مرة
أخرى، تقدم بعض النخبة التونسية الدليل القاطع على أنها لا تعيش مع شعبها،
ولا تفكر معه، ولا تشعر بحاجته، بل تعمل جاهدة على حرفه عن شروط وجوده
الدنيا ليمكّنها من شروط وجودها المرفهة.
إنها غربة وقطيعة قد تترجم عنفا ذات يوم. فشهر مايو 2015 قدم صورة كاملة للوضع في تونس، مناطق مفقرة تكافح من أجل الحد الأدنى المعيشي، ونخبة تدافع عن حقوق بعض المثليين في التعبير عن حاجاتهم الحسية، طبقا للقانون، وتعتبر مثل هذا المقال اعتداء صارخا على المثليين، ويصنف في الكتابات المريضة بالخوف من المثلية (الأوموفوبيا).
المطلبية الاجتماعية حقيقة قائمة
ليس هناك منطقة في تونس خالية من المطالب الاجتماعية الحيوية، ففضلا عن كارثة البطالة المتفاقمة وعجز الاقتصاد عن استيعاب المزيد من الخرِّجين، خاصة بعد أن صرح خبراء الحكومة القائمة أن نسبة النمو الحقيقية في أول مئة يوم لم تتجاوز 1 بالمائة، فضلا عن التقديرات المتوقعة لنسبة نمو سنوية لن تتجاوز 2 بالمئة، بعد أن رسمت الحكومة برنامجها على نسبة نمو 4 بالمئة، فإن الجامعات ستدفع فوجا آخر من الخرجين هذه السنة ليلتحق بصفوف العاطلين هذا، فضلا عن توقف إنتاج الفوسفات وانفجار المطالبة بالشفافية في قضايا الطاقة التي تنكشف يوميا ألاعيب الشركات الأجنبية بها بواسطة متنفذين محليين.
تعرف الحكومة أن المطالبات الاجتماعية لن تتوقف، ولن يتم السيطرة عليها بالوعود الكاذبة ولا بالحلول الترقيعية، بل بحل عميق يغير منوال التنمية بشكل جذري، ويتجه إلى العمق الاجتماعي للقضاء على أسباب الفوارق الجهوية، ووضع قواعد عدالة اجتماعية حقيقية تنصف المهمشين مناطق وأشخاصا. وهي على يقين أن حلولها فاشلة حتى قبل الشروع في تنفيذها. وانكشاف هذه الحقيقة فاجع بالنسبة للنظام القائم الآن.
فهي تكشف أولا كذبة الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي التي دخل بها الحملة الانتخابية، وأبعد بها حكومة النهضة الإسلامية وشركائها. وهي تكشف ثانيا العجز الآني والعجز البنيوي في المنوال الليبرالي التابع المستعاد، وهي تضع ثالثا حقيقة النظام أمام نفسه كنظام يخدم فئة ضيقة من المتنفذين الذين يبخلون عليه بالاستثمار في المناطق المحتاجة إلى التنمية، ويبخلون عليه حتى بالضرائب المستوجبة عليهم لرفد الميزانية المثقوبة بالدفوعات الاجتماعية التي لا تتوقف.
لقد كانت أموال هذه الفئة صالحة لربح الانتخابات بشراء الذمم، على أمل الإبقاء على السلطة بيدها دون دفع كلفة حقيقية. لكن هذه السحر قصير النفس ينقلب على السحرة؛ لذلك نراهم يهربون أموالهم قبل انهيار البلد.
وقد فاقم الأزمة سنة زراعية فاشلة تبين أن بعض أسباب فشلها العبث بنوعية الحبوب المزروعة التي تبين عقمها، ما ذكر الناس بحرب البذور التي أراد الرئيس السابق خوضها، فتعرض إلى السخرية السوداء .
من ينقذ النظام (الحكومة) الآن؟ المزيد من الاقتراض والرهن والتونسيون يتذكرون الآن حكومة منتصف القرن التاسع عشر التي تداينت حتى فرضت عليها الحماية الاستعمارية. وقد ذهب رئيس الدولة يطلب حماية الناتو من البيت الأبيض، مقابل بعض الرفادة المالية في الظرف القصير الذي يسمح للحكومة بالبقاء علها تكمل سنة أولى قبل الانهيار.
المطلبية المثلية قضية مصطنعة
التونسيون يتذكرون أن أزمة باي تونس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي رغبته في بناء قصر عظيم مماثل لقصر فرساي الفرنسي الذي زاره وأراد مثيلا له ليكون الملك الشمس (Le roi soleil )، فزاد في الضريبة على العربان والتجار ليجد كلفة قصره من قوتهم، فانفجرت ثورة عارمة أوشكت أن ترحل بعرشه. لكنه احتواها وأفرغها، غير أنه لم يفق من ذلك إلا وقد أفلس البلد بعد أن كان يصدر القمح لفرنسا، فجاء الدائنون يقودهم القناصل والسفراء، ففرضوا عليه الحماية التي لم تكن إلا استعمارا فجا سيطر على البلد 75 سنة.
فرنسا مرة أخرى تقدم النموذج غير المناسب في الوقت غير المناسب لتجعل من فئة من التونسيين يقلدونها انبهارا أو اتباعا أو استزلاما لنموذجها الاجتماعي.
ففي قمة الأزمة الاجتماعية، وفي موجة المطلبية الواسعة، يتم تقنين جمعية للمثليين (الشواذ جنسيا) ليخرجوا إلى العلن مطالبين بحرية الحركة وما يتبعها، طبقا للنموذج الفرنسي ذاته من حق الزواج المثلي (سحاقا أو لواطا).
وككل المسائل الفرعية الحادة، يتم حرف النقاش في الساحة عن المطالب التنموية، ليصبح الحق في اللواط والسحاق هو موضوع النقاش.
وقفت النخبة التونسية ذات الهوى الليبرالي واليساري، وهي النخبة ذاتها التي تجمعت ضد حكومة النهضة الإسلامية، وأسقطتها، ثم ناصرت حزب النداء، وقطعت الطريق على المرشح المنصف المرزوقي، وقفت مع الجمعية مدافعة عن حقها في العمل ضمن مبدأ الحرية.
ثم بدا توزيع الاتهامات بمعادة المثلية كجزء من معاداة الحرية، وطبعا يتبع ذلك توسيع الاتهام إلى الدعوشة. فمن رفض المثلية يصير متعاطفا مع داعش. ويصير النقاش أما القبول بالمثلية أو الاتصاف بداعش. ويختفي الحديث عن التنمية والشفافية في الطاقة وتنظيم الانتخابات البلدية والمحلية.
النخبة الحضرية واليسار البرجوازي
من لم يكن معنا فهو بالضرورة ضدنا. هذه الروح البوشية تسيطر الآن على النقاش في تونس. فإما أنك قابل للمثلية الجنسية، وتتعامل معها وترحب بها (غير مقبول أن تقف على الحياد منها)، مثلا عليك ألّا تسميها بالشذوذ؛ لأن هذه التسمية تدينها، فهي ليست ظاهرة شاذة، وإنما هي ممارسة للحرية الفردية، وعليك أن تقبلها بصفتها تلك. طبعا ولأنها حرية فهي ذات حق في التوسع في الممارسة تماما، كما نظَّر لذلك جهابذة الفلسفات الغربية (الفرنسية خاصة).
من يدافع عن المثلية ليسوا الفقراء طبعا، بل فئات الحضر والبرجوازية المدينية التي حققت كل مطالبها الاجتماعية، واستقر بها المقام في الثقافة اللاهية. لذلك نجد مساندي جمعية المثليين من الجامعيين والسينمائيين وزعماء اليسار الذين ظهرت صورهم الخاصة مع نشطاء الجمعية، ما كشف القطيعة الجذرية بين اهتمامات هذه النخب واهتمامات الفقراء في الأرياف والبوادي البعيدة، وهي القطيعة ذاتها بين مولانا أحمد باي الذي أراد بناء فرساي من لحم هؤلاء الفقراء وبين هذه النخبة التي تعيش مثليتها في العاصمة منقطعة في لهوها عن جوع الفقراء ومعاناتهم.
لماذا قضايا المثلية الآن؟ هذا سؤال ممنوع؛ لأنه يفتح على ترتيب الأوليات الوطنية، وقد يضع الناس أمام حقيقة مهمة، وهي أن الجائع لا يفكر في اللَّذة الجنسية قبل أن يتدبر غذاءه.
وترتيب الأمر على هذه الصورة يعني أن نفكر في التنمية قبل الإشباع الجنسي، أي أن يصبح للفقراء حق في المطالبة، وأن توجه الأقلام والسواعد لهم، لكن خلط الأوليات يحرم تجار المثلية من الرفد الذي يقبضون من خلط الأوليات.
ولذلك لا يمكننا أن نفصل الاعتراف بالجمعية المثلية عن الزيارة إلى البيت الأبيض لتسويق صورة النظام التقدمي المحتاج إلى البقاء دفاعا عن التقدمية، والتي من عناوينها الإقرار بالمثلية كحق وحرية.
كان لسان حال رئيس النخبة التي انتخبته، ساعدونا لنبقى، ونخلط الأوليات التي تؤجل مراجعة منوال التنمية الذي قد يقطع أرجلكم من البلد. وللهدية رد يماثلها. ميعوا المعركة ستقبضون الثمن.
إنها غربة وقطيعة قد تترجم عنفا ذات يوم. فشهر مايو 2015 قدم صورة كاملة للوضع في تونس، مناطق مفقرة تكافح من أجل الحد الأدنى المعيشي، ونخبة تدافع عن حقوق بعض المثليين في التعبير عن حاجاتهم الحسية، طبقا للقانون، وتعتبر مثل هذا المقال اعتداء صارخا على المثليين، ويصنف في الكتابات المريضة بالخوف من المثلية (الأوموفوبيا).
المطلبية الاجتماعية حقيقة قائمة
ليس هناك منطقة في تونس خالية من المطالب الاجتماعية الحيوية، ففضلا عن كارثة البطالة المتفاقمة وعجز الاقتصاد عن استيعاب المزيد من الخرِّجين، خاصة بعد أن صرح خبراء الحكومة القائمة أن نسبة النمو الحقيقية في أول مئة يوم لم تتجاوز 1 بالمائة، فضلا عن التقديرات المتوقعة لنسبة نمو سنوية لن تتجاوز 2 بالمئة، بعد أن رسمت الحكومة برنامجها على نسبة نمو 4 بالمئة، فإن الجامعات ستدفع فوجا آخر من الخرجين هذه السنة ليلتحق بصفوف العاطلين هذا، فضلا عن توقف إنتاج الفوسفات وانفجار المطالبة بالشفافية في قضايا الطاقة التي تنكشف يوميا ألاعيب الشركات الأجنبية بها بواسطة متنفذين محليين.
تعرف الحكومة أن المطالبات الاجتماعية لن تتوقف، ولن يتم السيطرة عليها بالوعود الكاذبة ولا بالحلول الترقيعية، بل بحل عميق يغير منوال التنمية بشكل جذري، ويتجه إلى العمق الاجتماعي للقضاء على أسباب الفوارق الجهوية، ووضع قواعد عدالة اجتماعية حقيقية تنصف المهمشين مناطق وأشخاصا. وهي على يقين أن حلولها فاشلة حتى قبل الشروع في تنفيذها. وانكشاف هذه الحقيقة فاجع بالنسبة للنظام القائم الآن.
فهي تكشف أولا كذبة الإنقاذ الاقتصادي والاجتماعي التي دخل بها الحملة الانتخابية، وأبعد بها حكومة النهضة الإسلامية وشركائها. وهي تكشف ثانيا العجز الآني والعجز البنيوي في المنوال الليبرالي التابع المستعاد، وهي تضع ثالثا حقيقة النظام أمام نفسه كنظام يخدم فئة ضيقة من المتنفذين الذين يبخلون عليه بالاستثمار في المناطق المحتاجة إلى التنمية، ويبخلون عليه حتى بالضرائب المستوجبة عليهم لرفد الميزانية المثقوبة بالدفوعات الاجتماعية التي لا تتوقف.
لقد كانت أموال هذه الفئة صالحة لربح الانتخابات بشراء الذمم، على أمل الإبقاء على السلطة بيدها دون دفع كلفة حقيقية. لكن هذه السحر قصير النفس ينقلب على السحرة؛ لذلك نراهم يهربون أموالهم قبل انهيار البلد.
وقد فاقم الأزمة سنة زراعية فاشلة تبين أن بعض أسباب فشلها العبث بنوعية الحبوب المزروعة التي تبين عقمها، ما ذكر الناس بحرب البذور التي أراد الرئيس السابق خوضها، فتعرض إلى السخرية السوداء .
من ينقذ النظام (الحكومة) الآن؟ المزيد من الاقتراض والرهن والتونسيون يتذكرون الآن حكومة منتصف القرن التاسع عشر التي تداينت حتى فرضت عليها الحماية الاستعمارية. وقد ذهب رئيس الدولة يطلب حماية الناتو من البيت الأبيض، مقابل بعض الرفادة المالية في الظرف القصير الذي يسمح للحكومة بالبقاء علها تكمل سنة أولى قبل الانهيار.
المطلبية المثلية قضية مصطنعة
التونسيون يتذكرون أن أزمة باي تونس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر هي رغبته في بناء قصر عظيم مماثل لقصر فرساي الفرنسي الذي زاره وأراد مثيلا له ليكون الملك الشمس (Le roi soleil )، فزاد في الضريبة على العربان والتجار ليجد كلفة قصره من قوتهم، فانفجرت ثورة عارمة أوشكت أن ترحل بعرشه. لكنه احتواها وأفرغها، غير أنه لم يفق من ذلك إلا وقد أفلس البلد بعد أن كان يصدر القمح لفرنسا، فجاء الدائنون يقودهم القناصل والسفراء، ففرضوا عليه الحماية التي لم تكن إلا استعمارا فجا سيطر على البلد 75 سنة.
فرنسا مرة أخرى تقدم النموذج غير المناسب في الوقت غير المناسب لتجعل من فئة من التونسيين يقلدونها انبهارا أو اتباعا أو استزلاما لنموذجها الاجتماعي.
ففي قمة الأزمة الاجتماعية، وفي موجة المطلبية الواسعة، يتم تقنين جمعية للمثليين (الشواذ جنسيا) ليخرجوا إلى العلن مطالبين بحرية الحركة وما يتبعها، طبقا للنموذج الفرنسي ذاته من حق الزواج المثلي (سحاقا أو لواطا).
وككل المسائل الفرعية الحادة، يتم حرف النقاش في الساحة عن المطالب التنموية، ليصبح الحق في اللواط والسحاق هو موضوع النقاش.
وقفت النخبة التونسية ذات الهوى الليبرالي واليساري، وهي النخبة ذاتها التي تجمعت ضد حكومة النهضة الإسلامية، وأسقطتها، ثم ناصرت حزب النداء، وقطعت الطريق على المرشح المنصف المرزوقي، وقفت مع الجمعية مدافعة عن حقها في العمل ضمن مبدأ الحرية.
ثم بدا توزيع الاتهامات بمعادة المثلية كجزء من معاداة الحرية، وطبعا يتبع ذلك توسيع الاتهام إلى الدعوشة. فمن رفض المثلية يصير متعاطفا مع داعش. ويصير النقاش أما القبول بالمثلية أو الاتصاف بداعش. ويختفي الحديث عن التنمية والشفافية في الطاقة وتنظيم الانتخابات البلدية والمحلية.
النخبة الحضرية واليسار البرجوازي
من لم يكن معنا فهو بالضرورة ضدنا. هذه الروح البوشية تسيطر الآن على النقاش في تونس. فإما أنك قابل للمثلية الجنسية، وتتعامل معها وترحب بها (غير مقبول أن تقف على الحياد منها)، مثلا عليك ألّا تسميها بالشذوذ؛ لأن هذه التسمية تدينها، فهي ليست ظاهرة شاذة، وإنما هي ممارسة للحرية الفردية، وعليك أن تقبلها بصفتها تلك. طبعا ولأنها حرية فهي ذات حق في التوسع في الممارسة تماما، كما نظَّر لذلك جهابذة الفلسفات الغربية (الفرنسية خاصة).
من يدافع عن المثلية ليسوا الفقراء طبعا، بل فئات الحضر والبرجوازية المدينية التي حققت كل مطالبها الاجتماعية، واستقر بها المقام في الثقافة اللاهية. لذلك نجد مساندي جمعية المثليين من الجامعيين والسينمائيين وزعماء اليسار الذين ظهرت صورهم الخاصة مع نشطاء الجمعية، ما كشف القطيعة الجذرية بين اهتمامات هذه النخب واهتمامات الفقراء في الأرياف والبوادي البعيدة، وهي القطيعة ذاتها بين مولانا أحمد باي الذي أراد بناء فرساي من لحم هؤلاء الفقراء وبين هذه النخبة التي تعيش مثليتها في العاصمة منقطعة في لهوها عن جوع الفقراء ومعاناتهم.
لماذا قضايا المثلية الآن؟ هذا سؤال ممنوع؛ لأنه يفتح على ترتيب الأوليات الوطنية، وقد يضع الناس أمام حقيقة مهمة، وهي أن الجائع لا يفكر في اللَّذة الجنسية قبل أن يتدبر غذاءه.
وترتيب الأمر على هذه الصورة يعني أن نفكر في التنمية قبل الإشباع الجنسي، أي أن يصبح للفقراء حق في المطالبة، وأن توجه الأقلام والسواعد لهم، لكن خلط الأوليات يحرم تجار المثلية من الرفد الذي يقبضون من خلط الأوليات.
ولذلك لا يمكننا أن نفصل الاعتراف بالجمعية المثلية عن الزيارة إلى البيت الأبيض لتسويق صورة النظام التقدمي المحتاج إلى البقاء دفاعا عن التقدمية، والتي من عناوينها الإقرار بالمثلية كحق وحرية.
كان لسان حال رئيس النخبة التي انتخبته، ساعدونا لنبقى، ونخلط الأوليات التي تؤجل مراجعة منوال التنمية الذي قد يقطع أرجلكم من البلد. وللهدية رد يماثلها. ميعوا المعركة ستقبضون الثمن.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire