إن أمراض المسلمين في عصرنا الحاضر قد تعددت، وتشعبت
وفشت، حتى شملت جوانب متعددة من شؤونهم الدينية والدنيوية.
ومن العجيب أن الأمة
المسلمة لا تزال على قيد الحياة، لم تصب منها تلك الأدواء بحمد الله مقتلا على
كثرتها وخطورتها، وكان بعدها كفيلا بإبادة أمم وشعوب لم تغن عنها كثرتها ولا وفرة
مواردها.
ولعل مرد نجاة هذه الأمة إلى هذا اليوم رغم ضعفها هو
وجود كتاب ربها واستغفار الصالحين من أبنائها، قال الله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ
لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ
يَسْتَغْفِرُونَ) [1].
وإن من أخطر ماأصيبت بهذه الأمة في الآونة الأخيرة مرض
“الخلاف والاختلاف والمخالفة”.
الاختلاف في كل شيء وعلى كل شيء حتى شمل العقائد
والأفكار والتصورات والآراء، إلى جانب الأذواق والتصرفات والسلوك والأخلاق، وتعدى
الاختلاف كل ذلك حتى بلغ أساليب الفقه، وفروض العبادات، وكأن كل ما لدى هذه الأمة
من أوامر ونواه يحثها على الاختلاف، أو يدفعها إليه، والأمر عكس ذلك تماما، فإن
كتاب الله ، ما
حرصا على شيء بعد التوحيد حرصهما على تأكيد وحدة الأمة، ونبذ الاختلاف بين
أبنائها، ومعالجة كل ما من شأنه أن يعكر صفو العلاقة بين المسلمين، أو يخدش أخوة
المؤمنين، ولعل مبادئ الإسلام ما نددت بشيء بعد الإشراك بالله تنديدها باختلاف
الأمة، وما حضت على أمر بعد الإيمان بالله حضها على الوحدة والائتلاف بين المسلمين.
وأوامر الله واضحة في دعوتها لإيجاد الأمة التي
تكون كالجسد الواحد إذا اشتكى بعضه أصابه الوهن كله.
ولكن رسالة الإسلام مع ذلك رسالة واقعية تتعامل مع
الإنسان على ما هو عليه، وخالق الإنسان تبارك وتعالى يعلم من خلق وهو اللطيف
الخبير، فقد وهب لعباده عقولا ومقدرات متباينة من شأنها أن تؤدي إلى اختلاف في
نظرتهم وأفكارهم ومواقفهم من كثير من الأشياء، ولذلك فإن الإسلام يتسع إلى تلك
الاختلافات كلها التي لا تهدد وحدة الأمة، فيكفي أن تتفق الآراء، وتلتقي التصورات،
وتتوحد المواقف إزاء القضايا الكبرى والقواعد الأساسية، أما ما عداها من أمور
فرعية، وقضايا ثانوية مما يساعد اختلاف الرأي فيها على الجنوح يحو الأفضل والأمثل
فلا ضير فيه على أن يكون لهذا الاختلاف ضوابطه وحدوده، وقواعده وآدابه، وألا يؤثر
على وحدة فكر الأمة ومواقفها من القضايا الأساسية الكبرى.
فما حقيقة الاختلاف؟
وما الحدود التي لا يجوز تجاوزها فيه؟
وما أسبابه؟ وما القدر المسموح به منه؟
وما ضوابطه وآدابه؟
وما السبيل للتخلص من سلبياته؟
هذا ما سأحاول بحثه إن شاء الله تعالى.
ونظرا لتعدد جوانب هذا الموضوع فقد تنوعت مصادره فله
جانب منطقي جدلي تكفلت ببحثه الكتب المنطقية
الخاصة بآداب البحث والمناظرة.
الخاصة بآداب البحث والمناظرة.
وله جانب أصولي تناولته الكتب الأصولية التي تعرضت
لمباحث أسباب الاختلاف.
وله جانب فقهي يرد في ثنايا الكتب التي عنيت بالبحث في
مجال «الفقه المقارن» أو ما يسمى بكتب «الخلافيات».
وأما الآداب والسياسة فيمكن الحصول على أمثلتها ونماذجها
من كتب الطبقات والتراجم والمناظرات والتاريخ وغيرها، وقد حاولت في هذه المداخلة
أن أعرج على عدة مصادر ومراجع.
ونسأل الله التوفيق والسداد وأن يجمع كلمة المسلمين،
ويوجد بين قلوب السياسيين على حب الله، وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب هذا
الوطن الغالي الذي ضحى من أجل استقلاله العديد من المجاهدين تغمدهم الله برحمته،
وأدخلهم فسيح جناته، وأسأل الله تعالى أن يزيل أسباب الفرقة والخلاف.. إنه سميع
مجيب.
أولا ــ الاختلاف والخلاف :
الاختلاف والمخالفة أن ينهج كل شخص طريقا مغايرا للآخر
في برامجه وفي أحواله أو في أقواله.
والخلاف أعم من «الضد» لأن كل ضدين مختلفان، وليس كل
مختلفين ضدين، ولما كان الاختلاف بين الناس في القول، وفي البرامج، وفي الأفكار قد
يفضي الى التنازع والمنازعة والمجادلة، قال الله: (فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ
بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [2].
وقوله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ) [3]. وقوله: (إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ
مُخْتَلِفٍ) [4].
ويقول الله: (إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [5].
وعلى هذا يمكن القول: إن الاختلاف يراد به مطلق المغايرة
والمخالفة في القول أو الرأي أو الحالة أو الهيئة أو الموقف.
وإذا اشتد اعتداد أحد المخالفين أو كليهما بما هو عليه
من قول أو رأي أو برنامج أو موقف، وحاول الدفاع عنه وإقناع الآخرين به، أو حملهم
عليه، سميت تلك المحاولة بالجدل السياسي.
فالجدل في اللغة «المفاوضة على سبيل المنازعة والمغالبة،
وهو مأخوذ من قول العرب: جدلت الحبل إذا فتلته وأحكمت فتله، والجدل: اللدد في
الخصومة والقدرة عليها.
والجدل: مقابلة الحجة بالحجة.
والمجادلة: المناظرة [6].
فإن كل واحد من المتجادلين يحاول أن يفتل صاحبه ويجدله
بقوة وإحكام على رأيه الذي يراه، ويفرض عليه برنامجه.
وإذا اشتدت خصومة المتجادلين وآثر كل منهما الغلبة بدل
الحرص على ظهور الحق ووضوح الصواب، وتعذر أن يقوم بينهما تفاهم أو اتفاق سميت تلك
الحالة بالشقاق.
والشقاق أصله: أن يكون كل واحد في شِقّ من الأرض أي
نصفها أو جانب منها، فكأن أرضا واحدة لا تتسع لهما معا وفي التنزيل قول الله:
(وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ
وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا
إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا) [7]. أي خلافا حادا يعقبه نزاع يجعل كل
واحد منهما في شِقٍّ غيرِ شِقِّ صاحبه، أي إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما
الحاكم إلى جنب ثقة ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم…[8].
ومثله قوله: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ
بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ
فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [9].
إن الاختلاف الذي وقع في سلف هذه الأمة ولا يزال واقعا
جزء من هذه الظاهرة الطبيعية، فإنه لم يتجاوز الاختلاف حدوده بل التزموا آدابه،
ومن ثم كان ظاهرة ايجابية كثيرة الفوائد.
ثانيا ــ أنواع الاختلاف وأسبابه:
الاختلاف نوعان: اختلاف مذموم، واختلاف محمود:
1 ــ الاختلاف المذموم: وهو اختلاف تضاد، ويرجع إلى
أسباب خلقية متعددة، منها: الغرور بالنفس والإعجاب بالرأي، وسوء الظن والمسارعة
إلى اتهام الآخرين بغير بينة، والحرص على الزعامة أو الصدارة أو المنصب، واتباع
الهوى، وحب الدنيا، والتعصب لأقوال الأشخاص والمذاهب والطوائف، والعصبية لبلد أو
إقليم أو حزب أو جماعة أو قائد، وقلة العلم في صفوف كثير من المتصدرين، وعدم
التثبت في نقل الأخبار وسماعها.
وقد يكون الخلاف وليد رغبات نفسية لتحقيق غرض ذاتي أو
أمر شخصي، وقد يكون الدافع للخلاف رغبة التظاهر بالفهم أو العلم. وهذا النوع من
الخلاف مذموم بكل أشكاله، ومختلف صوره لأن حظ الهوى فيه غلب الحرص على تحري الحق،
والهوى لا يأتي بخير فهو مطية الشيطان إلى ظلم المخالف. قال الله: (فَلا
تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ
اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [10].
وبالهوى ضل وانحرف الكثير من الممارسين السياسة، فدبروا
المكائد لمخالفيهم سياسيا.قال الله: (قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ
ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ) [11].
والهوى ضد العلم ونقيضه، وغريم الحق، ورديف الفساد،
وسبيل الضلال. قال الله: (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ
السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ
عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ) [12].
وأنواع الهوى متعددة وموارده متشعبة وإن كانت في مجموعها
ترجع الى «هوى النفس وحب الذات»، فهذا الهوى منبت كثير من الأخطاء و الانحرافات،
ولا يقع مرء في شباكه حتى يزين له كل ما من شأنه الانحراف عن الحق والاسترسال في
سبيل الضلال حتى يغدو الحق باطلا والباطل حقا والعياذ بالله.
2 ــالاختلاف المحمود: وهو اختلاف تنوع، وهو عبارة
عن الآراء المتعددة التي تصب في مشرب واحد، ومن ذلك ما يعرف بالخلاف الصوري،
والخلاف اللفظي، والخلاف الاعتباري. وهذه الاختلافات مردها إلى أسباب فكرية،
واختلاف وجهات النظر، في بعض القضايا العلمية كالخلاف في فروع الشريعة، وبعض مسائل
العقيدة التي لا تمس الأصول القطعية. وكذلك الاختلافات في بعض الأمور العملية
كالخلاف في بعض المواقف السياسية، ومناهج الإصلاح والتغيير.
3 ــ بعض فوائد الاختلاف المقبول:
وكما أسلفت فإنه إذا التزمت حدود الاختلاف وتأدب
السياسيون بآدابه كان له بعض الإيجابيات منها:
أ ــ إنه يتيح إذا صدقت النوايا التعرف على جميع
الاحتمالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها بوجه من وجوه الأدلة.
ب ــ وفي الاختلاف بالوصف الذي ذكرناه رياضة للأذهان
وتلاقح للآراء وفتح مجالات التفكير للوصول إلى سائر الافتراضات التي تستطيع العقول
المختلفة الوصول إليها.
ج ــ تعدد الحلول أمام صاحب كل واقعة ليهتدي إلى الحل
المناسب للوضع الذي هو فيه بما يتناسب ويسر هذا الدين الذي يتعامل مع الناس من
واقع حياتهم.
تلك الفوائد وغيرها يمكن أن تتحقق إذا بقي الاختلاف ضمن
الحدود والآداب التي يجب الحرص عليها ومراعاتها، ولكنه إذا جاوز حدوده، ولم تراع
آدابه فتحول إلى جدال وشقاق كان ظاهرة سلبية سيئة العواقب تحدث شرخا في الأمة
وفيهما ما يكفيها فيتحول الاختلاف من ظاهرة بناء إلى معاول للهدم.
ثالثا ــ أسباب الاختلاف:
في الجانب الديني فقد أراد الله أن يكون في أحكامه
المنصوص عليه والمسكوت عنه، وأن يكون في المنصوص عليه: المحكمات والمتشابهات،
والقطعيات والظنيات، والصريح والمؤول، لتعمل العقول في الاجتهاد والاستنباط، فيما
يقبل الاجتهاد. ولو شاء الله لأنزل كتابه كله نصوصًا محكمة قطعية الدلالة، لا
تختلف فيها الأفهام، ولا تتعدد التفسيرات.ولكنه لم يفعل ذلك، لتتفق طبيعة الدين مع
طبيعة اللغة، وطبيعة الناس وضروريات الزمن.
وأما طبيعة اللغة فإن نصوص القرآن جاء على وفق ما تقتضيه
اللغة في المفردات والتراكيب...(مقص الرقيب)، وفيها ما يحتمل الحقيقة والمجاز،
والعام والخاص، والمطلق والمقيد.
وأما طبيعة البشر فقد خلقهم الله مختلفين، فكل إنسان له
شخصيته المستقلة، وتفكيره المتميز، وميوله الخاصة، ومن العبث صب الناس في قالب
واحد، ومحو كل اختلاف بينهم، فهذا أمر مخالف للفطرة التي فطر الله عليها الناس.
وأما طبيعة الكون والحياة فالكون الذي نعيش في جزء صغير
منه خلقه الله سبحانه مختلف الأنواع والصور والألوان، وهذا الاختلاف ليس اختلاف
تضارب وتناقض بل هو اختلاف تنوع.
وكذلك طبيعة الحياة فهي أيضا تختلف وتتغير بحسب مؤثرات
متعددة، في المكان والزمان. فالاختلاف سنة كونية اقتضتها الحكمة الإلهية، قال
الله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً) [13].
وفي الأثر: “لا يزال الناس بخير ما تباينوا فإذا تساووا
هلكوا”.
رابعا ــ فضل الاختلاف:
1 ــ الاختلاف رحمة: الاختلاف مع كونه ضرورة، هو
كذلك رحمة بالأمة وتوسعة عليها [14].(المسألة تحتاج نظر)
ولهذا اجتهد الصحابة واختلفوا في أمور جزئية كثيرة، ولم
يضيقوا ذرعا بذلك بل نجد الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز يقول عن اختلاف الصحابة
رضي الله عنهم: “ما يسرني أن أصحاب رسول الله rلم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن لنا رخصة”. فهم
باختلافهم أتاحوا لنا فرصة الاختيار من أقوالهم واجتهاداتهم، كما أنهم سنوا لنا
سنة الاختلاف في القضايا الاجتهادية، وظلوا معها إخوة متحابين.(و ماذا عن اختلاف
ابوذر الغفاري مع عثمان الاموي و اختلاف علي و معاوية)
2 ــ الاختلاف ثروة: اختلاف الآراء الاجتهادية يثري
الفقه وينمو ويتسع؛ لأن كل رأي يستند إلى أدلة واعتبارات شرعية. وبهذا التعدد
والتنوع تتسع الثروة الفقهية التشريعية، وإن تعدد المذاهب الفقهية وكثرة الأقوال
كنوز لا يقدر قدرها وثروة لا يعرف قيمتها إلا أهل العلم والبحث، فقد يكون بعضها
أكثر ملاءمة لزمان ومكان من غيره. كما أن الاختلاف السياسي لو وُظّف في جانبه
الإيجابي لانتفعت الأمم والشعوب.
خامسا ــ الضوابط العلمية للاختلاف:
1 ــرد الاختلاف إلى كتاب الله وسنة رسوله: مصداقًا
لقوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ)
[15]، شريطة أن نعود ونستنبط بالطرق التي استنبط بها علماؤنا السابقون، وليس
بالأهواء، ورد الاختلاف إلى المفكرين والسياسيين الصادقين من هذه الأمة، الغيورين
على هذا الوطن الحبيب. فالاختلاف بين الناس أمر طبيعي، وهو يساعد على تقدم وازدهار
الحياة الفكرية والثقافية والسياسية، وخصوصا حين يُلتزم بآداب الاختلاف، فهو يتيح،
إذا صدقت النوايا- التعرف إلى جميع الحالات التي يمكن أن يكون الدليل رمى إليها
بوجه من وجوه الأدلة، وفي الاختلاف رياضة الفكر والذهن، وتلاقح الآراء وتنوع النظر
بما يثري التجربة الإنسانية·أما الخلاف الذي نهى عنه القرآن والسنة النبوية، فهو
الخلاف الذي يخرج الإنسان عن حقيقة الموضوعية، ويسقطه في هوة الذاتية والانفعالية،
ولا يترتب عليه سوى اختفاء الرؤية العقلية الصحيحة للحقائق والمعارف والمبادئ.
2 ــاتباع المنهج الوسط: إن دين هذه الأمة يفرض
عليها الوسطية، فالله Uيقول: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ
الْعُسْرَ) [16]، ويقول: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ
الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [17]. ويقول الله U: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ
عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) [18]. إن التشدد منهج ينبذه الإسلام سواء تعلق الأمر
بالتشدد الديني، أم التشدد السياسي، فلا بد إذًا من التيسير على الناس ومراعاة
ظروفهم، والتماس الأعذار لهم، فممارسة السياسة ليست منهجا قرآنيا، ولا منهجا
نبويا، بل هي من ابتكار واجتهاد البشر ومن ثم لابد أن يصادف الممارس السياسة بعض
الوقائع توقعه في الخطأ.
3 ــتجنب الاعتقاد التام بقطعية في كل البرامج
والأفكار: ليس من المعقول أن يجزم المرء بقطعية كل ما يأتي به من برامج سياسية
وأفكار، ومن ثم يتم تخطيء الآخر المنافس سياسيا، وإنكار جهوده، إذ لا قطعية الثبوت
إلا في النصوص الشرعية الواردة القرآن الكريم والسنة المتواترة.
4 ــالإيمان بحتمية الاختلاف: إن الاختلاف من
ضروريات الحياة، وقد قال الله: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً
وَاحِدَةً) [19]. فالتعصب لمذهب واحد، أو لحزب واحد، واعتقاد أن كل من خالفه مخطئ
أمر يجرُّ إلى فتن عظيمة.
5 ــتحديد المفاهيم والمصطلحات التي يدور حولها
النقاش: إذ يجب أن تكون واضحة جلية.
6 ــالنظرة الشمولية: إذ لا بد من الجمع بين كل ما
ورد فيما يخص المسألة الواحدة لتحريرها تحريرًا جليًّا واضحًا. وأرى ألا ننساق
وراء زعيم واحد نقدسه، ونعظمه ولا نلتفت إلى سواه، وإلا دخلنا في محظور قول الله:
(اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ) [20].
7 ــالنظر في المقاصد واعتبار المآلات: إن مسألة
المقاصد الإسلامية لها دور كبير في تيسير المعاملات وتسهيل العمل في هذا الزمن وفي
ذلك يقول الرسول: “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” [21].
8 ــحسن النية: تكون أعمال القلوب مقدمة على أعمال
الجوارح، فالإخلاص مقدم على غيره. يقول الرسول: “إن الله لا ينظر إلى أجسامكم
وصوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” [22] ، فكل الفضائل مردها إلى القلب.
9 ــالاهتمام بهموم الأمة: إن من لم يهتم بأمر أمته
فليس منها. ومشكلات أمتنا اليوم كثيرة ومتعددة احتوت الظلم الاقتصادي والسياسي
والاجتماعي، والتفسخ والانحلال، والدعوة إليهما جهرا ليلا ونهارا، أما الأمراض
الجديدة التي لم نكن نألفها، فحدث ولا حرج، فلماذا لا نتعاون على ما اتفقنا عليه،
ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه، نعم إننا نواجه الخطر الداهم اليوم، خطر
التمزق، وخطر التدهور.
10 ــ التعاون في المتفق عليه: إن مشكلة الأمم اليوم
ليست في ترجيح أحد الرأيين أو الآراء في القضايا المختلف فيها بناءً على اجتهاد أو
تقليد.
سادسا ــ موقف الشرع من الاختلاف والخلاف:
لقد نهى الشرع الوقوع في الاختلاف. قال رسول الله: “إنما
هلكت بنو إسرائيل بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم” [23]. وحذر العلماء قديما
وحديثا من الاختلاف بكل أنواعه، وأكدوا على وجوب اجتنابه، لما له من عواقب وخيمة
تعود على الأمة بالوبال والشر. يقول ابن مسعود: “الخلاف شر” [24]. وقد ذم ابن حزم
الاختلاف و لم يجعل رحمه الله شيئا من الاختلاف رحمة، بل اعتبره كله عذابا.
إذا كان هذا رأي العلماء الأفذاذ كابن حزم في الاختلاف،
فما بالنا اليوم ونحن نرى ونسمع مدة شدة الاختلاف بين سياسيينا، فإذا ما وحدتهم
حكومة، أو وحدهم برنامج تراهم يدافعون بالحق وبالباطل عن بعضهم البعض، وإذا
اختلفوا سياسيا ترى الحرب قائمة بينهم لأنهم اختلفوا سياسيا.
لقد عَلّمنا علماؤنا الأولون، يوم كانوا أهل الحل
والعقد، أن المذهبية في الفقه مدرسة للرأي، وأن الطريقة في التصوف منهج في السلوك،
وأن الفرقة في علم الكلام، اجتهاد عقلي، ومن ثم فإن هذا الاختلاف، لا يفسد للرأي
قضية، وأن ذلك كله، يجب أن يتم وفق ما أطلقوا عليه “أدب الاختلاف”. لذلك وجدنا
تتلمذ شيخ المذهب على شيخ مذهب آخر، وثقل زعيم طريقة عن زعيم طريقة أخرى، وأن
التكامل العلمي هو بغية كل عالم.. تلك كانت أسس الثقافة الإسلامية المتأصلة، التي
ضربت أروع الأمثلة في التسامح مع المخالف، والتأدب مع المعارض، والتحاور مع المضاد.
أقول هذا ونحن نعيش عصر التحولات في واقعنا العربي
الإسلامي، حيث أصبح الاختلاف هو قاعدة كل عمل سياسي، والائتلاف هو قاعدة كل نظام
أحادي. فبين الاختلاف والائتلاف هوة سحيقة، يملؤها التنابز بالألقاب، ويطبعها
التباهي بالأنساب،فما نشاهده على شاشات إعلامنا وما نقرؤه على أعمدة صحفنا من
تكفير الأحزاب بعضها لبعض، ولعنها، وتفسيقها، تحت غطاء التنافس الحزبي، وبعنوان
الاستحقاق الانتخابي، بعيدا عن أي أدب للاختلاف، يجعلنا نضع مختلف الأسئلة عن جدوى
الانتخاب، وهدف تعدد الأحزاب.
إن الحملات الانتخابية التي جاءت تتويجا لممارسات غير
شريفة، طغت فيها المحسوبية، والوصولية، والارتشائية، وسادها العنف اللفظي والمعنوي
معا، إنما تنطق، مفتقرة للبرامج السياسية، ومرتكزة حول زعامات فردية، تقدس الذات،
وتستهين بقيم الأحياء والأموات.
نريد – بكل بساطة – أن تنطلق الحملة الانتخابية وفقا
لميثاق شرف، يجعل المتنافسين يعلون عن السقاسف، والبذاءة، وينبذون سوء التحالف،
والدنيء من القراءة.إننا ننشد شفافية الصندوق، حتى لا يخرج لنا في يوم الفرز،
أفاعي وعقارب، وتكتلات، تستند إلى فقه العشيرة، وفصيلة دم الأقارب.
إن غياب “أدب الاختلاف” الذي ورّثه لنا علماؤنا، هو
المقدمة الخاطئة التي قادتنا إلى نتيجة فاسدة، هي عنف الملاعب، والاعتداء على
اللاعب، وما تجسد من ثقافة المكاسب، والمناصب، والمتاعب، في شتى ميادين الحياة، من
مثالب، وسوء مطالب.
إن أدب الاختلاف، فلسفة سمو عقلي، يجب أن نتوق إلى
تحقيقها، السياسي بنبل شعاراته، والحزبي بمختلف تياراته، والمثقف بلطف عباراته،
والمتدين في تفسير آياته.
ليت شعري! هل تستيقظ عقول المواطنين على اختلاف
قناعاتهم، من سباتهم، فيجعلون العقل مصفاة للفرز لا على أساس العصبية المقيتة، أو
الجهوية المميتة، وإنما على قاعدة من زاد عليك في الخلق زاد عليك في القيمة.
إن الرهان السياسي، الذي نحن مقبلون عليه، هو اختيار
لدرجات التحصين الوطني، ومستوى التمكين السياسي، ومدى الوعي بواجبات المواطن
وحقوقه في سلامة الأداء، وعمق الانتماء.لقد ابتلي المواطن بتجارب استحقاقية سابقة،
فخاب أمله، وأفلس عمله، وما ذلك، لأن النزاهة قد فقدت، والأمانة قد أهدرت،
والنتائج قد زورت وزيفت.. فكيف السبيل إلى إعادة الثقة المفقودة لدى المواطنين؟
والطيبة المعهودة لدى المواطنين؟ والآمال المعقودة لدى الناخبين؟
إننا حقا أمام امتحان صعب للعزيمة والإرادة، وفولاذية
المواطن والقيادة، في تقديم طبعة نموذجية جديدة للاستحقاق، بعقل سياسي لم تعرفه
المجامع من قبل. لو فعلنا ذلك لقدمنا للتاريخ وللعالم صورا جديدة عن الحاكم
والمحكوم في بلادنا، تنسخ الصور المشوهة القديمة التي ظلت تصاحبنا، وترسم بدل ذلك
منهجية سليمة للتغيير، يتبوأ فيها النزيه، والكفء والمخلص درجة الاستحقاق، وتختفي
بذلك كل أعراض الفشل والإخفاق.
نحن نشرئب إلى الموعد المرسوم، كما يتطلع الصائم إلى
هلال العيد ليعيش فرحتين: فرحة التغيير في التسيير، وفرحة البناء والتعمير… وإن في
ذلك لعبرة، وأية عبرة.
ــ سورة الأنفال، الآية 33.[1]
[2] ــ سورة مريم، الآية 37.
[3] ــ سورة هود، الآية 118.
[4] ــ سورة الذاريات، الآية 8.
[5] ــ سورة يونس، الآية 93.
[6] ــ ابن منظور الإفريقي المصري: لسان العرب، دار
صادر، بيروت، الطبعة 3، 1414 هـ / 1994 م، ص 105.
[7] ــ سورة النساء، الآية 35.
[8] ــ ابن كثير الدمشقي: تفسير القرآن العظيم، دار
الكتب العلمية، بيروت، الطبعة الأولى، 1418 هـ / 1997 م، ص 373.
[9] ــ سورة البقرة، الآية 137.
[10] ــ سورة النساء، الآية 135.
[11] ــ سورة الأنعام، الآية 56.
[12] ــ سورة المؤمنون، الآية 71.
ــ سورة هود، الآية 118.[13]
[14] ــ اختلاف الملائكة حول من قتل تسعة وتسعين
نفسا.
[15] ــ سورة النساء، الآية 59.
[16] ــ سورة البقرة، الآية 185.
[17] ــ سورة النساء، الآية 28.
[18] ــ سورة المائدة، الآية 6.
[19] ــ سورة هود، الآية 118.
[20] ــ سورة التوبة، الآية 31.
[21] ــ متفق عليه.
[22]ــ قال الشيخ الالبانى رحمه الله تعالى: زاد
مسلم وغيره فى رواية : (وأعمالكم) وهو مخرج فى ” غاية المرام فى تخريج الحلال
والحرام” (410).
[23] ــ رواه الإمام أحمد في مسنده، ورواه مسلم في
صحيحه.
[24] ــ ابن قتيبة: تأويل مختلف الحديث، ص 22.
منقول بتصرف
اصل الموضوع على الرابط اسفله:
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire