قتلوا من المسلمين مئات الملايين
تأليف
الأستاذ محمود عبد الرؤوف القاسم
كم قتلت الماركسية من المسلمين؟
[align=justify]بدهياً، لا يوجد، ولا يمكن أن يوجد سجل رسمي
جامع لعدد الذين قتلتهم الماركسية سواءً كانوا من المسلمين أو من غير
المسلمين.
لكن، بالعودة إلى الإحصاءات الرسمية أو شبه الرسمية التي كانت تصدر من زمن
إلى آخر نستطيع أن نأخذ فكرة تقريبية لهذا العدد. و يهمنا هنا القتلى من
المسلمين فقط. وهذا لا يعني أن القتلى من الآخرين لا نهتم بهم، فالإسلام
يحارب الظلم والاعتداء أينما كان، ويأمر بالعدل والإحسان في كل زمان ومكان.
لكن هنا، في بحثنا هذا، نتحدث عن قتلى المسلمين ومشرديهم ومسجونيهم تحت
التعذيب بلا نهاية.
نشرت جريدة ((سوسيال ـ ديمقراط)) لسان الحال المركزي لحزب العمال الاشتراكي
الديمقراطي الروسي. والتي كانت تصدر من سنة (1908) حتى أول سنة (1917).
وكان "لينين" في الواقع هو مديرها والمشرف على تحريرها مع هيئة التحرير
المؤلفة من ممثلي البلاشفة والمناشفة والاشتراكيين الديمقراطيين
البولونيين. نشرت في تشرين الأول سنة (1916) مقالة (من سلسلة مقالات) لهيئة
التحرير، نأخذ منه المقطع التالي، يقول: ((ففي روسيا، حيث لا يقل (57)
بالمئة من السكان، أي أكثر من (100) مليون نسمة ينتسبون إلى القوميات
المضطهدة المظلومة. وحيث تقطن هذه القوميات في أطراف البلاد بخاصة))( )
اهـ.
ويؤكد لينين هذا الرقم في مقالة أخرى له نُشرت في "البرافدا"، العدد (234)
في 18/تشرين الأول سنة 1921، يقول: ((إن الثورة البلشفية الأولى قد انتزعت
من الحرب الامبريالية، من العالم الامبريالي، المئة مليون الأولى من الناس
في الأرض. وستنتزع الثوراتُ المقبلةُ الإنسانية بأسرها من هذه الحروب ومن
هذا العالم))( ) اهـ.
كتب لينين هذا بعد أربع سنوات من سيطرته على الإمبراطورية الروسية التي صار
اسمها الاتحاد السوفيتي، فهو بذلك تقرير شبه رسمي، يقرر فيه أن الثورة
البلشفية التي حدثت سنة (1917) أنقذت مئة مليون من الناس الذين سموهم في
المقالة السابقة ((القوميات المضطهدة المظلومة)).
ويعلم كل من له اطلاع أن القوميات المضطهَدة (بفتح الهاء) في الإمبراطورية
الروسية السابقة كانت من المسلمين وقليل من اليهود (أقل من ثلاثة ملايين)
وحوالي مئة ألف من البوذيين، وأقل من ذلك من غيرهم. أما المسيحيون، فلم
يكونوا من القوميات المضطهَدة (بفتح الهاء) بل بالعكس، كانوا من القوميات
المضطهِدة (بكسر الهاء)، إلاّ النادر.
وإذا كان هذا الرقم (100) مليون يشكل (57%) بالمئة من السكان، فيكون تعداد
سكان الإمبراطورية الروسية في عام (1917) هو (175) مليون ويكون عدد
المسيحيين فيها هو (75) مليوناً من روس وغيرهم.
فإذا كان عدد اليهود والبوذيين وغيرهم يمكن أن يصل على (3.5) مليون
ولنجعلهم خمسة ملايين، إكراماً لخواطر ذوي الأهواء الماركسية، فيبقى عدد
الباقين من المضطهَدين (بفتح الهاء) 95 مليوناً. وإكراماً لخاطر الماركسيين
نفترض أيضاً أن (20) مليوناً من المضطهَدين (بفتح الهاء) هم من المسيحيين،
وهو رقم أكبر من الواقع بكثير. أورد دليلاً على ذلك نصاً من كتاب ((أصول
الفلسفة الماركسية)) لمؤلفيه: جورج بوليتزر ورفيقه، يقولون: ((كانت روسيا
القيصرية تضطهد عدة شعوب في آسيا (أهالي جورجيا، الأرمن)، وكانت تأبى عليهم
حقهم في إنشاء دولة مستقلة. كان الماركسيون الروس والجورجيون والأرمن
ينادون بالحق في الانفصال ضد النزعة القيصرية. ثم وقعت ثورة تشرين الأول
(1917). فماذا حدث؟
لقد حرر قيام الاشتراكية الجورجيين والأرمن من نير الاستعمار. ومع ذلك لم
ينفصلوا عن الأمة الروسية، بل تكونت دولة متعددة الأمم على أساس المساواة
بين جميع الأمم التي تكوّن هذه الدولة( ) اهـ.
وحسب القاموس السياسي، عدد سكان جورجيا في الستينات (4.5) مليون نسمة، وعدد
سكان أرمينيا (2.007) مليون نسمة، فيكون المجموع (6.5) مليون نسمة تزيد
قليلاً، وهو عدد المضطهَدين (بفتح الهاء) من المسيحيين قبل 1917.
لكن بما أنني افترضت قبل أسطر أن عدد المضطهَدين (بفتح الهاء) من المسيحيين
هو (20) مليوناً، لذلك أبقى عند هذا الافتراض، فيكون مجموع المضطهدين من
غير المسلمين هو (25) مليون نسمة، أضيف عليهم خمسة ملايين أخرى إرضاءً لبعض
القراء. فيكون المجموع (30) مليوناً من غير المسلمين. ويبقى هناك (70)
مليون نسمة عدد المسلمين في الإمبرطورية الروسية قبل الثورة البلشفية. وهو
رقم أقل من الحقيقة بكثير.
لكن هناك تقدير آخر:
يقول محمد الغزالي، رحمه الله تعالى، في كتابه: ((الإسلام في وجه الزحف
الأحمر))، نقلاً عن مصادره: إن المسلمين كانوا ثلث السكان( ) قبل الثورة
البلشفية.
وفي كتاب ((عشرة أيام هزّت العالم)) الذي قدمت له "نادزا كروبسكايا" زوجة
لينين، المقدمة الأولى، وقدّم له "لينين" المقدمة الثانية، جاء فيه في
الصفحة (16) أن عدد سكان روسيا (مع مستعمراتها طبعاً) هو (160) مليون نسمة.
وبذلك يكون عدد المسلمين (53) مليوناً.
العادة، أن الذي يكتب مقدمة لكتاب يكون موافقاً على أفكار الكتاب، أما
الأمور الثانوية، مثل عدد السكان في هذا الكتاب ((عشرة أيام ..))، فقد يمر
عليه مر الكرام، وقد لا ينتبه له.
لذلك فإن هذا النص من كتاب ((عشرة أيام ..)) لا يرقى بقوته الدلالية على
النصين السابقين، النص الذي نزل باسم هيئة تحرير "سوسيال ـ ديموقراط" 1916،
والنص الذي كتبه لينين في "البرافدا" بعد خمس سنين. والباحث عن الحق، أو
عن الأرجح، يأخذ بالقول الأرجح الذي هو قول لينين وحاشيته.
أما أنا، فآخذ بالقول الذي يبعدني عن الاتهام باني أنصر هوىً في نفسي أو
أبالغ، آخذ بـ (53) مليون فقط. أي أن المسلمين في الإمبرطورية الروسية
التساريَّة( )، كان عددهم قبل الثورة الشيوعية (53) مليوناً.
وهنا نلاحظ ملاحظة هامة يجب التنبيه إليها، وهي أن المجازر الستالينية التي
بدأت سنة (1936) وانتهت سنة (1939)، والتي حصدت أكثر من نصف ضباط الجيش مع
ملايين من المسيحيين وعشرات الملايين من المسلمين. كانت قد أثارت صخباً
كبيراً في الصحافة الأوروبية والأميركية اللاماركسية.
وكانت أخبارها تتسرب بواسطة الهاربين الذين يُقَدّر لهم أن يصلوا سالمين
إلى البلاد اللاماركسية، وكانت الحرب العالمية الثانية قد بدأت نُذرها تقرع
الأبواب، وكان احتمال أن يُجرف إليها السوفيات وارداً. فأرادت الحكومة
السوفياتية أن تبطل مفعول هذه الدعاية، أو تقلل من شأنها، فنشرت فيما نشرت،
بيانات على أنها إحصاءات للسكان أُجريت في العهد التساري سنة (1898)، تقول
هذه البيانات (الكاذبة طبعاً) إن عدد المسلمين سنة (1898) هو (18)
مليوناً( ). (هنا موضوع البحث هم المسلمون فقط).
ويعرف من له أدنى معرفة بالعلوم العسكرية وفلسفة حروب العصور الأخيرة أن
مثل هذا التوجه في مثل تلك الظروف، يجب أن يحدث، حتى في البلاد التي ترفض،
ولو ظاهرياً، أن يكون الكذب أساساً في منهجها، فكيف في الاتحاد السوفياتي
الذي يقوم منهجه على ((اكذب ثم اكذب ثم اكذب وسوف تصدق الكذبة)) مع بقية
قوانين الدعاية، وذلك لإزالة النقمة على الدولة في الخارج والداخل، أو
تخفيفها، لأن هذه البيانات الكاذبة تقول إن المسلمين قليلون أصلاً، ورغم
ذلك، وبناء على هذه البيانات الكاذبة، يبقى عدد المسلمين الذين قتلوا في
الثلاثينات أكثر من (40) مليون. نعود إلى التقدير الذي أخذنا به، وهو أن
عدد المسلمين في الإمبراطورية الروسية قبل الانقلاب الشيوعي كان (53)
مليوناً.
في حزيران سنة (1921)، زار الأمير شكيب أرسلان موسكو، وكان بينه وبين لينين
معرفة سابقة، وجاء بإحصاء شبه رسمي عن عدد المسلمين هناك موزعين بحسب
مناطقهم، فكان المجموع (33) مليوناً، لكنه سأل من كانوا أعضاء في مجلس
الدوما (مجلس النواب) الروسي فقالوا إن عدد المسلمين في روسيا نحو (35)
مليون نسمة.
وهذا يعني أن عدد المسلمين الذين فُقدوا في ثلاث سنوات ونصف هو (18) مليون
مسلم!! فأين ذهبوا؟؟ (أما الحقيقة فقد كان عدد القتلى من المسلمين فقط أكثر
من هذا الرقم بكثير). وفي سنة (1939)، أصدر الكرملين، فيما أصدر، إحصاءات
للسكان جاء فيها أن عدد المسلمين هو (20) مليوناً! فأين ذهب الباقون؟؟.
قد يظن القارئ قبل التروّي، أن المفقودين هم (15) مليوناً، لكن هذا غلط،
لأن واقع الحال في كل الأرض يقول إن المسلمين في القرن العشرين الميلادي.
يتضاعف عددهم كل عشرين سنة( )، وهذا يعني أنه إن كان عدد مسلمي الاتحاد
السوفياتي (35) مليوناً في سنة (1921)، فيجب أن يكون عددهم بعد عشرين سنة.
أي في سنة (1941) هو (70) مليوناً، أو حول ذلك.
أما قبل ذلك بسنتين، أي في سنة (1939)، فهو، طبعاً، أقل من ذلك بملايين،
ولنضع رقماً هو أقل مما يقوله حساب الاحتمالات، وليكن (60) مليوناً فقط
(لئلا نتهم بالمبالغة). فيكون عدد المفقودين هو (40) مليوناً من المسلمين!!
فأين ذهبوا؟؟
وفي سنة (1953) نشرت مجلة "الدراسـات الإسلاميــة" مقالاً بعنوان: (أبحاث
حول الإسلام "Essai Sur I'Islam" في الاتحاد السوفياتي) لكاتبه فانسان
منتوي (Vincent Monteuil)، يقول إن عدد المسلمين في الاتحاد السوفياتي يقدر
على الأقل بـ (21) مليوناً موزعين جغرافياً كالآتي:
- آسيا الوسطى: (11) مليوناً.
- القفقاس: (4.5) ملايين.
- حوض الفولغا: (4.5) ملايين.
وما تبقى منهم موزعون في أنحاء مختلفة من البلاد، من "فلنو" إلى
"أرخانغلسك" ومن "القرم" إلى "سيبيريا". وأربعة أخماس هذا العدد، أي (17)
مليوناً هم من أصل تركي والآخرون إما من أصل فارسي أو فنلندي أو من
القفقاسيين.
إن بين سنة (1939) الذي صدر فيها الإحصاء الأخير، وبين سنة (1953) يوجد 14
سنة. وحسب ظاهرة تكاثر المسلمين في القرن العشرين وما يعطيه حساب
الاحتمالات، يجب أن يزيد عدد المسلمين في 14 سنة أكثر من النصف. لكننا هنا
نقبل النصف، ابتعاداً عن الاتهام، بناءً على ذلك، ونتوقع أن يكون عددهم سنة
(1953) ثلاثين مليوناً.
لكن تقدير الكاتب "فانسان مونتُويْ" يقول إن عددهم أكثر من (21) مليوناً،
فليكن (22) مليوناً، وبذلك يكون النقص ثمانية ملايين فقط!! فأين ذهبوا!؟؟.
الواقع أن القتلى لم يكونوا ثمانية ملايين بل أقل من ذلك بكثير، لأن عملية
الإبادة حدثت في سنة (1944) وما بعدها عندما بدأت تظهر بوادر هزيمة
ألمانيا.
مع بدء ظهور هذه البوادر، بدأت في الاتحاد السوفياتي العودة على عمليات
التطهير والإبادة التي كانت قد توقفت في أوائل عام (1939) عندما بدأت نُذُر
الحرب تطل براسها.
وعندما بدأت بشائر النصر تطل برأسها، عاد البلشفيك إلى إتمام مخططهم بإبادة
العناصر الذين أطلقوا عليهم اسم ((أعداء الماركسية، أو أعداء الشعب، أو ما
شابه ذلك)). وكانوا يذيعون أن الجيش الألماني هو الذي يقوم بهذه الإبادة،
فصادوا بذلك عصفورين بحجر واحد، تخلصوا من الذين يسمونهم "أعداء الشعب"
وحقنوا المسلمين (وغيرهم) بالحقد على الجيش الألماني، فتطوع كثير منهم
لمقاومته بأساليب حرب الأنصار وبالانضمام إلى الجيش السوفياتي.
وفي سنة (1945) عندما احتل الجيش السوفياتي أوروبا الشرقية، بتواطؤ مع
تشرشل رئيس وزراء بريطانيا وترومان رئيس الولايات المتحدة، اللذين كانا
يحملان عواطف صهيونية وخَلَّفا بذلك لخلفائهما وحكومتيهم ونظاميهم عبئاً
ثقيلاً بمكافحة الماركسية والمد الماركسي والجاسوسية الماركسية والدعاية
الماركسية. في تلك السنة بعد أن أتمت الجيوش السوفياتية احتلالها لأوروبا
الشرقية، جندت ألوية من مخابراتها وجيوشها لإبادة المسلمين خاصة، في أوروبا
الشرقية، لأنهم كانوا مظنة العداء للماركسية أكثر من غيرهم. وطبعاً أبيد
معهم غيرهم ممن كان يظن بهم العداء للشيوعية.
لكن، في بحثنا هذا، لا شأن لنا بغير المسلمين (طبعاً هذا لا يعني أننا
باعتبارنا مسلمين نقبل أن يُظلم الآخرون أو يعتدى عليهم). كانت الإحصاءات
الرسمية قبل الحرب الثانية تجعل مجموع عدد المسلمين في دول أوروبا الشرقية،
ثلاثين مليوناً، وذلك عدا روسيا وأوكرانيا ودول البلطيق.
وبعد البيريسترويكا، عندما تحررت تلك البلاد الشيوعية (ظاهراً) وصدرت
إحصاءات رسمية. كان مجموع عدد المسلمين فيها هو عشرة ملايين. حسب ظاهرة
تكاثر المسلمين في هذا القرن العشرين، فإن مسلمي أوروبا الشرقية الذين كان
عددهم حتى الحرب الثانية (30) مليوناً، يجب أن يصبح عددهم بعد أربعين سنة،
أي في النصف الثاني من الثمانينات، مئة مليون على الأقل.
لكن نرى أن عددهم حوالي عشرة ملايين. وهذا يعني أن الذين أبيدوا سنة (1945)
كانوا يزيدون على (27) مليون، وأن الباقين من المسلمين كانوا أقل من ثلاثة
ملايين. وهؤلاء الثلاثة ملايين هم الذين تكاثروا طيلة (40) سنة فصار عددهم
عشرة ملايين.
أي إن الذين قتلتهم الماركسية من مسلمي أوروبا الشرقية في بضعة أشهر كان حوالي سبعة وعشرين مليوناً من رجال ونساء وأطفال.
إنها أرقام فلكية، قد لا يصدقها القارئ الغافل، لكنها أقل الواقع بكثير.
وما على الذي لا يصدق إلا أن يتأكد من هذه الحقائق بالرجوع إلى الوثائق
الموجودة في أماكنها المنسية لأنها أهملت، لكن بشيء من إرادة البحث يمكن
العثور عليها بسهولة.
إذا أخذنا بهذه الأرقام الفلكية، والتي هي رغم ذلك أقل من الحقيقة، يكون
عدد المسلمين الذين قتلهم البلشفيك بين سنة (1917) حتى سنة (1945)، في
الاتحاد السوفياتي وفي أوروبا الشرقية أكثر من (90) مليون نسمة. أما إذا
أردنا الاقتراب من الحقيقة، فعددهم يزيد عن مئة وعشرة ملايين.
وقد ذكر لي العقيد المتقاعد محمد حسن عبيدات الذي كان قائداً للقوة
الأردنية التي ذهبت إلى البوسنة والهرسك ضمن قوة الأمم المتحدة، اسم مدينة
"بان يالوكا" وكان قد مر بها مع مسؤولين من البوسنة، فقالوا له إنها كانت
مدينة إسلامية بكل سكانها الذين كانوا يزيدون على مئة ألف، وقد أبيدوا كلهم
من قبل الجيوش السوفياتية عندما احتلت البلاد في أواخر الحرب العالمية
الثانية، وأحلوا محل المسلمين سكاناً صربيين، فصادوا عصفورين بحجر واحد:
تخلصوا من المسلمين، وكسبوا عطف الصربيين على الماركسية.
ومات ستالين في آذار سنة 1953، وتوقفت المجازر الجماعية الكبرى، لكن بقيت
المجازر المتناثرة هنا وهُنا وهناك وهناك، وهنالك أيضاً، وأعيد للشيوعيين
اللاصهيونيين اعتبارهم بعد أن تنازلوا عن فلسفتهم التي كانت تقول: ((لا
إسرائيل في فلسطين إلا بعد أن تسود الشيوعية العالم))؛ تنازلوا عنها لأن
إسرائيل قامت في فلسطين وأنهى قيامها الحيثية الأساسية لتلك الفلسفة، وصار
دَور الماركسية الآن هو العمل على الوصول إلى إسرائيل الكبرى أولاً، ثم
الحفاظ على إسرائيل الحالية إذا لزم الأمر. وذلك لأن الدول الغربية متكفلة
بالحفاظ عليها بشكلها الحالي فقط، أما فكرة إسرائيل الكبرى، فهي مرفوضة عند
الدول الغربية؟ وهذا شيء بحاجة إلى الشرح الذي سيأتي في صفحات مقبلة.
ولبيان صورة، ولو باهتة، عن المجازر المتناثرة بعد ستالين، نعود إلى
الإحصاءات:
إحدى الدراسات التي نُشرت في "النهار العربي والدولي" الصادرة في باريس
بتاريخ 12/آب/1979 تجعل عدد المسلمين في الاتحاد السوفياتي (40) مليوناً
وهو أكبر رقم قُدّر من بين كل الدراسات، ووزَّعت الدراسة هذا الرقم على
المناطق التي يتواجد فيها المسلمون هناك، مع تبيان عددهم في كل منطقة.
وفي عام 1953 كان تقدير عدد المسلمين (شبه الرسمي) أكثر من (21) مليون
نسمة، فلم أعتمد هذا الرقم (21) مليون، وإنما أخذت بما هو أكثر، بالرقم
(22) مليون، لأن هذه الطريقة هي ضد ما يمكن أن أُتهم به من هوى نفسي.
أما هنا فإني، التزاماً بنفس الطريقة آخذ بالرقم (21) مليون، وذلك ليكون
النقص في عدد المسلمين الذي نأخذ به هو أقل ما يمكن أن يستخلص من المعطيات.
فإذا كان عدد المسلمين في الاتحاد السوفياتي سنة 1953 هو (21) مليوناً،
فحسب ظاهرة تكاثرهم في القرن العشرين يجب أن يكون عددهم بعد (26) سنة، أي
سنة 1979 أكثر من (46) مليوناً لكنا نراه حول (40) مليوناً. أي إن النقص هو
(6) ملايين على أقل تقدير.
لكن عدد القتلى يجب أن يكون أقل من ذلك، وذلك لأنه كان يحصل سنوياً بشكل
إعدامات لعشرات الألوف أو مئاتها موزعة بين السجون والمعتقلات ومراكز
المخابرات المتناثرة في كل مكان في بقاع الاتحاد السوفياتي. لذلك يمكن
التقرير، باطمئنان، أن عدد الاعدامات سنوياً كان يزيد على مئة الف من
المسلمين، وهو كما يرى القارئ، رقم تافه لا قيمة له أمام مئات الملايين.
أظن أن القارئ رأى في هذه الدراسات الإحصائية أنها مبنية على إحصاءات مأخوذ
أكثرها من إحصاءات الأنظمة الماركسية، ومن قياداتها بالذات. فهي صحيحة،
وهي أقل من الواقع.
وهناك إحصاءات مختلفة أخرى قدمها باحثون مختلفون، ولا أعرف على ماذا بنوا
إحصائياتهم. منها: يورد الأستاذ طارق حجي( ) في كتابه ((تجربتي مع
الماركسية)) ما يلي:
"وقد صدق تماماً الكاتب الإنجليزي "كاريوهنت" في قوله بأن الماركسي لا يشعر
بشيء من الندم لتخلصه من أحد خصومه، شأنه في ذلك شأن العامل الذي يلقي
بمسمار معيب على كوم من الخردة أثناء تركيبه لأجزاء آلة من الآلات (في هذا
المثال صورة واضحة لخطورة ما نسميه بالمفهوم الأخلاقي الماركسي الميكافيللي
الجديد).
وقد قدمت لنا التجار المعاصرة والأيام المتوالية على تلك التجارب أعظم
وأجلى الأدلة على فداحة الأخطار الجسيمة لهذا المفهوم الأخلاقي، وعلى
التجاوزات غير الإنسانية لاستشرائه وغلبته على تصرفات وأفعال الماركسيين
سواء كأفراد أو كجماعات وتنظيمات:
فبالاستناد لهذا المفهوم ((التبريري ـ الميكافيللي)) فإن ضحايا لينين من
بين معارضيه ما بين سنة 1917 وسنة 1923 (فقط) قد بلغوا مليون وثمانمائة
وواحد وستين ألفاً وخمسمئة وثمانية وستين قتيلاً.
- ضحايا النظام السوفياتي:
وكما ذكر البروفيسور "كونوف" في دراسته عن ضحايا النظام السوفياتي فإن عدد
هؤلاء ما بين سنتي 1917، 1959 قد بلغ زهاء ستة وستين مليون مواطن.
واستناداً لنفس المفهوم فإن دراسة الصحفي البريطاني (فاندر إليست) التي نشر
موجزها في عدد 19/3/1979 من جريدة "الديلي تلغراف" البريطانية، تحصي ضحايا
النظم الماركسية منذ سنة 1917 وحتى 1979 بمئة وثلاثة وأربعين مليون قتيل،
منهم (66.7) مليون قتيل بالاتحاد السوفياتي حتى سنة 1959، وثلاثة ملايين
بالاتحاد السوفياتي ما بين 1959، 1979، و (63.8) مليون قتيل في الصين
الشعبية، وثلاثة ملايين قتيل ألماني على يد الجيش الأحمر (بعد انتهاء الحرب
العالمية الثانية تماماً) ومليونان في كمبوديا خلال أقل من ثلاث سنوات فقط
(1975 ـ 1078) على يد نظام الخمير الحمر، وثلاثة ملايين في مناطق أخرى من
العالم.
واستناداً لنفس المفهوم ـ الموروث ـ قامت النظم الاشتراكية التابعة ـ بشكل
أو بآخر ـ للاتحاد السوفياتي في مصر الناصرية، وسورية، والعراق القاسمية في
(سنيّها الأولى) والبعثية منذ 1968، والجزائر الهوارية (والزروالية
حالياً) وليبيا القذافية، وشيلي الليندي، ويمن عبد الفتاح اسماعيل ..
وغيرها من البلدان المشابهة، بقتل وتعذيب ملايين المعارضين( ) اهـ.
أقول: الرقم الذي يورده في عدد قتلى لينين أنهم مليون وثمانمائة ألف، يظهر
أن هذا هو عدد الذين قُتلوا شنقاً أو تحت التعذيب، وذلك لأن عدد قتلتهم
الجيوش الحمر أثناء اجتياحها لبلادهم في القرم والشيشان والأنغوش وقفقاسيا
فقط أكثر مــن ضعف هــذا العدد، والأرقـام الكبيرة هي بقية البلاد
الإسلامية وغير الإسلامية.
- ما جرى على المسلمين في الصين:
ولنأت الآن إلى الصين، وما جرى على المسلمين في الصين.
وأكرر هنا أنني عندما لا أذكر في بحثي هذا ما جرى على غير المسلمين، فهذا
لا يعني عدم التألم لما حل بهم، أو عدم الاهتمام بقضاياهم ـ دون استطاعة
عمل أي شيء طبعاً ـ فالإسلام يأمر بالمعروف والعدل والإحسان لكل الناس
ويأبى لهم الظلم ويرفض الاعتداء:{إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء
وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
[النحل:90].{وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ
وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ} [البقرة:190].
لكن هذا المبحث متخصص لما جرى على المسلمين من فتنة في الدين وإبادة ودمار
وتشريد على أيدي الماركسيين بجميع أسمائهم، بالإضافة إلى الاعتقال تحت
التعذيب.
نعود إلى المسلمين في الصين:
يقول بدر الدين حى الصيني (مسلم تخرج بالأزهر):
((.. وأما الآن (قبل سنة 1950م) فيبلغ المسلمون (في الصين) على أصوب تقدير
أربعين مليوناً أو يزيد، وإن كان هنا قائلون بأكثر من خمسين مليوناً( )
..اهـ.
وأوردت مجلة "الأمة" الأردنية في عددها الأول ـ حزيران 1997م صفر 1418هـ ما يلي:
"إن اضطهاد المسلمين في الصين لا يقتصر على إقليم كردستان الشرقية ـ (أقول:
هر تركستان الشرقية وليس كردستان) ـ تحت ذريعة نمو الشعور الديني
والمطالبة بالاستقلال، بل يشمل جميع المسلمين في الصين، فعلى سبيل المثال
وعندما استولى الشيوعيون على الحكم في الصين كان عدد المسلمين سنة 1950م
(48) مليون نسمة، وكان مجموع عدد سكان الصين (480) مليوناً أي أن نسبة
المسلمين كانت (10) في المئة، والآن، واستناداً إلى دائرة المعارف
البريطانية فإن نسبة المسلمين في الصين لا تتجاوز (2.4) بالمئة، وهنا يطرح
سؤال نفسه: كيف يزداد عدد الآخرين ويقل عدد المسلمين؟" اهـ.
أضيف، أنني في سنة 1987م أو قبلها بقليل أو بعدها بقليل (لا أذكر بالضبط)
رأيت في مكتبة مؤسسة آل البيت في عمان (الأردن) كتابين عن الصين مطبوعين
سنة 1946م (أذكر هذا جيداً لأنني رددته كثيراً في المناسبات منذ ذلك الوقت)
لمؤلفين لا أذكر اسميهما، يذكران أن عدد المسلمين في الصين هو (48) مليون
نسمة (أذكر هذا جيداً لأنني كنت أردده في المناسبات في ذلك الوقت). وفي صيف
عام 1997م بحثت في نفس المكتبة عن الكتابين فلم أجدهما. (أذكر هذه الواقعة
للاستئناس فقط).
ولئلا يقال إن البحث موجّه بهوى في النفس، نأخذ بالرقم الصغير الذي يقلل
عدد القتلى، نأخذ بـ (40) مليوناً. (العادة في مثل هذه الحالة هو أخذ الرقم
الوسط لكن هنا نأخذ بما يقلل من عدد القتلى). وبعد المسيرة الكبرى التي
دامت حوالي (17) سنة والممولة من يهود أميركا وأوروبا بالمال، ومن الاتحاد
السوفياتي بالسلاح. توصل الشيوعيون بقيادة "ماوتسي تونغ" إلى الهيمنة على
الحكم في الصين وجعلوا عاصمتهم بكين، وذلك سنة 1949. ويقسمون مسيرة
الشيوعية منذ أن سيطروا على الصين إلى أربع مراحل:
1- من 1949 ـ 1958 والتي هي مرحلة الإعداد لتأسيس الدولة في بلاد تعدادها
(500) مليون نسمة، وطبعاً، الإعداد الشيوعي للدولة يقوم أولاً وقبل كل شيء
على "تهيئة المخابرات الشيوعية، وإحكام سيطرة الشيوعيين على الجيش، وربط
المجتمعات بتنظيمات أو مؤسسات يسيطر عليها الشيوعيون، وإحكام إعداد أجهزة
الدعاية في الساحتين المكشوفة والمستورة".
2- من 1958 ـ 1966، مرحلة التطبيق الفعلي للنظام الشيوعي حسب المخطط
والمراحل التي وضعت في المرحة السابقة. وقد سمّوا هذه المرحلة "القفزة
الكبرى".
3- من1966 ـ 1976 مرحلة الثورة الثقافية. وماوتسي تونغ هو الذي رسم خطوطها
الكبرى منبثقاً من إيمانه بنظرية لينين التي تقول إن الدولة تغيّر المجتمع
كما تريد وتجعله يتبنى العقيدة التي تريدها (لننتبه أن حزب التحرير يقول
القول نفسه ويجعله عقيدة يجب أن يعتقدها الناس مخالفاً بذلك نصوص القرآن
الكريم).
مضى على فرض الشيوعية على الصين منذ سنة 1949 سبع عشرة سنة ولم تتغير
الشعوب الصينية إلى ما يريده الشيوعيون، بل بالعكس، صاروا ينفرون من شرورها
وآثامها ودجلياتها، ففي هذه الحالة كان على ماوتسي تونغ، الذي يؤمن بلينين
مثلاً أعلى له، أن يطبق نظرياته التي منها نظرية اتباع "الطريق الروسي
للانتقال إلى الاشتراكية" وكان يعرف ما فعله لينين ومن بعده ستالين من
مجازر، وخاصة مجازر 1936 ـ 1939، فسار ماو عليها بدءاً من 1966 أي بعد
ثلاثين سنة بالضبط من بدء مجازر ستالين الكبرى، ويقدرون عدد قتلى الثورة
الثقافية بأكثر من (150) مليون نسمة. وقد يبلغون مئتي مليون حوالي نصفهم من
المسلمين.
4- من 1978 وما بعدها مرحلة ما بعد الثورة الثقافية (أما السنتان بين سنة
(1976) التي مات فيها ماوتسي تونغ وسنة (1978) التي بدأت فيها مرحلة ما بعد
الثورة الثقافية فقد كانتا سنتي صراع على السلطة)، وفي هذه المرحلة،
يحاولون إصلاح ما يمكن إصلاحه مما أفسدته الثورة الثقافية، ذلك الإفساد
الذي يصعب تصوره، والذي أظهر كيف تنحط الماركسية بمعتنقيها إلى الدركات
الهابطة من الشرور والحقد والجهل والدجل الذي لا حدود له وروح الاعتداء
الكارثي، كل هذا مغلف بغرور وادعاءات وشعارات براقة كلها زائفة لكن أصحابها
يقتنعون بها لكثرة ما يسمعونا وما يرددونها على أسماع الناس، وهذا مظهر من
مظاهر قاعدة "عاملا الإقتناع هما الغزارة والزمن".
وهم في الصين، بعد الثورة الثقافية، لا يستخدم إعلامها عبارة الثورة
الثقافية، لأن هذه التسمية مرتبطة في أذهان الناس بماوتسي تونغ، الذي
أفرزته الشيوعية الصينية ليكون وثناً إلاهاً يعبده الصينيون، وهذا الاسم
"الثورة الثقافية" صار رمزاً لكل الشرور في أذهان الصينيين، حتى في أذهان
كثير من الشيوعيين منهم، وليخرجوا الوثن الإله من هذه الوصمة، صاروا
يستعملون عبارة "عهد العصابة الأربعة" التي تحصر الشرور بالأربعة الذين ليس
منهم ماو، ولكن زوجته (أو أرملته منهم).
لقد بدأ التنكيل بالمسلمين منذ المرحلة الثانية، منذ بدء التطبيق الشيوعي
سنة 1958 التي بدأت بدفع علماء المسلمين ليكونوا عمالاً في المزارع
والمصانع فجأة ودون أي مقدمات ثم أعقب ذلك هدم عشرات ألوف المساجد
الإسلامية أو تحويلها إلى زرائب وملاهي وغيرها، ومنع الحج، ثم الاعتقالات
والإعدامات، لكن بأعداد قليلة تافهة، بملايين قليلة فقط، وأشد من ذلك وأكبر
منه فتنة ألوف المسلمين عن دينهم بتمركسهم. حتى بدأت الثورة الثقافية سنة
1966. ولعل جملة قصيرة يمكن أن تغني عن الشرح الطويل قالها الحاج إلياس
شين، نائب رئيس الجمعية الإسلامية التي أسست في مرحلة ما بعد الثورة
الثقافية، أي بعد عام 1978، لمندوب مجلة العربي (عدد ديسمبر 1980)، قال:
"تريد أن تعرف ماذا فعلت بنا عصابة الأربعة؟ .. هذه مسألة يطول شرحها بل
الإلمام بها، لأنهم خربوا كل شيء .. في بلادنا. الملاعين لم يتركوا واحداً
إلا أهانوه .. الحمد لله، فقد ذهبوا وراحت أيامهم السوداء" اهـ.
نحن الآن نتكلم عن القتلى المسلمين الذين أبادتهم الماركسية.
قلنا قبل صفحتين، إننا، هنا نأخذ من بين الأعداد المطروحة، العدد الذي يقلل
عدد القتلى المسلمين، لئلا نتهم بالتجني، وقد أخذنا الرقم (40) مليون (أو
يزيد) الذي يذكره المسلم الصيني المتخرج بالأزهر، بدر الدين حى الصيني، على
أنه أصوب تقدير لعدد المسلمين في الصين قبل سنة 1950. (لأن هذا الكتاب
الذي الفه طبع سنة 1950، وبدهي أنه كتب قبل ذلك وأن معلوماته سابقة).
وفي مجلة "العربي" عدد ديسمبر 1980 نقرأ: ((.. تولى ماو السلطة عام 1949 عندما أصبح على قمة بلد تعداده (500) مليون نسمة ..)) اهـ.
وفي سنة 1962 بعد الدورة العامة العاشرة للجنة الحزب المركزية الثامنة التي
وضع فيها كثير من الأسس التي قامت عليها الثورة الثقافية فيما بعد، وُضع
فيها أيضاً، فيما وضع نداءات من ماوتسي تونغ إلى الشعب، أو شعارات، كانت
تنشر في صحف الجدران، وهي مناشير كبيرة الحجم تكتب بخط كبير وتعلق على
الجدران في الشوارع والساحات العامة في المدن والقرى.
من تلك الشعارات والنداءات، شعار يقول: "لينفذ شعار 700 مليون صيني = 700
مليون ناقد"، وأظن أن كل مطلع الآن يعلم ما معنى النقد في القاموس
الماركسي، إن معناه أن نثني على كل المساوئ والتخريبات التي يقوم بها
الماركسيون ونجعلها منجزات ثورية تقدمية نضالية .. ومكتسبات عمالية إلى آخر
ما يعرفه الكثيرون من هذه العبارات الكاذبة، وأن نصم أعداء الماركسية بكل
ما في قاموس الماركسية من شتائم بذيئة ومفتريات قبيحة لا أساس لها من
الصحة.
لكن هذا كله لا يهمنا هنا، إنما يهمنا فقط الرقم (700)مليون تعداد سكان
الصين سنة 1962، الذي نشر في ملايين صحف الجدران وعُلق على ملايين الجدران
في المدن الصينية وفي القرى.
إن تزايد الصينيين في القرن العشرين الميلادي يأتي بعد تزايد المسلمين، لكن
تبقى بينهما مساحة واسعة، إذ يقدر الباحثون تزايد المسلمين في هذا القرن
بمقدار (40) بالألف في كل سنة بالنسبة للسنة التي قبلها، بينما يقدرون
تزايد الصينيين بحوالي (25) بالألف، ويرجعون هذا النقص في التزايد الصيني
عن المسلمين إلى انتشار المخدرات والفقر الشديد والهجرات المتلاحقة. وفي
العهد الماركسي صار تحديد النسل واسع التطبيق، لكن المسلمين لم يلتزموا به(
). وهنا، أيضاً، لا نطبق على المسلمين الصينيين ظاهرة تكاثر المسلمين في
كل مكان في هذا القرن التي قلنا إنهم يتضاعفون كل عشرين سنة، بل نطبق عليهم
نسبة تزايد الصينيين الذي رأيناه.
كان عدد الصينيين سنة 1950 خمسمئة مليون نسمة( )، وكان عدد المسلمين (40)
مليوناً. وفي سنة 1962 صار عدد الصينيين (700) مليون نسمة، فيجب أن يكون
عدد المسلمين (56) مليون نسمة، وعندما بدأت الثورة الثقافية سنة 1966 يجب
أن يكون عددهم قد وصل إلى (60) مليون نسمة.
أما في سنة 1980، فتذكر "مجلة العربي" (عدد يناير 1981) "شاوشين فان" رئيس
مصلحة شؤون الأديان ببكين قال لمندوب المجلة: ((.. والمسلمون وصل عددهم في
سنة 1980 حسب تقديراتنا، إلى 13 مليون نسمة)). (رئيس مصلحة شؤون الأديان في
بكين هو بدرجة وزير).
أما عدد الصينيين في هذا العام (1980) بشكل عام فقد بلغ 985 مليوناً، حسب
تقديرات النصف الثاني من نفس العام (مجلة العربي، عدد نوفمبر 1980).
وفي إحصاء سكاني أجري عام 1982، كما تذكر مجلة "المختار" من ريدرز دايجست،
في عدد أكتوبر 1986، كان عدد المسلمين يزيد على 14 مليوناً. وهذا يدعم أن
عددهم كان 13 مليوناً في سنة 1980.
إذن فنحن هنا، أمام المعطيات التالية:
في سنة 1950 كان عدد الصينيين عامة 500 مليون، وكان عدد المسلمين 40
مليوناً. وبعد ثلاثين سنة، أي في سنة 1980 تضاعف عدد الصينيين، وقياساً
عليهم يجب أن يتضاعف عدد المسلمين فيصيروا 80 مليوناً. (هذا مع العلم بأن
المسلمين هناك لم يستجيبوا لبرامج تحديد النسل كما استجاب لها الصينيون،
لذلك إذا أردنا أن يكون البحث موضوعياً، فيجب أن نقيسهم على الظاهرة العامة
لتكاثر المسلمين في هذا القرن، أي أنهم يتضاعفون كل عشرين سنة، وبذلك يجب
أن يكون عددهم قد وصل إلى أكثر من 110 ملايين في سنة 1980، لكن رغم ذلك
نهمل موضوعية البحث، ونأخذ التقدير الذي يبعد البحث عن أن يكون موجهاً بهوى
من النفس، أي نأخذ بأن المسلمين في الصين يجب أن يكون عددهم في سنة 1980
قد بلغ ثمانين مليوناً، قياساً على تكاثر الصينيين بشكل عام، أو لنقل
ثمانية وسبعين مليوناً، لأن الصينيين لم يتضاعف عددهم تماماً، بل أقل من
الضعف بواحد ونصف في المئة. لكننا نرى أن عدد المسلمين في تلك السنة (1980)
هو (13) مليوناً، فيكون النقص هو (65) مليوناً!! فأين ذهبوا؟.
لكن لا نقول عن هذا هو عدد القتلى، وذلك لأن القتل والإبادة بدأت سنة 1966
عندما كان عدد المسلمين يجب أن يكون 60 مليوناً فقط، وذلك قياساً على
التكاثر العام للصينيين الذي رأيناه قبل قليل.
استمر زخم الإبادة ثلاث سنوات، حيث انتها سنة 1969 (تماماً مثل ما حدث في
الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثين سنة حيث بدأت المجازر الكبرى سنة 1936 وانتهت
سنة 1939). لقد انتهى زخم المجازر سنة 1969، لكن المجازر لم تنته، بل بقيت
مستمرة، لكنها كانت بعد ذلك تافهة لا قيمة لها، فهي لا تتجاوز عشرات
الألوف في العام الواحد، وهذه أرقام، كما يرى القارئ، قليلة لا يؤبه لها
أمام عشرات الملايين. إن إبادة عشرات الألوف في القاموس الماركسي هو شيء
تافه، يخجلون من ذكره، لأنه يدل على ضعف في الثورية، ونقص في التقدمية،
وتقصير في تنفيذ بنود السلام الأحمر..
سـلام يدنس طهـر الثرى كُلاح النيوب هريت الحشا
تنـوء بأوزاره الراسيـات ومن هَوله يستطير الكرى
يشـاع بأن الهنـاء فيـه فإن حل كان البكا والأسى
رأينا أن عدد المسلمين في سنة 1980 كان 13 مليوناً، وهذا يعني أنه في سنة
1969 عندما انتهى زخم الإبادة كان أكثر من تسعة ملايين بقليل، ولنقل كان
عشرة ملايين، وهذا قياساً على التكاثر الصيني العام في هذا القرن وليس
قياساً على تكاثر المسلمين في البلاد اللاماركسية.
بذلك يكون عدد القتلى المسلمين في زخم الثورة الثقافية هو 50 مليوناً، فقط خمسون مليوناً.
وكما حدث في الاتحاد السوفياتي، حدث في الصين، كان المسلمون يتفجرون حماسً
لنصرة الماركسيين، وخاضوا كل حروبهم في المقدمة، إذ كان القادة الماركسيون،
وعلى رأسهم ماو يضعون المسلمين في معاركهم في الصفوف الأولى، فيصيدون بذلك
عصفورين، يستفيدون من إقدام المسلمين واستبسالهم أولاً، ثم يقللون أعدادهم
ثانياً، تمهيداً للقضاء عليهم فيما بعد.
ويظهر أن التاريخ يعيد نفسه في بلادنا، حيث رأينا المسلمين يتفجرون حماسة
لنصرة البعث العراقي وصدّامه، رغم أنه حشر في سجونه تحت ألوان التعذيب
عشرات الألوف من المسلمين وفي مقدمتهم الإخوان المسلمون، وأباد منهم عشرات
الألوف شنقاً ورمياً بالرصاص مع مئات الألوف من الإسلاميين الذين كان يضعهم
في الصفوف الأولى في الحرب ليبادوا، وشرد مئات الألوف وفي مقدمتهم محمد
محمود الصواف رحمه الله تعالى. طبعاً، كما هو واضح، هذه أرقام تافهة، عشرات
الألوف ومئات الألوف!! لا قيمة لها إن لم تكن بعشرات الملايين ومئات
الملايين.
والآن لننتقل على صغار الكبائر، إلى ثلاثة ملايين مسلم فقط، قتلهم الماركسيون.
- لنأخذ فيتنام:
كان عدد المسلمين في فيتنام يقدر بثلاثة ملايين ونصف ولنبدأ القصة مما قبل
1940م. كان الشيوعيون الفيتناميون متجمعين حسب الشكل المعلن، في هونج كونج،
بزعامة هوش مِنْهْ، وكانت فيتنام مقسمة إدارياً على ثلاث مستعمرات فرنسية،
أو بالتعابير الاستعمارية: كانت تتألف من محمية تونكين في الشمال، ومحمية
أنّام في الوسط، ومستعمرة كوشين شين في الجنوب.
احتلها اليابانيون سنة 1940 وطبّق الشيوعيون، فيما طبّقوا من أساليبهم
أسلوب التحالف المرحلي مع الآخرين فشكلوا حلفاً ضم الشيوعيين والوطنيين
وغيرهم. وكان هوشي مِنْه وحزبه يموِّلون بالمال من يهود أميركا وأوروبا،
وبالسلاح من روسيا، وبالرجال من المرتزقة الصينيين الذين كانوا يشكلون
معيناً لا ينضب لمصلحة اية جهة مستعدة لتجنيدهم.
خسر اليابانيون الحرب، فانسحبوا من فيتنام سنة 1945، ودخل الحلف الفيتنامي
فيتنام، وطبعاً، كان الحلف بزعامة هوشي مِنْهْ، لأنه هو الذي كان بين يديه
المال الذي ينفقه على تحركات الحلف، وقد عُرفت تلك الحركة (الحلف وتحركاته)
باسم "فييت مِنْهْ".
أعلنت فييت مِنْهْ عزل الملك "باوداي" الذي نصبه اليابانيون، وقيام جمهورية
فيتنام التي شملت الوحدات السياسية السابقة، واختيار هانوي عاصمة لها.
في العام نفسه (سنة 1945) عاد الفرنسيون إلى فيتنام، فاستعلت الحرب بينهم
وبين الفيت مِنْهْ، وقد دامت أكثر من ثماني سنوات، وكانت هزيمة الفرنسيين
في "ديان بيان فو" في أيار عام 1954 نهاية ذلك الصراع. وبعد سلسلة
الاتفاقات، قُسمت فيتنام إلى قسمين: فيتنام الشمالية جمهورية اشتراكية،
وبطبيعة الحال كان زعيمها هو "هوشي مِنْهْ" الذي يملك المال الذي تدفق
عليه؛ وفيتنام الجنوبية، مملكة ملكها "باوداي" نفسه. وفي أكتوبر 1955 قام
"نجو دين دييم" بعزل الملك وإعلان نفسه رئيساً للدولة فرئيساً للجمهورية.
وتم انسحاب فرنسا عسكرياً من الهند الصينية في نيسان سنة 1956.
شكل هوشي مِنْهْ في فيتنام الشمالية حركة تحرير فيتنام "فييت كونج" لتحول
فيتنام الجنوبية إلى الشيوعية وضمها إلى فيتنام الشمالية. وكانت فيتنام
الجنوبية تقاوم الشيوعية، وتدعمها بذلك الولايات المتحدة الأميركية.
وساء كان القادة الأميركيون والفيتناميون الجنوبيون يدركون دور الدعاية
الكثيفة، أو لا يدركونها، فهم لا يملكون الكوادر اللازمة لترويج الدعاية
بالزخم المطلوب، ولا بغير الزخم المطلوب، لن وجود مثل هذه الكوادر لا يمكن
أن يكون إلا بوجود عقيدة يعتنقونها تدفعهم إلى العمل في سبيلها حتى التضحية
مع وجود لمنظرين علماء يعرفون، علمياً، كيف يضعون لهذه الكوادر الشعارات
المناسبة لتطلقها في الزمان والمكان المناسبين. وهذا لا يوجد إلا عند
الماركسيين.
أما المسلمون، فالكوادر موجودة لديهم، لكن المنظّرين العلماء مفقودون،
والعلماء المطلوبون هنا، هم العلماء بالواقع، الذين يعرفون واقع العصر بشكل
عام وواقع الأمة الإسلامية بشكل خاص، وواقع الشعوب العربية بشكل أخص.
والمطلوب من هؤلاء العلماء بالواقع أن يكونوا علماء بالإسلام وبالشريعة
الإسلامية لتكون أحكامهم مبنية على فهم صحيح بالقضية المعروضة، بالواقع، مع
معرفة بالأحكام الإسلامية، وبذلك يستطيعون وضع الحكم الإسلامي في موضعه
الصحيح، ولا يتخبطون كما يتخبط غثاء السيل.
وللألم، ظهر فينا من نادوا بفقه الواقع ودعوا إليه، فتفاءلنا بالخير، من
باب التفاؤل فقط، حتى أظهروا فقههم للواقع. وإذا به لا يزيد عن تلك الأوهام
المحبوكة بإحكام، التي انطلقت من مطابخ المحور السرّي (تل أبيب ـ موسكو)،
ولقنت لكوادر حزب التحرير بعد إلباسها ثياباً إسلامية، وصارت كوادر حزب
التحرير تبثها في مجتمعاتنا، ومع التكرار والتكرار والزمن، تجمعت وصارت
سيلاً جرف الأمة، إلا من رحم الله سبحانه، وجرف فيما جرف، أولئك الذين ظنوا
أنفسهم قد فقهوا الواقع، وظنهم كثير كثير من المسلمين كذلك، مع أنهم في
الواقع لا يزيدون عن كونهم نثرات من الغثاء الذي جرفه سيل الشعارات
والأفكار الماركسية المحبوكة بإتقان.
نعود إلى موضوعنا، إلى مسلمي فيتنام:
كان من بنود الاتفاقات التي وضعت عند تقسيم فيتنام، أن يكون التنقل حراً
بين القسمين طيلة الشهر الأول، فانتقل من المسلمين من انتقل من القسم
الشيوعي (فيتنام الشمالية) على فيتنام الجنوبية. بعد عام 1956، وبعد أن
أحكم الشيوعيون قبضتهم على القسم الشمالي، بدأوا بتوجيه ضرباتهم ضد
المسلمين( )، أغلقوا المساجد، منعوا الشعائر الإسلامية، سجنوا، فتنوا
الألوف عن دينهم، فهرب كل من استطاع الهرب من المسلمين إلى فيتنام
الجنوبية، وربما كان عددهم يصل إلى المليون أو يزيد، واستسلم من لا يستطيع
الهرب ولم يُفتن في دينه إلى الصمت الذليل حتى يأتي الله بأمره. وتجمع غالب
المسلمين الفيتناميين في فيتنام الجنوبية، ويقدّرون عددهم بما قد يصل إلى
ثلاثة ملايين.
الدعاية في الساحة المعلنة في الشمالية يقابلها مثلها في الجنوبية، ويمكن
أن نظن أنهما متكافئتان، لكن الدعاية في ساحة الظل لا يملكها إلا
الشيوعيون، لذلك كان، ولم يزل، من البدهي أن تكون الغلبة لمن يملك الدعاية
الأوسع انتشاراً، لذلك لم يستطع النظام الجنوبي أن يوقف الشيوعية رغم العون
الأميركي العسكري، فالقوة لا تستطيع الصمود أمام الفكر المدعّم بالدعوة
والدعاية الممنهّجة، مهما كان هذا الفكر مغلوطاً. ومنذ سنة 1963 بدأت
الانقلابات العسكرية تتوالى في الجنوبية دون فائدة. فما قاد انقلاب عسكري
إلى خير أبداً. وأخيراً انسحب الجيش الأميركي، وقامت جمهورية فيتنام
الاشتراكية سنة 1975، وبدأت عمليات اضطهاد المسلمين التي كانت تقوم على
الإبادة ثم الإبادة، حيث أبيد أكثر من مليوني مسلم، ويمكن أن يقترب عددهم
من مليونين ونصف. والذين استطاعوا الإفلات من القبضة الماركسية وأكثرهم من
المسلمين، لم يجدوا لهم ملجأ إلا البحر، يبحث الواحد منهم عن قطعة من الخشب
تستطيع حمله فوق الماء، يركبها ويذهب في البحر، وإن وجد أكثر من قطعة
خشبية يربطها ببعضها فهو محظوظ، وأكلت أسماك القرش من أكلت، ووضع الله
سبحانه العطف في قلوب أصحاب البواخر غير الماركسيين، فصارت بواخرهم تجوب
البحار المحيطة بفيتنام، تلتقط من تصادفه على تلك الأطواف، واستطاعت أن
تنقذ عشرات الألوف (بل ربما أكثر من ذلك) حيث أوصلتهم إلى هونج كونج،
ليعيشوا هناك لاجئين حتى مدة قريبة.
لقد كان المسلمون وغير المسلمين آمنين في القسم الجنوبي طيلة سيطرة النظام
الذي يسمونه "ديكتاتورياً رجعياً طاغياً باغياً" مع وجود الجيش الأميركي
الذي كان يحاول منع الزحف الشيوعي على الجنوب بالقوة العسكرية، وهذا يدل
على سذاجة فكرية في القيادات الأميركية والفيتنامية الجنوبية، فالقوة
العسكرية لها دورها لكنها تنهار أمام الدعاية المنهّجة الغزيرة.
وانسحب الجيش الأميركي واحتل الشيوعيون كل البلاد، وبدأت الإبادة بمن
يسمونهم "أعداء الشعب" وهم كل من يقاوم الماركسية ولو بالانتقاد البسيط
(إذا سُمع) وحصل ما حصل للمسلمين، وفُتن عن دينه من فُتن (والفتنة أشد من
القتل) (والفتنة أكبر من القتل).
وخرجت الدعاية الشيوعية، والماركسية بشكل عام، لتندد بالجيش الأميركي
والوحشية الأميركية وقتل الأميركان للشعوب .. على آخر الديباجة .. ولتقول
للدنيا إن الشيوعية هي التي أنقذت فيتنام وخلصتها من الفقر (لتدخل في الموت
من الجوع) وطردت الأميركان .. إلى آخر الأكاذيب التي لا آخر لها، وشكلت
هذه الدعاية سيلاً جرف الغثاء، فصار الغثاء يردد ما يسمعه رغم أن جماعات
كثيرة منهم رأت بأعينها ما حدث، ورغم أن بعض الكتاب كتبوا ونشروا تلك
الحقائق، لكن الغثاء إن لم يجرفه السيل فلا يكون غثاء. ويجب على الغثاء أن
يدافع عن غثائيته.
طبعاً، أنا في سردي لهذه الحقائق، لا أسردها دفاعاً عن أميركا أو تنزيهاً
لها، لكني مسلم، والإسلام يأمرنا أن نعطي كل ذي حق حقه، وأن نقول الحق ولو
كان مراً، وألا نتبع الهوى في إصدار أحكامنا، وأن ندافع عن إسلامنا وبلادنا
وأعراضنا وأنفسنا ضد من يفتنا في ديننا ويمزق أجسامنا بالسياط وينهب
ديارنا وأموالنا ويشردنا ويبيدنا، وأن يكون دفاعنا بالأسلوب الصحيح الذي
يقود إلى النصر، لا بالأسلوب الغلط الغوغائي الذي يدفعنا الماركسيون إليه
بدعاياتهم المنهجة، فنحن من عقود كثيرة ونحن بقيادة علمائنا ووعاظنا نتبع
نفس الأسلوب الذي ما قادنا، ولا يقودنا إلا إلى انتكاس بعد انتكاس، رغم
أننا نقرأ قوله سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى
يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11]. وقوله: {إِن تَنصُرُوا
اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ}[محمد:7]. ونعرف أن نصرنا
لله سبحانه هو باتباع سننه في شرعه وسننه في خلقه، هو بالسير في الطريق
الصحيح في الأمور الدينية والدنيوية.
إن انتكاساتنا المتتابعة يجب أن تكون دليلاً لنا، إن كنا نؤمن بأن القرآن
من عند الله سبحانه على أن ما بأنفسنا غلط يجب أن يغيَّر، وأننا لا ننصر
الله سبحانه بأفكارنا وأساليبنا التي نتبعها، وأننا لا نسير في الطريق
الصحيح.
- ثم أفغانسان، وما أدراك ما أفغانستان:
كان المغفل النافع الأول (حسب الظاهر) فيها هو ملكها ظاهر شاه، الذي عقد
اتفاقات مع الاتحاد السوفياتي، أو الأصح أن نقول: الاتحاد السوفياتي هو
الذي عقد معه الاتفاقات، وأرسل خبراءً (؟) إلى افغانستان، وكان يساعده
المغفل الثاني، ابن عمه محمد داود خان، الذي تولى رئاسة الوزارة عام 1953،
وزار موسكو التي قدمت لأفغانستان قرضين ماليين، ثانيهما بدون فوائد، وصارت
الحكومة الأفغانية بقيادة مغفَّليها ترسل البعثات الطلابية إلى روسيا وسمح
للشيوعيين بالتحرك.
فكان اللسان الماركسي الرسمي يدغدغ عواطف كل المغفَّلين النافعين في
أفغانستان، بينما كان اللسان الماركسي الشعبي يحقن المجتمع الأفغاني
بالشعارات الماركسية التي تبدأ بزرع الحقد ضد الإمبريالية والبورجوازية،
وظاهر شاه وأميركا والرجعية التي هي الهدف الرئيس.
وفي سنة 1973، قام محمد داود خان بعزل ابن عمه الملك، وأعلن نفسه رئيساً
للجمهورية، وفُتحت البلاد أمام الشيوعية، وتوطدت العلاقات بين موسكو وكابل،
حتى تمكن التنظيم الشيوعي في الجيش من الإنقلاب على المغفّل محمد داود خان
وقتلوه وأُعلنت البلاد جمهورية اشتراكية.
كانت هتافات المظاهرات الطلابية والشعبية سابقاً هي: "تسقط أميركا يسقط
ظاهر شاه"، ثم صارت بعد سقوط الشاه: "تسقط أميركا يسقط داود خان".
وسقط ظاهر شاه، ثم سقط داود خان، لكن أميركا كانت ساقطة في أفغانستان منذ
سنة 1953 وقبلها أيضاً، فلم يكن لها وجود هناك، وإنما كان الوجود للاتحاد
السوفياتي، لكن الأسلوب الماركسي في الدعاية كان يشغل الشعب بالحقد على
أعداء الماركسية ليلهيهم، أو ليعصّب أعينهم عن الماركسية الزاحفة، وهذا
أسلوب معروف منذ القدم، بل الحيوانات أيضاً تعرفه.
فالذئاب مثلاً، تتحرك بمجموعات يمكن أن يصل عددها في بعض الأحيان إلى
عشرات، ويندر أن يُرى ذئب لوحده عندما تشاهد مجموعة من الذئاب فرائس لها،
ولتكن غزلاناً، يذهب ذئب أو ذئبان إلى الجهة التي تهب منها الريح في اتجاه
الغزلان، وتكمن بقية المجموعة في الجهة المقابلة.
يتقدم الذئبان (أو الذئب إن كان واحداً) باتجاه الغزلان، حيث يحمل الهواء
رائحتهما إلى الغزلان، فتهرب منها، ويكون هربها، طبعاً، إلى الجهة الأخرى
(المقابلة) التي يكمن فيها بقية الذئاب التي تنتظر حتى تقترب منها الغزلان
فتنقض عليها وتفترس ما تفترسه.
ومثلٌ آخرن الأسد، إذا رأى ثوراً منفرداً، يكمن له، وتذهب لبوته التي تكون
عادة معه لتدور حول الثور عن بعد، حتى تصل إلى الجهة المقابلة لمكمن الأسد،
فتتقدم نحو الثور الذي يهرب عندما يراها في اتجاه الأسد الكامن حتى إذا
صار قريباً منه، وثب عليه الأسد ومزقه.
نعود إلى موضوعنا:
كانت المظاهرات تخرج بهتافاتها المرسومة لها "تسقط أميركا، تسقط الصليبية،
يسقط الشاه .." وعندما يسبب الماركسيون لهم أو لبعضهم حادثاً مؤلماً يُنشر
خبره، تكون التحاليل جاهزة، فالذي سبب هذه الحادثة أو الكارثة، هو الشاه
وأميركا من خلفه ومعه الاستعمار، وإذا ظهر لهم بالصدفة أن وراء الحادثة
الماركسيين، يكون الجواب المعهود: ملة الكفر واحدة، إن أميركا والاستعمار
هم الذين يحركون، إن الكفار يختلفون فيما بينهم لكنهم يتفقون على محاربة
الإسلام .. إلى آخر الشعارات الفارغة التي تنتهي بتبرئة الماركسيين وإلقاء
التبعة على أعدائهم.
واستيقظ الأفغانيون، وإذا بالشيوعية تسيطر على بلادهم فهبّوا من نومهم،
وكان الجهاد الذي كان السبب الرئيس في دفع الاتحاد السوفييتي نحو
"البيروسترويكا"، والذي دام ما يقرب من عشر سنوات.
وكان عدد القتلى من المسلمين الأفغانيين وبعض غير الأفغانيين يزيد على
مليون ونصف المليون، وعدد المشردين يزيد على ثلاثة ملايين، والمشوهين
بعشرات الألوف، ودُمرت ألوف القرى الأفغانية، وأحرق ما يقدر بثمانين بالمئة
من الأراضي الأفغانية.
وخرجت الدعايات الماركسية المختلفة، وصرنا نسمع العجب العجاب: فبنقاش مع
أحد قادة حزب التحرير قال بإصرار (كالعادة): إن روسيا دخلت إلى أفغانستان
بحبل ريغان (كان ريغان رئيس جمهورية الولايات المتحدة في ذلك الوقت) وسمعنا
من تحريريين وشيوعيين وناصريين وبعثيين قولهم إن المجاهدين الأفغان هم
عملاء أميركا، وسمعنا منهم الأعجب والأغرب، إن روسيا دخلت إلى أفغانستان
لتطرد أميركا!!!
(أي: أبادت الأفغانيين لتنقذهم من أميركا!!!؟) إلى آخر الغثائيات.
ولا بأس من تبيين القواعد الدعائية التي تبنى عليها هذه المقولات والشعارات:
- هي، أولاً، مبنية على قاعدة "اكذب ثم اكذب ثم اكذب وسوف تصدق الكذب"، فكل أقوالهم كذب وكثير منهم يعرفون أنها كذب.
- ثم يستعملون بها قاعدة "التكرار والتكرار والزمن تؤدي إلى الاقتناع".
- وفيها أيضاً قاعدة "فن الدمج"، فالماركسية هي التي تقتل الأفغانيين، لكن
الدعاية الماركسية تدمج أعداء الماركسية مع الماركسية فيتوزع الحقد مؤقتاً.
- ثم مع الدعاية المستمرة ضد أعداء الماركسية، يظهر مفعول قاعدة "كفتي
الميزان" حيث يزداد تراكم الحقد ضد أعداء الماركسية وينحسر شيئاً فشيئاً عن
الماركسية حتى يصبح عطفاً عليها عند كثير من الناس. وهنا أيضاً تظهر
فاعلية قاعدة "إحياء الاحتمالات الميتة وإماتة الاحتمالات الحية".
- وفي خضم هذه الدعايات يستعملون حرب "الإشاعة" ضد أعداء الماركسية، ومن
هذه الحرب ذلك الأسلوب الفعال جداً، الذي هو أسلوب التشهير بالأفراد الذين
لهم تأثير في المجتمع.
- وفي كل ذلك يعتمدون على حقيقة أن الجماهير لا تعي الواقع وإنما توجَّه بالدعاية.
- ومن الأساليب التي نجحت الماركسية بتجنيد المسلمين بها لنصر الماركسيين
في أفغانستان، أسلوب حرب الإشاعة ضد الأطباء والممرضين الآخرين "أطباء بلا
حدود"، فتجمعات المجاهدين كانت موجودة في مواقع كثيرة في أفغانستان،
الانتقال بينها صعب جداً، وفي بعض الأماكن يكون متعذراً، خاصة أثناء
المعارك وبعدها بقليل.
عندما كانت تحدث معركة في موقع، يكون عدد الجرحى بالمئات، وفي بعض المعارك
تدخل كلمة الألف والألفين في تعدادهم. وفي أحسن هذه الحالات وأقلها جرحى،
تكون الحاجة ماسة لعدد من الأطباء، وأكثر منهم من الممرضين، أو مثلهم على
الأقل، وفي الحالات العادية يحتاجون على بضعة عشر أو عشرين طبيباً، وأكثر
منهم أو مثلهم من الممرضين، وفي المعارك الكبيرة عندما تدخل كلمة الألف أو
الألفين في تعداد الجرحى، تكون الحاجة ماسة إلى عدد من الأطباء يُذكر في
تعداده كلمة المئة.
لكن الواقع أن مجموع الأطباء المسلمين المسلمين الذين تطوّعوا للعمل هناك،
وكانت غالبيتهم من السعودية والباكستان والسودان، كانوا لا يزيدون عن
العشرة إلا قليلاً، ومثلهم أو أكثر منهم بقليل من الممرضين. أما باقي
الأطباء والممرضين فقد جاؤوا من فرنسا ومن الغرب من جماعة "أطباء بلا
حدود".
إن من بدهيات الحروب ومن قواعدها الأساسية، وأول قاعدة في القواعد
الماركسية وأهمها هو الاعتماد على الدعاية، وهي المرتكز الأساسي والرئيس
عند الماركسيين، ومما يحتاجه الماركسيون في الحرب الأفغانية العمل على
تقليل عدد الأطباء بين المجاهدين (بكل الوسائل طبعاً، ومنها الدعاية)، وهنا
تأتي قاعدة "يجب أن نعرف طبيعة المجتمع لنستطيع توجيهه".
وقد درس المنظرون الماركسيون طبيعة التجمعات الإسلامية وعرفوها، وكان
الشعار البسيط هو إن هؤلاء "الأطباء بلا حدود" جاؤوا لينصّروا المجاهدين،
والممرضات منهم جئن ليفتن المجاهدين، وصار يُنشر هذا الشعار بأكثر من شكل،
وتحمس المسلمون، كثير منهم، وصاروا يرددون هذه المقولة في كل مكان وهم
يظنون أنفسهم أنهم يدافعون عن الإسلام وينصرونه، وترددت هذه المقولة،
وترددت كثيراً في المجتمعات الإسلامية، وفي مجتمعات المجاهدين خاصة ليسمعها
الأطباء بلا حدود، وطبعاً، كان الماركسيون قد بعثوا، ويبعثون جواسيسهم
بالعشرات وبالمئات ليتغلغلوا في صفوف المجاهدين على كل المستويات، ومن
هؤلاء الجواسيس من كان مكلفاً بإيصال خبر تلك الشعارات إلى الأطباء بلا
حدود يساعدهم في ذلك بعض المجاهدين المجروفين بالدعاية والذين يمكن أن
يُعدوا بين "المغفلين النافعين".
وكانت النتيجة البدهية هي انسحاب كثير من الأطباء بلا حدود (أطباء وممرضات)
ولم يبق منهم إلا القليل. وكانت النتيجة هنا أيضاً أنه في نهاية أية
معركة، كان الأطباء والممرضون الموجودون لا يستطيعون، لقلتهم، إنجاد نصف
الجرحى، أو ثلثهم، أو حتى رُبعهم، الإنجاد اللازم، فكانوا كثيراً ما
يُضطرون لبتر العضو الذي تحتاج معالجته على زمن طويل، من أجل أن يستطيعوا
تقديم المعونة إلى أكبر عدد من الجرحى.
وهكذا، كانت نتيجة هذا الواقع هو كثرة عدد مشوهي الحرب المسلمين الذين لم
يمر عليّ إحصاء لهم، أو محاولة لإحصاء، لكني أقدر عددهم حسب تحليلاتي ـ
متواضعا ـ بأكثر من عشرة آلاف، وحائماً حول الحقيقة بكثير من عشرات الألوف،
مع ملاحظة هامة جداً، هي أن القتلى والجرحى لم يكونوا كلهم من المقاتلين،
بل كان أكثرهم من سكان القرى والمدن الذين كانت تقصفهم الطائرات الروسية
بغزارة أكثر من قصفها للمقاتلين.
هذه صورة من صُور تطبيق قاعدة "يجب أن نعرف طبيعة المجتمع لنستطيع توجيهه"،
مع قاعدة "إيهام الجماهير أن الخطر يأتيهم من الجهة الأخرى"، مع قاعدة
"اكذب ثم اكذب ثم اكذب وسوف تصدق الكذبة" مع حقن المسلمين السابق واللاحق
بالحقد الأعمى ضد المسيحيين مع استغلال قاعدة "الجماهير لا تعي الواقع"،
وكل هذا مُوجّه بقاعدة "عاملا الاقتناع هما التكرار والزمن". وهنا أرجو من
الذين كانوا ينشرون الدعاية بحماسة دينية، ضد الأطباء بلا حدود، أن ينتبهوا
الآن إلى الطريق الذي ساروا فيه وإلى ماذا أدّى بالجرحى المسلمين. وإلى
ماذا سيؤدي بهم هم والذين مثلهم في الدنيا والآخرة.
كان قادة الجهاد الأفغان ينشرون بين المسلمين أن الأطباء عندهم يبترون
العضو الذي يحتاج إلى زمن طويل لمعالجته المعالجة الأولى. وكان هذا النشر
يبعث في النفوس، أو في بعضها أملاً أن تتحرك حمية الأطباء المسلمين
فيتطوعوا للعمل بين المجاهدين. وكان يجعل هذا النشر أجود لو أنهم كانوا
يذكرون فيه أن سبب البتر هو قلة الأطباء والممرضين.
قلت، وأكرر، إن الدعاية هي سلاح أساسي في الحروب الساخنة والباردة، وهي
السلاح الأول والأخير والوسط في عمل الماركسية المستمر للسيطرة على الشعوب.
لذلك، كان من البدهي، ومن اللازم، ومن المؤكد الوكيد الوكيد، أن
الماركسيين بثّوا جواسيسهم بين المجاهدين، بعضهم جواسيس إخباريون، وأكثرهم
جواسيس توجيهيون، ومن الوكيد الوكيد أن عددهم كان بالمئات.
ومن الطبيعي أن الدعاية التي كانوا يبثونها كانت موجهة بقوانين الدعاية
العامة والماركسية، ومحاولة تنفيذ أغراضها، ومن تلك الأغراض أسلوب تضخيم
التناقضات، وقد نجحوا في ذلك خاصة بين صفوف الصوفية، حيث حدثت عدة حوادث،
منها أن إحدى الكتائب المجاهدة المرابطة في أحد المواقع كلها من المتصوفة،
وفد عليهم متطوعون سلفيون أربعة، فرأوهم ملتزمين بالحضرات الصوفية حول قبر
يقدسونه، يلجؤون على هذا القبر دائماً طالبين من المقبور فيه المدد والنصر
على الأعداء، صار السلفيون الأربعة ينصحونهم ويقدمون لهم الأدلة من القرآن
وصحيح السنة أن هذا من الشرك، وأنه لا تجوز الصلاة عند القبر، وأن العبادة
لا تكون إلا لله، والاستعانة لا تكون إلا به، ويذكرونهم بقوله سبحانه:
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وغيرها، فصبر
عليهم المتصوفة بادئ ذي بدئ، لكن دعاية "تضخيم التناقضات" التي كانت تعمل
عملها، دفعت المتصوفة إلى القبض على هؤلاء الأربعة ومحاكمتهم أمام محكمة
شكلوها برئاسة شيخهم الصوفي. واستمعوا لأقوالهم كلها، ثم حكم عليهم الشيخ
بالقتل على الردة، ووافق على هذا الحكم الباقون ونفذوه، وكان موجوداً في
مركز قيادة المجاهدين شباب متطوعون منهم عدد من السوريين بعضهم سلفيون
وبعضهم غير سلفيين، وسمعوا كلهم بالحادثة، لكن بعض قادة المجاهدين الذين
كانوا هناك طلبوا من كل الحاضرين ألا يشيعوا هذا النبأ وأنهم سيتولّون هذا
الأمر بأنفسهم بالحكمة والموعظة الحسنة، لئلا يتضخم الصراع أكثر، ويتحول
إلى حرب بين المجاهدين الذين هم بحاجة إلى وحدة الصف لمواجهة العدو الزاحف
عليهم.
وحدثت عدة حوادث مماثلة بقيت موضعية، حتى توصلوا إلى دفع بعضهم على اغتيال قائد المجاهدين السلفيين "جميل الرحمن".
ومن الأغراض الماركسية التي كانت الدعاية الماركسية تحقن المجاهدين بعقائد
تدفعهم إلى تنفيذها في المستقبل، فكرة الصراع مع الحكام الذين يقاومون
الماركسية أو يقفون عثرة في سبيلها. وقد توصلت تلك الدعاية إلى تهيئة عدد
كبير من أولئك المجاهدين، ليشكلوا تنظيماً أو تنظيمات، تعمل باسم الخلافة
وإعادة الخلافة على محاربة الأنظمة التي تقاوم الماركسية، وكانت هذه
العمليات مدعمة ومموّلة من الجهات المعادية للإسلام، من ماركسيين وشيعة،
ولم تزل كذلك.
ومن العجب العجاب أن هؤلاء الذي أُطلق عليهم اسم "الأصوليون الأفغان" كانوا
بالأمس هدفاً لحرب إبادة من قبل الماركسيين، وكان الشيعة في إيران وغيرها،
يساندون الماركسيين ضد المجاهدين سراً وعلانية، وكان المجاهدون، ومنهم
الأصوليون الأفغان، يتلقون دعمهم بالمال والسلاح من قبل أعداء الماركسية من
أنظمة وجمعيات وأفراد. وعندما انتهت الحرب الأفغانية، إذ بهؤلاء
الأصوليين، ينقلبون بين عشية وضحاها، إلى جنود عند الماركسيين والشيعة
ليحاربوا الأنظمة اللاماركسية التي تقف عقبة أمام المد الماركسي، مع العلم
أن أمثلة كثيرة مرّت، قام مغفلون نافعون إسلاميون بانقلابات ضد أنظمة لا
ماركسية فكانت النتيجة أنه لم تمض إلا أشهر قليلة، أو أسابيع في بعض
الأحيان، حتى يرى الناس أن الإسلاميين صاروا، قسم منهم في القبور، وقسم في
السجون، وقسم مشردين، وقسم فُتنوا في دينهم (والفتنة أشد من القتل)،
(والفتنة أكبر من القتل).
ولو نجح هؤلاء الأصوليون الأفغان في بلد، لكانوا أول فريسة تفترسها
الماركسية ويتلوهم بقية المسلمين. وهنا نتذكر قول الرسول : ((لا يلدغ
المؤمن من جحر مرتين)). وقد لدغنا من الجحر نفسه مرات ومرات ومرّات!! فهل
يجب أن نبقى نلدغ ونلدغ؟؟ أولا يدل هذا على أن خلالاً في الإيمان موجود في
النفوس؟.
إن شجون الحديث هي التي قادت إلى الاستطراد السابق، ونعود إلى عدد القتلى والمشردين.
كان عدد القتلى الأفغانيين الذين أبادتهم الماركسية يزيد على مليون ونصف،
وعدد المشردين يحوم حول ثلاثة ملايين، والسجناء ما كانت تخرج عنهم أية
أخبار، لكن نعرف، بدهياً، أنهم كانوا بعشرات الألوف، وأشد من كل هذا وأكبر،
الذين فتنوا في دينهم، والفتنة أشد من القتل. والفتنة أكبر من القتل.
لننتقل الآن على الأرقام الأصغر، إلى الأرقام التي تدور حول نصف مليون يزيد أو ينقص:
- كمبوديا، أثيوبيا:
يقدّرون (كانوا) عدد المسلمين في كمبوتشيا (كمبوديا) بثلاثة أرباع المليون.
تسلّط الخمير الحمر الشيوعيون سنة 1975 وأبادوا من أبادوا وشردوا، فكان عدد
المسلمين الذين أبيدوا، فيمن أبيد، حتى سنة 1979 أكثر من ستمئة ألف مسلم.
وفتن في دينه من فتن (والفتنة أشد من القتل)، (والفتنة أكبر من القتل)،
والمسلمون صامتون يغضون طرفهم عن أسيادهم الماركسيين.
لقد قفزنا نسياناً عن بلد ابتلي بالماركسية بمساعدة المسلمين، تدخل كلمة "مليون" في عدد قتلاه، إنه أثيوبيا.
كان المسيحيون يحكمون أثيوبيا بقيادة الإمبراطور "هايله سيلاسيه" أي العظمة
الثالثة، أو العظيم الثالث، على أساس أن العظيم الأول والثاني هما داود
وسليمان عليهما السلام، وأنه هو العظيم الثالث. واتخذ لقب "نيقوس" أي
"النجاشي"، وكان يلقب نفسه أيضاً "أسد يهودا"، توّج رسمياً امبراطوراً على
أثيوبيا في 2/نوفمبر 1930، وفي 9/مايو 1936، احتل الإيطاليون بلاده فالتجأ
إلى الخرطوم، ثم إلى إنكلترا، وعاد إلى أثيوبيا (على حصان أبيض)( ). عندما
أخرج الإنكليز منها الإيكاليين سنة 1941م.
كان هايله سيلاسيه أو "هيلا سيلاسي" متعصباً للمسيحية الأورثوذكسية
القبطية، وكان يكره الإسلام والمسلمين، فقد كان في سجونه عشرات من المسلمين
قد يصلون إلى مئة، وقد يزيدون، يعتقلون دون تهمة، أو بتهم تافهة تافهة،
ورغم ذلك كان يبقى أحدهم في السجن أسابيع وأشهراً حتى يخرج، بل قد يصل سجن
بعضهم على السنة. وهناك أفراد قضوا سنين طويلة.
كان يبني كنيسة في مدخل القرية المسلمة ولو لم يكن فيها أي مسيحي، ليوهم السياح والزائرين ان القرية مسيحية، أو يوجد فيها مسيحيون.
إلى آخر ما ذكره الأستاذ محمد الغزالي رحمه الله في كتابه "كفاح الأديان".
وعندما قامت إسرائيل سنة 1948 فتح لها هايله سيلاسي أثيوبيا لتنشء فيها
المزارع النباتية والحيوانية التي كانت تمد إسرائيل بقسط وافر مما تحتاجه
من الفواكه والخضار واللحوم والألبان ومشتقاتها.
وكان يدعي أنه من نسل سليمان عليه السلام وبلقيس( ) ملكة سبأ، لكن هذا لم
يمنعه من رفض التوسع الإسرائيلي ومقاومته، ومن ذلك القيام بزيارة للبابا في
الفاتيكان، سنة 1974 ليطلب منه أن يدعو لإعادة الوضع في القدس وفي فلسطين
لما كان عليه قبل عام 1967. في سنة 1965 قامت محاولة انقلاب عليه اشترك
فيها ابنه ولي العهد لكنها فشلت.
وفي سنة 1974 بعد رجوعه من زيارة البابا الكاثوليكي في روما، ما لبث أن
أطيح به بانقلاب عسكري بقيادة الجنرال أمان "المغفل النافع" أو الحليف
المغفل للشيوعيين، وكان مسلماً. وفرح المسلمون، فقد انزاح الطاغوت، لكن بعد
مدة قليلة استيقظ الناس والجنرال أمان ورفاقه الضباط المسلمون والمسيحيون،
الذين قادوا الانقلاب، في القبور، إلا من استطاع الهرب، وكالعادة كانت
الكتلة الفعالة التي حركت الانقلاب بقيادة الجنرال أمان ونفذته هي من
الضباط الماركسيين الذين كانوا قد وضعوا في واجهتهم الجنرال أمان ورفاقه،
من مسلمين ومسيحيين، ليكونوا كبش المحرقة إذا فشل الانقلاب. أما عندما ينجح
الانقلاب، فالمسألة لا تحتاج إلا إلى بعض الوقت ريثما تهدأ الأمور ويتخلص
من أنصار العهد السابق الذين يشكلون خطراً، وبعد ذلك لا تحتاج المسألة إلا
إلى مسرحية من المسرحيات الماركسية الدعائية المعروفة ثم يذبح كبش المحرقة،
أو كباشها، ويستلم الماركسيون السلطة. وهذا ما حدث.
إن الماركسيين ينظمون أنفسهم بسرية كاملة ومتقنة بناء على تجارب كثيرة، وهم
الذين يسعون إلى التحالف مع غيرهم من المغفلين النافعين، وهم، بخبرتهم في
هذا المجال التي اكتسبها منظروهم من دراستهم في كلية الآجيبرو Agipro في
موسكو، يكونون بوضع يرون فيه حلفاءهم المغفلين بوضوح ويحيطون بهم من كل
جانب، بينما لا يرى حلفاؤهم منهم إلا ظواهر مزيفة متقنة التزييف.
إن العامل الذي يدفع المغفلين للتحالف مع الماركسيين هو الحقد على النظام
الذي يقف عقبة أمام المد الماركسي، الحقد الذي حُقنوا به بغزارة طيلة زمن
كاف، حتى صار هذا الحقد يطغى على كل هوى في نفوسهم، حتى يروا النظام
اللاماركسي سبباً لكل ما يحدث وما يتخيلونه من مآس وأحداث، وبذلك، يرون
صديقاً لهم كل من يشاركهم في الحقد على النظام، وهذا من باب "عدو عدوك
صديقك".
والعجيب أن المسلمين لُدغوا من الجحر نفسه أكثر من عشرين مرة، منها ما لم
يزل قائماً أمام أعيننا هنا وهنا وهناك وهناك وهنالك وهنالك.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يخرجنا، نحن المسلمين جميعاً، منذ الآن، لأن
ما مضى فات، من دائرة الذين يُلدغون من الجحر الواحد مرتين أو أكثر: (لا
يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين).
فتح الناس أعينهم (أو آذانهم على الصحيح) ليروا الجنرال أمان ورفاقه
اللاماركسيين في القبور، ويروا الشيوعيين في السلطة بقيادة "هيلا مريام
منغستو" وبدأت الإبادة باللاماركسيين، ونحن هنا نتكلم عن المسلمين، حيث كان
عدد القتلى منهم يحوم حول مليون قتيل أو أكثر، وعدد المشردين يزيد على
مليونيين، وبدهي أن يكون عدد المحشورين في السجون بعشرات الألوف. وقد
أُزيحت الشيوعية في السنوات الأخيرة عن السلطة في أثيوبيا.
لنعد الآن إلى الأرقام الأصغر من قتلى المسلمين ومشرديهم.
- مصر:
في مصر، في عهدها الاشتراكي بقيادة جمال عبد الناصر، كان عدد القتلى في حرب
اليمن وفي السجون الناصرية ما يقدر بحوالي مئة وخمسين ألفاً من اليمنيين
أكثرهم من سكان القرى اليمنية الذين كانوا آمنين في بيوتهم، وإذا بالقنابل
تنهمر عليهم من الطائرات المصرية. وحوالي ثمانين ألفاً من الجنود المصريين.
وقبل ذلك، في عام 1956م فيما سمّي بالاعتداء الثلاثي. صدرت الأوامر إلى
الجيش المصري الذي كان مرابطاً في سيناء وعلى حدود إسرائيل، بالتراجع
الكيفي إلى العريش في صبيحة اليوم الذي طلعت شمسه على الجيش الإسرائيلي وقد
توغل في سيناء حوالي 90كم، وعندما قرر ضباط الجيش بقيادة العميد علي
المستكاوي الزحف لاحتلال إسرائيل التي أفرغت، تقريباً، من جيشها الذي توغل
في سيناء، جاء الأمر من جمال عبد الناصر بنقل علي المستكاوي وضباطه الذين
قرروا احتلال إسرائيل إلى القاهرة، وتسليم قيادة القطاع، قطاع غزة، إلى
العميد فؤاد الدجوي، مع تكليفه بتنفيذ هذا الأمر، مدعوماً بضباطه
الماركسيين الذين كانوا مهيئين لهذا من قبل. فكانت النتيجة أن الجيش
الإسرائيلي المتوغل في سيناء شكل كمائن كثيرة في أماكن كان قد درسها
سابقاً، وصارت هذه الكمائن تهاجم فلول الجيش المصري المتراجع كيفياً فتقتل
منهم الكثير وتأسر القليل، وكان عدد الأسرى سبعة آلاف أسير، وعدد القتلى،
كما أذاعه جمال عبد الناصر في حينه، ثمانية آلاف قتيل، بينما كان ضباط
الجيش المطلعون على الحقيقة يؤكدون أن القتلى أكثر من خمسة وثلاثين ألفاً،
هذا بالإضافة إلى مئات الدبابات وحوالي مئة ألف بندقية ورشاش مع كل ما كان
في الجبهة من مدافع مع أكثر من مليون وحدة ذخيرة مختلفة مع مطار بكامل
طائراته وأجهزته مع حوالي خمسة آلاف سيارة لوري، كل هذا، دفع المصريون ثمنه
إلى الاتحاد السوفياتي من تعبهم وعرق جبينهم واقتطعوه من طعام أولادهم
ليكون قوة لهم، وإذا به يقدم هدية إلى إسرائيل مع العلم أن الاتحاد
السوفياتي، عندما باع هذا السلاح إلى جمال عبد الناصر بأغلى الأثمان، لم
يبعه إلا بعد أن علم علم اليقين أن هذا السلاح يسلّم إلى إسرائيل مجاناً،
وما يبقى منه سوف يوجّه على صدور المسلمين والعرب لقتلهم بحجة أو بأخرى.
سلم جمال عبد الناصر إلى إسرائيل جميع الأسلحة البرية والجوية، وبقي السلاح
البحري، فأمر البارجة إبراهيم بالتوجه إلى ميناء يافا لأداء مهمة سوف
تبلغها عند الوصول، ووصلت البارجة، واستلمتها البحرية الإسرائيلية لتكون
أول بارجة في البحرية الإسرائيلية باسم "إيلات". وخرجت الدعاية الناصرية
تقول إن البارجة إبراهيم وصلت إلى يافا وأدت مهمتها، ولما حاولت الأساطيل
الفرنسية والإنكليزية أسرها، وأدرك ملاحوها ألا منجى من ذلك، أغرقوا
الباخرة وأغرقوا أنفسهم معها. هذا مع العلم أن بحارتها عُرضوا في أقفاص
حديدية في شوارع تل أبيت، نشرت كثير من الصحف العالمية صوراً لهم.
كما ترك للإسرائيليين أسماء الفدائيين من أهل غزة الذين أقلقوا المجتمع
الإسرائيلي وصورهم وعناوينهم، فقبض عليهم اليهود وقتلوهم في الشوارع وهم
يزيدون على ألفي فدائي ببضع مئات.
وفي عام 1967 في الخامس من حزيران، أعطى جمال عبد الناصر الأوامر إلى
الخطوط الأمامية في الجبهة المصرية بالتراجع الكيفي، وذلك منذ اللحظة
الأولى من الخامس من حزيران، يوم المعركة. وكانت الخطوط التي خلف الخطوط
الأمامية، مع باقي النقاط والمستودعات والتحصينات وغيرها وغيرها، تجهل كل
ما حصل ولا تسمع إلا البلاغات الكاذبة التي كانت تذيعها محطة الإذاعة،
فكانوا يفاجئون بالكتائب الإسرائيلية تقتحم عليهم حصونهم تقتل منهم من تقتل
وتأسر من تأسر، واستولت على أسلحة الجيش المصري التي كانت في الجبهة. كما
ترك لهم جمال عبد الناصر كل الطائرات المصرية وعددها حوالي 450 طائرة
مصفوفة فوق المطار، حيث جاءت الطائرات الإسرائيلية منذ صباح اليوم الأول
(5حزيران) فدمرتها عن آخرها، ثم صدرت الأوامر إلى كل الجيش بالانسحاب على
غير نظام إلى غربي قناة السويس، حيث سلّم جمال عبد الناصر صحراء سيناء كلها
إلى إسرائيل وفيها منابع البترول والمعادن المختلفة.
وأهم من ذلك، البعد الاستراتيجي الذي يؤمن الحماية لإسرائيل، وأهم من هذا
أنها جزء مما يسمونه "أرض الميعاد" حيث ارتفعت معنويات اليهود الدينية إلى
الأوج، وصاروا يرون أنفسهم في الطريق إلى تحقيق الأسطورة اليهودية. وصار
موشى ديان بطلاً اسطورياً، وكانت كثير من الصحف وكثير جداً من رجال الدين
وغيرهم يرشحونه على أنه مسيح اليهود المنتظر، وكثير من المقالات التي كتبها
تواراتيون يهود كانت تلمح، وبعضها يصرح، أن موشى دايان يجب أن يستلم الحك
في إسرائيل سنة 1975م.
والملاحظ، أنه بعد حوالي عشرة أيام من مسرحية حرب 1967م، كان تمثال لموشى
دايان منصوباً في متحف الشمع بباريس، مع العلم أنه تهيئته في ذلك الوقت
كانت تحتاج إلى أكثر من ثلاثة شهور، وهذا يعني أن التمثال كان مهيأً قبل
ذلك، وهذا يعني أيضاً أن المسرحية كانت مرسومة قبل ذلك، وكانت الأدوار
موزعة على النظامين الماركسيين في مصر وسورية من قبل مجلس دراسات المحور
السري "تل أبيب ـ موسكو" لإظهار موسى دايان على أنه مسيح اليهود التوراتي
الذي ينتظرونه، لكن حرب 1973م نسفت مخططهم، ومدد انتظارهم لمسيحهم المنتظر
الذي هو بالنسبة للمسلمين "المسيح الدجال".
ومن المجازر التافهة التي لا تستحق أن تذكر لتفاهتها باخرة مصرية كانت
عائدة من اليمن إلى مصر، على ظهرها أكثر من ألفين من الجنود المصريين الذين
شوهتهم الحرب، وفي عرض البحر، أمر جمال عبد الناصر بإغراقها، وكان ذلك،
وغرق المشوهون وغرقت الباخرة المصرية.
وأظن أن القارئ العارف يعرف بدهياً، دون حاجة أن يقال له، إن قوارب النجاة
التي كانت قد تُركت في الباخرة كانت تكفي بالكاد لطاقم الباخرة والضباط
المكلفين بالإشراف على ترحيل هؤلاء الجنود المشوهين، وكلهم (أي الضباط
والطاقم) ناصريون.
وكان عدد الذين حُشروا في السجون الناصرية تحت التعذيب الجسدي والنفسي
المرير المستمر يزيد على ستين ألفاً، ولا تقدير لعدد المشردين. أما الذين
ماتوا تحت التعذيب أو شنقاً فقد لا يصل عددهم إلى مئة، وهو عدد تافه لا
قيمة له في القاموس الماركسي.
- وفي إندونيسيا، التي كانت مستعمرة هولندية، استقلت سنة 1949م بنظامها
الجمهوري، وفي 30سبتمر/أيلول/1965 حدث انقلاب شيوعي بقيادة وزير الداخلية
"أحمد عيديد" ومباركة رئيس الجمهورية "أحمد سوكارنو" دام أسبوعاً واحداً أو
أكثر بيوم أو يومين، قتلوا فيه من المسلمين ما يزيد على مئة ألف مسلم
ومسلمة.
بعد الانقلاب بيومين، أو ثلاثة، أخذت الأسلحة تتدفق على المسلمين، وخاصة
على أئمة المساجد وخطبائها حسب ما عند كل واحد من الرجال والنساء المستعدين
للجهاد، وصار المجاهدون يفتكون بالشيوعيين حتى قُضي على الانقلاب.
وقد قتل كثير من ضباط الجيش الإسلاميين منهم ستة برتبة جنرال، في مقدمتهم
رئيس الأركان "أحمد باني" وكان من الناجين الجنرال "أبو الحارث ناسوتيون"
الذي قفز من الطابق الثالث عندما أحس بقدومهم، فكسرت رجلاه واستطاع
الالتجاء إلى السفارة العراقية (سنة 1965)، واستطاعت فئة من المجاهدين
تحرير محطة الإذاعة، فأخذ أبو الحارث يدير المعارك في البلاد من محطة
الإذاعة وهو تحت المعالجة.
وللسائل أن يسأل من أين كان يتدفق السلاح على المسلمين، والجواب، كما رواه
أمامنا إندونيسيون، ومنهم موظفون في السفارة الإندونيسية في دمشق، كان
السلاح يتدفق على المسلمين من الأديرة المسيحية المنتشرة في إندونيسيا، كان
لديهم سابقاً بعض السلاح ثم عندما حدث الانقلاب، استجلبوا من مصادرهم
الأسلحة الوفيرة ووزعوها على المسلمين. وخرجت الدعاية بين المسلمين في كل
مكان تندد بالتبشير ونشاطاته في إندونيسيا وبعمليات التنصير الواسعة، وكانت
الدعاية غزيرة بحيث صارت حديث الناس وأعترف أنني صدقت الخبر وصرت أردده مع
من يردده.
ومرة، حوالي سنة 1969م، كنت جالساً في متجر صديق كان، أو كنا في ذلك الوقت
نُلحق أنفسنا بزمرة الشباب، وقادنا الحديث إلى إندونيسيا فذكرت ما قرأته عن
اتساع التنصير فيها، وكان يجلس معنا رجل تدل سيماه على أنه من شعوب شرقي
آسيا، وكان يبتسم ابتسامة المستهجن لما أقوله. وعندما أنهيت كلامي قال لي:
ماذا تقول؟ فقلت له إن هذا ما أقرؤه في الصحف، فقال: هذا كلام غير صحيح،
التبشير موجود في إندونيسيا، هم يعملون، ونحن المسلمين أيضاً نعمل، ولم
أسمع أبداً أن مسلماً تنصر، بل بالعكس نسمع عن مسيحيين دخلوا في الإسلام،
وإنما ينجح التبشير والتنصير بين الهندوس والبوذيين والصينيين (طبعاً، قد
لا تكون الألفاظ هنا هي نفس ألفاظه بدقة، لكن المعنى نفسه).
وعرفني صاحب المتجر به، فقد كان من أعضاء السفارة الإندونيسية في دمشق.
ومن البدهي أن القارئ المطلع يعرف (دون حاجة إلى أن يقال له) أن تركيز
الدعاية ضد التنصير، كان أشده في إندونيسيا بهدف أن يثور الشعب الأندونيسي
ضد المسيحيين هناك، فتكون الماركسية بذلك قد ثأرت من الأديرة المسيحية
بأيدي المسلمين، وتكون أيضاً قد ضخمت التناقضات بين المسلمين والمسيحيين
فينشغلون ببعضهم، وبذلك تصير الساحة أفسح للماركسية لتتغلغل بين الفريقين.
الذي يهمنا هنا هو أن عدد القتلى من المسلمين في أقل من عشرة أيام كان حوالي مئة ألف.
- وفي العراق البعثي، كان عدد القتلى، ما بين سنة 1968 حتى 1980 من الإخوان
المسلمين والسلفيين خاصة ومن الإسلاميين عامة يزيد على أربعين ألفاً
(وغيرهم كثير)، وكان عدد المشردين من السلفيين والأخوان المسلمين أكثر من
مئتي ألف في مقدمتهم الشيخ محمد محمود الصواف رحمه الله، وكان العدد في
الشيعة مثل هذا أو أكثر. وفي حروب العراق البعثي، كان الإسلاميون الملتزمون
يوضعون في المراكز الأمامية في الجبهة ليكونوا هم الأضاحي، وكان عدد
قتلاهم أكثر من مئتي ألف قتيل، وعدد القتلى العام حوالي ستمئة ألف،
وإحصاءات المعارضة ترفعهم إلى المليون، وعدد المحشورين في السجون قد يصل
إلى مئة ألف أو يزيد غالبهم من الإسلاميين. هذا عدا عن الذين فتنوا في
دينهم (والفتنة أشد من القتل) (والفتنة أكبر من القتل).
- وفي سورية البعثية، يقدرون عدد القتلى من الإسلاميين بشكل عام ومن
الإخوان المسلمين بشكل خاص بحوالي (64) ألف قتيل، وكان في السجون ما يزيد
على خمسة وأربعين ألفاً، أذاع النظام منذ سنوات، بعد أن أفرج على دفعات عن
حوالي ثلاثة آلاف سجين أن السجون أصبحت خالية، فإن صح هذا، فهو يعني أن عدد
القتلى ارتفع إلى أكثر من مئة ألف. هذا عدا الذين فتنوا في دينهم (والفتنة
أشد من القتل).
- وفي ليبيا الماركسية بقيادة القذافي، يقدر عدد القتلى بعشرات الألوف (قد
يزيدون على خمسين ألفاً) وعدد المشردين بعشرات الألوف، ومثلهم المعتقلون في
السجون من ربع قرن، هذا عدا الذين فتنوا في دينهم (والفتنة أشد من القتل)
(والفتنة أكبر من القتل).
- وفي اليمن الجنوبي في عهده الماركسي كان عدد المعتقلين الإسلاميين لأجل
غير مسمى يزيد على سبعة آلاف، والقتلى قريباً منهم، وفي سنة 1986 عندما
أراد علي ناصر أن يتخلص من الاستعمار الروسي "العقائدي الثقافي العسكري
الاقتصادي الاجتماعي" مع التزامه بالماركسية، تحركت القوات السوفياتية
الموجودة في اليمن الجنوبي وفي بحر العرب، اثنا عشر ألف جندي روسي قسم منهم
كوبيون، ومئات الدبابات والطائرات التي كانت تنطلق من مطار خاص بالقوات
الروسية في اليمن الجنوبي والبوارج الروسية التي كانت تضرب (بل تدمر) عدن
من خليج عدن، وعلى إحدى هذه البوارج أقيمت محطة إذاعة يمنية جنوبية باسم
القوات الشيوعية التي تقاتل قوات علي ناصر. وكان إذاعة عدن قد دمرت من قبل
البوارج الروسية.
وحسب إذاعة اليمن الجنوبي المنطلقة من البارجة الروسية كان عدد القتلى (13)
ألفاً فقط من اليمنيين وهو عد أتفه من تافه!! ثلاث عشر ألف قتيل مسلم
فقط!! وقد قال لنا ضابط من ضباط اليمن الشمالي، كان مركزه أثناء تلك
المعارك على حدود اليمن الجنوبي، إن التقارير التي وصلتهم من مصادرهم
(الرسمية) المنبثة في اليمن الجنوبي في المراكز الحساسة تؤكد أن عدد القتلى
أكثر من تسعين ألفاً.
ورغم أن أي مطلع على الأساليب الماركسية يعلم علم اليقين أن الرقم (13) ألف
قتيل الذي أذاعوه هو جزء من الحقيقة. ورغم ذلك فنأخذ به هنا، ونقول إن عدد
القتلى (13) ألف مسلم فقط. أما المشردون فقد كان الذين التجؤوا إلى اليمن
الشمالي فقط يقدرون بأربعين ألفاًن كثير منهم من الذي فتنوا في دينهم، من
أنصار علي ناصر. طبعاً، هذه الأرقام خارج دائرة الذين فتنوا في دينهم
فصاروا ماركسيين (والفتنة اشد من القتل) (والفتنة أكبر من القتل).
- وفي نيجيريا التي كانت مستعمرة إنكليزية، أعلنت جمهورية مستقلة سنة 1963،
حوالي خمسة أسباع سكانها مسلمون، والباقون مسيحيون ووثنيون (فيتشيُّون).
في كانون ثاني 1966 نجح انقلاب شيوعي قاده الميجر كادونا، وعلى الأثر
استولى قائد الجيش الجنرال "ايرونسي" على الحكم، وهو طبعاً شيوعي، وبدأ
تقتيل المسلمين وغيرهم من اللاماركسيين، ولكن القتل في المسلمين كان جنوني
السعّار، وبفضل من الله سبحانه لم يطل العهد الشيوعي.
ففي شهر آب من تلك السنة نجح يعقوب جوون (وهو مسيحي) بقلب الحكم الشيوعي،
ورفع القتل عن المسلمين. ومع أن الشيوعيين لم يسيطروا سوى بضعة أشهر، مع
ذلك فقد كان القتلى من المسلمين بمئات الألوف، وكان المشردون أقل من ذلك،
ويظهر أن المعتقلين كانوا قليلين، بالألوف فقط.
- وفي الجزائر في عهدها الشيوعي بقيادة هواري بومدين كان القتلى بعشرات
الألوف والمعتقلون تحت التعذيب مثلهم، ويظهر أن المشردين كانوا قليلين
يعدون بعشرات قليلة من الألوف.
أما الجزائر في عهدها الحالي بقيادة اليمين زروال، فيعرف كل من يرى بعينه
ويفهم بعقله أن كبار ضباط الجيش والمخابرات هم من خريجي الكلية العسكرية في
عهدها الشيوعي برئاسة هواري بومدين، حيث ما كان يقبل في كليات الجيش إلا
الماركسيون، وهذا يعني أن المجازر التي تجري الآن في الجزائر في القرى التي
تظن نفسها آمنة، وفي المجتمعات الإسلامية المتدينة التي ينتسب كثير من
رجالها ونسائها إلى التنظيمات الإسلامية هناك، هذه المجازر تجري على أيدي
الماركسيين الذين يسيطرون على المخابرات والجيش.
لكن العجب العجاب أن كلمة واحدة لا تخرج من المسلمين ضد الماركسيين،
فالماركسية مقدسة لا تمس، لها أن تفعل ما تشاء ويجب علينا أن نسبح بحمدها
ونحارب أعداءها مضحين بكل شيء في سبيلها حتى بإسلامنا!!؟؟.
وصدق رسول الله عندما وصف مجتمعاتنا الحالية بأنها غثاء كغثاء السيل.
- وفي الصومال، كان الماركسيون يقتتلون مع الأحزاب الأقل ماركسية، لكن
القتل الواسع والمجازر الرهيبة كانت تحدث في صفوف المسلمين على أيدي
الشيوعيين بقيادة "أحمد عيديد" (الصومالي وليس الأندونيسي)، وقتل من
المسلمين مئات الألوف، وعندما جاء الجيش الأميركي ليوقف المجازر التي يعاني
منها المسلمون شر معاناة ويدفعون النصيب الأكبر الأكبر من الدماء التي
تهدر، ومن التشرد، لكن الاعتقالات قليلة، فالقتل عند ماركسييهم أهون من
إطعام المعتقلين.
عندما جاء الجيش الأميركي ليوقف هذه المجازر، ثارت ثائرة الغثاء واندفعوا
يهاجمون أميركا والجيش الأميركي، لكن بحجة فيها احتياط ماكر، فيها احتياط
من أن ينتبه الغثاء المجروف بسيل الشعارات الماركسية، فقالوا، أو قيل لهم
(للغثاء): إن الجيش الأميركي جاء ليلتف على السودان والصومال.
إن الطامة الكبرى عند الماركسيين وعند هذا الغثاء هي أن يأتي من يرفع
السكين الماركسية عن رقاب المسلمين. وهذه الحالة ليست مختصة بالصومال، بل
هي عامة. ففي أي مكان في هذا الزمن عندما تتحرك الماركسية أو أي كُفر له
ارتباط بالماركسية لاحتلال بلد إسلامي وإزالة الإسلام منه، يهلل الغثاء
ويفرحون ويطربون، فلقد وصلوا إلى درجة من الغثائية أن صاروا يرون الماركسية
هي الإسلام، ويرون الإسلام هو الكفر، ومن يعمل للإسلام هو الكافر، والعجب
العجاب أنهم يسمون هذا الضلال السافر "صحوة إسلامية" وصدق رسول الله
عندما قال: ((كيف بكم إذا رأيتم المنكر معروفاً والمعروف منكراً)).
لقد جرف سيل الشعارات الماركسية الغثاء، كما يجرف سيل الماء غثاء المرعى. فما هي هذه الماركسية؟
حقيقة الماركسية
الماركسية كفر واحد، تعددت أسماؤها لخداع الغثاء ((شيوعية، ناصرية، حزب
بعث، اشتراكية، اشتراكية قومية، اشتراكية دولية، اجتماعية، راديكالية ..))،
أسماء متفرقة لمسمى واحد.
وقد عرّف مرة أكرم الحوراني الاشتراكية في محاضرة له أمام شباب من حزبه
بقوله: ((الشيوعية ما عَمْ يقبلوها، عَم نعطيهم إياها برشامة ورا برشامة)).
- أسطورة الشعب المختار:
والماركسية، بجميع أسمائها ((شيوعية، راديكالية، ناصرية، حزب بعث،
اشتراكية، كتاب أخضر، اشتراكية دولية، اشتراكية قومية، قومية عربية
(يسارية) ..)) هل التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار التي تقول:
((اليهود شعب الله المختار، الأرض ملك لهم، البشر بهائم خلقوا لخدمتهم)).
فإذا فكرنا وفكرنا وفكرنا، وجئنا بعشرات الملايين من البشر ليفكروا معنا
كيف يمكن تحقيق هذه العقيدة؟ لما وجدنا إلا طريقة واحدة، هي أن يستلم
اليهود الحكم ويجعلوا وسائل الانتاج الثابتة والمتحركة وما يتبعها أو يتعلق
بها ملكاً لهم. وهذا ما سمّوه "التأميم".
منذ أن اخترع بعض كتاب "التوراة" هذه العقيدة وأدخلها في بعض أسفارها، وآمن
بها قومها، وهم يحاولون تطبيقها في كل بلد استطاعوا التحرك فيه:
- الآسينيُّون، في منطقة "قمران" على شاطيء البحر الميت الغربي، وقد قضى
عليهم الوالي الروماني "تيتوس" سنة 70م، وقد "تقيصر" تيتوس بعد موت أبيه
القيصر "فيسباسيان".
- مزدك في فارس في عهد كسرى "قباذ" وقد قضى عليه وعلى جماعته أنوشروان بن
قباذ في حياة أبيه. والروايات تدل على أن الملك الضليل الشاعر امرأ القيس
واباه كانا مزدكيَّين.
- أبو رغال، في الطائف، الذي ارسل أكثر فصائله مع جيش أبرهة عندما سار إلى
مكة لهدم الكعبة. فقُضي على فصائله وعلى جيش أبرهة بالطير الأبابيل ترميهم
بحجارة من سجيل في عام الفيل، وبذلك ضعفت قدرة أبي رغال، فثار عليه أهل
الطائف، فهرب حتى لحقوه قبيل مكة وقتلوه وصار كل من يمر على قبره يرمي عليه
حجراً حتى جاء الإسلام فأبطل هذه العادة.
- القرامطة في البحرين( )، وقد قضى عليها نظام الملك وزير السلاجقة
بالمدارس التي أنشأها في مدن القسم الشرقي من العالم الإسلامي، حيث صار
يتخرج بهذه المدارس مئات العلماء كل سنة، يوضحون للناس حقائق الإسلام
وحقائق الباطنية التي يقوم عليها دين القرامطة. وهكذا صارت القرمطية تضمحل
شيئاً فشيئاً حتى زالت دولتها وبقي كثير من أتباعها، حيث انضم أكثرهم فيما
بعد إلى الشيعة الاثنا عشرية المتاولة، وقد كانوا قبل ذلك من السَبعية
الإسماعيلية قبل أن تنقسم إلى نزارية (آغاخانية) ومستعلية (بُهْرة) وهم
الذين هدموا الكعبة سنة 317هـ/930م، وأخذوا الحجر الأسود إلى الدمام ثم
ارجعوه بعد (22) سنة وكانوا بقيادة أبي طاهر، سليمان بن الحسن الجنّابي.
- الفاطميون وهم أيضاً سبعية إسماعيلية، حكموا مصر طيلة أكثر من قرنين، قضى
عليهم صلاح الدين الأيوبي سنة 569هـ، بتحضير وتخطيط وتوجيه من نور الدين
الشهيد (محمود بن عماد الدين زنكي) وفي حدود اطلاعي، لم أقرأ في كتب
التاريخ شيئاً عن أنهم جعلوا كل شيء ملكاً للسلطان مثل المذكورين آنفاً.
ولم أرَ ذلك إلا في كتاب "سفرنامة" لناصر الدين خسرو. وهو إسماعيلي من بلاد
فارس حج إلى مكة في حوالي منتصف القرن الخامس الهجري أو بعده بقليل،
وابتدأ حسب المذهب الإسماعيلي بزيارة إمام الوقت الخليفة الفاطمي المستنصر
بالله، وذكر مشاهداته في مصر، ومنها أن كل المحلات التجارية والبيوت هي ملك
للخليفة يستأجرها الذين يشغلونها بأجور سنوية تتراوح بين دينار واحد
وعشرين ديناراً. وهذا يفسر ثراء الفاطميين الذي لم مثيل في التاريخ.
يكاد يجمع المؤرخون، أو أكثرهم على الأصول اليهودية للقرامطة والفاطميين.
واسلوب حياة الخليفة الفاطمي "الحاكم" يدل بوضوح على أنه كان يُعد لأن يكون
مسيح اليهود المنتظر.
والذي يريد استقصاء هذه الأحداث وأمثالها، فأمامه كتب التاريخ المختلفة.
ومنذ القرن السابع عشر الميلادي، صار مفكروا اليهود يضعون النظريات
والتخطيطات لتحقيق أسطورة الشعب المختار، وقد ساعدهم في ذلك كثير من
البروتستانتيين.
ويؤكد المؤرخون الغربيون على أن بعض علماء اللاهوت البروتستانت هم الذين
كانوا يحرضون اليهود للتحرك على أنهم شعب الله المختار، وأن كثيراً من
البروتستانت، أو أكثرهم، كانوا يساعدون أو يعملون على إيجاد وجود يهودي في
فلسطينمن أجل تحقيق عقيدة القيامة عند المسيحيين، والتي تتلخص بما يلي:ينزل
المسيح باعتباره الإله الابن، إلى جوّ الأرض، ويسحب المؤمنين به إليه
ليجتمعوا عنده، فتأتي نار تحرق نصف اليهود الموجودين في فلسطين، أو ثلثيهم،
وعندئذ يؤمن الباقون بالمسيح الإله، ويؤمن كل البشر، فينزل المسيح إلى
الأرض ليحكم العالم من القدس طيلة الف سنة، حيث يسود السلام والوئام وتزول
الحروب والشرور، ثم يبعث الموتى من القبور للدينونة أمام المسيح، فيدخل
المؤمنين به إلى الجنة، ويدخل الكافرين إلى جهنم.
وقد استغل زعماء اليهود هذه العقيدة في اختراق النصارى، ونجحوا في مساعيهم
في هذا الباب نجاحاً كبيراً بين البروتستانت، وقد ساعدهم على هذا الاختراق
كون البروتستانت يعتمدون العهد القديم (التوراة) مثل اعتمادهم العهد الجديد
(الأناجيل وأعمال الرسل والرسائل). بل يظهر من مذهبهم المحدثة الكثيرة
الكثيرة، ومن كتاباتهم الدينية أنهم يقرؤون العهد القديم أكثر من قراءتهم
للعهد الجديد.
أما الكاثوليك فقد كانوا على عكس ذلك، حيث كانت قراءة العهد القديم مقصورة
على رجال الدين، أو على كبارهم فقط، وكانوا يفسرون نصوصه بما يتفق ومعطيات
العهد الجديد. وكان اختراق اليهود للكنيسة الكاثوليكية بطيئاً واصطدم بعدة
صعوبات. وكان الفاتيكان ضد وجود إسرائيل في فلسطين منذ أن ظهرت هذه الفكرة
وظهرت الدعاية لها. فمثلاً وجه الفاتيكان سنة 1922م مذكرة إلى عصبة الأمم
يعارض فيها إقامة دولة لليهود في فلسطين. وفي سنة 1943 أرسل مذكرة على
حكومة الولايات المتحدة الأميركية يؤكد فيها معارضته، وفي سنة 1944م أرسل
مبعوثاً خاصاً إلى حكومة الولايات المتحدة للتحذير من الاستجابة إلى
المطالب الصهيونية.
لكن الملاحظ أن البابا وهو "بي الثاني عشر" أو "جينيو باسيلّي" وجّه في تلك
السنة 1944م رسالة إلى الكاثوليك المؤمنين يوصيهم بقراءة الكتاب المقدس
(بعهديه القديم والحديث) كل يوم، وهو، وإن كان قد ركز في وصيته هذه على
قراءة الأناجيل، لكنه مع ذلك جعل قراءة العهد القديم واجبة بعد أن كانت
مهملة، وبهذه القراءة المستحدثة للعهد القديم بدا الكاثوليك يتسرب إليهم
العطف شيئاً فشيئاً على إقامة دولة إسرائيل في فلسطين ..
وفي سنة 1969م أقر الفاتيكان وثقة تقول: ((إن على الكاثوليك أن يعترفوا
بالمعنى الديني لدولة إسرائيل بالنسبة لليهود، وأن يفهموا أو يحترموا صلة
اليهود بتلك الأرض)).
ومع هذا وغيره من التدرجات الكثيرة المناقضة في الأصل للعقيدة الكاثوليكية،
فإن الفاتيكان لم يعترف رسمياً بإسرائيل إلا في آخر سنة 1993م. إنني أذكر
هنا العناوين الكبرى، أو الخطوط الكبرى لمسيرة التاريخ في هذه الأحداث. وفي
سنة 1947 و1948م عندما عرضت قضية فلسطين على الأمم المتحدة، كان المشروع
الذي قدمته إنكلترا إلى الأمم المتحدة هو مشروع الكتاب الأبيض الذي صدر سنة
1939 مع بعض التعديلات القليلة وقد وافقت عليه الولايات المتحدة.
يتلخص مشروع "الكتاب الأبيض" بأن تكون فلسطين مملكة، ملكها عربي مسلم،
ولليهود فيها منطقة لا يجوز لهم شراء أرض خارجها ولهم ثلث الوزارات.
في واقع الأمر، وبالنسبة لتلك الظروف، حيث كانت البلاد العربية مستعمرة،
يسيطر عليها تلك الدول التي تريد أن يوجد اليهود في فلسطين، كان مشروع
الكتاب الأبيض هو أحسن وأقصى ما يمكن أن يحصل عليه الفلسطينيون، وقد تحمس
له، أو قبله كل الذين يرون الواقع بأعينهم، وكان الملك عبد الله (الأمير
آنذاك) يطمع أن يوحد فلسطين وشرقي الأردن، وأن يكون هو الملك، وصار يخطط
لذلك ويعمل له.
لكن القيادة الصهيونية ما كانت تريد ذلك لأنه لا يصلح لأن يكون الخطوة
الأولى لتحقيق أسطورة الشعب المختار، وإنما كان موافقاً فقط لعقيدة القيامة
عند المسيحيين، وخاصة البروتستانت.
ويجب أن ننتبه هنا على أن القيادة الصهيونية كانت تحاور وتساوم كل حزب أو
جماعة من الجماعات الغربية حسب معتقدات هذا الحزب أو الجماعة ومبادئه، مع
العلم أن عقيدة القيامة كانت مقبولة، وتؤمن بها غالبية الغربيين، حتى
العلمانيين منهم. وعندما أرادت بريطانيا أن تقدم مشروع الكتاب الأبيض إلى
الأمم المتحدة، تحركت القيادة الصهيونية لتغييره أو تعديله، واستطاعوا أن
يغيروا فيه شخصية الملك، فبدلاً من أن يكون مسلماً عربياً، صار مسلماً غير
عربي.
رُشّح لهذا المنصب أولاً، ابن عم للملك فاروق، فرفض، ثم رُشح له محمود
شكيب، ابن عم السلطان عبد الحميد، وكان مقيماً في مصر، فوافق شريطة أن
يوافق الفلسطينيون.
تحمّس كثير من الذين يلمسون الواقع كما هو ولا يعيشون في الأحلام، وصاروا
يحاولون إقناع القيادات الفلسطينية بقبوله، وكان على رأس المتحمسين اللواء
عزيز المصري "أبو الثورة المصرية" وصار يتصل بالقيادات الفلسطينية، فوافق
بعضهم ومنهم المفتي أمين الحسيني، على خوف من التيار المخالف أن يتهمهم
بالخيانة.
ولأن القيادات الصهيونية ما كانت تريد ذلك، لذلك أوعزت إلى كوادرها في
الأحزاب اليسارية أن تهاجم هذا المشروع على أنه خيانة للأمة العربية
ولفلسطين، وكان ذلك، وسرت الدعاية الرمادية في الجماهير العربية والإسلامية
تندد به وتحاربه، وخرجت المظاهرات الشعبيــة تنادي بسقوطه وسقوط وعـد
"بلفور".
وسقط المشروع وسقط معه وعد بلفور، ونجح المشروع الماركسي السوفياتي الذي
نادى بالتقسيم، وبإقامة دولة إسرائيل. وكان ذلك. وكانت مجتمعاتنا الغثائية
وغالبية قياداتنا الفكرية هي التي دعمت التقسيم وكانت السند لإقامته وهي
تظن نفسها أنها تعمل ضده. وصدق رسول الله عندما وصفنا بـ ((غثاء كغثاء
السيل)). (يأتي السيل فيجرف الغثاء، فلا يعرف الغثاء نفسه من أين جاء؟ لأنه
غثاء، ولا يعرف إلى أين هو ذاهب؟ لأنه غثاء، ولا يعرف إن كان هناك سيل؟
لأنه غثاء).
- التقسيم وإقامة إسرائيل مشروع ماركسي:
والذي يريد أن يعرف أن الاتحاد السوفياتي هو الذي أقام إسرائيل، فما عليه
إلا أن يرجع إلى وثائق الأمم المتحدة. وقد أورد الدكتور عمر حليق في كتابه
((موسكو وإسرائيل)) حوالي ثمانين وثيقة منها، ويستطيع أن يرجع إليها كل من
يريد معرفة الحقيقة.
إن الجميع عندنا يسمعون بوعد بلفور، وينادون بسقوط وعد بلفور؟! مع العلم أن
الذي طبق عام 1948 هو قانون لينين الذي صدر قبل وعد بلفور بأيام، بل كانت
الأحزاب والصحف الماركسية تروّج له وتدعو له قبل وعد بلفور بأكثر من خمس
عشرة سنة. ومع ذلك لا يوجد من يسمع بقانون لينين إلا أفراد قلائل، ولعلنا
لو فتشنا عنهم في مجتمعاتنا لما رأيناهم يعدون إلا بمئات قليلة، وسبب ذلك
هو أن الدعاية الماركسية المنهجة بناءً على قواعد علم النفس وعلم النفس
الاجتماعي، أو بالأصح بناءً على علم استنبطه أولاً حكماء صهيون من تجاربهم
بين الشعوب الغافلة طيلة القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، حيث كانوا ينشرون
في المجتمعات الأفكار والشعارات التي يصوغونها في أول الأمر بناء على
اجتهاداتهم، ثم يرون نتائج هذه الأفكار والشعارات في تصرفات المجتمعات،
فيعدلون ما يعدلون ويضيفون ما يضيفون، ويلغون ما يرونه غير ناجح، وهكذا
وجدت بروتوكولات حكماء صهيون.
جاء لينين وانطلق من بروتوكولات حكماء صهيون، أخذ ينشر أفكارها وشعاراتها
في المجتمعات السوفياتية الغافلة والمخدوعة بواسطة كوادر الحزب البلشفي،
ويدرس هو وحكماء يهود الماركسيون الذين كانوا يرون أن الحركة الصهيونية
حركة خيالية عقيمة لا يمكن أن تحقق أسطورة الشعب المختار، وأن الماركسية،
عندما تسيطر على شعوب الأرض، فهي التي تحقق تلك العقيدة. وبإيجاز، إن
الماركسية هي التطبيق العملي لأسطورة الشعب المختار. كان حكماء اليهود
الماركسيون يعارضون الصهيونية ويحاربونها ويرونها خطراً على العقيدة،
الأسطورة اليهودية، وصاروا يقومون بتجاربهم التي ذكرناها آنفاً منطلقين من
البروتوكولات التي رأوا بتجاربهم أن غالبيتها العظمى صحيحة فاعتمدوها، وأن
قليلاً منها بحاجة إلى تعديل فعدّلوها، وأن أقل من القليل غير صحيحة
فحذفوها، ثم أضافوا إليها قواعد جديدة استنبطوها من تجاربهم، وبذلك حصلوا
على، مجموعة من القواعد التي تنسب إلى لينين والتي نراها مبثوثة في كتب
لينين وفي مقالاته، وكانت سابقاً تسمى "الماركسية" فصارت بعد تلك الإضافات
والتعديلات تسمى "الماركسية اللينينية".
ثم طُورت في زمن ستالين على يد باحثين يهود أوجدوا لها علماً قائماً بذاته،
وهو ما سموه "آجيبرو"، والكلمة مركبة من كلمتين لاتينيتين هما باللغة
الفرنسية Agitation, Propagande أي "تحريض، دعاية"، ومعناها المعنوي هو
"علم تسخير الشعوب"، وأن أسميه الاسم الصحيح الذي يجب أن يسمى به، وهو "علم
الدجل"، لأن الرسول سماها كذلك، فهي الفتنة التي ينطبق عليها الاسم
"فتنة الدجال" بالتمام والكمال، ونحن الآن في إفساد يهود الأول، نعيش مرحلة
متطورة منها، وعندما تبلغ ذروتها في الإفساد الثاني، يظهر المسيح الدجال،
وهو شخص مثل لينين وماوتسي تونع وجمال عبد الناصر وصدام حسين والقذافي
وحافظ الأسد، لكن يكون دائماً منتصراً ولا تقف في وجهه جيوش أميركية، ولا
حلفاء ولا غيرها. فيفتن به من يُفتن وهم الأكثرية، ويؤلهه من يؤلهه، ويعصم
الله سبحانه منه من يريد أن يعصم. وإن أولئك الذين يظنون أن المسيح الدجال
هو شخصية خرافية سحرية بناء على حديث، هو، في أحسن حالاته شاذ (والشذوذ
علة قادحة)، هؤلاء سوف يكونون من أتباع الدجال إن لم يتداركهم الله سبحانه
برحمته.
- وعلى سبيل المثال، أذكرن أن القاعدة التي كانوا في العشرينات وحتى قبيل
منتصف الثلاثينات يتخذونها كقاعدة رئيسة، هي القاعدة التي تقول "الصغار
ينسون والكبار لهم القبور"، وهذا يعني: اقتل، أبد، دمّر، فالصغار ينسون
والكبار يموتون.
- ثم منذ قبيل منتصف الثلاثينات، حلت محلها كقاعدة رئيسة، القاعدة التي تقول: ((اكذب، ثم اكذب، ثم اكذب وسوف تصدق الكذبة)).
- وقاعدة "ركوب الموجة" التي يظهر لي أنهم اكتشفوها في الثلاثنيات، ولم
يكونوا منتبهين لها قبل ذلك، وعلى اساسها وجدت فكرة ركوب موجة القومية
العربية الأولى التي كانت قومية متدينة، أو كما صاروا يسمونها بعد ذلك
"القومية العربية اليمينية" وصارت تُنعت هي وكل التوجهات الدينية بالرجعية،
وظهر إثر ذلك القوميون العرب اليساريون، وحزب البعث العربي. والحزب العربي
الاشتراكي (اللذان توحدا بعد ذلك تحت اسم حزب البعث العربي الاشتراكي)، ثم
الناصرية، وكل قيادات هذه الأحزاب مرتبطة بمركز القيادة الماركسية في
موسكو ومنبثقة عنه وتعمل لتحقيق أسطورة الشعب المختار بخداع المغفلين
واستغلالهم، ما عدا أكرم الحوراني الذي كان من المغفلين النافعين، وبعض
أمثاله الذين وُضعوا خارج اللعبة.
- بعد الحرب العالمية الثانية، كانوا قد توصلوا بتجاربهم بين الشعوب
الغافلة، إلى أن هناك قاعدة أخرى من القواعد الكثيرة المعمول بها، هي أكثر
أهمية، وهي القاعدة التي تقول "يجب أن نعرف طبيعة المجتمع لنستطيع توجيهه"،
فأحلوها المقام الأول في مخططهم، وعلى هذه القاعدة وجد حزب يحمل لافتة
إسلامية ويعمل للماركسية وتحقيق سيطرتها على بلادنا، وكوادر هذا الحزب
يعملون له بإخلاص وتفان ظناً منهم أنهم يعملون للإسلام. وهنا يكمن الخطر
الأكبر، لأنهم مستعدون للتضحية في سبيل ما يظنونه أنه في سبيل الله سبحانه.
- بقيت القاعدة الآنفة هي القاعدة الرئيسية بين القواعد الكثيرة المعمول
بها في الدعاية الشيوعية حتى أوائل الثمانينات، عندما ظهرت
""البيروسترويكا"" أي "الترميم الثاني" والقاعدة الرئيسة المستحدثة فيها
هي: "يجب أن ننبثق من خصوصيات المجتمع".
بناء على هذه القاعدة الغوا الدعاية البيضاء من تكتيكهم، وبقي اعتمادهم على
الدعاية الرمادية كما كان، وكثفوا اهتمامهم بالدعاية السوداء. (الدعاية
البيضاء هي التي يُعرف مصدرها، والرمادية هي التي تسري في المجتمع دون أن
يعرف مصدرها، والدعاية السوداء هي التي تصدر حسب الظاهر، عن جماعات يظنون
أنفسهم أنهم يكافحون في سبيل غاية أخرى مختلفة، ويظنهم الناس كذلك).
والغوا قاعدة "الطريق الروسي إلى الاشتراكية" بالنسبة لأكثر مناطق العالم
وطوروها بالنسبة للأنظمة اللاماركسية الموجودة في ما يسمونه "أرض الميعاد"
والغوا قاعدة "حرق المراحل" وأجّلوا قاعدة "نشر الإلحاد ومحاربة الأديان
غير اليهودية" وخففوا من شعار "صراع الطبقات" وشعار "صراع التناقضات"
وعدّلوا بعض القواعد الأخرى.
ومقابل ذلك، ضاعفوا اهتمامهم بقاعدة "الصراع مع الطبقة الحاكمة" وخاصة في
النظامين اللذين يشغلان الجزء الكبير مما يسمونه "أرض الميعاد" واللذين لم
تفلح كل محاولات المحور الصهيوني الماركسي بمركستهما، وهما السعودية
والأردن.
لقد قضت إرادة الله سبحانه أن يكون الوقوع في الخطأ من عناصر النفس
الإنسانية، فالإنسان الذي لا يغلط بقوله أو بعمله غير موجود، حتى الأنبياء
قد يغلطون فيما لا يوحى إليهم به، وإنما عصمتهم بالوحي، وبدهي أن نسبة
الوقوع في الغلط عندهم هي أقل بكثير بكثير من نسبته في غيرهم.
والأنظمة اللاماركسية تقع في الأخطاء وجوباً، لأن القائمين عليها هم من بني
الإنسان العاديين يخطئون ويصيبون، مع العلم أن مجموعة أخطاء أكثرهم وقوعاً
في الخطأ هي أقل سوءاً من أصغر سيئة في الأنظمة الماركسية، وكل ما في
الأنظمة الماركسية هي سوء وشر مقصود، لذلك لا يقال عن سيئاتهم إنها أخطاء.
بل الأخطاء في الأنظمة الماركسية هي ما يصدر عنها من أعمال فيها شيء من
الخير. وهذا شيء يراه كل من يرى بعينيه لا بأذنه.
لكن العجب أن الغثاء يضخم أغلاط اللاماركسيين بالتكرار والتكرار والتكرار،
ويهمل كل حسنة من حسناتهم، بل ويخترع الاتهامات الكاذبة التي يلصقها بهم ما
هو أكثر من أغلاطهم.
بينما نرى أن العكس تماماً يحدث بالنسبة للأنظمة الماركسية، فالدمار الذي ينشرونه في كل مكان هو مكتسبات ثورية.
والفقر والجوع والتشرد والإبادة هي منجزات تقدمية، ويخترع الجواسيس والغثاء
للأنظمة الماركسية من الحسنات ما ليس له وجود وبالتكرار والتكرار والتكرار
والتكرار يصدق الغثاء ويصدق الناس، فنرى الغثاء يكذب ويكذب ويدبّج كذبته
لمصلحة اليسار وهو في قرارة نفسه يعرف أنه يكذب، ومع ذلك يصدق كذبته، ويكذب
ويكذب ضد أعداء اليسار ويدبّج كذبته، وخاصة ضد الذين يعملون للإسلام
والذين يشكل وجودهم عقبة أمام إسرائيل الكبرى، ويصدق كذبته، وهو يظن نفسه
أنه مجاهد في سبيل الله إن كان ذا عاطفة إسلامية، ويظن نفسه أنه يعمل
لمصلحة الإنسانية إن كان ذا عاطفة إنسانية. ثم يأتي هو والمغفلون النافعون
والغافلون الذين يشكلون الغالبية العظمى من الغثاء، ويرددون ما يسمعون،
وتتراكم الأكاذيب وتسري في مجتمعاتنا دعاية رمادية( ) لا يُعرف مصدرها،
وهكذا تُحقن العواطف والعقول بالحقد على الأنظمة التي تقف عائقاً أمام المد
الماركسي بشكل عام والتي تقف عائقاً أما إسرائيل الكبرى بشكل خاص.
- الأنظمة الماركسية:
إن الأنظمة الماركسية، كائناً اسمها ما كان، هي ولايات إسرائيلية؛ أفراد
قليلون جداً من قياداتها الفعلية يظهرون على المسرح بلافتات وشعارات تعجب
الجماهير المخدوعة، والغالبية العظمى من هذه القيادات الفعلية تقبع وراء
الكواليس.
والذي يريد الوصول إلى المعرفة اليقينية لهذه الحقائق، فليرجع إلى الكتب
الوثائقية الكثيرة التي صدرت عن أناس اطلعوا على حقائق الأحزاب الماركسية
من داخلها، لكنهم كانوا يحملون ضميراً حياً أبى عليهم إلا أن يرفضوا الحزب
ويفضحوه ـ وقليل منهم لم يكونوا حزبيين، وإنما رأوا بأعينهم مجريات الأمور
وكيف كانت أقوال قادة الحزب ودعايتهم تخالف أفعالهم جملة وتفصيلاً.
من هذه الكتب كتاب "موسكو وإسرائيل" لمؤلفه عمر حليق، وكتابا "سقوط
الجولان" و "من ملفات الجولان" لمؤلفهما خليل مصطفى، ضابط استخبارات الجبهة
السورية طيلة عشر سنوات، وكتاب "الشيوعية منشأً ومسلكاً" لدندل جبر، وكتاب
"تجربتي مع الماركسية" لطارق حجي، وكتاب "ومشيناها خطاً" لأحمد سليمان،
و"مذكرات حردان التكريتي"، وكتب إلياس مرقص وإبراهيم الحلو، وكتب سامي
الجندي الذي كان قيادياً في حزب البعث، وشعر ولمس الأمور الغريبة العربية
التي تجري داخل الحزب وفي كل تصرفاته التي تخالف أقواله، لكن الانطباع
المثالي والصورة الزاهية التي كان يحملها لحزب البعث بسبب الدعاية المنهجة
والحماس الذي كان يهيمن على إحساساته في العمل في سبيل قضية العروبة التي
آمن بها، وأيام صباه وشبابه التي قضاها في ذلك العمل مع الحقد الذي حقن به
على الرجعية والاستعمار، والرجعية هنا تعني الإسلام ومن يعمل للإسلام، وقد
قرنوها بالاستعمار والصهيونية لتشترك معها بالكراهية، كل هذا كان يقف سداً
منيعاً لا يسمح له برؤية ارتباط البعث خاصة والماركسية عامة باليهودية
وبإسرائيل، لذلك كان يلقي وزر الجرائم البعثية على بعض الأفراد ويظهر أنه
أحس بوجود أنفاس يهودية، لكنه لم يتبينها، فألف كتاباً أسماه "عرب ويهود"
إلى جانب كتبه الأخرى. ومثله منيف الرزاز الذي شعر بالسلوك البعثي الغريب
المريب، لكنه لم يستطع أن يتبين الأصابع اليهودية، وألف كتاباً أسماه
"التجربة المرة". وهناك كتب كثيرة لم يقرأها المسلمون، لأن المسلمين في هذا
العصر لا يقرؤون وإذا قرؤوا فلا يقرؤون إلا ما تقدمه لهم الماركسية ومن
ورائها الصهيونية.
إن إسرائيل منذ وجدت قبل خمسين سنة وهي تستعمل في دعايتها أسلوباً لم تر
أبداً حاجة إلى تغييره أو تعديله، إنها تشتم أصدقاءها الحقيقيين ويشتمونها،
وتتظاهر بأنها تخاف منهم وأنهم العدو الخطر عليها، ويتظاهرون بمثل ذلك،
فنحبهم نحن لأنهم في أعيننا أعداء لإسرائيل، ونستسلم لهم جنوداً مخلصين،
وندافع عن الذين يقفون عقبة أمام المد اليساري وأمام إسرائيل الكبرى،
ونمدحهم، فنبغضهم نحن ونسعى للقضاء عليهم بكل ما نستطيع، أي إنها تجندنا
لإزالتهم من طريقها.
وقد يتساءل المتسائلون عن اللغز في هذا الأمر؟
والواقع أنه لا يوجد لغز، وكل ما في الأمر أن أميركا وإنكلترا
البروتستانتيين لا تريدان أكثر من وجود يهودي في فلسطين لتحقيق عقيدة
القيامة عندهم التي رأيناها قبل صفحات، ومثلهم أكثر الباقين، وحكماء اليهود
يستغلون هذه العقيدة لديهم ويذكونها بأساليب مبنية على قوانين علم النفس
وغيره من العلوم، لكنهم، أي حكماء صهيون، يعملون على تحقيق عقيدتهم "اليهود
شعب الله المختار، الأرض ملك لهم، البشر بهائم خلقوا لخدمتهم"، وهذا ترفضه
الدول الغربية وأحزابها، إلا بعض التنظيمات البروتستانتية المحدثة والتي
يقدرون مجموع أعدادها بحوالي (40) مليون.
إن حكماء صهيون يعرفون أن الماركسية هي التي سوف تحقق لهم أسطورتهم،
والقيادات الماركسية الفعلية تعمل لذلك بكل ما تستطيع. لكن الغرب وفي
مقدمته أميركا يقفون بكل قواهم ضد المد الماركسي وضد إسرائيل الكبرى، ولا
يريدون أكثر من وجود يهودي في فلسطين.
- إذاً، فما هو الحل لتحقيق الأسطورة؟
الحل هو أن تتمركس الأنظمة التي تجثم في ما يسمونه "أرض الميعاد"، وعندئذ
تقام إسرائيل الكبرى بمسرحيات مثل مسرحيات جمال عبد الناصر الذي قدم
لإسرائيل كل شيء، حتى الذهب المصري وبعض الذهب السوري، قدم لهم الأسلحة
التي اشتراها من الاتحاد السوفياتي، كل الأسلحة، وقدم لهم الدعم العالمي،
وقدم لهم الاقتصاد المصري بكامله، وزاد على كاهله (18) مليار دولار ديوناً
بالقوة الشرائية للدولار في ذلك الوقت، وقدم لهم الجنود المصريين يقتلون
منهم ما يشاؤون ويأسرون ما يشاؤون، وقدم لهم الأرض أرض سيناء. وكذلك تقام
إسرائيل الكبرى بمسرحيات مثل مسرحيات حزب البعث، قدم لإسرائيل مثل ما قدمه
جمال عبد الناصر أو أقل قليلاً.
قدموا لإسرائيل كل هذا، ورغم الضخامة الخيالية للقيمة المادية لهذه
التقدمات، فإن فيها ما هو أخطر من الضخامة المادة الخيالية، فيها الخداع
والغش للجماهير العربية، وتزوير عقولها وعواطفها وحرفها مئة وثمانين درجة
بحيث صارت ترى الحق باطلاً والباطل حقاً، وفيها أيضاً ما هو أضخم. فيها ما
يظهر وكأنه تحقيق لنبوءات توراتية.
فالأوامر للجيش في الجبهة بالتراجع الكيفي في الساعة الأولى من بدء
المعركة، حيث يديرون ظهورهم للعدو يقتل منهم ويأسر كما يشاء، تظهر وكأنها
تحقيق للنبوءة التي تقول: ((وتعطيني أقفية أعدائي ومبغضي أفنيهم. يصرخون
ولا مخلص. إلى الرب فلا يستجيب لهم ..)) [مزمور 18 عدد 4].
- وتسليمهم أرض سيناء في الجنوب والجولان في الشمال يظهر وكأنه الخطوات الأولى لتحقيق النبوءة التي تقول:
((في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقاً قائلاً لِنَسلك أعطي هذه الأرض
من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات)) [تكوين 15 عدد 18].
- وتقديمهم لإسرائيل الرصيد الذهبي المصري والسوري والأسلحة البرية والجوية
والبحرية التي دفع الشعب المصري والسوري ثمنها الذي يعد بعشرات المليارات
من الدولارات، هذا التقديم يظهر وكأنه الخطوات الأولى لتحقيق النبوءة التي
تقول: ((حينئذ تنظرين وتنيرين ويخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر
ويأتي إليك غنى الأمم ..)) [أشعياء 60 عدد 5].
هذه التقدمات لإسرائيل التي نفذت بتخطيط مسبق يعتمد قبل كل شيء على غفلة
العرب والمسلمين، جعلت أكثر البروتستانت، إن لم يكن كلهم، وكثيراً من
الكاثوليك والأرثوذكس، ترتفع عندهم درجة الإيمان بصحة التوراة وأنها وحي من
الله سبحانه، بدليل أن نبوءاتها بدأت تتحقق، وصاروا يؤمنون أن اليهود هم
الشعب المختار؟!
لكن نسي هؤلاء، أو أنستهم الدعاية المنهجة الكثيقة أن لله سبحانه لا يحتاج
إلى الجاسوسية والخداع والكذب والغش ليحقق كلماته. إن النبوءة التي تحتاج،
من أجل تحقيقها، إلى الجاسوسية والخداع والكذب والغش لا يمكن أن تكون
إلهية، ولا يمكن أن تكون صادرة عن نبي يوحى إليه من الله سبحانه.
إن الدليل الذي لا يُحتاج معه إلى دليل غيره على عدم صحتها وعلى أنها صادرة
عن أشخاص غير صادقين، كونها تحتاج إلى الجاسوسية والخداع والكذب والغش
لتحقيقها.
هل انتهت الماركسية؟
جملة صرنا نسمعها كثيراً من ذوي النظرة الطفولية: ((انتهت الماركسية! انتهت
الشيوعية!))، يقولها قائلهم بهدوء وتؤدة وكأنها صادرة عن عمق في التفكير!
أو يقولها بإصرار وقوة كأنها صادرة عن بصير منفتحة على الواقع! يقولها
وكأنه لا يرى الماركسيين يسيطرون على سورية وعلى العراق وعلى ليبيا وعلى
الجزائر وعلى السودان باسم الإسلام وعلى الصومال، وكأنه لا يرى أن النظام
الإيراني الذي يسمونه إسلامياً يتحالف مع الماركسية تحالفاً يكاد يكون
ربطاً عضوياً. وكأنه لا يرى الماركسيين يسيطرون على الصين وعلى فيتنام،
وعلى كل أوروبا ما عدا ألمانيا والنمسا وسويسرا. وعلى المكسيك وكوبا وعدة
دول من أميركا الجنوبية. وكأنه لم يقرأ أو يسمح أن الحزب الشيوعي في روسيا
هو أقوى الأحزاب. وكأنه لم يسمع تصريح "حسب اللطيف" الشيشاني الذي كان رئيس
مجلس السوفيات الأعلى، عندما زار الأردن قبل سنوات وقال: إن استقلال
البلاد الإسلامية شكلي. وكأنه لم يسمع أو يقرأ أن الجيوش الروسية التي
يقودها ضباط ماركسيون موجودة في كل الدول الإسلامية السوفياتية التي تقول
إنها مستقلة، وأن أجهزة المخابرات فيها تدار كلها من موسكو، وأن اليهود
يسيطرون على الأحزاب في روسيا، سواء على الحزب الشيوعي الذي ينافس يلتسين
وحزبه، أو يلتسين نفسه وحزبه ورئيس وزرائه الجديد.
إن الماركسية لم تنته، كما يظن ذوو النظرة الطفولية؟ وإنما جاءت بثوب جديد
قديم شعاره "يجب أن ننبثق من خصوصيات المجتمع" واسمه "البيروسترويكا" التي
تعني "الترميم الثاني" أو "إعادة البناء" كما جرت على الألسنة، والمعنى
واحد.
منذ سنة 1919، حتى الثمانينات من القرن نفسه، كانت الماركسية بجميع أسمائها
الخداعية ((شيوعية، ناصرية، حزب بعث، اشتراكية، قومية عربية يسارية ..))،
كلها تنتهج القواعد التي تبناها المؤتمر الذي انبثقت منه "الأممية الثالثة"
ومنها "الطريق الروسي إلى الاشتراكية" الذي نهج له في زمن لينين، وعدل
قليلاً جداً في زمن ستالين. وهي طريقة الانقلابات العسكرية التي دمرت
الأقطار التي حدثت فيها، وطريقة التهيئة لتلك الانقلابات. ومنها "حرق
المراحل" ويعنون بها المراحل الافتراضية التي تخيلوها، أو التي وضعها ماركس
لخداع الغافلين، والتي تخيلها كما يلي: ((مرحلة المشاع ـ ثم الرعي، الرق،
الإقطاع، الرأسمالية البورجوازية، الثورة الاشتراكية، الشيوعية)). ويعنون
بحرق المراحل القفز فوق مرحلة الرأسمالية والبرجوازية والقيام بالثورة
الاشتراكية، ومنها الهجوم على التدين والمتدينين بكل الوسائل: بالهزء
والسخرية والإشاعات البذيئة منها وغير البذيئة، وبالقتل والسجن والتشريد
والتعذيب عندما يمكنهم ذلك .. إلى آخر القواعد التي يراها القارئ في
بروتوكلات حكماء صهيون وفي كتب لينين.
سجَّل الأسلوب الروسي في الانتقال إلى الاشتراكية نجاحات هائلة في
المجتمعات المختلفة والمستعمرة (بفتح الميم الثانية) ثم أخذت تتلاشى شيئاً
فشيئاً، وكان آخر انقلاب ناجه هو انقلاب ليبيا بقيادة القذامي.
ثم لم تقف المسالة عند التلاشي فقط، بل صارت تحدث الانقلابات المضادة التي
كان أبرز أوائلها ما حدث في إندونيسيا سنة 1965، ثم حدث أصعب شيء على الحلم
الصهيوني، وهو القضاء على الماركسية الناصرية في مصر، لكنها الآن بدأت
تعود.
وكان أمل الصهيونية كبيراً في مركسة أفغانستان، حيث كان المخطط هو الانتقال
منها إلى السيطرة على باكستان، ثم بمساعدة إيران الخميني احتلال السعودية
والكويت، والقطر الصعب من الأقطار الأربعة ((السعودية، والأردن، ولبنان،
والكويت))، الداخلة في ما يسمونه "أرض الميعاد" والمستعصية على التمركس.
وإذا فشلت كل هذه المحاولات وافتضحت دجليات الأنظمة الماركسية حتى على كثير
من معتنقيها الذين كانوا من المتحمسين لها، إذن، فيجب إعادة النظر في
أساليب الدعاية لها.
وقد وضع لينين لهم الأسس التي يجب أن يطبقوها في مثل هذه الحالة، فلنقرأ بعض أقواله:
يقول لينين: ((علينا أن نكون مستعدين لكل لون من ألوان التضحية، وإذا
استلزم الأمر فإننا نمارس كل شيء ممكن، فالحيل وفنون المكر وكل الأساليب
غير الشرعية، جميعها مباحة، وكذلك السكون وإخفاء الحق، وموجز القول أننا
نستخلص الآداب من مصالح حرب الطبقات))( ).
ويقول أيضاً:
((.. ولكننا تعلمنا أيضاً .. فناً آخر لا غنى عنه في الثورة: فن أن نكون
مرنين، أن نعرف كيف نغيّر تكتيكنا بسرعة، بفجأة، آخذين بالظروف الموضوعية
المتغيرة بعين الاعتبار، مختاريه سبيلاً جديداً للوصول إلى هدفنا، إذا تبين
السبيل القديم في هذه الفترة من الزمن، غير ملائم، غير صالح( ).
ويقول: ((ونحن الذين تعلمنا قليلاً، في هذه السنوات الثلاث أو الأربع، كيف
نقوم بانعطافات فجائية (حين يقتضي الحال انعطافاً فجائياً)( ).
ويقول:
((.. فإن دولة العمال، دون أن تلجأ البتة إلى إبطال التأميم، تؤجر هذه
المناجم أو تلك، هذه الغابات أو تلك، آبار البترول هذه أو تلك ..الخ. من
الرأسماليين الأجانب، لكي تحصل منهم على مزيد من الأعتدة والآلات التي
ستمكننا من إنهاض صناعتنا السوفيتية الضخمة بأسرع وقت. إن دولة العمال إذ
تمنح أصحاب الامتيازات قسماً من هذه المواد الثمينة جداً على سبيل الأجرة،
تدفع بلا ريب جزية للبورجوازية العالمية، وعلينا ألا نطمس في شيء هذا
الأمر، وأن ندرك جيداً في الوقت نفسه أنه مفيد لنا))( ) اهـ.
وأقوال لينين في هذا المعنى كثيرة في كتبه ومقالاته، ولنلاحظ أنهم في
البيروسترويكا، يتحركون داخل إطار هذه التعاليم، فقد تبين أن السبيل القديم
في هذه الفترة من الزمن، أصبح غير ملائم وغير صالح، فغيروا التكتيك بفجأة،
قاموا بانعطاف مفاجء. فاتحين بلادهم للرأسماليين الأجانب، مع الإبقاء على
المصانع والمزارع مؤممة.
هذا، ونرى أن المؤتمر الثاني والعشرين المنعقد في تشرين أول 1961 في
الكرملين في موسكو، كان قد رسم الصورة الواضحة الأولى للبيروسترويكا حسب
رؤيتهم في ذلك الوقت:
- فقد اتخذ قراراً بالتنازل، عند الضرورة، عن النظام الفيدرالي (أي سنة
1961) للاتحاد السوفياتي والاستعاضة عنه بدولة اتحادية واحدة ذات قوميات
كثيرة( ) اهـ.
وطبعاً تطورت النظرة في الثمانينات عنها في أول الستينات، مع تطور الظروف الداخلية في الاتحاد السوفياتي والخارجية.
والنتيجة أن الشيوعية لم تنته كما يظن الغافلون والحالمون، وإنما هو أسلوب
جديد قديم، أسلوب عنوانه "يجب أن ننبثق من خصوصيات المجتمع" ومن هذا
الانبثاق المناداة بالإسلام في المجتمعات الإسلامية، ويحضرني هنا قول
القائل (كم يخيفني الشيطان عندما يأتي ذاكراً اسم الله).
إن مقولة "انتهت الماركسية" جعلت الماركسيين (شيوعيين وبعثيين وغيرهم)
يأخذون حريتهم الكاملة بالتحرك بين الجماهير الذين صاروا بسبب الدعاية،
يعتقدون أن الماركسية انتهت، وبذلك يقبلون ما يسمعونه من الماركسيين وعنهم
دون ذلك الحاجز النفسي الذي كان يقف عقبة أمام قبول أقوال الماركسيين أو
سماعها.
واقرأ هذا الخبر الذي نشرته جريدة "المجد" الأردنية في العدد (204) ـ
4/أيار/1998: ((علمت "المجد" أن محمود المعايطة الأمين العام لحزب البعث
العربي التقدمي وقيادة الحزب سوف يلتقون في غضون الأيام المقبلة مع الدكتور
منير حمارنه المين العام للحزب الشيوعي الأردني في إطار الجهود التي
يبذلها البعث التقدمي لإنهاء الأزمة في صفوف الحزب الشيوعي. وكان فؤاد دبور
الأمين العام المساعد للحزب وعضو قيادة الحزب شريف حلاوة قد التقيا
الأسبوع الماضي الدكتور يعقوب زيادين الأمين العام السابق للحزب الشيوعي
لذات الغرض. وقال فؤاد دبور لـ "المجد" إن هدف وساطة حزب البعث التقدمي هو
لملمة الصفوف والحفاظ على وحدة الحزب الشيوعي الأردني كفصيل وطني لأن أية
خلافات في صفوفه ستنعكس على الحركة الوطنية الأردنية برمتها. على هذا
الصعيد علمت "المجد" أن عدداً من الشيوعيين القدامى الذي غادروا صفوف الحزب
في سنوات سابقة، قد تنادوا هم أيضاً لبذل مساعيهم الحميدة لدى الفرقاء
المختلفين في الحزب والعمل على استعادة وحدته وفاعليته في أقرب وقت)) اهـ.
وأترك التعليق لمن يريد التعليق.
ثم اقرأ هذا الخبر أيضاً في الصفحة الأخيرة من نفس الجريدة:
((تعقد اللجنة الوطينة الأردنية للاحتفال بمرور (150) عاماً على صدور
البيان الشيوعي اجتماعاً موسعاً يوم الخميس القادم في رابطة الكتاب
الأردنيين لاستعراض النشاطات والفعاليات التي ستقيمها اللجنة بهذه
المناسبة، وللتنسيق مع اللجان الأخرى في كل من مصر ولبنان وسورية لهذه
الغاية.
وعلمت "المجد" أنه تم تشكيل لجنة تحضيرية لإحياء هذه المناسبة من شخصيات
ماركسية، أبرزها الدكتور يعقوب زيادين والدكتور يوسف سميرات وفؤاد النمري
وعبد الله حمودة، وموفق محادين ونزيه أبو نضال ورشيد شقير والدكتور سعيد
ذياب وسالم النحاس.
وتجدر الإشارة أنه قد تم تشكيل اللجنة المصرية للاحتفال بمرور (150) عاماً
على البيان الشيوعي الذي صدر في شهر أيار من عام 1848، والذي كان له تأثيره
الكبير في تاريخ العالم كله.
وقررت اللجنة المصرية بعد عدة اجتماعات، القيام بنشر البيان الشيوعي،
والدعوة لإقامة احتفال فني ومؤتمر علمي حددت شهر أيار الحالي موعداً
لانعقادهما .. كما أصدرت نشرة غير دورية بعنوان "البيان")) اهـ.
نستفيد من هذه النصوص أن الشيوعية أو الماركسية بجميع أسمائها، لم تنته،
وإنما بدأت أسلوباً جديداً. ويدلنا النص الأخير على الفكرة الرئيسة في
البيروسترويكا، أنها التنازل (مرحلياً طبعاً) عن "الطريق الروسي إلى
الاشتراكية" الذي يتلخص بحقن المجتمع بالحقد على الطبقة الحاكمة، حتى يصبح
هذا الحقد تياراً جارفاً، فيقوم جماعة من ضباط الجيش بإنشاء تنظيم سري
للقيام بانقلاب يضعون في واجهته، إن كان في بلاد إسلامية، مسلماً من
المغفلين النافعين أو أكثر، فإذا فشل الانقلاب كان المغفلون النافعون هم
كبش الفداء، وإن نجح الإنقلاب، انتظر الماركسيون ريثما يرتبون صفوفهم، ثم
يقومون بانقلاب ضد المغفلين النافعين الموجودين في الواجهة، ويسيطرون على
السلطة لتنفيذ المخططات.
هذا هو ملخص "الطريق الروسي إلى الاشتراكية" أو بالأصح "الطريق اللينيني الستاليني".
وقد تنازلت البيروسترويكا "الترميم الثاني، أو إعادة البناء" عن هذا
الأسلوب في البلاد الخارجة عن ما يسمونه "أرض الميعاد" وأبقت عليه في
الداخلة فيما يسمونه "أرض الميعاد" وطورته.
وبإيجاز إن للبيروسترويكا أهدافاً، وأهما إقامة إسرائيل الكبرى في ما
يسمونه "أرض الميعاد". وقد بقي خارج الدائرة مستعصياً على المركسة أربعة
أقطار، هي لبنان (نسبياً) والأردن والسعودية والكويت، والمساحة الكبرى مما
يسمونه "أرض الميعاد" تشغلها السعودية، وأثبت الواقع أنها الأصعب الأصعب
على المركسة، وتأتي بعدها بالصعوبة الأردن، لكن في الدرجة الرابعة أو
الخامسة، وذلك لصغرها وفقرها. وقد تعذر مركسة هذه البلاد عن طريق
الانقلابات، أو عن طريق الغزو الإيراني الخميني أو عن طريق الغزو العراقي.
لذل تعتمد الصهيونية، أو المحور "تل أبيب ـ موسكو" على حقن المسلمين عامة
والعرب خاصة بالحقد على السعودية والأردن ليعملوا على إزالتهما، ثم تأتي
الكويت ولبنان.
ولنقرأ في هذا الموضوع ما يقوله السيد طارق حجي الذي كان مرشحاً لأن يكون
لسان الحزب الشيوعي وزعيمه الفكري، وبسبب اطلاعه الواسع على كل مجرياته،
لمس الشيوعية وجرائمها وأهدافها، وعرف مخططاتها فتركها وفضحها في كتبه.
لنسمع له يقول في كتابه ((تجربتي مع الماركسية)) في الصفحة 196 وما بعدها:
((..تلك الأيام التي قضيناها خلال السنوات ما بين سنة 1967 وسنة 1972 في
اتصال مستمر بالتجمعات الشيوعية المصرية .. فقد لفت انتباهنا في تلك الفترة
أن قيادات اليسار المصري، كانت لا تدع مناسبة تمر دون التعريض بالمملكة
العربية السعودية، ودون الهجوم المرير عليها.
وما أكثر الأحاديث التي أنصتنا لها ساعات طولاً من رؤوس الإعلام المصري ذوي
التاريخ الشيوعي عن الضرورة اللازمة لمناهضة ومحاربة النظام السعودي بوصفه
معقلا للفكر الديني (الرجعي) في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي .. وقد
لفت انتباهنا وقتذاك أن أنفس القيادات الشيوعية المصرية تكتظ بالكراهية
والمقت الشديد بصفة تكاد تكون شخصية تجاه المملكة العربية السعودية.
وعندما توفي عبد الناصر وتولى الأمر بعده أنور السادات .. عندما حدث ذلك،
أخذ قادة التنظيمات الشيوعية المصرية يركزون في اجتماعاتهم على مخاطر
التعامل السياسي مع المملكة العربية السعودية، وما قد يؤدي إليه من استشراء
التيارات الرجعية (أي الدينية طبعاً).
وفي سنوات لاحقة، وأثناء عملنا بالتدريس الجامعي بكليات العلوم القانونية
والاقتصادية والسياسية بالجامعات الجزائرية والمغربية ـ لأكثر من ست سنوات ـ
لاحظنا أن نفس النبرة الهجومية على المملكة العربية السعودية وبنفس
المبررات والمنطلقات تسود وتتكرر في دوائر التنظيمات الشيوعية.
وقد أكدت لنا التجربة في مصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب أن هذا الموقف
من الحركات اليسارية في تلك البلدان تجاه المملكة العربية السعودية إنما هو
ـ من جهة ـ موقف مبدئي تلتزم به هذه الحركات والتنظيمات اليسارية بتحريض
مباشر من الشيوعية العالمية .. فقد لمسنا بأنفسنا، وعن قرب شديد، وخلال
سنوات، مدى ما يكنه قادة الحركات والتنظيمات الشيوعية (واليسارية كلها) في
معظم البلدان العربية للدين من كراهية وعداء شخصي نماه في نفوسهم تأثير
الشيوعية العالمية عليهم، والذي حول موقفهم من الدين إلى موقف نضالي ضده لا
يهادنون فيه ولا يسالمون ..
وعندما تبدلت الظروف، وأملت الشيوعية العالمية على خدمها في شتى أنحاء
الأرض تكتيكها الجديد والقاضي بمهادنة الأديان (البيروسترويكا)، لا سيما في
مناطق الشرق الأوسط (الإسلامية) وأمريكا الجنوبية (الكاثوليكية) والعمل
على بعث تيارات يسارية من داخل الحركات الإسلامية ..)) اهـ.
أقول: وتأتي الأردن بعد المملكة العربية بالتهجم عليها. وفي الحقيقة لو
مُركست الأردن لضعف كثيراً موقف السعودية، ولو مركست السعودية لضعف كثيراً
كثيراً موقف الأردن.
ومن المؤلم أن نرى إسلاميين من مشار إسلامية مختلفة يعملون على نشر الحقد
ضد الأقطار اللاماركسية بكل تفان، وأظن أن البهائم لو نطقت لقالت إن البديل
الوحيد هو اليسار الذي أباد المسلمين وشردهم وفعل بهم الأفاعيل.
أخيراً، هذه حقائق أوردها في هذه الكتيب، وهي أقل من الحقيقة، والذي يريد
الحقيقة كلها، فأمامه المراجع الكثيرة التي أُهملت ودفنت في مقابر النسيان،
وعُرض بدلاً منها عشرات من الكتب التي تدجّل وتزيّف الواقع بشكل يخدم
الماركسية ويحارب العاملين للإسلام والذي يشكل وجودهم عقبة أمام المد
الماركسي.
ومن المضحك المبكي أن جماعة من علماء المسلمين جرفهم سيل الدعاية الماركسية
الذي جرف كل الغثاء، فظنوا أنفسهم فقهوا الواقع، وصاروا ينادون بفقه
الواقع الذي لا يمت بأي صلة للواقع إلا بالأسلوب الخداعي الماكر المبني على
قواني علم النفس وعلم النفس الاجتماعي، وصاروا جنوداً للماركسية، وبالتالي
لإسرائيل الكبرى، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.
وحسبنا الله ونعم الوكيل.
منقووووول
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire