مقال الدكتور محمد شحرور في موقع السوري الجديد 17\8\2015
القضاء والقدر... مفاهيم مغلوطة
يقتنع الكثير من السوريين بأن ما يجري لهم من قتلٍ وتهجيرٍ وتشردٍ هو قدر من الله، لم يكن بالإمكان تجنبه، وأن الله تعالى كتب عليهم ذلك منذ الأزل، فلا راد لأمره، ولعل ما يثير استغراب معظمهم هو تجاهل الله لدعواتهم، وذهابها أدراج الرياح، فهم ينتظرون من الله أن يبدل لهم الطاغية وأن ينقذهم مما هم فيه.
ولم تأت هذه القناعة من فراغ، فقد كرست الثقافة الإسلامية الموروثة مفاهيم خاطئة عدة، بحيث استبدلت إسلام التنزيل الحكيم بآخر لا يمت له بصلة، إلا ببعض قشورٍ، لا تسمن ولا تغني من جوع، وعوضاً عن رسالة جاءت {لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية 13) و{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة 164) وصلتنا رسالة "إذا تعارض العقل مع النقل فيُقدم النقل"، وعوضاً عن رسالة {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} (النحل 36) وصلتنا رسالة "دع الأيام تفعل ما تشاء"، فإن هُزمنا في الحرب فتلك إرادة الله، وإن ذلنا الحكام فهذا ما كتبه الله لنا، ولا يحاسب طبيب إذا أخطأ، ولا سجان إذا قتل، وكله يدخل ضمن قضاء الله وقدره بخيره وشره، وعليه أصبح الله تعالى مسؤولاً مسؤولية كاملة عما نفعل.
فإذا كان عمر كل إنسان مكتوباً منذ ولادته فلا جدوى من صرف الأموال على معاهد الطب وأبحاث الأدوية، ومن غير المجد أيضاً محاسبة المسؤولين عن هيروشيما اليابانية أوهيروشيما السورية، وبالتالي لا معنى للثواب والعقاب وللجنة والنار، والحياة الإنسانية كلها تصبح عبارة عن مسرحية هزلية وضع لها سيناريو مسبق، وهذا يخالف تماماً العقل والمنطق.
إذاً كيف نقرأ القضاء والقدر وفق التنزيل الحكيم؟
لا بد من الوقوف عند مفهوم علم الله، وهو من أكثر المفاهيم إثارة للجدل، فعلم الله تجريدي بحت أي معزول عن الحواس، ويحمل صفة كمال المعرفة، وهو يقيني كامل بالأحداث والأشياء القائمة والموجودة فعلاً {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (الأنعام 80)، ولكنه احتمالي في السلوك الإنساني الواعي {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النمل 25)، فالله تعالى يعلم كل الاحتمالات التي يمكن أن يسلكها الإنسان، سواء في طعامه أو شرابه أو لباسه أو عمله، ولا يمكن لأي أحد أن يفاجىء الله بعمل لا يدخل ضمن كلية احتمالات علمه، فمثلاً احتمالا الإيمان والكفر موجودان في علم الله، ولما آمن أبو بكر لم يفاجىء الله تعالى ولما كفر أبو جهل أيضاً لم يفاجىء الله تعالى، ولو كان في علم الله منذ الأزل أن أبا بكر سيكون مؤمناً لأصبح علمه ناقصاً ومختصراً باحتمال واحد، ولو كفر أبو بكر لسبب ما لفاجىء الله تعالى، وهذا عين نقصان المعرفة، كذلك فعلم الله كامل بكل الأحداث المسبقة والجارية، وقوله تعالى {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (الروم 4) يوضح أن الله يعلم كافة الاحتمالات أمام زيد من الناس قبل اختياره احتمالاً ما، ويعلم ما اختار زيد فور اختياره، لكن لحظة الآن تركها لزيد ليقررها، وبعدها انتقل خياره من احتمال إلى واقع مسجل عليه ومسؤول عنه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية 29).
أما قضاء الله فميز التنزيل الحكيم بين "قضى" بمعنى "أخبر" {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر 66)، و"قضى" بمعنى "أمر" ضد "نهى" {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء 23)، و"قضى" بمعنى "أنهى الشيء" {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} (الأحزاب 23)، و"قضى" بمعنى الإرادة الإلهية النافذة {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (البقرة 117)
وهو المعنى موضوع البحث، وصاغه الله بصيغة ثابتة صارمة، فقول الله هو الحق {قَوْلُهُ الْحَقُّ} (الأنعام 73) وكلماته هي عين الموجودات {يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (الأنفال 7)
وقضاؤه المبرم لا ينفذ إلا من خلال المقدرات {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب 38)
أي القوانين الموضوعية للكون، وقضاؤه النافذ غير أزلي (إذا أداة شرط) ولو كان نافذاً منذ الأزل لقال (فإنما يقول له كن فكان) فقد أطلق القدرة ب "يكون" وهذا الإطلاق قابل للتغيير والتبديل، تبعاً لمشيئة الله ولموقف الإنسان، وفيما عدا قوانين الكون (الأقدار) التي لا تتبدل كالليل والنهار والموت والحياة ودوران الأرض
وتعاقب الفصول وتشكل الغيم، يستطيع الإنسان بما أوتي من معرفة (نفخة الروح) أن يقضي في الموجودات، فالله وضع قانون لهطول المطر {ينزل الغيث} لكن الإنسان يستطيع أن يقلد تشكيل الغيوم ويستمطرها فوق مدينة ما، ولو كانت كمية المطر التي ستهطل فوق هذه المدينة محددة سلفاً لما استطاع الإنسان ذلك، ولما كان لصلاة الاستسقاء أي معنى، ومن هنا نقول أنه كلما زادت معرفتنا بالموجودات زاد قضاؤنا فيها وبالتالي زادت حريتنا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف نفسر قوله تعالى {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة 51)، أقول علينا إيضاح معنى "كتب"، فالكتاب في اللسان العربي تعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو لإخراج موضوع متكامل، فنقول "مكتب محاماة" أي مكان يجمع فيه المحامون حيثيات القضايا والقوانين، ونقول "كتيبة دبابات" أي تجميع لجنود مع دباباتهم، وحين نقول "كتاب الفيزياء" نفهم أنه تم جمع مواضيع الفيزياء في هذه الصفحات، ونقول مثلاً "كتاب الرياح" أي مجموعة العناصر التي إذا اجتمعت مع بعضها تشكل الرياح، وكل ما في الطبيعة عبارة عن شروط مجتمعة مع بعضها البعض {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (النبأ 29)،
فلا يمكن لإنسان أن يصيبه شيء إلا من خلال هذه الكتب، فإذا مرض فلن يمرض إلا بمرض موجود في الطبيعة ضمن ظروفه التي يعيشها، وكل المصائب التي تحصل في الأرض من زلازل وفيضانات وهلاك دول وأنفس لا تكون إلا في كتاب، أي من خلال الشروط الموضوعية الموجودة فعلاً {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد 22)، كذلك مثلاً الشفاء والانتصار والتطور، فليتحقق الشفاء من مرض ما يجب اجتماع العناصر المؤدية لذلك من علاج ودواء وتداخلات أخرى، ومن هنا نفهم قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} (آل عمران 145) فالموت كتاب لا بد من حدوثه (قدر)، وهو مؤجل حتى تجتمع العناصر المؤدية له، أما الأعمار فتطول وتقصر(قضاء)، فعندما اجتمعت العناصر المشكلة للقاحات الأمراض تقلصت وفيات الأطفال وتأجل موتهم، وعندما اجتمعت عناصر قتل السوريين تحقق موتهم وقصرت أعمارهم، فالموت قدر والقتل قضاء، ومن قصّ ر أعمارهم يجب محاسبته.
كذلك الأرزاق فالله تعالى سخر لنا خيرات الطبيعة ووعدنا بعطائها {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات 22) لكنه ربط الرزق بالعمل {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (يس 35) وربطه بالتقوى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق 2-3)، فمن يعمل بوصايا رب العالمين يسهل له في رزقه من خلال الظروف الموضوعية التي يعيشها.
وكلما زاد جهل الإنسان بالمقدرات زاد شعوره بالجبرية، فالإنسان يطلب الأشياء حسب معرفته بها، ومن لا يعرف شيء لا يطلب شيء، وينطبق عليه قوله تعالى {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال 22)، وكلما ازداد جهل الإنسان بقوانين الطبيعة والاجتماع والاقتصاد، ازداد تفسيره للأحداث باعتبارها صدفة وحظ، وكلما عجز عن تفسير أمر ما، أرجعه للقضاء والقدر والمكتوب، في حين أن الإنسان ولد حراً مخيراً منذ آدم وإلى يومنا هذا، لكن كي يمارس حريته يجب أن يتوفر له معرفة وخيار بين ضدين، فالله يقضي وهو كامل المعرفة، والإنسان يقضي وهو ناقص المعرفة، وكلما ازدادت معرفته صارت خياراته أوسع، وازدادت حريته، وما يقيد هذه الحرية يفترض هو المرجعية الأخلاقية أو المعرفية وبالتالي القانون.
فالقضاء هو إرادة واعية قوامها المعرفة، بين نفي وإثبات في موجود هو القدر، فالمرض قدر لكن إذا زادت معرفتنا في مرض معين نستطيع أن نقرر علاجه أو عدم علاجه، والزلازل قدر لكن إذا زادت معرفتنا في حيثياتها استطعنا مكافحة آثارها، أي إذا تعرفنا على القدر أمكننا القضاء فيه، والقضاء بلا قدر هو أحلام يقظة (لا موضوعية)، أما القدر بلا قضاء فهو حالة بهيمية، يعيش الناس فيها كالقطيع، هناك من يقضي عنهم في أمورهم، وهذا يفسر تكريس النظم الاستبدادية جهودها لحجب المعرفة عن شعوبها، فالاتحاد السوفيتي انهار عندما خرقت المعلومات ستارته الحديدية.
يبقى أن نذكر أن الله تعالى يقول {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11)، أي تدخله في القضاء هو تدخل ظرفي، مرهون بأمور لا ندركها كلها، أحدها الدعاء، أما تعيين الحكام وتبديلهم فقد أوكل هذه المهمة للإنسان، منذ أن حدد له المرجعية الأخلاقية التي تتجسد من خلالها حاكمية الله، ووضع له أساساً واضحاً هو {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (البقرة 256).
ولكي نخرج من الحالة البهيمية التي نعيشها، علينا اكتساب المعرفة للتحكم بأقدارنا، فهذه مسؤولية حملناها بنفخة الروح، يجب أن نكون جديرين بها، لتحقيق الخلافة الحقيقية على الأرض، وليس دولة الخلافة.
https://newsyrian.net/…/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A…
القضاء والقدر... مفاهيم مغلوطة
يقتنع الكثير من السوريين بأن ما يجري لهم من قتلٍ وتهجيرٍ وتشردٍ هو قدر من الله، لم يكن بالإمكان تجنبه، وأن الله تعالى كتب عليهم ذلك منذ الأزل، فلا راد لأمره، ولعل ما يثير استغراب معظمهم هو تجاهل الله لدعواتهم، وذهابها أدراج الرياح، فهم ينتظرون من الله أن يبدل لهم الطاغية وأن ينقذهم مما هم فيه.
ولم تأت هذه القناعة من فراغ، فقد كرست الثقافة الإسلامية الموروثة مفاهيم خاطئة عدة، بحيث استبدلت إسلام التنزيل الحكيم بآخر لا يمت له بصلة، إلا ببعض قشورٍ، لا تسمن ولا تغني من جوع، وعوضاً عن رسالة جاءت {لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} (الجاثية 13) و{لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} (البقرة 164) وصلتنا رسالة "إذا تعارض العقل مع النقل فيُقدم النقل"، وعوضاً عن رسالة {فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ} (النحل 36) وصلتنا رسالة "دع الأيام تفعل ما تشاء"، فإن هُزمنا في الحرب فتلك إرادة الله، وإن ذلنا الحكام فهذا ما كتبه الله لنا، ولا يحاسب طبيب إذا أخطأ، ولا سجان إذا قتل، وكله يدخل ضمن قضاء الله وقدره بخيره وشره، وعليه أصبح الله تعالى مسؤولاً مسؤولية كاملة عما نفعل.
فإذا كان عمر كل إنسان مكتوباً منذ ولادته فلا جدوى من صرف الأموال على معاهد الطب وأبحاث الأدوية، ومن غير المجد أيضاً محاسبة المسؤولين عن هيروشيما اليابانية أوهيروشيما السورية، وبالتالي لا معنى للثواب والعقاب وللجنة والنار، والحياة الإنسانية كلها تصبح عبارة عن مسرحية هزلية وضع لها سيناريو مسبق، وهذا يخالف تماماً العقل والمنطق.
إذاً كيف نقرأ القضاء والقدر وفق التنزيل الحكيم؟
لا بد من الوقوف عند مفهوم علم الله، وهو من أكثر المفاهيم إثارة للجدل، فعلم الله تجريدي بحت أي معزول عن الحواس، ويحمل صفة كمال المعرفة، وهو يقيني كامل بالأحداث والأشياء القائمة والموجودة فعلاً {وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} (الأنعام 80)، ولكنه احتمالي في السلوك الإنساني الواعي {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} (النمل 25)، فالله تعالى يعلم كل الاحتمالات التي يمكن أن يسلكها الإنسان، سواء في طعامه أو شرابه أو لباسه أو عمله، ولا يمكن لأي أحد أن يفاجىء الله بعمل لا يدخل ضمن كلية احتمالات علمه، فمثلاً احتمالا الإيمان والكفر موجودان في علم الله، ولما آمن أبو بكر لم يفاجىء الله تعالى ولما كفر أبو جهل أيضاً لم يفاجىء الله تعالى، ولو كان في علم الله منذ الأزل أن أبا بكر سيكون مؤمناً لأصبح علمه ناقصاً ومختصراً باحتمال واحد، ولو كفر أبو بكر لسبب ما لفاجىء الله تعالى، وهذا عين نقصان المعرفة، كذلك فعلم الله كامل بكل الأحداث المسبقة والجارية، وقوله تعالى {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} (الروم 4) يوضح أن الله يعلم كافة الاحتمالات أمام زيد من الناس قبل اختياره احتمالاً ما، ويعلم ما اختار زيد فور اختياره، لكن لحظة الآن تركها لزيد ليقررها، وبعدها انتقل خياره من احتمال إلى واقع مسجل عليه ومسؤول عنه {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} (الجاثية 29).
أما قضاء الله فميز التنزيل الحكيم بين "قضى" بمعنى "أخبر" {وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} (الحجر 66)، و"قضى" بمعنى "أمر" ضد "نهى" {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ} (الإسراء 23)، و"قضى" بمعنى "أنهى الشيء" {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} (الأحزاب 23)، و"قضى" بمعنى الإرادة الإلهية النافذة {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (البقرة 117)
وهو المعنى موضوع البحث، وصاغه الله بصيغة ثابتة صارمة، فقول الله هو الحق {قَوْلُهُ الْحَقُّ} (الأنعام 73) وكلماته هي عين الموجودات {يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} (الأنفال 7)
وقضاؤه المبرم لا ينفذ إلا من خلال المقدرات {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَّقْدُوراً} (الأحزاب 38)
أي القوانين الموضوعية للكون، وقضاؤه النافذ غير أزلي (إذا أداة شرط) ولو كان نافذاً منذ الأزل لقال (فإنما يقول له كن فكان) فقد أطلق القدرة ب "يكون" وهذا الإطلاق قابل للتغيير والتبديل، تبعاً لمشيئة الله ولموقف الإنسان، وفيما عدا قوانين الكون (الأقدار) التي لا تتبدل كالليل والنهار والموت والحياة ودوران الأرض
وتعاقب الفصول وتشكل الغيم، يستطيع الإنسان بما أوتي من معرفة (نفخة الروح) أن يقضي في الموجودات، فالله وضع قانون لهطول المطر {ينزل الغيث} لكن الإنسان يستطيع أن يقلد تشكيل الغيوم ويستمطرها فوق مدينة ما، ولو كانت كمية المطر التي ستهطل فوق هذه المدينة محددة سلفاً لما استطاع الإنسان ذلك، ولما كان لصلاة الاستسقاء أي معنى، ومن هنا نقول أنه كلما زادت معرفتنا بالموجودات زاد قضاؤنا فيها وبالتالي زادت حريتنا.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا، هو كيف نفسر قوله تعالى {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة 51)، أقول علينا إيضاح معنى "كتب"، فالكتاب في اللسان العربي تعني جمع أشياء بعضها مع بعض لإخراج معنى مفيد، أو لإخراج موضوع متكامل، فنقول "مكتب محاماة" أي مكان يجمع فيه المحامون حيثيات القضايا والقوانين، ونقول "كتيبة دبابات" أي تجميع لجنود مع دباباتهم، وحين نقول "كتاب الفيزياء" نفهم أنه تم جمع مواضيع الفيزياء في هذه الصفحات، ونقول مثلاً "كتاب الرياح" أي مجموعة العناصر التي إذا اجتمعت مع بعضها تشكل الرياح، وكل ما في الطبيعة عبارة عن شروط مجتمعة مع بعضها البعض {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً} (النبأ 29)،
فلا يمكن لإنسان أن يصيبه شيء إلا من خلال هذه الكتب، فإذا مرض فلن يمرض إلا بمرض موجود في الطبيعة ضمن ظروفه التي يعيشها، وكل المصائب التي تحصل في الأرض من زلازل وفيضانات وهلاك دول وأنفس لا تكون إلا في كتاب، أي من خلال الشروط الموضوعية الموجودة فعلاً {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} (الحديد 22)، كذلك مثلاً الشفاء والانتصار والتطور، فليتحقق الشفاء من مرض ما يجب اجتماع العناصر المؤدية لذلك من علاج ودواء وتداخلات أخرى، ومن هنا نفهم قوله تعالى {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} (آل عمران 145) فالموت كتاب لا بد من حدوثه (قدر)، وهو مؤجل حتى تجتمع العناصر المؤدية له، أما الأعمار فتطول وتقصر(قضاء)، فعندما اجتمعت العناصر المشكلة للقاحات الأمراض تقلصت وفيات الأطفال وتأجل موتهم، وعندما اجتمعت عناصر قتل السوريين تحقق موتهم وقصرت أعمارهم، فالموت قدر والقتل قضاء، ومن قصّ ر أعمارهم يجب محاسبته.
كذلك الأرزاق فالله تعالى سخر لنا خيرات الطبيعة ووعدنا بعطائها {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} (الذاريات 22) لكنه ربط الرزق بالعمل {لِيَأْكُلُوا مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} (يس 35) وربطه بالتقوى {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً* وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} (الطلاق 2-3)، فمن يعمل بوصايا رب العالمين يسهل له في رزقه من خلال الظروف الموضوعية التي يعيشها.
وكلما زاد جهل الإنسان بالمقدرات زاد شعوره بالجبرية، فالإنسان يطلب الأشياء حسب معرفته بها، ومن لا يعرف شيء لا يطلب شيء، وينطبق عليه قوله تعالى {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ} (الأنفال 22)، وكلما ازداد جهل الإنسان بقوانين الطبيعة والاجتماع والاقتصاد، ازداد تفسيره للأحداث باعتبارها صدفة وحظ، وكلما عجز عن تفسير أمر ما، أرجعه للقضاء والقدر والمكتوب، في حين أن الإنسان ولد حراً مخيراً منذ آدم وإلى يومنا هذا، لكن كي يمارس حريته يجب أن يتوفر له معرفة وخيار بين ضدين، فالله يقضي وهو كامل المعرفة، والإنسان يقضي وهو ناقص المعرفة، وكلما ازدادت معرفته صارت خياراته أوسع، وازدادت حريته، وما يقيد هذه الحرية يفترض هو المرجعية الأخلاقية أو المعرفية وبالتالي القانون.
فالقضاء هو إرادة واعية قوامها المعرفة، بين نفي وإثبات في موجود هو القدر، فالمرض قدر لكن إذا زادت معرفتنا في مرض معين نستطيع أن نقرر علاجه أو عدم علاجه، والزلازل قدر لكن إذا زادت معرفتنا في حيثياتها استطعنا مكافحة آثارها، أي إذا تعرفنا على القدر أمكننا القضاء فيه، والقضاء بلا قدر هو أحلام يقظة (لا موضوعية)، أما القدر بلا قضاء فهو حالة بهيمية، يعيش الناس فيها كالقطيع، هناك من يقضي عنهم في أمورهم، وهذا يفسر تكريس النظم الاستبدادية جهودها لحجب المعرفة عن شعوبها، فالاتحاد السوفيتي انهار عندما خرقت المعلومات ستارته الحديدية.
يبقى أن نذكر أن الله تعالى يقول {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} (الرعد 11)، أي تدخله في القضاء هو تدخل ظرفي، مرهون بأمور لا ندركها كلها، أحدها الدعاء، أما تعيين الحكام وتبديلهم فقد أوكل هذه المهمة للإنسان، منذ أن حدد له المرجعية الأخلاقية التي تتجسد من خلالها حاكمية الله، ووضع له أساساً واضحاً هو {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا} (البقرة 256).
ولكي نخرج من الحالة البهيمية التي نعيشها، علينا اكتساب المعرفة للتحكم بأقدارنا، فهذه مسؤولية حملناها بنفخة الروح، يجب أن نكون جديرين بها، لتحقيق الخلافة الحقيقية على الأرض، وليس دولة الخلافة.
https://newsyrian.net/…/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D8%A…
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire