مدرسة التجديد في الفكر الإعتزالي
(منهج التوحيد والعدل الإسلامي المعاصر)
في الأسماء والصفات
[1] السميع
قال القاضي عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار
بن أحمد الهمداني الأسد أبادي المعتزلي البصري الشهير (415 هجرية) في كتابه
“المختصر” ما يلي بتصرف يسير وإضافة التشكيل والخطوط:
(وهو سميعٌ بصيرٌ مدركٌ للمدرَكات إذا وُجِدت، لأنه حيٌ لا آفةَ به، فيجبٌ أن يكون مختصاً بهذه الصفات إذا وُجِدت المسموعَات والمُبصَرات والمدرَكات).
أقول: إختصاراً للأمر أركز تعليقي على صفة
(السميع)، وما يجري عليها من كلام يلحق كذلك بصفتي (بصير) و(مُدرِك). لفظ
(سميع) هو صيغة مبالغة من اسم الفاعل (سامع) للدلالة على الإحاطة التامة
بالمسموع، والمسموع مفعول أي: اسم المفعول. أما الأصل لتلك الإشتقاقات فهو
الفعل الماضي المجرد الثلاثي (سَمِعَ)، ومضارعه هو (يسْمَعُ)، ومصدره هو
(سمْعَاً). عبارة (الله سميع) عبارة عن جملة اسمية خبرية تتكون من مبتدأ
وخبر مرفوعان، والسميع هو – كما ذكرت للتو – اسم فاعل بصيغة المبالغة.
وكلمة (المسموعات) جمع للفظ (المسموع) وهو اسم مفعول. تعبير (إذا وُجِدت
المسموعات) هو تعبير شرطي يحترز به عن انعدام المسموعات. مقتضى ذلك الشرط
هو أن الباري سبحانه يسمع كلَ مسموع على وجه الإحاطة إذا وُجِدَ ذلك
المسموع، فإن لم يوجد المسموع فلا يوجد محل للقول بالسمع أو عدمه في هذا
المقام. جدير بالذكر أن تلك الحالة الأخيرة لا تعتبر منقصة ولا مسلبة (من
السلب) لصفة (السميع)، وإلا للزمنا أن نذم الواحدَ منا على عدم سماع غير
المسموع، ولا يفعل ذلك إلا فاقد العقل. إن معيار المدح والذم إنما هو سماع
المسموعات حال وجودها وليس حال إنعدامها، فإن وجد المسموع ولم يسمعه السامع
كان ذلك في هذه الحالة نقصاً ومسلبة وهو ما يتنزه الله سبحانه عنه. يدل
كلام القاضي رحمه الله على أن الباري سبحانه سميعٌ بكل مسموع أو بكل ما يصح
أن يُسمَع حال وجود ذلك المسموع. أما المجبرة ومن يدور في فلكهم فيلزمهم
أن يكون الله سميعاً بالمسموعات منذ الأزل وهذا ضلال عن الصراط المستقيم،
وهنا ينبغي أن نلزمهم بقول الله تعالى:
(قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (المجادلة : 1)
بسؤالهم: هل سمع الله تعالى قول تلك المرأة
منذ الأزل أم بعدما تحاورت؟ فإن قالوا: (منذ الأزل) خالفوا القرآن وسقطوا
في الشرك بإثبات أزلي آخر مع الله، وإن قالوا: (بعدما تحاورت) فارقوا
مذهبهم الجبري وقالوا بما نقول به كأهل تنزيه واختيار.
قال القاضي عماد الدين أبو الحسن عبد الجبار
بن أحمد الهمداني الأسد أبادي المعتزلي البصري الشهير (415 هجرية) في كتابه
“المختصر” ما يلي بتصرف يسير وإضافة التشكيل والخطوط:
(فإن قال: إنما يسمعُ أحدُنا ويدركُ بالآلات، فإذا استحالت على الله تعالى فكيف يوصف بذلك؟ قيل له: إننا نحتاج إلى الآلات لأنَّا لأجلِ الحياةِ نسمع ونرى، لا كما يفعل لا بآلة، من حيث كان قادراً لذاته).
أقول: الله سبحانه حيٌ لذاته، وليس لمعنى
زائد عن الذات، بينما نحنُ لسنا أحياءً بذواتنا، وإنما بمعنى خلقه الله
فينا، لذلك تحتاج حياتنا إلى محالٍّ لتلك الحياة، فنحتاج مثلاً إلى آلة
(الأذن) وما يلحق بها من جهاز سمعي داخلي لكي تكون محلاً للسمع، وإلى آلة
(العين) وما يلحق بها من جهاز بصري داخلي لكي تكون محلاً للبصر وهكذا.
الإنسان عاجز ومفتقر لتلك الآلات التي تصح أن تكون محلاً لحياتنا، أما
الباري سبحانه، فهو قادر لذاته فلا يعجز، وغنيٌ لذاته فلا يفتقر لشيئ، وحيٌ
لذاته فلا يحتاج لآلات تكون محلاً لحياته لذلك يفارق الواحد منا ويبين عنه
بينونه تامه، وصدق سبحانه إذ يقول:
(…. لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الشورى : 11)
خلاصة ما قاله القاضي رحمه الله هو أن الله
تعالى سميع بكل مسموع إذا وُجِد ذلك المسموع، بصيرٌ بكل مبصَر إذا وُجِد
ذلك المبصَر، مدركٌ لكل مدرَك إذا وُجِد ذلك المدرَك، وهو يستحق كل ذلك
لذاته وليس لأي معنى زائد عن الذات، وهو كلام نفيس حقاً نتفق مع القاضي
رحمه الله فيه. في النهاية يطيب لي تقديم الإحصائية القرآنية التالية:
إحصائية قرآنية
(1) ورد تركيب (السميع العليم) في الكتاب في
15 موضعاً، وورد تركيب (سميع عليم) كذلك في 15 موضعاً، فيصير مجموع المرات
التي ارتبط فيها صفتا السمع والعلم 30 موضعاً.
(2) ورد تركيب (السميع البصير) في الكتاب في 4
مواضع، وورد تركيب (سميع بصير) في 3 مواضع، فيصير مجموع المرات التي
ارتبط فيها صفتا السمع والبصر 7 مواضع.
(3) ورد تركيب (سميع الدعاء) في موضع واحد فقط.
(4) ورد تركيب (سميع قريب) في موضع واحد فقط.
[2] القدير
يقول قاضي القضاة رحمه الله في “المختصر”:
(هو قادرٌ لصحة الفعلِ منه، والفعلُ لا يصحُّ إلا من قادر على ما نعقله في الشاهد)
أما قوله (هو قادرٌ) فجملة اسمية خبرية تتكون
من مبتدإ وخبر مرفوعين، ولفظ (قادر) اسم فاعل مشتق من الفعل الماضي
الثلاثي المجرد “قَدِرَ” ومضارعه هو “يقدِر” ومصدرة هو “قدرة”. أما
(القدير) فهو اسم الفعل الدال على المبالغة واللامحدودية والإتساع والشمول
في القدرة، فهو القدير، سبحانه وتعالى. أما اللام في قوله (لصحة) فهي لام
السبب / التعليل، أي أن العقل حكم بأن الباري سبحانه قادرٌ بسبب ما نراه من
الأفعال التي صحَّت منه، ونعلم أن الفعل لا يصح إلا من قادر.
(فإن قيل: هو
لم يزل قادرا أم لا؟ قيل له: نعم، لأنه لو لم يكن كذلك، لكان يقدرُ بأن
يجعل نفسه قادراً، ومن ليس بقادر لا يصح منه الفعل، وهذا يتناقض، فهو إذاً
قادرٌ فيما لم يزل ولا يزال، لأنه لذاته قادرٌ)
أما التساؤل (هو لم يزل قادرا أم لا؟)
فمعناه: أقادرٌ هو منذ الأزل أم لا؟ والجواب: نعم، هو قادر منذ الأزل، لأنه
قادرٌ لذاته، لا لمعنى ولا لعلة اقتضت اقتضى من أجلها أن يكون قادراً، ومن
كان هذا حاله فإنه يظلُ قادراً فيما لم يزل، أي: منذ الأزل، ولا يزال، أي:
إلى الأبد، بمعنى أن صفة القدرة لما كانت صفة ذات، لزم من ذلك أن يكون
قادراً وقديراً منذ الأزل وإلى الأبد.
(فإن قيل: يُجَوَّزُ على الله تعالى العجزُ؟ قيل له: لا، لأنه قد ثبتَ أنه قادرٌ على كل مقدور يصح أن يقدر عليه، حتى لا جنس ولا قُدَرَ لا وهو قادر عليه، فمحال أن يعجز)
أما (العجز) فهو عكس (القدرة)، ولما كان الله
تعالى قادرا لذاته، امتنع عليه أن يكون عاجزا، فهو القادر الذي لا يعجز،
وهو القدير على كل مقدور يصح أن يقدر عليه. أما قوله (كل مقدور يصح أن يقدر
عليه) ففيه احتراز عما لا يدخل في جنس المقدورات، أي احتراز عما لا يصح أن
يتعلق به قدرة، مثل الاستحالات العقلية كتزاحم الضدين في محل واحد، فإنه
لا يصح أن يقال: أيقدر عليها أم لا، لكونها مما لا يصح أن تتعلق به قدرة
القادر.
يقول العلامة السلفي المستنير السيد محمد رشيد رضا الحسيني رحمه الله في رسالة (أحكام العقل):
(يشترك الواجبُ
والمستحيل العقليان في أنهما لا تتعلق بهما قدرة الله تعالى، لأن وظيفة
القدرة الإيجاد والإعدام، والواجب وجوده لذاته فهو قديم ويستحيل عدمه،
والمستحيل منتفٍ لذاته، ولو أمكن أن يوجد لما كان مستحيلاً، فلا يقال: إن
الله تعالى قادرٌ على إعدام الواجب، كذاته تعالى وتقدس، أو إيجاد المحال
كجعل الشيئ موجوداً ومعدوماً، أو ساكناً ومتحركاً في آنٍ واحد، ولا يقال:
إنه ليس بقادر، إذ ليس هذا من وظيفة القدرة فيثبت لها أو ينفى عنها)
(انتهى)
أقول: هذا تقريرٌ جليل ونفيس، فإن الواجب
لذاته، والممتنع لذاته لا تتعلق بهما قدرة، أي بتعبير قاضي القضاة رحمه
الله: ليست من المقدورات التي يصحُّ أن يُقدَرَ عليها. لذلك فعندما يقول
الله تعالى:
(…. إِنَّ اللَّه عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة : 20)
فإننا نعلم أن المقصود هنا هو الشيئ الذي يصح
أن تتعلق به قدرة الله تعالى. يمكننا تعميم النتيجة السابقة من وحي كلام
قاضي القضاة رحمه الله فنقول: الله يقدر على كل مقدور يَصِّحُّ أن يُقدَرَ
عليه، ويسمع كل مسموع يَصِّحُّ أن يُسمَع، ويبصر كل مُبصَر يَصِّحُّ أن
يُبصَر، ويدرك كل مُدرَك يَصِّحُّ أن يُدرَك، ويعلم كل معلوم يَصِّحُّ أن
يُعلَم، فكل تلك الصفات المتقدمة من (القدرة) إلى (العلم) مرورا بالسمع
والبصر والإدراك هي صفات ذات يستحقها الله لذاته، لا لعلة، ولا لمعنى، بل
هو لذاته قادر، وهو لذاته سميع، وهو لذاته بصير وهكذا. أما ما لا يَصِّحُّ
أن يُقدَرَ عليه فلا تتعلق به قدرة، وما لا يَصِّحُّ أن يُسمَع فلا يتعلق
به سمع، وما لا يَصِّحُّ أن يُبصَر فلا يتعلق به بصر، وما لا يَصِّحُّ أن
يُدرَك فلا يتعلق به إدراك، وما لا يَصِّحُّ أن يُعلَم فلا يتعلق به علم.
[3] العليم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا
نبي بعده، ثم أما بعد. إستكمالاً لما بدأتُه من شرحٍ وجيز لكلام القاضي أبي
الحسن عبد الجبار رحمه الله حول الأسماء والصفات، أسطر فيما يلي شرحاً
وجيزاً لكلامه رحمه الله حول جليل الكلام
فيما يتعلق باسمه تعالى “العليم” سائلاً المولى تعالى التوفيق، وأبدأ
بمقدمة وجيزة في بضعة أسطر، فأقول: يختلف (العلم) عن (التعلم) من حيث أن
(التعلم) يعني اكتساب العلم وتحصيله، أما (العلم) فهو إدراك المعلوم سواء
بتعلم أم بغير تعلم كالرؤى والإلهام والشهود وغير ذلك. بديهي ألا يوصف الله
سبحانه بأنه (متعلم) بل يوصف بأنه (عليم) أو (عالم). أما لفظ (عالم) فهو
اسم فاعل من (عَلِم)، وفعل (عَلِم) معناه إدراك العلم، أما فعل (تعلَّم)
معناه اكتساب العلم. أما لفظ (عليم) فهو صيغة مبالغة من (عالم). هناك إذا
مستويان. مستوى أدنى: تعلَّم / يتعلَّم / تعلُّماً / متعلِّم، ومستوى أعلى:
عَلِم / يعلم / علماً / عالِم / عليم. أما المستوى الأدنى فلا يصح أن يوصف
به الله لكنه يوصف بالمستوى الأعلى: (عَلِم) الله المعلوم أي أدركه وأحاط
به وأحصاه، و(يعلم) الله المعلوم أي يدركه ويحيط به ويحصيه، لذلك فإن الله
تعالى هو (عالم) لا يجهل وهو بكل شيئ (عليم) وهو (علاَّم) الغيوب. والآن
إلى متن كلام القاضي رحمه الله – باللون الأحمر – من خلال كتابيه “المختصر”
و”الشرح” وتعليقي الوجيز عليه.
(1) كتب قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن
رحمه الله في ” المختصر في أصول الدين” ما يلي (الكلمات بين القوسين
المعكوفين [...] من وضعي):
وهو [الباري عز
وجل] عالمٌ، لأن في الشاهد [الفعل] المحكم لا يصحُ إلا من عالم، كالكتابة
والبناء والصياغة، وما خلقه اللهُ تعالى أبلغُ في الإحكام من قِبَل ذلك،
نحوُ خلقه الإنسان على عجائب ما فيه من الصنعة والأعضاء والآلات ومجاري
الطعام والشراب وغير ذلك، فيجب أن يُحكَم بأنه عالمٌ.
تعرِّف المعتزلة (العالِمَ) بأنه: من صح منه
الفعل المحكم. فدليل أن شخصاً ما عالمٌ بهندسة البناء هو قيامه بتصميم
وإنشاء مبنى على وجه صحيح محكم، وهكذا. إذا نظرنا إلى الكون المُشاهَد من
أصغر ذرة إلى أكبر مجرة وجدناه فعلاً صحيحاً محكماً يدل على أن فاعله، الله
تعالى، عالمٌ لا يجهل. نلاحظ من خلال التعريف السابق ربط وصف (عالِمَ) بما
صدر عنه هو من فعل صحيح محكم وليس بما صدر عن غيره، فلو أن الفعل المحكم
صدر عن x لم نحكم بأن y هو عالِمَ ولكنا نحكم بأن x هو العالِمَ. فيما
يتعلق بالبشر نجد أن صحة صدور الفعل المحكم كالبناء مثلاً تستلزم وجود
معلومات يتم توظيفها لإحداث ذلك الفعل المحكم، أما فيما يتعلق بالله، فلا
يُجوَّز ذلك، لأن الله عالم لذاته وليس لمعلومات ولا بمعلومات. أي أن وصف
الله تعالى بكونه (عالماً) لا يستلزم أنه يعلم بمعلومات، ولا بعلم، بل يعلم
بذاته، ولذاته.
فإن قيل: أليس
العالم منا يعلم شيئاً دون شيئ، وفي وقتٍ دون وقت، فما أنكرتم من هذا في
الله تعالى؟ قيل له: هو عالم لذاته لا بتعلم ولا بأن جعله غيرُه عالماً.
تركيب “عالم لذاته” يتكون من ثلاثة أجزاء
رئيسية: “عالم” وهو اسم فاعل من الفعل الماضي الثلاثي المجرد “عَلِمَ”.
“اللام” وهي للإستحقاق. “ذاته” أو “ذات الله” أي: الله نفسه بما له من وجود
حقيقي. تدل عبارة “عالم لذاته” أن الله تعالى مستحقٌ لصفة “عالم” بسبب
ذاته وليس بسبب زائد عن الذات علماً كان أم معنىً أم صفةً أم أي مسمى آخر.
أما قوله “لا بتعلم” فنفي، والباء للإستعانة، فيكون المقصود نفي أن يكون
الله عالماً بواسطة أو بسبب التعلم ولا مستعيناً بأي معلومات أو علومً
مكتسبة، فعلمه حضوري لا حصولي.
فإن قال: فما
الدليل على ما قلتم [أي: أن الله عالم لذاته لا بعلم]؟ قيل له: لأنه لو كان
يعلم بعلم لكان علمه … إما أن يكون محدثاً أو قديماً، ولو كان علمه محدثاً
لأدى إلى أن يكون أحدثه من قبل أن يعلمه ومن ليس بعالم لا يجوز أن يفعل
العلم، وهذا فاسد. ولو كان علمه قديماً لوجب أن يكون وجوده واجباً يستغني
عن موجد وفاعل، وهذا موجب إنه مساوٍ لله في الإلهية، وأن لا يكون الله عز
وجل بأن يكون إلهاً أولى من علمه وقدرته القديمين، وفساد ذلك يبين إنه
تعالى عالم لذاته وقادر لذاته على ما قلناه.
هناك قولان في المسألة، أولهما: الله عالم
لذاته وليس لمعنى ولا لصفة ولا لأي شيئ زائد عن الذات، وهي المقولة
الصائبة. ثانيهما: الله عالم بعلم أو عالم بمعلومات وهي مقولة فاسدة تستلزم
أحد إحتمالين: إما أنه علم حادث وهو احتمال فاسد، وإما أنه علم قديم وهو
كذلك احتمال فاسد للأسباب التي بينها القاضي رحمه الله في كلامه.
(2) كتب قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن رحمه الله في “شرح الأصول الخمسة” ما يلي (الكلمات بين القوسين المعكوفين [...] من وضعي):
يلزم [المكلف]
أن يعلم أنه تعالى كان عالماً فيما [لم يزل]، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة
بجهل أو سهو، وأنه عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم
عليه.
أما قوله أن الله تعالى (كان عالماً فيما لم
يزل) فمعناه أن اللهَ سبحانه عالمٌ أزلاً، أي أنه كان على هذه الصفة منذ
الأزل، فتعبير “لم يزل” يدل على الماضي لأن فعل “يزل” وإن كان مضارعاً، إلا
أنه قد سُبِق بحرف نفي وجزم وقلب، ومعنى كونه حرفَ قلبٍ أي يقلب زمن الفعل
المضارع فيصير زمناً ماضياً. ومعنى كونه حرفَ نفي أي ينفي زوال صفة العلم
عن الله سبحانه فيما لم يزل إذ هي صفةُ ذات. وأما قوله أن الله تعالى “لا
يجوز خروجه عن هذه الصفة بجهل أو سهو” فمعناه أنه سبحانه يكون عالماً فيما
لايزال، بمعنى أن اللهَ سبحانه عالمٌ أبداً، أي أنه يكون على هذه الصفة إلى
الأبد، فتعبير “لا يزال” يدل على الحاضر والآتي لأن فعلَ “يزال” فعلٌ
مضارعٌ لم يسبقه حرف قلب بل سبقه حرف نفي. ومعنى كونه حرفَ نفي أي ينفي
زوال صفة العلم عن الله سبحانه فيما لا يزال إذ هي صفةُ ذات، فلا يلحقه
جهلٌ ولا سهوٌ ولا أيُ سالبٍ لتلك الصفة. وأما قوله: “وأنه عالم بجميع
المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه” فمعناه أن الله قد أحاط بكل
شيئ علماً، ليس على أي وجه، ولكن على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه. حرف
الباء في لسانِ العرب على أربعة عشر وجهاً من الوجوه هي: الإحاطة والإلصاق
والاستعانة والسببية والتعدية والمقابلة والبدل والقسم والظرفية والمصاحبة
والتبعيض والتجاوز والتأكيد والإستعلاء. فحينما يقولُ: إنه عالم بجميع
المعلومات، تكون دلالة الباء هنا هي الإحاطة، أي شمول العلم بالمعلوم من
جميع الوجوه التي يصحُّ أن يُعلم المعلومُ عليها، فلا يفلت وجههٌ من
الوجوه، ولا تغيبُ ناحيةٌ من النواحي.
أما الذي يدل
على أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل، فهو أنه لو لم يكن عالماً فيما لم
يزل وحصل عالماً بَعْدَ إذ لم يَكن، لوجب أن يكون عالماً بعلمٍ متجدد محدث،
وذلك فاسد لما نبينه من بعد، إن شاء الله تعالى.
في الفقرة الأولى أشار قاضي القضاة رحمه الله
إلى ثلاثة حقائق هامة، أولها: أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل، ثانيها:
أنه تعالى يكون عالماً فيما لا يزال، ثالثها: أنه تعالى عالم بجميع
المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه. بعد أن ذكر تلك الحقائق
الثلاث أخذ في التدليل – إي إقامة الدليل – على صحتها، وبدأ بالحقيقة
الأولى وهي أنه تعالى كان عالماً فيما لم يزل: قوله “وحصل عالماً بَعْدَ إذ
لم يَكن …” فمعناه: وصار عالماً بعد أن لم يكن، لوجب أن يكون عالماً بعلمٍ
متجدد محدث، لأنه – تعالى عن ذلك – لم يكن عالماً ثم صار عالماً، وهذا
قولٌ فاسد، واضح الفساد، ولا يحتاج لفضل بيان، لأن الله تعالى ليس عالماً
بمعلومات، والباء هنا للاستعانة، ولكنه عالم بذاته أي لا يستعين بأي علةٍ
أو معنىً زائدٍ عن ذاته.
وأما الذي يدل
على أنه جل وعز يكون عالماً فيما لا يزال، هو أنه يستحق هذه الصفة لذاته،
والموصوف بصفة من صفات الذات لا يصح خروجه عنها بحال من الأحوال.
ثنَّى القاضي رحمه الله بإقامة الدليل على
الحقيقة الثانية، وهي أنه تعالى يكون عالماً فيما لا يزال، فقال: إنه
“يستحق هذه الصفة لذاته”. أما اللام في لسان العرب فعلى سبعة عشر وجهاً من
الوجوه هي الملك والإختصاص وشبه الملك والتبيين والتعليل والتوكيد والتقوية
وانتهاء الغاية والاستغاثة والتعجب والعاقبة والاستعلاء والوقت والمعية
والظرفية والجنس والعهد. فحينما يقولُ: إنه يستحق هذه الصفة لذاته، تكون
دلالة اللام هنا هي الاستحقاق. ثم يبين بعد ذلك أن “الموصوف بصفة من صفات
الذات لا يصح خروجه عنها بحال من الأحوال”.
وأما الذي يدل
على أنه تعالى عالم بجميع المعلومات على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه،
فهو أن المعلومات غير مقصورة على بعض العالمِين دون بعض، فما من معلوم يصح
أن يعلمه عالم، إلا يصحّ أن يعلمه سائر العالمين، فيجب في القديم تعالى صحة
أن يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تُعلم عليها.
ختم القاضي رحمه الله كلامه في هذا الباب
بإقامة الدليل على الحقيقة الثالثة، وهي أنه تعالى عالم بجميع المعلومات
على الوجه الذي يصحّ أن تُعلم عليه. إذا أبصر إنسانٌ عاقلٌ سليمُ الحواس
الشمس مثلاً وهي تشرق، لعلم أنَ الشمسَ بدأت في الشروق، ولا يختص ذلك
الإنسان بمفرده بذلك العلم، بل يصحُّ أن يعلم مثلَ ذلك كلُّ إنسان مثله
متمتعٌ بنفس الصفات. إذاً يصحُّ أن يعلمَ كلُّ عالم ما يعلمه غيره من
معلومات، وفي هذا يقول القاضي: “المعلومات غير مقصورة على بعض العالمِين
دون بعض، فما من معلوم يصح أن يعلمه عالم، إلا يصحّ أن يعلمه سائر
العالمين”، فإن كان ذلك كذلك فإن الله تعالى – وله المثل الأعلى – يجب أن
يعلم جميع المعلومات على الوجوه التي يصح أن تُعلم عليها، ويكون علمُه بما
يصح أن يُعلم إحاطياً ونافذاً لحقيقة المعلوم، فالعلم هو إدراك الشيئ على
ما هو عليه من وجه صحيح، والجهل هو عكس ذلك، كأن يدرك جزء من الشيئ وليس
كله، أو يدركه كله ولكن على وجهٍ غيرِ صحيح، وكل هذا لا يُجوَّز على الله
تعالى، لأنه العالم الذي لا يجعل، العليم الذي يعلم جميع المعلومات على
الوجوه التي يصح أن تُعلم عليها.
[4] الحي
كتب قاضي القضاة عماد الدين أبو الحسن رحمه الله في ” المختصر في أصول الدين” ما يلي:
وهو [الله
تعالى] حيُّ، لأن أحدَنا متى خرج من أن يكون حياً استحال أن يعلمَ ويقدرَ،
ومتى صار حياً صحَّ ذلك فيه، وأحواله كلها على السلامة، فإذا كان الله
تعالى عالماً قادراً فيجب أن يكون حياً لم يزل ولا يزال.
الله سبحانه قادرٌ لأن الفعل قد صحَّ منه،
وعالمٌ لأن الفعلَ الذي قد صحَّ منه فعلٌ محكمٌ، ومن كان قادراً عالماً
يلزم أن يكون حياً. ولما كانت الحياة صفة ذات لزم أن يستحقها الله لذاته،
لا لمعاني زائدة عن الذات، أي أنه ليس حياً بحياة، لكنه حيٌّ بذاته ولذاته،
فيما لم يزل، أي أزلاً، وفيما لا يزال، أي أبداً.
[5]، [6] البصير / المدرك
وهو بصير
[يُبصرُ المُبصَرَات] مُدرِكٌ للمُدركات إذا وجدت، لأنه حي لا آفة به، فيجب
أن يكون مختصاً بهذه الصفات إذا وجدت المبصرات والمدركات
الله تعالى هو البصير الذي يبصرُ كلَ ما
يصحُّ أن يبصَرَ، والمُدرِكُ الذي يُدركُ كلَ ما يصحُّ أن يُدرَك. أما قوله
“إذا وجدت” فمعناه أنه إذا انعدم كلُّ ما يصحُّ أن يبصَرَ، أو انعدم كلُّ
ما يصحُّ أن يُدركُ، فلا يتعلق به بصرٌ ولا إدراك. لتقريب الصورة أقول –
ولله المثل الأعلى – إن حجر المغناطيس جاذبٌ بطبعه لبرادة الحديد، فإن وجدت
البرادة جذبها، وإن انعدمت فلا يصحُّ أن يتعلق بطبعه جذبٌ لانعدام المجذوب
من غير أن يكون في ذلك نقص، لأن النقص معناه وجود المجذوب مع عدم انجذابه،
أما انعدام المجذوب مع وجود الجاذب فلا يقدح فيه. لا يصح والحال هكذا أن
يلوم المرء حجر المغناطيس إن لم يجذب المعدوم، لأن المعدومَ لا يصحُّ أن
يُجذَب، ولذلك احترز قاضي القضاة فقال: “إذا وجدت” وكررها مرتين. على هذا
لا يصح عقلاً أن يقال: إنَ الله يبصرُ في حين انعدام المُبصَر، ولا يصح
عقلاً أن يقال: إنَ الله يُدركُ في حين انعدام المُدرَك، إنما يبصر الله كل
ما يصح أن يُبصَرَ إذا وُجدَ المُبصرُ، ويدرك الله كل ما يصح أن يُدرَكَ
إذا وُجدَ المُدركُ، لكونه بصير لذاته، مدركٌ لذاته، لا لعلة ولا لمعنى.
[7] الموجود
وهو جلَّ وعزَّ موجودٌ لأن المعدومَ يتعذرُ فيه أن يكونَ له مقدورٌ يصحُّ أن يفعله
لم يخلُص لفظ “موجود” للقاضي رحمه الله، لأن
الموجودَ مفعولٌ، فمن فعله؟ الله ليس مفعولاً حتى يوصف بأنه موجود، بل هو
الفاعل فيلزم أن يوصف بأنه الواجِدُ. الأصوب إذاً هو أن يقال: إن اللهَ
تعالى “كائنٌ” بدلاً من أن يقال إنه “موجود” حتى تطابق الصياغة اللفظية
الدلالةَ اللسانية للفظ متسقةً في ذلك مع الحكم العقلي الدالّ على أن الله
تعالى واجدٌ وليس موجوداً.
الخلاصة
تعرضتُ ببعض التعليقات اليسيرة على متن جليل وضعه القاضي رحمه الله للمبتدئين في تحصيل علم الكلام من خلال استعراض بعض النصوص المتعلقة بقضية الأسماء والصفات مع شرحها باقتضاب. شملت تلك النصوص أن الله تعالى كائنٌ، وأنه قادرٌ، عالمٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ، مدرك. إضافة لما تقدم أقول: وهو أزلٌ أي الأول بلا بداية، وهو الأبدي أي الآخر بلا نهاية، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال والجمال، أقدمه كتوطئة بين يدي كل مبتدئ ليألف عن طريقه النظر في كتب القاضي عبد الجبار رحمه الله ويعتادَ أسلوبه، وأهديه إلى أخي الحبيب عدلي “باحث في الفكر الإسلامي” صاحب مدونة أهل العدل والتوحيد المجيدة، والذي كان قد اقترح علي هذا الأمر، فأشكره على حسن ظنه بالعبد الضعيف، سائلاً الله تعالى ستر التقصير، راجياً من الإخوة الكرام حسن الظن باالتفسير، وإلى كل من يجد فيه فائدة تذكر.
تعرضتُ ببعض التعليقات اليسيرة على متن جليل وضعه القاضي رحمه الله للمبتدئين في تحصيل علم الكلام من خلال استعراض بعض النصوص المتعلقة بقضية الأسماء والصفات مع شرحها باقتضاب. شملت تلك النصوص أن الله تعالى كائنٌ، وأنه قادرٌ، عالمٌ، حيٌّ، سميعٌ، بصيرٌ، مدرك. إضافة لما تقدم أقول: وهو أزلٌ أي الأول بلا بداية، وهو الأبدي أي الآخر بلا نهاية، إلى غير ذلك من صفات الكمال والجلال والجمال، أقدمه كتوطئة بين يدي كل مبتدئ ليألف عن طريقه النظر في كتب القاضي عبد الجبار رحمه الله ويعتادَ أسلوبه، وأهديه إلى أخي الحبيب عدلي “باحث في الفكر الإسلامي” صاحب مدونة أهل العدل والتوحيد المجيدة، والذي كان قد اقترح علي هذا الأمر، فأشكره على حسن ظنه بالعبد الضعيف، سائلاً الله تعالى ستر التقصير، راجياً من الإخوة الكرام حسن الظن باالتفسير، وإلى كل من يجد فيه فائدة تذكر.
والسلام
الحسيني
الإجمال في مسألة الآجال
انقسمت العدلية في المقتول لو لم يقتل ثلاثة أقسام:
- إنه كان يموت قطعا (قول أبي الهذيل العلاف).
- إنه كان يعيش قطعا ( قول الهادي وبعض البغداديين)
- إنه كان يجوز أن يعيش ويجوز أن يموت (قول معظم البصريين).
أما شيخنا أبو ياسر رحمه الله فكان يقول – في
هذه المسألة – بقول الهادي عليه السلام، كما أنني قلتُ به كذلك بصفة عامة.
لكن عند تدقيق النظر وتحقيقه يمكننا جمع المذاهب الثلاثة في قول واحد جامع
يراعي القسمة العقلية للمسألة، وهو كالتالي:
إما أن يكون هناك سبب واحد فقط لهلاك القتيل
وهو القتل وإما أن يكون هناك سبب (أو أسباب) آخر متزامن مع القتل –
كالسكتة القلبية مثلاً:
[1] فإن كان سبب الهلاك هو القتل بمفرده – الحالة العامة – فإن انتفاء القتل يؤدي في هذه الحالة لانتفاء الهلاك (قول الهادي والبغدادية).
[2] وإن كان سبب الهلاك هو شيئ آخر متزامن مع القتل – الحالة الخاصة التي لا يصح القول باضطرادها – فإن انتفاء القتل لا يؤدي في هذه الحالة لانتفاء الهلاك (قول العلاف).
لذلك يصح القول بصورة أخرى:
[3] إن المقتول لو لم يقتل لجاز أن يعيش (الحالة الأقرب) ولجاز أن يموت (الحالة الإستثنائية الممكنة) وهو قول القاضي ومعظم البصريين.
أما الجزم بأن المقتول لو لم يقتل لهلك قطعاً فهو جبر وحتمية مبني على المذهب الفاسد في العلم القديم، فكل من جزم وقطع بهلاك القتيل لو لم يقتل فهو جبري قدري.
تحياتي
الحسيني
الكمون والطفرة وإبراهيم النَّظَّام
يتحدث
بعضُ الفلاسفة وعلماء الأديان واللاهوت عن قضيتين ربما يكون لأحدهما أو
كلاهما علاقة مباشرة أو غير مباشرة بعلم المادة الحية (البيولوجي) وعلم
المادة الميتة (الفيزياء) وربما بالكيمياء أيضاً. القضية الأولى هي
(الكمون) أما القضية الثانية فهي (الطفرة).
[الكمون]
يزعم بعض الفلاسفة – وقد نسب هذا القول لأبي اسحق النَّظَّام [هو الإمام المعتزلي الكبير أبو إسحق إبراهيم بن سيَّار بن هانيء النَّظّام المولود عام 160 والمتوفى عام 231 للهجرة] رحمه الله- أن النار مثلاً كامنةٌ في الحجر بدليل تولد شرر عند قدح حجرين. لا خلاف أن (الزيت) مثلا كامنٌ في (الزيتون) وأن (العصير) كامن في (العنب) وقد استدل الفلاسفة على ذلك بدليل ملموس هو ضمور تلك الأشياء بعد خروج ما هو كامن فيها. لكن فيما يتعلق بالحجر ألا يلزم القول بكمون النار فيه أن يكون الحجر حاراً بحرارة النار، وأن يضمر بعد خروج النار منه؟ يعترض الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه الموسوعي “الفِصَل” على نظرية كمون النار في الحجر ويفسر ذلك بنظرية أخرى هي الإستحالة أي: التحول، فيقول:
يزعم بعض الفلاسفة – وقد نسب هذا القول لأبي اسحق النَّظَّام [هو الإمام المعتزلي الكبير أبو إسحق إبراهيم بن سيَّار بن هانيء النَّظّام المولود عام 160 والمتوفى عام 231 للهجرة] رحمه الله- أن النار مثلاً كامنةٌ في الحجر بدليل تولد شرر عند قدح حجرين. لا خلاف أن (الزيت) مثلا كامنٌ في (الزيتون) وأن (العصير) كامن في (العنب) وقد استدل الفلاسفة على ذلك بدليل ملموس هو ضمور تلك الأشياء بعد خروج ما هو كامن فيها. لكن فيما يتعلق بالحجر ألا يلزم القول بكمون النار فيه أن يكون الحجر حاراً بحرارة النار، وأن يضمر بعد خروج النار منه؟ يعترض الإمام ابن حزم الأندلسي في كتابه الموسوعي “الفِصَل” على نظرية كمون النار في الحجر ويفسر ذلك بنظرية أخرى هي الإستحالة أي: التحول، فيقول:
(… ومن الأشياء
ما ليس كامناً كالنار في الحجر والحديد، ولكن فيهما قوة إذا تضاغطا احتدم
ما بينهما من الهواء فاستحال ناراً، وهكذا يعرض لكل شيئ منحرق فإن رطوباته
تستحيلُ ناراً ثم دخان ثم هواء …) (انتهى بتصرف يسير)
أقول: يرى ابن حزم أن الشرر ناتج عن استحالة
الهواءِ ناراً بسبب الإحتكاك، لكنه لم يفسر لنا يكون الإحتكاك سبباً في
توليد تلك الإستحالة. أما النظرية الذرية المعاصرة في علم الكيمياء فإنها
تقدم تفسيراً حديثاً لتولد الشرر خلاصته أن الإلكترونات التي تدور في مدار
طاقتها تغادر مدارها ذاك عند ضرب الحجرين فيتولد شرر، وأظن أن ذلك الشرر
المبعث لا يتولد فقط عند اصطكاك حجرين أو حديدتين بل يتولد أيضا عند احتكاك
قطعتي خشب جافتين. في هذا السياق لفت نظري قول الله تعالى:
(الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) (يس : 80)
حيث أظن أن كلمة (الأخضر) هنا – والله أعلم –
ربما تكون إشارة إلى مادة (الكلوروفيل) لذلك أود أن أسئل حضراتكم مرة
أخرى: ما هي العلاقة بين الكلوروفيل والنار؟ بمعنى آخر: كيف تتولد النار عن
مادة الكلوروفيل؟ أم أن كلمة (الأخضر) لها هنا مدلول آخر؟
[الطفرة]
أما الطفرة فهي انتقال الجسم من انقطة a إلى نقطة c دون المرور على النقطة b الواقعة بينهما. تلك القضية الثانية ذكرتني بحالة التسامي عندما يتحول الصلب لغاز دون مرور على الحالة السائلة. جدير بالذكر مفهوم الطفرة في البيولوجيا الحديثة يختلف عن مفهوم الطفرة في الفلسفة. الطفرة بيولوجياً تعني الحيود والتنحي عن التسلسل الطبيعي نتيجة خلل وتغير في تتابع القواعد النيتروجينية لجين أو جزيء من الدي إن إيه D N A كما يقول البيولوجيون. أما التعريف الذي كتبتُه أعلاه هو تعريف الفلاسفة والمتكلمين للطفرة كما قال بها مثلاً العالم الكبير أبو اسحق إبراهيم بن سيَّار النَّظَّام المتكلم المعتزلي الكبير. ونتيجة غرابة مفهوم الطفرة عند النَّظَّام قالوا: عجائب علم الكلام ثلاثة:
أما الطفرة فهي انتقال الجسم من انقطة a إلى نقطة c دون المرور على النقطة b الواقعة بينهما. تلك القضية الثانية ذكرتني بحالة التسامي عندما يتحول الصلب لغاز دون مرور على الحالة السائلة. جدير بالذكر مفهوم الطفرة في البيولوجيا الحديثة يختلف عن مفهوم الطفرة في الفلسفة. الطفرة بيولوجياً تعني الحيود والتنحي عن التسلسل الطبيعي نتيجة خلل وتغير في تتابع القواعد النيتروجينية لجين أو جزيء من الدي إن إيه D N A كما يقول البيولوجيون. أما التعريف الذي كتبتُه أعلاه هو تعريف الفلاسفة والمتكلمين للطفرة كما قال بها مثلاً العالم الكبير أبو اسحق إبراهيم بن سيَّار النَّظَّام المتكلم المعتزلي الكبير. ونتيجة غرابة مفهوم الطفرة عند النَّظَّام قالوا: عجائب علم الكلام ثلاثة:
- الكسبُ عند الأشعري
- والحالُ عند البهشمي (أبو هاشم الجُبَّائي)
- وطفرةُ النَّظَّامِ.
قال الإمام أبو محمد عليّ بن حزم الأندلسي
الفقيه الظاهري المشهور في كتاب: (الفِصل في الملل والأهواء والنحل) في فصل
بعنوان: (الكلام في الطفرة) ما يلي بتصرف يسير:
(…. نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النَّظَّام أنه قال:
إن المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها.
قال الإمام أبو محمد عليّ بن حزم الأندلسي:
وهذا عين المحال … لأن هذا الذي ذكرنا ليس موجود البتة خلا حاسة البصر فقط
وكذلك إذا أطبقت بصرك ثم فتحته لاقى نظرك خضرة السماء والكواكب التي في
الأفلاك البعيدة بلا زمان كما يقع على أقرب ما يلاصقه من الألوان لا تفاضل
بين الأدراكين في المدة أصلاً فصح ضرورة أن خلا البصر لو قطع المسافة التي
بين الناظر وبين الكواكب ومر عليها لكان ضرورة بلوغه إليها في مدة أطول من
مدة مروره على المسافة التي ليس بينه وبين من يراه فيها إلا يسير أو أقل
فصح يقيناً أن البصر يخرج من الناظر ويقع على كل مرئي قرب أو بعد دون أن
يمر في شيء من المسافة التي بينهام ولا يحلها ولا يحازيها ولا يقطعها وأما
في سائر الأجسام فهذا محال ألا ترى أنك تنظر إلى الهدم وإلى ضرب القصَّار
بالثوب في الحجر من بعد فتراه ثم يقيم سويعة وحينئذ تسمع صوت ذلك الهدم
وذلك الضرب فصح يقيناً أن الصوت يقطع الأماكن وينتقل فيها وأن البصر لا
يقطعها ولا ينتقل فيها ….) (انتهى كلام ابن حزم بتصرف يسير).
أقول:
[1] فُقدت جميع كتب الإمام النَّظَّام ضمن ما فقد أو أحرق أو دمر من كتب المعتزلة على يد مخالفيهم من أصحاب السلطان وفقهاء بلاطهم، لذلك فإننا لا نعرف على وجهٍ مؤكد ما هي أطروحة النَّظَّام فيما يتعلق بالطفرة وإنما يكون التعويل هنا على ما نُسِب إليه – وربما ليس كل ما نُسب إليه صحيحاً – لذلك قال إبن حزم في مقدمة الفقرة: (نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام …).
[1] فُقدت جميع كتب الإمام النَّظَّام ضمن ما فقد أو أحرق أو دمر من كتب المعتزلة على يد مخالفيهم من أصحاب السلطان وفقهاء بلاطهم، لذلك فإننا لا نعرف على وجهٍ مؤكد ما هي أطروحة النَّظَّام فيما يتعلق بالطفرة وإنما يكون التعويل هنا على ما نُسِب إليه – وربما ليس كل ما نُسب إليه صحيحاً – لذلك قال إبن حزم في مقدمة الفقرة: (نسب قوم من المتكلمين إلى إبراهيم النظام …).
[2] اختصرتُ القول المنسوب للنظام وهو: (أن
المار على سطح الجسم يسير من مكان إلى مكان بينهما أماكن لم يقطعها هذا
المار ولا مر عليها ولا حاذاها ولا حل فيها) بالصورة الرمزية التي ذكرتُها
أعلاه للتسهيل على القارئ وهي تتفق تماماً مع المقصود.
[3] قول ابن حزم (البصر يخرج من الناظر ويقع
على كل مرئي …) ينطلق من النظرية القديمة وهي أن شعاع البصر يخرج من العين
فيسقط على المَرئِي فتبصره العين، والتي برهن العالم الكبير الحسن بن
الهيثم بعد ذلك بزمن طويل على بطلانها وأوضح أن شعاع الضوء يخرج من مصدر
الضوء – كالشمس مثلاً – فيسقط على الجسم فينعكس عنه إلى داخل شبكية العين
فينقله العصب البصري للمخ حيث يتم ترجمته فيحدث الإدراك البصري له كما هو
معروف في علم البصريات Optik.
[4] بناءً على ذلك يسقط إستدلال ابن حزم على
الطفرة في مجال الإبصار، لأن الضوء ينعكس من كافة الأجرام فإذا فتح الإنسان
بصره سقطت جميع تلك الأشعة على شبكية العين، ومن المعروف أن الضوء – سواء
كان فوتونات أو غير ذلك – لا ينتقل من النقطة a إلى النقطة c إلا بعد مروره
على النقطة b إلا إذا كان عند الفيزيائيين غير ذلك من نتائج الفيزياء
الحديثة التي ربما لم تصل بعد لغير المتخصصين من أمثالي. ومن هنا يمكن
الإطمئنان إلى أن طفرة النَّظَّام بتلك الصورة لا تتحقق في عالمنا الحي ولا
الميت، أما وصف ابن حزم لها بأنها (عين المحال …) فلا أتفق مع فيه لكون
الطفرة – هذه – ممكنة عقلاً وليس في العقل ما يحيلها، بيد أنها غير ممكنة
ضرورة (برجاء الإنتباه إلى الفارق بين: الإحالة العقلية والإحالة
الضرورية).
خلاصة القول:
ليس فيما بين أيدينا من نتائج العلم الحديث ما يجعلنا نطمئن لقضية طفرة النَّظَّام، تلك الطفرة التي ربما تكون غير ممتنعة عقلاً، إلا أنها ممتنعة عادةً، كما لا تدل عليها النتائج المعاصرة للعلوم الطبيعية.
ليس فيما بين أيدينا من نتائج العلم الحديث ما يجعلنا نطمئن لقضية طفرة النَّظَّام، تلك الطفرة التي ربما تكون غير ممتنعة عقلاً، إلا أنها ممتنعة عادةً، كما لا تدل عليها النتائج المعاصرة للعلوم الطبيعية.
تحياتي الأخوية
والسلام
الحسيني
في الأثمان والأسعار والرخص والغلاء
أولا: الفارق بين الثمن والسعر
ثمن السلعة أو الخدمة هو قيمتها الذاتية. هناك نظريتان رئيسيتان في منشأ الثمن أولاهما: الثمن يتولد عن منفعة السلعة أو الخدمة. ثانيهما: الثمن يتولد عن العمل المبذول في السلعة أو الخدمة. أما سعر السلعة أو الخدمة هو قيمتها السوقية. هناك إذن قيمتان: القيمة الذاتية ويطلق عليها “الثمن” والقيمة السوقية ويطلق عليها “السعر”. قد يكون سعر سلعة أو خدمة ما موافقا لثمنها أو مخالفا له سواء بالزيادة أو النقصان فمثلا: سهم شركة ما قيمته الإسمية / ثمنه 100 دولار قد يتم تحديد سعره في سوق الأوراق المالية بمبلغ 110 دولار أي أكثر من ثمنه والعكس.
ثمن السلعة أو الخدمة هو قيمتها الذاتية. هناك نظريتان رئيسيتان في منشأ الثمن أولاهما: الثمن يتولد عن منفعة السلعة أو الخدمة. ثانيهما: الثمن يتولد عن العمل المبذول في السلعة أو الخدمة. أما سعر السلعة أو الخدمة هو قيمتها السوقية. هناك إذن قيمتان: القيمة الذاتية ويطلق عليها “الثمن” والقيمة السوقية ويطلق عليها “السعر”. قد يكون سعر سلعة أو خدمة ما موافقا لثمنها أو مخالفا له سواء بالزيادة أو النقصان فمثلا: سهم شركة ما قيمته الإسمية / ثمنه 100 دولار قد يتم تحديد سعره في سوق الأوراق المالية بمبلغ 110 دولار أي أكثر من ثمنه والعكس.
ثانيا: متعلق الرخص والغلاء
الرخص هو إنخفاض أسعار السلع والخدمات والغلاء هو إرتفاع أسعارها، فالرخص والغلاء يتعلقان بالأسعار وليس بالأثمان فرب سلعة ثمينة القيمة تكون رخيصة السعر والعكس. وكما يحدث ذلك في مجال تقييم السلع والخدمات يحدث في مجال الفكر فرب فكر ثمين يكون سعره المعنوي رخيصا والعكس.
الرخص هو إنخفاض أسعار السلع والخدمات والغلاء هو إرتفاع أسعارها، فالرخص والغلاء يتعلقان بالأسعار وليس بالأثمان فرب سلعة ثمينة القيمة تكون رخيصة السعر والعكس. وكما يحدث ذلك في مجال تقييم السلع والخدمات يحدث في مجال الفكر فرب فكر ثمين يكون سعره المعنوي رخيصا والعكس.
ثالثا: كيف يتحدد السعر السوقي؟
السوق هو ذلك الإطار التنظيمي ـ مكاني أو عبر مكاني ـ الذي تلتقي فيه قوى الطلب “المستهلكين” بقوى العرض “المنتجين” فينشأ نتيجة لالتقائهما السعرُ التوازني. هذا السعر التوازني يمثل دالة رياضية في الكميتين المطلوبة والمعروضة.
السوق هو ذلك الإطار التنظيمي ـ مكاني أو عبر مكاني ـ الذي تلتقي فيه قوى الطلب “المستهلكين” بقوى العرض “المنتجين” فينشأ نتيجة لالتقائهما السعرُ التوازني. هذا السعر التوازني يمثل دالة رياضية في الكميتين المطلوبة والمعروضة.
رابعا: تأثير أفعال العباد على السعر
ترتفع أسعار السلع والخدمات في حالتين مرتبطتين بأفعال العباد الإختيارية. أولهما: زيادة الكمية المطلوبة من السلع والخدمات وهذه الزيادة في الطلب قد تكون متولدة عن فعل بشري كزيادة النهم أو الإستهلاك أو تغير العادات أو حالات الحرب. ثانيهما: إنخفاض الكمية المعروضة من السلع والخدمات وهذا الإنخفاض في العرض قد يكون متولدا عن فعل بشري كزيادة جشع التجار والإحتكار وغير ذلك من العوامل. إن زاد الطلب على سلعة أو خدمة ما وبقي العرض ثابتا أو انخفض العرض على سلعة أو خدمة ما وبقي الطلب ثابتا يرتفع السعر في الحالتين والعكس صحيح: ينخفض السعر.
ترتفع أسعار السلع والخدمات في حالتين مرتبطتين بأفعال العباد الإختيارية. أولهما: زيادة الكمية المطلوبة من السلع والخدمات وهذه الزيادة في الطلب قد تكون متولدة عن فعل بشري كزيادة النهم أو الإستهلاك أو تغير العادات أو حالات الحرب. ثانيهما: إنخفاض الكمية المعروضة من السلع والخدمات وهذا الإنخفاض في العرض قد يكون متولدا عن فعل بشري كزيادة جشع التجار والإحتكار وغير ذلك من العوامل. إن زاد الطلب على سلعة أو خدمة ما وبقي العرض ثابتا أو انخفض العرض على سلعة أو خدمة ما وبقي الطلب ثابتا يرتفع السعر في الحالتين والعكس صحيح: ينخفض السعر.
خامسا: تأثير أفعال الله على السعر
إن كانت الزيادة في الطلب متولدة عن أمراض أو أوبئة ألمت بالمجتمع أو غير ذلك من العوامل الطبيعية يرتفع السعر إرتفاعا متولدا عن أفعال الله. وإن كان الإنخفاض في العرض متولدا عن جفاف أو قحط أو زلازل أو براكين أو حرائق أو كوارث طبيعية يرتفع السعر إرتفاعا متولدا عن أفعال الله كذلك.
إن كانت الزيادة في الطلب متولدة عن أمراض أو أوبئة ألمت بالمجتمع أو غير ذلك من العوامل الطبيعية يرتفع السعر إرتفاعا متولدا عن أفعال الله. وإن كان الإنخفاض في العرض متولدا عن جفاف أو قحط أو زلازل أو براكين أو حرائق أو كوارث طبيعية يرتفع السعر إرتفاعا متولدا عن أفعال الله كذلك.
الخلاصة
كما قد يكون الرخص والغلاء في أسعار الأشياء متولدا عن الأفعال الإختيارية التكليفية للعباد فإن الرخص والغلاء في أسعار الأشياء يكون كذلك متولدا عن أفعال الله تعالى. ولعلاج الغلاء في الحالة الأولى تلعب القوانين دورا كبيرا كالتشريعات المجرمة للإحتكار مثلا إضافة لإفساح المجال لآليات السوق وفي الحالة الثانية تلعب برامج مكافحة آثار الكوارث الطبيعية دورا مؤثرا كالبرنامج الذي وضعه يوسف عليه السلام مثلا:
كما قد يكون الرخص والغلاء في أسعار الأشياء متولدا عن الأفعال الإختيارية التكليفية للعباد فإن الرخص والغلاء في أسعار الأشياء يكون كذلك متولدا عن أفعال الله تعالى. ولعلاج الغلاء في الحالة الأولى تلعب القوانين دورا كبيرا كالتشريعات المجرمة للإحتكار مثلا إضافة لإفساح المجال لآليات السوق وفي الحالة الثانية تلعب برامج مكافحة آثار الكوارث الطبيعية دورا مؤثرا كالبرنامج الذي وضعه يوسف عليه السلام مثلا:
(قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا
فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا
تَأْكُلُونَ. ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ
مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ. ثُمَّ
يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ
يَعْصِرُونَ) (يوسف : 47 – 49).
تحياتي
الحسيني
حول الأصل الثالث “المنزلة بين المنزلتين”
يبحث أصل المنزلة بين المنزلتين قضيتين هما:
(1) تسمية مرتكب الكبيرة في الدنيا
(2) الجزاء الأخروي لمرتكب الكبيرة
ولكن قبل ذلك لابد من تقديم بعض الملاحظات.
ملاحظات
[1] ورد لفظ (كبائر) ـ جمع كبيرة ـ في الكتاب في ثلاثة مواضع هي:
[1] ورد لفظ (كبائر) ـ جمع كبيرة ـ في الكتاب في ثلاثة مواضع هي:
(إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ
عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً
كَرِيمًا) (النساء : 31)
(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) (الشورى : 37)
(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ …) (النجم : 32)
[2] من خلال استنطاق الآيات الكريمة السابقة
يمكن تعريف الكبائر بأنها (عظائم الآثام والفواحش) مثل قتل النفس بغير
الحق، الظلم، الإفساد في الأرض، نهب أموال الآخرين، … وهذا. وكمقياس عملي
للتعرف على الكبائر نلاحظ أنها ترتبط دائما بالوعيد أو بحد من الحدود.
[3] يجب أن نفرق بين مفهوم (فاعل الكبيرة)
ومفهوم (مرتكب الكبيرة)، وأن المعتزلة لا تقصد بأصلها الثالث هذا إلا
مرتكبي الكبائر أي المصرين على فعلها، المداومين لاقترافها، الغير منفكين
عنها.
[4] من ارتكب كبيرة أو فعلها ثم تاب الى الله
توبة نصوحا وأصلح قبل النزع يتوب الله عليه ويستحق حينئذ اسم الإيمان.
المعتزلة إذا تقصد بأصلها الثالث مرتكبي الكبائر الذين ماتوا دون توبة وليس
الذين تابوا وأنابوا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات:
(وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ
بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا.
يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا.
إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ
اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا.
وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا)
(الفرقان : 68 – 71)
تسمية مرتكب الكبيرة في الدنيا
انقسمت آراء أهل القبلة ازاء تسمية مرتكب الكبائر المصر عليها الى الآراء الآتية:
انقسمت آراء أهل القبلة ازاء تسمية مرتكب الكبائر المصر عليها الى الآراء الآتية:
(1) الخوارج تسميه كافر
(2) المرجئة تسميه مؤمن عاصي
(3) الحسن يسميه منافق
(4) واصل يسميه فاسق
(5) مدرسة التجديد تسميه مسلم عاصي وفاسق انطلاقا من مبدأ عدم الترادف اللساني الذي تقول به.
حكم مرتكب الكبيرة في الآخرة
أوجب الله من خلال كتابه الحكيم الخلود في نار الآخرة للمسلم العاصي الذي يرتكب الكبائر، ويصر عليها، إن مات دونما توبة، وذلك من خلال عدة آيات قرآنية، منها:
أوجب الله من خلال كتابه الحكيم الخلود في نار الآخرة للمسلم العاصي الذي يرتكب الكبائر، ويصر عليها، إن مات دونما توبة، وذلك من خلال عدة آيات قرآنية، منها:
[1] (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ
يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ
الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا
وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ
مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ
وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (البقرة : 275)
[2] (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ
لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاء فَوْقَ
اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا
النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا
تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ
أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ
السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ
وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً
مِّنَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيما حَكِيما. وَلَكُمْ نِصْفُ مَا
تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ
وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ
بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن
لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا
تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ
رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ
وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ
شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ
غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ. تِلْكَ
حُدُودُ اللّهِ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ
الْعَظِيمُ. وَمَن يَعْصِ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) (النساء : 11 – 14)
[3] (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ
مُؤْمِنًا إِلاَّ خَطَئًا وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن
يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ
وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ
مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا. وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا
وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ
فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ
لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ
مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ
عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا)
(النساء : 92 – 94)
حكم الله تعالى من خلال كتابه العزيز إذا على
عصاة المسلمين من مرتكبي الكبائر المصرين عليها بالخلود الأخروي في نار
جهنم وبالعذاب الشديد. وجعل الخلاص الوحيد لهم من ذلك المصير المظلم توبتهم
توبة نصوحا وانابتهم الى الله وعمل الصالحات قبل مماتهم.
البعد السياسي لأصل المنزلة بين المنزلتين
يخلط البعض خلطا غير محمود بين قضيتين هما: فعل الكبيرة وارتكاب الكبيرة ويرادفون بينهما مرادفة تطابقية على ما بينهما من بون شاسع أوضحه بإيجاز شديد فيما يلي:
يخلط البعض خلطا غير محمود بين قضيتين هما: فعل الكبيرة وارتكاب الكبيرة ويرادفون بينهما مرادفة تطابقية على ما بينهما من بون شاسع أوضحه بإيجاز شديد فيما يلي:
أولا: فعل الكبيرة
لفظ “الكبيرة” هو مفرد كلمة “كبائر” والكبائر بمفهومها الواسع تشمل العظائم والمثقلات مما نهى الله عنه كالقتل بغير حق والإفساد في الأرض والعهر والإجرام وخيانة الأمانة وغير ذلك. المقصود بقولنا “فعل الكبيرة” أي الإتيان بها لمرة أو مرتين مثلا كمن يسرق مرة أو مرتين أو حتى ثلاث مرات. إن فاعل الكبيرة آثم ولا شك ولكن إثمه دون إثم مرتكب الكبيرة.
لفظ “الكبيرة” هو مفرد كلمة “كبائر” والكبائر بمفهومها الواسع تشمل العظائم والمثقلات مما نهى الله عنه كالقتل بغير حق والإفساد في الأرض والعهر والإجرام وخيانة الأمانة وغير ذلك. المقصود بقولنا “فعل الكبيرة” أي الإتيان بها لمرة أو مرتين مثلا كمن يسرق مرة أو مرتين أو حتى ثلاث مرات. إن فاعل الكبيرة آثم ولا شك ولكن إثمه دون إثم مرتكب الكبيرة.
ثانيا: إرتكاب الكبيرة
لفظ “ارتكاب” يوحي بركوب الشيئ أي أن مرتكب الكبائر ليس من يفعل الكبيرة لمرة أو مرات محدودة ولكنه من يركب الكبائر ويطوعها ويمسك بقيادها فلا يطلق تعبير “مرتكب” الكبيرة إلا على المصر عليها المداوم لفعلها والمستحل لها بوعي منه أو بدون وعي.
لفظ “ارتكاب” يوحي بركوب الشيئ أي أن مرتكب الكبائر ليس من يفعل الكبيرة لمرة أو مرات محدودة ولكنه من يركب الكبائر ويطوعها ويمسك بقيادها فلا يطلق تعبير “مرتكب” الكبيرة إلا على المصر عليها المداوم لفعلها والمستحل لها بوعي منه أو بدون وعي.
ولذلك يجب أن ينتبه المرء إنتباها شديدا إلى
أن المعتزلة إذ تبحث في جزاء الكبائر الأخروي والدنيوي فإنها تقصد “مرتكب”
الكبائر المصر عليها وليس “فاعل” الكبائر سهوا أو خطأ أو ضعفا لمرة أو
مرتين. وإذ يحاول مرتكبو الكبائر وأعوانهم والعوام من أهل الحشو إستثارة
الناس ضد المعتزلة بطريق التدليس والخداع بالخلط بين “فعل” و “ارتكاب”
الكبائر توضح المعتزلة توضيحا لا لبس فيه ولا غموض أن الخصم الذي رتب
القرآن الكريم له الخلود في النار إن مات دون توبة هو “مرتكب” الكبائر
المصر على فعلها المداوم على القيام بها أما من ألم بفعل كبيرة ما لمرة أو
مرتين ثم أفاق من غفلته وندم واستغفر فعسى أن يكون مشمولا بقوله تعالى:
(الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ…) (النجم : 32)
تحياتي
الحسيني
في الأعواض
أقسام الآلام
إذا كانت “الحسنة” هي أجر “الطاعات” فإن “العوض” هو أجر “الآلام”. هناك ثلاثة أقسام للآلام بحسب مصدرها. أولا: الآلام المتولدة عن فعل الطاعات كأن يقوم الإنسان إلى صلاته فتتورم قدماه. يلزم أن نفرق في هذه الحالة بين نوعين من “الثواب”: الثواب على إقامة الصلاة ويسمى “حسنة” والثواب على الآلام التي صاحبت المصلي عند إقامة الصلاة ويسمى “عوض”.الآلام المتولدة عن فعل الطاعات عليها العوض من الباري سبحانه لأنها آلام متولدة عن أمر تكليفي من الله. ثانيا: الآلام المتولدة عن فعل المعاصي كأن يشرب الإنسان الخمر فيحل بجسمه ألم. الآلام المتولدة عن فعل المعاصي ليس عليها العوض من الباري سبحانه لأنها آلام متولدة عن نهي تكليفي من الله. ثالثا: الآلام المتولدة عن مخالفة السنن الكونية كأن يدخل الإنسان يده في النار فتحرق النار يده. هنا يلزم التمييز بين حالتين، أولهما: مخالفة السنن الكونية عن جهل أو خطأ أو نسيان أو استكراه. الآلام المتولدة في الحالة ربما يكون عليها عوض من الله الكريم. ثانيهما: مخالفة السنن الكونية عن قصد وإرادة وعلم والآلام المتولدة في الحالة لن يكون عليها عوض من الله لأنها تولدت عن مخالفة النواميس الكونية بإرادة عالمة.
إذا كانت “الحسنة” هي أجر “الطاعات” فإن “العوض” هو أجر “الآلام”. هناك ثلاثة أقسام للآلام بحسب مصدرها. أولا: الآلام المتولدة عن فعل الطاعات كأن يقوم الإنسان إلى صلاته فتتورم قدماه. يلزم أن نفرق في هذه الحالة بين نوعين من “الثواب”: الثواب على إقامة الصلاة ويسمى “حسنة” والثواب على الآلام التي صاحبت المصلي عند إقامة الصلاة ويسمى “عوض”.الآلام المتولدة عن فعل الطاعات عليها العوض من الباري سبحانه لأنها آلام متولدة عن أمر تكليفي من الله. ثانيا: الآلام المتولدة عن فعل المعاصي كأن يشرب الإنسان الخمر فيحل بجسمه ألم. الآلام المتولدة عن فعل المعاصي ليس عليها العوض من الباري سبحانه لأنها آلام متولدة عن نهي تكليفي من الله. ثالثا: الآلام المتولدة عن مخالفة السنن الكونية كأن يدخل الإنسان يده في النار فتحرق النار يده. هنا يلزم التمييز بين حالتين، أولهما: مخالفة السنن الكونية عن جهل أو خطأ أو نسيان أو استكراه. الآلام المتولدة في الحالة ربما يكون عليها عوض من الله الكريم. ثانيهما: مخالفة السنن الكونية عن قصد وإرادة وعلم والآلام المتولدة في الحالة لن يكون عليها عوض من الله لأنها تولدت عن مخالفة النواميس الكونية بإرادة عالمة.
أمثلة
(1) تعرض أحد المؤمنين بالله سبحانه لأذى ألحقه به ثلة من الجاحدين. الألم المتولد في هذه الحالة عليه العوض من الله، لأنه ألم تولد عن فعل الإيمان، هذا بخلاف ثواب الإيمان ذاته وحسناته.
(1) تعرض أحد المؤمنين بالله سبحانه لأذى ألحقه به ثلة من الجاحدين. الألم المتولد في هذه الحالة عليه العوض من الله، لأنه ألم تولد عن فعل الإيمان، هذا بخلاف ثواب الإيمان ذاته وحسناته.
(2) ارتكب أحد المكلفين كبيرة الزنا فتولد عن
ذلك ألم تمثل في الإصابة بالزهري أو السيلان أو الإيدز (السيدا). الألم
المتولد في هذه الحالة ليس عليه العوض من الله، لأنه ألم تولد عن فعل
العصيان، هذا بخلاف العقاب والسيئات التي يتحملها المذنب كذلك. المذنب في
هذه الحالة يبوء بثقلين: آلام لا عوض عليها، وسيئات في ميزانه.
(3) إمراة تعاطت أثناء حملها أدوية وعقاقير
تؤثر على صحة الجنين فأدى ذلك إلى ولادة طفل مشوه فتولد عندها ألم. الألم
هذا لا عوض عليه لأنه نتيجة طبيعية لمخالفة السنن، بل ربما تتحمل وزرا. أما
الطفل المشوه فلا ذنب له لذلك له العوض عما يعتريه من آلام بسبب هيئته
المشوهة. فإن صبر على حاله فله إضافة للعوض أجر الصبر، وإن آذى نفسه فعليه
وزر لكنه ربما لا ينقص من أعواض الألم الذي اعتراه شيئا، فإن كان العوض
يقدر بـ (2 +) والوزر يقدر بـ (5 -) مثلا، فإن النتيجة الإجمالية تكون (3
-). ولو كان العوض يقدر بـ (7 +) والوزر يقدر بـ (4 -) مثلا، فإن النتيجة
الإجمالية تكون (3 +) وهكذا.
تحياتي
الحسيني
هل هؤلاء من المعتزلة؟
[1]
الشيخ محمد عبده
يظن كثير من العوام وبعض الخواص أن الأستاذ الشيخ محمد عبده رحمه الله كان
معتزليا، فها هو الدكتور طه حسين ـ وهو شخص ربما لا يطمئن اليه البعض ـ
يمتدح الأستاذ الإمام ويشيد بأحد مكرماته العلمية ـ وقد أصاب في ذلك ـ
بإدخاله كتاب “الكامل” لشيخنا وكبير نحاة عصره الإمام محمد بن يزيد
المُبَرِّد المعتزلي رحمه الله للتدريس في الأزهر آنذاك. وها هو الدكتور
محمد عمارة ـ المحسوب خطأ على المعتزلة ـ يصدر سلسلة الأعمال الكاملة للشيخ
محمد عبده بتحقيقه، وها هو الدكتور عاطف العراقي ـ أستاذ الفلسفة
الإسلامية وفلسفة ابن رشد خصوصا ـ يكتب في مقدمه تحقيقه لكتاب (الإسلام دين
العلم والمدنية) ما يلي بالنص: (ومن الواضح أن محمد عبده يتجه إلى حد كبير
اتجاها اعتزاليا، أي يشبه موقفه موقف المعتزلة، وذلك حين بين لنا في الأصل
الأول للإسلام، كيف أن أول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي …).
صحيح أن الدكتور العراقي كان دقيقا ولم ينسب محمد عبده للمعتزلة، بل قارب
بينه وبينهم وشابه، إلا أن كثيرا من العوام قد لا ينتبهون لذلك التدقيق
فيطلقون القول بأن فلان أو فلان كتب أن محمد عبده معتزلي وهذا ما يحدث
ونسمعه كل فترة وأخرى.
بعد هذا كله لنسأل أنفسنا سؤالا: هل كان الشيخ محمد عبده معتزليا أو
قريبا من المعتزلة؟ لندع الأستاذ الإمام يجيبنا بنفسه عن هذا السؤال ببيان
رأيه في المعتزلة.
رأي الشيخ محمد عبده في المعتزلة
(… تفرقت السبل بأتباع واصل [تعليق الشيخ محمد رشيد رضا: هم المعتزلة]
وتناولوا من كتب اليونان ما لاق بعقولهم، وظنوا من التقوى أن تؤيد العقائد
بما أثبته العلم بدون تفرقة بين ما كان منه راجعا إلى أوليات العقل، وما
كان سرابا في نظر الوهم. فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق على أصل من أصول
النظر، ولجوا في ذلك حتى صارت شيعهم تعد بالعشرات وأيدتهم الدولة العباسية
وهي في ريعان القوة فغلب رأيهم، وابتدأ علماؤهم يؤلفون الكتب، فأخذ
المتمسكون بمذاهب السلف يناضلونهم معتصمين بقوة اليقين، وإن لم يكن لهم عضد
من الحاكمين … وحدثت فتنة القول بخلق القرآن أو أزليته، وانتصر للأول جمع
من خلفاء العباسيين وأمسك عن القول أو صرح بالأزلية عدد غفير من المتمسكين
بظواهر الكتاب والسنة، أو المتعففين عن النطق بما فيه مجاراة البدعة وأهين
في ذلك رجال من أهل العلم والتقوى. وسفكت فيه دماء بغير حق. وهكذا تعدى
القوم حدود الدين باسم الدين) (محمد عبده / رسالة التوحيد).
تعليق
هذا بعض مما نفثه محمد عبده من تخرصات ضد المعتزلة، إن دلت على شيئ فإنما
تدل على أنه – فيما يتعلق بالموقف من الإعتزال – من العوام الذين لا يفرقون
بين الشمال واليمين ولا يميزون بين الغث والثمين، ولقد صدق الدكتور عاطف
العراقي حينما كتب ضمن ما كتب في تحقيقه لـ (الاسلام دين العلم والمدنية)
إن (البضاعة الفكرية في بعض ميادينها ومجالاتها تعد ضحلة عند مفكرنا محمد
عبده). لقد نحى محمد عبده في تخرصاته تلك منحى الأشاعرة ـ وهو منهم ـ في
بثهم تهما ضد المعتزلة تلقوها من أسلافهم كالبغدادي والشهرستاني وغيرهما.
وهكذا يتعرى ذلك الرجل الذي اشتهر عنه تمسحه بالعقل ودوره، يتعرى أو تعريه
كلاماته أمام من يظن أنه معتزلي، ليتضح لهم بجلاء أنه كغيره من العوام
الغير مدققين. نعم نحترم دفاع الشيخ محمد عبده عن الإسلام ونحترم رسالته
التربوية ونشيد بجهده إلا أن الحق أحب الينا منه، والحق أنه لم يكن من قريب
ولا من بعيد من المعتزلة وما شابههم في منهجهم قط. وكيف يشابههم أو
يقاربهم وهو يصفهم بالابتداع وبجمل شنيعة من الإتهامات الدالة على جهله
الشديد بهم.
[2]
الدكتور محمد عمارة
للدكتور محمد عمارة مؤلفات جليلة عن المعتزلة، وهو صاحب فضل في تقريب الفكر
الإعتزالي للناس وتحبيبهم فيه بلا شك، وأنا واحد من أولئك الذين قرأوا كل
ما كتبه عن المعتزلة وأعجبت بما فيه وإن كنت أخذت عليه هنات هنا أو هناك.
إن موقف د. محمد عمارة من المعتزلة مختلف تماما عن موقف محمد عبده منهم،
فموقف محمد عمارة ـ آنذاك ـ هو موقف العالم بالمعتزلة، بينما موقف محمد
عبده منهم هو موقف الجاهل بهم كما تقدم أعلاه. لكن هل يكفي كل ذلك لاعتبار
محمد عمارة مفكرا معتزليا؟ ولماذا نكون عماريين أكثر من عمارة نفسه؟ هل فكر
الدكتور محمد عمارة مثلا ـ وهو من هو ـ في الخروج بالفكر الإعتزالي من
موات الكتب إلى حياة الواقع؟ بمعنى آخر: هل فكر في إحياء الفكر الإعتزالي
على أرض الواقع أو تفعيله كما فعل شيخنا أبو ياسر رحمه الله؟ حدثنا الشيخ
أبو ياسر أمين بن حسين بن نايف بن ذياب رحمه الله أنه عرض في أحد الأيام
على فضيلة الدكتور محمد عمارة أن يتولى هو ـ لمكانته العلمية الكبرى ـ
قيادة الفكر الإعتزالي المعاصر فأبى الدكتور عمارة ذلك وأعرب عن عدم
اهتمامه بهذا الأمر. من خلال ذلك الخبر الذي سمعته من الشيخ أبي ياسر رحمه
الله علمت أن مثل محمد عمارة لا يزيد للأسف عن مثل المستشرقين في كونهم
جماعين للعلم إلا أنهم لا يعملون بما يعلمون. وإذ لا ينسب الدكتور محمد
عمارة نفسه للفكر الإعتزالي فبأي حق ينسبه بعض الناس للمعتزلة؟
[3]
أحمد أمين / طه حسين / سعد زغلول / قاسم أمين
علمنا مما سبق إنتفاء إنتماء كل من الأستاذ الشيخ محمد عبده غفر الله له
والأستاذ الدكتور محمد عمارة للفكر الإعتزالي، لكن ماذا عن هؤلاء الكتاب:
أحمد أمين / طه حسين / سعد زغلول / قاسم أمين؟ أينتفي كذلك إنتماء أم يثبت؟
تلك الأسماء هل قليل من كثير ممن نسبهم الناس ـ ومازالوا يفعلون ـ للفكر
الإعتزالي، ولعل السبب في ذلك يرجع لأحد أمرين ـ علاوة على جهل كثير من
الناس بحقيقة الفكر الاعتزالي ـ وهما: إما لأن أحدهم مثلا يكتب كتابا
تاريخيا فيمتدح المعتزلة على صفحاته، ويذرف قليلا أو كثيرا من الدمع على
غيابهم أو تغييبهم، كما فعل أحمد أمين مثلا، وإما لأن أحدهم مثلا يمجد
العقل ودوره وأهميته بما قد يوهم أنه يدافع عن أو يدعو إلى المعتزلة بصفتهم
فرسان العقل في الإسلام. وحتى أكون منصفا مع تلك الأسماء أبادر إلى القول
بأن أيا منهم لم ينسب نفسه قط للفكر الإعتزالي بدءا من أحمد أمين والذي كتب
عنهم صفحات طوال متغزلا في مكانتهم وانتهاءا بمحمد عمارة والذي صنف فيهم
كتبا ثقال مطريا دورهم في الفكر الإسلامي. لقد كان هؤلاء الكتاب أمناء مع
أنفسهم ومحترمين لذواتهم فلم ينسب أحد منهم قط للفكر الإعتزالي. وحتى أكون
منصفا مع تلك الأسماء أبادر إلى القول بأن أيا منهم لم ينسب نفسه قط للفكر
الإعتزالي بدءا من أحمد أمين والذي كتب عنهم صفحات طوال متغزلا في مكانتهم
وانتهاءا بمحمد عمارة والذي صنف فيهم كتبا ثقال مطريا دورهم في الفكر
الإسلامي. لقد كان هؤلاء الكتاب أمناء مع أنفسهم ومحترمين لذواتهم فلم ينسب
أحد منهم قط للفكر الإعتزالي. ليست المشكلة إذن في هؤلاء ولا في تلامذتهم
المقربين لكن المشكلة في خصيان الفكر ممن فقد مقومات الخصوبة في مجال
الإبداع الفكري من المستغربين وأذنابهم حيث تجدهم يتشدقون بفضل المعتزلة
وتلهج ألسنتهم بذكرها وتمتدح أقلامهم بعضا أو كلا من تلك الأسماء بما قد
يوهم الغافلين بارتباطهم بالمعتزلة. يعاني كثير من المستغربين وأذنابهم
مشاكل كثيرة مع بعض تيارات أهل القبلة مثل تيار أصحاب الحديث / السلفيين أو
تيار ما أسموه بالإسلام السياسي أو غير ذلك من التيارات. ولما كان هؤلاء
المستغربين قليلي الزاد في مجال الفكر الإسلامي وجدوا بغيتهم في خيول الفكر
الإسلامي ـ المعتزلة ـ فأرادوا أن يركبوا ظهورها ويمتطوا صهوتها ليبلغوا
بر الآمان والأشواك تحيط بهم. نسى هؤلاء الغافلين أن لتلك الخيول الأبية
فرسانها وقادتها، فما أن يحاول أحد هؤلاء الأذناب إعتلاء ظهر تلك الخيول
فلا يلبث إلا قليلا حيث تطرحه تلك الخيول الأبية التي تأبى أن يعتلي ظهورها
أمثالهم ولذلك تطرحهم قبل أن يطرحهم فرسان تلك الخيول. تلك الخيول تعرف
فرسانها جيدا وهي وفية لهم، وهؤلاء الفرسان يدركون أصالة عرق تلك الخيول
الباسقة يعرفون أنها ذات أصل كريم وكيف يتعاملون معها، فتسلس لهم قيادها،
وتستقيم لهم ظهورها، وترمح بهم سيقانها مخترقة عباب وكثافة الفتن ليسجلوا
بما في أيديهم من رماح أعظم ملاحم الفكر والبطولات.
هكذا كان أسلافنا العظام، بدءا من إبراهيم عليه السلام ومرورا بمحمد
خاتم النبيين وخير الأنام ممن أرسوا قواعد وأصول التوحيد والعدل، ممن أرسوا
مبادئ التنزيه للبارئ سبحانه، فما التوحيد إلا تنزيه للبارئ سبحانه في
ذاته وما العدل إلا تنزيه للبارئ سبحانه في أفعاله. وعلى درب هؤلاء الأسود
الكرام يسير أهل التوحيد والعدل، واثقي الخطوات، شامخي الجبهات، غير آبهين
لنعاق المستغربين ولا لنعرات أذنابهم ولا لنباح كلابهم، فهم يسيرون على ما
سار عليه الأسود، وحتى وإن ماتوا يظلوا أسودا، فتظل الأسود أسودا، وتبقى
الكلاب كلابا.
تحياتي
الحسيني
الشيخ محمد عبده
رأي الشيخ محمد عبده في المعتزلة
(… تفرقت السبل بأتباع واصل [تعليق الشيخ محمد رشيد رضا: هم المعتزلة] وتناولوا من كتب اليونان ما لاق بعقولهم، وظنوا من التقوى أن تؤيد العقائد بما أثبته العلم بدون تفرقة بين ما كان منه راجعا إلى أوليات العقل، وما كان سرابا في نظر الوهم. فخلطوا بمعارف الدين ما لا ينطبق على أصل من أصول النظر، ولجوا في ذلك حتى صارت شيعهم تعد بالعشرات وأيدتهم الدولة العباسية وهي في ريعان القوة فغلب رأيهم، وابتدأ علماؤهم يؤلفون الكتب، فأخذ المتمسكون بمذاهب السلف يناضلونهم معتصمين بقوة اليقين، وإن لم يكن لهم عضد من الحاكمين … وحدثت فتنة القول بخلق القرآن أو أزليته، وانتصر للأول جمع من خلفاء العباسيين وأمسك عن القول أو صرح بالأزلية عدد غفير من المتمسكين بظواهر الكتاب والسنة، أو المتعففين عن النطق بما فيه مجاراة البدعة وأهين في ذلك رجال من أهل العلم والتقوى. وسفكت فيه دماء بغير حق. وهكذا تعدى القوم حدود الدين باسم الدين) (محمد عبده / رسالة التوحيد).
تعليق
هذا بعض مما نفثه محمد عبده من تخرصات ضد المعتزلة، إن دلت على شيئ فإنما تدل على أنه – فيما يتعلق بالموقف من الإعتزال – من العوام الذين لا يفرقون بين الشمال واليمين ولا يميزون بين الغث والثمين، ولقد صدق الدكتور عاطف العراقي حينما كتب ضمن ما كتب في تحقيقه لـ (الاسلام دين العلم والمدنية) إن (البضاعة الفكرية في بعض ميادينها ومجالاتها تعد ضحلة عند مفكرنا محمد عبده). لقد نحى محمد عبده في تخرصاته تلك منحى الأشاعرة ـ وهو منهم ـ في بثهم تهما ضد المعتزلة تلقوها من أسلافهم كالبغدادي والشهرستاني وغيرهما. وهكذا يتعرى ذلك الرجل الذي اشتهر عنه تمسحه بالعقل ودوره، يتعرى أو تعريه كلاماته أمام من يظن أنه معتزلي، ليتضح لهم بجلاء أنه كغيره من العوام الغير مدققين. نعم نحترم دفاع الشيخ محمد عبده عن الإسلام ونحترم رسالته التربوية ونشيد بجهده إلا أن الحق أحب الينا منه، والحق أنه لم يكن من قريب ولا من بعيد من المعتزلة وما شابههم في منهجهم قط. وكيف يشابههم أو يقاربهم وهو يصفهم بالابتداع وبجمل شنيعة من الإتهامات الدالة على جهله الشديد بهم.
الدكتور محمد عمارة
أحمد أمين / طه حسين / سعد زغلول / قاسم أمين
تحياتي
الحسيني
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire