lundi 1 juin 2015

سيف الدولة ، الدكتور عصمت 1342هـ / 1923م – 1417هـ / 1996م

عصمت-سيف-الدولة-220x300

رسالة أولى

بسم الله الرحمن الرحيم،

تقول في رسالتك أن الإسلام لم يجبر أحدا على الاعتقاد فيه وبشكل خاص الكفار وأن كل الآيات التي حضت على قتال الكافرين لا باعتبارهم كافرين ومخالفين في العقيدة الدينية بل لدفع اعتداء واتقاء فتنة تصيب المسلمين نتيجة كيد أو مؤامرة. قول حسن وأرجو أن تسمح بإضافة خاطرات ..

أ – الكفر نقيض الإيمان، وكلاهما عقيدة، الأولى عدمية والثانية وجودية إذ محل كل منهما وجود الله ذاتا وصفات، الأولى تنفيه والثانية تثبته، وفي حدود ماهيتها العقيدية لا تتوقفان على الظهور، على التعبير، إثباتا أو نفيا فلا يسأل الكافر عن كفره أو المؤمن عن إيمانه ماداما مضمرين إلا أمام المطّلع  على السرائر، الله. من هنا نجد مئات الآيات في القرآن التي قررت جزاء على الكفر أو الإيمان أنذرت به أو بشّرت في الآخرة ولم ترد في القرآن آية واحدة تأمر بعقاب الكافر على كفره مادام مضمرا ولا بجزاء المؤمن على إيمانه غير المعلن.

ب – قال الله تعالى في كتابه : ” فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”  – الكهف 29 – . وقال :” إن تكفروا فإن الله غني عنكم ” -الزمر 7 – وقال :” إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعا فإن الله لغني حميد” .        – إبراهيم 8 – . لماذا إذن العذاب الأليم على الكفر والنعيم المقيم على الإيمان في الآخرة؟.. مفتاح الجواب جاء في قوله : “ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني حميد”.-لقمان 12 -. وفي قوله “لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغيّ.-البقرة 256 -. وفي قوله “أو أنت تُكره الناس حتّى يكونوا مؤمنين”.-يونس 99-. وقوله “ومن كفر فلا يحزنك كفره”.-لقمان-.

دلالة هذه الآيات معا واضحة على أن الكفر ولو كان عقيدة مضمره لا يضر الله شيئا سبحانه وتعالى، ولكنه يضرّ صاحبه والمجتمع الذي ينتمي إليه، لأنه يجرّد صاحبه من صدق الالتزام في تعامله مع الآخرين بقواعد التعامل الاجتماعي بين الناس التي جاءت في القرآن والتي تسمّى جملة “الإسلام” بما فيها ممّا فيها مما يقال له عبادات، ويذهب بعض الشّراح إلى القول بأنها علاقة خاصة بين العبد وربّه.لا. كل ما جاء به الإسلام لمصلحة الناس، أمّا الله جلّ جلاله فهو غنيّ حميد. ولعلّك قرأت في كتابي “عن العروبة والإسلام”. إيضاحا أوفى لهذا الرأي. المهم أن الكفر بالله ولو كان مضمرا، ليس علاقة عقيدية خاصة بين الكافر والله، بل هو إنكار خفي للإسلام كنظام اجتماعي يستمد قوّته الملزمة من أنّه من عند الله. من هنا نفهم ما ذهب إليه بعض الشّراح والفقهاء من التدليل على الكفر بإنكار ما” عُرف من الإسلام بالضرورة” نفهمه ولكنّا لا نوافق عليه ولا نأخذ به، لأن القول بالضرورة حكم عقلي تتوقف صحته على توافر الصحة في أربعة مواضع : -1- صحة فكر الحاكم -2- صحة الواقعة السبب -3- صحة فكر محدث السبب -4- مطابقة فكر محدث السبب فكر الحاكم عليه بالكفر. فمحال أن يأتي الحكم محكما، ولا إلزام بغير قاعدة محكمة، لا تحتمل التأويل . هذا مبدأ قرآني.

ج- على أي حال سأورد إليك فيما يلي دليلا من القرآن على أن الكفر المضمر لا ينتقص من الإسلام المعلن شيئا إن اجتمعا. جاء هذا في قوله تعالى: ” قالت الأعرابُ آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولم ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم وأن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا إن الله غفور رحيم”       -الحجرات : 13-. الأعراب المذكورون في الآية كفره بشهادة الله عالم الغيب والشهادة. ومع ذلك أشهدوا الناس على أنهم مسلمون. هاهنا كفر -عدم إيمان- مضمر واسلام مشهرٌ، فما الحكم أو ما الجزاء؟ أما عن الإسلام المشهر فقد ارتبط الجزاء فيه بالتزام قواعد وعبّرت عن الآية بالقول “إن تطيعوا الله ورسوله” وهو شرط وجاء الجواب “لا يلتكم من أعمالكم شيئا” أي لكم كل حقوق المسلمين لا ينتقص منها شيء. أمّا عن الكفر المضمر فقد ذكرهم الله جل جلاله بأنه غفور رحيم وعدا بالمغفرة رحمة بهم.

د- من أشكال الكفر المضمر “النفاق” . وقد أنذر القرآن المنافقين بمصير ” في الدرك الأسفل من النار ”     – النساء 145 -. ولكنّه جاء خاليا من أي عقوبة على النفاق تطبيقا لذات القاعدة العامة المشار إليها في البند السابق، فالأعراب الذين أسلموا ولم يؤمنوا طائفة من المنافقين.

 هـ – بقي حكم الكفر المعلن، الكفر المعلن نقيض الإسلام المعلن أو بمعنى أدق نقيض معلن للناس بانعدام القوة الملزمة اجتماعيا للقواعد الآمرة والناهية التي جاءت في كتاب الله، من حيث انه نقيض مصدرها: الله. وقد خصص القرآن سورة كاملة للموقف الإسلامي من الكفار، انه الاجتناب، قال الله تعالى في سورة “الكافرون” :” قل أيها الكافرون، لا أعبد ما تعبدون، ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم، ولا أنتم عابدون ما أعبد، لكم دينكم ولي دين”. وهو موقف سلبي كما ترى لا ينطوي على إكراه    أو اعتداء أو قتل. وأوضح دلالة على موقف الاجتناب ما أُمر به الرسول صلّى الله عليه وسلم من عدم الاهتمام بما قد يلقاه من أذى من جانب الكافرين، قال تعالى: “ولا تُطع الكافرين والمنافقين ودع أذاهم وتوكّل على الله وكفى بالله وكيلا” -الأحزاب:48-.

 و – ومع ذلك فقد أمر القرآن المسلمين يقتل الكافرين إذا ما أوجدوا أنفسهم في المواقف التي أبيح فيها للمسلمين القتال. ولم يبح القرآن للمسلمين القتال إلا في ثلاثة مواقف : الأول، المبدأ، موقف الدفاع. “وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا” -البقرة 190-. وقد جاء تطبيقه بالنسبة إلى الكافرين في الآية التالية :” فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين”- البقرة 191-. وهو مشروط بالمبدأ “لا تعتدوا”. الموقف الثاني هو قتال الطائفة الباغية حين يتقاتل المؤمنون. قال تعالى :”وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله”          – الحجرات 9-. عَرض الصلح على المتخاصمين من المؤمنين إجراء أولي من الإجراءات القضائية في الإسلام قبل الحكم. – بين الزوجة وزوجها وبين القاتل وولي الدم وما بينهما من مخاصمات – . وقد تضمّنت الآية عرض الصلح بصيغة الأمر “فأصلحوا” فأخذ حكم الفرض لا يجوز تركه قبل التدخل. ثم فُرض على المؤمنين قتال الطائفة الباغية وهي هنا التي ترفض الصلح وليست التي بدأت القتال. فيكون الموقف الثاني الذي أبيح فيه للمسلمين القتال أو فرض عليهم هو القتال حقنا لدماء المؤمنين في قتال دائر فيما بين طائفتين منهم لفرض الصلح على الطائفة التي لا تقبله ” حتى تفيء إلى أمر الله” وليس حتّى بعد نشوب القتال من أمر الله” وليس حتّى تقبل وجهة نظر الطائفة الأخرى، ومنه نتعلّم أنّ الصلح ، حتّى بعد نشوب القتال من أمر الله. وليس في أي دين سماوي أو غير سماوي، وليس في أي شريعة من شرائع الأرض الموضوعة حكم يبيح، أو يفرض القتال لوضع حدَ للقتال إلا في الإسلام . القتال ضد من يرفض الصلح الذي يراه المؤمنون، أي المجتمع.

ثم يأتي الموقف الرابع الذي أبيح فيه للمسلمين القتال ، مندوبا لا فرضا، أن يقاتلوا دفاعا عن ضحايا الظلم من الناس، أي ناس في أي مكان، من أي جنس، على أي دين، مسلمين كانوا أو غير مسلمين. قال تعالى :” وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها واجعل لنا من لدنك وليا واجعل لنا من لدنك نصيرا”-النساء 75-. شرط القتال هنا، بالإضافة إلى مبدأ “لا تعتدوا” أن – يستغيث المظلومون بالمسلمين لدفع ظلم واقع لا على فرد ولكن على مجتمع بما فيه من رجال ونساء وولدان. ويسمّى في الشريعة الإسلامية -القانون- “حق الغوث” فهو رخصة بالدفاع وليست فرضا واجبا.

ز- ختاما لهذه الخاطرات أعود إلى سؤالك لأعيد صياغة شطره الثاني صيغة مختصرة فأقول: ليس في القرآن آية تحض على قتال الكافرين أو غير الكافرين ولا المخالفين في العقيدة الدينية ولا اتقاء فتنة نتيجة كيد أو مؤامرة و إنما يفرض القرآن القتال دفاعا في كل الحالات. بل أن القرآن  يوصي المسلمين بأن يبَرّوا غيرهم وأن يكونوا عادلين في التعامل معهم إلا الذين قاتلوا المسلمين لردّهم عن دينهم أو أخرجوهم من ديارهم أو عاونوا من أخرجوهم فيحر القرآن على المسلمين مناصرتهم أو التحالف معهم  أو صداقتهم. وهي الحالة الوحيدة التي أمر فيها القرآن بقطع أوشاج الأخوة الإنسانية بين البشر. قال تعالى في سورة الممتحنة: ” لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم إن تولّوهم ومن يتولّهم فأولئك هم الظالمون”. -الممتحنة 8.7 -. الموالاة تعني الصداقة والمناصرة وما في حكمهما، من والى ولا تعني الولاية من تولّى، فلا شأن للآية بالحكم أو تولي القيادة كما يزعم البعض.

ح – ثم تأمّل من آيات الذكر الحكيم :” إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربّهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. – البقرة 62-. و”إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.-المائدة 69-. الصابئ هو الذي ينتقل من دين إلى دين. والصابئون صفة كانت تطلق على جماعات طائفية لهم كتاب واحد “كتاب ألج نزا” ولكنهم موزعون انتماء إلى ديانات عديدة مثل المجوسية والزرادشتية والهندوسية والبوذية والكنفشيوسية. وقد كان من بينهم نفر يعيشون في البصرة جنوب العراق، وكانوا يعبدون الكواكب ويزعمون أنهم من أهل الكتاب الذين أوصى بهم القرآن احتجاجا بكتابهم.

المهم أنهم لم يكونوا مسلمين..

فانظر كيف قرر لهم القرآن أن “لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”. لقد أسند قراره إلى توافر أمرين: 1- الإيمان بالله واليوم الآخر. 2- العمل الصالح. ولم يشترط الإسلام. وقد يبدو هذا غريبا، ولكنه ليس غريبا، فليس الإسلام مقصورا على ما ابلغه محمد بن عبد الله إلى الناس بصفته رسولا من الله، ولكن الإسلام هو جوهر كل الأديان منذ إبراهيم عليه السلام. وجوهر ذاته هو “العمل الصالح”. الصالح لمن؟ للناس،للبشر إذ أن الله غني حميد. وإذا كان ما جاء في القرآن من أحكام وقواعد هي الصيغة الأخيرة للعمل الصالح فإن الصلاح كمضمون لا يتوقف على العلم بالقرآن أو على أن يكون “الصالح” مسلما بالضرورة. فإن لم يكن كأن كان يهوديا أو نصرانيا أو صابئا أو مجوسيا أو مجنونا فقد رفع عنه الخوف.-من الإكراه- والحزن -من القهر مثلا-.  وكل هذا لا مثيل له في أي دين أو مذهب أو إيديولوجية أو فلسفة أو نظام ما وضعه الإنسان، والمسلمون ملزمون باتباع هذا الموقف من الغير الذي لا مثيل له، فإن لم يفعلوا فقد خالفوا جوهر الإسلام واحتكموا في أمر الغير المسالم إلى غير ما أنزل الله، نقول المسالم حتى لا ننسى شرط فرض القتال ” وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا” .-البقرة 190-. والله أعلم.

عصمت سيف الدولة

https://harakawahida.wordpress.com/category/%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%83%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%82%D9%88%D9%85%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A/page/2/ 


          سيف الدولة ، الدكتور عصمت
1342هـ / 1923م 1417هـ / 1996م

 

 

 

 

عصمت سيف الدولة

3487998
حقوقي عروبي مصري.

ولد سيف الدولة في قرية الهمامية وهي قرية صغيرة بمركز البداري بمحافظة أسيوط في مصر. أكمل تعليمه الأساسي في قريته ثم انتقل إلى القاهرة ليكمل فيها تعليمه الجامعي، فحصل على ليسانس الحقوق عام 1946 م من جامعة القاهرة ثم على دبلوم الدراسات العليا في الاقتصاد السياسي عام 1951 م ودبلوم الدراسات العليا في القانون العام عام 1952 م من جامعة القاهرة، ودبلوم الدراسات العليا في القانون عام 1955 م من جامعة باريس، ثم الدكتوراة في القانون 1957م من جامعة باريس.

قبض عليه في أول أيام حكم السادات بتهمة التخطيط لإنشاء تنظيم قومي هدفه قلب أنظمة الحكم في العالم العربي، وهو ما سمي بعد ذلك بتنظيم "عصمت سيف الدولة" فاعتقل لأول مرة في 1972 حتى 1973. اعتقل مرة أخرى في عام 1981 م.
تأثر بفترة التغيرات العالمية ما بعد الحرب العالمية الثانية وحركة التحرر الوطني وانتشار الأفكار القومية بعد قيام ثورة يوليو في مصر والاتجاه نحو الأفكار القومية العربية والإشتراكية. سعي نحو إيجاد الأساس الفكري النظري للقومية والإشتراكية العربية. وكان لذلك اهميته بالنسبة للفكر القومي في فترة المد الأيديولوجي الشيوعي. كتب مؤلفا في الفلسفة أسماه جدل الإنسان في مقابل جدل المادة لماركس. واعتبره بمثابة الأساس النظري ل "نظرية الثورة العربية". نشر في المؤلف أفكارا عن الحرية وتطور المجتمعات الإنسانية وقوانين تطورها واعتبر ان الإنسان محور وغاية للتطور.
 
 
 

12_38_51

مقياس الخطر من الوجود الاجنبي في الوطن العربي

 الدكتور عصمت سيف الدولة

يتساءلون. أين نحن من الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية، ويقولون ان الامر كان واضحا حين كنا منحازين الى الشرق . حين اقتصرنا على اسلحته وخبرائه. حين فوضناه في أن يتحدث باسمنا . حين عرضنا عليه الدفاع عن وطننا. حين بذلنا فوق ما نطيق مالا وبشرا في العراك مع الولايات المتحدة الامريكية واصدقائها. حين اخترنا الاشتراكية. ولقد كان الامر واضحا لان حدود الانتماء- كما يقولون- كانت واضحة. فلقد كان العالم منقسما انقساما حادا الى قوتين متصارعتين، الكتلة الشرقية بقيادة الاتحاد السوفيتي والكتلة الغربية بقيادة الولايات المتحدة الامريكية. في تلك الظروف كان من الممكن أن نجد للانحياز مبررا. ولقد حاولنا وحاول غيرنا ان نبني كتلة عدم الانحياز من دول العالم الثالث ، ولكنا- وا قعيا- كنا منحازين . المهم ان الظروف قد تغيرت. وان المتغيرات الدو لية قد اصابت علاقات كل الدول بالتغيير. وحل الوفاق محل الصراع بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية. انهم يتعايشون معا ويتفقون معا ويعقدونالصفقات طويلة الامد. وان هذه لفرصة تاريخية لنعود الى استقلالنا ونتعامل مع كل الدول بدون تمييز ولا نزج بانفسنا في معتركات السياسة الدولية. وان اخشى ما نخشاه من خطر على قضيتنا أن نقع فريسة الاستقطاب مرة أخرى ، واخشى ما نخشاه من خطر على حريتتا أن نفقد المقدرة على اتخاذ قراراتنا طبقا لما يتفق مع مصالحنا.. الخ .

يثير هذا الذي يقال ثلاثة مواقف متميزة في الوطن العربي .

الموقف الاول ، يعيد التذكير بتاريخ علاقتنا بالاتحاد السوفيتي .لم يكن الاتحاد السوفيتي هو الذي تقدم فدس أنفه في شؤوننا الداخلية . كانت البداية منا. نحن الذين تقدمنا اليه ننشىء معه علاقات اقتصادية ومالية وثقافية وعسكرية فرحب وقبل. ولم نتقدم اليه مختارين . تقدمنا اليه بعد أن استنفذنا كل الوسائل في محاولات استغرقت سنين طويلة أردنا بها أن ننمي علاقاتنا الاقتصادية والمالية والثقافية والعسكرية مع المعسكر الغربي والولايات المتحدة الامريكية بالذات. وكانت للولايات المتحدة الامريكية شروط لا تنسى لانها شروط تمس ا ستقلالنا وحريتنا ” ولما رفضناها ضرب علينا الحصار الاقتصادي ، وجمدت أرصدتنا المالية في الولايات المتحدة الامريكية، وتوقفت الاعانات، وسحب عرض بناء السد العالي، وغزت اسرائيل أرضنا تحت مظلة حلف الاطلنطي. كان المطلوب منا لكي نحتفظ وننمي علاقاتنا مع الولايات المتحدة الامريكية أن نكف أنفسنا عن الاهتمام أو التدخل في شؤون العالم العربي ، أن نصطلح ونعترف باسرائيل، لأن نقبل رقابة مالية على خزانتنا، الا نقيم مشروعا اقتصاديا الا بعد الاذن من البنك الدولي . باختصار كانت تبعيتنا الى الولايات المتحدة الامريكية هي ثمن أية علاقة اقتصادية أو مالية أو ثقافية أوعسكرية. والمرحوم دالاس  وزير خارجية الولايات المتحدة . هو الذي قال لنا : اما معنا واما ضدنا لان موقف عدم الانحياز موقف غير اخلاقي …

ولقد لجأنا الى الاتحاد السوفيتي فتعامل معنا في الحدود التي ارتضيناها وقبل شروطا لا تتفق حتى مع مبادئه العقائدية. صفقة الاسلحة تمت سنة 1955 بينما كان كل الشيوعيين في السجون . وبينما كان خبراء الروس ينفذون مشروع السد العالي ، ويخططون لمجمع الحديد والصلب، ويوردون الاسلحة ، كان الشيوعيون أيضا في المعتقلات في الواحات، وعندما هزمنا في عام 1967 قدم لنا الاتحاد السوفيتي تعويضا عن اسلحتنا مكننا من استئناف القتال في حرب الاستنزاف. وعندما بدأت غارات العمق ذهبنا، نحن الذين ذهبنا، لطلب الاسلحة المتطورة، ونطلب الخبراء، ونطلب، نحن الذين طلبنا أن يتولى طيارون من السوفيت حماية اجوائنا الداخلية الى أن يتم تدريب طيارينا. وعندما قلنا تعالوا نتفق على انهاء مهمة الخبراء قال السوفيت ليس هذا من شأننا لنتفق عليه، انه من شأنكم انتم فان اردتم فانهوا وجودهم في بلدكم . فلما طلبنا مغادرتهم في موعد، حددناه نحن، غادروا هم قبل الموعد الذي حددناه . فلماذا نخشى التعامل مع الاتحاد السوفيتي وهذه خبرتنا معهم..

الموقف الثاني يقول ان هذا ليس الا جانبا واحدا من المشكلة. جانبها الثاني هو اننا عندما نقتصر في تعاملنا الاقتصادي أو المالي أو الثقافي أو العسكري على الاتحاد السوفيتي فاننا نكون قد اصبحنا تابعين له سواء اردنا او لم نرد . ان الاتحاد السوفيتي لم يعطنا كل ما أعطانا حبا فينا أو استجابة لمبادئه ونظرياته. ولو كان يتبع في سياسته الخارجية مبادئه النظرية ما تخلى عن الماركسيين . ولو كان يتبع في تعاونه الدولي مبادئه لما عرض اقتصادالصين الشعبية وهي دولة ماركسية للخراب عندما سحب خبراءه فجأة في وقت كانت الصين في أشد الحاجة اليهم . انما هو يبحث منذ قرون عن سبيل الى المياه الدافئة ، ولقد فتحنا له مياهنا فاصبح له وجود عسكري قوي في المتوسط ، وفي محيطات الجنوب ونقل بذلك صراعه مع الولايات المتحدة الامريكية الى ارضنا. وفي هذا الصراع لا يمكن الحياد. فهو يسعى باساليبه الخاصة لاحتوائنا وهو يستعمل في سبيل هذا امضى اسلحته وهو السلاح الفكري . ما بين عام 1964 وعام 1967 لم تمض الا ثلاث سنوات قضاها الماركسيون خارج السجون فبلشفوا العقول و سمموا افكار الجيل الجديد من الشباب، واشاعوا الفساد والالحاد.. وفي الاوقات العصيبة لم يتردد الاتحاد السوفيتي في الضغط علينا بما يملك تحت يديه من ادوات اقتصادية ومالية وعسكرية. حبس عنا قطع الغيار. وهو يرفض جدولة الديون . وهو يرفض ان يعوضنا خسائرنا في الحرب كما فعل مع سورية وكما تفعل الولايات المتحدة الامريكية مع اسرائيل . ثم بماذا يفيدنا الاتحاد السوفييتي ؟ ان ازمتنا اقتصادية. ولقد أصبحنا افقر الدول بعد أن كنا اغناها. ما نريد الان هو ان نوقف الاستنزاف الدائم لمواردنا الاقتصادية والبشرية بالكف عن الحرب. على اسرائيل اذن أن تترك أرضنا بدون قتال ولا يستطيع أن يحملها أحد على هذا الا الولايات المتحدة الامريكية. ثم ان الولايات المتحدة الامريكية هي وحدها التي تستطيع ان تقيلنا من عثرتنا الاقتصادية لانها اقوى قوة اقتصادية في الارض . ألم يلجأ اليها حتى السوفيت ليحلوا ازماتهم الاقتصادية المستعصية. لقد ارهقنا الفقر والحرمان سنين طويلة ولا نريد الا وضع حد لهذا الفقر والحرمان، فلنفتح أبوابنا للولايات المتحدة الامريكية. لن يأتي الينا الاسطول الامريكي فانه لا يفتقد القواعد. ولن يأتي الينا الجيش الامريكي فقد انسحب حتى من جنوب شرقي اسيا. انما ستأتي اليناالاموال الغزيرة ، والتكنولوجيا المتقدمة ، والمشروعات الا ستثمار المدروسة. فتتحول بلدنا الى جنة كما تستحق بدون أن نفقد حريتنا .

الموقف الثالث يقول : اننا، فوق كل شيء وقبل كل شيء، يجبأن نحافظ على استقلالنا فلا نقع في شباك التبعية لا للاتحاد السوفيتي ولا للولايات المتحدة الامريكية. وبناء عليه يجب أن نتعامل معهما معا، لا نعادي أيهما ولا ننحاز الى أيهما وبالتالي نفلت من كليهما ونستفيد من علاقاتنا بالجميع. على هذا الوجه يجب أن يكون التزامنا الاسترا تيجي ، أما المواقف التكتيكية فتتنوع وتتغير تبعأ للظروف المتنوعة المتغيرة . ولكن المقطوع به أننا لن نسمح في أي حال بوجود سوفيتي أو وجود أمريكي في أرضنا العربية.. فلا قواعد عسكرية. ولا احتكار للسلاح . ولا تعامل منفرد إقتصاديأ، ولا رأسمالية، ولا شيوعية، بل انفتاح على كل الدول وكل المذاهب وكل النظم .

ومعارك الكلمات وما تخفيه، ما تزال مستمرة .

ونحن نريد بهذا الحديث أن نقيم حدا بين المواقف. اذ لن يضيرأمتنا أبدا أن تفرز القوى من خلال مواقف محدودة بحيث يعرف كل واحد الى أين ينتمي . ان هذا الفرز مقدمة صحيحة وصحية للحل الصحيح . انما تضار أمتنا حقا، اعني جماهير أمتنا العربية ، وعندما تختلط في اذهاننا المواقف فلا تعرف كيف تختار موقفها هي . ولاختلاط المواقف سبب غير خفي  فان جميع المتعاركين يدخلون الى موا قفهم المتناقضة مدخلا واحدا : الوطنية. الحرية. الاستقلال عدم التبعية… الى آخره . وهو مدخل الجماهير أيضا. فلا أحد يستطيع أن يقنع أحدا في الوطن العربي بخيانتة وطنه أو بيع حريته أو التنازل عن استقلاله. ومع ذلك فان المواقف التي اختلطت في مدخل واحد ، مدخل الوطنية، مواقف متناقضة فلا بد لها من أن تفرز حتى تعرف جماهير أمتنا أي موقف تختار لنفسها .

 ليس غاية هذا الحديث اذن ، تحقيق ادعاءات الاطراف المعنية او محاكمة مواقفها، بل غايته أن يضع بين أيدي الجماهير العربية مقياسا للخطر، مفترضا ان الموقع الاستراتيجي لوطننا العربي وما فيه من ثروات يرشحه لمطامع كل الذين يحتاجون إلى” وجود ” سواء كان وجودا عسكريا أو اقتصادياً ، ولن نعقد مقارنة بين كل الدول والقوى لنقول من منها الذي يحتاج إلى ” الوجود ” في الوطن العربي . انما نقصر الحديث على بيان كيف تتواجد القوى والدول خارج حدودها .

 والمقارنة للايضاح، بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الامريكية.

ان الولايات المتحدة الامريكية هي التي هددت صراحة بغزو الوطن العربي وهي التي تتواجد عسكرياً في اسرائيل وهي التي تملك القواعد في بعض الاقطار العربية . يقول أصحاب الموقف الثاني أن الولايات المتحدة هددت ولكنها لم تنفذ مع انها قادرة على التنفيذ . وهي ليست قوة عسكرية موجودة في اسرائيل بل هي حليفة تبيع لاسرائيل السلاح كما تبيع للاردن وللمغرب ، وهذا يجري به العرف الدولي . أما قواعدها في بعض الاقطار العربية فقد أقيمت على أرض مؤجرة  من تلك الاقطار وما تزال لها قاعدة في كوبا لم تستخدمها في اسقاط كاسترو رغم محاولاتها اسقاطه بطرق أخرى . ولقد استطاعت ليبيا ان تنهي هذا الوجود بمجرد طلب انهائه وأخلت أمريكا قاعدتها هناك.

ليكن. منعا للجدال. لنستبعد اذن المقياس العسكري ولنقل أن أياً من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية لن يجسد وجوده خارج حدوده عنوة بالقوة المسلحة والاحتلال . انه الاستعمار “القديم ” الذي انقضى عصره . كيف يتجسد وجود الدولة خارج حدودها إذن ؟

كل بالاسلوب الذي يتفق مع نظامه الداخلي .

الاتحاد السوفيتي دولة اشتراكية خالية تماما من المؤسسات الفردية . الدولة هي التي تنتج السلاح وهي التي تبيعه. الدولة هي التي تملك ” ادوات الانتاج وتتعامل- خارجيا- في المنتجات الصناعية والزراعية وغيرها. وكل الناس في الاتحاد السوفيتي عاملون في الدولة، ولا يستطيع أي واحد منها أن يؤجر قوة عمله الى غير دولته ولكنها تملك تشغيله في خارج الدولة تنفيذا للاتفاقات التي تعقدها الدولة مع الدول. والدولة هي التي تملك الصحف والاذاعة وتطبع الكتب وتنشرها وتوزعها داخل الاتحاد السوفيتي وخارجه.

وهكذا يكون الوجود السوفيتي خارج حدوده وجودا ظاهرا ومحددا ومعروفا لانه يتم من خلال الدولة وفي نطاق علاقاتها بالدول الاخرى . الوجود الاقتصادي يتم في شكل مكاتب متخصصة ترفع العلم السوفيتي علناً . في شكل عقود يبرمها مندوبون مفوضون من الاتحاد السوفيتي رسميأ. في شكل مصانع وأدوات صناعية وأسلحة وذخائر تسلّم من الاتحاد السوفيتي الى الدولة المعنية طبقأ لاتفاقات معروفة. في شكل خبراء معروفة أسماؤهم وأسماء أسرهم وأعدادهم ومحال إقامتهم وأرقام هوياتهم لدى سلطات الدولة التي يوجدون فيها . والوجود الثقافي في شكل  مكاتب ثقافية ومكتبات وصحف وكتب تحمل كل منها شعار واسم الاتحاد السوفيتي . وفي شكل وفود زائرة معروفة العدد والاسماء ومدد الاقامة والغرض من زيارتها ووفود مدعوة بالاسم او بالصفة لمدد معلومة تقدم دعوتها الى الدولالتابعة لها . لا شيء يجري في الخفاء، ولا شيء يمكن أن يضلل أحدا في ” الوجود ” السوفييتي عندما يريد الاتحاد السوفيتى أن يكون له وجود خارج حدوده..

ان هذا الوجود العلني، والذي لا يمكن الا ان يكون علنيآ هو الذي سمح ويسمح بحملات التشهير بالوجود السوفيتي. ففي كل دولة يستطيع رجل الشارع العادي ان يعرف ما اذا كان للاتحاد السوفييتي وجود في دولة ام لا. وما شكل هذا الوجود. وما حجمه وبالتالي يستطيع ان يقدر ما اذا كان هذا الوجود يمثل خطرا على استقلاله او لا يمثل.. فالمشهرون بالوجود السوفيتي لا يحتاجون الى معلومات. كلها متاحة وغير منكورة فيبقى لهم ان يفسروا ويأولوا ويستنتجوا ما يريدون من وجود لا ينكره احد.

على أي حال ، فان أي ” وطني ” يحرص على استقلال بلاده لن يخطىء ابدا في معرفة بدء وشكل ومضمون وحجم الوجود السوفيتي في بلاده . وسيكون عليه هو ان يقدر مدى اتفاق او عدم اتفاق هذا الوجود مع استقلاله الوطني، وان يحد منه او ينهيه ولن يكلفه هذا شيئا سوى مراجعة او تعديل او انهاء العقود والاتفاقات التي ابرمها مع دولة الاتحاد السوفييتي .

نأتي الى الطرف الآخر.

الولايات المتحدة الامريكية دولة رأسمالية اقتصاديا ليبرالية سياسيا. الدولة هنا لا تتدخل بشكل عام الا في شكل القوة المسلحة التي استبعدناه . لان الدولة في الولايات المتحدة الامريكية ذات وظيفة محددة : حماية مصالح رعاياها واشخاصهم فقط لا غير . اما العلاقات الاقتصادية او المالية او الثقافية بالدول الاخرى فيقوم بها الافراد والمؤسسات الخاصة . حتى الاسلحة تنتجها وتبيعها مؤسسات خاصة تلك المؤسسات الخاصة قد تقيم علاقاتها مع دولة او معمؤسسات خاصة ا يضا في الدول . وغاية كل هذا النشاط الذي يقوم به الافراد والمؤسسات الخاصة من الامريكيين خارج الولايات المتحدة الامريكية هو الحصول على الارباح . اكبر قدر من الارباح ، وهكذا يتبع الوجود الامريكي مصادر المواد الخام والعمالة الرخيصة والعرض الاستهلاكي أينما كان متاحا بشروط افضل.. ولا تحتاج دولة الولايات المتحدة الى الظهور كطرف في علاقات رعاياها بالدول او المؤسسات او الافراد خارج حدودها. كل ما تحتاجه هو اكبر عدد من العيون والرقباء والعملاء الذين ينشطون خفية للتحقق من أن ” الظروف ” الداخلية في أية دولة لا تهدد مصالح رعاياها اما بتقييد نشاطهم أو بمحاولة الحد من الارباح التي يغرفونها فتظهر حينئذ في شكل قوة عسكرية. وقلة من هؤلاء من يلحقون بسفاراتها كموظفين . الكثرة يتواجدون ايضا تحت شعار النشاط الاقتصادي أو المالي أو الثقافي . وليس مطلوبا من أي وطني حريص على استقلال بلاده ان يكشف حقيقة كل هؤلاء الامريكيين الذين يفدون الى بلاده، يحملون وعود الرخاء ودعوات السلام . هذا فوق طاقة اي وطنى .

كيف يمكن اذن ان يعرف أي وطني حريص على استقلال بلاده بدء وشكل ومضمون وحجم الوجود الامريكى في بلاده ؟ بمراقبه ودراسة تتبع النشاط الاقتصادي والمالي والثقافي في بلاده ذاتها عندما يبدأ دخول رؤوس الأموال الخاصة في بلده يكون قد بدأ الوجود الأمريكي سواء جاءت رؤوس الأموال تلك من الولايات المتحدة أو من المانيا الغربية أو من اليابان أو من أي طرف من أطراف الأرض لأن الولايات المتحدة الأمريكية هي ” امبراطورة ” الرأسمالية العالمية كل ثغرة تفتح لتتسرب منها مضاربات السوق الرأسمالي إلى الداخل يدخل معها السوق الأمريكي في شكل مضاربين على احتياجات الشعب في السوق الحرة . كل صفقة دولية تعقدها مؤسسة خاصة “وطنية” هي اسلوب خاص للوجود الأمريكي في الوطن . كل فرع بنك أجنبي هو تجسيد للوجود الأمريكي . كل سلعة استهلاكية لا يحتاج إليها الشعب هي جزء من الوجود الأمريكي . كل مشروع امريكي اقتصادي أو مالي أو ثقافي ، هو وجود أمريكي .. كل دعوة ليبرالية هي دعوة إلى أمريكا لتتواجد . كل نظام رأسمالي هو في التحليل الأخير وجود أمريكي في شكل نظام .

وفوق طاقة الجماهير العربية العادية أن تراقب وتتبع هذا الوجود منذ بدايته إلى أن يسلبها استقلالها الوطني . فماذا تفعل لمنع مخاطر الوجود الأمريكي في بلادها ؟ هل تقاطع أمريكا ؟

لا ..

ألا تتعامل مع أمريكا ورعاياها من المؤسسات والأفراد إلا عن طريق دولتها . أن تكون الدولة هي المتعاملة المتعاقدة المتاجرة المبادلة ، مالياً واقتصادياً وثقافياً ، مع أمريكا وكل النظم الرأسمالية . أن تكون الدولة هي صاحبة الصلاحية وحدها ، فيما يدخل أو لا يدخل حدودها من أموال أو بضائع أو ثقافة ، وتكون هي الطرف الوحيد في كل مشروع طرفه الآخر مؤسسة رأسمالية . ان الانفتاح على المؤسسات الأمريكية هو استدعاء للوجود الأجنبي في أرض الوطن .

******

مقال نشر في جريدة السفير يوم 28/7/1975 



https://harakawahida.wordpress.com/2014/04/23/%D8%AF-%D8%B9%D8%B5%D9%85%D8%AA-%D8%B3%D9%8A%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D8%A9-%D9%85%D9%82%D9%8A%D8%A7%D8%B3-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%B1-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%AC%D9%88/




عصمت-سيف-الدولة-220x300

تنظيم قومي من أجل وحدة اشتراكية / الدكتور عصمت سيف الدولة

محاضرة في جامعة القاهرة

١٩٧١/١/٨

(١)

أيها الشباب العربي :

في الوطن العربي دعوة مستمرة إلى إقامة تنظيم قومي تقدمي يقود الجماهير العربية إلى غاياتها ”دولة الوحدة الاشتراكية والديمقراطية“ . وقد كسبت الدعوة قوة دافعة من نداء

وجهه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنة ١٩٦٣ عندما أعلن أن ..الحركة العربية الواحدة … قد أصبحت ضرورة تاريخية . وكان نداء كالنذير عبر به القائد عن حصيلة خبرته في النضال العربي حتى ذلك الحين . كان مّد الحركة القومية العربية الذي بلغ ذروته بمولد الجمهورية العربية المتحدة قد بدأ في الانحسار . نجحت طغمة من الانفصاليين في اغتصاب الإقليم الشمالي سنة ١٩٦١ .. ووصل الصراع بين القوى العربية التقدمية ، وبين الرجعية العربية حد القتال المسلح في اليمن ، ودخلت الامبريالية المعركة سافرة بقوى من المرتزقة .

وفشلت محاولات الوحدة الثلاثية بين الجمهورية العربية المتحدة ، والعراق ، وسوريا . وشنت القوى المعادية حرباً نفسية ، واقتصادية شعواء ضد الحركة العربية ، وقيادتها

. في ذلك الوقت كانت القوى العربية التقدمية تحاول أن تجمع قواها لتصمد . كانت تناضل من مواقع المقاومة لتوقف المسيرة المتقهقرة منذ الانفصال ..وكان واضحاً أن كل أدوات

المقاومة ، والصمود المتاحة غير كافية للحفاظ على المكاسب التي تحققت ، وإيقاف الهزائم التي بدأت . وكان واضحا أن ما تفتقده الحركة القومية حتى تصمد ، ثم تبدأ هجومها المضاد ليس عدالة القضية ، وليس صلابة القيادة ، وليس الجماهير المناضلة ، بل كانت تفتقد الأداة التي تجمع كل قواها في قوة ضاربة واحدة تواجه بها أعداءها في كل موقع .

حينئذ أنذر جمال عبد الناصر بأن … الحركة العربية الواحدة … قد أصبحت ضرورة تاريخية ….

(٢)

ومنذ ذلك الحين ، والدعوة إلى إقامة تنظيم قومي تقدمي قائمة قوية لم تقطع استمرارها ، ولم تضعف من قوتها الأحداث العربية الإيجابية ، أو السلبية . فكلما تحّقق نصر في أية ساحة عربية اندفع دعاة التنظيم القومي يقيمّون ما تحقق ويكشفون ما يواجهه من مخاطر لينتهوا إلى أن وجود التنظيم القومي التقدمي هو وحده القادر على الحفاظ على النصر ، والانطلاق منه إلى نصر جديد

 . وكلما وقعت هزيمة ، ولو في حجم هزيمة ١٩٦٧ انطلقوا يحللوّنها ، ليردوها إلى أسبابها الموضوعية لينبهّوا إلى أن غيبة التنظيم القومي التقدمي كانت السبب الرئيسي في وقوع الهزيمة . حتى عندما أثبت الشباب العربي مقدرته الثورية في ساحة المقاومة ، وفي غمرة الانبهار الجماهيري بضوء المقاومة المتألق وسط ظلام ما بعد الهزيمة ، ذهب دعاة التنظيم القومي إلى أن مصدر الضوء في المقاومة أنها ظرف تاريخي ملائم لمولد التنظيم القومي ، ووجهوا إلى الشباب العربي نذراً صارمة بأن فصائل المقاومة أمام اختيار دقيق فإما أن تتحول إلى قوة ضاربة لتنظيم قومي ، وإما أن تواجه مخاطر الهزيمة.

الهزيمة تأتيها ، لا من أعدائها الصهاينة ، ولكن من الإقليمية فيها ،والإقليمية من حولها . ( ……….) . حتى الآن ، ونحن نرى ، ونلمس عبث ،الدول ، والمؤسسات ، والمنظمات الإقليمية ، بمصير الأمة العربية ، وهي تستهلك القوى العربية في صراعاتها الطفولية حول مطامعها الحقيرة تاركة الجبهة الشرقية مفتوحة للقوى المعادية …نقول ، لو أن ثمة تنظيماً قومياً تقدمياً حقاً ، لألزم العابثين في المشرق العربي أماكنهم في جبهة القتال أو لصّفاهم ليؤمّن ظهر المقاتلين على الجبهة . حتى الآن  ونحن ندخل مرحلة حاسمة في معركة التحرير نقول أن النصر لن يكون لمن يملك أقوى الأسلحة بل لمن يستطيع أن يتحمّل مشاق القتال إلى أن يعجز خصمه عن الاستمرار … في هذه الحرب التي سلاحها الأول الصبر الطويل على أهوالها ، حيث لا يمد المقاتلين بالطاقات المتجددة على القتال حتى النصر إلا التحام الجماهير وراءها في تنظيم قومي عربي تقدمي واحد …

(٣)

  ولقد قوبلت تلك الدعوة المستمرة ، الصامدة ، العنيدة ، المصّرة ، على بلوغ غايتها بكل أشكال المقاومة من أعداء المصير العربي التقدمي . ولم يكن ذلك غريباً . إذ لا يتوقع إلا الأغبياء أن يهادن أعداء الأمة العربية ، دعوة إلى حفر قبورهم .

ولكنها قوبلت أيضا من قوى لا تنكر الهدف ، بل تشكك في سلامة الأداة . فقد قيل أن التنظيم القومي غير لازم ، وتغني عنه جبهة تجمع بين القوى التقدمية المنظمة في الوطن العربي . وأرادوا أن يمتصّوا الدعوة إلى التنظيم القومي ، فأضافوا أن الجبهة هي المدخل الصحيح ، والواقعي إلى وحدة التنظيم . وقلنا أن الجبهة قد تكون لازمة للنصر في معركة تخوضها قوى منظمة مختلفة المنطلقات ، متباينة الغايات ، تلتقي مؤقتاً ، ومرحلياً ضد عدو مشترك ، ولكنها لا تغني عن التنظيم القومي موحد المنطلق ، والقوى ، والغاية . إذ مآل الجبهة إلى الانفراط ، ولو بعد تحقيق النصر المشترك ليستأنف كل فريق مسيرته إلى غايته ، ولو عن طريق الصراع ضد الرفاق القدامى في الجبهة المؤقتة . أما التنظيم القومي فيجب أن يحتفظ بوحدته إلى أن يحقق غايته الاستراتيجية … دولة الوحدة الاشتراكية الديمقراطية …. وقلنا أنه مهما تكن الأهداف المرحلية التي تجمع القوى في ساحة نضال واحدة ، فإن تجاهل الخلافات المبدئية التي أنشأتها متفرقة منذ البداية ، مثالية فاشلة . ففي قلب الجبهة ، ولو كانت موحدة القيادة يبقى تعدد القوى قائماً . وفي قلب وحدة العمل التي تجمعها يبقى الصراع بينها مستمراً . ومن هنا ، فليس صحيحاً ، وليس واقعيا أن تكون الجبهة مدخلاً إلى التنظيم القومي التقدمي الواحد . وطال الحوار حتى دخلنا جميعا محنة الممارسة . فإذا بالأحداث تثبت أن ما كان محسوباً من القوى القومية التقدمية ، لا

هي قوة ، ولا هي قومية ، ولا هي تقدمية . وإذا بالقوى التي كانت تقّدم ”الجبهة“ فيما بينها بديلاً عن التنظيم القومي ، متفرقة ، متعادية ، متصارعة يواجه بعضها بعضاً بقوة السلاح ، أو بقوة التآمر . أكثر من هذا ما أصاب بعض تلك القوى من تمزق داخلي ، فلم تستطع أن تحافظ على وحدتها الذاتية ، وهي التي كانت تبشرّ بطول عمر الجبهة بينها ، وبين غيرها إلى أن تصبح قوة موحدة . إن الحزب الشيوعي السوداني ، أكثر الأحزاب الشيوعية في الوطن العربي تعاطفا مع الحركة القومية ، وأكثر المنظمات جدية ، وإخلاصا في الدعوة إلى الجبهة كبديل ، أو مدخل ، إلى التنظيم القومي التقدمي ، قد انشق إلى حزبين حول قضية أبسط بكثير من قضية تحقيق الوحدة الاشتراكية . قضية ما إذا كان انقلاب السودان يستحق التأييد ،أم لا ؟… والواقع أن الجبهة قد تكون مفيدة ، ولكنها ليست بديلا عن التنظيم القومي التقدمي …

( ٤)

غير أن أقوى التحديات للدعوة إلى التنظيم القومي التقدمي جاءت من داخل الجماهير المؤمنة به ، المتطلعة إليه .. وكان تحدياً في صيغة سؤال متكرر …. كيف يقوم التنظيم القومي التقدمي ؟

إن طرح السؤال ذاته كان يعني أن الأسلوب التقليدي لإنشاء المنظمات الجماهيرية لا يوفي بمتطلبات إقامة تنظيم قومي تقدمي في الوطن العربي …والأسلوب التقليدي هو أن تجتمع قلة من الطلائع ، أو الصفوة كما يقال لتصوغ أهداف الجماهير التي تنتمي إليها في وثيقة فكرية تحدد منطلقات مسيرتها ، وأهدافها ، وأسلوبها ثم تدعوا الجماهير إليها فتقيم منها مؤسسة جماهيرية ملتزمة بمبادئها وتدخل بها ساحة الصراع حتى تحقق أهدافها ،أو تنهزم .. ولا شك أن كثيراً من القوميين التقدميين الذين يرون في أنفسهم طلائع مسؤولة عن إنشاء التنظيم القومي التقدمي ، قد فكروا بأن يتصدوا لإنشائه بهذا الأسلوب .

ولعلهم أن يكونوا قد تبيّنوا أن الواقع العربي الذي يريدون إنشاء التنظيم القومي التقدمي فيه أكثر تعقيداً من أن يستجيب له الأسلوب التقليدي في إقامة المنظمات الجماهيرية . وأن مشكلة إنشاء تنظيم قومي في الوطن العربي الممزق أكثر صعوبة من أن تناسبها الحلول السهلة . يكفي دليلاً على هذا أن أصحاب هذا الحل السهل الذي لا يتطلب إلا قلة من …الصفوة .. ووثيقة فكرية لم يستطيعوا أن يحققوه . فإما أنهم غير جادين ، وأما أن الحل السهل فاشل . ونحن ندافع عنهم فنقول أنهم جادون ، ولكن إنشاء تنظيم قومي تقدمي في الواقع العربي المعاصر لا يتحقق بقلة من الصفوة ، ولو مجتمعة في التنظيم . إنها عندئذ لا

تزيد عن أن تكون منظمة أخرى مضافة إلى المنظمات العديدة في الوطن العربي التي تسهتدف  فيما تعلن  دولة الوحدة الاشتراكية .

( ٥ )

ويمكننا أن نقدمّ سبباً على قدر كبير من الجدية ، أكثر الأسباب جدية في الواقع ، حال دون أن يقوم التنظيم القومي بالأسلوب التقليدي . ذلك هو أن الجماهير العربية العريضة التي هي قوة التنظيم القومي ، وقواعده لم تكن منظمة تماماً ، ولم تكن منفرطة تماماً .فعاشت فترة طويلة تنتظر ، وتتوقع أن تكتمل تنظيماً ، وبالتالي صّدت نفسها عن دعوة إنشائه بالأسلوب السهل . فمنذ سنة ١٩٥٥ ، والجماهير العربية، أعرض الجماهير العربية ،التي لا شك في ولائها لهدف الوحدة الاشتراكية تخوض معارك التحرر العربي تحت قيادة جمال عبد الناصر . طوال هذه الفترة كانت الجماهير العربية تعتبر جمال عبد الناصر قائدها ، وتضع نفسها تحت قيادته .

وطوال هذه الفترة كان جمال عبد الناصر يقودها فعلاً في معارك التحرر في كل مكان من الوطن العربي من مركز قيادته في القاهرة . هذا واقع لا شك فيه .

ومنه نشأت تلك العلاقة شبه المنظمة بين الجماهير العربية في أنحاء الوطن العربي ،وبين قائد معركة التحرر العربي في القاهرة . وقد كانت تلك العلاقة من القوة بحيث نستطيع أن نقول  بدون خطأ  أن كثيراً من القيادات في الوطن العربي كانت تستمد مواقعها الجماهيرية من صلتها بالرئيس عبد الناصر ، أو في بعض الأوقات ادعائها أن ثمة صلة بينها ، وبين عبد الناصر . ولكن هذه العلاقة القوية لم تصل أبداً إلى مرحلة الالتحام بين القائد ، وجماهيره في تنظيم واحد …

لماذا ، مع أن جمال عبد الناصر كان أقوى صوت دعا إلى التنظيم القومي سنة …؟ ١٩٦٣

هذا سؤال أصبح تاريخيا بدخول جمال عبد الناصر في ذمة التاريخ . ما يمكن أن نقوله الآن أن قطاعاً من أنقى العناصر القومية التقدمية ، وأكثرها وعياً كانت تتردد في أن تتصدى لمسؤولية إنشاء التنظيم القومي ، بدون أن يكون عبد الناصر في قيادته . وكانت تنتظر ، وتتوقع أن تسمح الظروف المحلية ، والقومية ، والدولية الصعبة التي كان عبد الناصر يقود فيها معركة التحرر العربي بأن يكمل الرئيس عملية الالتحام التنظيمي بين القيادة ، والجماهير .

( ٦ )

وبعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر أصبحت الحاجة إلى التنظيم القومي أكثر حّدة ، وذلك من نواح عّدة .. فمن ناحية أولى تجد الجماهير العربية العريضة التي خاضت معارك التحرير تحت قيادة عبد الناصر أنها ، وقد فقدت قائدها ،مهددة  جدياً ، بالانفراط ، بكل ما تعنيه الكلمة إذا لم تلتحم في تنظيم قومي يحفظ وحدتها . وهي تدرك تماماً  لا شك تدرك تماماً  أن وفاة جمال عبد الناصر قد وضعتها وجهاً لوجه أمام مسؤولياتها القومية . وأنها تمر بمرحلة اختبار حاسمة لتثبت فيها ما إذا كان ترددها في إنشاء تنظيم قومي تقدمي كان حقاً انتظاراً لمبادرة جمال عبد الناصر ، أم كان استغناء بالنضال شبه المنظم ، وشبه المسؤول ،عن النضال المنظمّ المسؤول . وأكبر خطأ تقع فيه هذه الجماهير أن تحاول خلق قائد آخر من طراز عبد الناصر .إنها إذ تخلقه ، تختلقه . وعبد الناصر لم يخلقه أحد ، ولم يختلقه . فقد كان إفرازاً فذاً لمرحلة تاريخية لا تتكرر . يكفي أننا لا نعرف ، في كل ما عرفنا في التاريخ ، قائداً واحدا استطاع أن يقود جماهير عريضة لا سلطة له عليها ، وبدون تنظيم ، ولفترة طويلة في معارك ضارية ضد قوى شرسة ، كما فعل عبد الناصر . إن غياب القائد فجأة قد أحال غيبته مأساة يفتقد فيها رأيه في كيف تكون القيادة بعده . (………………….) . وبقي على جماهيره  كقائد حركة قومية  أن يجدوا الإجابة على ذات السؤال في مستواه القومي. وهم واجدوها بسهولة لأن الرئيس جمال عبد الناصر كان قد أجاب عليه .

ففي ٧ يناير ”كانون الثاني“ ١٩٥٨ سأله الوزير ، والأديب الفرنسي ”بنوا ميشان“ عما إذا كان يتوقع انهيار الحركة القومية العربية ، فيما لو توفي فجأة فقال رحمه الله . ( لا . إن القومية العربية هي التي خلقتني . لست أنا الذي حركتهّا بل …..هي التي حملتني . إنها قوة هائلة ، ولست أنا إلا أداتها المنفذة …..ولو لم أكن موجوداً لأوجدت غيري ، واحداً ، عشرة ، آلافاً آخرين ليحّلوا …….محلي __________. إن القومية العربية لا يجسّدها رجل واحد ، أو مجموعة من الرجال ….إنها لا تتوقف على جمال عبد الناصر ، ولا على الذين يعملون معه ……إنها كامنة في ملايين العرب الذين

يحمل كل منهم قبساً من شعلة القومية … إنها تيار لا يقاوم ، ولا تستطيع أية قوة في العالم تحطيمّها ….طالما بقيت محتفظة بثقتها في ذاتها ….) .هذا هو رأي عبد الناصر ، وتلك هي إجابته ………

إن البديل عنه كأداة منّفذة للحركة القومية العربية متاح في ملايين العرب القوميين ،وعليهم  إن غاب  أن يحتفظوا بثقتهم في أنفسهم ، وأن يقيموا أداتهم من بينهم . ولا شك في أن الجماهير العربية واعية هذه الإجابة . هذا أنها  منذ وفاة الرئيس عبد الناصر  ونشاطها الفكري ، والحركي متجهة بقوة إلى إنشاء التنظيم القومي التقدمي .

( ٧)

ومن ناحية ثانية ، فإن كل القوى العربية ، من كان منها في مواقع القيادة ، ومن كان خارجها ،تواجه الآن ، وتلمس ذلك الفرق النوعي في ثقل القوة وفعاليتها بين الحركة العربية الواحدة ، والحركات العربية المتعددة . ويدركون بسهولة أن القوي العربية …موحدة … تستطيع أن تقدّم أكثر ، بكثير من…مجموع … ما تقدمه ذات القوى …مجتمعه … ففي ميزان الصراع ، على المستوى الدولي مثلاً ، كانت كل دولة عربية تمّثل ثقلاً واقعيا معروفاً ، حتى لو بالغت هي فيه ، أو أخفت حقيقته . ولم تكن أية دولة عربية قادرة على أن تكسب إلا بمقدار وزنها الحقيقي في موازين الصراع الدولي . إلى درجة أن استطاع الجنوب اليمني أن يهزم بريطانيا في معركة التحرر بقوة السلاح . إلى درجة آن استطاعت منظمات المقاومة أن تبقى في وسط محيط عدائي . إلى درجة أن تفقد الجمهورية العربية المتحدة قواتها المسلحة وتصبح حدودها مفتوحة للقوى المعادية فتندفع دول تضم أكثر من نصف البشر تحميها حتى تنهض من كبوتها . إلى درجة أن تنهزم الدول العربية في معركة صريحة ثم ترفض مذلة مفاوضة العدو فتعفيها أغلبية المجتمع الدولي من مذلة المفاوضة والاستسلام . وطوال خمسة عشر سنة كانت الدول

العربية ، كل دولة عربية ، تعيش لا تحت حماية قواتها الذاتية ، بل تحت حماية قوة أخرى قادرة على أن تضرب في أي وقت في كل مكان من الوطن العربي . وان تدخل المعارك حماية لأية دولة عربية . تلك هي قوة الجماهير العربية شبه المنظمة تحت قيادتها في القاهرة . هذه القوة كانت هي الإضافة الهائلة إلى وزن أية دولة .

ومن هذه القوة استمدت كل الدول العربية الثقل الذي جعلها أهلاً للصداقة ، يمنحها الأصدقاء أكثر مما تستحق بذاتها . وأهلاً للعداوة يخشاها الأعداء أكثر مما تقدر بقوتها .

هذه القوة هي التي فرضت على أعتى القوى في العالم ألا تمس شعرة أي عربي أو تحفر بئرا ولو في الربع الخراب إلا بعد أن تدخل في حساباتها رد فعل الجماهير العربية ، أو أن تستأذن قيادتها في القاهرة . ولولا هذه القوة وثقلها لما استطاعت أية دولة عربية أن تكسب ربع ما كسبته ، ولخفتّ موازينها في الصراع الدولي إلى الحد الذي يتفق مع وزنها الخفيف .

نقول أية دولة عربية ، لإنه لا توجد دولة عربية واحدة ، حتي الدول التي يسخرّها حكامها في مناهضة الحركة القومية التقدمية ، لم تتمتع فعلياً بحماية الجماهير العربية تحت قيادة عبد الناصر . ولا يوجد حاكم ، أو قائد عربي واحد ، حتى الذين عاشوا يناهضون عبد الناصر ، يستطيع أن يزعم أنه لم يكن يعتبر عبد الناصر ، والجماهير العربية تحت قيادته قوة ستتدخل حتما لحماية الشعب العربي في دولته ، أو تحت قيادته ضد أي عدوان أجنبي ، بصرف النظر عن موقفه المناهض .

كل هذا يحملنا على الاعتقاد ، بإن الدول العربية ، كل الدول العربية ، تدرك الآن أنها مهددة بأن تفقد الثقل القومي من موازينها لو أدت غيبة قائد الجماهير العربية إلى غيبة ثقل تلك الجماهير . مهدّدة بأن تكون على قدر حقيقتها الإقليمية ..

وبينما سينتهز كثير من العملاء هذه الفرصة ليكملوا تسليم دولهم إلى القوى المعادية ، فإن كل الواعين على حقيقة الصراع الدائر في الوطن العربي ، وموازين قواه ، سيقفون موقفاً إيجابياً من إنشاء تنظيم قومي تقدمي يحفظ وحدة الجماهير العربية ، ويحتفظ بالثقل القومي في موازين الصراع . ولعل من أهم دلالات هذا الاتجاه تلك الخطوة الحذرة إلى الأمام التي تمت في القاهرة يوم ٨ نوفمبر“تشرين الثاني“ ١٩٧٠ بالاتفاق على العمل من أجل إقامة اتحاد بين الجمهورية العربية المتحدة ، والجمهورية العربية الليبية ، وجمهورية السودان الديمقراطية . وهي خطوة تتفق طبيعتها مع طبيعة الدول التي اتخذتها ، ولكنها تعبر عن اتجاه واضح الدلالة على وعي القادة فيها على مخاطر مواجهة المستقبل من مواقع التجزئة . وهي ذات المخاطر التي أصبحت فيها الحاجة إلى تنظيم قومي ملحة حتى مع الاعتراف بأن

تلك الخطوة التي تمت بين الدول ليست الطريق إليه .

٧

( ٨ )

ليس من الغريب في ظل كل هذه الظروف أن يصبح السؤال ….كيف يقوم التنظيم القومي ؟ ملحّاً ، إلحاحاً عصبّياً ، وأن يكون محل حوار حّي دائر على أوسع نطاق في صفوف الشباب العربي . وقد كنا من قبل نطرح السؤال في آخر كل حديث عن الفكر القومي ، أو عن التنظيم القومي ، ثم نجيب ….غير أن هذا حديث آخر.

 ولم يكن ذلك هروباً من الإجابة ، أو جهلاً لها . بل كان تعبيراً عن اقتناع خاص ، بأن الحديث عن كيفية قيام التنظيم القومي ، ليس قضية فكرية مجردة أو معزولة عن المتحدثين ، والمتحدث إليهم عن الخطوات العملية لإنشاء تنظيم قومي تقدمي في الوطن العربي ، بل يجب أن يرتفع بجدّيته ، وبمسؤليته عن أن يكون استعراضاً للمقدرة على الحوار . يرضي غرور المتحدثيّن ، أو يشبع فضول الآخرين . وأنه على

هذا الوجه حديث خاص بين قوى مفرزة ينتقل به أصحابه من مرحلة الاجتهاد الفكري ، إلى مرحلة الالتزام الثوري . وكنا ، وما نزال مقتنعين ، بإن كل ثوري مثقف ، ولكن ليس كل مثقف ثورياً ،وبالتالي فإنه من الخطأ الفادح أن يتوهم المثقفون الذين حملوا مسؤولية الدعوة إلى التنظيم القومي أنهم  بهذا وحده

مسؤولين عن إنشائه ، أو قادرون عليه . أو أن نتوقع من كل قادر على معرفة المشكلة أن يكون قادراً على حلها . ولما كنا ننشط في مستوى الاجتهاد الفكري ، فقد كنا نقف في الحديث عند حدود الدعوة .

غير أن الظروف العربية التي أشرنا إلى بعضها قد طرحت على دعاة التنظيم القومي التقدمي مسؤولية مواجهة الإلحاح المشروع الذي أصبح طابع السؤال …. كيف يقوم التنظيم القومي ؟ وكان لا بد من التوفيق بين ضرورة الإجابة ، ومسؤولية إبقاء الحوار في مستواه الفكري معاً . فقدمّنا شطراً من الإجابة في تعليق … حول إعلان العمل من أجل ”اتحاد عربي ثلاثي“ … نشر في مجلة الكاتب العدد ١١٧ ديسمبر ١٩٧٠ …قلنا فيه …

(إن ما يخص الرؤساء الثلاثة منه ، هو على وجه التحديد :

أولاً  ألا يحاولوا إنشاء التنظيم القومي وهم في مواقع السلطة من دولهم حتى لا يأتي جهازاً من أجهزة الدولة مشدوداً بقيودها الدولية ، والدستورية ، فلا يقدر على ما لا تستطيع هي أن تقدر عليه .

ثانياً  أن يكفوّا الدول التي يحكمونها عن تعويق إنشائه ، ثم يتركوا للقوى القومية التقدمية في الوطن العربي أن تواجه مسؤولياتها بعد أن واجهوا هم مسؤولياتهم.)

إجابة سلبية .نعم . ولكنها في رأينا إجابة على سؤال شائك كان مطروحاً دائماً في الحوار حول الإجابة الإيجابية . بقي أن تعرف القوي القومية التقدمية كيف توفي بمسؤولياتها . فإذا لم تستطع ، فإنها  برغم كل ادعاء  تكون غير ناضجة بالقدر الكافي لتحمّل تلك المسؤولية . ويكون من خير الأمة العربية ، ألا تستطيع قوى غير ناضجة ، إقامة تنظيم تجهض به مولد التنظيم القومي المنتظر. .

٨

وإلى أن تعرف ، فتسطيع …لا نستطيع من جانبنا إلا أن نتقدم إليها ، ببعض الاجتهادات الفكرية التي نأمل أن تساعدها على معرفة الطريق إلى غايتها العظيمة .

( ٩ )

تنظيم قومي من أجل الوحدة الاشتراكية . هذه هي الغاية العظيمة . كيف يقوم ؟

….. هذا هو السؤال الذي لم نجد صعوبة في الإجابة عليه . وقد نستطيع أن نلتقي بالإجابة الصحيحة ، بتقديم عديد من الإجابات اتكالاً على أن تصح واحدة منها مصادفة . وهو أسلوب تجريبي أضعنا فيه وقتاً طويلاً ، وهو كفيل بأن يستنفذ بقية أعمارنا في انتظار المصادفة السعيدة . فلماذا لا نحاول أسلوبا آخر ، فنؤجل الإجابة إلى أن نستولدها من مضمون السؤال ذاته ؟

فنحاول أولا أن نعرف خصائص التنظيم القومي فلعلنا ، عندما نعرف خصائصه ، أن نعرف الإجابة الصحيحة عن السؤال …كيف يقوم ؟ …

( ١٠ )

يتكون التنظيم القومي من ذات العناصر اللازمة لقيام تنظيم جماهيري . نظرية فكرية تحدد له المنطلقات ، والغايات ، والأسلوب . وجماهير تؤمن وتلتزم هذه النظرية ، تجمعها… مؤسسة …. وتمثلها قيادة يتم العمل فيها طبقاً لنظام داخلي يحدد حقوق ومسؤوليات القواعد والكوادر والقيادة . وما دمنا نستهدف الوحدة الاشتراكية ، فليس ثمة أية صعوبة جدية في توفير كل هذه العناصر . فصياغة وثيقة فكرية تربط بين الوجود القومي كمنطلق ، والوحدة الاشتراكية كغاية ، والثورة الجماهيرية كأسلوب ، أمر لا يحتاج إلا إلى الجهد اللازم ، لبلورة الفكر القومي التقدمي المتاح في وثيقة واحدة . والجماهير العربية المؤمنة الملتزمة بهذا الفكر القومي التقدمي تشكّل أعرض قطاع في الشعب العربي . أما عن القيادة فالقيادة الجماعية كفيلة بتوفيرها . نريد أن نقول أن المشغولين جّدياً  على الأقل  بإنشاء

التنظيم القومي لا يعتقدون أن أياً من هذه العناصر غير متاح ، أو من الصعب توفيره .

ولكن مصدر الصعوبة ، ليس هنا ….إن مثل هذا التنظيم ، أن قام ، فسيكون تنظيماً جماهيرياً من أجل الوحدة الاشتراكية . وفي الوطن العربي عشرات من الأحزاب ،والجماعات المنظمة تتوافر لها كل هذه العناصر بما فيها التزامها الوحدة الاشتراكية غاية . ونعرفها من شعارها المثلث … الحرية والوحدة والاشتراكية ، أو أيّاً ما كان ترتيب الكلمات ما دامت تعني التعبير عن الهدف النهائي … الوحدة الاشتراكية .

ومع هذا فإن ضرورة إقامة تنظيم قومي قائمة مع وجود تلك المنظمات . بل ، منها ما يزيد ، ويعلن أن من غايات نضاله إقامة التنظيم القومي ، والإسهام في إقامته ، أو الدعوة إليه . وهو ما يعني أن ثمة تسليماً بأن التنظيم … القومي … من أجل الوحدة الاشتراكية يتضمن شيئاً أكثر من مجرد التنظيم …..الجماهيري ….من أجل الوحدة الاشتراكية . يتضمن أنه مؤسسة قومية ، وليس مؤسسة إقليمية .

نقول … مؤسسة .. وننبّه إلى هذا القول ، لأن التمييز القومي هنا ليس منصّباً على الغاية بل منصب على طبيعة المؤسسة الجماهيرية . ففي الوطن العربي المجزأ قد تكون المؤسسة الجماهيرية قومية الغاية ولا تكون  بالضرورة  قومية التكوين . وعندما نستطيع أن نعرف كيف يكون هذا ، وعلاقته بالواقع العربي ، نكون قد انتبهنا إلى أهم خصائص التنظيم القومي الذي ندعو إلى إقامته . فنستطيع  من ناحية

 أن نعرف لماذا لا تغني عن التنظيم القومي ، أية منظمة قائمة في الوطن العربي تحت شعار الحرية والاشتراكية والوحدة . وقد نعرف من ناحية أخرى أن المقدرة على إنشاء التنظيم القومي متوقفة إلى حد كبير على المقدرة على التمييز بين التنظيم القومي اللازم لتحقيق الوحدة الاشتراكية ، وبين المنظمات الإقليمية التي تعلن التزامها بذات الهدف .

( ١١ )

  فلنسترجع أولا تلك الحقائق التي نعرفها ولا ننتبه كثيراً إلى دلالتها ..

الشعب العربي ، الجماهير العربية ، هي ، هي ذاتها شعوب ، وجماهير الدول الإقليمية .الوطن العربي ، الوطن القومي ، هو ذاته المجزأ بين الدول الإقليمية .الإمكانيات القومية هي ذاتها المقسمّة إلى إمكانيات إقليمية . كل معركة تحرر في إقليم هي جزء من معركة التحرر القومي . كل خطوة تقدمية في إقليم هي خطوة إلى الاشتراكية العربية . كل منا قومي الانتماء إقليمي الهوية . في هذا الواقع ، لا يوجد شعب قومي مفرز . ولا أرض قومية خالصة . ولا يوجد شخص قومي متحرر تماماً من هويته الإقليمية ، بما

تتضمنه تلك الهوية من قيود ، وحدود لا تتفق مع انتمائه القومي . في هذا الواقع العربي الذي نعيشه تختلط القومية ، بالإقليمية اختلاطاً يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومية ويسمح للمؤسسات الإقليمية بان تمد نشاطها إلى خارج إقليمها ، ويسمح للفكر الإقليمي بأن يندس في الفكر القومي ، أو أن يرفع شعاراته .

في هذا الواقع نريد أن نقيم تنظيماً قومياً . قومياً من حيث هو مؤسسة . نريد أن نجسّد الأمة العربية في… مجتمع … مفرز ، ومطّهر تماماً من الإقليمية ، فكراً ، وبشراً ، وقيادة ، وحركة . تكون مهمته تجسيد مصير أمته في دولة الوحدة الاشتراكية . إن هذا يعني أننا في حاجة إلى مقاييس دقيقة للتحقق ، ما إذا كانت …مؤسسة جماهيرية … ، هي مؤسسة قومية ، أم لا …؟ .

إن القياس أسهل عندما تكون تلك… المؤسسة …إقليمية الغاية ، إقليمية القوى ، إقليمية القيادة ، فلا تثير أية صعوبة في التعرف على هويتها . ولكن هذه ..المؤسسة .. الجماهيرية تصبح مضللة إلى أقصى درجة عندما تطرح نفسها على الجماهير العربية على أنها مؤسسة قومية . لأنها  خلافا للدولة الإقليمية  غير مقيدة بأرض ، أو حدود ، أو قوانين دولية ، أو دستورية . فهي قادرة على أن تختار ما تشاء من أفكار ، وترفع ما تريد من شعارات ، وتنشط حيث تستطيع أن تنشط ، وتضم إليها ما تنتقي من أشخاص .

فكيف نعرف ، ما إذا كانت مؤسسة قومية ، أو إقليمية ؟؟.

لنستبعد أولاً ، المقاييس الذاتية . إن رفض ، أو قبول منظمة جماهيرية ، كتنظيم قومي على أساس الخبرة الذاتية ، بأحد قادتها ، أو ببعض العاملين في أجهزتها ، أو المنتمين إليها ، موقف غير موضوعي . لا يكشف من طبيعة المؤسسة ، بقدر ما يكشف من طبيعة صاحبه . فكما أن وجود القوميين في أجهزة الدولة الإقليمية ، وحتى في قيادتها ، لا يغير من طبيعتها شيئاً ، كذلك لا يغيّر من طبيعة المؤسسة الجماهيرية ، أن يتسلل إليها بعض الإقليميين . نحن نقيّم .. مؤسسة .. ولا نحاكم أفراداً . والمؤسسة ، أية مؤسسة ، ستلفظ ، أو تهضم في النهاية ، الذين أخطأوا الاختيار ، فانتموا إلى غير مؤسستهم .

ولنستبعد ثانياً ، المقاييس الدعائية . إن مجرد صياغة وثائق مليئة بالحديث عن القومية ، والوحدة ، والاشتراكية ، وإعلانها ، أو حتى الالتقاء عليها ، والتزامها لا يعني أن الذين كتبوها ، وأعلنوها ، أو التقوا عليها ، والتزموها ، قد أصبحوا ، بهذا وحده ، مؤسسة جماهيرية قومية . إنهم  على أحسن الفروض  جماعة منظمة من القوميين التقدميين يريدون أن يتحولوا إلي تنظيم قومي . فهم … مشروع … مؤسسة قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة ، إلا عندما يستكملون خصائص التنظيم القومي .

هذا مع التسليم بان الالتزام العقائدي بتحقيق الوحدة الاشتراكية ، هو أول خصائص التنظيم القومي ، فيه يجسد التنظيم مصير أمته .

ولنستبعد ثالثاً ، المقاييس الحركية . إن مجرد مد التنظيم إلي خارج حدود الإقليم ، لا يعني أن التنظيم ، بهذا وحده ، قد أصبح مؤسسة قومية . فقد عرفنا أن الواقع القومي يفرض على الإقليميين أن يخوضوا معارك قومية ، ويسمح لمؤسساتهم بإن تمّد نشاطها إلي خارج أقاليمها . وليس من المستبعد أن تأخذ القوى الإقليمية شكل التنظيم الجماهيري ، وأن تمتد إلى أكثر من إقليم ، وتدعيّ بهذا أنها قوى قومية . بل أن هذا غطاء جيد للنشاط الإقليمي في ظل الالتزام المتبادل باحترام استقلال الدول الإقليمية . إذن فمجرد الامتداد التنظيمي خارج الإقليم لا يكفي ليكوّن المنظمين مؤسسة قومية . إنهم  على أحسن الفروض جماعة منظمة من القوميين التقدميين يريدون أن يتحولوا إلى منظمة قومية عن طريق استقطاب الجماهير العربية خارج الحدود الإقليمية فهم … مشروع ..مؤسسة قومية لن يصبحوا تلك المؤسسة ، إلا عندما يستكملون خصائص التنظيم القومي .

هذا مع التسليم بأن رفض تجزئة الشعب العربي ، وقبول الانتماء من أي مكان في الوطن العربي ، من أهم خصائص التنظيم القومي . فيه يجسّد التنظيم وحدة الشعب العربي ، بدون حاجة إلى أن يكون قد امتد فعلاً فشمل الأقاليم .

إذن ، فتجسيد المصير القومي في التزام عقائدي بتحقيق دولة الوحدة الاشتراكية ، لازم لتكون المؤسسة الجماهيرية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها ، وبين المؤسسة الإقليمية التي قد تلتزمه . وتجسيد وحدة الشعب العربي بقبول الانتماء إلى المؤسسة الجماهيرية بدون قيد من التجزئة الإقليمية لازم لتكون المؤسسة الجماهيرية تنظيماً قومياً ، ولكنه لا يكفي للتمييز بينها ، وبين المؤسسة الإقليمية التي قد تحاوله .

ماذا بقى ؟

بقي تجسيد الوجود القومي ذاته . تجسيد الأمة العربية في الحقيقة الداخلية للمؤسسة الجماهيرية ذاتها . عندما تكون المؤسسة الجماهيرية هي الأمة العربية مبلورة فهي مؤسسة قومية ، وإن لم تمتد قواعدها إلى أكثر من إقليم . وإن كانت هي الإقليمية …مصغّرة ..فهي مؤسسة إقليمية ، وإن امتدت قواعدها إلى كل الأقاليم . ونعرف هذا عادة من التركيب الداخلي للمؤسسة . فحيث تمتد الفروع ، وتشكل القيادات متبعة في هذا التمثيل الإقليمي على طريقة .. الجامعة العربية .. تقوم شبهة قوية على أننا في مواجهة منظمات إقليمية مجتمعة في مؤسسة مشتركة ذات شكل قومي . نقول شبهة قوية ، ولا نجزم بالإقليمية . لأنه من الممكن أن يحتج بان ذلك مبرر بضرورات … عملية … ونكون في حاجة  حتى نجزم  إلى معرفة العلاقات التي تحكم هذا التركيب الداخلي . علاقة المؤسسات القومية ( الأمة مبلورة ) ممثلة في قيادتها المركزية بأحد فروعها (الإقليمية مصغرة ) ممثلاً في قيادته الإقليمية . فإذاك المؤسسة هي التي تقود الفروع ، وتحدّد لها مهماتها ، طبقاً لاستراتيجيتها القومية ، فهذه مؤسسة قومية تنشط في الأقاليم

من خلال فروعها . وإن كان الفرع هو القائد طبقاً لمصالحه الإقليمية ، فتلك المؤسسة الإقليمية تنشط خارج الإقليم تحت غطاء قومي .

هذا هو المقياس الإضافي الذي تكتمل به معرفة خصائص المؤسسة القومية . مفترضين طبعاً  أن تكون ثمة …مؤسسة … لها قواعد تمثلهّا قيادات ، وتحكمها علاقات تنظيمية ، وتحتكم فيما بينها ، إلى منطلقات ، وغايات ، وأساليب واضحة . أما عندما نكون في مواجهة تجمع جماهيري ، لا تمثل قيادته ، قواعده ، ولا تحكمه علاقات تنظيمية تكون بها القيادة ، قائدة فعلاً ، وتكون بها القواعد ملتزمة فعلاً ، ولا يملك الناس فيه ما يحتكمون إليه ، فإننا لا نكون أمام … مؤسسة .. لا قومية ، ولا إقليمية . وقد يكون من المفيد حينئذ أن نفتشّ عن القوة الحقيقية التي تختفي وراء شكل المؤسسة ، لتحرك الجماهير

إلى غايتها ، هي ، وليس إلى غاية الجماهير.

وهو مقياس موضوعي ، لحقيقة المؤسسة الجماهيرية ، فهو غير قابل للتأثر بالمواقف الفردية .فلا ينال من صحته أن تتهم القيادات بالضعف ، أو تتهم الفروع بالانحراف ، فستبقى المؤسسة ذاتها مسؤولة عن قياداتها الضعيفة ، أو فروعها المنحرفة . كما لا ينال من صحته ، اتهام … قوى … خارجية بتخريب المؤسسة داخلياً ، فستبقى المؤسسة ذاتها مسؤولة عن قابليتها للتخريب الذي مكّن منها من خربوها . وأخيراً لا ينال من صحته اتهام الظروف التاريخية لنشأة المؤسسة التي أدت إلى أن تكون فروعها ، أو أحد فروعها ، أقوى من قياداتها ، فستبقى المؤسسة حاملة في ذاتها خطأ تاريخياً .

( ١٢ )

  هل قدّم هذا المقياس الإضافي إجابة على السؤال …كيف يقوم التنظيم القومي ؟

قدّم شطراً آخر من الإجابة هو …أن التنظيم القومي من أجل الوحدة ، لا يمكن أن يكون قومياً ، إلا إذا نشأ ديمقراطيا . إلا إذا تولتّ قواعده الملتزمة ، غايته ، مهمة إنشائه من القاعدة إلى القمة . وعندما ينشأ التنظيم القومي ديمقراطياً ، لا يبقى قومياً ، إلا بقدر ما يبقى ديمقراطيا . تختار قواعده قياداته ، وتحاسبها ، وتغيرّها ،وتتولى عن طريقها قيادة فروعه الإقليمية ، وردعها .

١٢

( ١٣ )

لدينا الآن ، إذن ، عدة خصائص لا بد من أن تتوافر في التنظيم القومي من أجل الوحدة الاشتراكية ..

أولا … أن يكون مؤسسة جماهيرية مستقلة عن كافة المؤسسات الرسمية ،والجماهيرية الإقليمية .

ثانيا … أن يقوم ملتزماً ، بنظرية تحدد له المنطلق ، والغاية ، والأسلوب في مستواه الاستراتيجي .

ثالثا … أن يكون الانتماء إليه غير مقيد بالانتماء السياسي لأية دولة عربية .

رابعا … أن ينشأ ديمقراطيا من القاعدة إلى القمة ، ثم يبقى ديمقراطياً .

إن كل واحدة من هذه الخصائص تعتبر حداً غير قابل للتجاوز في إنشاء التنظيم القومي . وكل منها سيعطينا عدة إجابات واقعية عن الخطوات الفعلية اللازمة لقيام التنظيم القومي .

الأولى أعطتنا الإجابة السلبية التي وجهّناها إلى رؤساء الدول الثلاث . والثانية تعطينا الإجابة

التي تفرز بها القوى التي تسهم في إنشائه ، أو تنتمي إليه . والثالثة تعطينا الإجابة كيف يتجسد تحرره من الانتماء الإقليمي . والرابعة تحدد لنا المسؤولين عن إقامة التنظيم القومي .

إنهم الشباب العربي الذين يرشحون أنفسهم ليكونوا قواعده وكوادره .

( ١٤)

أما عن المنظمات ، والجماعات المنظمة القائمة في الوطن العربي ، والتي تعلن أن غايتها الوحدة الاشتراكية ، ولا تتوافر لها واحدة أو أكثر من تلك الخصائص فعليها قبل كل شيء أن تتحرر من عقدة الذنب ، وهي تجد نفسها غير قادرة على الوفاء بمتطلبات غايتها . إنها إذ تتحرر من هذا الشعور المدمّر تكف  كما نأمل عن المحاولات العقيمة في الدفاع عن وجودها في مواجهة محاولات إنشاء التنظيم القومي التقدمي ، أو الدفاع عن المحاولات الساذجة لفرض وجودها على هذا التنظيم ، للتدليل على

براءتها من تهمة الإقليمية . إنها إن كانت صادقة في غايتها المعلنة فيكفيها أنها قد حاولت ، ونجحت ، في أن يبقى شعار المستقبل العربي مرفوعاً ، ولو بدون تحقق ، وأن تبقى القوي القومية التقدمية متجمعة ، ولو بدون وحدة .

وإن كانت قــد فشلــت في تحقيــق غايتهــا المعلنـــة فليــس من اللازم أن يكـون مـــرجع هــذا إلى  تقصــير في استخــدام قــواهــا المــتاحـــة بــل لعـــــل مرجعـــه أن يكـــون إلى أن قواهــا المتاحـــة قـاصـــرة ، بطبيعـــتها عن أن تـــوفــي بمتطلــبات الغاية العظيـــمة . وأهـــم أوجـه قصــورهـــا ، قياساً علـى خصـــائــص التنظيم القومي ، أنهـــا نشــــأت إقليـــميـــة ، ولــو كان الــــذين أنشأوهــــا قـــــوميين ، ومـا تـــزال تحمـــل ـ برغــم غــايتهــا القومية المعلنــة ــ ميـــراث نشــأتها الـــذي حـــال ، ويحـــول دون أن تتحــول إلـــى مؤســـســة قــومية . وكـــل مؤسسة منهــــــا حــاولــت هــــــذا لـــــــم تلــــبث أن مـــزقــــــهــا التــــناقـــض القائــــــم مـــــنذ مـــولدهــــــا بـــين طبـــيـعتـــها كمؤسسة إقليــمــيـة ، وبــــين غايتهـــا القـــــــوميـــة . فلا حقــــقت غــايتهــا ، ولا احتفـــظت بوحــــــدتها . وكـــان الشــباب القومي التقدمي ، القـــــواعـــد البريـــئـــة ، هــــم الضحــــايا في كــل مـــــرة . فلا يحــــاولـن أحـــد أن

يكــــــرر أخـــطاء مــن سبقـــه فيـــــزعــــم أنـــــه أكـــثــر مـقــدرة مـــن غيــــره علـــى أن يتحــــــدى الحــــقائــق الموضوعيـــة . ولـــيـّــكـــــف ، الذيـــن لــــم يخطـــــئـــوا بعـــــــــد ، عــــــــن محــــــاولـــة الخــــــطـــأ .

فإن كفــّــوا عــــن المحـــاولـــة ، والخـــطأ ، واعتـــرفــوا ، بأن مؤسســـاتهــم إقلـــيميـــة فــــــلا بـأس فـي أن يعـــترف لــــهم ، بأنـــهم قومــــيون تقــدميون مــن حــيث الغايـــة التي يستهدفونهـــا ، يعـــانون من مـــأزق انتمائهـــم إلي مؤسسات إقلــيميـــة . وتكون مشكلتهـــــم هـــــي كـيــفية الخـــروج مــــن هـــذا المأزق ٠ عندئـــــذ يتـــبـيّنـــون بوضـــوح أنــــنــا إذ ندعـــو إلى إنشاء تنظيــم قومي تقدمي إنمــــا ندعـــو إلــــى إنقــــاذهـــــم .

لســـــتــم مــذنبـــين إذن إن كنـــتم صادقيـــن . بــــــل تلــــك مسؤوليــة تـاريخـــــية .

وللــــــــصدق محـــّـكات لا تخـــطئ .

أولهـــا اعـــتراف تلـــك المؤسسـات ، والجماعات المنظمـة القائمـــة في الوطـــن العربي ، أنـــــها ، بـــرغــم كل ما تقــدمــــه مـــن جهــــد ، ليـــــــست أدوات تحقيـــق الــــوحدة الاشتراكيــــة ، إنمــــا أداتهــــا التنـــظيـــم القومي التقدمي ، بكـــل خصائصـــــه . ذلك لأن تلــــك الخصـــائص ليــــــست ابتكــــاراً مثـــاليــــاً ، بـــــل هــــي متطلبــــات موضوعــــية يفرضهــــا الواقـــع العـــربــي ــ كمــــا هــــو ــ حتـــى تكـــون الأداة مناســـبة لتحقيـــق الغايـــة . وإن كـــان لا بـــد مـــن دلـيــل تعرفــــه تلك المؤسسات معـــرفــة اليـــقـين فـــهو نجاحـــــها ذاتـــــه .

إن أي مؤسسة منهــــا تنــــجح فـــي استــقــطاب الجمــاهير في إقليمـــها ستـــجــد نفســها فــي مواقــع السلطــة من دولـــتها الإقليمـــية . ويتــــبّيــن لهــا بوضوح قاطــــع أنهـــا عندمـــا تبلـــغ أقصـــى قوتهـــا تنـــتهي إلى نهايــــة الطريـــق المســــدود ، دون الوحدة الاشتراكية ، لأنــــها تنـــتــهــي إلـى أن تكـــون حاكــمة لدولـــة إقليميــــة ، أو شريكــــة في حكـــــمها . فتصبـــح ــ بهذا وحــده ــ أكثر عجـــزاً من ذي قبـــل ، لا عـــن تحقيق الوحدة الاشتراكية ، فحســـب ، بـــل حتــى عــــن الامتـــداد التنظيمي خارج الدولـــة التي تحكمهـــا ، والذي سيعتـــبر حـــينئـذ تــدخــــــلاً في شئــــــون الدول الأخــــرى الداخليـــة ، إن لــم تردعـــه السلطـــة فيها ، يردعــــه مجلس الأمـــن الدولي .

ثــــم يأتــي المـــحــك النهائـــي ، لصدقهـــا فيمـــا تعلـــن ، من أنهـــــا تستـــــهدف الوحدة الاشتراكيـة . بإعلان موقفها الأيجابي من التنظيــم القومي التقدمـــي ، ومحاولات بنائـــــه .

إنها إن تكـــن صادقـــة ، فـــلا بـــــد من أن تكون مــدركـة وجودها ، إن كان يتــفــق مـــع ضرورات مـــا قبـــل التنـــظيـــم القومــي ، فإنــه ليس بديلاً عنـــه ، ولا طريقـــاً إليـــه .

وعليهــــا إن صـــدقت أن تعلــن ، ثـــم تبدأ مـــن الآن في تحضـــير أعضائها لمرحلـــة

الانتقــال من منظمـــات الضــــرورة ، إلى التنظيم القومي . ولعـــل أفضـــل ما تعبـــر بــه عن هذا الصـــدق هــــو أن تسمــــح لـــدعــــوة التنظيم القومــي ، بــــأن تــــطـــرح على قواعـــدهــا ، وكوادرهـــا ، وأن تبـــــيح لمـــن يشـــاء من تلــك الكوادر أن يســـهم في الدعــوة إليــــه ، أو الإسهــام فــي بنـــائه . لأنهــــــا حينــــئذ ، ستكـــــون مــدركـة الحقيقـــة ، حقيــقتها ، وحقيقـــة التنظيم القومــي . إنــــــها ليســـت منظمــــات موازيـــة لـــــه ، لا فــي المنطلقات ، ولا في الغايات ، ولا فــي القــوى ، ولا في التركيب ، فهــــــو لا يناقــــض وجــــــودهــــا ، ولكــــن يتجاوزه .

فهـــــي منظـــــمـــات الماضـــي ، وهـــــو أداة المستقبـــــــل .

 ( ١٥ )

ثــــم يبــــقــــى أن نعـــرف كيــــف ينشــأ التنظيـم القومي ، مــــنـــبثـــقا مـــن قواعـــده ، محتــــفظــا ــ مــــنذ المـــولــــد ـــ بكافــــة خصائصــــه …؟؟ .

لكل سؤال جــــواب …. غير أن هـــذا حديــــث آخـــــر .

 عصمت سيف الدولة

 جامعة القاهرة – في ١٩٧١ / ١ / ٨


 

Aucun commentaire: