حلّ المفكّر المصري قبل أيّام ضيفاً على بيروت، بدعوة من «المعهد الألماني للدراسات الشرقية»، حيث شارك في ندوة عن محمد إقبال. ثم ألقى محاضرة عن «شروط النهضة» جاءت دعوة نموذجيّة إلى تغيير الواقع. صاحب «التراث والتجديد» الذي يثير الجدل أينما حلّ، يحرّكه سؤال أساسيّ: كيف نتوصّل إلى بناء النهضة؟
الأخبار 13/11/2010
المعتزلي حسن حنفيعدّه الإخوان المسلمون شيوعياً، والشيوعيون إخوانياً.
منذ البداية، حاول
المفكّر المصري الجمع بين المنهج العلمي والإيمان العقائدي، وسلك دروباً
وعرة صنعت فرادة مشروعه
القاهرة ـــ محمد خير
مقارنةً باغتيال فرج فودة، وإرغام الراحل نصر حامد أبو زيد على سلوك طريق المنفى، فإن التكفير كان أقل ما يمكن أن يواجه الدكتور حسن حنفي (1935). الباحث الذي اختار منذ بداية حياته التصدي للمهمة الأخطر «في العالم الإسلامي»، ألا وهي تجديد الفكر الديني. لحسن حظنا جميعاً، واصل صاحب «من العقيدة إلى الثورة» مشروعه، وما زال يمارس عمله أستاذاً للفلسفة في جامعة القاهرة. لكنه في المقابل واجه تكفيراً من نوع آخر كان مصدره المثقفون. أولئك عدّوه الرجل الحائر بين وظيفتي الفيلسوف والفقيه. وبلغ ذلك «الاتهام» ذروته في تعبير جورج طرابيشي، الذي وصف حنفي بأنه الوارث الأكبر لازدواجية العقل العربي.
في كتاب طرابيشي «ازدواجية العقل ـــــ دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي»، يشرح ما يرى أنه «فصام» في أفكار الباحث الإسلامي الشهير «المزدوج بين استراتيجيتين: نقد لامتناهي الجرأة للذات ولموروثها وصولاً إلى انتهاك المقدسات، ومنافحة تعظيمية عن الذات وموروثها قد تأخذ حتى شكل الهذاء».
لكن الازدواجية كانت اتهاماً ـــــ أو مصيراً ـــــ لحق بكل من جرّب الجمع بين المنهج العلمي والإيمان العقائدي. وربما كان صاحب «من النقل إلى الإبداع» مسؤولاً إلى حد ما عما لحق بصورته من ارتباك. في ظهور تلفزيوني نادر في شباط (فبراير) الماضي، تحدث حسن حنفي عن نفسه معترفاً بأن الإخوان المسلمين يعدّونه شيوعياً، بينما يعدّه الشيوعيون إخوانياً، ويفترض أن ملفه في الجهات الأمنية قد يحمل عنوان «إخواني شيوعي». وحكى في البرنامج نفسه ـــــ «العاشرة مساءً» ـــــ عن موقف مر به في شبابه، عندما كان يحكي في جلسة عزاء، عن الإسلام والتقدم، فاقترح عليه أحد الحاضرين ـــــ وكان عاملاً بسيطاً ـــــ أن يستخدم مصطلح «اليسار الإسلامي». حكاية تفصح عن مصر أخرى لم تعد كما كانت. في الستينيات «كان لدينا مشروع، وكانت الثقافة الإسلامية وسيلةً لا غاية»، يقول حنفي. لكن طريق «اليسار الإسلامي» لم تكن بخفة الحكاية. بعد سنوات طويلة، وضع تحت هذا اللواء كتابه «اليمين واليسار في الفكر الديني»، موضحاً أن «اليمين واليسار ليسا مقولتين في السياسة وحدها، بل هما موقفان في المعرفة الإنسانية والعلوم الاجتماعية عموماً، وفي المواقف العملية والحياة اليومية على وجه الخصوص».
على أيّ حال، رأى حنفي في اليسار مرادفاً للتقدم، ورأى التقدم في تحقيق القيم الإسلامية مثل الحرية والعدل. وهي قيم لا يمكن تحقيقها بالنصّ وحده. الاكتفاء بالنص «يقود إلى احتكار التأويل، الحَرفية، وتمثّل السلطة السياسية في النص». ويضرب المفكّر المصري مثلاً بالآية القرآنية «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم». كيف يمكن تأويل «أولي الأمر»؟ لقد فسرت دائماً لصالح السلطان، والمكتفون بـ «قال الله وقال الرسول» يفتحون الباب في النهاية نحو «قال المعلم وقال الشرطي».
لكن ما سبق لم يكن وحده ـــــ قطعاً ـــــ ما فتح باب تكفير حسن حنفي. بل فعل ذلك توصيفه للوحي بأنه «ليس خارج الزمان»، ورفضه رؤية الواقع من خلال النص وحده. منذ البداية، تبنّى حنفي رؤية المعتزلة للعقل بوصفه أساس الإيمان وهو المقدّم على النقل. وقاده ذلك إلى سواحل خطيرة مثل التعرض للفظ الجلالة.
في عمله «التراث والتجديد» يرى أنّ ثمة تناقضاً داخلياً في كلمة «الله»، لأن الألفاظ، وهي مادة لغوية لتحديد المعاني، تحاول هنا التعبير عن المطلق. يأتي ذلك في سياق موقف شامل من «اللغة القديمة» التي يرى أنها «لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجدّدة طبقاً لمتطلبات العصر، نظراً إلى طول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي تريد التخلص منها». تتضح حساسية الأمر أكثر عند التطرق للألفاظ التي استخدمها «الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب..»، فيرى أنها ألفاظ «مهما أعطيناها معانيَ جديدة، فإنها لن تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن أداء مهمتها في التعبير والإيصال».
من هنا كان بديهياً أن يرى أهم عوامل عصر النهضة الأوروبية في رفض الموروث كمصدر للعلم. تحوّل الأخير ـــــ هناك ـــــ إلى العقل والطبيعة. أما «هنا»، فقد نظرنا إلى تراثنا «نظرة مستشرقين»، وأغفلنا تحديث موقفنا من الواقع، فتحولت الفلسفة إلى نقل.
لكن تاريخ العلوم الإسلامية لم يكن متصلّباً دائماً. من أجل البرهنة على ذلك، خصص حسن حنفي كتاباً ضخماً من تسعة أجزاء هو «من النقل إلى الإبداع»، يشرح فيه التاريخ الثري والمتنوع لتطوير العلوم الشرعية والوضعية في الحضارة الإسلامية، ودور المسلمين في حفظ خبيئة الفلسفة اليونانية وصولاً إلى التأثير الجذري لابن رشد على الفكر الغربي. لم تكن الحال إذاً كما هي عليه اليوم، ولكن صاحب «موسوعة الحضارة العربية الإسلامية» يجد نفسه بعد كل هذه السنوات أمام السؤال السيزيفي: «لماذا ننهض ونكبو؟»، مفترضاً أن السبب ربما يكمن «في جذر عمقنا التاريخي ووعينا الثقافي». نحن نعتمد الآن على تراث أُنتج في وضع معاكس لوضع اليوم. وضع كانت فيه الحضارة الإسلامية حضارة فاتحة لا منسحبة، منتصرة لا مهزومة، نعتمد على تراث زمن غابر. فإذا بنا «نخوض معارك كسبناها فعلاً»، مثل الدفاع عن التوحيد وعن الذات والعقيدة، بينما يحوم الخطر الآن حول ثروات الأمة لا عقائدها.
في طريقه الأكاديمية الطويلة مدرّساً، ثم أستاذاً، ثم رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة القاهرة ومن ثم أستاذاً متفرغاً، درّس حسن حنفي آلاف الطلبة الذين كان بينهم نصر حامد أبو زيد وسيد القمني. ربما اختلفت أفكارهم لكن جمع بينهم التكفير والتهجير والمصادرة.
ولد حسن حنفي في القاهرة عام 1935. نال شهادة الدكتوراه من جامعة «السوربون» في باريس عام 1966، عن أطروحته «مناهج التفسير ــ دراسة في علم أصول الفقه». بدأ أستاذاً في قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، ووصل إلى درجة أستاذ متفرغ. من أعماله «التراث والتجديد»، و«من العقيدة إلى الثورة»، و«من النقل إلى الإبداع»... خلال السنوات الماضية، أعاد بعث «الجمعية الفلسفية» المصرية، التي استقطبت أهل الفلسفة في مصر، من خلال مؤتمرها السنوي.
القاهرة ـــ محمد خير
مقارنةً باغتيال فرج فودة، وإرغام الراحل نصر حامد أبو زيد على سلوك طريق المنفى، فإن التكفير كان أقل ما يمكن أن يواجه الدكتور حسن حنفي (1935). الباحث الذي اختار منذ بداية حياته التصدي للمهمة الأخطر «في العالم الإسلامي»، ألا وهي تجديد الفكر الديني. لحسن حظنا جميعاً، واصل صاحب «من العقيدة إلى الثورة» مشروعه، وما زال يمارس عمله أستاذاً للفلسفة في جامعة القاهرة. لكنه في المقابل واجه تكفيراً من نوع آخر كان مصدره المثقفون. أولئك عدّوه الرجل الحائر بين وظيفتي الفيلسوف والفقيه. وبلغ ذلك «الاتهام» ذروته في تعبير جورج طرابيشي، الذي وصف حنفي بأنه الوارث الأكبر لازدواجية العقل العربي.
في كتاب طرابيشي «ازدواجية العقل ـــــ دراسة تحليلية نفسية لكتابات حسن حنفي»، يشرح ما يرى أنه «فصام» في أفكار الباحث الإسلامي الشهير «المزدوج بين استراتيجيتين: نقد لامتناهي الجرأة للذات ولموروثها وصولاً إلى انتهاك المقدسات، ومنافحة تعظيمية عن الذات وموروثها قد تأخذ حتى شكل الهذاء».
لكن الازدواجية كانت اتهاماً ـــــ أو مصيراً ـــــ لحق بكل من جرّب الجمع بين المنهج العلمي والإيمان العقائدي. وربما كان صاحب «من النقل إلى الإبداع» مسؤولاً إلى حد ما عما لحق بصورته من ارتباك. في ظهور تلفزيوني نادر في شباط (فبراير) الماضي، تحدث حسن حنفي عن نفسه معترفاً بأن الإخوان المسلمين يعدّونه شيوعياً، بينما يعدّه الشيوعيون إخوانياً، ويفترض أن ملفه في الجهات الأمنية قد يحمل عنوان «إخواني شيوعي». وحكى في البرنامج نفسه ـــــ «العاشرة مساءً» ـــــ عن موقف مر به في شبابه، عندما كان يحكي في جلسة عزاء، عن الإسلام والتقدم، فاقترح عليه أحد الحاضرين ـــــ وكان عاملاً بسيطاً ـــــ أن يستخدم مصطلح «اليسار الإسلامي». حكاية تفصح عن مصر أخرى لم تعد كما كانت. في الستينيات «كان لدينا مشروع، وكانت الثقافة الإسلامية وسيلةً لا غاية»، يقول حنفي. لكن طريق «اليسار الإسلامي» لم تكن بخفة الحكاية. بعد سنوات طويلة، وضع تحت هذا اللواء كتابه «اليمين واليسار في الفكر الديني»، موضحاً أن «اليمين واليسار ليسا مقولتين في السياسة وحدها، بل هما موقفان في المعرفة الإنسانية والعلوم الاجتماعية عموماً، وفي المواقف العملية والحياة اليومية على وجه الخصوص».
على أيّ حال، رأى حنفي في اليسار مرادفاً للتقدم، ورأى التقدم في تحقيق القيم الإسلامية مثل الحرية والعدل. وهي قيم لا يمكن تحقيقها بالنصّ وحده. الاكتفاء بالنص «يقود إلى احتكار التأويل، الحَرفية، وتمثّل السلطة السياسية في النص». ويضرب المفكّر المصري مثلاً بالآية القرآنية «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم». كيف يمكن تأويل «أولي الأمر»؟ لقد فسرت دائماً لصالح السلطان، والمكتفون بـ «قال الله وقال الرسول» يفتحون الباب في النهاية نحو «قال المعلم وقال الشرطي».
لكن ما سبق لم يكن وحده ـــــ قطعاً ـــــ ما فتح باب تكفير حسن حنفي. بل فعل ذلك توصيفه للوحي بأنه «ليس خارج الزمان»، ورفضه رؤية الواقع من خلال النص وحده. منذ البداية، تبنّى حنفي رؤية المعتزلة للعقل بوصفه أساس الإيمان وهو المقدّم على النقل. وقاده ذلك إلى سواحل خطيرة مثل التعرض للفظ الجلالة.
في عمله «التراث والتجديد» يرى أنّ ثمة تناقضاً داخلياً في كلمة «الله»، لأن الألفاظ، وهي مادة لغوية لتحديد المعاني، تحاول هنا التعبير عن المطلق. يأتي ذلك في سياق موقف شامل من «اللغة القديمة» التي يرى أنها «لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجدّدة طبقاً لمتطلبات العصر، نظراً إلى طول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي تريد التخلص منها». تتضح حساسية الأمر أكثر عند التطرق للألفاظ التي استخدمها «الله، الرسول، الدين، الجنة، النار، الثواب، العقاب..»، فيرى أنها ألفاظ «مهما أعطيناها معانيَ جديدة، فإنها لن تؤدي غرضها لسيادة المعنى العرفي الشائع على المعنى الاصطلاحي الجديد، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن أداء مهمتها في التعبير والإيصال».
من هنا كان بديهياً أن يرى أهم عوامل عصر النهضة الأوروبية في رفض الموروث كمصدر للعلم. تحوّل الأخير ـــــ هناك ـــــ إلى العقل والطبيعة. أما «هنا»، فقد نظرنا إلى تراثنا «نظرة مستشرقين»، وأغفلنا تحديث موقفنا من الواقع، فتحولت الفلسفة إلى نقل.
لكن تاريخ العلوم الإسلامية لم يكن متصلّباً دائماً. من أجل البرهنة على ذلك، خصص حسن حنفي كتاباً ضخماً من تسعة أجزاء هو «من النقل إلى الإبداع»، يشرح فيه التاريخ الثري والمتنوع لتطوير العلوم الشرعية والوضعية في الحضارة الإسلامية، ودور المسلمين في حفظ خبيئة الفلسفة اليونانية وصولاً إلى التأثير الجذري لابن رشد على الفكر الغربي. لم تكن الحال إذاً كما هي عليه اليوم، ولكن صاحب «موسوعة الحضارة العربية الإسلامية» يجد نفسه بعد كل هذه السنوات أمام السؤال السيزيفي: «لماذا ننهض ونكبو؟»، مفترضاً أن السبب ربما يكمن «في جذر عمقنا التاريخي ووعينا الثقافي». نحن نعتمد الآن على تراث أُنتج في وضع معاكس لوضع اليوم. وضع كانت فيه الحضارة الإسلامية حضارة فاتحة لا منسحبة، منتصرة لا مهزومة، نعتمد على تراث زمن غابر. فإذا بنا «نخوض معارك كسبناها فعلاً»، مثل الدفاع عن التوحيد وعن الذات والعقيدة، بينما يحوم الخطر الآن حول ثروات الأمة لا عقائدها.
في طريقه الأكاديمية الطويلة مدرّساً، ثم أستاذاً، ثم رئيساً لقسم الفلسفة في جامعة القاهرة ومن ثم أستاذاً متفرغاً، درّس حسن حنفي آلاف الطلبة الذين كان بينهم نصر حامد أبو زيد وسيد القمني. ربما اختلفت أفكارهم لكن جمع بينهم التكفير والتهجير والمصادرة.
ولد حسن حنفي في القاهرة عام 1935. نال شهادة الدكتوراه من جامعة «السوربون» في باريس عام 1966، عن أطروحته «مناهج التفسير ــ دراسة في علم أصول الفقه». بدأ أستاذاً في قسم الفلسفة في جامعة القاهرة، ووصل إلى درجة أستاذ متفرغ. من أعماله «التراث والتجديد»، و«من العقيدة إلى الثورة»، و«من النقل إلى الإبداع»... خلال السنوات الماضية، أعاد بعث «الجمعية الفلسفية» المصرية، التي استقطبت أهل الفلسفة في مصر، من خلال مؤتمرها السنوي.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire