، وعنزة، وبعض البحارنة، أما المنطقة الداخلية - أي الصحراوية - للكويت فكان يسكنها البدو كالرشايدة، والعوازم[10].
إنه لا يذكر اليوم في تاريخ الكويت للطلبة في المدارس والجامعات إلا غزو قبيلة مطير للجهراء - وكأن القبيلة تحارب دولة وشعبا ووطنا لا مدينة ومشيخة معها على الأرض نفسها، وكلهم يتبع الخلافة والدولة العثمانية - بينما لا يذكر التاريخ المعاصر أن القبيلة نفسها هي التي استنجد بها محمد الصباح سنة 1892م لحمايته من ابن رشيد، حيث ارتحلت بعض عشائرها بقيادة ماجد بن الحميدي الدويش، ونزلت قرب مدينة الكويت، وحالت - كما سيأتي معنا -دون احتلال ابن رشيد لها؟!
وما يحدث من طمس وتزييف لتاريخ الكويت يحدث مثله في تاريخ شعوب دول الخليج الأخرى، حتى باتت الهوية الوطنية هوية ممسوخة لا تحفظ في ذاكرتها سوى تاريخ الأسر الحاكمة، ولمدة تاريخية لا تتجاوز سنة 1900م، أي منذ بداية المشروع الاستعماري البريطاني للمنطقة، والذي كان وراء إسقاط الخلافة العثمانية وتقسيم أقاليمها، وإقامة دويلات الطوائف الحديثة عليها، وتحديد حدودها في سنة 1922م، وإقامة حكوماتها، وحمايتها، وترسيخها.
لقد تم اختزال تاريخ شعب الجزيرة والخليج العربي الذي هو من أقدم شعوب العالم، وأكثرها تجانسا، وأعمقها أثرا في التاريخ الإنساني، خاصة منذ ظهور الإسلام في الجزيرة العربية، الذي ظل جزء لا يتجزأ من تاريخ الدولة والخلافة الإسلامية التي حكمت المنطقة كجزء من العالم الإسلامي، بل أهم أجزائه على الإطلاق حيث الحرمين الشريفين، إلى أن سقطت الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، إن هذا التاريخ الطويل لشعب المنطقة بأحداثه وأبطاله وقبائله ومدنه طول 1300عام من تاريخ العرب المسلمين، كل ذلك تم اختزاله في تاريخ الدويلات الست التي لم يكن لها وجود كدول قبل الحرب العالمية الأولى!
· تشظي الهوية وتشرذمها :
كما تكمن أهمية الهوية وخطورتها في أنها تمثل أقوى عوامل الوحدة، فهي الرابط المشترك الموحد الذي يصهر في بوتقته كل من يعيشون في إطارها، ولعل من أبرز مظاهر أزمة الهوية التي يعيشها الخليجيون - كحال كل الشعوب العربية - هو عجز الهوية الوطنية عن إثبات مبررات وجودها، فالكويتي حين يسافر من وطنه ويقف على الحدود ساعات طويلة فيدخل السعودية أو قطر أو البحرين أو الإمارات أو عمان يكتشف أنه مازال في وطنه وبين أهله لم يغادرهم، ولا يجد أي فرق بين هذه الدول، كما لا يشعر أنه أجنبي فيها، بل إن كل أسرة في الكويت وكل قبيلة فيها تمتد في كل دول الخليج بلا استثناء، إذ هي منطقة جغرافية واحدة، وشعب واحد، ولغة واحدة، ودين واحد، وتاريخ واحد، وعادات واحدة، ولا يوجد أي مبرر منطقي لتقسيمها إلى ستة شعوب، وست دول، وست حكومات، اللهم إلا إرادة القوى الاستعمارية التي اقتضت مصالحها تقسيم المنطقة على هذا النحو العبثي الفوضوي الذي يناقض كل حقائق الجغرافيا، والتاريخ، والديمغرافيا، لا لسبب إلا لتحقيق السيطرة الاستعمارية عليها!
لقد فشلت كل الحكومات الخليجية فشلا ذريعا في أن تعبر عن هوية شعوبها تعبيرا حقيقيا صادقا، كما فشلت الهوية الوطنية القطرية في أن تكون بديلا عن الهوية القومية العربية والإسلامية حين تتقاطع معها، لكون الهوية الوطنية لا تمثل إلا فئة اجتماعية محدودة جدا من مكونات شعوب الخليج العربي وهي الفئة الحاكمة وحاشيتها ولا تعبر عن هوية جميع مكونات المجتمع.
لقد أصبحت الهوية الوطنية أشبه بالمولود الخداج الذي يولد مشوها غير قادر على الحياة مهما حاولت الحكومات الخليجية بكل وسائل الإعلام والتعليم نفخ روح الحياة فيه، لأنها هوية تعيش إشكالية الاستلاب وإشكالية الانتقاص وإمكانية مصادرتها بجرة قلم ليصبح الكويتي ليس كويتيا، والقطر ليس قطريا، والسعودي ليس سعوديا، إنها هوية مسخ تمنح وتسلب، وتنتقص وتستكمل، وتطرأ عليها عوامل النحت والتعرية والتزييف، بخلاف الهوية القومية، فما يميز الهوية العربية أنها تولد مع الإنسان العربي وتعيش معه دون أن يستطيع أي نظام سياسي أن يتحكم فيها أو يمنحها أو يسلبها، بل إن العربي لا يستطيع أن ينفك عن هويته القومية ولا خيار له فيها، فالعربي يظل عربيا في أي مكان وزمان، سواء في الوطن أو في المهجر، وسواء في ظل هذا النظام أو ذاك النظام، وسواء ظلت الخريطة البريطانية التي قسمت العالم العربي، أو تم تغييرها وتوحيدها في المستقبل، بخلاف الهوية القطرية التي قد تزول في أي لحظة، وقد لا نجد في المستقبل بلدا اسمه السعودية أو الكويت أو الإمارات أو البحرين، ولا هوية سعودية ولا كويتية ولا إماراتية، إلا إنه لن تزول جزيرة العرب، أو العرب كأمة، وسيظل العرب الذين يعيشون في الخليج والجزيرة عربا أقحاحا كما كانوا منذ أقدم عصور التاريخ، ومنذ عهد آبائهم عدنان وقحطان وإسماعيل وإبراهيم، وستظل هويتهم العربية والإسلامية هي الهوية التي تجمعهم وتعبر عن كيانهم كشعب وأمة واحدة، بخلاف الهويات الوطنية التي جعلت منهم رعايا وتابعين في دويلات الطوائف التي هي أشبه بالإقطاعيات منها بالدول، وليصبح العرب الخليجيون فيها أشبه بالعبيد منهم بالأحرار، مما يجعل الحديث عن تعزيز الحرية والديمقراطية في المنطقة حديث خرافة وترف ثقافي في ظل أزمة الهوية وإشكالية المواطنة التي تعيشها شعوب الخليج العربي في ظل دويلات الطوائف الحالية .
وللحديث بقية ..



[1] الكويت من الإمارة إلى الدولة للخطيب ص 16.
[2] عقد الدر 27 .
[3] تحفة المشتاق 338 ، وتحفة المستفيد 158 .
[4] تاريخ الكويت للرشيد 127 .
[5] تاريخ الكويت السياسي 1/124 .
[6] تحفة المشتاق 339 ، وتاريخ الكويت لخزعل 1/124 .
[7] تاريخ الفاخري 222 ، وعقد الدرر 33-35 .
[8] عقد الدرر 75 .
[9] مذكرات والي بغداد مدحت باشا ص 238، وتاريخ الكويت للرشيد ص31 .
[10] بريطانيا والخليج العربي لجون كيلي 1/57 .



(عبيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (3)

(الخليجيون بين احتلالين)
د.حاكم المطيري
يتردد سؤال خطير في جنبات الساحة الثقافية والسياسية الخليجية ما سبب هذه السلبية التي تعيشها شعوب المنطقة؟ وما هذه الروح الممسوخة التي تعيق شعوبها عن الحراك كما يجري في كل بلدان العالم العربي؟
وهو سؤال مشروع يحتاج إلى فهم عميق لتاريخ المنطقة والتشوهات الفكرية والدينية والثقافية التي تعرض لها الإنسان العربي الخليجي!
لقد كان للاستعمار البريطاني منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى اليد الطولى في رسم خريطة المنطقة على هذا النحو الحالي، وتقسيم الخليج العربي إلى دويلات تخدم مصالحه الاستعمارية، وبعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ضعف النفوذ البريطاني وازدياد النفوذ الأمريكي حلت أمريكا محل بريطانيا في المنطقة، بعد أن سلمت بريطانيا العهدة للولايات المتحدة التي أصبحت تعد الخليج والجزيرة العربية منطقة استراتيجية حيوية بالنسبة لها، وقد تزامن دخولها مع ازدياد موجة التحرر والاستقلال في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنها استطاعت بالعمل الدبلوماسي، والضغط السياسي، والنفوذ الاقتصادي، السيطرة على المنطقة من جديد بشكل غير مباشر، وقد كانت اتفاقية (كامب ديفد) مع مصر أول خطوة على طريق عودة الاستعمار المباشر للمنطقة، ثم كانت حرب الخليج الأولى، ثم الثانية، سببا رئيسا في لجوء دول المنطقة إلى عقد معاهدات الحماية مع أمريكا التي ظلت تتحين الفرصة للسيطرة على العراق، فلم تجد إلا اللجوء إلى الحرب والاحتلال العسكري المباشر، تماما كما فعلت بريطانيا التي بدأت سيطرتها على المنطقة بمصر سنة 1882، ثم بالخليج العربي عن طريق معاهدات الحماية، وانتهت بالسيطرة على العراق بالقوة العسكرية بعد ثلاثين سنة، من 1882 إلى 1916م، وهي تقريبا نفس المدة التي احتاجتها أمريكا لإكمال سيطرتها على المنطقة منذ كامب ديفد مع مصر سنة 1978م، إلى احتلال العراق سنة 2003؟!
لقد باتت الجزيرة العربية اليوم تحت سيطرة الاستعمار الأمريكي الجديد بشكل جلي مباشر سياسيا وعسكريا من خلال القواعد العسكرية التي تحيط بالجزيرة والخليج العربي وتوجد في جميع دوله، وهو ما يعني فقدان السيادة والاستقلال لعدم تكافؤ القوى بين الطرفين الحامي والمحمي، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي السابق نيكسون إلى تأكيد أهمية السيطرة على المنطقة عسكريا بقوله(سيتحتم على أمريكا أن تتولى مسئولية ضمان أمن الخليج بقوتها العسكرية، وأن نواصل تكديس المواد مسبقا، ويفرض الواجب علينا تعزيز تسهيلات الإنزال البحري والجوي للقوات الأمريكية في منطقة الخليج العربي)[1].
وتعود الأسباب التي أدت إلى قابلية شعوب الخليج والجزيرة للاستعمار الأجنبي الأول البريطاني والثاني الأمريكي إلى:
1-حكم الفرد الذي رسخته بريطانيا في المنطقة، وغياب الحرية، والاستبداد السياسي الذي صادر حق الأمة في المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية، وتهميش حق الشعوب في الرقابة على السلطة وممارساتها السياسية واتفاقياتها الدولية، وتخلي الأمة عن القيام بما أوجب الله عليها في مجال اختيار السلطة، ومشاركتها المسؤولية والرأي، ومراقبتها، ومحاسبتها في كل ما تأتي وتذر وهو أول وهن دخل على الأمة سهل للاستعمار التنفذ تدريجيا في شؤون المنطقة.
2-قابلية شعوب المنطقة للخضوع للاستبداد الداخلي جعلها أكثر قابلية للخضوع للاستعمار الخارجي وأكثر تأقلما معه، ولهذا لم تعرف المنطقة حركة تحرر وطني من الاستعمار البريطاني الذي سيطر على المنطقة كلها مدة قرن كامل، ولم تجد الشعوب والحكومات خلالها مشكلة في وجوده والتعامل معه وخدمته، كما تؤكد ذلك وثائق الخارجية البريطانية، على خلاف الوضع في أكثر دول العالم آنذاك التي رفضت شعوبها الاستعمار وتصدت له حتى تحررت وحصلت على استقلالها!
لقد تأقلمت شعوب المنطقة سريعا مع الاستعمار البريطاني آنذاك نفسيا وثقافيا، واستطاع المندوب البريطاني أن يدير وحده شئون الخليج والجزيرة والعراق دون كبير عناء؟!
ولعل أخطر ما في الأمر نجاح الاستعمار في توظيف بعض علماء الدين المسلمين في خدمته وخدمة مخططاته الاستعمارية، وإضفاء الشرعية عليها، والتعامل معه كمعاهد لا كمستعمر؟
لقد كانت الروح القومية في ستينات القرن الماضي هي التي كان لها أكبر الأثر في استثارة الشعوب في الجزيرة العربية ضد الوجود الاستعماري في المنطقة في الوقت الذي استطاع الاستعمار والحكومات الحليفة له تدجين الدين وعلمائه وتحطيم الروح الإسلامية التي ترفض رفضا قاطعا الخضوع للأجنبي وترى الدخول تحت حكمه وسيطرته كفرا يخرج من الإسلام ويصطدم بأصوله القطعية؟
لقد تحدث دكسون المسئول البريطاني في الخليج عن أثر المد القومي على شعوب المنطقة فقال:(والمؤسف في ذلك كله أنه في الوقت الذي يتزايد فيه شعور الشبان المتطرفين القوميين ضد الأجانب وضد البريطانيين بصورة خاصة، فإن عرب الصحراء القدامى وكبار تجار المدينة النافذين الذين مازالوا يحبون ويحترمون الإنجليز بدءوا يتحولون ببطء ضد الغربيين لأسباب تختلف تماما، فهؤلاء وهم مؤمنون متدينون يرون في التأثير الغربي بماديته خطرا يهدد عاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم وديانتهم.... وهكذا نجد أن العربي المرح! الذي ينتمي للمدرسة القديمة أصبح ضد الأجنبي على الرغم من أن الأسباب الموجبة لهذا الشعور ليست مماثلة للأسباب الدافعة لأبناء الجيل الجديد؟!) [2].
ويظهر جليا من كلام دكسون قابلية المجتمعات الخليجية المحافظة للاستعمار والخضوع للأجنبي التي تكنّ له مشاعر الحب والاحترام! وأن تحول هذه المشاعر لم يكن بسبب رفضها للاستعمار أو تطلعها للحرية والاستقلال، بل السبب خوفها من قيم الغرب المادية على عاداتها ودينها لكونها مجتمعات مؤمنة متدينة؟! وأنه لولا المد القومي في العالم العربي آنذاك الذي ألقى بظلاله على المنطقة كلها ودفع الشباب في المجتمعات الخليجية للتطلع للحرية والاستقلال لما تغيرت أوضاع المنطقة عما هي عليه قبل ذلك، إذ كان عرب الصحراء وكبار التجار المؤمنون المتدينون يكنون للمستعمر مشاعر الحب والاحترام، ولم تحل ثقافتهم الإسلامية، ولا تدينهم دون الخضوع للأجنبي واحترامه ومحبته مدة قرن كامل بعد تدجين الحكومات دين المجتمع وثقافته على يد بعض رجال الدين أنفسهم، لتصبح المجتمعات أكثر قابلية واستعدادا للخضوع للاستبداد من جهة والاستعمار من جهة أخرى وإضفاء الشرعية على ذلك الواقع باسم الدين؟!
وما زالت هذه العقدة هي المتحكم في الوعي الجمعي وبالخطاب ديني، فالخليجيون بعلمائهم ودعاتهم وشيوخ دينهم لا يهمهم كثيرا أن تبقى القواعد الأجنبية في المنطقة، ولا يهمهم أصلا أن تكون حكوماتهم تحت النفوذ الأجنبي، ولا يهمهم كثيرا أن تنهب ثروات المنطقة، بقدر ما يهمهم المحافظة على تقاليدهم وعاداتهم!
فهم يخشون أن تؤثر الحضارة الغربية فيهم وفي سلوك شبابهم ونسائهم أشد من خشيتهم على استقلال دولهم، لأنهم أصلا لا يشعرون فيها بالمواطنة، ومن ثم لا يهمهم استقلت أم اضمحلت!
وهذا ما يفسر لنا سبب تقبل المجتمعات الخليجية عودة الاستعمار الأمريكي وقواعده العسكرية وسيطرته السياسية من جديد على شؤون المنطقة كلها بعد ضعف التيار القومي وانحساره بعد الغزو العراقي للكويت سنة 1990م ونجاح الاستعمار مرة ثانية في توظيف الدين الإسلامي في خدمته بصدور الفتاوى التي تضفي الشرعية على وجوده وتحرم رفضه أو مقاومته ولو بالكلمة الحرة والوسائل السلمية، حتى خرج دعاة الفتنة باسم السنة وبإيعاز من السلطة ليقولوا للخليجين (أمريكا لا تمثل خطرا على ديننا إنما جاءت للنفط فقط وهو لا يهمنا مادام دين محفوظ)؟!
3-عدم إدراك هذه الشعوب أوضاع دول المنطقة إدراكا حقيقيا وأنها ما زالت منذ وجدت صناعة استعمارية من الألف إلى الياء، بل عدم معرفة ماهية الاستعمار وطبيعته، وعدم استشعار وجوده، وعدم معرفة أساليبه، وقد تحدث العلامة السيد محمود شاكر الحسيني عن وسائل الاستعمار البريطاني لمصر فقال(دخلت بريطانيا بلادنا غازية سنة 1882م، وادعت أنها جاءت لكي توطد لنا أركان عرشنا، وتطفئ نار الفتنة العرابية - نسبة إلى قائدها أحمد عرابي - كما يسمونها، وزعمت أن بقاءها لن يطول، فلم تمض خمسة أيام حتى ألغت الجيش المصري، ومزقت البحرية المصرية، وأغلقت مصانع السلاح، وسرحت الجنود، وجردت الضباط الصغار من رتبه، وقدمت كبار الضباط للمحاكمة، ووضعت الشرطة كلها تحت سيطرتها المباشرة، وتتبعت الأحرار الذين اشتركوا في الثورة، فقبضت عليهم أو شردتهم..)[3].
إن وجود الحكومات الصورية في نظر الخليجيين كاف في نفي وجود الاستعمار في الثقافة الزائفة! دون إدراك أن الاستعمار أحرص منهم على بقاء مثل هذه الحكومات لتنفيذ مخططاته من خلالها، وأن الأمر كما يقول محمود شاكر(يجب أن نفرق بين الشعب والحكومة، فالحكومة في البلاد المنكوبة بالاحتلال جزء من نظام الاستعمار، ولو زعمت أنها مستقلة في تصريف سياستها، ومن خداع النفس أن يتصور إنسان أن الحكومة تمثل إرادة الشعب، وبخاصة إذا ثبت ثبوتا قاطعا أن جميع حكومات الاستعمار، لم تستنكف أن تعاونه مرات، وأن تخضع لما أراد أن يخضعها له، وأن تبقى في مناصب الحكم وهي تعمل بأمره وتخطب في هواه، فالحكومة والشعب شيئان مختلفان في عهد الاستعمار، وكل معاهدة بين الحكومة والاستعمار باطلة من أساسها، لأنها معاهدة بين المستعمر وصنيعته، لا تتعدى أن تكون معاهدة عقدها المستعمر بينه وبين نفسه) [4].
4-قدرة الاستعمار على توظيف الدين في خدمته بشكل مباشر أو من خلال توجيه الحكومات للمنابر العلمية، والتعليمية، بل وحتى المساجد، نحو ما يريده الاستعمار، وكما استطاع الاستعمار الفرنسي في الجزائر توظيف علماء الدين المسلمين والطرق الصوفية في خدمته، وتحويل المنابر العلمية إلى منافذ للاستعمار الثقافي تحرم مقاومته وتجيز الخضوع له باسم الدين، تارة بدعوى طاعة أولي الأمر[5]، وتارة بدعوى المصلحة، وتارة بدعوى عدم القدرة على مواجهته، ومن ثم سقوط الواجب، بل وحرمة المقاومة بدعوى وقوع المفاسد...الخ
ومثلما نجح البريطانيون في توظيف بعض المرجعيات الشيعية والسنية في العراق بعد احتلاله في الحرب العالمية الأولى، كما قالت (المس بيل) التي كانت المسئول الأول البريطاني لإدارة شئون العراق بعد احتلاله في الحرب العالمية الأولى(كما إن الذين اشتركوا منا بالدراما (المسرحية) سوف لن ينسوا العضد والمؤازرة اللذين قدمهما لنا كل من النقيب - السيد عبد الرحمن الكيلاني نقيب بغداد السني - والسيد محمد كاظم اليزدي -المرجع الشيعي الأعلى - على أن فائدة الدرويش - أي النقيب الصوفي - مثل فائدة المجتهد - أي المرجع الشيعي - في هذا الشأن لها حدودها، حيث لم يكن بوسع كل منهما أن يكون في المقدمة، أو أن يجازف بتحمل النقد)[6].
كذلك استطاع الاستعمار الأمريكي الجديد في الخليج العربي من خلال الحكومات توظيف الدين، والحركات الإسلامية، والقوى السياسية، والمدارس السلفية، والحوزات الشيعية، في خدمته، وإضفاء الشرعية على وجوده، وتحريم مقاومته، تارة بدعوى أن له حكم المعاهد! وتارة بدعوى طاعة ولي الأمر؟! وتارة بدعوى عدم القدرة على مقاومته!
لقد استطاع الاستعمار أن يوظف الدين في كل خطوة يخطوها في المنطقة ابتداء من الإفتاء بمشروعية الصلح مع إسرائيل، ثم الإفتاء بتحريم العمليات الاستشهادية في فلسطين، ثم الإفتاء بمشروعية المنع من الدعاء على الأعداء في المساجد، دون إدراك خطورة تدخل الاستعمار إلى هذا الحد في مساجد المسلمين وعباداتهم، وخطورة توجيه ثقافة المجتمع من خلال المساجد نحو ما يخدم وجوده، ويزيل الحاجز النفسي الرافض له، ثم تبرير تطوير المناهج التعليمية لحذف كل ما يعزز روح المقاومة للوجود الأجنبي، ثم صدور الفتاوى في تجريم كل من يتعرض لهذا الوجود واتهامه بالإرهاب - بينما لا يصدر في المقابل ما يدعو إلى إخراجه ولو بالطرق السلمية، ولا ما يندد بجرائمه ضد المسلمين في كل مكان - ثم في صدور الفتاوى التي تبرر مشروعية ضرب أفغانستان، ثم الإفتاء بمشروعية إعانته على احتلال العراق[7]!
وهكذا استطاع الاستعمار توظيف الإسلام ذاته في إضفاء الشرعية على وجوده وممارساته وتجريم مقاومته ولو بالطرق السلمية!
5-ضعف الحس القومي والوطني لدى شعوب المنطقة وهو ما أدى إلى قبول الوجود الأجنبي لغياب الروح القومية التي ترفض بطبيعتها أي وجود أجنبي على أرضها، وكذا ضعف الحس الوطني الذي يربط الأفراد بأرض الوطن حيث لا يشعر الخليجيون بارتباطهم بأوطانهم بسبب الثقافة القبلية الصحراوية من جهة، حيث الشعور بالانتماء إلى القبيلة مع امتدادها في عدة دول أقوى من الشعور بالانتماء للوطن المصطنع الذي قسم القبيلة الواحدة ومزق كيانها، وبسبب شعورهم باكتساب جنسياتهم بالمنح لا بالاستحقاق، وأن حصولهم عليها ونزعها من حق الحكومات التي لم يكن له وجود ولا حدود إلا في ظل الاستعمار البريطاني، بينما وجود الشعوب على هذه الأرض يمتد إلى آلاف السنين وكلها تعود إلى أصل واحد، فأصبحت بعد الاستعمار وقيام الدول الحديثة لا تشعر بالمواطنة لها، إذ لا تمثل هذه الدول قوميات محددة، ولا تعبر عن هوية حقيقية لهذه القبائل التي توجد على أرض الجزيرة والخليج العربي منذ آلاف السنين؟!
ولم تستطع هذه الكيانات المصطنعة إيجاد هوية وطنية بديلة تعزز الانتماء إليها، ومع ضعف الحس القومي من جهة، والحس الوطني لشعوب المنطقة من جهة أخرى، لم يستطع الحس الديني أن يحول دون قبول الوجود الأجنبي بسبب إمكانية تأويل الدين وتوظيفه، وهو ما لا يمكن مع الشعور القومي والوطني حال وجوده، ولهذا نجح الشيخ عمر المختار في ليبيا، والسيد عبد القادر الجزائري، والشيخ المجاهد عبد الكريم الخطابي والسيد المهدي، في قيادة القبائل في ليبيا والجزائر والمغرب والسودان في حرب تحرير ضد الاستعمار بالروح الدينية، والحمية الإسلامية، وهي الروح التي تم السيطرة عليها اليوم بالخطاب الديني في الجزيرة والخليج العربي، كما سبق للحكومات السيطرة على الروح القومية في الخمسينيات من القرن الماضي لصالح المشروع الاستعماري!
6-انعدام التاريخ النضالي لشعوب المنطقة في العصر الحديث، وعدم وجود القيادات التاريخية المعاصرة التي تلهم الأجيال الجديدة، وتلهب حماسها، وتكون نبراسا لها على طريق الحرية، فعدم قيام حركات تحرر ضد الاستعمار البريطاني جعل ذاكرة المجتمع الخليجي خلوا وصفرا تماما من ثقافة المقاومة، وثقافة الرفض للاستعمار التي يمكن استثمارها لصالح حركة تحرر ضد الاستعمار الجديد، ففي الوقت الذي تحفظ فيه ذاكرة الشعب الجزائري والمصري والمغربي والسوداني والليبي والسوري مئات الأبطال والقيادات التاريخية التي تصدت للاستعمار كعمر المختار، ومصطفى كامل، وأحمد عرابي، وعبد القادر الجزائري، وعبد الكريم الخطابي، ويوسف العظم، وعبد القادر الحسيني...الخ بالإضافة إلى عشرات المواقف البطولية، والحروب الجهادية ضد الاستعمار، تخلو في المقابل ذاكرة شعوب الخليج والجزيرة العربية من كل ذلك، بل صار صنائع الاستعمار الصليبي هم الأبطال التاريخيين للمجتمعات الخليجية على نمط بطولة كرزاي في أفغانستان والجعفري والجلبي والمالكي في العراق؟!
7-غياب الوعي السياسي وعدم معرفة المنطقة بالأحزاب السياسية والعمل الجماعي المنظم، ورفض ثقافة المجتمع لها باسم الدين أيضا، مع أنه لا يمكن أن تقوم حركة تحرر ضد الاستعمار، ولو بالضغط السياسي السلمي إلا بتنظيمات سياسية تعمل على حشد الجماهير لتنتظم صفوفها خلفها، وتجعل هدفها إخراج الاستعمار، والعمل على تحقيق استقلالها عن الوجود الأجنبي، ولو عن طريق المقاومة السلمية.
8-تشرذم المنطقة وشعبها الواحد إلى سبع دويلات في الجزيرة العربية التي هي مهد العروبة ومهبط الإسلام الذي جاء بالتوحيد، بعد أن كانت قبل الحرب العالمية إقليما واحدا تابعا للخلافة العثمانية!
وقد استطاع الاستعمار البريطاني، ترسيخ هذا الواقع ليسهل عليه السيطرة على المنطقة كلها وفق سياسة فرق تسد، وازداد الوضع تعقيدا بتقبل الشعوب هذا الواقع وتأقلمها معه، مع عدم شرعيته، ومع خطورته، فلم يعد لشعوب المنطقة التي تمثل شعبا واحدا وأرضا واحدة منذ آلاف السنين أي قدرة على تغيير واقعها إلى الأفضل، مع أن تعدادها مع اليمن يبلغ أكثر من خمسين مليون نسمة، وتحولت الجزيرة كلها إلى أكبر قاعدة عسكرية تنطلق منها أكبر الحملات الصليبية على العالم العربي والإسلامي دون أن يكون لشعوبها أي أثر في مجريات الأحداث؟!
فهذه الأسباب الثمانية ساهمت كلها في خلق أزمة الهوية ومن ثم شيوع الروح الانهزامية والسلبية السياسية والقابلية للاستعمار، والقابلية للاستبداد، وقد أدت كل هذه الأسباب إلى سهولة سقوط المنطقة مرة ثانية تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي بشكل مباشرة، بعد أن استطاعت أن تتخلص منه إلى حد كبير منذ سبعينات القرن العشرين، تأثرا منها بالأوضاع الخارجية، كالمد القومي الذي اجتاح العالم العربي كله، وحركة تحرر الشعوب واستقلال الدول بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يقتضي دراسة تاريخ شعوب المنطقة وأطوارها التي مرت بها حتى آلت بها الحال إلى ما هي عليه اليوم من سلبية سياسية، لفهم أبعاد هذه الإشكالية..
وللحديث بقية ..




[1] ما وراء السلام ص 155 .
[2] الكويت وجاراتها ( 2/273) .
[3] جمهرت مقالات محمود شاكر الجزء الثاني ص 916 ، وقد قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بعد احتلال العراق سنة 2003م والسيطرة على الخليج العربي بالكامل، باتباع نفس السياسة القديمة، فتم حل الجيش العراقي، وتم إلغاء التجنيد الإجباري في الكويت، وتم تقليص عدد أفراد السلك العسكري في كل دول الخليج، وتم إلغاء قوات درع الجزيرة العربية!
[4] المصدر السابق ص 961.
[5] انظر تفاصيل هذا الموضوع في كتاب (دور العلماء في ثورة الجزائر) للنعيمي.
[6] فصول من تاريخ العراق للمس بيل ص 471. وراجع مذكرات بريمر الحاكم العسكري للعراق سنة 2003م وغيره من المذكرات التي تتحدث عن خدمات مراجع الدين في العراق لمشروع الاحتلال!
[7] انظر فتوى عميد كلية الشريعة بجامعة الكويت محمد الطبطبائي في صحيفة الوطن عدد 9734 بتاريخ 16/3/2003 حول وجوب القتال مع الجيش الأمريكي في حرب احتلال العراق وأن القتال معهم من الجهاد في سبيل الله، ثم فتواه بعد ذلك بأن ما تقوم به المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال هو إرهاب!
وانظر فتاوى عبد المحسن العبيكان في القنوات الفضائية والصحف السعودية حول الموضوع ذاته!


(عبيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (3)

(الخليجيون بين احتلالين)
د.حاكم المطيري
يتردد سؤال خطير في جنبات الساحة الثقافية والسياسية الخليجية ما سبب هذه السلبية التي تعيشها شعوب المنطقة؟ وما هذه الروح الممسوخة التي تعيق شعوبها عن الحراك كما يجري في كل بلدان العالم العربي؟
وهو سؤال مشروع يحتاج إلى فهم عميق لتاريخ المنطقة والتشوهات الفكرية والدينية والثقافية التي تعرض لها الإنسان العربي الخليجي!
لقد كان للاستعمار البريطاني منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى اليد الطولى في رسم خريطة المنطقة على هذا النحو الحالي، وتقسيم الخليج العربي إلى دويلات تخدم مصالحه الاستعمارية، وبعد الحرب العالمية الثانية، وبعد ضعف النفوذ البريطاني وازدياد النفوذ الأمريكي حلت أمريكا محل بريطانيا في المنطقة، بعد أن سلمت بريطانيا العهدة للولايات المتحدة التي أصبحت تعد الخليج والجزيرة العربية منطقة استراتيجية حيوية بالنسبة لها، وقد تزامن دخولها مع ازدياد موجة التحرر والاستقلال في العالم كله بعد الحرب العالمية الثانية، غير أنها استطاعت بالعمل الدبلوماسي، والضغط السياسي، والنفوذ الاقتصادي، السيطرة على المنطقة من جديد بشكل غير مباشر، وقد كانت اتفاقية (كامب ديفد) مع مصر أول خطوة على طريق عودة الاستعمار المباشر للمنطقة، ثم كانت حرب الخليج الأولى، ثم الثانية، سببا رئيسا في لجوء دول المنطقة إلى عقد معاهدات الحماية مع أمريكا التي ظلت تتحين الفرصة للسيطرة على العراق، فلم تجد إلا اللجوء إلى الحرب والاحتلال العسكري المباشر، تماما كما فعلت بريطانيا التي بدأت سيطرتها على المنطقة بمصر سنة 1882، ثم بالخليج العربي عن طريق معاهدات الحماية، وانتهت بالسيطرة على العراق بالقوة العسكرية بعد ثلاثين سنة، من 1882 إلى 1916م، وهي تقريبا نفس المدة التي احتاجتها أمريكا لإكمال سيطرتها على المنطقة منذ كامب ديفد مع مصر سنة 1978م، إلى احتلال العراق سنة 2003؟!
لقد باتت الجزيرة العربية اليوم تحت سيطرة الاستعمار الأمريكي الجديد بشكل جلي مباشر سياسيا وعسكريا من خلال القواعد العسكرية التي تحيط بالجزيرة والخليج العربي وتوجد في جميع دوله، وهو ما يعني فقدان السيادة والاستقلال لعدم تكافؤ القوى بين الطرفين الحامي والمحمي، وهو ما دعا الرئيس الأمريكي السابق نيكسون إلى تأكيد أهمية السيطرة على المنطقة عسكريا بقوله(سيتحتم على أمريكا أن تتولى مسئولية ضمان أمن الخليج بقوتها العسكرية، وأن نواصل تكديس المواد مسبقا، ويفرض الواجب علينا تعزيز تسهيلات الإنزال البحري والجوي للقوات الأمريكية في منطقة الخليج العربي)[1].
وتعود الأسباب التي أدت إلى قابلية شعوب الخليج والجزيرة للاستعمار الأجنبي الأول البريطاني والثاني الأمريكي إلى:
1-حكم الفرد الذي رسخته بريطانيا في المنطقة، وغياب الحرية، والاستبداد السياسي الذي صادر حق الأمة في المشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية، وتهميش حق الشعوب في الرقابة على السلطة وممارساتها السياسية واتفاقياتها الدولية، وتخلي الأمة عن القيام بما أوجب الله عليها في مجال اختيار السلطة، ومشاركتها المسؤولية والرأي، ومراقبتها، ومحاسبتها في كل ما تأتي وتذر وهو أول وهن دخل على الأمة سهل للاستعمار التنفذ تدريجيا في شؤون المنطقة.
2-قابلية شعوب المنطقة للخضوع للاستبداد الداخلي جعلها أكثر قابلية للخضوع للاستعمار الخارجي وأكثر تأقلما معه، ولهذا لم تعرف المنطقة حركة تحرر وطني من الاستعمار البريطاني الذي سيطر على المنطقة كلها مدة قرن كامل، ولم تجد الشعوب والحكومات خلالها مشكلة في وجوده والتعامل معه وخدمته، كما تؤكد ذلك وثائق الخارجية البريطانية، على خلاف الوضع في أكثر دول العالم آنذاك التي رفضت شعوبها الاستعمار وتصدت له حتى تحررت وحصلت على استقلالها!
لقد تأقلمت شعوب المنطقة سريعا مع الاستعمار البريطاني آنذاك نفسيا وثقافيا، واستطاع المندوب البريطاني أن يدير وحده شئون الخليج والجزيرة والعراق دون كبير عناء؟!
ولعل أخطر ما في الأمر نجاح الاستعمار في توظيف بعض علماء الدين المسلمين في خدمته وخدمة مخططاته الاستعمارية، وإضفاء الشرعية عليها، والتعامل معه كمعاهد لا كمستعمر؟
لقد كانت الروح القومية في ستينات القرن الماضي هي التي كان لها أكبر الأثر في استثارة الشعوب في الجزيرة العربية ضد الوجود الاستعماري في المنطقة في الوقت الذي استطاع الاستعمار والحكومات الحليفة له تدجين الدين وعلمائه وتحطيم الروح الإسلامية التي ترفض رفضا قاطعا الخضوع للأجنبي وترى الدخول تحت حكمه وسيطرته كفرا يخرج من الإسلام ويصطدم بأصوله القطعية؟
لقد تحدث دكسون المسئول البريطاني في الخليج عن أثر المد القومي على شعوب المنطقة فقال:(والمؤسف في ذلك كله أنه في الوقت الذي يتزايد فيه شعور الشبان المتطرفين القوميين ضد الأجانب وضد البريطانيين بصورة خاصة، فإن عرب الصحراء القدامى وكبار تجار المدينة النافذين الذين مازالوا يحبون ويحترمون الإنجليز بدءوا يتحولون ببطء ضد الغربيين لأسباب تختلف تماما، فهؤلاء وهم مؤمنون متدينون يرون في التأثير الغربي بماديته خطرا يهدد عاداتهم وأخلاقهم وتقاليدهم وديانتهم.... وهكذا نجد أن العربي المرح! الذي ينتمي للمدرسة القديمة أصبح ضد الأجنبي على الرغم من أن الأسباب الموجبة لهذا الشعور ليست مماثلة للأسباب الدافعة لأبناء الجيل الجديد؟!) [2].
ويظهر جليا من كلام دكسون قابلية المجتمعات الخليجية المحافظة للاستعمار والخضوع للأجنبي التي تكنّ له مشاعر الحب والاحترام! وأن تحول هذه المشاعر لم يكن بسبب رفضها للاستعمار أو تطلعها للحرية والاستقلال، بل السبب خوفها من قيم الغرب المادية على عاداتها ودينها لكونها مجتمعات مؤمنة متدينة؟! وأنه لولا المد القومي في العالم العربي آنذاك الذي ألقى بظلاله على المنطقة كلها ودفع الشباب في المجتمعات الخليجية للتطلع للحرية والاستقلال لما تغيرت أوضاع المنطقة عما هي عليه قبل ذلك، إذ كان عرب الصحراء وكبار التجار المؤمنون المتدينون يكنون للمستعمر مشاعر الحب والاحترام، ولم تحل ثقافتهم الإسلامية، ولا تدينهم دون الخضوع للأجنبي واحترامه ومحبته مدة قرن كامل بعد تدجين الحكومات دين المجتمع وثقافته على يد بعض رجال الدين أنفسهم، لتصبح المجتمعات أكثر قابلية واستعدادا للخضوع للاستبداد من جهة والاستعمار من جهة أخرى وإضفاء الشرعية على ذلك الواقع باسم الدين؟!
وما زالت هذه العقدة هي المتحكم في الوعي الجمعي وبالخطاب ديني، فالخليجيون بعلمائهم ودعاتهم وشيوخ دينهم لا يهمهم كثيرا أن تبقى القواعد الأجنبية في المنطقة، ولا يهمهم أصلا أن تكون حكوماتهم تحت النفوذ الأجنبي، ولا يهمهم كثيرا أن تنهب ثروات المنطقة، بقدر ما يهمهم المحافظة على تقاليدهم وعاداتهم!
فهم يخشون أن تؤثر الحضارة الغربية فيهم وفي سلوك شبابهم ونسائهم أشد من خشيتهم على استقلال دولهم، لأنهم أصلا لا يشعرون فيها بالمواطنة، ومن ثم لا يهمهم استقلت أم اضمحلت!
وهذا ما يفسر لنا سبب تقبل المجتمعات الخليجية عودة الاستعمار الأمريكي وقواعده العسكرية وسيطرته السياسية من جديد على شؤون المنطقة كلها بعد ضعف التيار القومي وانحساره بعد الغزو العراقي للكويت سنة 1990م ونجاح الاستعمار مرة ثانية في توظيف الدين الإسلامي في خدمته بصدور الفتاوى التي تضفي الشرعية على وجوده وتحرم رفضه أو مقاومته ولو بالكلمة الحرة والوسائل السلمية، حتى خرج دعاة الفتنة باسم السنة وبإيعاز من السلطة ليقولوا للخليجين (أمريكا لا تمثل خطرا على ديننا إنما جاءت للنفط فقط وهو لا يهمنا مادام دين محفوظ)؟!
3-عدم إدراك هذه الشعوب أوضاع دول المنطقة إدراكا حقيقيا وأنها ما زالت منذ وجدت صناعة استعمارية من الألف إلى الياء، بل عدم معرفة ماهية الاستعمار وطبيعته، وعدم استشعار وجوده، وعدم معرفة أساليبه، وقد تحدث العلامة السيد محمود شاكر الحسيني عن وسائل الاستعمار البريطاني لمصر فقال(دخلت بريطانيا بلادنا غازية سنة 1882م، وادعت أنها جاءت لكي توطد لنا أركان عرشنا، وتطفئ نار الفتنة العرابية - نسبة إلى قائدها أحمد عرابي - كما يسمونها، وزعمت أن بقاءها لن يطول، فلم تمض خمسة أيام حتى ألغت الجيش المصري، ومزقت البحرية المصرية، وأغلقت مصانع السلاح، وسرحت الجنود، وجردت الضباط الصغار من رتبه، وقدمت كبار الضباط للمحاكمة، ووضعت الشرطة كلها تحت سيطرتها المباشرة، وتتبعت الأحرار الذين اشتركوا في الثورة، فقبضت عليهم أو شردتهم..)[3].
إن وجود الحكومات الصورية في نظر الخليجيين كاف في نفي وجود الاستعمار في الثقافة الزائفة! دون إدراك أن الاستعمار أحرص منهم على بقاء مثل هذه الحكومات لتنفيذ مخططاته من خلالها، وأن الأمر كما يقول محمود شاكر(يجب أن نفرق بين الشعب والحكومة، فالحكومة في البلاد المنكوبة بالاحتلال جزء من نظام الاستعمار، ولو زعمت أنها مستقلة في تصريف سياستها، ومن خداع النفس أن يتصور إنسان أن الحكومة تمثل إرادة الشعب، وبخاصة إذا ثبت ثبوتا قاطعا أن جميع حكومات الاستعمار، لم تستنكف أن تعاونه مرات، وأن تخضع لما أراد أن يخضعها له، وأن تبقى في مناصب الحكم وهي تعمل بأمره وتخطب في هواه، فالحكومة والشعب شيئان مختلفان في عهد الاستعمار، وكل معاهدة بين الحكومة والاستعمار باطلة من أساسها، لأنها معاهدة بين المستعمر وصنيعته، لا تتعدى أن تكون معاهدة عقدها المستعمر بينه وبين نفسه) [4].
4-قدرة الاستعمار على توظيف الدين في خدمته بشكل مباشر أو من خلال توجيه الحكومات للمنابر العلمية، والتعليمية، بل وحتى المساجد، نحو ما يريده الاستعمار، وكما استطاع الاستعمار الفرنسي في الجزائر توظيف علماء الدين المسلمين والطرق الصوفية في خدمته، وتحويل المنابر العلمية إلى منافذ للاستعمار الثقافي تحرم مقاومته وتجيز الخضوع له باسم الدين، تارة بدعوى طاعة أولي الأمر[5]، وتارة بدعوى المصلحة، وتارة بدعوى عدم القدرة على مواجهته، ومن ثم سقوط الواجب، بل وحرمة المقاومة بدعوى وقوع المفاسد...الخ
ومثلما نجح البريطانيون في توظيف بعض المرجعيات الشيعية والسنية في العراق بعد احتلاله في الحرب العالمية الأولى، كما قالت (المس بيل) التي كانت المسئول الأول البريطاني لإدارة شئون العراق بعد احتلاله في الحرب العالمية الأولى(كما إن الذين اشتركوا منا بالدراما (المسرحية) سوف لن ينسوا العضد والمؤازرة اللذين قدمهما لنا كل من النقيب - السيد عبد الرحمن الكيلاني نقيب بغداد السني - والسيد محمد كاظم اليزدي -المرجع الشيعي الأعلى - على أن فائدة الدرويش - أي النقيب الصوفي - مثل فائدة المجتهد - أي المرجع الشيعي - في هذا الشأن لها حدودها، حيث لم يكن بوسع كل منهما أن يكون في المقدمة، أو أن يجازف بتحمل النقد)[6].
كذلك استطاع الاستعمار الأمريكي الجديد في الخليج العربي من خلال الحكومات توظيف الدين، والحركات الإسلامية، والقوى السياسية، والمدارس السلفية، والحوزات الشيعية، في خدمته، وإضفاء الشرعية على وجوده، وتحريم مقاومته، تارة بدعوى أن له حكم المعاهد! وتارة بدعوى طاعة ولي الأمر؟! وتارة بدعوى عدم القدرة على مقاومته!
لقد استطاع الاستعمار أن يوظف الدين في كل خطوة يخطوها في المنطقة ابتداء من الإفتاء بمشروعية الصلح مع إسرائيل، ثم الإفتاء بتحريم العمليات الاستشهادية في فلسطين، ثم الإفتاء بمشروعية المنع من الدعاء على الأعداء في المساجد، دون إدراك خطورة تدخل الاستعمار إلى هذا الحد في مساجد المسلمين وعباداتهم، وخطورة توجيه ثقافة المجتمع من خلال المساجد نحو ما يخدم وجوده، ويزيل الحاجز النفسي الرافض له، ثم تبرير تطوير المناهج التعليمية لحذف كل ما يعزز روح المقاومة للوجود الأجنبي، ثم صدور الفتاوى في تجريم كل من يتعرض لهذا الوجود واتهامه بالإرهاب - بينما لا يصدر في المقابل ما يدعو إلى إخراجه ولو بالطرق السلمية، ولا ما يندد بجرائمه ضد المسلمين في كل مكان - ثم في صدور الفتاوى التي تبرر مشروعية ضرب أفغانستان، ثم الإفتاء بمشروعية إعانته على احتلال العراق[7]!
وهكذا استطاع الاستعمار توظيف الإسلام ذاته في إضفاء الشرعية على وجوده وممارساته وتجريم مقاومته ولو بالطرق السلمية!
5-ضعف الحس القومي والوطني لدى شعوب المنطقة وهو ما أدى إلى قبول الوجود الأجنبي لغياب الروح القومية التي ترفض بطبيعتها أي وجود أجنبي على أرضها، وكذا ضعف الحس الوطني الذي يربط الأفراد بأرض الوطن حيث لا يشعر الخليجيون بارتباطهم بأوطانهم بسبب الثقافة القبلية الصحراوية من جهة، حيث الشعور بالانتماء إلى القبيلة مع امتدادها في عدة دول أقوى من الشعور بالانتماء للوطن المصطنع الذي قسم القبيلة الواحدة ومزق كيانها، وبسبب شعورهم باكتساب جنسياتهم بالمنح لا بالاستحقاق، وأن حصولهم عليها ونزعها من حق الحكومات التي لم يكن له وجود ولا حدود إلا في ظل الاستعمار البريطاني، بينما وجود الشعوب على هذه الأرض يمتد إلى آلاف السنين وكلها تعود إلى أصل واحد، فأصبحت بعد الاستعمار وقيام الدول الحديثة لا تشعر بالمواطنة لها، إذ لا تمثل هذه الدول قوميات محددة، ولا تعبر عن هوية حقيقية لهذه القبائل التي توجد على أرض الجزيرة والخليج العربي منذ آلاف السنين؟!
ولم تستطع هذه الكيانات المصطنعة إيجاد هوية وطنية بديلة تعزز الانتماء إليها، ومع ضعف الحس القومي من جهة، والحس الوطني لشعوب المنطقة من جهة أخرى، لم يستطع الحس الديني أن يحول دون قبول الوجود الأجنبي بسبب إمكانية تأويل الدين وتوظيفه، وهو ما لا يمكن مع الشعور القومي والوطني حال وجوده، ولهذا نجح الشيخ عمر المختار في ليبيا، والسيد عبد القادر الجزائري، والشيخ المجاهد عبد الكريم الخطابي والسيد المهدي، في قيادة القبائل في ليبيا والجزائر والمغرب والسودان في حرب تحرير ضد الاستعمار بالروح الدينية، والحمية الإسلامية، وهي الروح التي تم السيطرة عليها اليوم بالخطاب الديني في الجزيرة والخليج العربي، كما سبق للحكومات السيطرة على الروح القومية في الخمسينيات من القرن الماضي لصالح المشروع الاستعماري!
6-انعدام التاريخ النضالي لشعوب المنطقة في العصر الحديث، وعدم وجود القيادات التاريخية المعاصرة التي تلهم الأجيال الجديدة، وتلهب حماسها، وتكون نبراسا لها على طريق الحرية، فعدم قيام حركات تحرر ضد الاستعمار البريطاني جعل ذاكرة المجتمع الخليجي خلوا وصفرا تماما من ثقافة المقاومة، وثقافة الرفض للاستعمار التي يمكن استثمارها لصالح حركة تحرر ضد الاستعمار الجديد، ففي الوقت الذي تحفظ فيه ذاكرة الشعب الجزائري والمصري والمغربي والسوداني والليبي والسوري مئات الأبطال والقيادات التاريخية التي تصدت للاستعمار كعمر المختار، ومصطفى كامل، وأحمد عرابي، وعبد القادر الجزائري، وعبد الكريم الخطابي، ويوسف العظم، وعبد القادر الحسيني...الخ بالإضافة إلى عشرات المواقف البطولية، والحروب الجهادية ضد الاستعمار، تخلو في المقابل ذاكرة شعوب الخليج والجزيرة العربية من كل ذلك، بل صار صنائع الاستعمار الصليبي هم الأبطال التاريخيين للمجتمعات الخليجية على نمط بطولة كرزاي في أفغانستان والجعفري والجلبي والمالكي في العراق؟!
7-غياب الوعي السياسي وعدم معرفة المنطقة بالأحزاب السياسية والعمل الجماعي المنظم، ورفض ثقافة المجتمع لها باسم الدين أيضا، مع أنه لا يمكن أن تقوم حركة تحرر ضد الاستعمار، ولو بالضغط السياسي السلمي إلا بتنظيمات سياسية تعمل على حشد الجماهير لتنتظم صفوفها خلفها، وتجعل هدفها إخراج الاستعمار، والعمل على تحقيق استقلالها عن الوجود الأجنبي، ولو عن طريق المقاومة السلمية.
8-تشرذم المنطقة وشعبها الواحد إلى سبع دويلات في الجزيرة العربية التي هي مهد العروبة ومهبط الإسلام الذي جاء بالتوحيد، بعد أن كانت قبل الحرب العالمية إقليما واحدا تابعا للخلافة العثمانية!
وقد استطاع الاستعمار البريطاني، ترسيخ هذا الواقع ليسهل عليه السيطرة على المنطقة كلها وفق سياسة فرق تسد، وازداد الوضع تعقيدا بتقبل الشعوب هذا الواقع وتأقلمها معه، مع عدم شرعيته، ومع خطورته، فلم يعد لشعوب المنطقة التي تمثل شعبا واحدا وأرضا واحدة منذ آلاف السنين أي قدرة على تغيير واقعها إلى الأفضل، مع أن تعدادها مع اليمن يبلغ أكثر من خمسين مليون نسمة، وتحولت الجزيرة كلها إلى أكبر قاعدة عسكرية تنطلق منها أكبر الحملات الصليبية على العالم العربي والإسلامي دون أن يكون لشعوبها أي أثر في مجريات الأحداث؟!
فهذه الأسباب الثمانية ساهمت كلها في خلق أزمة الهوية ومن ثم شيوع الروح الانهزامية والسلبية السياسية والقابلية للاستعمار، والقابلية للاستبداد، وقد أدت كل هذه الأسباب إلى سهولة سقوط المنطقة مرة ثانية تحت سيطرة الاحتلال الأجنبي بشكل مباشرة، بعد أن استطاعت أن تتخلص منه إلى حد كبير منذ سبعينات القرن العشرين، تأثرا منها بالأوضاع الخارجية، كالمد القومي الذي اجتاح العالم العربي كله، وحركة تحرر الشعوب واستقلال الدول بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما يقتضي دراسة تاريخ شعوب المنطقة وأطوارها التي مرت بها حتى آلت بها الحال إلى ما هي عليه اليوم من سلبية سياسية، لفهم أبعاد هذه الإشكالية..
وللحديث بقية ..




[1] ما وراء السلام ص 155 .
[2] الكويت وجاراتها ( 2/273) .
[3] جمهرت مقالات محمود شاكر الجزء الثاني ص 916 ، وقد قامت الولايات المتحدة وبريطانيا بعد احتلال العراق سنة 2003م والسيطرة على الخليج العربي بالكامل، باتباع نفس السياسة القديمة، فتم حل الجيش العراقي، وتم إلغاء التجنيد الإجباري في الكويت، وتم تقليص عدد أفراد السلك العسكري في كل دول الخليج، وتم إلغاء قوات درع الجزيرة العربية!
[4] المصدر السابق ص 961.
[5] انظر تفاصيل هذا الموضوع في كتاب (دور العلماء في ثورة الجزائر) للنعيمي.
[6] فصول من تاريخ العراق للمس بيل ص 471. وراجع مذكرات بريمر الحاكم العسكري للعراق سنة 2003م وغيره من المذكرات التي تتحدث عن خدمات مراجع الدين في العراق لمشروع الاحتلال!
[7] انظر فتوى عميد كلية الشريعة بجامعة الكويت محمد الطبطبائي في صحيفة الوطن عدد 9734 بتاريخ 16/3/2003 حول وجوب القتال مع الجيش الأمريكي في حرب احتلال العراق وأن القتال معهم من الجهاد في سبيل الله، ثم فتواه بعد ذلك بأن ما تقوم به المقاومة العراقية ضد قوات الاحتلال هو إرهاب!
وانظر فتاوى عبد المحسن العبيكان في القنوات الفضائية والصحف السعودية حول الموضوع ذاته!

(عبيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (4)
(دويلات الطوائف وبداية المشروع البريطاني)

د.حاكم المطيري
ظلت الجزيرة العربية إقليما مهما للخلافة والدولة الإسلامية طول عصورها وعلى اختلاف عواصمها(المدينة - دمشق - بغداد - القاهرة - الأستانة)، إذ لا تثبت شرعية الخلافة والدولة الإسلامية إلا بحماية الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، فقد كانت الجزيرة العربية قاعدة الدولة الإسلامية وعاصمتها المدينة في العهد النبوي الشريف 1 ـ 11 هـ، ثم كانت المدينة أيضا عاصمة الخلافة طوال العهد الراشدي 11 ـ 40هـ، ثم انتقلت إلى دمشق في العهد الأموي سنة 40هـ إلى 132هـ، حيث أصبحت بعد ذلك بغداد العاصمة للخلافة العباسية سنة 132هـ طوال العهد العباسي حتى سقوطها على يد التتار سنة 656هـ، ثم أصحبت العاصمة هي القاهرة بعد انتقال الخلافة العباسية إليها تحت سلطان المماليك، إلى أن دخلها سليم الأول العثماني سنة 923هـ، وبايعه الخليفة العباسي، فأصبح أول خليفة مسلم غير عربي وغير قرشي، وانتقلت الخلافة وعاصمة الدولة الإسلامية إلى الأستانة - اسطنبول - وظلت عاصمة للدولة الإسلامية إلى هزيمة الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى سنة 1918م، وإلغاء الخلافة بعد ذلك سنة 1923م، واحتلال بريطانيا وفرنسا أقاليم الخلافة العثمانية بما فيها الجزيرة العربية والشام والعراق.
لقد ظلت الجزيرة العربية طوال تلك العصور الإسلامية جزء مهما من أقاليم الدولة الإسلامية لوجود مكة والمدينة، ولم تقم فيها أي دولة مستقلة عن الخلافة، إلا ما كان يقع في أطرافها أحيانا من استقلال ذاتي لبعض الإمارات، لا يتجاوز حدود المنطقة التي قامت فيها، لفترة قصيرة - كالإمارات التي قامت في اليمن وعمان، والتي لا تلبث مدة حتى تعود كجزء تابع للخلافة الإسلامية أو تسقط تحت الاحتلال الأجنبي - كالبرتغالي ثم الهولندي ثم البريطاني كما سيأتي بيانه - كما قامت في شرق الجزيرة العربية وغربها ووسطها إمارات ظلت تابعة للخلافة في بغداد ثم القاهرة ثم الأستانة.
قيام الدويلات المذهبية في الخليج والجزيرة العربية:
وقد شهد الخليج والجزيرة العربية في العصور المتأخرة - تحت نفوذ وسيادة الخلافة العثمانية - قيام ثلاث إمارات في ثلاثة أقاليم رئيسية على ثلاثة أسس دينية وسياسية واجتماعية (المذهب - الإمامة - القبيلة) وهذه الدويلات هي:
الإمارات الإباضية في عمان :
حيث قامت فيها الدولة اليعربية ثم السعيدية على أساس المذهب الإباضي، وارتكزت على قبائل عمان ونصرتها للدعوة، وقامت السلطة فيها على أساس الإمامة لا الملك، حيث كانت البيعة تعقد للأئمة للقيام بنصرة الدين وتنفيذ أحكامه!
(فالإباضيون - كما يقول المؤرخ كاريستين ينبهور في زيارته لمسقط سنة 1765م - لا يقرون نظرية الحاكم الدائم، وفي رأيهم أن الإمام المنتخب لابد أن يتولى الإمامة عن طريق الانتخاب في كل مرة، ولا يحق لأي أسرة أو طبقة أن تحتكر الحكم لنفسها بالوراثة، ومن حق أي فرد، مهما كانت طبقته أو وضعه الاجتماعي أن يتولى مسئولية الحكم، إذا توافرت فيها الاستقامة الدينية والأخلاقية، ومن واجب المسلمين الصادقين أن يقوموا بإقالة أو إعلان بطلان شرعية أي حاكم لا تتوفر فيه خصائص الإمامة الصحيحة، ومن حق المسلمين خلع إمامهم عن السلطة إذا لمسوا فيه انحرافا أو خروجا على تلك المبادئ، أما عملية الانتخاب فتتم عن طريق مجلس مشترك من زعماء القبائل ورجال الدين).[1]
وهذا أوضح دليل على معرفة شعوب المنطقة وممارستها للحكم الشوري الانتخابي، وحق الأمة في انتخاب السلطة، قبل الثورة الفرنسية ومبادئها، وقبل الاستعمار الصليبي البريطاني الذي فرض على المنطقة الحكم الوراثي ورسخه بحمايته له كما سيأتي تفصيله لكون النظام البريطاني كان ملكيا وراثيا!
الإمارات الزيدية في اليمن:
وقد قامت فيه دويلات عدة على أساس المذهب الزيدي، وارتكزت على قبائل الجبال في صعدة ونصرتها للدعوة، وقامت السلطة فيها على أساس الإمامة لا الملك، وكان أشهرها دولة الأئمة الزيدية التي قامت سنة 912هـ 1507م على يد الإمام السيد شرف الدين يحيى الزيدي من ذرية يحيى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي، إلى أن سقطت بقيام الجمهورية اليمنية في صنعاء سنة 1962م، وقد نجح العثمانيون في بسط نفوذهم عليها، منذ دخول الجزيرة العربية ومكة والمدينة تحت سيادة الخلافة العثمانية.

الإمارة الوهابية في نجد:
والتي قامت فيه أول إمامة على أساس الدعوة السلفية والمذهب الحنبلي على يد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وارتكزت على نصرة القبائل النجدية، وقد كانت السلطة فيها تقوم باسم الإمامة لنصرة الدين والدعوة لا على أساس الملك، ولم تخرج عن التبعية للخلافة العثمانية إلا في فترة قصيرة لم تلبث أن سقطت فيها أمام الجيش العثماني، كما سيأتي.
لقد اشتهر أمراء تلك الدويلات المذهبية التي قامت في عمان واليمن ونجد بالأئمة للدلالة على طبيعة تلك الدويلات، وأنها ذات طابع ديني إذ لا يمكن السيطرة على القبائل العربية، ولا استمالتها لنصرة الدولة إلا باسم الدين والمذهب، لا باسم الملك والسلطان، إذ ترفض هذه القبائل بطبيعتها الخضوع للسلطة إلا إذا كانت تقوم على أساس ديني، غير أن تلك الإمارات ما إن يتحقق لها الأمر حتى تتحول من إمامة - تختارها القبائل وتبايعها على أساس نصر الدين وإقامة أحكامه - إلى ملك وسلطان؟!
وهذا ما أدركه البريطانيون بعد ذلك فقد جاء في تقاريرهم عن القبائل العربية(إن قيمة القبائل هي قيمة دفاعية، ومجالها هو حرب العصابات، إنهم فرديون للغاية، لا يطيقون إصدار الأوامر إليهم، ولا يقاتلون جماعة، ولا يساعد أحدهم الآخر، ويظن أنه يستحيل إنشاء قوة منظمة منهم)[2].
وقد عقد ابن خلدون في مقدمته فصلا عن العرب - أي الأعراب والقبائل في البادية - وبعدهم عن سياسة الملك وأنه لا يحصل لهم ذلك إلا بصبغة دينية فقال:
(العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية، أو أثر عظيم من الدين على الجملة، والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم، أصعب الأمم انقيادا بعضهم لبعض، للغلظة والأنفة، وبعد الهمة، والمنافسة في الرئاسة، فقلما تجتمع أهواؤهم، فإذا كان فيهم النبي أو الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله، ويؤلف كلمتهم لإظهار الحق، تم اجتماعهم، وحصل لهم التغلب والملك، وهم مع ذلك أسرع الناس لقبول الحق)، وذكر عنهم أيضا أنهم (أكثر بداوة من سائر الأمم، وأغنى عن حاجات التلول، لاعتيادهم شظف العيش، فاستغنوا عن غيرهم، فصعب انقيادهم بعضهم لبعض، ورئيسهم يحتاج إليهم غالبا للعصبية التي بها المدافعة). [3]
لقد قامت إمارات أخرى في الجزيرة العربية، كإمارة ابن عرير في الإحساء، وإمارة آل الرشيد في حايل، غير أن كلا منها لم يدم طويلا، لأنها ارتكزت فقط على القبيلة - كما هو حال ابن عرير على بني خالد، وابن رشيد على شمر - وافتقدت الأساس الرئيسي وهو الدين والمذهب والدعوة التي توحد القبائل العربية لنصرتها، فلم يكتب لها من البقاء ما كتب للإمارات التي قامت على الإمامة والدين كما في عمان واليمن ونجد.
هذا مع العلم بأن كل تلك الإمارات ظلت في دائرة الخلافة الإسلامية أو تحت نفوذها بشكل مباشر أو غير مباشر، بحسب قوة دولة الخلافة وضعفها، ومركزيتها أو لا مركزيتها، وبحسب أهمية هذه المناطق للخلافة أو عدم أهميتها، كما سيأتي بيانه ولهذا لا يصدق عليها أنها دول بل إمارات ودويلات محدودة النفوذ جغرافيا وديمغرافيا وسياسيا!
الحملات الصليبية على الخليج والجزيرة العربية:
لقد تعرض الخليج والجزيرة إلى حملات صليبية عدة تهدف إلى السيطرة على سواحله، وكان من أبرزها:
1- الحملة البرتغالية ومواجهة قبائل عمان لها:
فقد غزا البرتغاليون الخليج العربي وسيطروا على ساحل عمان منذ سنة 1507م، فبايعت القبائل العمانية الإمام ناصر بن مرشد اليعربي سنة 1624م واتخذ الرستاق في المناطق الداخلية للقبائل عاصمة له، ونجح في تخليص أكثر الساحل من أيديهم حتى لم يبق في أيديهم عند وفاته سنة 1649م، غير بعض القلاع في مسقط، ومطرح، ثم بويع ابن عمه سلطان بن سيف إماما، وأكمل جهاده ضد البرتغاليين حتى حرر مسقط، واستمر في قتالهم وشن الحروب عليهم في منطقتي ديو، والدمام، وأصبحت البحرية العمانية أقوى قوة بحرية في الخليج العربي غير غربية.[4]
وبعد وفاة سيف سنة 1718م دخلت عمان في دوامة الحرب الأهلية بين الغفارية العدنانية، والهناوية اليمانية، وأصابها الضعف حتى اتفقت على انتخاب أحمد بن سعيد إماما سنة 1747م، وهو أول من بويع من أسرة آل بوسعيد إماما، ولم تكن السلطة في عمان مطلقة في يد الإمام، بل كان واحدا من رؤساء كثيرين للقبائل غير أنه كان أبرزهم، وقد توفي أحمد سنة 1783م، ثم بايع زعماء القبائل وعلماء الدين ابنه هلال بن أحمد، ولم يطل عهده، ثم بويع أخوه سعيد بن أحمد، ثم صار الأمر بيد حمد بن سعيد بن أحمد، وصار يطلق عليه السيد، ثم انحل نظام الإمامة بتقاسم أبناء أحمد بن سعيد السلطة فيما بينهم، وكرسوا جهدهم في نشاطهم التجاري والبحري، وانتقلت العاصمة إلى مسقط على الساحل، وأصبح الحكم سلطنة وحكما وراثيا، بعد أن كان إمامة وحكا شرعيا، مما أضعف العلاقة بينهم وبين القبائل، فضعفت عمان جراء ذلك، وأصبح لقب سلطان عمان هو الشائع بين حكامها، وقد حكم سلطان بن أحمد الذي اتسع نفوذه إلى بر فارس في أواخر القرن الثامن عشر.[5]
لقد كان الدين والمذهب هو السبب وراء وحدة عمان واتحاد قبائلها لمواجهة القوى الخارجية، وقد أدرك بيلي المسئول البريطاني آنذاك هذه الحقيقة حيث وصل إلى قناعة بأن (حركات التجمع الدينية قد جمعت عمان في وحدة كالوحدة التي تجمع بين أتباع محمد بن عبد الوهاب، ويمكن أن يضر هذا بالسياسة البريطانية).[6]
2- الحملة البريطانية ومواجهة الحركة الوهابية والقبائل النجدية والخليجية لها:
وقد تزامنت الحملة الصليبية البريطانية على الخليج العربي مع قيام الدعوة الوهابية في وسط الجزيرة العربية - من 1157هـ 1744م إلى 1233هـ 1817م - هذه الحركة التي امتدت حتى كادت تسيطر على أكثر جزيرة العرب بشكل كامل، ولم تستقل عن الخلافة العثمانية، بل كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب وابن سعود يعترفان بسلطة الخليفة العثماني حيث كانت نجد آنذاك يتنازعها نفوذ أمراء الإحساء تارة، وأمراء الأشراف في الحجاز تارة أخرى، وكلاهما يخضع للخلافة العثمانية، وقد جاء في تاريخ ابن غنام وهو مؤرخ الدعوة الوهابية وأحد دعاتها :
(وفي هذه السنة 1185 هـ أرسل الشيخ محمد بن عبد الوهاب والأمير عبد العزيز إلى والي مكة أحمد بن سعيد هدايا، وكان قد كاتبهما وطلب منهما أن يرسلا إليه فقيها وعالما من جماعتهما يبين حقيقة ما يدعون إليه من الدين.. فأرسلوا إليه الشيخ عبد العزيز الحصين ومعه رسالة منهما هذا نصها : بسم الله الرحمن الرحيم : المعروض لديك أدام الله فضل نعمه عليك حضرة الشريف أحمد بن الشريف سعيد أعزه الله في الدارين وأعز به دين جده سيد الثقلين، إن الكتاب لما وصل إلى الخادم وتأمل ما فيه من الكلام الحسن رفع يديه بالدعاء إلى الله بتأييد الشريف لما كان قصده نصر الشريعة .. وهذا هو الواجب على ولاة الأمور، ولما طلبتم من ناحيتنا طالب علم امتثلنا الأمر وهو واصل إليكم... يعلم الشريف أعزه الله أن غلمانك من جملة الخدام ثم أنتم في حفظ الله وحسن رعايته).[7]
وهذه الرسالة أوضح دليل على عدم خروج الحركة الوهابية على نفوذ وسلطة الخلافة العثمانية، إذ كانت إلى هذا الوقت لا تتجاوز حركة إصلاحية محلية في منطقة صحراوية محدودة غير ذي أثر، خاضعة لنفوذ شريف مكة التابع للخلافة.
وقد سيطر الوهابيون - بعد السيطرة على نجد - على الإحساء عاصمة ابن عريعر سنة 1795م، وبهذا بسطت الدعوة الوهابية سيطرتها على منطقة نفوذ ابن عريعر في الإحساء، الممتدة من عمان جنوبا، إلى أطراف العراق شمالا، ومن ضمنها الكويت التي كانت تابعة لحكم ابن عريعر، وقد دفع أهل الكويت الزكاة بعد ذلك للإمارة الوهابية سنة 1803م، وكذا دفعتها البحرين بعد أن اشترط عبد العزيز بن محمد بن سعود أمير الدرعية على آل خليفة دفع الزكاة للدرعية مقابل إرجاعهم إلى البحرين، بعد أن استولى عليها سلطان عمان، السيد سلطان بن أحمد آل بو سعيد سنة 1800م، حيث نجح الوهابيون في إرجاع آل خليفة سنة 1802م، كما دفع سلطان بن أحمد أيضا الزكاة للدرعية اعترافا بالتبعية لها، وكذا دفعها القواسم[8].
وهكذا امتد نفوذ الدعوة الوهابية - تحت سيادة الخلافة العثمانية - شرقا ليشمل الزبير، والكويت، والإحساء، والبحرين، وقطر، وعمان، وساحل عمان، وكانوا يأخذون من الجميع الزكاة السنوية.[9]
وقد استمرت سيطرة الحركة الوهابية على الخليج العربي كله، بعد اغتيال عبد العزيز بن محمد بن سعود سنة 1804م ، حيث تولى ابنه سعود الإمامة بعده في الدرعية، فقد اعتنق القواسم من أهل رأس الخيمة، والشارقة، الدعوة الوهابية، وصاروا يدفعون الزكاة للدرعية، وانتشرت الدعوة الوهابية بين القواسم حتى على الضفة الأخرى من الخليج، في لنجة وما حولها سنة 1805م، وقد حذرت الحكومة البريطانية موظفيها في الخليج من التعرض أو الاصطدام بالقواسم أو الوهابيين.[10]
وبعد ذلك قررت حكومة الهند البريطانية إيقاف المد الوهابي الذي بات يهددها في البحر بأسطول حلفائهم القواسم، مما دفع حكومة الهند إلى شن حملة بحرية لتدمير هذا الأسطول القاسمي، ونفذ الهجوم على رأس الخيمة في نوفمبر 1809م حيث تم تدمير البلدة، بعد مواجهة عنيفة بين الطرفين، كما تم إحراق الأسطول.[11]
لقد رأت بريطانيا ضرورة توظيف الخلاف الطائفي بين الإباضية والوهابية لصالح سيطرتها على المنطقة، فقد توجهت بعدها القوات البحرية البريطانية بمعية سلطان مسقط سعيد بن سلطان إلى شناص لطرد القواسم منها، وفي مطلع يناير تم محاصرتها، ودارت معركة عنيفة، حيث بدأ الزحف على الحامية بعد الظهر بقوات مسقطية وبريطانية مشتركة، وقد تبع ذلك قتال شرس يدا بيد، واستخدمت في المعركة جميع أنواع الأسلحة، وكانت أقسى المعارك التي خاضتها الحملة منذ بدأت هجومها، وقد وصفها أحد الضباط البريطانيين فقال:(من المحال أن نتصور مقاومة أشد عنادا وتحديا من المقاومة التي أبداها العدو في هذا الموقع، فقد كانت دفاعاته قد دمرت وتحولت إلى أنقاض، وعلى الرغم من ذلك الوضع اليائس واحتلال البريطانيين والعمانيين للقلعة، ظل القواسم يطلقون النار من التحصينات التي لم يتم تدميرها تماما، وقد كان المساء قد اقترب وكانت الاعتبارات الإنسانية تقتضي وقف هذه المجزرة المخيفة، ودعي من بقي من القواسم للاستسلام وإنقاذ أرواحهم، غير إنهم أجابوا بأنهم يفضلون الموت على الاستسلام في هذا الوقت، وأخذت في إطلاق النار بشكل مكثف من بعض المدافع من مكان قريب من القلعة لمساواتها في الأرض ولكن العدو ظل يرد النار بالمثل، وكما يبدوا فإنهم كانوا مصممين على أن يدفنوا فيها أحياء، وعمدنا إلى استخدام القنابل الكروية واليدوية، ولكن العدو أعادها إلينا قبل أن تنفجر، مؤكدا تصميمه على مواصلة القتال).[12]
وفي تلك الأثناء كان مطلق المطيري القائد العسكر الوهابي، قد تحرك بجيشه من البريمي نحو شناص للدفاع عنها، ولم يصلها إلا متأخرا، فهجم على قوات سعيد - بعد أن غادرت البحرية البريطانية - ومزقها، وأجبرها على الانسحاب إلى مسقط.[13]
وقد طلب سلطان مسقط ثانية من حكومة الهند البريطانية مساعدته عسكريا ضد الوهابيين، غير أنهم رفضوا بعد أن رأوا خطورة التدخل في الصراع البري، واقترحوا عليه عقد سلام مع الوهابيين، غير أنه توجه إلى إيران وطلب مساعدتها، فأرسلوا له 1500مقاتل، وتحرك مطلق المطيري قائد جيوش عمان، ومعه قبائل النعيم، والظواهر، وغيرهم، وتواجه الجيشان، وانهزمت قوات مسقط وحلفائها.[14]
وفي الجزء الغربي من الجزيرة العربية استكملت الحركة الوهابية سيطرتها على الحجاز بعد ضم المدينة النبوية سنة 1810م، فاستثار ذلك الخليفة العثماني في اسطنبول السلطان محمود، فأمر محمد علي والي مصر بالتصدي للحركة والقضاء عليها وتدمير عاصمتها الدرعية، وبعد أن بلغ سعود بن عبد العزيز أخبار حملة محمد علي لشن الحرب على جيوش الدولة الوهابية في الحجاز سنة 1811م، قام باتخاذ الاحتياط، وتعزيز الحاميات العسكرية في قطر، والبحرين، وأمر بحبس آل خليفة في الدرعية، ثم أفرج عنهم بعد تعهدهم بدفع الزكاة، وأخذ تعهدا من حكومة فارس بعدم الاعتداء عليه، كما توصل مع البريطانيين إلى تفاهم بعدم الاعتداء من كلا الطرفين على الآخر.[15]
وفي سنة 1813م جهز مطلق المطيري جيشا تعداده أربعين ألف مقاتل، وتوجه من البريمي لفرض سيطرته على المناطق الداخلية من عمان، حتى وصل إلى صحار، ثم إلى مسقط، فاضطر سعيد إلى دفع الزكاة أربعين ألف ريال نمساوي، وكانت هذه آخر حملة لمطلق المطيري الذي قتل في آخر هذه السنة.[16]
الحملة المصرية على الجزيرة العربية:
ولم تدم سيطرة الحركة الوهابية على الحجاز حيث توجه الجيش المصري بأمر من الخليفة العثماني، بقيادة طوسون بن محمد علي سنة 1811م إلى الحجاز، فاحتلت جيوشه المدينة سنة 1812م، ومكة سنة 1813م، وفي سنة 1814م توفي سعود بن عبد العزيز، وبويع ابنه عبد الله إماما، وفي هذه السنة قدم محمد علي إلى الحجاز، وقاد الجيوش بنفسه، وأكمل سيطرته على الحجاز سنة 1815م، بعد سيطرته على الطائف، وفي هذه السنة وقع عبد الله بن سعود معاهدة مع طوسون تم فيها الاعتراف بعبد الله واليا على نجد بعد إعلانه الولاء للخليفة العثماني.[17]
وفي سنة 1815م، توفي طوسون بعد رجوعه إلى مصر، فنقض والده محمد علي المعاهدة، واشترط للتوقيع عليها تخلي عبد الله بن سعود عن الإحساء - التي كانت تحت حكم ابن عريعر، حتى استولى عليها الوهابيون سنة 1795م - إلا أن عبد الله بن سعود لم يرد على الطلب، فجهز محمد علي جيشا آخر هدفه احتلال الدرعية نفسها، بقيادة ابنه إبراهيم سنة 1816م، فانطلق من المدينة نحو نجد، حتى استولى على الدرعية، ودمرها في أواخر سنة 1818م، وأرسل عبد الله بن سعود إلى الأستانة، حيث تم إعدامه، وتم أخذ أسرته إلى القاهرة.[18]
وقد قام إبراهيم باشا بعد سيطرته على الإحساء سنة 1819م بتولية ابن غرير شيخ بني خالد على الإقليم من جديد، غير أنه سرعان ما اضطربت القبائل في المنطقة على الجيش المصري، ولم يرض ابن غرير بقمعها، مما حدا إبراهيم بسحب جيوشه إلى معسكره شمال غرب الدرعية.[19]
المشروع البريطاني للسيطرة على الخليج العربي :
وقد بدأت حكومة الهند البريطانية في إبريل سنة 1819م تناقش في هذه الأثناء خطة تراعي كون ساحل الخليج العربي من رأس الخيمة غربا إلى الكويت تحت السلطة المصرية العثمانية - التي سيطرت على وسط الجزيرة العربية، واحتلت الدرعية، وكل المناطق التابعة لها - وأن تدعم بريطانيا سلطان مسقط ليفرض سيطرته على ساحل الخليج إلى رأس الخيمة شمالا، مع ضم البحرين له، وإخضاع القبائل المستقلة داخل عمان لسلطته، وإقامة قاعدة عسكرية بريطانية في جزيرة قشم، على أن تتحمل موارد البحرين - الغنية بصيد اللؤلؤ - تكاليف القاعدة العسكرية البريطانية! غير أن فرانسن واردن الأمين الأول لحكومة الهند أكد (أنه من الأفضل على أي حال السماح لتلك الدويلات - القبائل المستقلة - بالاحتفاظ باستقلالها، بل وسنقوم بتأييد ذلك الاستقلال، كما سيتعين على المبعوث البريطاني - إلى إبراهيم بن محمد علي - أن يوضح له بأنه في الوقت الذي تعتبر بريطانيا أن تصفية القرصنة هو هدفها الوحيد، إلا إنها في الوقت ذاته تشاركه في ضمان حقوق مختلف الدول ـ القبائل ـ الواقعة على سواحل الخليج العربي، وأن أي مساعدة من بريطانيا له في حربه لحلفاء الوهابيين مشروطة بموافقته على احترام حقوق تلك الدول).[20]
لقد كانت هذه أول مرة يطلق فيها مسئول بريطاني مصطلح(دويلات أو دول) على القبائل الساحلية في عمان، والتي لم تكن تعد مدنا فضلا عن أن تعد دولا أو دويلات!
لقد كان الهدف البريطاني واضحا من هذه الفكرة، وهو إيجاد كيانات يمكن التعامل معها بصفة مباشرة لاحتلالها بعد ذلك بحجة الحماية وهو ما لا يمكن مع القبائل أو القرى والمدن، فكان لا بد من تسميتها بالدويلات والإمارات لتحقيق هذا الغرض الاستعماري!
لقد كان القواسم والوهابيون الذين ظلوا يسيطرون على سواحل الخليج العربي هم المشكلة الرئيسة التي كان يجب على بريطانيا العمل من أجل القضاء عليها، لتتحقق لها السيطرة على الخليج، غير أن حكومة الهند لم تكن تملك القوة اللازمة لمواجهة قوتهم التي تبلغ 10000بحار، ونحو250 سفينة كبيرة وصغيرة، والتي كانت تنطلق من موانئ رأس الخيمة، وأم القوين، والجزيرة الحمراء، وعجمان، والشارقة، ودبي، والزبارة، وخور حسن، والقطيف، والعقير، وأبوظبي، وأيضا لنجة، وخرك على الجانب الفارسي، وكان لا بد من التنسيق مع إبراهيم باشا لمواجهتهم.[21]
وبعد أن ذهب سادلر - المبعوث البريطاني - إلى القطيف ورأى الوضع في الإحساء، وانسحاب الجيش المصري - بعد تسليمه السلطة لشيوخ بني خالد أمراء الإقليم سابقا - كتب تقريرا بذلك لحكومته التي أمرت بصرف النظر عن مشروع التعاون مع إبراهيم باشا، حيث ثبت عجز الجيش المصري عن بسط سيطرته على القبائل من الكويت إلى ساحل عمان، وأنه يجب وضع خطة بديلة، وإعادة النظر في بسط نفوذ سلطان مسقط على الساحل، وإدخال البحرين تحت سلطته، ليتم الإنفاق على القاعدة البريطانية من مواردها المالية.[22]
وقد تم مناقشة هذه الخطة من قبل مسئولي الحكومة الهندية البريطانية الذي ارتأى بعضهم (بأنه لا بد من الحصول على معلومات دقيقة عن الأسس التي تقوم عليها ادعاءات مختلف القبائل فيما يتعلق باستقلالها، وهي الأسس التي يمكن بموجبها تحديد علاقتنا معها، على أساس مبادئ).[23]
غير أن هذه الخطط لم تجد إجماعا من رجال الحكومة الهندية، فتم إصدار الأوامر إلى قيادة البحرية البريطانية بشن هجوم عسكري بحري على موانئ القواسم وحلفائهم، وتدمير أسطولهم، بالتنسيق مع سلطان مسقط، وحكومة فارس.[24]
ونجحت بريطانيا في حملتها الصليبية على المنطقة أن توظف الخلاف الطائفي بين المسلمين لتحقيق أهدافها الاستعمارية، حيث شكل التحالف البريطاني، والإباضي العماني، والشيعي الإيراني، رأس حربة في مشروع السيطرة على الخليج العربي!
وفي ديسمبر سنة 1819م تم الهجوم البريطاني العماني على موانئ القواسم، وأولها رأس الخيمة، ودارت حرب طاحنة، ولمدة خمسة أيام، استخدمت فيها البحرية البريطانية مدافعها لدك أسوارها، وقلاعها، حتى وصل القتال ذروته بالاشتباك بالسلاح الأبيض، وذهب فيه من القواسم ألف رجل بين قتيل وجريح، وانتهت الحملة بتوقيع معاهدة في يناير سنة 1820م مع شيوخ هذه الموانئ، يسلمون بموجبها جميع سفنهم، وقد كان نص المعاهدة:
(أنه وبناء على ذلك يتفق الطرفان على توطيد السلم بين الحكومة البريطانية، والقبائل العربية الموقعة على هذا العقد على الشروط التالية)، والتي تضمن لبريطانيا حق تفتيش السفن، ومراقبتها، ومصادرتها، وعدم الاعتداء بين القبائل الموقعة على المعاهدة، وحق بريطانيا في إهدار حياة من يشارك في أعمال القرصنة، ومصادرة ممتلكاته.[25]
لقد وضعت هذه الاتفاقية بين بريطانيا والقبائل الساحلية أسس تقسيم الإقليم الواحد إلى دويلات كما جاء في نص الاتفاقية( لقد تأسس سلم دائم بين الحكومة البريطانية والقبائل العربية:
المادة الأولى : توقف أعمال السلب والقرصنة في البر والبحر من قبل العرب الذين هم فريق في هذه المعاهدة ....
المادة الرابعة: إن القبائل التي أخضعت ستداوم على علاقاتها السابقة وستظل في حالة سلم مع الحكومة البريطانية...
المادة السابعة:إذا لم تمتنع إحدى القبائل عن السلب والقرصنة فالعرب الأصدقاء يعملون ضدها بحسب مقدرتهم وحسب الظروف ...
المادة الحادية عشرة:إن الشروط المذكورة أعلاه عمومية لجميع القبائل والأشخاص التي يقبلونها فيما بعد بنفس الطريقة التي يقبلها الذين يوقعونها الآن.... وقد وقع عليها سنة 1820 شيخ رأس الخيمة، وشيخ أبو ظبي، وشيخ دبي، وشيخ البحرين، وشيخ الشارقة، وشيخ عجمان).[26]
لقد أرادت بريطانيا إضفاء صبغة قانونية على تعاملها مع تلك الموانئ الساحلية، من خلال الاعتراف بالقبائل الساحلية وشيوخها ككيانات شبه مستقلة، ولهذا(أطلقت بريطانيا على الرؤساء الذين اشتركوا في توقيع معاهدة 1820 اسم الرؤساء البحريين، وكانت تهدف من ورائها عزل الساحل عن الداخل في الوقت الذي كانت تعنى فيه بتدعيم سيطرتها البحرية، وإن كان من الطبيعي أن تتخلى عن هذه السياسة على أثر اكتشاف موارد النفط في الداخل، وقدرتها على السيطرة الداخلية بفضل سلاح الطيران الجوي وقد استخدم ذلك السلاح بفاعلية منذ الثلاثينيات من هذا القرن).[27]
كما يظهر جليا خطة بريطانيا في توقيع المعاهدات مع شيوخ الموانئ كل على حدة وأن هدفها ترسيخ تقسيم المنطقة وللحيلولة دون قيام أي اتحاد يشكل خطرا على النفوذ البريطاني في الخليج العربي، بعد أن دمرت قوة القواسم التي كانت تهدد الوجود البريطاني في المنطقة، وبعد أن قامت بتفتيتها والاعتراف بالشيوخ الصغار كحكام مستقلين.[28]
ولم تضمن هذه الحملة العسكرية، ولا المعاهدة التي وقعتها بريطانيا مع قبائل الساحل السيطرة البريطانية على الخليج العربي، إذ كان لقبائل الداخل القدرة على تهديد مصالحها في البحر، كما حصل من قبيلة آل بوعلي التي تقطن مقاطعة جعلان في عمان، وتمتد إلى الداخل، وقد كانت اعتنقت الدعوة الوهابية ووقفت معها، وثارت على السلطان سعيد سلطان مسقط، وقد قامت بريطانيا بحملة بحرية عسكرية من أجل إخضاعها بعد أن رأت أنها تمثل خطرا على مصالحها، وتحركت القوة البحرية البريطانية بحرا، والقوة العمانية بقيادة سلطان مسقط برا، وفي مطلع نوفمبر سنة 1820م، بدأت قوات التحالف المشتركة زحفها على المنطقة، وقد اشترطت على قبيلة بو علي شروطا، ومنها تسليم أسلحتها، فرفضت هذا الشرط بعد أن وافقت على الشروط الأخرى، ودارت حرب طاحنة بين الفريقين، فر عندها جنود السلطان والقوات الهندية البريطانية الزاحفة، ثم تبعهم الضباط ورجال المدفعية البريطانية، وأخذ رجال قبيلة بو علي يطلقون عليهم النار، ويطعنونهم بالسيوف والخناجر، حتى أصيب السلطان سعيد بطعنة عندما حاول إنقاذ الضباط البريطانيين وكانت مواجهة دموية وقد وصف هذه المعركة أحد الضباط البريطانيين بقوله:
(وعلى امتداد السهل كانت جثث القتلى من الجنود العمانيين، وثمانية من الضباط البريطانيين، ونحو أربعمائة عسكري، ملقاة على الأرض)، لقد قاتلت قبيلة بوعلي الوهابية قتالا مستميتا، ونجح رجالها في تدمير الحملة البريطانية وهزيمتها هزيمة منكرة، قضت على الهيبة التي اكتسبتها البحرية العسكرية البريطانية بعد حملتها على القواسم، وهو ما حدا بريطانيا إلى تجهيز حملة ثانية مشتركة مع سلطان مسقط ضد قبيلة بو علي، وكانت تتكون من 1263 جنديا بريطانيا، و1686 جنديا هنديا، وكان من أهداف الحملة(تسليم سلطة المنطقة المحررة إلى السيد سعيد، وإطلاق الأسرى، وتسليم الأسلحة التي وقعت خلال الحملة السابقة في يد قبائل بوعلي)، وما كادت قوات الحلفاء تعسكر قريبا من مشارف القبيلة بتاريخ 10 فبراير سنة 1821م، حتى شن عليها رجال بو علي هجوما مفاجئا، فأربك قوات الحلفاء، فدب فيها الذعر، وقتل فيها عدد من الضباط والجنود، وفي يوم 2مارس اشتبك الجيشان في حرب دموية، ونجح رجال القبيلة في شق طريقهم وسط القوات البريطانية، وكتب أحد الضباط البريطانيين المشهد المروع فقال:
(كانت المذبحة رهيبة على الجانبين، وإن قوات العدو التي كانت في المؤخرة اضطرت إلى شق طريقها وسط لوائنا في محاولة لاستعادة مزارعها، وكل الذين شاهدوا ذالك الهجوم الفريد، قالوا بأنهم لم يشهدوا في حياتهم جيشا قاتل بتلك البسالة التي لا نظير لها، ولم نستطع إيقاف تقدمهم رغم قصفنا المتكرر لمواقعهم، والذي كان يبيدهم بأعداد غفيرة متحدين الحراب المصوبة إليهم، وأبدوا صمودا في القتال، فكانوا ينقضون على سياراتنا، وينتزعون بنادقنا من أيدينا في محاولة لشق صفوفنا وإبادتنا حتى بعد أن كانت حرابنا قد انغرست في أجسادهم)!
وبعد ذلك استسلم نحو 200 مقاتل من القبيلة مع عائلاتهم، بعد أن قتل منهم 200 رجل، وجرح نحو 300 رجل ، وقد تم نقل 150منهم بما فيهم شيخا القبيلة - اللذان يعانيان من جراح خطيرة - بالإضافة إلى خمسين صبيا، إلى بومبي كأسرى حرب، وسلم الباقون من الأسرى إلى سلطان مسقط، وأمر القائد البريطاني بعد ذلك بدك القلاع، وإتلاف المزارع، وإشعال النار في مساكن القبيلة( ومنذ البداية حتى النهاية كانت الحملة - كما يقول كيلي - على رجال بني بو علي مخزية ومؤلمة، وقد ذهب ضحيتها من الرجال أكثر مما ذهب في معركتي 1809 و1818م معا، وأسفرت عن نتائج لا قيمة لها، وتحولت الحملة إلى حرب سافرة كل هدفها هو استعادة سلطة السيد سعيد على قبائل جعلان)!
وقد تمت محاكمة القائد العسكري بعد انتهاء الحملة على الأخطاء التي ارتكبها والتي أظهرت وكأن الأسلحة البريطانية هدفها إخضاع القبائل لسلطان مسقط(وإذا كان ثمة طرف له الحق في الفخر برأي كيلي - بنتيجة الحملة فهو قبائل بو علي أنفسهم لدفاعهم الباسل عن أراضيهم ومواطنهم، وهذا هو ما اعترف به أعضاء مجلس شركة الهند الشرقية عندما اجتمعوا لتقييم نتائج الحملة)، واعترفوا بأنه لم تتخذ الإجراءات اللازمة للتحقق من طبيعة أعمال القرصنة التي كان متهما فيها رجال القبيلة، وأن حكومة الهند أخذت برأي السيد سعيد الذي يهدف إلى السيطرة على منطقة القبيلة، دون التحري عن حقيقة الأمر، كما اعترفوا بأن إحراق المزارع، والمساكن، وأخذ الأسرى إلى بومبي حيث مات عدد منهم كان تصرفا مخجلا، وكذلك تسليم الأسرى للسيد سعيد - حيث مات مجموعة منهم في سجونه جوعا - كان أكثر الأعمال خزيا.[29]
لقد كان أشد ما يخشاه المسئولون البريطانيون آنذاك من تبعات هذه الحملة(هو ما سوف تتركه من انطباع في أوساط القبائل الخليجية عن السياسة البريطانية التي كانت تنطلق من مبدأ القضاء على القرصنة إلا إن تعاون تومسون - قائد الحملة - مع السيد سعيد سلطان عمان إنما يوحي بأنه محاولة منا للتدخل في الشئون الداخلية بدعوى حماية مصالحنا من الأخطار التي تهددها في مياه الخليج).[30]
لقد كانت هذه الحرب التي شنتها بريطانيا على القبائل العربية الخليجية حربا استعمارية تحت ستار مكافحة الإرهاب والقرصنة البحرية، وكان الهدف منها السيطرة على المنطقة من خلال إخضاعها لمن يتحالف معها، وبدأت منذ ذلك التاريخ أزمة الهوية! وللحديث بقية!
ملحوظة :هذه المقالات الأربعة هي اختصار لما يعادل 150 صفحة من كتاب (الحرية وأزمة الهوية)، مراعاة لقراء المقالات، إلى حين طباعة الكتاب، فالهدف إعادة صياغة العقل الخليجي باستعادة ذاكرته التاريخية، وتحريره من أوهامه الزائفة التي كبلته، إذ ما زال هذا التاريخ الاستعماري هو الذي يتحكم في واقعنا السياسي إلى اليوم!




[1] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 14ـ16 .
[2] سلام ما بعده سلام (ولادة الشرق الأوسط) لدافيد فرومكين ص 250 .
[3] مقدمة ابن خلدون الفصل السابع والعشرون والثامن والعشرون.
[4] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 17-18 .
[5] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 18-26 .
[6] سياسة الأمن في الخليج العربي 144 .
[7] تاريخ نجد ابن غنام ص 135 ط 3 سنة 1994 تحقيق ناصر الدين الأسد.[8] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 164-166.
[9] نبذة تاريخية لضاري الرشيد 28 .
[10] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 170-171 .
[11] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 192
[12] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 195.
[13] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 196 .
[14] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 205.
[15] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 207 .
[16] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 210.
[17] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 216.
[18] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 156ـ157، 225ـ230، 502 .
[19] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 241 .
[20] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 233ـ237 .[21] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/229ـ233.
[22] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/241ـ 242.
[23] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 244 .
[24] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 247-249 .
[25] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 253-259 .
[26] انظر المصدر السابق، وتاريخ الكويت السياسي لخزعل 2/108ـ113.
[27] تاريخ الخليج العربي لجمال زكريا 1/294 .
[28] تاريخ الخليج العربي لزكريا 1/ 287.
[29] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 284ـ296 .
[30] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/300 .

(عبيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (5)

(مشروع حكومة الهند البريطانية للسيطرة على الجزيرة العربية)

بقلم د. حاكم المطيري
وقد قامت الدولة الوهابية مرة ثانية ـ بعد ست سنوات من السيطرة المصرية العثمانية على نجد ـ على يد تركي بن عبد الله بن محمد بن سعود، سنة 1240هـ 1824م، بعد أن خرج من سجنه في مصر ـ بترتيب من القيادة المصرية ليضبط لها نجد ـ وخاض حروبا داخلية من سنة 1820 إلى 1824م، حيث استقر له الأمر، واتخذ الرياض عاصمة له بدل الدرعية، ولم تتجاوز سلطته حدود نجد، ودخل في حروب مع شيوخ بني خالد محمد وماجد العريعر، من أجل السيطرة على الإحساء، حيث نجح هو وابنه فيصل في احتلال الهفوف عاصمة الإحساء في ربيع سنة 1830م، وبدأ النفوذ الوهابي يعود مرة أخرى لسواحل الخليج العربي، غير أن تركي آل سعود كان أقل حماسا لنشر الدعوة الوهابية، وأحرص على الحكم منه على الدين (على العكس من الزعماء الوهابيين السابقين، الذين كان حماسهم ـ كما يرى كيلي ـ لنشر العقيدة الوهابية أكثر من حماسهم للحكم)!
وقد أرسل تركي بن سعود للحكومة الهندية البريطانية في بومبي رسالة يؤكد فيها رغبته في إقامة علاقة ودية معها.[1]
وقد دعا تركي بن سعود بعد السيطرة على الإحساء عبد الله بن خليفة شيخ البحرين إلى الاعتراف بسلطته ودفع الزكاة له، وهي أربعين ألف ريال نمساوي، وقد قام عبد الله بتنفيذ ما طلبه منه تركي، بعد أن سأل البريطانيين مساعدته فآثروا عدم التدخل، وتم عقد اتفاق بينه وبين تركي اعترف بموجبه بالسلطة العليا للرياض على البحرين، وبدفع الزكاة السنوية، مقابل ضمان الرياض لسيادة شيخ البحرين، كما أبدى السيد سعيد سلطان عمان سنة 1831م موافقته على الدخول تحت سلطة تركي، بعد أن سيطرت قوات أمير الإحساء الوهابي عمر بن عفيصان على البريمي ـ المدخل الإستراتيجي لعمان ـ بشرط السماح له باحتلال البحرين، فرفض تركي هذا الشرط، كما جاءت وفود من شيوخ القبائل العمانية إلى الإحساء للدخول في الطاعة للدولة الجديدة، وعلى رأسهم راشد بن حمد شيخ عجمان، وبعدها تحرك ابن عفيصان بجيشه إلى عمان وسواحله، لفرض سلطة الدولة الوهابية الجديدة، وأخذ الزكاة من القبائل، فاستجاب شيخ أبوظبي، وبدأ ابن عفيصان الضغط على مسقط، وأخيرا استسلم السلطان سعيد، والتزم بدفع الزكاة السنوية للرياض، بعد أن طلب مساعدة البريطانيين الذين نصحوه بالتفاهم مع تركي، غير أنها تفاجأت بالاستسلام الكامل من سعيد.[2]
وقد كان سبب ضعفه تخلي القبائل عنه، بعد افتقاده لصفة الإمامة التي تم التخلي عنها في عمان من قبل آل بو سعيد، حيث أصبح الحكم بالوراثة، وهو ما يصطدم بالعقيدة الإباضية لقبائل عمان الداخلية، التي تراه بالانتخاب، وهو ما يفتقده السلطان سعيد، مما أضعف قوته أمام جيوش ابن عفيصان.[3]
وقد أدركت بريطانيا خطورة سيطرة الوهابيين على عمان، وتهديدهم مصالحها في الهند، ورأت ضرورة تحذير تركي من الاعتداء على أراضي السيد سعيد، وطلبت من محمد علي والي مصر الضغط على تركي ليكف عن سعيد، إذا كان تركي خاضعا فعلا للسلطة المصرية، كما أنها كانت تخشى من التدخل في شئون البر، والتورط في مشاكل لا حصر لها، كما حصل من قبل[4].
وفي سنة 1834م كان نفوذ تركي بن سعود قد بلغ أقصى مداه حيث سيطر على نجد، والإحساء، وشرق الخليج العربي، والجنوب الشرقي منه، ولم يكن خضوع بعض شيوخ الساحل للدولة الوهابية رغبة بقدر ما هو خشية من مواطنيهم، الذين اعتنقوا الدعوة الوهابية، وفي هذه السنة اغتيل تركي في شهر مايو، وهو في المسجد، على يد ابن عمه مشاري، ونجح ولده فيصل بن تركي الذي كان يقود الجيوش في الإحساء، في العودة سرا، ودخول الرياض، وقتل مشاري، وتم اختياره مكان أبيه[5].
حيلولة بريطانيا دون قيام أي وحدة عربية أو إسلامية في المنطقة :
لقد بدأت حكومة الهند تناقش موضوع مشروع محمد علي الرامي إلى السيطرة على الشام، والعراق، والجزيرة العربية، وخطورة ذلك، ومدى تأثيره على الدولة العثمانية، التي تمثل سدا أمام أطماع روسيا في المنطقة، خاصة الهند البريطانية، ومدى إمكانية الاستفادة من قيام محمد علي بتحقيق مشروعه، غير أن هنري أليس وصل في تقريره لبحث هذا الموضوع إلى:
(إنه ليس من مصلحة الدولة الأوربية الحاكمة في الهند أن تقوم على أرض الفرات دولة إسلامية قوية، إذ أن من المحتمل أن تتحد مع روسيا، كما قد تتحد مع فارس لمقاومة الأطماع الروسية، كما أن أي دولة تنشأ هنا سيمتد نفوذها بلا شك إلى جميع أقطار الجزيرة العربية، وقد تصبح في وقت قصير دولة بحرية هامة، إن منطقة أسيا الوسطى بأسرها يمكن اعتبارها منطقة إسلامية، وأنها تشكل حلفا إسلاميا هدفه طرد الدولة المسيحية، ولو توحدت كل ممالك الخليفة الإسلامي في دولة واحدة قوية، يتزعمها حاكم طموح، فإنها ستصبح خطرا على المصالح الأوربية، وعلى الرغم من أن الفرس ينتمون إلى المذهب الشيعي، وبقية السكان في الأقطار الأخرى التي يضمها هذا الحلف من المذهب السني، فإن هناك إحساسا دينيا مشتركا بينها يدفعها إلى الاتحاد مع بعضها في تلك المهمة المقدسة)!
ومن ثم رأى صرف النظر عن دعم مشروع محمد علي إذ أن دولة تضم مصر، والشام، والعراق، ستكون على حساب الوجود البريطاني في الهند[6].
وقد ذهب مسئولون بريطانيون آخرون إلى أن مشروع محمد علي يهدف إلى إقامة دولة تضم كل الأقطار التي يتحدث سكانها اللغة العربية، دون خروج عن الخلافة العثمانية، فلا ضرر على بريطانيا من قيام مثل هذه المملكة العربية[7].
وقد أمر محمد علي سنة 1836م خالد بن سعود ـ بعد أن أفرج عنه ـ بقيادة جيش والتوجه إلى الرياض، ليتولى الأمر فيها، بدلا من ابن عمه فيصل بن تركي، وقد أمر محمد علي والي المدينة إسماعيل باشا بتزويد خالد بالقوات لتنفيذ مهمته، فعرض فيصل على محمد علي أن يكون واليا على نجد تابعا له، فرفض محمد علي هذا العرض، ونجح خالد في السيطرة على الرياض سنة 1837م، وفر فيصل إلى الإحساء، وفي سنة 1838م تحرك الجيش المصري في نجد بقيادة خورشيد باشا، ومعه جيش خالد بن سعود وانطلقوا من الرياض نحو الإحساء، وقد طلب خورشيد باشا من شيخي الكويت والبحرين الخاضعين للسيادة العثمانية بتقديم الدعم لقواته عند وصولها إلى الإحساء، وفي آخر سنة 1838م تمت السيطرة المصرية على الإحساء، وتم أسر فيصل بن تركي، وإرساله لمصر، حيث حبس هناك[8].
وقد جرى بين قنصل بريطانيا ومحمد علي تباحث حول الأوضاع في الخليج العربي، فذكر محمد علي أن الهدف من تحركات جيوشه في الجزيرة العربية (حماية مكة والمدينة، وبأن البحرين كالكويت، ولاية من ولايات نجد، وأنها كانت تدفع الزكاة إلى ابن سعود لسنوات عديدة)[9].
كما سبق أن أكد محمد علي للقنصل البريطاني (بأن نجد كلها قد أصبحت خاضعة له، وبأن شبه الجزيرة العربية من مكة إلى المدينة، ثم إلى سواحل الخليج العربي قد أصبحت تحت نفوذه)[10].
كما حاول البريطانيون استخدام نفوذهم للحيلولة دون سيطرة خورشيد على البحرين، غير أنها باعترافهم كانت (واقعة فعلا تحت سيطرته)[11].
وفي الوقت الذي كانت بريطانيا تضغط على محمد علي بخصوص البحرين، كان خورشيد قد وقع اتفاقية مع عبد الله بن حمد بن خليفة بتاريخ 7/5/1839م، اعترفت البحرين بموجبها بالسيادة المصرية العثمانية، والتزمت بدفع الزكاة السنوية، وقدرها 3000ريال نمساوي، وتقديم كل ما يطلبه الوالي من مساعدات، وبهذا صارت البحرين تحت السيادة الرسمية والفعلية لمصر العثمانية، كولاية تابعة لنجد والجزيرة العربية، التي أصبحت من البحر الأحمر إلى الخليج العربي تحت سيادتها[12].
وكذا امتد نفوذ خورشيد باشا ليشمل ساحل عمان، حيث كان سعد بن مطلق المطيري قد قدم بقواته إلى الشارقة، كنائب لخالد بن سعود، وبتكليف من خورشيد باشا، وكممثل له[13].
كما أرسل سعد بن مطلق المطيري إلى السيد سعيد سلطان مسقط، يطلب منه دفع الزكاة السنوية للرياض التابعة لسلطة خورشيد باشا[14].
وقد نجح القائد خورشيد في بسط نفوذه الكامل، وتأمين الاستقرار في المنطقة، كما جاء وصفه في التقارير البريطانية بأنه(قائد موهوب، لأن جميع السكان العرب على امتداد المنطقة من شواطئ البحر الأحمر إلى سواحل الخليج العربي إلى البحرين متحدون ومنضبطون تحت حكم هذا الباشا، لدرجة أنهم يقومون بأنفسهم بحراسة المراكز العسكرية، وإبقاء الاتصالات مفتوحة مع مصر)[15].
وفي سنة 1840م أمر محمد علي خورشيد باشا بسحب قواته من وسط الجزيرة العربية(نجد)، وشرقها(الإحساء)، وواكب ذلك ثورة القبائل في هذه المناطق على خورشيد باشا، وذلك بعد تمرد محمد علي على الخلافة العثمانية، ثم هزيمتة بعد ذلك سنة 1840م، وتراجع محمد علي عن مشروعه في إقامة دولة عربية موحدة، حيث أصبحت الجزيرة العربية تتبع الباب العالي العثماني مباشرة، بحسب المعاهدة التي بينه وبين الخلافة العثمانية.
وفي سنة 1841م اعترف خالد بن سعود بالتبعية للباب العالي مباشرة بعد أن كان تابعا لمصر، وتم تعيينه واليا على نجد[16].
وفي سنة 1843م أفرجت مصر عن فيصل بن تركي، وعاد إلى الرياض، وأصبح واليا على نجد تابعا للباب العالي، حيث شرع في دفع الزكاة لشريف مكة محمد بن عون، الذي كان يتبع الأستانة مباشرة[17].
وقد امتد نفوذ فيصل ليشمل في سنة 1845م نجدا، والإحساء، وساحل عمان، وقد أرسل مبعوثا إلى المقيم البريطاني يؤكد له استئناف حكمه في المنطقة، وقد التزمت بريطانيا عدم التدخل في شئون الجزيرة العربية بعد انسحاب الجيش المصري منها، وقد أرسل فيصل إلى البريمي سعد بن مطلق المطيري نائبا عنه، الذي خرج بقواته إليها، واستقبلته القبائل الغفارية فيها بحماس شديد.[18]
وقد أعرب شيوخ ساحل عمان عن ولائهم لسعد بن مطلق، كما أرسل سعد إلى السيد ثويني بن سعيد والي مسقط ـ وكان والده السلطان سعيد في زنجبار ـ وإلى ابن أخيه حمود بن عزان والي صحار، يطلب منهما دفع الزكاة السنوية، فتم دفعها له، بعد أن أدركوا عدم قدرتهم على مواجهته، وبعد رفض بريطانيا التدخل في شئون الجزيرة العربية الداخلية، كما قرر حمود بن عزان وبتأييد من القبائل تولي الحكم في مسقط بعد أن ضاق علماء الدين، وضاقت القبائل ذرعا بإهمال سعيد لشئون عمان، وأيضا(بسبب علاقته بالأجانب والنصارى)[19].
وقد خشيت حكومة الهند البريطانية على مصالحها في الخليج، فحذرت فيصل بن تركي من تعريض الأمن في الخليج للخطر، فكتب أمير مكة الشريف عون ـ بطلب من فيصل ـ كتابا إلى المندوب البريطاني في بوشهر جاء فيه :
(أعرفكم بخصوص فيصل بن سعود، بأن هذا من رعايا السلطان العثماني، وغير خاف عليكم أن هناك بعض القلاع التي تخصه في عمان، وهو يدفع لخزينة السلطان 17000ريال، وأملي فيكم أن لا تتخذوا ضده أي إجراء).[20]
وقد أكدت بريطانيا أنها لا تتدخل فيما يحدث في داخل الجزيرة العربية على البر، لأنه ليس لها عليه سيادة، ما لم تصل المشاكل إلى البحر، وتعرض مصالحها التجارية للخطر، كما امتد نفوذ فيصل ليشمل قطر، والبحرين، كتوابع للإحساء، حيث دفعتا الزكاة له سنة 1850م، وفي سنة 1849م، صدر قرار عثماني من الباب العالي بفصل ولاية البصرة عن بغداد، وإلحاق إقليم الإحساء والساحل الغربي من الخليج العربي بولاية البصرة[21].
وفي سنة 1850م طلب فيصل من محمد الخليفة دفع الزكاة السنوية، وقد قام مواطنو الدوحة في قطر التابعة للبحرين بالانتفاضة عليه، وإعلان ولائهم لفيصل بن تركي، مما حدا محمد الخليفة بطلب التدخل البريطاني، وقد أرسل فيصل مبعوثه إلى المقيم البريطاني ليبلغه بأنه (حائر من الاتجاه المعاكس الذي تسير فيه السياسة البريطانية تجاهه في الآونة الأخيرة، فعلى حين كانت الحكومة البريطانية تحترم أسس التفاهم القائمة بينها وبينه، والتي تقوم على أساس عدم التدخل في علاقاته بسكان الساحل الغربي، فإنها قامت في الفترة الأخيرة بمنع رعاياه في رأس الخيمة ودبي من تقديم المساعدة البحرية إليه لإخضاع رعاياه المتمردين في البحرين)، وقد رد عليه المقيم البريطاني، بأن بريطانيا لا تعترف بسيادته على البحرين وقبائل ساحل عمان(التي كانت ولا تزال تعتبرها وتعاملها كدولة مستقلة).[22]
وفي سنة 1853م توجه عبد الله بن فيصل بن تركي من الرياض بجيش إلى البريمي التي سيطر عليها، وطلب حضور شيوخ الساحل إليه، كما طلب من ثويني إرجاع صحار إلى قيس بن عزان، ودفع متأخرات الزكاة، وجميع تكاليف الحملة، وقد حاول المقيم البريطاني الحيلولة دون حضور الشيوخ إليه، غير أن عبد الله كتب إليه بأنهم (مرتبطون بنا ومحسوبون علينا)!
وأخيرا وقعت مسقط اتفاقا مع عبد الله بن فيصل بن تركي، التزمت مسقط بموجبه بدفع الزكاة المتأخرة، والمستحقة عن مسقط وصحار[23].
وفي الوقت الذي كانت بريطانيا ترفض وجود أي نفوذ أجنبي في الخليج العربي، إلا إنها لم تستطع الحد من النفوذ الوهابي التابع للخلافة العثمانية، لأنه واقع على داخل الجزيرة العربية من جهة البر، لا خارجها من جهة البحر، الذي هو محط اهتمامها[24].
وقد حاولت بريطانيا فرض وجودها البحري على مجريات الأحداث داخل البر، والحد من نفوذ فيصل بن تركي الذي يتبع الخلافة العثمانية، وحاولت تذكيره بالاتفاقيات التي بينها وبين قبائل الساحل فرد عليها برسالة سنة 1855م جاء فيها:(بخصوص الاتفاقيات المعقودة بين شيوخ ساحل عمان والمقيم البريطاني إننا نعلم بذلك، وبأن الغرض منه منع المخالفات، وإني أوافق على هذه لتدابير موافقة تامة، لأنه يوجد بيننا وبين الحكومة البريطانية تفاهم مدته مائة عام، وذلك بقصد حماية التجار، والمسافرين في البحار، وإن سواحل عمان والمناطق التابعة لها هي على أية حال تابعة لشبه الجزيرة العربية التي نحكمها، وإن أهلها يدينون بالولاء لنا، وإن أهل المقاطعات الداخلية من عمان وفي قلب مواطن القبائل البدوية أقوى من الجميع، وهم يتحكمون في سكان الساحل، ويعتدون عليهم، وتعلمون أني عينت نائبا في عمان تحت تصرفه قوة عسكرية مهمته أن يمنع الاعتداءات والأضرار، وإن هؤلاء يتمتعون بحماية النائب المذكور، ووجوده هناك هو مرضاة لله ثم لأمير المؤمنين، وبما أنني تابع لحكومة تركيا (الدولة العثمانية) فإني أحمل تفويضا من السلطان بحكم جميع العرب نيابة عنه، نسأل الله أن يديم حكمهم ومجدهم).[25]
ومع إن سياسة بريطانيا كانت تقوم على أساس تعزيز استقلال قبائل الساحل ـ لأنها (ستكون الدولة الخاسرة فيما لو انهار استقلال الدويلات الساحلية) [26]ـ ومع ذلك لم تستطع بريطانيا الحيلولة دون دفع البحرين الزكاة لفيصل بن تركي الذي كان يقوم بدفعها إلى الباب العالي (فقد كانت السلطات البريطانية في الخليج تتحاشى الزج بنفسها في هذا الموضوع ) على حد قول كامبل المندوب البريطاني في بوشهر، الذي أكد له فيصل بأن البحرين ومنذ عصور بعيدة هي تابعة له، وتدفع الزكاة السنوية، وقد كتب فيصل إلى كامبل رسالة يؤكد فيها:
(إن ثمة تفاهم بيني وبين الحكومة البريطانية بشأن المناطق التابعة لنجد، والتي تمتد من عمان إلى الكويت، والتي لا يحق لكم ممارسة أي سلطة عليها، أو التدخل في شئونها).[27]
واستقر الوضع على ذلك، واستمر الهدوء إلى أواخر سنة 1859م[28].
وقد كتب المقيم البريطاني الجديد في بوشهر فيلكس جونز تقريرا حول الوضع، يحذر فيه من خطر امتداد النفوذ الوهابي الذي يبسط سيطرة الدولة العثمانية على السواحل والموانئ الخليجية[29].
وبعد أن وقع نزاع في البحرين واضطراب، وحاول جونز منع فيصل من التدخل فيه، رد عليه بقوله:(إنكم تعلمون بأن البحرين تابعة للأمير الوهابي، وأن القوانين التي فيها صادرة عنه، وأن الزكاة هو الذي فرضها، وأن جونز يتدخل فيما لا يعنيه) [30].
ولما أدرك شيخ البحرين محمد بن خليفة عجز المقيم البريطاني، وخطورة الوضع، بادر بإرسال رسالة لوالي بغداد عمر باشا يعرض عليه وضع البحرين تحت سيادة الخليفة العثماني مباشرة، دون واسطة فيصل بن تركي، وقد أرسل والي بغداد مندوبا عنه لترتيب الوضع، وفي إبريل سنة 1860م تم الاتفاق بين والي بغداد الجديد مصطفى باشا ومحمد الخليفة على دفع الزكاة لبغداد، واعتراف البحرين بالتبعية للدولة العثمانية، وتم رفع العلم العثماني[31].
ولم تعترض بريطانيا على ما جرى(فطالما أن ولاء حاكم البحرين أو تبعيته لأي دولة لا يستتبعه احتلال عسكري من جانب تلك الدولة، فإن ذلك لا أهمية له، ويجب تجاهله) على حد قول المعتمد السياسي البريطاني في بغداد رولنسون في رسالته لجونز، إذ أن ما يهم بريطانيا هو حماية البحر من أي قوة قد تشكل خطرا على مصالحها[32].




[1] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/381ـ383 .
[2] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 385-389 .
[3] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 389-390 .
فالقبائل العمانية تؤمن منذ ألف ومائتي عام بحقها في انتخاب الإمام إيمانا منها بمبدأ الشورى الإسلامي، والتي مارسته قرونا طويلة قبل أن يعرف العالم النظم الديمقراطية، غير أنها فقدت هذا الحق بعد الاستعمار البريطاني للمنطقة، وتثبيته للحكم الوراثي، وهو ما يمارسه الاستعمار اليوم الذي يرفع شعار الديمقراطية ويكرس النظم الاستبدادية الوراثية!
[4] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 396-397 .
[5] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/415ـ416 .
[6] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 469-470 .
تأمل مدى خشية الحملات الصليبية والدول الغربية الاستعمارية من الوحدة الإسلامية، وعملها على الحيلولة دون تحالف بين السنة والشيعة في المنطقة، لتدوم لها السيطرة على المنطقة في ظل تناحر طوائفها، وهو ما نجح الاستعمار اليوم باستثماره بتخويف كل طائفة من الأخرى، والوقوف مع هذه تارة، وهذه تارة، وقيام حلفائه بتعزيز روح العداء بين الطوائف، من أجل دوام حكمهم، كما جرى في احتلال العراق!
[7] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/472 .
[8] بريطانيا والخليج لكيلي 1/ 502، و524-530 ، وانظر تحفة المستفيد 145-150.
[9] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 552 .
[10] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 507.
[11] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 555 .
[12] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 556 .
[13] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 546و561 .
[14] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/565 .
[15] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 530 .وفي هذا أوضح دليل على مدى التضليل والزيف الثقافي المعاصر الذي يصور أوضاع الجزيرة العربية بأنها كانت فوضى، ولا وجود لدولة وسلطة، وأن تاريخها ظلمات حتى قامت دويلات الطوائف الصليبية فيها!
[16] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/597 ، وتحفة المستفيد 155.
[17] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 671 ، وسياسة الأمن لحكومة الهند 120 .
[18] وفي هذا أوضح دليل على مدى تطلع قبائل وسكان الخليج العربي إلى الوحدة، التي حال بينهم وبينها الاستعمار وحلفاؤه في المنطقة الذين جعلوا مصالحهم العشائرية الخاصة فوق كل اعتبار!
[19] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 671-679 .
[20] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/686 .
[21] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 692 .
[22] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 693-696 .
تأمل في السياسة الاستعمارية الصليبية في تكريسها للتفرقة، وكيف جعلت من القبائل دولا، ليسهل لها السيطرة عليه والحيلولة دون وحدتها، وهي المشكلة التي ما تزال قائمة إلى اليوم وتنتظر من يحقق طموح شعبها بالوحدة!
[23] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 701-702 .
[24] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 705 .
[25] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/181-182 ، وسياسة الأمن 117-118 .
[26] بريطانيا والخليج لجون كيلي 1/ 177 .
[27] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/179 .
[28] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/ 186 .
[29] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/193 .وكل هذه المراسلات تكشف مدى الزيف والتضليل في الثقافة المعاصرة التي تتحدث عن استقلال الإمارة الوهابية عن الخلافة العثمانية والدولة الإسلامية، فقد ظلت تابعة لها منذ تأسيسها إلى سقوطها في المرة الأولى ثم المرة الثانية.
[30] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/194 .
[31] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/197-200 .
[32] بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/203 .
(عبيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (6)
(السيطرة البريطانية على الجزيرة العربية وموقف الدعوة الوهابية)
بقلم د. حاكم المطيري
وفي يناير سنة 1875م توفي سعود بن فيصل بن تركي آل سعود في الرياض، وتم اختيار أخيه عبدالرحمن بن فيصل خلفا له، غير أن القبائل في الإحساء كانت ضده، وقد قام والي بغداد بضم الإحساء إلى لواء البصرة والمناطق السفلى التابعة له، وكانت تحت حكم ناصر السعدون[1].
وفي شهر يونيو سنة 1876م أرسل السيد الفضل العلوي حاكم صلالة وإقليم ظفار إلى الباب العالي يؤكد تبعيته للخلافة العثمانية، بناء على رغبة سكان الإقليم، وطلب من الدولة العثمانية تزويده بالسفن والعتاد العسكري لتأمين المنطقة، وقد توطد نفوذ العلوي بتأييد قبائل ظفار له، ورفع العلم العثماني، وقد كتب المسئولون البريطانيون في حكومة الهند تقريرا عن العلوي وبأنه ( شخص خطير حاقد على بريطانيا وأن دعوته أكثر تطرفا من الدعوة الوهابية)، مما دفع بريطانيا للتدخل والتخطيط للقضاء على العلوي الذي يهدد سيادتها البحرية ونفوذها في مسقط[2].
ويلاحظ أن تهمة التطرف وتهديد الأمن هي الشماعة التي تستخدمها الحملات الصليبية الحديثة لاحتلال المنطقة، ولمواجهة كل من يتصدى لمقاومتها!
وقد وقعت اضطرابات على السواحل بين الإحساء وقطر سنة 1876م قامت بها قبائل بني هاجر والمرة، وقد كتبت حكومة الهند إلى لندن بأنه (كثر التعدي من القبائل التابعة للعثمانيين كبني هاجر والمرة)[3].
وقد دفع ذلك المسئولين البريطانيين إلى اقتراح (تحديد المناطق التي للدولة العثمانية عليها سيادة، وأنه يتعين على بريطانيا الاعتراف للدولة العثمانية بالسيادة الإقليمية على الساحل العربي، ضمن حدود معينة، فالموانئ العثمانية على الخليج هي الكويت، والقطيف، والعقير، وعلى الجانب الساحلي من الخور ويعرف بساحل قطر، ويضم البدعة، والوكرة، والعديد، بالإضافة إلى مرفأين أو ثلاثة مرافئ صغيرة، ومن ثم فاستيلاء الدولة العثمانية على هذا الساحل لا يعطيها أي مزايا، غير أن السيادة الوهمية التي تمارسها على هذه المنطقة، والتي تتمثل في وجود قوة عسكرية صغيرة ترابط في البدعة، قد بدأت تشكل خطرا على بريطانيا، نظرا لتدخل المسئولين الأتراك في شئوننا التجارية المشروعة، التي نحقق من ورائها كثيرا من المكاسب، وباستثارتهم للمشاعر القومية للسكان العرب في هذه المناطق،ولو تم ذلك ـ أي تحديد المناطق وتنازل الدولة العثمانية عن سيادتها وديا على الساحل الممتد من جنوب العقير إلى مقابل ساحل البحرين ـ فإن هذه المبادرة سوف تخدم بريطانيا إلى حد كبير، ويمكن وضع حد لروح القرصنة التي تسود القبائل)[4].
التطلع البريطاني للسيطرة على داخل الجزيرة العربية:
وقد بدأت حكومة الهند البريطانية تتطلع إلى تحديد الحدود البرية لشيوخ قبائل الساحل، مع ضمان الحماية البرية لهم، كما هو الحال في البحر، وهذه أول مرة تفكر فيها حكومة الهند بالتدخل في منطقة الظهير البري[5].
ولم يتحقق هذا الاقتراح إلا بعد ثلاثين سنة، أي في سنة 1913م، في إطار الاتفاقية العثمانية البريطانية المعقودة في العقير بتاريخ 29 يوليو، التي تم بموجبها رسم حدود السيادة العثمانية في الأجزاء الشرقية من شبه الجزيرة العربية، والتي تمتد من جنوب العقير إلى الربع الخالي جنوبا، والذي عرف فيما بعد بالخط الأزرق[6].
وقد كان هناك اعتراف من المسئولين البريطانيين بحدود السيادة العثمانية الفعلية، وأن (المنطقة الممتدة من البصرة إلى العديد ـ مرورا بالكويت والإحساء ـ تشكل المنطقة الساحلية المعترف بالسلطة السياسية والإدارية للدولة العثمانية عليها، وفي القطيف والعقير توجد لها حاميات وجهاز إداري، أما في البدعة على الساحل الشرقي من رأس قطر فإن السلطة العثمانية سلطة قوية، وإن لم تكن منتظمة)[7].
كما اعترف المسئولون البريطانيون بأن معاهداتهم مع مسقط وقبائل ساحل عمان لم تضمن لبريطانيا وحكومة الهند البريطانية ممارسة أي سيادة من أي نوع على تلك القبائل، وأنه لا بد من تغيير هذه السياسة التي أفقدت بريطانيا نفوذها في الخليج في مقابل ازدياد النفوذ العثماني في الجزيرة والخليج العربي، الذي أدى إلى تقليص النفوذ البريطاني البحري[8].
وفي شهر أغسطس/ 8 سنة 1879م صدر مرسوم من الوالي العثماني في البصرة عبدالله باشا باعتبار مسقط، والبحرين، والشحر، والمكلا، وكل الموانئ على سواحل الجزيرة العربية الشرقية والغربية هي موانئ عثمانية، ما عدا ميناء عدن، وقد حاول البريطانيون الاعتراض والاحتجاج على هذا المرسوم، فلم يرد عليهم العثمانيون، ولم يلتفتوا إليهم[9].
وقد سمحت بريطانيا للمقيم السياسي البريطاني سنة 1879م باستخدام اللازم ضد القراصنة في المياه الإقليمية العثمانية في شرق شبه الجزيرة العربية، الممتدة من الكويت إلى قطر ضمن مرمى قذائف المدفعية البحرية البريطانية، غير أن الخارجية البريطانية تحفظت على هذا الإجراء(لأنه بالنظر إلى عدم وجود معاهدة تنص على مثل هذه الإجراءات، فإن مهمة السفن البريطانية تقتصر على مكافحة أعمال القرصنة في المياه الدولية، خارج المياه الإقليمية التركية، وقد صدرت تعليمات إلى قائد الأسطول تدعوه إلى الامتناع عن القيام بأية إجراءات عدائية ضد الأراضي التركية، أو المياه الإقليمية التركية، دون موافقة الأتراك وتعاونهم)[10].
وقد وصل المسئولون البريطانيون إلى قناعة بأن (الرقابة البحرية التي كانت تمارسها الحكومة البريطانية في الخليج رقابة محدودة، وكان الشيء الوحيد المطلوب من شيوخ المنطقة هو عدم اعتداء أحد منهم على الأطراف الأخرى المشتركة في معاهدة السلم البحرية لعام 1853م، كما أن مجال التدخل البريطاني ضد أي اعتداء من ذلك النوع محدود)[11].
مما يستدعي من الحكومة البريطانية إعادة النظر في المعاهدات مع شيوخ القبائل، ومع الدولة العثمانية لتحديد المناطق التي تحت سيادتها.
وقد رفضت الدولة العثمانية اتخاذ أي إجراءات مشتركة مع بريطانيا يخول بريطانيا حق مطاردة القراصنة في مياهها الإقليمية في الخليج العربي، وهو ما زاد من تعقيد وتقليص النفوذ البريطاني في الخليج، خاصة وأن السيادة العثمانية على داخل الجزيرة العربية وفي البر يجعل لها السيادة على مياهها الإقليمية في سواحل الخليج من البصرة إلى قطر حيث لا خلاف على سيادتها على هذه المنطقة.
وقد أكد الخبراء القانونيون البريطانيون الذين تمت استشارتهم في هذا الموضوع بأن بريطانيا لا تتمتع بحق انتهاك المياه الإقليمية العثمانية، ووافقوا بهذا الرأي، رأي الخارجية البريطانية، وهو ما لم يرتضه مكتب شئون الهند البريطانية[12].
ويلاحظ أن بريطانيا اتخذت من دعوى مكافحة قراصنة البحر الخليجيين، ذريعة لاحتلال المنطقة، كما تتخذ الولايات المتحدة اليوم مكافحة الإرهاب ذريعة لتكريس احتلالها للمنطقة!
المخطط البريطاني لمشروع الثورة العربية ضد الخلافة العثمانية سنة 1880م:
وقد وجد البريطانيون صعوبة في التوصل إلى اتفاق حول هذا الموضوع مع الدولة العثمانية، خاصة بعد ازدياد شك الخليفة العثماني السلطان عبدالحميد الثاني بالمؤامرة البريطانية ضد الخلافة العثمانية، والذي كان يصر على أن البريطانيين يخططونلثورة العرب في أقاليم الخلافة ضد الباب العالي، وأنهم يستغلون تذمر العرب لفصل أقاليمهم عن الدولة العثمانية، وفرض السيطرة البريطانية عليها، حيث تلقى السلطان معلومات في فبراير سنة 1880م من مصادر عدة، تفيد بأن بعض العرب في الجزيرة والعراق وسوريا مستعدون للثورة إذا وجدوا دعما من بريطانيا أو أي دولة أخرى، وأن الحجاز هو مصدر تلك الحركة، ومن المحتمل أن يكون شريف مكة، الذي يطمح أن يكون خليفة للمسلمين، ضالعا في هذه المؤامرة، ولم تجد المحاولات التي بذلت مع السلطان عبدالحميد من أجل تبديد تلك المخاوف التي تسيطر على عقله[13].
ومما يؤكد شك السلطان عبدالحميد أن شريف مكة حسين بن محمد بن عون قد عرض على الحكومة البريطانية تكليفه بإرسال رسول منه إلى ملك أفغانستان، ليدعوه إلى الدخول في علاقة مع بريطانيا، وقد تم فعلا الاتفاق بشكل سري بين شريف مكة والقنصل البريطاني في جدة لعقد الاجتماع وإعداد الترتيبات لهذه المهمة، غير أنه وقبل الاجتماع بأيام تم اغتيال الشريف[14].
وقد اختار السلطان عبدالحميد الشريف عبدالمطلب أميرا على مكة لشدة عداوته لبريطانيا، كما تأكد للسلطان عبدالحميد منذ أواسط سنة 1880م، عن طريق مصادره من وجود مؤامرة بريطانية تستهدف نفوذه في نجد والإحساء، وذلك بتأييدها بعض آل سعود، وهو عبدالله بن ثنيان بن سعود، وقد تمت اللقاءات بين ابن سعود وبين السفير البريطاني في اسطنبول لطلب دعم بريطانيا، وقد وعدها بالسيطرة على القبائل الساحلية، وأنه سيحقق بذلك مصالح بريطانيا[15].
المخطط الأوربي الصليبي للقضاء على الخلافة العثمانية وتقاسم أقاليمها:
وكانت بريطانيا قد طالبت الدول الأوربية في مؤتمر برلين سنة 1880م بإعادة تقسيم أقاليم الدولة العثمانية، وهو ما أثار سخط السلطان عبدالحميد على بريطانيا، التي كانت حليفة قبل ذلك للدولة العثمانية، وقد قامت بريطانيا بتنفيذ مخططها عمليا باحتلال مصر سنة 1882م[16].
وقد كان عذرها في احتلال مصر هو أنها تريد إعادة الأمن والاستقرار لها، مع أنها تعترف بسيادة الدولة العثمانية عليها، وتبعيتها لها!
وقد بدأت بريطانيا أيضا من طرفها بالحذر والخشية من أن يكون السلطان عبدالحميد وراء الاضطرابات وتأجيج مشاعر المسلمين في الهند، بدعوى أنه خليفة للمسلمين في كل مكان، وقد توصل ماليت سكرتير مكتب الشئون الهندية البريطانية إلى أن (الأمل ضعيف في التخلص من السلطان وتجريده من سلطته الدينية، كما حدث بالنسبة للبابا، فإن السلطان العثماني وحكومته يشكلان رمزا لأقطار عديدة أغلبية سكانها من الرجعيين والمتعصبين والمعادين لكل مظهر من مظاهر المدنية الحديثة التي ميزت شعوب أقطار أوربا)[17].
معاهدات الاحتلال والحماية البريطانية مع شيوخ الخليج العربي:
وفي 22 ديسمبر سنة 1880م، وخشية من امتداد النفوذ العثماني إلى البحرين، وقعت بريطانيا معاهدة الحماية التي تنص على أن يلتزم شيخ البحرين وذريته من بعده بأن لا يتصرف في أراضي بلده، ولا يعقد أي اتفاق مع أي دولة، ولا يقيم علاقة دبلوماسية قبل الرجوع إلى بريطانيا (وقد عززت هذه المعاهدة من ارتباط البحرين بالحكومة البريطانية، وحولتها إلى دولة تابعة تبعية مطلقة لبريطانيا)[18].
وفي ديسمبر سنة 1887م وقعت بريطانيا اتفاقيات مماثلة مع شيوخ قبائل ساحل عمان المهادن– الإمارات العربية -[19].
ويلاحظ عبارة (شيوخ القبائل) فهي تعبر أوضح تعبير وأصدقه عن واقع هذه المشيخات الصغيرة حين وقعت بريطانيا معها اتفاقيات الحماية، وأنها لم تكن مدنا فضلا عن دول، وهو ما يبطل قانونية كل تلك المعاهدات حسب القانون الدولي، إذ لم تكن بين دولتين بل بين دولة وموانئ تابعة لدولة أخرى هي الدولة العثمانية!
وما لبثت أن سقطت الرياض سنة 1888م على يد محمد ابن رشيد أمير حائل، الذي ظل تابعا للخلافة العثمانية، وكذا ظل الحجاز تحت حكم الأشراف تابعا للخلافة العثمانية.
وفي مارس 3 سنة 1891م، وقعت بريطانيا معاهدة حماية مع سلطان مسقط.
وفي سنة 1892م وقعت معاهدات حماية شبيهة لمعاهدة مسقط مع كل من البحرين، وشيوخ الإمارات الخليجية، في مايو 5 سنة 1896م[20].
وبعد اغتيال مبارك الصباح أخاه محمداسنة 1896م ـ بتخطيط بريطاني بسبب رفض محمد للمعاهدة لأنه موظف عثماني كما سيأتي[21] ـ طلب مبارك الصباح من المقيم السياسي البريطاني في بوشهر توقيع معاهدة حماية معه، إلا أن بريطانيا تحفظت لكون الكويت تابعة بشكل رسمي للدولة العثمانية، وخشيت بريطانيا من إثارة المشاكل معها، وفي 21يناير سنة 1899م، وقعت بريطانيا اتفاقية حماية مع مبارك كمثل اتفاقية البحرين[22].
وقد ظلت اتفاقية الكويت سرية، لكون مبارك ما زال يحمل صفة قائممقام عثماني.
وقد كانت اتفاقيات بريطانيا مع شيوخ الساحل كلها غير قانونية إذ إنه لم يكن للشيوخ أي صفة قانونية ليوقعوا مثل هذه الاتفاقيات، حيث إن مدنهم كانت جزءا من دولة كبرى هي الدولة العثمانية بشكل رسمي، كما إن شيوخها كانوا موظفين رسميين فيها من قبل الخليفة العثماني، ويتقاضون مخصصاتهم من خزينة الدولة العثمانية، حين وقعوا تلك الاتفاقيات، وهذا ما دفع بريطانيا لتوقيعها بصورة سرية.
كما كانت بريطانيا تخشى أن تحدث اضطرابات أهلية إذا تم افتضاح أمر هذه المعاهدات، وهذا ما حدث بالفعل إذ أصدر علماء الوهابية في نجد فتاواهم في ردة من دخلوا في مثل تلك المعاهدات، حيث أفتى عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ فتوى في أهل الخليج جاء فيها(وانتقل الحال بهم حتى دخلوا في طاعتهم،واطمئنوا إليهم، وطلبوا صلاح دنياهم بذهاب دينهم، وهو بلا شك أعظم أنواع الردة .. وقد قال تعالى{ترى كثيرا منهم يتولون الذين كفروا لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون}، وقال سبحانه{يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم}...فكل من دخل في طاعتهم، وأظهر موالاتهم، فقد حارب الله ورسوله، وارتد عن دين الإسلام ووجب جهاده ومعاداته)[23].
كما كثر السؤال عن حكم مثل تلك المعاهدات فصدرت الفتاوى الجماعية من علماء نجد كعبدالله بن عبداللطيف وإبراهيم بن عبداللطيف وسليمان بن سحمان بأن الدخول تحت الحماية البريطانية ردة عن الإسلام[24].
وقد ظلت بريطانيا تعترف بالسيادة العثمانية على ساحل الخليج من البصرة إلى قطر مرورا بالكويت، والإحساء، حتى سنة 1895م، حيث أعلنت عن عدم اعترافها بالسيادة العثمانية على قطر التي ما زالت فيها حامية عثمانية[25].
وفي 3 نوفمبر سنة 1916م، وبعد قيام الحرب العالمية الأولى، وقعت قطر اتفاقية الحماية مع بريطانيا، بنفس شروط معاهدة البحرين، ليصبح الخليج العربي كله تابعا تبعية مطلقة لبريطانيا، فاقدا أي سيادة في ظل الاستعمار البريطاني للخليج العربي، الذي استمر منذ ذلك الحين، إلى الاستقلال الصوري في أواخر القرن العشرين، حيث حلت الولايات المتحدة محل بريطانيا، وما زالت الإشكالية!
وللحديث بقية..




[1]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/656 .
[2]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/671-673.
تأمل في التهمة البريطانية للسيد العلوي بأنه متطرف خطير لا لشيء إلا لأنه يقاوم الحملة الصليبية البريطانية الاستعمارية على الخليج والجزيرة العربية، فما أشبه الليلة بالبارحة!
[3]سياسة الأمن 225 .
[4]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/662-663 .
[5]سياسة الأمن 228 .
[6]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/663 .
[7]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/710-711 .
[8]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/711-715 ، وسياسة الأمن 228 .
[9]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/724-725 .
[10]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/717-718 ، وسياسة الأمن 234 .
[11]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/718.
[12]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/728 .
[13]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/731-732 وقد أثبتت الأيام صحة رأي السلطان عبدالحميد حيث كانت بريطانيا وراء الثورة العربية التي حدثت بعد ثلاثين سنة!
[14]المصدر السابق .
[15]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/734-735 .
[16]سياسة الأمن 234 .
[17]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/738 .
وتأمل في هذه العبارة والنظرة الصليبية للعالم الإسلامي وقارنها بتصريحات بوش الثانيورئيس وزراء إيطاليابرلسكونيـ إبان الحرب على أفغانستان والعراقـ عن الإسلام والمسلمين اليوم لتعرف أبعاد الحملة الاستعمارية الغربية الصليبية الجديدة على العالم العري والإسلامي، وأن الروح الصليبية ما زالت مؤثرة بشكل رئيسي في السياسة الغربية والأوربية في المنطقة الإسلامية والعربية!
[18]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/749-751 .
[19]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/762 ، وسياسة الأمن 251.
[20]سياسة الأمن 257 .
[21]انظر أوراق الزعيم المصري مصطفى كامل المقالات الجزء الثاني ص 232.
[22]بريطانيا والخليج لجون كيلي 2/766 .
[23]الدرر السنية 8/11 .
[24]الدرر السنية 10/435 .
[25]سياسة الأمن 237-239 .



بيد بلا أغلال) ..الحرية وأزمة الهوية في الخليج والجزيرة العربية (7)
(الرؤية البريطانية الاستعمارية لمستقبل الجزيرة العربية)
أ.د.حاكم المطيري

لقد أدرك البريطانيون الواقع الذي كانت عليه الأوضاع في الجزيرة والخليج العربي حيث لا وجود لدولة أو ما يمكن أن يصدق عليه اسم دولة، بل كان الإقليم كله جزء من الدولة والخلافة العثمانية، وقد عمل البريطانيون على توظيف ذلك الواقع لصالح المشروع الاستعماري البريطاني، الذي كان ينتظر الفرصة التاريخية السانحة للانقضاض على الدولة العثمانية واحتلال أقاليمها بعد ضعفها، وقد أكدت التقارير البريطانية سنة 1917م ـ كما في تقرير هرتزل ـ أهمية الجزيرة العربية بالنسبة لبريطانيا حيث جاء فيها (إن أهمية الجزيرة العربية من حيث موقعها الجغرافي أمر معروف، ولا يمكن لأي قسم من تلك البلاد ألا يهم بريطانيا العظمى التي هي الدولة الوحيدة ذات موطئ القدم في البلاد في الوقت الحاضر، إن سيطرتنا محدودة على شريط ضيق محاذ للساحل من عدن إلى الكويت، وإنه يعتمد في نهاية الأمر على استتباب الهدوء في المناطق الداخلية ـ أي القبائل داخل الصحراء ـ ولما كنا غير قادرين على التدخل في داخلية البلاد أو السيطرة عليها، فإنه لأمر أساسي استبعاد كل بذور الاضطراب المحتملة، إن جزيرة لعرب ليست دولة بأي معنى فعلي، بل هي مجموعة من العشائر، وهي مستقرة تقريبا في المناطق الخصبة قرب الساحل، وفي ما عدا ذلك فهي رحالة يرأسها شيوخ لا تقرر سلطاتهم الحدود الأرضية، بل العشائر التي يرأسونها في وقت معين، إن سياستهم متشابكة بصورة وثيقة، وإذا نشب نزاع فإنه قد يمتد إلى الجزيرة كلها، ولدينا مع العشائر والشيوخ على الساحل المذكور علاقات تنظمها معاهدات ... وحين يخرج الأتراك من الجزيرة العربية، فإنها لن تقع بيد سيد عربي واحد)[1].ص
كما درس علماء الأجناس البريطانيون ـ كما في الموسوعة البريطانية ـ خصائص الجنس العربي في شبه الجزيرة العربية وأنهم(من حيث التكوين الطبيعي من أقوى وأنبل العروق البشرية في العالم، فهم جسديا لا يرضخون إلا للقلة من الأجناس البشرية هذا إذا رضخوا لأي منها، فأما ذهنيا فإنهم متفوقون على معظم أجناس البشر، ولا يحد مسيرة تقدمهم سوى النقص الملحوظ في القدرة على التنظيم، وعجزهم عن القيام بعمل مشترك)[2].
فقد كان البريطانيون يؤمنون بأن (العرب لا يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، والاستقلال للمناطق العربية كما ورد على ألسنة المسئولين البريطانيين خلال أحاديثهم أثناء الحرب، كان يعني فقط الاستقلال عن الامبراطورية العثمانية، وأن هذه المناطق ستدور في فلك دولة أوربية ما).
كما تمت الكتابة بتاريخ 26 / 8 / 1915م إلى حاكم الهند البريطاني من قبل البريطانيين المهتمين بشئون المنطقة(ليس بالأمر المستحيل أن يقوم في وقت ما في المستقبل اتحاد فيدرالي لدول عربية شبه مستقلة، بتوجيه وتأييد أوربي، وتكون هذه الدول مرتبطة مع بعضها على أرضية عرقية ولغوية، وتكون مدينة بالولاء الروحي لرأس عربي، وتتطلع إلى بريطانيا على أنها ولية أمرها وحاميتها).
كما أكد اللورد كيتشنر ضرورة نقل الخلافة من اسطنبول قبل أن تقع تحت النفوذ الروسي، إلى الجزيرة العربية حيث ستظل الخلافة فيها تحت التأثير البريطاني[3].
لقد قررت بريطانيا احتلال الخليج والجزيرة والسيطرة عليها تدريجيا دون استثارة الدولة العثمانية التي كانت تعيش أوضاعا سيئة، فقامت بتوقيع اتفاقيات سرية مع شيوخ الساحل باسم معاهدات الحماية، بينما هي احتلال غير مباشر للمناطق التي وقعت معها المعاهدات من غير أي صفة قانونية، فقد وقعت بريطانيا معاهدة حماية مع عمان سنة 1891م، وقد نصت في القسم السري منها على أن لا يتصرف سلطان عمان بأي جزء من أرضه بأي شكل من أشكال التصرف دون الرجوع إلى السلطة البريطانية، وكذا وقعت بريطانيا سنة 1892م معاهدة حماية بالشروط نفسها مع البحرين ومع مشيخات الخليج المهادن(رأس الخيمة، والفجيرة، وأم القوين، والشارقة، ودبي، وأبو ظبي).
لقد ظلت بريطانيا تقر للخلافة العثمانية بسيادتها المباشرة على الخليج العربي من البصرة إلى ميناء القطيف، ففي سنة 1876م جاء في تقرير رسمي لنائب المعتمد البريطاني في الخليج العربي ما يلي(الموانئ العثمانية المهمة على الساحل العربي من الخليج هي الكويت والقطيف والعقير)، وكذا اعترفت حكومة الهند البريطانية سنة 1878م بالسيطرة العثمانية على جميع الساحل العربي من البصرة إلى العقير، وحق الحكومة العثمانية بمطاردة القراصنة في البر والبحر، وكذا اعترف السفير البريطاني في اسطنبول سنة 1879م نيابة عن وزير الخارجية بالاعتراف بالسيادة العثمانية المباشرة على سواحل الخليج من البصرة إلى العقير، وفي سنة 1893م أكد السفير البريطاني في اسطنبول بصورة رسمية اعتراف حكومته بالسيادة العثمانية على ساحل الخليج من البصرة إلى القطيف[4].
وكانت بريطانيا قد طلبت من جابر الصباح في حدود سنة 1856م أن يوقع معها اتفاقية حماية فرفض اعترافا بتبعيته للدولة العثمانية حيث قال (إن الحكومة العثمانية جارتنا ـ هكذا في تاريخ الرشيد! والصحيح حكومتنا ـ وجل ما نحتاجه يأتينا من بلدها البصرة التي لها فيها الأمر والنهي)، وقد أكرمه والي البصرة العثماني رشيد باشا بإجراء مخصصات مالية له ولأسرته، وتكرمت عليه الدولة العثمانية بفرمان وعلم أخضر، ثم بعد ذلك في سنة 1871م عينت الدولة العثمانية عبد الله الثاني بن جابر قائم مقام للكويت تابعا لولاية البصرة العثمانية[5].
وكما يقول لوريمر(ظل عبدالله بن صباح الذي تولى المشيخة بعد أبيه من 1866 إلى 1892 على علاقة وثيقة بالحكومة التركية طوال مدة حكمه، وكان مطيعا ومتحمسا لأن يكون أداة للسياسة التركية، وفي سنة 1870 كان هو الوسيط الذي من خلاله قدم عبدالله بن فيصل أمير الوهابيين المعزول عونه للأتراك، وفي 1870 قدم عبدالله وسائل النقل البحري المؤلفة من 300 سفينة أهلية لنقل القوات التركية المتجهة لفتح الأحساء، وقد صحب الحملة بنفسه، وعن طريقه تم إقناع شيخ الدوحة في قطر برفع العلم التركي، وحين ذهب مدحت باشا والي بغداد في جولة تفتيشية في إقليم الأحساء قبل نهاية السنة توقف في الكويت ونصب الشيخ عبدالله على الكويت، وأوضح أنه كان قائمقاما للحكومة التركية في الكويت التي اعتبرت أن الكويت أصبحت تابعة لتركيا في الوقت الذي أصبحت فيه الأحساء كذلك)[6].
(ويبدو في أثناء حكم الشيخ عبدالله 1866 ـ 1892 أن السلطات البريطانية في الخليج لم تكن لها علاقة مباشرة بالكويت حيث كان ينظر إلى هذا المكان على أنه تابع للسيطرة التركية )[7].
وفي إبريل سنة 1893 كتب السفير البريطاني في اسطنبول خطابا رسميا للخارجية العثمانية يبلغها فيه باعتراف الحكومة البريطانية بالسيادة العثمانية على ساحل الخليج من البصرة إلى القطيف[8].
ثم حاولت بريطانيا بعد وفاة عبدالله توقيع معاهدة مع أخيه محمد بن صباح في حدود سنة 1895م غير أنه رفض الطلب اعترافا بتبعيته للدولة العثمانية[9].
وبعد اغتيال مبارك لأخيه محمد سنة 1896 ظلت العلاقة مع الدولة العثمانية كما هي، واعترف مبارك بولائه للخليفة العثماني، ورفع العلم التركي، واستقبل مسئولا تركيا عن الحجر الصحي، وفي ديسمبر سنة 1897 صدر فرمان عثماني بتعيين مبارك قائمقاما للكويت تابعا لولاية البصرة، وبدأ اسمه يتردد في التقارير الرسمية للولاية، وبدأت مراسلاته من البصرة على هذا الأساس، وجعل له راتب شهري 300 جنيه في العام[10].
وقد تم بعد ذلك تدبير بريطانيا للانقلاب من مبارك على أخيه محمد وقتله له، وتوقيع مبارك المعاهدة السرية مع بريطانيا سنة 1899، وقد ذكر مصطفى كامل ـ الزعيم المصري المشهور وقائد مصر نحو الاستقلال في مقال له في جريدة اللواء 26/8/1902م بعنوان(إنكلترا والإسلام)ـ هذه الفتنة التي وراءها يد بريطانية وجاء فيه(كيف يتصور عقل سليم أن بريطانيا التي احتلت مصر خداعا، وسلبت السودان سلبا، وحرضت الأمة العربية على رفع العصيان في وجه الخليفة، ودعت المسلمين للافتراق والاختلاف، وبذرت بذور الفساد، ونشرت عصابات الدخلاء في بلادهم ليميتوا الشهامة من قلوبهم، تصير في يوم من الأيام حليفة للدولة العثمانية، وحليفة للمسلمين والإسلام؟!إن الدول عامة وإنجلترا خاصة لا يتسابقن إلى طلب صداقة تركيا إلا إذا سعين وراء امتياز، أو تنافس في طلب معدن، أو احتلال جزيرة، أو استئجار شاطئ؟!لقد احتلت بريطانيا قبرص بدعوى مساعدة الدولة العثمانية، واحتلت مصر بحجة إنقاذ الخديوية المصرية، وفصلت السودان عن مصر ثم استردته بمال مصر وجنودها، ليكون مستعمرة بريطانية متصلة بمصر من جهة، ومطلة على البحر الأحمر وبلاد العرب من جهة أخرى، وأثارت الفتن في الكويت واليمن ليتم لها ما أرادت، لتؤسس الخلافة العربية التي كان نابليون مولعا بها، ولم يبق في أوربا أحد من رجال السياسة إلا وتراه عالما بهذه الخطة وتلك الغاية، فلا تقوم في بلاد العرب فتنة حتى تنادي الصحف هناك بأن اليد المدبرة لها هي يد بريطانيا!وقد باحثت جريدة(غازيت دي لا كروا)أخيرا في هذا الموضوع فقالت:إن بريطانيا تريد محو الحبشة لأنها العائق بينها وبين أغراضها، ولكنها لا تجد من النجاشي مساعدا على خراب بلاده كما وجدت من شيخ الكويت الذي جهل أنه باستسلامه يضع الحجر الأول للخلافة العربية التي يعمل لها الإنجليز وبها يتم للمسلمين الشقاء وتضيع من أيديهم أسباب العز والرخاء!هذا ما يقوله كتاب الغرب، فأين أنتم يا كتاب المسلمين وساستهم لترفعوا أصواتكم منذرين ومحذرين الأمم العربية من الخطر المهدد لها؟!أين أنتم لترددوا لهم ما قاله فيكتور هيجو :يوجد بعض أمكنة وبعض ساعات من نام فيها مات!وترشدوهم إلى أن الساعة الحاضرة هي من تلك الساعات التي أشار إليها شاعر فرنسا الكبير!أين أنتم لتقنعوا أولئك الضالين الذين تخدعهم انجلترا ليكونوا يدا واحدة في إحياء الملة وحماية الإسلام)[11].
وقد ذكر المؤرخ الروسي لوتسكي في كتابه(تاريخ الأقطار العربية)هذه الحادثة التي حدثت في الكويت حيث قال:(كانت انجلترا تهدف دائما إلى فرض سيطرتها على دول الخليج العربي وتحويله إلى بحيرة إنجليزية، وكانت الكويت هي المكملة لهذا المخطط، فقد كانت الكويت تحت سيطرة الباب العالي، وفي سنة 1895م حاولت عقد علاقة تحالف مع شيخ الكويت محمد الصباح ولكنه رفض، فدبرت مؤامرة لقتله هو والمقربين إليه، وتولى السلطة من بعده أخوه مبارك الصباح الذي بادر بعقد اتفاقية سرية مع إنجلترا سنة 1899م، وجرت مفاوضات بين إنجلترا وتركيا سنة 1901م انتهت بعقد اتفاقية تنص على اعتراف انجلترا بسيادة تركيا على الكويت، والاعتراف بالاتفاقية البريطانية مع الكويت، وهكذا بسطت بريطانيا سلطتها على الكويت)[12].
وقد حامت الشبهة حول دوافع الإنقلاب الذي قام به مبارك الصباح حتى وصل الأمر للباب العالي بأن بريطانيا تخلصت من محمد الصباح على يد أخيه مبارك، بإيعاز من المقيم البريطاني بالخليج العربي، لكونه كان عقبة أمام مشروعها، لضم الكويت لدول الساحل الخليجي، بل إن بعض الدوائر الرسمية البريطانية أخذت بترديد هذه الفرضية[13].
وقد تكررت الحادثة مع الشيخ مزعل شيخ عربستان الذي رفض توقيع معاهدة مع بريطانيا في الفترة نفسها فقام أخوه خزعل بالانقلاب عليه، ووقع المعاهدة مع بريطانيا!(لقد كان موقف شيخ المحمرة معاديا للحكومة البريطانية، ولكن في سنة 1897 تغيرت الأمور عقب اغتيال الشيخ مزعل وتولي الشيخ خزعل مشيخة تلك الإمارة الذي لم يكتف بتأييد المصالح البريطانية وممثلي بريطانيا وحسب بل تقدم سرا لوضع نفسه تحت الحماية البريطانية)[14].
وسيصبح الرجلان مبارك وخزعل ـ بعد اغتيالهما أخويهما ـ رجلي بريطانيا في الخليج العربي بعد ذلك!
وقد حدث الاغتيال لمزعل بعد أشهر من اغتيال محمد على يد مبارك!
لقد كان اتصال مبارك الصباح بالبريطانيين مبكرا ففي سنة 1863 زار الرائد والمقيم البريطاني بيللي الكويت فوصل من البصرة إلى الجهراء ومن هناك صاحبه مبارك بن صباح لوالده الشيخ صباح الذي قضى معه بيللي يومين، وكما يقول لوريمر(ولا شك في أن الرائد قد استطاع أن يتعرف بوضوح على مستقبل الكويت المحتمل كميناء تجاري إلى جانب صلاحيتها كي تكون قاعدة لمحطة تلغراف ومستودعات للفحم)[15].
وقد أثبتت الوثائق بأن مبارك الصباح قد زار البحرين قبل اغتيال أخويه ولبث فيها شهرين، وكان في زيارة للمعتمد البريطاني فيها، وبعد رجوعه مباشرة قام بالانقلاب على أخويه[16]!
لقد نجحت بريطانيا في مسعاها للتخلص من محمد الصباح، ووقعت معاهدة سرية مع أخيه مبارك الصباح سنة 1899م، التزم فيها هو ومن يخلفه على أن لا يتصرف بأي شكل من الأشكال في أرضه إلا بعد الرجوع إلى السلطة البريطانية، وأن لا يتصل بأي دولة أخرى إلا بعد الرجوع إلى بريطانيا، وأن تشرف بريطانيا على شئون الكويت الخارجية، وأن تظل الاتفاقية سرية، وقد دفعت بريطانيا مقابل توقيع مبارك على تلك الاتفاقية خمسة عشر ألف روبية[17].
والمقصود بالكويت في الاتفاقية مدينة الكويت فقط، إذ لم تتجاوز سلطة شيخ الكويت آنذاك حدود أسوار المدينة الصغيرة التي كانت ميناء بحريا.
وقد قدم السفير العثماني في لندن عندما وقف على مضمون المعاهدة بين مبارك وبريطانيا احتجاجا رسميا على هذه المعاهدة حيث إن مبارك الصباح من رعايا الدولة العثمانية، وإن مثل هذه المعاهدة تعد تحديا لسيادة الدولة العثمانية، وقد ردت الحكومة البريطانية بأنها لا تعتزم التدخل في الوضع القائم في الكويت[18].
كما طلبت بريطانيا أن يتعهد لها مبارك خطيا بأن يمنع استيراد أو تصدير الأسلحة من الكويت وإليها فأصدر منشورا بذلك في مارس 1900م[19].
احتلال الرياض :
وبعد هذه الاتفاقية مع مبارك بدأت بريطانيا تتطلع إلى داخل الجزيرة العربية، ووجدت الكويت أقرب منطقة للتدخل فيها، فبعد تلك المعاهدة مباشرة خرج ابن سعود سنة 1900م من الكويت إلى الرياض للاستيلاء عليها، بتوجيه وتخطيط من الكويت، وبدعم عسكري ومادي[20].
وهذا ما كان يخشاه مدحت باشا والي بغداد من قبل، حيث توقع أن سيطرة بريطانيا على الكويت ستشكل خطرا على نجد والعراق، إذ تمثل الكويت أقرب نقطة يمكن للبريطانيين الانطلاق منها نحو هذين الإقليمين المهمين للخلافة العثمانية[21].
وقد بدأ مبارك الصباح تحت إشراف وتوجيه حكومة الهند بتنفيذ المشروع البريطاني بعد توقيع المعاهدة السرية مباشرة، حيث خرج مبارك بعد المعاهدة بأشهر ومعه قبائل كثيرة إلى ابن رشيد في حائل ـ رجل الدولة العثمانية في نجد ـ وكان الهدف إشغاله ليتمكن ابن سعود من السيطرة على الرياض، فانهزم مبارك ومن معه في معركة الصريف، وانسحب ابن سعود من الرياض، ثم بعد أشهر نجح ابن سعود في احتلال الرياض، وأرسل إلى مبارك الصباح بالخبر، وبنجاح ابن سعود ـ المدعوم سياسيا وعسكريا من مبارك مباشرة الذي يخضع لمعاهدة سرية مع بريطانيا التي تسيطر على الشئون الخارجية للكويت بناء على تلك المعاهدة ـ أصبح وسط الجزيرة العربية ساحة مفتوحة لأول مرة في التاريخ للنفوذ البريطاني، وقد ظل التخطيط البريطاني سريا وهادئا، إذ ظل مبارك ظاهريا تابعا للدولة العثمانية، فقد كان رسميا يمثل قائمقاما لها في الكويت، وقد أرسلت الدولة العثمانية سنة 1901م برقية إلى مبارك بعد حرب الصريف ـ التي أثارت القلاقل في نجد في الوقت الذي تحتاج فيه الدولة العثمانية استقرار أقاليمها الداخلية لمواجهة المؤامرات الغربية والحملات الصليبية ـ وجاء في تلك البرقية:(بلغوا الشيخ مبارك بأن منطوق المعاهدة الدولية تنص بأن المواقع التي فيها علم عثماني، أو مركز عسكري، أو مأمور حكومي، فليس للدول الأخرى حق التدخل في شئونه)، وقد طلب والي البصرة من مبارك القدوم إلى البصرة، وتقديم فروض الطاعة للدولة العثمانية ففعل، وصدر فرمان عثماني بجعل مبارك الصباح قائممقام على قضاء الكويت التابع لولاية البصرة[22].
كما كتب مبارك إلى والي البصرة سنة 1901م ، يشتكي من تهديدات ابن رشيد للكويت، وجاء في كتابه(أهل الكويت لم يحيدوا عن طاعتها ـ أي الخلافة العثمانية ـ ولم يخرجوا عن سلطانها، ولم يتمردوا على أوامرها)[23].
وبعد احتلال ابن سعود للرياض أرسل مبارك إلى والي البصرة العثماني مصطفى باشا يخبره بالموضوع، ويطلب منه رفع الأمر إلى الباب العالي في الأستانة للاعتراف بابن سعود أميرا على الرياض[24].
وقد كانت الدولة العثمانية تجري مخصصاتها المالية على ابن سعود، وعلى والده عبدالرحمن بن سعود، وأسرته التي كانت لاجئة في الكويت[25].
لقد كان وجود عبدالرحمن بن فيصل وأسرته في الكويت بناء على موافقة من الدولة العثمانية، فبعد خروجه من الرياض سنة 1891م توجه إلى الأحساء، ثم إلى الكويت حيث رفض شيخها آنذاك استقباله لكونه قائمقاما عثمانيا، فلجأ إلى قبيلة العجمان وآل مرة، ثم وافقت الدولة العثمانية على قدومه إلى الكويت مع أسرته، وتم تخصيص مرتبات مالية له ولأسرته وهي 60 ليرة شهريا، ولبث في الكويت نحو تسع سنين حتى عاد إلى الرياض[26].
وقد كتب عبدالرحمن بن سعود سنة 1902م، كتابا إلى نقيب الأشراف في البصرة رجب النقيب، عند خروجه من الكويت إلى الرياض، يشرح فيه أسباب ما جرى، ويؤكد فيه تبعيته للدولة العثمانية، وجاء فيه(ونحن خدام محسوبون على الدولة العلية، ولم نلتج إلى أحد إلا إلى الله تعالى، ثم إلى ظل عدالة أمير المؤمنين، أدام الله مجده، ونحن في كل الأحوال نؤدي الخدمات لحضرة أمير المؤمنين، باذلين الجد والاجتهاد فيما يحصل به رضاه، منقادين إلى أوامر الدولة العلية، فنرجو من مراحم وتفضلات حضرة أمير المؤمنين حلول أنظاره علينا، ورفع تعديات ابن رشيد، وإجراء ما تفضل به من المعاش)[27].
كما كتب عبد الرحمن بن سعود في الوقت ذاته كتابا آخر إلى المقيم السياسي البريطاني في (بوشهر) يخبره فيه بخروجه من الكويت إلى الرياض، ويرجو من بريطانيا أن تضع نظرها عليه، وأن تشمله بعطفها ولطفها[28].
وقد ظل مبارك(ينكر أمام الحكومة العثمانية تدخله في شئون ابن سعود، ومساعدته في احتلال الرياض، ومده بالقوة)، كما أخذ يتوسل إلى الدولة العثمانية للاعتراف بابن سعود، فطلب والي البصرة مخلص باشا سنة 1904م من مبارك نقل رغبة الدولة العثمانية بأن يعلن ابن سعود وقاسم بن ثاني كامل الولاء للدولة العثمانية، ففعلا وأرسلا ببرقياتهم إلى اسطنبول بهذا الخصوص، وطلب والي البصرة حضورهما شخصيا، وتم عقد لقاء في الزبير بين عبد الرحمن بن سعود ووالي البصرة، بحضور مبارك اعترافا منهما بالتبعية للدولة العثمانية[29].
وفي سنة 1904م في ثالث ذي الحجة من سنة 1322هـ (وصل عبدالرحمن بن فيصل هو ومبارك الصباح شيخ الكويت إلى الرافضية قرب بلد الزبير لمواجهة والي البصرة أحمد مخلص فخرج إليهم الوالي وأخبرهم بأن أمر نجد الآن راجع إلى المشير أحمد فيضي ـ الذي توجه قبل شهر من السماوة إلى القصيم ومعه ستة طوابير عسكر ـ وقال له لا بد من اجتماعك معه أنت يا عبدالرحمن في القصيم، وهناك تصلح جميع أحوال نجد.
فرجع عبدالرحمن ومبارك الصباح إلى الكويت ثم توجه عبدالرحمن من بندر الكويت إلى الرياض ومنها إلى القصيم لمواجهة المشير أحمد فيضي واجتمع معه هو وأمراء القصيم، وتفرقوا دون أن يحصل لهم منه مساعدة، وتوجه المشير إلى المدينة المنورة ثم إلى اليمن من أجل إخماد ما فيه من الفتن)[30].
وفي سنة 1906 أرسلت الدولة العثمانية خطابا إلى عبدالعزيز بن سعود على لسان أمير العسكر العثماني في نجد حسن شكري ورد فيه:(جناب المكرم عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل فيصل نفيد جنابكم أن جلالة الخليفة الأعظم بلغه اضطرام الفتنة في نجد، وأن يدا أجنبية محركة لها فلهذا السبب بعثني إليكم حقنا للدماء ومنعا لتدخل الأجنبي في بلاد المسلمين، وأنا أنذرك إذا لم تأتنا وتبين الأسباب التي حملتك على إضرام هذه الفتنة بدون مراجعة أي ولاية من ولايات الدولة، واقتصارك على مراجعة صاحب الكويت وأخذ المدد منه، وأنت تعلم أنه خارج عن طاعة الدولة ناكث لعهد الخليفة وخائن له في بلاده، وما كان ينبغي منك الالتئام معه...)!
وقد رد عبدالعزيز بجواب ذكر فيه أن السبب الذي دفعه إلى الخروج هو الظلم الذي يمارسه الولاة وتفريطهم في شئون الولايات وجاء في جوابه (وانظر إلى ولاية البصرة كيف فرطت في الكويت، وإلى والي اليمن كيف سلوكه)[31].
وفي الوقت الذي كان ابن سعود يعترف بتبعيته للخلافة العثمانية، كان يتصل بالبريطانيين سرا، فقد أرسل مندوبا سنة 1906م، للمعتمد السياسي البريطاني في البحرين (بريدكس)، طالبا مساعدة بريطانيا للتخلص من الوجود العثماني في الإحساء، ومؤكدا رغبته في عقد معاهدة معهم، وموافقته على وجود معتمد بريطاني في الإحساء والقطيف، وقد قال كوكس(لا بد من الاعتراف بأن ابن سعود سوف يقضي على الوجود التركي في الجزيرة العربية في أول فرصة سانحة له)، وطلب من حكومته اتخاذ قرار بالدخول مع ابن سعود في معاهدة حماية، غير أن حكومته تحفظت على هذا الطلب محافظة على علاقاتها مع الدولة العثمانية، وفي آخر السنة نفسها في اكتوبر سنة 1906م، اتصل ابن سعود بالمقيم البريطاني في الخليج العربي ثانية، طالبا الدخول في حماية بريطانيا، غير أنها أكدت حرصها على صداقته، واعتذرت عن إجابة طلبه، مراعاة للدولة العثمانية، التي يتبع لها ابن سعود بشكل رسمي مباشر[32].
وقد استمر مبارك وابن سعود مع ذلك بإعلان التبعية للدولة العثمانية، ووقفا معها في حربها مع إيطاليا في طرابلس سنة 1911م، وقد أرسل ابن سعود رسالة للآستانة جاء فيها (عبوديتي وخدماتي لمقام الخلافة الإسلامية معلومة عند أوليا الأمور، وإن سكان جزيرة نجد عموما قلبا وقالبا وجميعنا على استعداد للدفاع عن الدولة بأموالنا وأرواحنا منتظرين الإشارة من مقام الخلافة والأمر لكم!
التوقيع : خادم الدولة أمير نجد، ورئيس عشائرها، عبدالعزيز السعود)[33].
كما وقفا معها في حرب البلغار سنة 1912م، بوصفهما قائممقامين عثمانيين في الكويت ونجد، التابعتين لولاية البصرة العثمانية .
وقد دفع مبارك عشرة آلاف ليرة للدولة العثمانية في هذه الحرب[34].
وقد كتب وكيل والي البصرة سنة 1912م إلى مبارك الصباح كتابا يخبره فيه بأن الباب العالي قد أرسل برقية يوصي فيها بمنحه الجنسية العثمانية، لتسجيل ممتلكاته بالبصرة، ونصها(إلى جناب قائممقام الكويت مبارك الصباح، فقد ورد الأمر بإجراء المعاملة لجنابكم وإعطائكم الأوراق الخاقانية على الأصول كأمثالكم من العشائر العثمانية غير المحررة)[35].
ومع ذلك فقد تم اتفاق سري بين ابن سعود وحكومة الهند البريطانية عن طريق معتمدها في الكويت سنة 1911م على احتلال الأحساء، وقد اطلع بعض المؤرخين النجديين على بعض تفاصيل تلك المعاهدة مبكرا حيث ذكرها ابن بسام المتوفى سنة 1927م في تاريخه تحفة المشتاق[36]، في حوادث سنة 1329هـ ــ 1911م فقال:(وفيها عقدت معاهدة بين الإمام والإنجليز على أن يحتل الإمام الأحساء والقطيف ودارين والعقير، ويمنعون عنه الإنجليز أي دولة تأتيه من البحر، ولقاء ذلك يكون تابعا لهم، ولا يحدث محاربات دون علمهم ولا يحارب بدون إذنهم، ولهم حق التفتيش على المعادن في جزيرة العرب واستخراج ذلك، وإذا أراد الإنجليز أن يسير لحرب أي جهة يسير لها وهي تمده).
وقد اضطرت بريطانيا في سنة 1913م وقبيل الحرب العالمية الأولى إلى توقيع معاهدة مع الدولة العثمانية، اعترفت فيها بريطانيا بالسيادة العثمانية على ساحل الخليج والكويت، مقابل الاعتراف العثماني بمصالح بريطانيا في الخليج، وقد كان برسي كوكس المقيم البريطاني في الخليج يطمح ـ كما جاء في تصريح له بأن تكون إدارة شئون الكويت الخارجية من اختصاص بريطانيا، إلا أن مكتب الخارجية البريطانية صمم على ضرورة اعتراف بريطانيا بتبعية الكويت الكاملة للدولة العثمانية، وإثبات السيادة العثمانية عليها بتعيين ممثل عثماني في الكويت، لضمان اعتراف الدولة العثمانية بمصالح بريطانيا في الخليج[37].
ولم تكن الدولة العثمانية تعير الكويت اهتماما كبيرا، لكونها مدينة صغيرة، تابعة لولاية البصرة، التي كان يتبعها الشريط الساحلي على الخليج إلى الإحساء آنذاك، ، إذ كانت الدولة العثمانية تكتفي بالسيطرة على المدن والأقاليم الرئيسية، وتعين فيها ممثلين لها، كسنجق الإحساء التابع لولاية البصرة، دون الموانئ والمدن الصغيرة، كالكويت، والزبير، حتى تم طرح مشروع ألمانيا لسكة الحديد التي تمر بالكويت، وقد أسخطت تلك المعاهدة شيخ الكويت مبارك الصباح، وشيخ المحمرة الشيخ خزعل وقد علق كوكس على ذلك بقوله(لم يرحب الشيخ مبارك بالسيادة التركية التي كنا قد علمناه رفضها! كما أنه أبدى أسفه الشديد لتعيين ممثل تركي في بلاده، لذا كان لا بد أن أقابل الشيخين وأطلب منهما التعاون الكامل والكف عن التذمر والاستياء)[38].
كما إن المعاهدة العثمانية البريطانية لسنة 1913م نصت على السيادة العثمانية الكاملة على نجد والإحساء، وعدم تدخل بريطانيا في هذه المنطقة، وبعد احتلال ابن سعود للإحساء في السنة نفسها وبدعم سري من حكومة الهند البريطانية، لم تستطع بريطانيا إقامة أي علاقات معه بشكل رسمي، التزاما بما تنص عليه المعاهدة المذكورة، مما حداها إلى الطلب من الدولة العثمانية بالاعتراف بابن سعود سنجقا عثمانيا على سنجق الإحساء، لتتفاهم معه بريطانيا حول حفظ الأمن بالمناطق التي يسيطر عليها في الخليج العربي[39].
وقد أرادت الدولة العثمانية بعد سقوط الإحساء أن ترسل جيشا بحريا لاستعادتها من ابن سعود، فتدخلت بريطانيا وأبدت معارضتها لهذا التدخل صيانة للسلم في الخليج العربي، وتم توقيع اتفاق بين الدولة العثمانية وابن سعود على أن يكون ابن سعود واليا عثمانيا على الأحساء لمدة عشر سنوات، وأن تكون هناك ثكنات عسكرية في القطيف والجبيل لرفع العلم لعثماني، وأن يجبي ابن سعود الضرائب ويدفع الزائد للخزينة العثمانية، وأن تدفع له الدولة مخصصات شهرية قدرها 250 ليرة.
وقد صدر فرمان عثماني من الخليفة بالاعتراف بابن سعود سنجقا عثمانيا على نجد والإحساء تابعا للدولة العثمانية[40].
وقد وقعت بريطانيا بعد ذلك معاهدة حماية سرية مع ابن سعود سنة 1915م، تنص على عدم تصرفه بأي جزء من أرضه إلا بعد الرجوع إلى بريطانيا، وأن لا يتصل بأي دولة إلا عن طريق بريطانيا، وكذا وقعت بريطانيا معاهدة حماية مع قطر سنة 1916م بعد بدأ الحرب العالمية الأولى.
لقد كانت تلك المعاهدات سرية أو شبه سرية، من أجل ترتيب الوضع البريطاني في الخليج والجزيرة في المستقبل، حين تسقط الدولة العثمانية، ونجحت بريطانيا في تشكيل حلف سري مع شيوخ الساحل كله، بمن فيهم ابن سعود، ومبارك الصباح، مع كونهما قائمقامين عثمانيين حين توقيع تلك المعاهدات، ليصبح الخليج العربي كله تحت الاحتلال البريطاني باسم اتفاقيات الحماية البريطانية!




[1]الجزيرة العربية في الوثائق البريطانية 1/126 .
[2]سلام ما بعده سلام (ولادة الشرق الأوسط) لديفيد فرومكين ص120 .
[3]ولادة الشرق الأوسط 158-159 .
[4]تاريخ الكويت السياسي لخزعل 2/114-115 .
[5] تاريخ الكويت للرشيد 120و125-126، وتاريخ الكويت السياسي لخزعل 1/119-138 .
[6]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 3/1521 .
[7]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 3/1522 .
يحاول لوريمر كما هي عادته إثبات أنه لا وجود للسيادة العثمانية على القبائل أو الموانئ في الخليج ليبرر ما قامت به حكومة الهند البريطانية للسيطرة عليها واحتلالها باسم المعاهدات، لكن يعود أمام الحقائق التاريخية والواقعية ليعترف بوجود السيادة العثمانية على الجزيرة والخليج العربي!
[8]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 3/1524 .
[9]تاريخ الكويت السياسي 1/152 .
[10]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 3/1526 .
[11]أوراق مصطفى كامل المقالات الكتاب الثاني ص 231-232. وهذا المقال منشور سنة 1902م أي قبل الثورة العربية للشريف حسين ضد الخلافة العثمانية بنحو خمسة عشر عاما!!
[12]انظر حاشية المصدر السابق.
[13]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 1/438 و 3/1529 ، والعلاقات بين نجد والكويت لخالد السعدون ص 29-30 .
[14]دليل الخليج العربي القسم الجغرافي 1/491 .
[15]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 3/1518 .
[16]وثائق الكويت لسلت هانا.
[17]دليل الخليج العربي القسم التاريخي 3/1532.وتاريخ الكويت لخزعل 2/128 .
[18]تاريخ الكويت لخزعل 2/129 .
[19]تاريخ الكويت لخزعل 2/130.
[20]تاريخ الكويت لخزعل 2/177 .
[21]مذكرات مدحت باشا 239 .
[22]تاريخ الكويت لخزعل 2/52.
[23]تاريخ الكويت لخزعل 2/55 .
[24]تاريخ الكويت لخزعل 2/176 .
[25]تاريخ الكويت لخزعل 2/178 .
[26]عبدالعزيز وبريطانيا ص 28 .
[27]تاريخ الكويت لخزعل 2/179 ، وتاريخ الكويت للرشيد ص 179 .
[28]المصدرين السابقين.
[29]تاريخ الكويت للرشيد 179، وخزعل 2/183 .
[30]تحفة المشتاق 396 .
[31]تحفة المشتاق 398 .
[32]قصة السيطرة البريطانية على الخليج 357-358 .
[33]تاريخ الكويت لخزعل 2/85 .
[34]تاريخ الكويت للرشيد 184 .
[35]تاريخ الكويت لخزعل 2/91 .
[36]تحفة المشتاق ص 410 .وهذه اتفاقية غير معاهدة دارين سنة 1915بين ابن سعود وبريطانيا، فبنود هذه الاتفاقية تختلف عن بنود اتفاقية دارين، فهي تتحدث عن احتلال الأحساء والقطيف، والاتصال بين الطرفين كان قديما، إلا أن هناك خلافا بين حكومة الهند البريطانية التي تدفع باتجاه دعم ابن سعود مبكرا، وحكومة لندن التي ظلت تتحفظ حتى الحرب العالمية الأولى، فالاتفاق الأول كان بينه وبين حكومة الهند عن طريق الكويت، وقد لا يكون مدونا، إلا أن ابن بسام قد اطلع على مصادر تؤكد الخبر، وذكر نص المعاهدة كاملا، ولا يوجد ما ينفي صحته، فقد ثبت حدوث اللقاء بين الطرفين في الكويت سنة 1911وبعده تم احتلال الأحساء.
[37]قصة السيطرة البريطانية 393 .
[38]قصة السيطرة 395 .
[39]المصدر السابق 397 .
[40]مذكرات سليمان فيضي 155 .

Aucun commentaire: